بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ط دار الحديث [كِتَابُ الِاعْتِكَافِ]
وَالِاعْتِكَافُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ بِالشَّرْعِ وَاجِبٌ بِالنَّذْرِ،
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ
الدُّخُولَ فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُوَفِّيَ شَرْطَهُ وَهُوَ فِي
رَمَضَانَ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، وَبِخَاصَّةٍ فِي الْعَشْرِ
الْأَوَاخِرِ مِنْهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ آخِرُ اعْتِكَافِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى عَمَلٍ مَخْصُوصٍ فِي مَوْضِعٍ
مَخْصُوصٍ وَفِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ وَتُرُوكٍ
مَخْصُوصَةٍ.
فَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يَخُصُّهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قِيلَ: إِنَّهُ
الصَّلَاةُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ
مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْقُرْبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقِيلَ: جَمِيعُ أَعْمَالِ الْقُرْبِ وَالْبِرِّ الْمُخْتَصَّةِ
بِالْآخِرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ وَهْبٍ، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ
يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيَدْرُسُ الْعِلْمَ، وَعَلَى
الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ لَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ،
وَالْأَوَّلُ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ - أَعْنِي:
أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مَشْرُوعٌ بِالْقَوْلِ -. فَمَنْ فَهِمَ مِنَ
الِاعْتِكَافِ حَبْسَ النَّفْسِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُخْتَصَّةِ
بِالْمَسَاجِدِ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ إِلَّا الصَّلَاةُ
وَالْقِرَاءَةُ. وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ حَبْسَ النَّفْسِ عَلَى الْقُرَبِ
الْأُخْرَوِيَّةِ كُلِّهَا أَجَازَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنِ
اعْتَكَفَ لَا يَرْفُثُ وَلَا يُسَابُّ، وَلْيَشْهَدِ الْجُمُعَةَ
وَالْجَنَازَةَ، وَيُوصِي أَهْلَهُ إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَهُوَ
قَائِمٌ وَلَا يَجْلِسُ. ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَرُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ خِلَافُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا
يَشْهَدَ جَنَازَةً وَلَا يَعُودَ مَرِيضًا. وَهَذَا أَيْضًا أَحَدُ مَا
أَوْجَبَ الِاخْتِلَافَ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَأَمَّا الْمَوَاضِعُ الَّتِي فِيهَا الِاعْتِكَافُ: فَإِنَّهُمُ
اخْتَلَفُوا فِيهَا فَقَالَ قَوْمٌ: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي
الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَبَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
وَبِهِ قَالَ حُذَيْفَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
(2/76)
وَقَالَ آخَرُونَ: الِاعْتِكَافُ عَامٌّ
فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ فِيهِ جُمُعَةٌ،
وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ.
وَأَجْمَعَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ الْمَسْجِدَ،
إِلَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ لُبَابَةَ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ فِي
غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مُبَاشَرَةَ النِّسَاءِ إِنَّمَا حَرُمَتْ
عَلَى الْمُعْتَكِفِ إِذَا اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِلَّا مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا تَعْتَكِفُ فِي
مَسْجِدِ بَيْتِهَا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الْمَسْجِدِ أَوْ تَرْكِ
اشْتِرَاطِهِ: هُوَ الِاحْتِمَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:
187] بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلُ خِطَابٍ أَمْ لَا يَكُونَ لَهُ؟
فَمَنْ قَالَ: لَهُ دَلِيلُ خِطَابٍ قَالَ: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي
مَسْجِدٍ، وَإِنَّ مَنْ شَرَطَ الِاعْتِكَافَ تَرَكَ الْمُبَاشَرَةَ.
وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ دَلِيلُ خِطَابٍ قَالَ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ
أَنَّ الِاعْتِكَافَ جَائِزٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ لَا
يَمْنَعُ الْمُبَاشَرَةَ لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: لَا تُعْطِ فُلَانًا
شَيْئًا إِذَا كَانَ دَاخِلًا فِي الدَّارِ، لَكَانَ مَفْهُومُ دَلِيلِ
الْخِطَابِ يُوجِبُ أَنْ تُعْطِيَهُ إِذَا كَانَ خَارِجَ الدَّارِ،
وَلَكِنْ هُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعُكُوفَ
إِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا مِنْ شَرْطِهِ.
وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْمَسَاجِدِ أَوْ
تَعْمِيمِهَا: فَمُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ الْمُخَصَّصِ لَهُ.
فَمَنْ رَجَّحَ الْعُمُومَ قَالَ: فِي كُلِّ مَسْجِدٍ عَلَى ظَاهِرِ
الْآيَةِ، وَمَنِ انْقَدَحَ لَهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْمَسَاجِدِ مِنْ
ذَلِكَ الْعُمُومِ بِقِيَاسٍ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا فِيهِ
جُمُعَةٌ (لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَمَلُ الْمُعْتَكِفِ بِالْخُرُوجِ إِلَى
الْجُمُعَةِ) ، أَوْ مَسْجِدًا تُشَدُّ إِلَيْهِ الْمَطِيُّ مِثْلَ
مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي وَقَعَ
فِيهِ اعْتِكَافُهُ، وَلَمْ يَقِسْ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهِ إِذْ
كَانَتْ غَيْرَ مُسَاوِيَةٍ لَهُ فِي الْحُرْمَةِ.
وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ: فَمُعَارَضَةُ
الْقِيَاسِ أَيْضًا لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ: «أَنَّ حَفْصَةَ
وَعَائِشَةَ وَزَيْنَبَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَذِنَ لَهُنَّ حِينَ
ضَرَبْنَ أَخْبِيَتَهُنَّ فِيهِ» . فَكَانَ هَذَا الْأَثَرُ دَلِيلًا عَلَى
جَوَازِ اعْتِكَافِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا: فَهُوَ قِيَاسُ الِاعْتِكَافِ
عَلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ الْمَرْأَةِ
فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَا جَاءَ فِي
الْخَبَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِكَافُ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ
مَعَ زَوْجِهَا فَقَطْ عَلَى نَحْوِ مَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ مِنِ
اعْتِكَافِ أَزْوَاجِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَهُ كَمَا
تُسَافِرُ مَعَهُ وَلَا تُسَافِرُ مُفْرَدَةً، وَكَأَنَّهُ نَحْوٌ مِنَ
الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَالْأَثَرِ.
وَأَمَّا زَمَانُ الِاعْتِكَافِ فَلَيْسَ
(2/77)
لِأَكْثَرِهِ عِنْدَهُمْ حَدٌّ وَاجِبٌ،
وَإِنْ كَانَ كُلُّهُمْ يَخْتَارُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ
بَلْ يَجُوزُ الدَّهْرُ كُلُّهُ، إِمَّا مُطْلَقًا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى
الصَّوْمَ مِنْ شُرُوطِهِ، وَإِمَّا مَا عَدَا الْأَيَّامَ الَّتِي لَا
يَجُوزُ صَوْمُهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى الصَّوْمَ مِنْ شُرُوطِهِ.
وَأَمَّا أَقَلُّهُ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَذَلِكَ
اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْمُعْتَكِفُ
لِاعْتِكَافِهِ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ مِنْهُ. أَمَّا
أَقَلُّ زَمَانِ الِاعْتِكَافِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ.
وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ،
وَقِيلَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: أَقَلُّهُ
عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ
الْعَشْرَةَ اسْتِحْبَابٌ، وَأَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ:
أَمَّا الْقِيَاسُ: فَإِنَّهُ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ
الصَّوْمَ قَالَ: لَا يَجُوزُ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ
اعْتِكَافُهُ لَيْلَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، إِذِ
انْعِقَادُ صَوْمِ النَّهَارِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَعَارِضُ: فَمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
«أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً
فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ
يَفِيَ بِنَذْرِهِ» . وَلَا مَعْنَى لِلنَّظَرِ مَعَ الثَّابِتِ مِنْ هَذَا
الْأَثَرِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ
الْمُعْتَكِفُ إِلَى اعْتِكَافِهِ إِذَا نَذَرَ أَيَّامًا مَعْدُودَةً أَوْ
يَوْمًا وَاحِدًا، فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ أَنَّهُ يَدْخُلُ
الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ
قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَاحِدًا دَخَلَ قَبْلَ
طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَخَرَجَ بَعْدَ غُرُوبِهَا. وَأَمَّا مَالِكٌ
فَقَوْلُهُ فِي الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ.
وَقَالَ زُفَرُ وَاللَّيْثُ: يَدْخُلُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ،
وَالْيَوْمُ وَالشَّهْرُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ.
وَفَرَّقَ أَبُو ثَوْرٍ بَيْنَ نَذْرِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فَقَالَ:
إِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ دَخَلَ قَبْلَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ، وَإِذَا نَذَرَ عَشْرَ لَيَالِيَ دَخَلَ قَبْلَ غُرُوبِهَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَدْخُلُ فِي اعْتِكَافِهِ بَعْدَ صَلَاةِ
الصُّبْحِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْأَقْيِسَةِ بَعْضِهَا
بَعْضًا، وَمُعَارَضَةُ الْأَثَرِ لِجَمِيعِهَا; وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ
رَأَى أَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ لَيْلُهُ وَاعْتَبَرَ اللَّيَالِيَ قَالَ:
يَدْخُلُ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ اللَّيَالِيَ
قَالَ: يَدْخُلُ قَبْلَ الْفَجْرِ.
وَمَنْ رَأَى أَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ يَقَعُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
مَعًا أَوْجَبَ إِنْ نَذَرَ يَوْمًا أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى النَّهَارِ
أَوْجَبَ الدُّخُولَ
(2/78)
قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَنْ رَأَى
أَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ خَاصٌّ بِالنَّهَارِ وَاسْمَ اللَّيْلِ بِاللَّيْلِ
فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَنْذِرَ أَيَّامًا أَوْ لَيَالِيَ.
وَالْحَقُّ أَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَدْ يُقَالُ
عَلَى النَّهَارِ مُفْرَدًا، وَقَدْ يُقَالُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
مَعًا، لَكِنْ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ دَلَالَتُهُ الْأَوْلَى إِنَّمَا هِيَ
عَلَى النَّهَارِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى اللَّيْلِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمُخَالِفُ لِهَذِهِ الْأَقْيِسَةِ كُلِّهَا: فَهُوَ
مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الصَّحِيحِ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ فِي رَمَضَانَ وَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ دَخَلَ
مَكَانَهُ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ» .
وَأَمَّا وَقْتُ خُرُوجِهِ فَإِنَّ مَالِكًا رَأَى أَنْ يَخْرُجَ
الْمُعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ
إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ، وَأَنَّهُ إِنْ
خَرَجَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَخْرُجُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ
سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ قَبْلَ
صَلَاةِ الْعِيدِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ.
وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هَلِ اللَّيْلَةُ الْبَاقِيَةُ هِيَ مَنْ حُكْمِ
الْعَشْرِ أَمْ لَا؟ .
وَأَمَّا شُرُوطُهُ فَثَلَاثَةٌ: النِّيَّةُ، وَالصِّيَامُ، وَتَرْكُ
مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ.
أَمَّا النِّيَّةُ: فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا اخْتِلَافًا.
وَأَمَّا الصِّيَامُ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ ; فَذَهَبَ مَالِكٌ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا
بِالصَّوْمِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاعْتِكَافُ جَائِزٌ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَبِقَوْلِ
مَالِكٍ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى
خِلَافٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَبُقُولِ الشَّافِعِيِّ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ
مَسْعُودٍ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّ اعْتِكَافَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا وَقَعَ فِي رَمَضَانَ فَمَنْ
رَأَى أَنَّ الصَّوْمَ الْمُقْتَرِنَ بِاعْتِكَافِهِ هُوَ شَرْطٌ فِي
الِاعْتِكَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ لِلِاعْتِكَافِ نَفْسِهِ
قَائِلًا: لَا بُدَّ مِنَ الصَّوْمِ مَعَ الِاعْتِكَافِ، وَمَنْ رَأَى
أَنَّهُ إِنَّمَا اتَّفَقَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا لَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ
مَقْصُودًا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الِاعْتِكَافِ
قَالَ: لَيْسَ الصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ.
وَلِذَلِكَ أَيْضًا سَبَبٌ آخَرُ: وَهُوَ اقْتِرَانُهُ مَعَ الصَّوْمِ فِي
آيَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عُمَرَ - الْمُتَقَدِّمِ -،
وَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ
يَعْتَكِفَ لَيْلَةً وَاللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصِّيَامِ.
وَاحْتَجَّتِ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
إِسْحَاقَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " السُّنَّةُ
(2/79)
لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا
وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا
وَلَا يَخْرُجَ إِلَّا مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا
بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ ".
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي حَدِيثِ
عَائِشَةَ: هَذَا " السُّنَّةُ " إِلَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
إِسْحَاقَ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ عِنْدَهُمْ إِلَّا مِنْ قَوْلِ
الزُّهْرِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا بَطَلَ أَنْ يَجْرِيَ
مَجْرَى الْمُسْنَدِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَهِيَ الْمُبَاشِرَةُ: فَإِنَّهُمْ
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ إِذَا جَامَعَ عَامِدًا بَطَلَ
اعْتِكَافُهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ لُبَابَةَ فِي غَيْرِ
الْمَسْجِدِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إِذَا جَامَعَ نَاسِيًا.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي فَسَادِ الِاعْتِكَافِ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ
مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ
يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي
الْمُبَاشَرَةِ فَسَادٌ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَالثَّانِي مِثْلُ قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الِاسْمُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ
الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لَهُ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ؟ وَهُوَ أَحَدُ
أَنْوَاعِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لَهُ
عُمُومًا قَالَ: إِنَّ الْمُبَاشِرَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]
يَنْطَلِقُ عَلَى الْجِمَاعِ وَمَا دُونَ الْجِمَاعِ. وَمَنْ لَمْ يَرَ
عُمُومًا وَهُوَ الْأَشْهَرُ الْأَكْثَرُ قَالَ: يَدُلُّ إِمَّا عَلَى
الْجِمَاعِ، وَإِمَّا عَلَى مَا دُونَ الْجِمَاعِ، فَإِذَا قُلْنَا:
إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجِمَاعِ بِإِجْمَاعٍ بَطَلَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى
غَيْرِ الْجِمَاعِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ لَا يَدُلُّ عَلَى
الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا. وَمَنْ أَجْرَى الْإِنْزَالَ
بِمَنْزِلَةِ الْوِقَاعِ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَمَنْ خَالَفَ
فَلِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ حَقِيقَةً.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجَامِعِ: فَقَالَ الْجُمْهُورُ:
لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، فَبَعْضُهُمْ
قَالَ: كَفَّارَةُ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ،
وَقَالَ قَوْمٌ: يَتَصَدَّقُ بِدِينَارَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يُعْتِقُ رَقَبَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَهْدَى بَدَنَةً،
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
وَأَصْلُ الْخِلَافِ: هَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي الْكَفَّارَةِ أَمْ لَا؟
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُطْلَقِ النَّذْرِ بِالِاعْتِكَافِ هَلْ مِنْ شَرْطِهِ
التَّتَابُعُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ مِنْ
شَرْطِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ذَلِكَ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: قِيَاسُهُ عَلَى نَذْرِ الصَّوْمِ
الْمُطْلَقِ.
وَأَمَّا مَوَانِعُ الِاعْتِكَافِ: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مَا عَدَا
الْأَفْعَالَ الَّتِي هِيَ أَعْمَالُ الْمُعْتَكِفِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ
لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا لِحَاجَةِ
الْإِنْسَانِ، أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ
الضَّرُورَةُ ; لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:
(2/80)
«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأَسَهُ وَهُوَ فِي
الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا
لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» .
وَاخْتَلَفُوا إِذَا خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مَتَى يَنْقَطِعُ
اعْتِكَافُهُ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْتَقِضُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ
أَوَّلِ خُرُوجِهِ وَبَعْضُهُمْ رَخَّصَ فِي السَّاعَةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي
الْيَوْمِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِ مَسْجِدِهِ؟
فَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْأَكْثَرُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ
اعْتِكَافَهُ.
وَأَجَازَ مَالِكٌ لَهُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَأَنْ يَلِيَ عَقْدَ
النِّكَاحِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مَنْصُوصٌ
عَلَيْهِ إِلَّا الِاجْتِهَادُ، وَتَشْبِيهُ مَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَيْهِ
بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ شُهُودَ
جَنَازَةٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ
شَرْطَهُ لَا يَنْفَعُهُ، وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْفَعُهُ شَرْطُهُ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُهُمُ الِاعْتِكَافَ بِالْحَجِّ
فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا عِبَادَةٌ مَانِعَةٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ،
وَالِاشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ إِنَّمَا صَارَ إِلَيْهِ مَنْ رَآهُ
لِحَدِيثِ ضُبَاعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَهِلِّي بِالْحَجِّ وَاشْتَرِطِي أَنْ مَحِلِّي
حَيْثُ حَبَسْتَنِي» . لَكِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي
الْحَجِّ، فَالْقِيَاسُ فِيهِ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْخَصْمِ الْمُخَالِفِ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا اشْتَرَطَ التَّتَابُعَ فِي النَّذْرِ، أَوْ كَانَ
التَّتَابُعُ لَازِمًا: فَمُطْلَقُ النَّذْرِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مَا
هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي إِذَا قَطَعَتِ الِاعْتِكَافَ أَوْجَبَتِ
الِاسْتِئْنَافَ أَوِ الْبِنَاءَ مِثْلُ الْمَرَضِ؟ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: إِذَا قَطَعَ الْمَرَضُ الِاعْتِكَافَ بَنَى الْمُعْتَكِفُ، وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
يَسْتَأْنِفُ الِاعْتِكَافَ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَلَا خِلَافَ
فِيمَا أَحْسَبُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَائِضَ تَبْنِي.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ أَمْ لَيْسَ يَخْرُجُ؟ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا إِذَا جُنَّ الْمُعْتَكِفُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ
هَلْ يَبْنِي أَوْ لَيْسَ يَبْنِي بَلْ يَسْتَقْبِلُ؟ .
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَيْءٌ مَحْدُودٌ مِنْ قِبَلِ السَّمْعِ، فَيَقَعُ
التَّنَازُعُ مِنْ قِبَلِ تَشْبِيهِهِمْ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ - أَعْنِي: بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ
الْعِبَادَةِ، أَوْ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي مِنْ شَرْطِهَا التَّتَابُعَ
مِثْلِ صَوْمِ النَّهَارِ وَغَيْرِهِ -.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ الْمُتَطَوَّعَ إِذَا قُطِعَ
لِغَيْرِ عُذْرٍ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ ; لِمَا ثَبَتَ أَنَّ
رَسُولَ
(2/81)
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ
رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ، فَاعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ. وَأَمَّا
الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ فَلَا خِلَافَ فِي قَضَائِهِ - فِيمَا أَحْسَبُ -.
وَالْجُمْهُورُ أَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً انْقَطَعَ اعْتِكَافُهُ.
فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا رَأَيْنَا أَنْ نُثْبِتَهُ فِي أُصُولِ هَذَا
الْبَابِ وَقَوَاعِدِهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ، وَصَلَّى
اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحِبِهِ وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا.
(2/82)
|