شرح التلقين

المقدمة الثانية الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن علي ابن عمر بن محمَّد التميمي المازري
اسمه ونسبه:
هو الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن علي بن عمر بن محمَّد التميمي المازري.
ينتهي نسبه إلى قبيلة بني تميم المضرية التي كانت منازلها في الشمال الشرقي لجزيرة العرب. جنوب البصرة.
ولم أعثر على ما يحقق نسبه العربي هذا. هل كان تميميًا صليبا من أحفاد الجند العربي الفاتح لصقلية في ربيع الأول سنة 212 هـ جويلية 827. أو هو تميمي ولاء؟ وسواء أكان هذا أو ذاك فإن وصل شجرة نسبه بقبيلة بني تميم يدل على إرادته إبراز هذا الانتساب العربي وتمسكه به. والقاعدة المرعية في الإِسلام أن الناس مصدقون في أنسابهم.
وكما ينتهي نسبه إلى هذه القبيلة العربية فإنه أيضًا يرتبط من ناحية أخرى بموطن أسرته لمدة طويلة، إلى مدينة مازرة. وهي مدينة تقع في الجنوب الغربي لجزيرة صقلية. على ساحل البحر أرست بها سفن الجيش الإِسلامي عند فتحها بقيادة القاضي أسد بن الفرات. وانتصر جيش الفاتحين على الجيوش البيزنطية عند رأس قرنيتولا ول
GRANITOLA المحاذي لمازارا في 15 جويلية 827.

التعريف باسم هذه المدينة وضبطها:
يقول المؤرخ الإيطالي ميشال آماري
MICHLE AMARI أن الشعوب الإِسلامية كغيرها كانوا يطلقون على ما يحتلونه من البلدان أسماء الوطن الأم

(1/43)


وهو يفترض أن اسم مازرا قد أطلقه عليها الوافدون عليها من الشرق الذين عمروا جزيرة صقلية قبل الفتح الإِسلامي. ويرجح ما يذهب إليه بأن مدينة كمدينة سيقاستان هي شبيهة في تركيبها من اسم داغستان ببلاد فارس. وكذلك مازرا، فإنه صنو قرية مازرة بلرستان من بلاد فارس (1). وجاء في تاج العروس. ومازر بلدة بلرستان بين أصبهان وخزستان وضبطها بفتح الزاي (2).
واسمها كما ينطق به أهل صقلية مازرا
MAZARA. والنسبة إليه المازري بفتح الزاي. وهذا هو القياس. وفي القاموس مازركهاجر بلد بالمغرب بصقلية. قال شيخنا وقد تكسر زايه كما في شرح الشفاء وغيره منها الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري أحد الأئمة شارح صحيح مسلم (3). وقد ذكر ابن خلكان في ضبط اسمه بزاي مفتوحة. وقد تكسر أيضًا (4).
وقد يترجح عندي أن كسر الزاي سببه أن معظم الإنساب هي إلى فاعل بكسر العين وفاعل بفتحها قليل كخاتم وطابق وهاجر. فلذلك يسبق اللسان إلى الكسر. وأن الصواب هو بفتح الزاي اعتمادًا على شقيقتها الفارسية، وعلى طريقة نطقها باللسان الإيطالي ولو كان أصلها بكسر الزاي لنطق بها الإيطاليون مكسورة. ويردف عماري في تعريفه مازرا. أن كتب التاريخ التي اعتنت بالفترة السابقة على الفتح الإِسلامي لم يرد فيها ذكر لمازرا. وإنما ابتدأ الحديث عنها في الأعمال التاريخية والجغرافية للكتاب العرب كالمقدسي وابن فضل الله وغيرهم (5).
ويذهب فيليبو ناتولي إلى أن الإِمام المازري ولد بمازرة يقول: "وكثيرًا ما
__________
(1) تاريخ مدينة مزرا. فيليبو ناتولي ص 33/ 35.
STORIA DELLA CITA DI MAZARA
(2) تاج العروس ج 14 ص 120.
(3) نفس المصدر.
(4) وفيات الأعيان، ج 4 ص 285.
(5) تاريخ مدينة مزرا ص 35.

(1/44)


نجد عندما نقرأ الأدب العربي اسم المازري يسبق أسماء المسلمين الحيلة الذين ولدوا بمدينة مازرة للتفرقة بينهم وبين الذين يحملون نفس الاسم. ولكن ولدوا ببلاد أخرى (1).
وهذه إلدعوى لم يؤيدها بدليل يثبت أنه ولد بمازرة. وارتباط النسب بالبلد الذي هو مقر الأسرة لا يزول بالتحول عنها ولو بعد أجيال. بل لعل الالتصاق ببلد الأسرة يكون أشد عندما تتحول عنها إلى غيرها من الأماكن للتعريف المميز بالارتباط بالبلد المنتقل عنه.

حياة الإِمام المازري
نما وتعلم ودرس وبلغ درجة الإمامة في الساحل الشرقي التونسي. لم يصلنا ما يوثق به عن المدينة التي ولد فيها. والقاضي عياض الذي بلغ درجة عالية من الثقة والضبط، لما لم يجد ما يثبت أنه ولد في المهدية أو في غيرها، حمله ورعه ودقته في التعبير أن يقول = مستوطن المهدية (2). فاتخاذ هذا التورع في التعبير كدليل على أنه ولد في غير المهدية فيه نظر. إذ هو كمفهوم اللقب عند جمهور الأصوليين. لا يدل نص عياض ولا نص ابن فرحون لا على أنه ولد في المهدية ولا على أنه ولد في غيرها وانتقل إليها. على أن مكان الولادة لا أثر له في المستوى العلمي الذي بلغه الإِمام المازري وهو الذي يهم من يرغب في التعرف على شخصيته.
وكما كان مكان ولادته غير معلوم على وجه الدقة فكذلك سنة ولادته. أما تاريخ وفاته فيجمع من كتب عنه أنه توفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة في شهر ربيع الأول في الثالث منه عند عياض. وفي الثاني منه أو الثامن عشر كما هو عند ابن خلكان وبمثل هذا الترديد عند المقري (3). وعياض كشأنه في التورع لا
__________
(1) تاريخ مدينة مزرا. ص 35.
(2) الغنية ص 132.
(3) الغنية 133 - وفيات الأعيان ج 4 ص 285. أزهار الرياض ج 3 ص 166. العبر ج 4
ص 151.

(1/45)


يضبط عمر المازري. ويقول وقد نيف على الثمانين تبعًا لعدم علمه بتاريخ ولادته. وكذلك فعل ابن فرحون. ويضبط ابن خلكان والحافظ الذهبي والمقري أنه عُمّر ثلاثًا وثمانين سنة. وعلى هذا تكون ولادته سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. فهو قد عاش في النصف الثاني من القرن الخامس. والأول من السادس (1).

الوضع السياسي:
يعد عصر المازري من أظلم الفترات التاريخية لتونس- الجسم التونسي ينزف دماءه من الجراح العميقة للهجمة الوحشية لأعراب الصعيد على القيروان.
فاختل الأمن وضعفت سلطة الدولة واستبد الأعراب خارج أسوار المدن، وانقسمت الوحدة فقامت إمارات في المدن التونسية ليس لها من رسوم الإمارات إلا التسلط والقهر، وثارت الحروب بينها فكانت بين مد وجزر.
فالمعز بن باديس لما أراد أن ينتقل من صبرة إلى المهدية لم يستطع أن يقوم بهذه الرحلة سنة تسع وأربعين وأربعمائة إلا في خفارة رجلين من العرب كان صاهرهما ببنتيه الفضل بن أبي علي المرداسي. وفارس بن أبي الغيث.
وخرجا به سرًا وفطن به الأعراب وكادوا يأسرونه (2).
وتوفي المعز سنة 454 أي بعد ولادة المازري بسنة وولي الأمر بعد المعز ابنه تميم الذي تسلسلت فيه الدولة الصنهاجية إلى أن توفي بالمهدية سنة 501 ثم تولى الملك من بعده ابنه يحيي الذي توفي يوم عيد النحر فجأة سنة تسع وخمسمائة فتولى الملك من بعده ابنه علي الذي توفي سنة خمس عشرة وخمسمائة. وتولى الأمر من بعده الحسن بن علي الذي فر من المهدية يحمل ما خف عليه حمله من النفائس. وترك عاصمة ملكه نهبا لروجار. وبذلك سقطت
__________
(1) ما جاء في كتاب حسن حسني عبد الوهاب أنه ولد سنة 443 هو خطًا مطبعي قطعًا. ذلك أن المؤلف يحدد عمره بثلاث وثمانين سنة. وحدد تاريخ وفاته بالثامن من شهر ربيع الأول سنة 536. انظر ص 41 - 50 - 95.
(2) رحلة التيجاني ص229.

(1/46)


الدولة الصنهاجية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة (1).
أما تميم فيقول فيه التيجاني: استبد تميم بالملك وغلبه الأعراب على أمره فلم يكن له إلا ما ضمت أسوار بلده. خلا أنه كان في بعض الأحايين يحالف فريقًا من الأعراب فيجد السبيل بذلك إلى الخروج لقتال من يقصده وحصار من يثور عليه ببلد من بلاده (2).
واستقل حمو بن مليل بصفاقس التي تبعد عن المهدية بمائة كلم. يقول التيجاني: طمع حمو بعد وفاة المعز في الاستبداد والتغلب على غير صفاقس من البلاد فحالف جماعة من العرب عديا والأثبج ومن ضامهم وزحف بهم وبمن معه من رجاله إلى بعض القرى فملكها. واستحوذ عليها ثم نهض إلى المهدية يريد حصرها. فنهض تميم للقائه فولت فئة حمو أدبارها. وأسرعت فرارها.
ورجعوا إلى صفاقس. وبعث بعد ذلك تميم ابنه يحيى لمحاصرة صفاقس فحاصرها أيامًا ثم رجع عنها وبقي أمرها بيد حمو إلى سنة ثلاث وتسعين فتوجه إليها تميم بنفسه فافتتحها وفر حمو مستجيرًا بمكي بن كامل الرياحي بقابس التي كانت هي أيضًا خارجة عن سلطته (3).
وسوسة التي تبعد عن المهدية بستين كلم مات المعز وهي خارجة ثم عادوا للطاعة في عهد تميم سنة ست وخمسين. ثم توالت عليها بعد ذلك أمراء من العرب ملكوها حين استولوا على البلاد وانتزعوها من أيدي صنهاجة واستقرت آخرًا تحت ملك جبارة بن كامل بن سرحان. ومن يده أخذها النصارى حين أخذوا المهدية من يد الحسن بن علي (4).
وأما تونس فكانت متابعة لبني حماد يدير أمرها والٍ من قبل الناصر بن علناس. هو عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان. ثم ولي الأمر بعده ولده عبد
__________
(1) انظر في هذا الحلل السندسية ج 2 من ص 69 إلى ص 86.
(2) الرحلة ص 330.
(3) الرحلة ص 70/ 71.
(4) الرحلة ص 29/ 30.

(1/47)


العزيز بن عبد الحق ثم ولده أحمد. واضطربت أمور تونس مما أوجب تدخل بني حماد (1).
إنه مع هذه النماذج المحزنة تزداد الصورة قتامة إذا ما أضفنا إليها استيلاء النصارى على المهدية وزويلة. قال أبو الصلت: ولجأ تميم إلى قصره المعروف بقصر المهدي وهو قصر حصين فأقام إلى أن وقع الصلح بينهم وبينه على مائة ألف دينار تدفع لهم ويقنعون بما حصل في أيديهم من المسلمين. فدفعت لهم. وأقلعوا بأموال المسلمين ونسائهم وأبنائهم. قال وقد استوفى وصف ذلك كله أبو الحسن علي بن محمَّد الحداد في قصيدة طويلة أولها منسرح:
أنى يلم الخيال أو يقف ... وبين أجفانه نوى قذفُ (2)
ففي خضم هذه الفتن عاش الإِمام المازري. وكانت للأوضاع السياسية أثرها فيه مما سنبينه إن شاء الله.

شيوخ الإِمام المازري:
الإِمام المازري من العلماء الذين جمعوا بين شعب متعددة من العلوم.
فهو محدث. وفقيه. وأصولي. ومتكلم. وطبيب وعلى حظ من علوم الحكمة. ومتقن للحساب. وعلم الميقات. وأديب.

وهذه نماذج من تعريف الذين ترجموا له.
يقول معاصره القاضي عياض. آخر المستقلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه. ودرس أصول الفقه والدين وتقدم في ذلك فجاء سابقًا وسمع الحديث وطالع معانيه. واطلع على علوم كثيرة، من الطب والحساب والآداب وغير ذلك. وإليه كان يفزع في الفتوى في الطب في بلده كما يفزع إليه في الفقه (3).
__________
(1) البيان المغرب ج 1 ص 315. نزهة الأنظار ج 1 ص 379.
(2) رحلة التيجاني ص 331/ 332. نزهة الأنظار ج 1 ص 381.
(3) الغنية ص 132/ 133.

(1/48)


وبمثله لفظًا ومعنى ترجم له ابن فرحون (1).
ويقول ابن خلكان أحد الأعلام المشار إليهم في حفظ الحديث والكلام عليه. وله في الأدب كتب متعددة (2).

أولًا: هو محدث. جمع إلى الرواية الدراية. والرواية بطرقها المتعددة أعلاها التلقي المباشر وعليها تخرج كل المحدثين. ثم بعد ذلك طرق أخرى مكملة لاتصال السند كالإجازة والوجادة. وعياض يؤكد أنه سمع الحديث.
واعتماده في ربط الفروع بالسنة خير شاهد على تمكنه من رواية الحديث عن محدثي عصره. ولكن لم نجد ذكرًا لشيوخه الذين أخذ عنهم هذا الفن. وأما الدراية، فيكفي شاهدًا على تقدمه، المعلم لفوائد مسلم.

ثانيًا: هو من المتكلمين الذين دافعوا عن السنة حسب الطريقة الأشعرية.
فهو الأشعري المتقدم في هذا المضمار. ألف كتابه "النكت القطعية في الرد على الحشوية". وذكر الشيخ الحافظ النحوي أبو العباس أحمد بن يوسف الفهري اللبلي في مشيخة شيخه التجيبي أن من شيوخه أبا عبد الله المازري. وأن من تآليفه عقيدته التي سماها "نظم الفرائد في علم العقائد" (3).

ثالثًا: هو أصولي يظهر ولوعه بهذا الفن وتمكنه منه في مناقشاته المتعددة للأقوال الفقهية. وفي شرحه لكتاب البرهان "إيضاح المحصول من برهان الأصول". كما أنه في شرحه للتلقين أبان عن عزمه على إملاء كتاب في مسائل الأصول.
ولكنه لم يبلغنا أسماء من أخذ عنهم علم الأصول حتى برع فيه وناقش إمام الحرمين.

رابعًا: هو طبيب. يقول عياض، وإليه كان يفزع في الطب في بلده كما
__________
(1) الديباج المذهب ص 280.
(2) وفيات الأعيان ج 4 ص 285.
(3) الديباج ص 280.

(1/49)


يفزع إليه في الفتوى في الفقه (1). وينقل ابن فرحون كلام القاضي لفظًا ومعنى ويضيف إليه. يحكى أن سبب قراءته الطب ونظره فيه أنه مرض فكان يطبه يهودي فقال له اليهودي يومًا يا سيدي مثلي يطب مثلكم وأي قربة أجدها أتقرب بها في ديني مثل أن أفقدكم للمسلمين. فمن حينئذ نظر في الطب (2). والطب علم يتلازم فيه الجانب النظري والجانب التطبيقي. ولا يصل الإنسان فيه إلى المرتبة العليا التي تحدث عنها القاضي إلا إذا أخذ هذا الفن عن شيوخه ولكن لم يحفظ لنا اسم أي طبيب أخذ عنه. وأما الحكاية المسندة إلى المجهول من السبب الحامل له على تعلم الطب. فهي حكايته متخيلة وغير محبوكة. فلعلها ركبت رمزًا لموقف كثير من اليهود والنصارى الذي كان الإِسلام بتسامحه يعطيهم مكانتهم في المجتمع وهم يكيدون له كما وقع من جرجير الأنطاكي الذي قرّبه تميم وحكمه في دخله وخرجه وصارت أموال المسلمين في يده ويد أقاربه. فخان الأمانة وانحاز إلى لجار في صقلية وأصبح ركنًا من أركان دولته (3).

خامسًا: إتقانه للعلوم الحكمية. كما يظهر ذلك في مناقشته لحد الجنس والفصل عند المناطقة وبيانه اختلال التعريفات التي ارتضاها المناطقة من قبل. أما الجنس فقد حده أهل علم المنطق، بأنه اللفظ المقول على كثيرين مختلفين بالنوع. وهذا الحد قد أطبق عليه جميع الفلاسفة المتقدمين منهم والمتأخرين. وهو حد فاسد. لأن الجنس شيء غير اللفظ الدال عليه. وهذا الذي ذكروه إنما هو حد اللفظ الدال عليه فقولهم إنه حد للجنس بعينه خطأ. ألا تراهم يقولون قولنا حيوان جنس، وقولنا إنسان نوع؛ لأنه بعض الحيوان، ومعلوم أن الحيوان ليس هو اللفظة، التي هي قولنا حيوان، وِوجه آخر يفسد به هذا الحد وهو أنهم ذكروا أنه اللفظ المقول على المختلف بالنوع. والنوع لا يعلم عندهم حقيقته إلا بعد أن يعلم حقيقة الجنس. فقد بينوا الشيء بما هو مأخوذ منه، ومتفرع عنه، وكيف يصح أن يعلم الأصل من الفرع؟ هذا عكس الحقائق. والصواب في هذا
__________
(1) الغنية ص 133.
(2) الديباج ص 280.
(3) رحلة التيجاني ص 333.

(1/50)


أن يقال: أما الجنس فهو الشبه والمثل هذا أصله في اللغة. وأما العبارة الدالة عليه، فيمكن أن ترسم بأنها القول الشامل لمسميات تتباين بالصفات اللازمة لها ألا ترى أن قولنا حيوان ينطلق على أشياء متباينة: كالإنسان، والفرس، والطائر. وصفات الإنسان وشكله الذي فارق به الفرس والطائر، لازمة له. فلو فارقته لفارق كونه إنسانًا، فهذا هو الرسم الصحيح الذي يجب أن يُرسم به المعنى، الذي قصدوا هم إليه.
أما النوع فقد حده من ذكرناه من الفلاسفة أيضًا، بأنه اللفظ المقول على كثيرين مختلفين بالشخص. وهذا أيضًا يفسد بنحو ما أفسدنا به الأول أيضًا. لأن هذا إنما هو حد اللفظ الدال على النوع. واللفظ غير النوع. ويفسد أيضًا بقولهم على كثيرين مختلفين بالشخص. لأن الأعراض ليست أشخاصًا. وقولنا - سواد- هو نوع وليس بشخص. والصواب في هذا أن ترسم العبارة الدالة على النوع الذي قصدوه: بأنها القول الشامل لمسميات تتباين بالتغاير خاصة. ألا ترى أن قولنا إنسان يطلق على زيد وعمرو وبكر، ولا تتباين بينهم في المعنى الذي كان به كل واحد منهم إنسانًا وإنما تباينوا بالتغاير؛ لأن زيدًا إنسان وعمروا إنسان (1).
كما أنه ناقش إخوان الصفاء. يقول المقري وله أيضًا إملاء على شيء من رسائل إخوان الصفاء، سأله السلطان تميم عنه (2) ولم ينقل عمن أخذ العلوم الحكمية.

سادسًا: معرفته بعلم الحساب والهيئة. نص على أخذه علم الحساب القاضي عياض. وأحسب أنه القدر الزائد على التصرف في الكسور الذي تقوم عليه قسمة التركات وخاصة في باب المناسخات إذا توالى على السهم ورثة من أجيال قبل القسم. الذي برع فيه الفقهاء والموثقون حتى يصل الحظ من التركة الأصلية لأحد الورثة في الطبقة الدنيا إلى جزء من ثمن تسع عشر ربع نصف
__________
(1) شرح التلقين ج 1ص 121 - 122.
(2) أزهار الرياض ج 3 ص 166.

(1/51)


سدس سدس المناب الأصلي وأقل من ذلك. واطلعت على تركات بقيت أجيالًا لم تقسم. وكانت قيمتها يوم أراد المستحقون قسمتها تصل إلى مئات آلاف الدنانير. فكان حظ بعض المستحقين لا يبلغ الدينار. وكل ذلك يتم على أساس الكسور التي تقوم منها التركة الأصلية ثم أخذ كل كسر والمضي به في الفرع الخاص. ثم كسر كسره وهكذا. ولذا فلما كان إتقان ذلك لا يعد في ترجمة الرجال من الإختصاص في الحسابيات. فيكون قصد القاضي أنه أخذ حظًا من علوم الحساب على المستوى الذي كان عليه العلم في عصره الأمر الذي مكنه من مناقشة بعض القضايا الهندسية. يقول في فرض الغائب عن مكة في استقبال القبلة: اختلف المالكية على قولين والشافعية على قولين: ما فرض الغائب عن مكة، ومطلوبه إذا اجتهد في استقبال القبلة؟ هل استقبال عينها وسمتها أو استقبال جهتها؟ فذهب الأبهري من أصحابنا إلى أن المطلوب الجهة وهو مذهب أبي حنيفة. وذهب ابن القصار إلى أن المطلوب السمت والعين. وأشار إلى أنه لا يمتنع كثرة المسامتين مع البعد كما لم يمتنع ذلك في مسامتة النجوم. وهذا الذي قاله يفتقر إلى تحقيق. وذلك أن المتكلمين اختلفوا في الدائرة هل يحاذي مركزها جميع أجزاء المحيط أو إنما يحاذي من أجزاء المحيط مقدار ما ينطبق عليه ويماسه؟ فذهب النظام من المعتزلة إلى أن المركز يحاذي جميع أجزاء المحيط، واحتج في ذلك بأنك لو قصدت إلى جزء من أجزاء المحيط وأخرجت منه خطًا لاتصل ذلك الخط بالمركز. ورد عليه مقالته هذه أئمتنا المتكلمون وقالوا بأن الخطوط من المركز إلى المحيط فإنها تضيق عند ابتدائها وتنفرج عند انقطاعها. وما ذلك إلا أن مآل مساحة المركز يفتقر فيه إلى تفريج الخط وتعويجه ليمكن الاتصال. وقالوا ولا يحاذي نقطة المركز من أجزاء المحيط إلا ما لو قدر منطبقًا عليها لماسها. فهذه المسألة التي ذكرها المتكلمون يجب أن يعتبر بها ما قاله ابن القصار، فيقال له إن أردت بتصحيح مسامتة الكثرة مع البعد، أنهم وإن كثروا فكلهم يحاذي بناء الكعبة. فليس كما توهمت. وقد أخبرناك إنكار أئمتنا على النظام هذا. وإن أردت أن الكعبة تقدر كأنها بمرأى منهم لو كانت بحيث ترى وأن الرائي يتوهم المقابلة والمحاذاة وإن لم تكن

(1/52)


كذلك في الحقيقة. فهذا نسلمه لك ويسلم تمثيلك فيه برؤية الكواكب فإن الأمر فيها على ذلك جرى. ولكن مع هذا لا يكون كل فصل محاذيًا مقابلًا، ولكنه مسامتًا ببصره، ولا يكون كل فصل مسامتًا بجسمه. فهذا الذي يظهر لي في تحقيق ما قاله ابن القصار وكشف الغطاء عنه وقد قال الشيخ أبو الطيب عبد المنعم وهو أحد أشياخ شيخنا، وكان ممن لم تمنعه الإمامة في الفقه عن الإمامة في الهندسة: (من قال إن الفرض استقبال الجهة لا العين فقد غلط لأن الله تعالى قال: {فولوا وجوهكم شطره}، والشطر إن كان هو النحو أو القبالة أو القصد أو النصف فذلك غير الجهة. والوجه والجهة والمواجهة والوجاهة ما استقبل. والوجاه والتجاه استقبال الشيء. ولو كان المطلوب الجهة لكان من كان من الكعبة في الشمال مستحقًا لكان مخيرًا بين أن يصلي إلى المشرق أو إلى المغرب أو إلى الجنوب. لأنه يكون حينئذ مستقبلًا للكعبة إما بوجهه أو أحد خديه، وهذا الذي نصر به الشيخ أبو الطيب أبا الحسن ابن القصار لا يدفع ما قلناه في تحقيق القول في المسامتة. والنظر فيه أيضًا يطول ويقطع عن غرض الكتاب (1).
أما علمه بالهيئة فقد ذكر في باب صلاة الخسوف أن مذهب الشيخ أبي محمَّد عبد الحق أنه إذا اجتمع العيد والخسوف وصلاة الاستسقاء فإن صلاة الاستسقاء تؤخر إلى يوم آخر. لأن يوم العيد يوم تجمل ومباهاة والاستسقاء ليس يوم تجمل وإنما هو رهبة وسكون فيؤخره. ويبدأ بالخسوف لئلا تتجلى الشمس ثم بالعيد ثم بالجمعة ويعقب على الشيخ أبي محمَّد بقوله. ولم أزل أعجب من إغفاله فيه. إذ لا يكون كسوف يوم عيد ولا يتفق. وإنما يكون كسوف الشمس في آخر الشهر. وعند إنسلاخه. وبعد أن يقرر أن هذه هي العادة التي أجرى الله عليها الكون ولله أن يفعل ما يشاء. يستطرد فيقول ولقد وقع الشافعي على عظيم شأنه في هذا التصوير، ورأيته قد صور اجتماع العيد والكسوف. وتكلم على ذلك ... وهذا لا معنى له إلا أن يراد به معرفة فقه
__________
(1) شرح التلقين ص 487/ 488.

(1/53)


المسألة لو خرقت العادة فوقعت المسألة (1). وهو اعتذار يدل على الخلق الرفيع للمازري. إذ يلتمس مخرجًا يناسب مقام الإِمام الشافعي ولا يعجل بأنه خطأ محض أو جهل كما يخف إليه خفاف الدين والأدب في نقدهم للعلماء.
ومما يجري في هذا الاتجاه أعني معرفته بالعلوم الحكمية التي كانت
تشمل في عهده علوم المنطق والطب والحساب والطبيعة وما وراء الطبيعة. ما ذكره المقري قال: حكي أن بعض طلبة الأندلس ورد على المهدية، وكان يحضر مجلس المازري، ودخل الشعاع من كوة. فوقع على رجل الشيخ المازري فقال الشيخ: "هذا شعاع منعكس" فذيله الطالب لما رآه متزنًا.
فقال:
هذا شعاع منعكس ... لعلة لا تلتبس
لما رآك عنصرًا ... من كل علم ينبجس
أتى يمد ساعدًا ... من نور علم يقتبس (2)

تعلق كل من ذكر هذه الحادثة بالناحية الأدبية وهي جميلة خاصة مع حضور البديهة وبراعة الارتجال. ولكن الناحية التي أريد لفت النظر إليها -هي الناحية الحكمية- في انعكاس الشعاع. والنظريات المترتبة على ذلك. وهي التي ترجح عندي أن المازري قصدها. إذ لو كان قصده إلى ضوء الشعاع لعدل عن الانعكاس إلى تصوير الشعاع بآثاره التي يلحظها الأدباء لا بأثره الذي يلحظه العلماء حسب قوانين الحكمة الواسعة المدلول في عصره.

سابعًا: علمه باللغة وتضلعه بالأدب. ينبىء عنه:
ما ذكره ابن خلكان قال: وله في الأدب كتب متعددة (3). وما ذكره القاضي عياض واطلع على علوم كثيرة ... والآداب. وكان مليح المجلس
__________
(1) شرح التلقين ج 3 ص 1098.
(2) أزهار الرياض ج 3 ص 116.
(3) وفيات الأعيان ج 4 ص 285.

(1/54)


أنيسه، كثير الحكاية وإنشاد الشعر (1). وبمثل هذا لفظًا ومعنى عرف به ابن فرحون (2).
فهؤلاء الثلاثة وكفى بهم حجة مجمعون على أنه أديب تأثر منطقه بما استوعبه قلبه. فكان مليح المجلس، أنيسه، تسعفه حافظته بما أبدعه الشعراء من فصيح القول.
وينفرد ابن خلكان بإثبات أنه ألف في الأدب كتبًا متعددة. ولكن عوادي الزمن أضاعت مؤلفاته الأدبية. كما طوت أسماء الشيوخ الذين تخرج على أيديهم في الأدب وعلوم العربية.

ثامنًا: المازري الفقيه.
تمكن المازري بعقله الكبير من هضم علوم كثيرة وسعت مداركه، ففتحت له آفاقُ المعرفة المتنوعة نوافذ زادت سلطانه العقلي مضاء وحدة. ويسرت له الغوص على المعاني البعيدة، وانتظمت في نفسه. فتكون منه أحد أساطين الثقافة الإِسلامية. وغلب عليه الفقه فعَلا نجمه فيه وبلغ الرتبة الرفيعة. والقاضي عياض في دقته وتوفيقه يفتتح الحديث عن المازري بقوله: "إمام بلاد إفريقية. وما وراءها من المغرب. وآخر المستقلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر، لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض في وقته أفقه منه. ولا أقوى لمذهبهم. أخذ عن اللخمي وأبي محمَّد عبد الحميد السوسي وغيرهما. ونقل ابن فرحون عبارة عياض (3).
وجعله الشيخ خليل أحد العلماء الأربعة الذين يرجع إليهم في تحقيق الفقه بعد المدونة. فقال وبالاختيار للخمي إن كان بصيغة الفعل فذلك لاختياره. وهو في نفسه وبالاسم فذلك لاختياره من الخلاف وبالترجيح
__________
(1) الغنية ص 133.
(2) الديباج ص 280.
(3) الديباج ص 280.

(1/55)


لابن يونس كذلك وبالظهور لابن رشد كذلك. وبالقول للمازري كذلك (1) ومعلوم أن الفقه بعد خليل انكمش فأصبح محوره مختصره والفقهاء بين شارح ومحش ومقرر.
وارتبط اسمه بالإمام. لقب الشرف الذي بايعه به الفقهاء وجماهير المسلمين لعلو كعبه وحسن قصده وإخلاصه لله وعدم اغتراره بمباهج الحياة وبريق السلطة.
ويروون في ذلك رواية أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال أحق ما يدعونني
برأيهم يدعونني بالإمام. فقال وسع الله صدرك للفتيا (2). ولما كانت القصة غير محبوكة تفطن لها العدوي في حاشيته على الخرشي. فقال لم يجبه المصطفى عليه السلام بل دعا له بما هو أنفع ومستلزم لجوابه عرفًا. أي ملأ الله صدرك علمًا حتى لا يشق عليك ما يرد في أسئلة السائلين، أو زاد الله في حسن خلقك حتى لا تسأم مما ذكر (3).
والشيوخ الذين تخرج عليهم في الفقه واتصل له منهم السند العلمي كثر. ولكن المازري لم يسم من شيوخه إلا الشيخ أبا الحسن اللخمي. والشيخ عبد الحميد الصائغ. أما بقية شيوخه فأكثر ما يعبر عنهم "بعض أشياخي" كقوله عندما استشكل الاتفاق على تأثيم من صلى بالنجاسة عامدًا مع اختلافهم في فرضيتها وسنيتها. قال وقد سألت بعض أشياخي عن هذا فقلت له ما معنى الاختلاف في كونها فرضًا مع الاتفاق على التأثيم؟ فوقف في الجواب عن هذا. وسألت غيره من الأشياخ ... (4) وفي المواطن التي يعجب فيها بدقة النظر يقول شيوخنا الحذاق. وعلى هذا النحو.
قد تدل هذه الصياغة من كلام المازري أن صلته بشيوخه بقيت مستمرة
__________
(1) مختصر خليل ابن إسحاق ص 3.
(2) الديباج ص 280.
(3) حاشية العدوي على الخرشي ج 1 ص 41.
(4) شرح التلقين ج 1 ص 455.

(1/56)


يعود إليهم ويتطلع إلى معرفة رأيهم في المشكلات. وتدل من ناحية أخرى على أنه ما كان يذكر أسماءهم. وقد يكون ذلك. والله أعلم. مراعاة للظروف السياسية كما سيأتينا في محنة شيخه عبد الحميد.

الشيخ أبو الحسن اللخمي:
وهو الشيخ أبو الحسن علي بن محمَّد الربعي المعروف باللخمي، وهو ابن بنت اللخمي أصله من القيروان نزل بصفاقس. وكان فقيهًا فاضلًا دينًا، ذا حظ من الأدب والحديث جيد النظر، حسن الفقه. جيد الفهم، كان فقيه وقته، وأبعد الناس صيتًا في بلده، وبقي بعد أصحابه فحاز رئاسة بلاد إفريقية جملة. وكان حسن الخلق مشهور الفضل توفي سنة 478. بهذا ترجم له القاضي عياض في المدارك (1).
فهذا النص يدل على:
1 - أن اللخمي تفقه ببلده القيروان وخرج منها بسبب فتنة الأعراب وتخريبهم لحضارة هذه العاصمة الإِسلامية وقضائهم على الأمن والأرزاق والأرواح.
2 - أنه عُمّر وبقي، بعد أصحابه فانفرد بالرئاسة العلمية وطار صيته في البلاد الإفريقية. وأنه توفي يوم كان عمر المازري خمسًا وعشرين سنة. ولكن لم تذكر المصادر تاريخ ولادته.
3 - أنه جمع إلى العلم زينة العلماء الخلق العالي والنباهة وجودة الفكر. ولا يؤثر عن اللخمي أنه انتقل من صفاقس بعد أن حل بها بما يرجح أن المازري قصده في بلده. وأخذ عنه في المسجد الذي كان يدرس به.
ويقول في معالم الإيمان ومسجده بصفاقس مشهور إذا دخله الداخل يرى فيه نورًا زائدًا عن غيره من المساجد (2). وهذا المسجد هو المسجد المواجه
__________
(1) المدارك ج 8 ص 109 ومن جاء بعده اعتمد مع تساو أو اختصار أو زيادة غير موثقة.
انظر الديباج ص 203. ومعالم الإيمان ج 3 ص 199/ 200.
(2) معالم الإيمان ج 3 ص 199.

(1/57)


لدار الآثار ولإدارة الآثار ولإدارة والي صفاقس في القرن الماضي المعروفة "بالدريبة" ثم تم توسيعه وأصبح جامعًا تقام فيه صلاة الجمعة. ويعرف بجامع الشيخ اللخمي وبجامع الدريبة.
وأما قبره فقد دفن رحمه الله وسط المقبرة العامة الكائنة في الجهة الشمالية من سور المدينة. ثم بني على ضريحه مسجد صغير. ثم قام مراد بأي ملك تونس ببناء قبة عليه وعلى باب القبة في العتبة العليا نقشت هذه الأبيات مثبتة ذلك لأحد الشعراء:
هلال يندى من على الأفق ساطع ... وأشرق عنه الكون كالبرق لامع
أمين كريم علي زكي الفواضل ... مراد مراد الباي في العز طالع
فأحيى شريح الحبر علمه ظاهر ... أبي الحسن اللخمي يكن له شافع (1)

وفي 9 شعبان 1401 - 12 جوان 1981 تم إنجاز أوسع جامع في مدينة صفاقس. ملاصق للحائط القبلي للمسجد المبني على قبره. وسمي بجامع الإِمام اللخمي. ولم يذكر له من التآليف إلا التبصرة. قال عنها القاضي عياض. وله تعليق كبير على المدونة سماه التبصرة مفيد حسن. وهو مغرى بتخريج الخلاف في المذهب. واستقراء الأقوال وربما تبع نظره فخالف المذهب فيما ترجح عنده. فخرجته اختياراته في الكثير عن قواعد المذهب (2)
وبعد نظري في جزء مصور بمكتبتي عن نسخة بالقروييي، يبدأ بكتاب القضاء وينتهي بكتاب الجراحات تبين لي أن التبصرة ليست تعليقًا على المدونة. ذلك أن التعليق يرتبط فيه المعلق بترتيب المسائل ويقتصر على ما يستحق التعليق ويكتفى بالمعلق عليه إذا كان وافيًا. وعمله عمل تابع مرتبي بالأصل في منهجه وطريقة عرضه. وهذا ما لم تجر عليه التبصرة وذلك:
أولًا: صاحب التبصرة يفتتح طوالع الكتب بسرد النصوص من الكتاب
__________
(1) نزهة الأنظارج 2 ص 277.
(2) المدارك ج 8 ص 109.

(1/58)


والسنة والقياس أو المقصد الشرعي مما كان عليه مدار فقه الكتاب. فمثلًا في كتاب هبة الثواب يستدل على جوازها: بأن القصد من أخذها مكارمة الواهب فجاز قبولها على ذلك. وقياسًا على نكاح التفويض في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1). فأجاز النكاح على ما يفرضه الزوج بعد العقد لما كان القصد فيه المكارمة. ولقول عمر رضي الله عنه: من وهب هبة يُرى أنها على الثواب فهو على هبته ما لم يرض منها. وأباح النبي - صلى الله عليه وسلم - العرية بخرصها إلى الجذاذ وهو الطعام بالطعام متأخرًا والرطب باليابس. فأجاز ذلك لأن القصد المكارمة من المعري إلخ. ويفتتح كتاب اللقطة بحديث خالد بن رشيد الجهني. ويفتتح كتاب الشفعة بحديث جابر المخرج في الصحيحين ويتبعه بحديث جابر بصيغة انفرد بها مسلم. ويفتح كتاب القسم بأدلة منها قوله تعالى: {وإذا حضر القسمة} (2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الشفعة فيما لم يقسم ... " (3) وفي القسم بالقرعة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل القائم في حدود الله ومثل الواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة ... " (4). وحديث عمران بن حصين في إقراعه - صلى الله عليه وسلم - بين ستة أعبد أعتقهم سيدهم عند موته فقسمهم أثلاثًا وأقرع بينهم فنفذ العتق في الثلث. وقوله سبحانه: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (5). وقوله: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (6).

ثانيًا: أنه يتبع ذلك بالأبواب التي يجمع فيها المكونات الأساسية للكتاب. ثم يتبع الباب بفصول هي المسائل الأساسية التي يتتبعها في صورها المتعددة.

ثالثًا: هو يتبع الاستدلال بإثارة أسئلة تكون هي التي يبنى عليها تفصيل القول في ذلك الكتاب. فيعقب مثلًا كتاب هبة الثواب بقوله: ويعتبر في ذلك خمسة أوجه. أحدهما هل للواهب أن يحبس هبته حتى يثاب. والثاني في
__________
(1) سورة البقرة، آية: 236.
(2) سورة النساء، آية: 8.
(3) رواه بخ - تـ - نس- داود ومالك وأحمد.
(4) رواه بخ - تـ - أحمد.
(5) سورة ال عمران، آية: 44.
(6) سورة الصافات، آية: 141.

(1/59)


الصنف الذي يثاب. والثالث القدر الذي يلزم قبوله. والرابع ما يفيتها. والخامس الوقت الذي يعتبر قيمتها فيه.
وبعد هذا أخذ في الإجابة عن السؤال الأول فنقل عن ابن القاسم في كتاب الصدقة من المدونة له أن يمنع من هبته حتى يثاب. وقال محمَّد ليس له أن يمنع من قبضها. ثم يختار قول محمَّد ويعلل اختياره. فيقول: وهو أحسن.
والشأن أن يسلم ثم يطلب الثواب. ثم يخرج على هذا الخلاف ما إذا كان الواهب مريضًا فإنه يجوز أن يسلمها قبل القبض وعلى القول الثاني يجبر إلا أن يكون الموهوب له فقيرًا فللورثة منعه منها. فإن قبضها "أي الموهوب له " منعوه من بيعها حتى يثيب وإن كان موسرًا لم يكن لهم إلخ.
وهذه الطريقة تأثر بها المازري في شرحه للتلقين. فهو يفتتح شرح القاضي بإيراد أسئلة ثم يأخذ في الإجابة عنها.

انتقاد المازري لشيخه أبي الحسن:
الإِمام المازري متمكن من علم الأصول يجري مع أنفاسه وهو ينظر في الفروع الفقهية ويحقق القول فيها حتى تنتظم عنده الشريعة تحت الضوابط الإجمالية التي هي مدارك علم الأصول. ولكن الشيخ أبا الحسن لم يكن على هذا القدر من التمكن. لذا كان المازري يتعقب كلامه مصرحًا بأن حظه من الأصول ضعيف. فمن ذلك ما رد به المازري تعقيب اللخمي على ابن عبد الحكم عندما استدل على وجوب صلاة الجنازة بقوله تعالى. {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا} (1) الآية. فتعقب الاستدلال أبو الحسن اللخمي وقال: هذا النهي عن الشيء أمر بضده إن كان له أضداد. فضد المنع من الصلاة على المنافقين إباحة الصلاة على المؤمنين والندبُ والوجوب، فليس لنا أن نحمل الآية على الوجوب دون الإباحة والندب، إلا أنه لم تختلف الأمة أن الناس مأخوذون بالصلاة على موتاهم وأنهم لا يسعهم ترك ذلك. وهذا الذي قاله رحمه الله هفوة لا يقع فيها حاذق بعلم الأصول. وإن كان رحمه الله ليس بخائض في علم الأصول. ولكن تعلق بحفظه منها ألفاظ ربما صرفها في غير
__________
(1) سورة التربة، آية: 84.

(1/60)


مواضعها. ولقد كنت خاطبته على مواضع منها رأيته انحرف فيها عن أغراض أهلها فربما أظهر قبولًا لذلك، وربما استثقله. ولقد جمع في هذا الكلام بين حقائق مختلفة ساقها مساق الحقيقة الواحدة. فقال النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان ضدًا واحدًا وليس كذلك إذا كان ذا أضداد. وقد صدق فيما قال لأنه إذا كان ضد واحد، وكان الخطاب أمرًا، كان ذلك نهيًا تعين الأمر في الضد الواحد وإن كان ذا أضداد كان الأمر بواحد منها لا بعينه. ولكنه مثل الضد الواحد بالفطر والصوم. فلما كان الفطر والصوم ضدين كان الأمر بأحدهما نهيًا عن الآخر والنهي عن أحدهما هو الأمر بالآخر. ومثل ذي الأضداد يكون النهي عن الشيء ضده الإباحة، لذلك الشيء أو الندب إليه أو الوجوب له، فأنت تراه كيف مثّل الأضداد مرة بالأفعال المأمور بها، ومرة بنفس الأوامر والنواهي. وليس هو سياقة الحاذق بالأصول ولكن مقصده مفهوم. وتحقيق العبارة عنه أن تقول إن الأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان ذا ضد واحد وعن سائر أضداده إذا كان ذا أضداد. والنهي عن الشيء أمر بضده إذا كان ذا ضد واحد. وبأحد أضداده إذا كان ذا أضداد. فالنهي عن الصلاة على الكفار أمر بأحد التروك المضادة للصلاة عليهم لأن الصلاة عليهم ترك لأمور كثيرة تكون كلها أضدادًا للصلاة عليهم. واحد هذه الأضداد الصلاة على المؤمنين لأنا إنما نجعل النهي عن الشيء أمرًا بأحد أضداده لا بعينه. فلا يمكن هذا تعيين الأمر بالصلاة على المؤمنين لأجل هذا النهي. فأنت ترى كون الأمر بالشيء نهي عن نحمده لا مدخل له في الاستدلال على هذه المسألة، ولكن إنما سلك فيها إجراءها على باب دليل الخطاب (1).
وكما يناقش شيخه اللخمي في كثير من القضايا الأصولية. فكذلك هو
يناقشه في بعض التخريجات التي يرى أن شيخه قد أغفل فيها بعض المعطيات. ومن ذلك تخريج اللخمي أنه يمكن أن يترتب على قول عيسى بن دينار أن من ترك السورة عامدًا أو جاهلًا يجب عليه إعادة الصلاة. خرج عليه القول بأن قراءة السورة واجب. ذلك أن إيجاب إعادة الصلاة لمن ترك السنن عامدًا هي طريقة في المذهب في السورة وفي غيرها.
__________
(1) شرح التلقين ج3 ص 1145/ 1146.

(1/61)


أما إيجاب الإعادة على الجاهل فيتخرج منه أن قراءة السورة واجب هكذا قرر الشيخ أبو الحسن. فعقب عليه الإِمام المازري بأن المذهب اختلف هل إن الجاهل يعامل معاملة العامد أو لا؟ فإذا قلنا إن الجاهل والعامد سواء لم يبق وجه للتخريج الذي كشف عنه أبو الحسن. وقد حاول الشيخ أبو الحسن اللخمي أن يخرج من المذهب قولًا بالإيجاب بقراءة السورة. واعتمد علي قول عيسى: من ترك السورة عامدًا أو جاهلًا أعاد. وأظنه إنما اعتمد على هذه الرواية لما ذكر فيها ترك القراءة جهلًا. لأن القول بالإعادة مع العمد قد يحمل على طريقة القائلين بالإعادة لترك السنن عمدًا. وفي هذا التخريج نظر لأن المذهب اختلف في الجاهل هل هو كالعامد أو لا؟ فإذا قيل إنه كالعامد وكان تعمد ترك السنن يوجب الإعادة لم يسلم له هذا التخريج (1).

الشيخ عبد الحميد الصائغ:
هو الشيخ أبو محمَّد عبد الحميد بن محمَّد القروي المعروف بابن الصائغ. كان فقيهًا نبيلًا فهمًا فاضلًا أصوليًا زاهدًا نظارًا جيد الفقه قوي العارضة. محققًا. بهذا ترجم له القاضي عياض. تخرج على أيدي جلة مشائخ القيروان إذ أدرك أبا بكر بن عبد الرحمن وأبا عمران. وتفقه بالعطار وابن محرز والمولي والتونسي والسيوري. وسمع أبا ذر الهروي (2). ثم انتقل من القيروان إلى سوسة إثر الزحف المخرب من أعراب صعيد مصر لعاصمة الحضارة بالمغرب.
وبجمعه بين الفقه والتضلع في علم الأصول كان أقرب إلى تلميذه المازري الذي كان ينوه به ويعتمده ويستطلع رأيه. ومع ذلك فإن هذا التقدير والاعتراف بالفضل لم يمنعه ذلك من مناقشة شيخه. ولكن بصفة أقل من تعقبه لآراء اللخمي وذلك في نظري لسببين مرتبطين:
السبب الأول: أن اللخمي لم يكن متمكنًا من علم الأصول فانفلتت عليه بذلك كثير من المسائل ولم تنتظم في السلك الأصولي الجامع. بينما كان الشيخ عبد الحميد أصوليًا. كما أثنى عليه بذلك القاضي عياض. ولبراعة الإِمام
__________
(1) شرح التلقين ج 2 ص 538.
(2) المدارك ج 8 ص 105.

(1/62)


المازري في الأصول كان لا يخفى عليه ما استتر على اللخمي.
السبب الثاني: أن اللخمي كان مغرى بتخريج الأقوال. والترجيح بين الآراء ثم الإعلان عما يتحصل عنده لنباهة واضحة عند التأمل في الاتجاهات والأقوال ولشجاعة بينة في إعلانه بذلك.
ومن أمثلة تعقيبه على شيخه ما رآه شيخه عبد الحميد أن أثر الاختلاف في اعتبار تكبيرة الإحرام في الصلاة ركنًا أو شرطًا، فساد الصلاة أو صحتها إذا نظر المأموم لعورة إمامه عند تكبيرة الإحرام. يقول: وكان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يرى أن فائدة الخلاف في ذلك ما ذكره سحنون من أن الناظر إلى عورة إمامه في صلاته تعمدًا، أن صلاته تبطل. فإذا قيل إن تكبيرة الإحرام من نفس الصلاة، بطلت صلاة الناظر إلى عورة إمامه في حين إحرامه. وإن قيل. ليست من نفس الصلاة لم تبطل صلاته. والذي عندي أن فائدة الخلاف في ذلك صحة تقديم الإحرام على وقت العبادة. فمن رأى الإحرام من نفس العبادة اشترط في صحة إيقاعه الوقت كما يشترطه في سائر أجزاء العبادة (1).

فتنة الشيخ عبد الحميد الصائغ:
ذكر عياض أن المعز بن باديس لما أراد تولية ابن شعلان قضاء المهدية اشترط عليه ابن شعلان أن لا يتقلد ذلك إلا إذا شد عضده بالشيخ عبد الحميد ليقوم بالفتوى. إذ لا يرى استفتاء أحد من فقهائها لأمور نقمها عليهم. فأسندت له الفتوى وانتقل إلى المهدية. فلما شغبت سوسة على ابنه تميم قبض على جماعة فيهم ولد عبد الحميد فضربه، وأغرمه ستمائة دينار باع فيها عبد الحميد كتبه. وكان سبب انقباض عبد الحميد عن الفتيا، فلقيه بعد ذلك تميم واعتذر إليه، فلم ينفعه، ولزم الانقباض ولزم داره، وأظهر التجاؤر، ولم ينتفع به في شيء. وجعل لا يجالس أحدًا، وتحيل في الخروج إلى سوسة لعلة المعاناة، لحسن هوائها. فبقي على حالته تلك ستة أعوام إلى أن دخل الإفرنج المهدية، واستباحوا أهلها. ودخلوا قصر صاحبها. وذلك سنة ثمانين، فانكسر بعد ذلك تميم، وفل غربه، وهان على الناس وداراهم، فظهر عبد الحميد، وراجع حالته
__________
(1) شرح التلقين ج 2 ص 499.

(1/63)


الأولى، وأفتى ودرس. وانتفع به إلى أن مات (1) سنة ست وثمانين وأربعمائة رحمه الله. أما ولادته فلم يتعرض لها أحد من مترجميه. إلا أنهم أشاروا إلى أنه أدرك أبا بكر بن عبد الرحمن المتوفى سنة 431. وأبا عمران الفاسي المتوفى سنة 430 فيكون سنه حوالي خمس عشرة سنة عند وفاة أبي عمران. إذ هو أقل سن التلقي غالبًا أي حوالي سنة 415 - ويكون قد عمر حوالي سبعين سنة.
هذه الرواية التي ذكرها عياض نقلها عنه الحجوي وعلق عليها. وإني لأعجب من انبساطه لا من انقباضه. ولقد فسدت أحوال وأخلاق ذلك الزمان. ولذا كانت دولة إفريقية في اضمحلال حيث صارت أفكار أكابر علمائها وأعمال أمرائها إلى ما سمعت (2).
إن هذه القضية تدلنا على أمور:
أولًا: عن انخرام الأمن وفساده فسادًا كليًا. بانتشار الظلم، إذ أصبح الإنسان مؤاخذًا بما لم يفعله ولم يشارك فيه، ولم يدبر. وتنزل العقوبة التي لا ترحم ولا مثنوية فيها بالمجرم وغير المجرم. وأن هذا البلاء قد عم. فلا فرق في نزول صواعقه بين أن يكون المسلط عليه عالمًا أو جاهلًا مكرمًا في نظر الجماعة أو غفلًا لا يؤبه به.
ثانيًا: أن أعز شيء على العالم كتبه بعد دينه وعرضه. فإذا بلغ به الأمر إلى بيع كتبه. فلا بد لنا من أن نتصور القسوة في المعاملة التي كانت تنتظر ولده لو لم يبع الوالد كتبه.
ثالثًا: أن النص يدل على أنه كان مضغوطًا عليه محصورًا في المهدية لا يبرحها مع أنه الركن الذي يفزع إليه القاضي لتبين حكم ما استبهم، وأهل المهدية لمعرفة ما أشكل من أحكام دينهم. إذ لو لم يكن محكومًا عليه بالإقامة في المهدية ما عمل الحيلة للخروج إلى سوسة.
رابعًا: أنه يفهم من ثنايا النص تبعًا لما ذكرناه أن تميمًا غضب عليه وأنه
__________
(1) المدارك ج 8 ص 106.
(2) الربع الرابع من الفكر السامي ص 51.

(1/64)


اقتنع بان استبداد هذا الحاكم مع غضبه عليه مما يقيد حريته في الفتوى وُيعرضه للامتحان. فلما انكسر عاد إلى الفتوى لا شماتة ولا انشراحًا. ولكنه أمن على نشر دين الله حسب علمه وما يصل إليه نظره. إذ لا صلة بين الشماتة والعود إلى التدريس. فالامتناع من التدريس كان لسبب: هو السطوة والظلم تبعًا للحكم المطلق. فلما انكسر تميم ورأى بعينيه عاقبة ما جنت يداه خفت حدته، وأخزي، وعرف نفسه أنه:
أسد علي وفي الحروب نعامة
فالحجوي قد تعجل في التسوية بين العالم المضطهد المغلوب على أمره غير الآمن من دسائس العيون المرصودة حوله. وبين الحاكم الطاغي الظالم. ألا وإن النبلاء يحل بالشعوب إذا ذهب العدل وأبغض الناس حكامهم. وأبغضهم الحكام. فتنتهي الدولة كلها إلى الزوال. سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا في هذا الكون.

أثر هذه القصة
سقت هذه القصة لأنها أعطتني ضوءًا كشف لي عن الأمر الذي قد يكون هو السبب في أن المازري على علو كعبه في العلم، وتفرده بالإمامة بعد شيوخه، لم يتول الخطط والمناصب والعمل مع الحكام. فما شاهده من فتنة شيخه عبد الحميد الذي كان يعرف قدره ومكانته في العلم وطهارة خلقه، وما كانت تجري عليه الأمور من أن أشد الناس خوفًا من السلطان الجائر هم أقرب الناس إليه، ولذلك في نظري نجا الإِمام المازري بعلمه وبكرامته. وأمكنه أن يواصل مهمته التي نذر نفسه لها، وهي بث العلم. وتحقيق المسائل. وتكوين الطلاب. هذه المهام التي كثيرًا ما أشار إليها في كتابه هذا.
هل يمكن تعيين شيوخ المازري؟
ما سبق في هذا البحث يكشف بجلاء أن المازري في كتابه هذا ما كان
معنيًا بذكر الحوادث التي اضطرب بها عصره. كما أنه لا يعير كبير اهتمام لضبط
أسماء شيوخه الذين أخذ عنهم. كما أن عدد هؤلاء الذين وصله عن طريقهم

(1/65)


السند العلمي وأثروا في تكوينه، عددهم كثار. ولذا فإني أرى أن عرق جبين بعض من كتب عن المازري في فرض الفروض، والترجيح بينها، واستبعاد أن لا يكون المازري أخذ عن فلان أو عن فلان لأنه كان من أعلام العصر عند تلقيه للعلم، كل ذلك في نظري تعسف ورجم بالغيب وتحميل للظواهر ما لا تتحمل وكد للذهن فيما لا يفيد. لأن المهم ليس هو التلقي والأخذ ولكن المهم هو التأثر الحاصل من امتداد شخصية الملقى في المتلقي. وهذا ما نجده واضحًا في تأثره باللخمي في طريقته التأليفية في التبصرة من حصر الموضوع بالأسئلة ثم الإجابة عما أثاره واحدًا واحدًا، وهي طريقة مبتكرة في المنهج القيرواني تختلف عن طريقة السؤال والجواب التي جرت عليها المدونة، تأثر بها المازري لما وجد فيها من شحذ للذهن الذي هو المنهج العلمي الصحيح، الذي يقوم على أن كل حل هو مفض إلى إشكالات جديدة وراءه، تدعو الناظر إلى التأمل ومواصلة البحث.
كما أن إثارة الصعوبة على شكل سؤال يبعث في الذهن نشاطًا، يكون به أقدر على التغلب على الصعوبة، ثم على ترسخ الإجابة في الحافظة، وانفلاتها من الغفلة التي تلقي بظلالها فتحجب الذهن عن التفاعل معها.
كما أن شيخه عبد الحميد قد أثر فيه. في دقة النظر، وربط الفروع بالأصول. وإذا كنا لا نستطيع أن نجلي هذا التأثر بصفة تفصيلية. لأن آثار شيخه قد ذهبت فيما ذهبت من ثروة نتاج الفكر الإِسلامي، إلا أن الإشارات التي وردت في أثناء هذا الكتاب تدلنا إجمالًا على ذلك.

تلاميذ المازري.
انتصب المازري للتدريس صغيرًا: يقول في القراءة في الوتر: وقد كنت في سن الحداثة وعمري عشرون عامًا وقع في نفسي أن القراءة في الشفع لا يستحب تعيينها. إذا كانت عقب تهجد بالليل. وإنما الاستحباب يتوجه في حق من اقتصر على شفع الوتر. فأمرت من يصلي التراويح في رمضان أن يوتر عقيب فراغه من عدد الإشفاع ويأتي بجميع مقروءاته بالحزب الذي يقوم به فيه ويوتر

(1/66)


عقيبه. فتمالأ المشائخ المفتون حينئذ بالبلد على إنكار ذلك واجتمعوا بالقاضي وكان ممن يقرأ على، ويصرف الفتوى فيما يحكم به إليّ فسألوه أن يمنع من ذلك فأبى عليهم إلا أن يجتمعوا لمناظرتي على المسألة فأبوا فأبى (1) ...
يفيد هذا النص أنه تصدر للتدريس صغيرًا. وأنه قد ظهر نبوغه مع بواكير شبابه، إذ كان قاضي المهدية "عاصمة الصنهاجيين" أحد تلاميذه، ويعتمده في الفتوى للقضايا التي تعرض عليه. وبناء على هذا يكون عمره يوم ابتدأ التدريس دون العشرين سنة. وإذا كان قد عمّر ثلاثًا وثمانين سنة. كان مقتضى ذلك أنه جلس الطلبة حوله للأخذ عنه ما يقارب خمسًا وستين سنة. وفي هذه المدة الطويلة التي محض فيها نفسه للتدريس ونشر العلم يكون طلبته كثيرين قطعًا منهم النابغ النابه، ومنهم المتوسط والخامل. وقد أجود الشيخ محمَّد الشاذلي النيفر نفسه لشبع من ذكر من تلاميذه في كتب التراجم ممن أخذ عنه وممن كاتبه فأجازه وممن يحتمل أن يكون قد أخذ عنه وحتى من لم يلقه وإنما أجيز من تلاميذه فبلغ بهم أربعة وثلاثين. على أن الإجازة صلة اعتبارية أكثر منها حقيقية. وأن تلاميذه المذكورين الذين لم يبلغوا العشرين في هذه المدة الطويلة لم يذكر عن واحد منهم أنه انطبعت ملكته بالطريقة المازرية. على معنى أن السند العلمي الذي اتصل بالمازري من مشيخة القيروان عن طريق شيخيه اللخمي والصائغ قد وقف عنده. وأنه لم يخلف من يقوم على ذلك المنهج ومن يواصل امتداده فتوقف دفقه. وسنزيد ذلك بيانًا عند تعقيبنا على كلام المقري. وسبب ذلك يعود إلى ما حلل به ابن خلدون في مقدمته في الفصل الثاني من أن التعليم للعلم من جملة الصنائع. يقول: فاعلم أن سند التعليم لهذا العهد كاد ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدول وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها. كما مر وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس. واستبحر عمرانهما. وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة. ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما. وما كان فيهما من الحضارة، فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلًا كان في دولة الموحدين
__________
(1) شرح التلقين ج 2 ص 785.

(1/67)


بمراكش مستفادًا منها، ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراض بمبدئها. فلم تتصل فيها أحوال الحضارة إلا في الأقل. وبعوإنقراض الدولة الموحدية ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لهذا أوساط المائة السابعة، فأدرك تلاميذ الإِمام ابن الخطيب، فأخذ عنهم، ولقن تعليمهم وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن (1).
فنص ابن خلدون واضح في انقطاع السند العلمي من تونس في عهد الدولة الموحدية. وإذا كان المازري توفي سنة 536. وأن الدولة الموحدية طهرت المهدية سنة 555 من احتلال النرمان لها سية 543. وما سبق الزحف النصراني من تفكك الدولة وذهاب رسوم الوحدة، وتغلب قوة البداوة على الحضارة. وما صحب الاحتلال من خوف وما عقبه من تغلب البداوة على الدولة الموحدية أيضًا، فإنه يظهر لنا أن انقطاع السند قد جرى على سنة ارتباط الأسباب بالمسببات في الاجتماع كما هي في غيره.
تلاميذه المذكورون في مقدمة المعلم حسب الترتيب الوارد فيها (2):
أبو حفص عمر بن عبد المجيد الميانشي المتوفى سنة (583).
أبو محمَّد عبد السلام البرجيني (هل هو المتوفى سنة 622 فيكون منتسبًا للمازري بالواسطة أو هو غيره)؟.
أبو يحيى زكرياء بن الحداد المهدوي. يقول الشيخ مخلوف لم أقف على وفاته.
أبو يحيى أبو بكر بن الجواد المهدوي.
أبو الطاهر بن الدمنة التونسي.
أبو الحسن السوسي.
أبو القاسم بن مجكان.
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 430/ 431.
(2) مقدمة المعلم بفوائد مسلم من ص 26 إلى ص 51.

(1/68)


أبو الحسن بن الأوجقي.
أبو عبد الله محمَّد بن تومرت الهرغي.
أبو الحسن صالح بن أبي صالح بن خلف بن عامر الأنصاري الأوسي تـ (586).
أبو عبد الرحمان مساعد بن أحمد بن مساعد المعروف بابن زُعُوقة.
أبو عبد الله محمَّد بن يوسف بن سعادة تـ (566).
أبو عبد الله محمَّد بن عيسى الشلبي تـ (551).
أبو الحسن محمَّد بن خلف بن صاعد الغساني تـ (547).
أبو الحسن علي بن محمَّد بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن الضحاك الفزاري.
أبو العباس أحمد بن طاهر الأنصاري تـ (532).
أبو الحسن محمَّد بن أبي عمرو عبد الرحمان العبدي ابن عظيمة (543)،
عبيد لله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود ابن عيشون المعافري (573: 574).
أبو إسحاق إبرّاهيم بن أحمد بن عبد الرحمان الأنصاري الغرناطي.
أبو بكر محمَّد بن أحمد بن عبد الملك بن موسى بن أبي حمزة تـ (599).
أبو القاسم محمَّد بن محمَّد بن أحمد بن لب يعرف بابن الحاج تـ (575).
أبو جعفر أحمد بن محمَّد بن إبراهيم ... بن خلصة الحميري الوزعي.
أبو بكر محمَّد بن خير بن عمر بن خليفة اللمتوني الأموي تـ (575).
محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن رشد الحفيد تـ (595).
أبو عبد الله محمَّد بن صاف بن خلف بن سعيد بن مسعود الأنصاري تـ (552).
أبو الحسن صالح بن عبد الملك الأوسي تـ (586).
أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله الأنصاري الأوسي البرنامج تـ (639) أجازه تلاميذه.

(1/69)


أبو محمد عبيد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن ذي النون يعرف بابن عبيد الله تـ (595).
أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمران اليحصبي السبتي تـ (544).
أبو بكر عبد الرحمان بن محمد بن أبي العيش تـ (570).
أبو محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم ابن الفرس ت (599).
أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأنصاري الخزرجي ابن الفرس (576).
أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن أدهم الوهراني الحمزي ابن قرقول تـ (569).
أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن المخزومي الشاهد ابن كوزان لقيه في المهدية.

مؤلفات المازري.
تنقسم مؤلفات المازري إلى قسمين:
أولاً: المؤلفات المستقلة. ونعني بها التآليف التي كان هو المصمم فيها لمنهج التأليف. تصوراً وترتيباً. ثم إخراجاً وطريقة.
ثانياً: المؤلفات المرتبطة بمن سبقه. التي يكون دور المازري الشرح والإضافة والتكميل. والتقييد. والاستدلال والتنظير.
ما ذكر من تآليفه:
أولاً في السنة النبوية المطهرة:
كان عصر المازري قد تم فيه جمع السنة النبوية الشريفة. ودونت فلم يصرف عنايته إلى التأليف في الجمع أو الترتيب. ولم ينقل أنه ألف كتاباً في ذلك رغم أن بعضاً ممن جاء بعده أضافوا إضافات لطريقة تدوين السنة النبوية.
ولكنه صرف جهده لشرح السنة وتحقيق المعاني واستنباط الأحكام،

(1/70)


واختلاف الفقهاء، وسبب الخلاف، ودفع الشبه والتوجيه إلى ما ينبغي أن تحمل عليه الظواهر. مبرزًا انتظام صحيح السنة في سلك لا نشاز فيه ولا اختلاف ولا تضارب ولا تناقض مع الأصول القطعية في الإِسلام. كما اعتنى ببعض الأسانيد ذاكرًا الطرق المروية في سند الحديث وخواص الإسناد. ومن تآليفه:
أولًا: المعلم بفوائد صحيح مسلم (1). الذي أملاه على طلبته في شهر رمضان سنة 499 (2).
وإن النظر في المعلم يرجح صحة ما ذكر الشيخ مخلوف في ترجمة أبي مروان عبد الملك بن عيشون المعافري البلنسي أنه لقي في طريقه إلى الحج بالمهدية أبا عبد الله المازري. وحكى عنه أنه سمعه يقول وقد جرى ذكر كتابه المعلم بفوائد صحيح مسلم: أني لم أقصد تأليفه وإنما السبب فيه أنه قرئ علي صحيح مسلم في شهر رمضان فتكلمت على نقط منه. فلما وقع الفراغ من القراءة عرض علي الأصحاب ما أمليته عليهم. وإذ ذاك نظرت فيه وهذبته فهذا سبب جمعه (3). وذلك أن المعلم يعبر عن عمق نظر المازري وولوعه بأمرين بصفة خاصة. تحرير العقيدة بتأويل النصوص تأويلًا يبعد كل اختلاف بينها وبين القواطع الثابتة، وتحرير بعض الأحكام الفقهية. وفي كليهما هو لا يطنب ولا يجري على نفسه كما نجده في شرح التلقين بما يرجح أن القصد كان ختم صحيح مسلم قراءة عليه في شهر رمضان.
ثانيًا: تعليق على أحاديث الحافظ أبي بكر محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن زكريا الشيباني الجوزقي النيسابوري تـ 388 (4). وهو كتاب غير معروف الآن.
وللحافظ الجوزقي في خدمة السنة المطهرة كتب. منها: الأربعون. الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم. الصحيح المخرج على مسند مسلم. ولم ينص
__________
(1) حققه الشيخ محمَّد الشاذلي النيفر وكتب مقدمته.
(2) نفس المصدر ج 1 ص 1281.
(3) شجرة النور الزكية ج 1 ص 152.
(4) الرسالة المستطرفة ص 27.

(1/71)


المقري على أي الكتب الثلاثة كان تعليقه. واستبعد الشيخ محمَّد الشاذلي النيفر أن يكون الصحيح المخرج على مسند مسلم. لأنه لو كان هو لكان تكرارًا لخدمته لمسلم (1). والذي يغلب على الظن أن الكتاب الذي علق عليه هو الجمع بين الصحيحين لأنه بذلك يكون المازري قد أملى على صحيح مسلم وأملى على صحيح البخاري وأملى على الجمع بين الصحيحين للجوزقي.
وعلى كل فإنه عندما يظهر ما يغلب هذا الفرض أو غيره يبدو وجه الحق.
ثالثًا: إملاؤه على البخاري. وهذا الكتاب لم يذكره أحد من الذين عنوا بالترجمة للمازري. مع أنه قد أحال عليه عندما فصل القول في تقدير طول القراءة. واختلاف الفقهاء في ذلك واختلاف الآثار وأنهى تفصيله بقوله: وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث أخر تقتضي التخفيف. وقد أوعبنا الكلام على جميعها وذكرنا صفة البناء فيها. وما تؤولت عليه فيما أمليناه على البخاري. فمن أحب الوقوف عليه فليلتمسه هناك (2).
وإذا كانت طريقته في إملائه على البخاري ما ذكره هنا فإن هذا الإملاء يكون قد توسع فيه أكثر مما علق به على صحيح مسلم. لقوله وقد أوعبنا الكلام على جميعها وذكرنا صفة البناء فيها. وما تؤولت عليه. وهذه غير طريقته في المعلم. وقد تظهر نسخة من هذا الإملاء الذي لم أجد له ذكرًا فيما اطلعت عليه من شروح صحيح الإِمام البخاري.

ثانيًا: في علم العقيدة.
1 - نظم الفرائد في علم العقائد: وهذا الكتاب الذي أورد ابن فرحون في تعريف الإِمام ما يلي: ذكر الشيخ الحافظ النحوي أبو العباس أحمد بن يوسف الفهري اللبلي في مشيخة شيخه التجيبي أن من شيوخه أبا عبد الله المازري. وأن من تآليفه عقيدته التي سماها "نظم الفرائد في علم العقائد". لم يظهر لحد الآن أثر لهذا التأليف. ويترجح أن الإِمام ألف كتابًا في العقيدة. وذلك لأن توجهه
__________
(1) المعلم بفوائد مسلم ج 1ص 61.
(2) شرح التلقين ج 2 ص 577/ 578.

(1/72)


إلى قضايا العقيدة في المعلم وتخصيصها بالعناية يدل على اهتمامه بهذا الميدان وحرصه على بيان الحق فيه.
ولأن آثار التشيع والاعتزال لم تقتلع كل جذورها بعد من إفريقية، فالظن أن الإِمام يسهم في تعقيم تلك الآثار والقضاء عليها ببيان الحق.
ولأن اتصاله بعبد الملك الجويني وبالمدرسة المالكية في المشرق من القاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الوهاب، تجعله تلك الصلة متمكنًا من الطرائق الكلامية الأشعرية. وكلما امتلأ العالم من فن من الفنون فاض على لسانه وقلمه.
2 - كتاب النكت القطعية في الرد على الحشوية والذين يقولون بقدم الأصوات والحروف. وحسبما يفهم من عنوانه. أن المازري نصر فيه مذهب الإِمام الأشجري ورد على كل الفرق من المجسمة من الشيعة وغيرهم الذين ذهبوا إلى أن القرآن المسموع وكذلك المكتوب قديم (1).
3 - كتاب قطع لسان النابح في المترجم بالواضح.
أشار إلى هذا الكتاب في المعلم. عند بيان تواتر القرآن. وأن الذين حفظوه لا يحصون عدًا. وأن الذين وصلوا إليه بأسمائهم خمسة عشر صاحبًا. ذكرهم في كتابه هذا. وعلق عليه بأنه كتاب نقضنا فيه كلام رجل وصف نفسه بأنه كان من علماء المسلمين ثم ارتد. وأخذ يلفق قوادح في الإِسلام. فنقضنا أقواله في هذا الكتاب وأشبعنا القول في هذه المسألة وبسطناه في أوراق (2).
كما أشار إليه أيضًا في شرحه هذا. عند بيانه لحكم قراءة القرآن في الصلاة بقراءة ابن مسعود. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - أنزل القرآن على سبعة أحرف. فقال وقد أشبعنا الكلام على هذه المسألة. وتأويل قوله عليه السلام: أنزل القرآن على سبعة أحرف. وذكرنا تأويل ما حكي عن ابن مسعود وابن شهاب. في كتابنا
__________
(1) الملل والنحل ج 1ص 145/ 158.
(2) المعلم ج 3 ص 151.

(1/73)


المترجم =بقطع لسان النابح في المترجم بالواضح= وهو كتاب نقضنا فيه كتابًا ألفه بعض حذاق نصارى المشرق. قصد فيه إلى جمع المطاعن التي تشبث بها الملحدون، وقذفها الطاعنون على ديننا، وأضافوها إلى العقل والنقل فاكتفينا بذكرها هناك عن ذكرها ها هنا، لاشتغال أهل الأصول بالخوض فيها دون أهل الفروع (1). فكتبه في العقائد الثلاثة اثنان منها قد استقل فيهما بالتأليف. والثالث ارتبط بالرد على النصراني القادح. فحسبما جاء في كلامه يُتابع شبهاته ويزيل ما يدلس به على الناظرين في كلامه. ويكشف الحق في القضية المنارة. ويشير المازري. إلى أن هذا الطاعن قد جمع متتبعًا ما طعن به الطاعنون ولفقده.

ثالثًا: كتبه في علم أصول الفقه.
يتبين لك بعد قراءة شرح التلقين أنك تدرك الفقه إدراكًا جديدًا وأنك مع عالم لا يلقي إليك بالأحكام الجزئية مكررة بدقة ومسندة إلى أصحابها ومرتبطة بأدلتها فقط. ولكنه يأخذ بيدك إلى رتبة أسمى وذلك بربط الفروع بالأصول. وتكون القواعد الأصولية هادية لك في انتظام الفقه الإِسلامي. وأن ما حدث من اختلاف بين الفقهاء لا يعود إلى نظرة جزئية للمسألة المعروضة. وإنما هو خلاف مبني على تأصيل القاعدة في الاعتبار للأدلة الإجمالية وطرق دلالتها.
فمن تآليفه في الأصول:
1 - إيضاح المحصول من برهان الأصول: ذكر عياض أنه شرح البرهان ولم يذكر اسم الكتاب. وذكر ابن فرحون أنه شرح البرهان لأبي المعالي وسماه إيضاح المحصول من برهان الأصول (2). وعبد الملك بين عبد الله بن يوسف بن محمَّد الجويني أبو المعالي إمام الحرمين أحد الكواكب اللامعة في مجرة علماء الإِسلام، عمق نظر وسعة مدارك وذكاءًا متوقدًا، وتقوى قام بالتدريس فتحلق حوله العلماء. وقام بالوعظ فأحيا القلوب وربطها بالخير والصلاح. وألف في الكلام والأصول والفقه، فكانت كتبه مرجع العلماء على مدى الأعصار.
__________
(1) شرح التلقين ج 2 ص 680.
(2) الغنية ص 133 والديباج ص 280.

(1/74)


ومما يعرف من كتبه في أصول الفقه الورقات والبرهان:
البرهان من المراجع التي يعتمدها الأصوليون في تحرير قضايا هذا العلم. ومع هذا فالكتاب قد اودعه صاحبه من الآراء والمناقشات والاختيارات ما يجاوز حجمه فاستغلق فهمه، وكان الأخذ منه والاستفادة منه على مقدار حظ الناظر من العلم والفطنة. يصفه ابن السبكي بقوله: وأنا أسميه لغز هذه الأمة لما فيه من مصاعب الأمور. وإنه لا يخلي مسألة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار يخترعه لنفسه وتحقيقات يستبد بها (1). فأبو المعالي في هذا العلم يعتبر مجتهدًا لا مقلدًا.
أراد الإِمام المازري أن يقرب هذا الكتاب للناظرين فيه وأن يكشف مغالقه ويوضح إشكالاته. ويصحح ما ينبغي تصحيحه من اختياراته. فسمى تاليفه بإيضاح المحصول.
وهذا الشرح الذي نجزم بان الإِمام المازري قد حقق فيه تحقيقات نفيسة وأضاف إليه إضافات هامة إكمالاً أو تصحيحاً، قد طواه الزمن فيما طوى من كنوز المؤلفات الإِسلامية. ندعو الله أن ييسر اكتشافه وإخراجه للناس. ويتفق المقري وابن السبكي على أن المازري لم يكمله. وفي اهتمام الإِمام المازري بشرح هذا الكتاب ما يؤكد تعلقه وتضلعه من هذا العلم. ثم هو قطعًا لما كان
شارحًا فقد ارتبط بتأليف أبي المعالي.
والمازري كما تبين لنا، مقامه في علم الأصول مقام التحقيق ومكانته فيه تدعوه إلى إبرازه حسبما انتظم في عقله وما انطبعت به مداركه. ولذلك ذكر أكثر من مرة في شرحه للتلقين أنه سيُملي في أصول الفقه ما يجلي المسألة التي تعرض لها. ولكن لم نجد في كتب التراجم ما يفيد أنه ألف هذا التأليف المستقل فلعله قد اخترمته المنية قبل أن يتمكن من ذلك لاشتغاله بما كان بصدد إتمامه من التآليف.
__________
(1) الطبقات ج 3 ص 264.

(1/75)


رابعًا: كتبه في الحكمة.
ذكر المقري أن له تعليقًا على شيء من رسائل إخوان الصفا، سأله السلطان تميم عنه (1).
لقد كان لهذه الرسائل تأثير في الدولة الإِسلامية في العصر الذي ألفت فيه القرن الرابع الهجري وفي القرون التالية. إذ أن مؤلفيها قد أخفوا أسماءهم وخلطوا في كلامهم بين الدين والفلسفة والطبيعيات. والحسابيات. وقام مذهبهم على التأويل والرمز. وعلى الافتراض. وهم يهدفون فيما يهدفون إليه إلى تكوين جماعات سرية يعملون، بواسطة تربيتهم على طاعة كل طبقة لمن هي فوقها طاعة كاملة، على تقويض السلطة العباسية في المشرق والوصول إلى الحكم.
وهم بما سطروه وما يدعون إليه قد سلكوا منهجًا يناقض منهج علماء السنة. إذ يؤولون النصوص تأويلات بعيدة. ويدعون أن العلم الكامل تصل إليه الطبقة العليا بعد سن الخمسين. فتشهد حقائق الأشياء على ما هي عليه. فإذا وصل السالك إلى هذا المقِام يكون فوق الطبيعة والشريعة والناموس.
ولذا فهم لنزعتهم السياسية يكونون خطرًا على أنظمة الحكم. ولانحرافهم في تأويل النصوص ولَيّ عنقها بلى ما اقتبسوه من فلسفة القدماء كانوا هدف حملة علماء المسلمين المستبصرين.
ويبدو أن الرسائل وصلت بالطرق السرية التي كان يسير عليها أتباعهم. وصلت إلى المهدية. وكان الطود الشامخ الذي يدفع المكائد عن الإِسلام هو الإِمام المازري لإمامته في علوم الشريعة وتضلعه بالعلوم الحكمية. ولذا انتدبه تميم بن المعز ليكشف زيف هذه الرسائل وليبصر الناس بانحرافاتهم ويكشف عن خطر ضلالاتهم. فقام بهذا العمل ولكن لم يصلنا رده الذي نصر به الدين وقمع به دسائسهم السياسية. ومخارقهم.
__________
(1) أزهار الرياض ج 3 ص 166.

(1/76)


آثاره الفقهية:
رزق الإِمام المازري من سعة المدارك والنباهة والذكاء والجد في تحصيل العلم ونشره ما استحق به أن يتفق عارفو فضله على تلقيبه بالإمام. وكما سبق هو علَم يمثل الثقافة الإِسلامية بجمعه بيق علوم متنوعة، ساعدته مواهبه وجده أن يكون مرجعًا فيها. ولكن إمامته تظهر بصفة أتم وأجلى في ميدان الفقه. ففي هذا العلم تعددت تآليفه ومحض معظم نشاطه. فمما ذكر له من الآثار الفقهية.
1 - كشف الغطاء عن لمس الخطأ. ذكره المقري. وكذلك ابن ناجي مع بيان سبب تاليفه وذلك في ترجمة أبي محمَّد عبد الله التبان أنه وقعت يده على ساق ابنته وهو يظنها زوجته ففارق الزوجة أم البنت ورأى أنها حرمت عليه بهذا القدر. ثم أخذ يناقش القول بالتحريم مبينًا من يقول بعدم التحريم من شيوخ القيروان وعد منهم أبا القاسم بن محرز الذي ألف فيه تأليفًا. ثم قال واختاره المازري أيضًا وألف فيه تأليفًا واعتمد على تأليف بن محرز وسماه كشف الغطاء عن لمس الخطأ (1).
2 - فتاوى المازري:
وهذه الفتاوى لم يجمعها الإِمام في كتاب. ولكن وردت موزعة في دواوين الفقه للذين جاؤوا من بعده وخاصة البرزلي والونشريسي قد اعتنى بها د. الطاهر المعموري وجمع ما وصلته يده منها. والإمام الذي انتصب للتدريس والإفتاء كما بيناه خمسًا وستين سنة تقريبًا نرجح أن فتاواه كانت متنوعة حفظ بعضها وذهب الكثير منها. وتتميز هذه الفتاوى بالتزام مذهب مالك. والتوجيه بأسرار الشريعة. والشجاعة في الاستقلال بما حصل عنده بعد النظر. وهي تعبر عن المشاكل الاجتماعية والأوضاع السياسية في عصره.
وهذان الأثران هما من الآثار المستقلة.
__________
(1) معالم الإيمان ج 3 ص 95. والمثبت في النص قال ابن المواز في كتاب الخيار. وفي أسفل الصفحة وفي "ق" قال المازري وهو الصواب لأن ابن المواز توفي قبل السيوري بقرنين.

(1/77)


3 - كتاب التعليقة على المدونة:
هكذا ورد الاسم في أزهار الرياض التعليقة على المدونة. وفي معالم الإيمان ورد بلفظ "تعليقه على المدونة" بدون تاء لقول المازري في تعليقه على المدونة .. وفي نهاية الصفحة قال المازري في كتاب الخيار من تعليقته وحلف السيوري بالمشي إلى مكة لا يفتي بقول مالك في المسائل الثلاث (1).
وقد عني الفقهاء بالمدونة عناية كبرى وخاصة في القيروان فلذلك كتب كثير منهم تعليقات على المدونة تساعد الناظر فيها على حسن الجمع بين مسائل أبوابها وتحرير المقصد من الكلام، وهل يؤخذ النصر الخاص على ظاهره أو يؤول.
ولا نعلم مكان وجود ما علق به الإِمام المازري على المدونة.
4 - كتاب الرد على الأحياء. المسمى بكتاب الكشف والإنباء عن المترجم بالأحياء (2). وهذا الكتاب غير معروف مكان وجوده. وحسب الاسم الذي اختاره الإِمام. وحسب المفهوم الذي عبر به عنه المقري. فإن الكتاب يعتبر نقدًا للأحياء ورفضا أن يكون حسب الصورة التي برز عليها إحياء لعلوم الدين. ويرى فيه اسمًا فارغًا من مسماه. كما فعل في المترجم بالواضح.
الجوانب التي حملته على نقد الكتاب.
ونستشف من كلام السيد محمَّد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى، يقول في فصل ذكر طعن أبي عبد الله المازري على كتاب الأحياء.
أما المازري فقال مجيبًا لمن سأله عن حاله وحال كتاب الأحياء ما نصه: هذا الرجل يعني الغزالي، وإن لم أكن قرأت كتابه، فقد رأيت تلامذته وأصحابه، فكل منهم يحكي لي نوعًا من حاله وطريقته، فأتلوح منها من سيرته ومذهبه. فأقام لي مقام العيان. فأنا أقتصر على ذكر حال الرجل. وحال كتابه
__________
(1) معالم الإيمان ج 3 ص 183
(2) أزهار الرياض ج 3 ص 166.

(1/78)


وذكر جمل من مذاهب الموحدين والفلاسفة والمتصوفين، وأصحاب الإشارات. فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف لا يعدوها. ثم أتبع ذلك بذكر حمل أهل مذهب على أهل مذهب آخر. ثم أكشف عن طرق الغرور، فأكشف عماد فن من خيال الباطل ليحذر من الوقوع في حبائل صائده. وقال هو بالفقه أعرف منه بأصوله. وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين فإنه صنف فيه أيضًا وليس بالمستبحر فيها (1). ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها (1) وذلك أنه قرأ علم الفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول فكسبته قراءته الفلسفة جراءة على المعاني وتسهيلًا للهجوم على الحقائق ... ثم ذكر تأثره بإخوان الصفا ثم بابن سينا ... ثم ذكر تسرعه في نسبة الأقوال إلى أئمة المذاهب دون تثبت ... ثم ذكر توهين الأحاديث التي اعتمدها ... ثم استحسانه أشياء لا دليل عليها كترتيب قص الأظافر. ثم شنع عليه في ادعائه الإجماع على أن من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن الله قديم، مات مسلمًا إجماعًا (2).
هذا النص الذي أثبته الزبيدي يبدو لي أنه نص ناقص. إذ لا يعقل أن يكون المازري يقدم على نقد كتاب لم يقرأه. وإنما سمع شيئًا عن مؤلفه ممن خالطه. وقد يكون النقص أنه بعد أن تقصى أخباره وعرف طريقته ومنهجه ممن صحبه، اطلع على الكتاب فرأى فيه ما دفعه إلى الرد عليه. وتفيدنا هذه المقدمة أن النواحي التي قصد إليها في الكشف عن الأحياء خمسة.
أ- مرجعية التأليف: رأى فيها خليطًا من مذاهب الموحدين "يعني من المتصوفة والفلاسفة القائلين بالوحدة" ومن الفلاسفة. ومن المتصوفة. وأصحاب الإشارات الذين ينطلقون من الظواهر إلى ما وراءها فما لا يقوم عليه دليل موضوعي. وإنما هي تصورات ذاتية.
ب- مرجعية الثقافة: رأى أن تمكن الغزالي من الفقه أقوى من تمكنه من
__________
(1) هكذا.
(2) إتحاف السادة المتقين ج 1ص 28.

(1/79)


أصوله وأنه سبق له الاختلاط بالفلسفة فأثرت في تكونه الذهني ويسرت له الهجوم على الحقائق وشجعته على اقتحام الحمى.
جـ- مرجعيته الأثرية: رأى أن الغزالي لا يتثبت في الأحاديث التي يستند إليها ويسوي في الاستدلال بين الأحاديث الواهية والأحاديث الصحيحة.
د- مرجعيته في وسائل المعرفة: رأى أن الغزالي يعتمد الحاصل الإلهامي وما يشرق في النفس من معاني عندما يحصل للروح من الصفاء بالمجاهدة والعبادة فيكون ما يحصل في النفس متصفًا باليقين والثبوت.
هذه النواحي الأصلية التي حركت المازري لنقد كتاب الأحياء ولتنبيه من يرغب في مطعالته إلى هذه الجوانب.
ثم إن الزبيدي نقل عن ابن السبكي ما رد به على الإِمام المازري وهي ردود واهية لبعدها عن الموضوعية. اتهم المازري بأنه إنما حمل على الغزالي لأنه انتقد مالكًا وخالف الأشعري في بعض آرائه. وهذا ما لا يقبله المازري (1). وستجد في كلامي عن منهجه في التلقين ما يدفع هذا الظن الخاطىء. وأن الإِمام المازري في كتابه ناقش أئمة المذاهب ورجح غير مذهب مالك إذا ما عاضده الدليل. وأنه انتقد حامل لواء الأشعرية القاضي أبا بكر الباقلاني. وهذه إشارة عارضة لموضوع خاض فيه فطاحل العلماء وشغل الباحثين وهم بين طاعن علي الكتاب ومنوه به. وناقد يزن ويوازن. ويرد ويقبل. ثم انتهى الأمر إلى القبول بعد تقصي مروياته وبيان قيمة سندها.
5 - شرح التلقين: هذا الكتاب الذي يقول فيه عياض وابن فرحون وشرح كتاب التلقين وليس للمالكية كتاب مثله.
وسماه الأبي =الكتاب الكبير= قلت قال المازري في كتابه الكبير رأى بعض المتأخرين (2) الخ. ووقعت في يدي نسخة كتب الناسخ في الورقة الأولى:
__________
(1) أطال الزبيدي في الدفاع عن الأحياء. إتحاف السادة المتقين ص 29/ 40.
(2) إكمال الإكمال ج 2 ص 146.

(1/80)


المعين على التلقين. وقد يكون حسن حسني عبد الوهاب (1) قد اعتمد هذه النسخة. ولكني لم أجد فيمن كتب عنه تسمية الكتاب. إلا بشرح التلقين.

منهجه في الشرح:
أولًا: يقسم نص التلقين إلى وحدات. تطول أو تقصر. ثم يتبع كل وحدة بمجموعة من الأسئلة من سؤالين إلى عشرين سؤالًا. تتناول في حالات قليلة إبراز الصناعة التأليفية عند القاضي عبد الوهاب. ويهتم في معظم الأحوال بالتوسع فيما يفرعه عن نص المتن من مسائل تدور كلها حول ذلك النص. فمثلًا يعلق على قول القاضي "وأما أركان الصلاة التي هي منها فتسعة. وهي التحريم". فيقول يتعلق بهذا سبعة عشر سؤالًا.

ثانيًا: قد يكون السؤال الذي يثيره كلام القاضي قد سبق له أن أثاره وفصل جوابه. فلا يمنعه ذلك من إعادة إثارته كسؤال يقتضيه التعمق في إدراك أبعاد النص ثم يذكر بالإجابة السابقة ويحيل عليها.

ثالثًا: بعد ضبط الأسئلة يتتبعها حسبما رتبها بالإجابة عنها. واحدًا واحدًا. وهو في ذلك قد يتوسع في الإجابة قاصدًا تمرين الناظر في كتابه على التفقه كما صرح به لما فصل الكلام على من ذكر صلاة منسية ولا يدري ما هي؟ فأخذ في ضبط الفروض التقديرية متبسطًا في حكم كل حالة على انفراد. من ص 753 إلى ص 756، ثم أنهى ذلك بقوله: "وإنما ذكرنا هذه المسائل ليكد الطالب فيها فهمه، فيكتسب من كده بفهمه فيها انتباهأوتيقظًا فيما سواها من المعاني الفقهية وغيرها مما يطالعه".
وقد يتوسع في الشرح لضبط الأحكام التي يشير إليها النص إشارة. فمثلًا عند قول القاضي: "يقدم في الإمامة كل من كان أفضل. والفقيه أولى من القارئ. ولا تجوز إمامة الفاسق ولا المرأة ولا الصبي إلا في نافلة فتجوز دون المرأة. ولا العبد في الجمعة".
__________
(1) ح ح عبد الوهاب ص 62.

(1/81)


يشرح هذا النص في 40 صفحة من ص 654 إلى ص 693.

رابعًا: هو في تبيينه لفقه المسألة لا يقتصر على المذهب المالكي بل يحرر أولًا وجهة نظر المالكية مما روي عن مالك وعن أئمة المذهب. ويتبع ذلك بتحرير فقهها عند المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية غالبًا. وتارة عند الحنابلة والحسن البصري وأبي ثور. والثوري. وغيرهم.
وفي بعض المواطن يذكر اختلاف قول أبي حنيفة عن أبي يوسف أو عن محمَّد بن الحسن. كما يعني تارة بالمذهب الظاهري وهو في ذكر آراء المذاهب الأخرى. يتحرى ولا يقلد فيما ينقله ما يوجد في كتب مذهب عن المذاهب الأخرى. فمن أمثلة ذلك أنه نقل عن البغداديين من المالكية أن أبا حنيفة يقول بسقوط مواصلة الطلب عن فاقد الماء إذا لم يجد الماء في الصلاة الأولى وصلى بتيمم. فيعقب بقوله: والذي وقفت عليه في كتب أصحابه أنه إنما يسقط الطلب في الأسفار خاصة لكونها مختصة بعدم المياه غالبًا بخلاف الحواضر الموجود الماء فيها غاليًا (1).

خامسًا: هو لا يكتفي بتفصيل الأقوال ونسبتها إلى أصحابها بل يجتهد في ربط القول بدليله. ويبسط منزع كل صاحب مذهب من الدليل ثم يتولى ترجيح الرأي الذي يطمئن إليه. ولو كان مخالفًا للمذهب المالكي. فمن أمثلة ذلك أنه ذكر رأي مالك والشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني في أن إزالة النجاسة لا تكون إلا بالماء الطاهر الطهور. ثم ذكر مذهب أبي حنيفة أنها تكون بغيره من المائعات المزيلة للعين والأثر. ثم أخذ يوجه رأي كل مذهب موردًا أدلته.
وانتهى إلى تنظير ذلك بإخراج القيم بدل العين في الزكاة، ذلك أن القضد من الزكاة هو إزالة خلة الفقراء، وقد عيّن الشارع لمن وجبت عليه الزكاة ما يخرجه من شاة أو حقة أو ابن لبون أو تبيع الخ. ثم قال فمن راعى المعنى قال بجواز إخراج القيمة لأنها تحقق قصد الشارع. ومن راعى لفظ النص قصر المخرج على ما جاء به النص. وكذلك إزالة النجاسة. فمن راعى لفظ النص قصر
__________
(1) "شرح التلقين 275.

(1/82)


التطهير على الماء. ومن راعى قصد الشارع من إزالة القذارة وهي تتحقق بالخل وماء الورد اعتبر ذلك مطهرًا. ومما احتج به المالكية والشافعية أن الله سبحانه قصر التطهير على الماء. فقال تعالى: {مَاءً طَهُورًا} {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}. وقال - صلى الله عليه وسلم - في الدم: ثم اغسليه بالماء. فخص الماء بالذكر فوجب القصر عليه. قال الإِمام وهذا فيه نظر. لأنه لا يمتنع أن يكون القصد أن الماء له فضيلة التطهير، وكون غيره له هذه الفضيلة لا يسلب فضيلته. وقد يمدح بعض الأشخاص بما يوجد في غيره. فيقال فلان عالم وصالح. وإن كان غيره يشركه في ذلك وخص الماء لأنه أعم في الطهارة ليس وجوده (1).
وبهذا تكون طريقة المازري تختلف عن طريقة المدرسة القيروانية التي أشار إليها المقري. في صناعة التأليف في المغرب. قال: ولقد وقفت على بعض التعاليق لأحد المتأخرين على كلام في صناعة التأليف "قد كان للقدماء رضي الله عنهم في تدريس المدونة اصطلاحان: اصطلاح عراقي واصطلاح قروي. فاهل العراق جعلوا في مصطلحهم مسائل المدونة كالأساس. وبنوا عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس. ولم يعرجوا على الكتاب بتصحيح الروايات ومناقشة الألفاظ. ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل وتحرير الدلائل على رسم الجدليين وأهل النظر من الأصوليين.
وأما الاصطلاح القروي، فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات، ولجيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما كان في الكلام من اضطراب الجواب، واختلاث المقالات، مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار" وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على ما وقع في السماع (2). إن عناية المدرسة القيروانية بتتبع أقوال المذاهب الأخرى، والنظر في أدلتها والموازنة بين الأدلة، ضعيفة جدًا إذا ما قيست بالمدرسة العراقية. وذلك لاختلاف البيئة العلمية اختلاف أبي نًا. فالعراق قد
__________
(1) شرح التلقين ص 462.
(2) أزهار الرياض ج 3 ص22.

(1/83)


ترعرعت فيه المذاهب الفكرية والعقدية والفقهية المختلفة. فللمعتزلة سلطانهما الأدبي والسياسي ولأهل الحديث سلطانهم الأثري والشعبي وللخوارج والشيعة والسنة أشياعهم ونضالهم في دعوة الناس إلى مذاهبهم ونشرها على أوسع نطاق، ويلتقي في المناظرات في المساجد أو في بلاط الخلفاء أعلام كل مذهب مجادلين عما يعتقدون أنه الحق. كما أن للفقهاء مجالس المناظرة وحلقات الدروس التي لا يبرز فيها إلا من كان قادرًا على جعل الاحتكام إلى النظر يؤيد مقالته وينصر مذهبه. ولا يقبل فيها قول لا سند له. ولا رأي لا يقوم على دليل. فتمرنت العقول على المحاجة وعلى نقد ما عند الآخرين. والاستعداد للمطاعن التي يوردها الخصم. وحفلت تبعًا لذلك كتب الفقه وطريقة التدريس بهذا النوع من الربط بين الفقه وأدلته ومن الطعن في أدلة المخالفين وتوهين مذاهبهم.
وأما القيروان التي كانت منارة العلم في العدوة الغربية من العالم الإِسلامي. فلم تكن محتكة بالحضارات السابقة المتباينة، ولم يستطع أن يثبت فيها على النطاق الشعبي العام إلا المذهب المالكي بقيام أساطين المذهب على غرسه وتعهده ونموه. من علي ابن زياد والبهلول بن راشد وسحنون إلى الشيخ ابن أبي زيد وتلاميذه. وإن حفظت أسماء لبعض علماء الحنفية إلا أنه لم تحفظ مناظرات بينهم وبين المالكية. وأما الشيعة فقد ارتبطت بالسلطة الحاكمة فعفا أثرها بانتهاء القوة الحاكمة. ولذا كان المعول عندهم على المدونة دراسة وتحقيقأومقابلة بين أبوابها والإجابات الواردة في الموضوع الواحد أو المتقارب. وكثرت شروحها والتعاليق عليها. ومختصراتها.
فالمازري يظهر في العدوة الغربية كمتفرد عن طريقة المدرسة القيروانية وخاصة في شرحه على التلقين فهو معجب بالطريقة العراقية ترسم خطاها دون أن يهجر الطريقة القيروانية. وهو بجمعه هذا يكون مدرسة خاصة في كتابة الفقه في المذهب المالكي. وهو ما يشير إليه في نظري قول القاضي عياض: وليس للمالكية كتاب مثله (1). فهو من ناحية يتتبع المدونة. وعندما وجد القاضي
__________
(1) الغنية ص 133.

(1/84)


أهمل بيوع الآج الذي التلقين تهمم لذلك وبسط القول فيه ونبه على ذلك. وهو ينقل عن أمهات الكتب في المذهب ويقارن بينها كمدونة أشهب والواضحة. ومختصر المدونة. والعتبية وغيرها. فكان بهذه الناحية فقيهًا قيروانيًا.
وهو من ناحية أخرى. يورد الأدلة من الكتاب والسنة. ومن القياس ويقوم بالتنظير بين المسائل المتشابهة في مقصد الشارع وإن اختلفت أبوابها. كما يعني أشد العناية بالقواعد الأصولية وإيصالها باستنباط الفرع الخاص كما بيناه في تضلعه بعلم الأصول. وهو بهذه الناحية سألك مسلك أهل العراق.
وطريقة الجمع هذه مع العناية بأقوال المذاهب الأخرى قد تأثر بها في نظرنا ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد. كما تأثر بها شهاب الدين القرافي في كتابه الذخيرة.
ويتبنى المقري تعليقًا لبعض المتأخرين على صناعة التأليف. مضمونه أن علماء تونس أقدر على التأليف وعمق النظر من علماء تلمسان وأن العلة في ذلك كون صناعة التعليم، وملكة التلقي لم تبلغ فاسًا كما هي بمدينة تونس، اتصلت إليهم من الإِمام المازري، كما تلقاها عن الشيخ اللخمي، وتلقاها اللخمي عن حذاق القرويين. وانتقلت ملكة هذا التعليم إلى الشيخ ابن عبد السلام مفتي البلاد الإفريقية وأصقاعها، المشهود له برتب التبريز والإمامة، واستقرت تلك الملكة في تلميذه ابن عرفة رحمه الله (1).
إن هذه السلسلة التي نظمها صاحبها جاعلًا الإِمام المازري واسطة عقدها. ارتوى من المدرسة القيروانية، وأثر فيمن جاء بعده من الفقهاء إلى ابن عبد السلام وابن عرفة. إن هذا التسلسل لا يقوم عليه دليل ولا يؤكده النظر في فقه علماء تونس. فابن عبد السلام على جلالة قدره لم يتبع منهج المازري في شرحه على مختصر ابن الحاجب (2).
__________
(1) أزهار الرياض ج 3 ص 23/ 24.
(2) بمكتبتي نسخة مصورة عن النسخة الكاملة المحفوظة بالمكتبة السليمانية بإسطمبول.

(1/85)


إذ الشيخ لا يهتم في شرحه هذا إلا بتحقيق مذهب مالك. ولا يتعرض للمدارس الفقهية الأخرى. كما أن لا يعني بالربط بين الفرع الفقهي ودليله. وبطريقة الاستنباط منه. ولذا فإن السند العلمي والتعليمي قد انقطع بعد الإِمام المازري. وهذا ما أخذ به العلامة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون. يقول: "وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس. واستبحر عمرانهما، وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة، ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما، وما كان فيهما من الحضارة. فلما خربتا انقطع التعليم عن المغرب إلا قليلًا كان في دولة الموحدين بمراكش مستفادًا منها، ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراضها بمبدئها، فلم تتصل فيها أحوال الحضارة إلا في الأقل. وبعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلاميذ الإِمام ابن الخطيب، فأخذ عنهم ولقن تعليمهم وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن، وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي كان ارتحل إليه من المغرب، فأخذ عن مشيخة مصر. ورجع إلى تونس واستقر بها وكان تعليمه مفيدًا. فأخذ عنهما أهل تونس واتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلًا بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمَّد بن عبد السلام شارح ابن الحاجب وتلميذه (1).
فالواقع التاريخي ونص ابن خلدون يثبتان أن المازري كان يمثل نهاية عصر. اضطربت بعده الأمور واختل الأمن وتغلب النصارى على الدولة. وتحكموا في البلاد. ثم جاءت الدولة الموحدية بقوة شابة مندفعة فخلصت البلاد من الاحتلال النصراني. إلا أنها لتوغلها في البداوة عند انطلاقها ولقصر عمرهالأولمقاومتها للمذهب المالكي اجتمعت هذه العوامل لتعمق القطيعة بين طريقة التعليم كما بلغت أوجها على يدي الإِمام المازري وبين الوضع الذي كان عليه التعليم عند قيام الدولة الحفصية.
__________
(1) المقدمة ص 431 الفصل الثاني في أن التعليم من جملة الصنائع.

(1/86)


سادسًا: تنويهه بالمنهج العراقي الذي يكشف عن أسرار التشريع وتعمق موارد الأحكام ليبدي الفروق الكامنة مما يوضح المنحى الذي من أجله اختلفت فيرفع الاشتباه الحاصل من النظر الأولي.
فمن ذلك أنه لما تحدث عن غسل النجاسة وذكر أنها لا تفتقر إلى نية، علل ذلك بانها طهارة معقولة المعنى فكان نفس الفعل محققًا للغرض عند القيام به. بخلاف طهارة الحدث فلما كانت لا يقصد بها أمر محسوس ولا تحصيل غرض وإنما يحصل بها أجر في العقبى افتقرت إلى نية لتحصيل الغرض المطلوبا "يعني الأجر".
وبنى على هذا أن ما مال إليه بعض متأخري فقهاء القيروان إلى أن النضح للنجاسة يفتقر إلى نية بخلاف غسلها. وأن هذا التفريق تعقبه بعض القرويين بأنه إذا قدرنا المشكوك فيه موجودًا فالنجاسة الموجودة لا تفتقر إزالتها إلى نية. وإن قدرنا عدم النجاسة فالغسل ساقط. ثم قال: "ومن عجيب ما ينبغي أن يتفطن إليه أن هؤلاء المتأخرين من المغاربة، تحوم خواطرهم على هذه المعاني التي أبرزها حذاق أهل العراق للوجود ...
وكأن من حكينا عنه من القرويين. أن النضح يفتقر إلى نية استشعره ورأى أن الناضح لا يزيل عينًا فأشبه المتطهر للحديث في افتقاره إلى النية فلا وجه لاستبعاد قوله" (1).

سابعًا: هو في مناقشته لأدلة المذاهب ولوجهات نظرهم حريص أتم الحرص على الأدب وحسن الظن بهم ويوصي بذلك. وأورد شاهدًا على طريقته هذه النموذج الآتي الذي يجمع بين أمور. تقديره وأدبه مع من يناقشه. شجاعته في بيان ما يراه حقأوإن خالف فيه أقطاب العلم الذين هم أئمة فيه. عمق نظره وحدة ذكائه.
يقول القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب "ودم الحيض يمنع وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه".
__________
(1) شرح التلقين ص 465.

(1/87)


يثير أولًا الإشكال التالي؛ هو أن الصيام زمن الحيض معصية. فكيف يوسف ما هو معصية بأنه واجب. وإذا لم يكن واجبًا فكيف يقضي؟ ففي هذا تناقض. وفصل اضطراب الأصوليين من منكر لتوجه الخطاب كالكرخي. واختلاف قول المالكية: من يرى أن المسافر والمريض مخاطبان دون الحائض. ومن يرى أن المخاطب المسافر دون المريض والحائض.
ثم ذكر أن القاضي أبا بكر بن الطيب على عظم شأنه في علم الأصول قد اختلف قوله في كتبه ثم بسط ما يمكن أن يوجه به كل رأي. وما ينتقد به التوجيه.
وأنهى بحثه الرائق بحل الأشكال. رابطًا بين القضاء وبين النية التي لا بد من استحضارها عند الفعل حتى يتميز عن غيره. وهذه النية المميزة المتضمنة أن هذا الوجوب على الحائض إنما هو كالقضاء عن وجوب فات. فاستحضارها للوجوب الفائت عليها هو السر الذي من أجله أطلق أن الوجوب متوجه دون الفعل أيام الحيض.
ونبه الناظر في شرحه لعزة هذا التحقيق. قائلًا: وهذا فصل قد كشفنا لك فيه اختلافًا كثيرًا. وقع بين أهل الأصول ومعنى أطلقه أهل الفروع. وبحنا لك بالسر فيه فاحتفظ به. فما تعرض لهذا أحد من الفقهاء المنصفين. وإذا أحطت به علمًا علمت حقيقة ما قاله القاضي أبو محمَّد في هذا الكتاب. وحقيقة ما تعقب عليه. وأنه إن ترك كلامه على ظاهره فقد بان ما تعقب به عليه. ثم قال وإن أحببت الاعتذار عنه وإلحاقه بالجمهور في هذه المسألة، وهو الظن الجميل به لعلو قدره في علم الأصول والفروع. قلت قد أريناك معنى قول الفقهاء. إلخ (1).
فأنت ترى كيف احتاط قبل أن يذكر اختلاف قول القاضي أبي بكر لمقام الأدب فقال: "على عظم شأنه في علم الأصول". وكيف أرشدك إلى الاعتذار عن القاضي أبي محمَّد بما يقتضيه أدب العلماء "وهو الظن الجميل به لعلو قدره في علم الأصول والفروع".
وفي هذا النموذج مع ما تجده منبثًا في كلامه من سمو خلقي، ورفيع أدب
__________
(1) شرح التلقين 3/ 329. وقد لخصت كلامه تلخيصًا. فارجع إليه هناك فإنه فصل ممتع.

(1/88)


وتقدير للعلم وأهله، ما يدفع ظن ابن السبكي أن الإِمام تحامل على الغزالي وعلى إمام الحرمين لأنهما انتقدا الإِمام أبا الحسن الأشعري. فعقلية الإِمام المازري نوع آخر غير الذي تأثر به ابن السبكي في عصره من تقاذف بين العلماء. وما وجدت له في شرح التلقين خروجًا عن هذا المسلك أو طعنًا على العلماء من الموافقين في المذهب والمخالفين.

ثامنًا: مزج الإِمام في شرحه بين تحقيق الفقه في المسألة المعروضة في المذهب المالكي وفي بعض المذاهب الأخرى. وبين الربط بالدليل الخاص. ثم أضاف إضافة لها وزنها في طريقة دراسة الفقه هي الربط بين المفاسد الشرعية والحكم. فكان بذلك من العلماء الذين اعتمدهم أبو إسحاق الشاطبي في عميق نظره في الشريعة الإِسلامية وضبط مسائلها بقواعد عمل على أن تكون قطعية. تعطي للناظر فيها الخيوط الجامعة بين المسائل حسب قانون يقضي به العقل المستنير بالوحي. ومن أمثلة اقتباس الشاطبي من الإِمام المازري ما ذكره في المسألة الثانية: "وهي ورود الأمر والنهي على متلازمين. فكان أحدهما مأمورًا به والآخر منهيًا عنه. فإن القاعدة التي يجب أن يحمل عليها التشريع هي أن يعتبر المتبوع ويلغي التابع. ثم تابع تفصيل هذه القاعدة. وما يكشف عنه التتبع من إشكالات فكان أحد الإشكالات أنه إذا كان كل واحد من الأمر والنهي يمكن أن يكون مقصودًا قصدًا أوليًا. كالأواني من الذهب والفضة: فهل المقصود العمل الفني من الصياغة فيجوز شراؤها، أو المقصود تملك عين الذهب آنية فيحرم؟ قال فهذا محل اجتهاد في ترجيح أحدهمالك ونه تابعأوالآخر متبوعًا. وهو محل إشكال ثم أتبعه بقوله. قال المازري في نحو هذا القسم من البيوع ينبغي أن يلحق بالممنوع؛ لأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن لها حصة من الثمن، والعقد واحد على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه، والمعاوضة على المحرم منه ممنوعة، فمنع الكل لاستحالة التمييز، وأن سائر المنافع المباحة يصير ثمنها مجهولًا لو قدر انفراده بالعقد. هذا ما قال وهو متوجه (1).
__________
(1) الموافقات ج 3 من ص 163 إلى ص 195. وانظر تعقيبه على كلام المازري بعد أن
وجهه ص 198.

(1/89)


تاسعًا: طريقته في الاستدلال والتعليل.
يفرق الإِمام المازري بين الدليل الملزم وبين التنظير الذي يقرب ولا يلزم. من ذلك أنه ذكر المذاهب في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة. وأن أبا حنيفة يرى أنه يجزئ كل لفظ فيه تعظيم وردّ مذهبه بأن الصلاة عبادة غير معقول معناها فيجب التسليم والاتباع. ولو حاول محاول إبدال الركوع بالسجود لكونه أبلغ في الخضوع لما قبل قوله وخرج عن مذاهب المسلمين. فكذلك القول بإبدال التكبير بالثناء والتمجيد. ثم استشعر أنه ابتدأ بترك القياس في العبادة ثم وقع فيه. فقال ولا تظنن أنما نهينا عن شيء وأتينا مثله لأننا لم نورد هذا قياسًا وإنما ضربنا به مثلًا ليتضح منع القياس في هذا الباب (1).
ومن ذلك أيضًا. أنه نقل عن بعض الذين يقولون بوجوب القراءة في الركعة أن الله حرم الكلام في الصلاة لأنه أوجب عملًا من الأعمال فحرم ما يشغله بغير القراءة. أما العين مثلًا فلما لم يوجب عليها عملًا لم يحرم عليها الاشتغال بالنظر. وعلق عليه بأنه لا يستقل دليلًا ولكن يصلح ترجيحًا (2).
ومن ذلك أنه ناقش الحنفية في دليلهم على عدم الترجيح في الأذان. فإن أبا محذورة كان شديد البغض للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما أسلم أخفى صوته عند الإعلان بالشهادة حياء من قومه. ورد هذا الاستدلال بأن الشيء قد يشرع لسبب ثم يزول السبب ويبقى التشريع، وذلك كالرمل في الطواف مباهاة للمشركين. ثم قال وإنما ذكرنا هذا مثالًا لا دليلًا لأنا نخالف فيه أيضًا (3).
كما أنه يؤيد مرجحًا رأيًا على رأي بضروب من التوجيه مستمدة من مقاصد الشريعة بعضها منصوص عليه لغيره. وبعضها لم أعلم أن غيره اعتمده في مثل هذا المقام من ذلك أنه لما ذكر صفة رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام. وأن رأي العراقيين من أصحابنا كون اليدين قائمتين يحاذي بكفيه منكبيه
__________
(1) شرح اللقين ص 501.
(2) شرح التلقين ص 512.
(3) شرح التلقين ص 435.

(1/90)


وبأصابعه أذنيه. يرجح هذا بقوله ولو لم يكن في اختياره إلا البعد عن التكلف لكان معنى يقتضي إيثاره ويحسّن اختياره (1). وهو معنى دقيق مأخوذ من أن الإِسلام دين الفطرة.
كما يقرر من ناحية أخرى أن البحث عن المعاني المعقولة في كل حكم من أحكام العبادة غير لازم. ولكن ذلك لا يمنع من قدح الفقيه فكره لإبداء المعاني المعقولة المناسبة. ومن ذلك أنه نقل عن شيوخه تعليلًا لقرن رفع اليدين بتكبيرة الإحرام. ثم نقل تعليلًا آخر عن بعض الخراسانيين وآخر عن بعض المتصوفة. ثم عقب على التعليلات الثلاثة بقوله. وهذه الثلاثة أجوبة دائرة كلها على أن القصد إشعار النفس بأمر ما. وهي معان تروق الذهن، وإن صحت وثبت أن قصد الشرع ذلك، فذكرها ها هنا غرضُنَا به التنبيه على محاسن الشرع وعنايته بأن يمهد للنفس تسهيل سبل الخير وليعلم المصلي أفعاله وما يقصد به (2).

عاشرًا: طريقته في الجمع بين الأحاديث.
إن الإِمام المازري وإن عني بالربط بين الحكم ودليله وتوجيه الاختلاف إلى الأصل المبني عليه أو طريقة النظر والفهم للدليل، إلا أنه عند ذكره للأدلة من السنة قلما ينبه على من أخرج الحديث. كما أنه كان كثيرًا ما يروي الحديث بالمعنى أو يقتصر على مقطع من النص. وبذلك كان تخريج الأحاديث التي استدل بها يتطلب مجهودًا كبيرًا. ولذلك بقيت بعض الأحاديث لم أعثر على من خرجها من العلماء.
وهو في تتبعه للمذاهب والأدلة كثيرًا ما يروي الحديث الدال على الحكم وحديثًا آخر يعارضه. فتراه يعمل على الأخذ بهما. ويطلق عبارة ما تخلف عنها أبدًا وهي "البناء" فهو لا يطلق كلمة الجمع. ولا كلمة التأويل. ولا كلمة التوفيق ونحو ذلك مما جرى على أقلام وألسنة الفقهاء. وإنما هو حسبما يبدو لي
__________
(1) شرح التلقين ص 552.
(2) شرح التلقين ص 552/ 553.

(1/91)


يتصور أن السنة تزداد قوة وصلابة بهذه الظاهرة. معتبرًا ذلك كالبناء الذي لا يكون صحيحًا قادرًا على الصمود. إلا إذا كان وضع أحجاره بعضها فوق بعض لا يتم بفواصل ونهايات متحدة ولكن بفواصل مختلفة نهاية كل حجارة هي وسط الحجارة التي فوقها والتي تحتها بما يقوي الالتحام. ويشد البناء.

حادي عشر: يختلف منهجه في كتابه هذا عن منهجه في المعلم. إذ صدور المعلم كتأليف لم يكن مقصودًا أصليًا. وإنما حصل بعد عرض تعليقاته عليه عند قراءة كتاب مسلم عليه. أما كتاب التلقين فقد كان يقصد من أول الأمر إلى إخراجه كتابًا. فتخير أن يكون منهجه ليس على طريقة الاختصار ولا على طريقة التوسع والاستطراد واستيفاء كل مسألة. بل هو يحيل تارة على تآليفه الأخرى وتارة ينبه على أنه طوى الكلام لئلا ينتشر. فهو مثلًا عندما يتحدث عن دليل وجوب استقبال القبلة {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. قابل هذه الآية. بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} وبقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}. أخذ يقابل بين هذه النصوص القطعية. ويتابع آراء الأئمة في ذلك. وختم ذلك بقوله: "وإنما لم نتمم لك النظر في ترجيح هذه الطرق لأن ذلك يخرج الكتاب عن غرضه" (1).

مكانته في الفقه:
يثبت له القاضي عياض أنه بلغ رتبةِ الاجتهاد. يقول فيه "إمام بلاد إفريقية وما وراءها من المغرب وآخر المستقلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر" (2).
ونقل العبارة ابن فرحون في الديباج.
ونقل عن ابن دقيق العيد أنه عجيب من عدم إعلانه بأنه مجتهد.
وابن عرفة يتحفظ في إثبات بلوغه درجة الاجتهاد.
__________
(1) شرح التلقين ص 485.
(2) الغنيه ص 123.

(1/92)


وتوسط الشاذلي النيفر. فجعله مجتهدًا. إلا أنه عدل عن إعلان ذلك والتزم مذهب مالك لأمرين. أن الناس يكفيهم ما هم فيه من الاختلاف فلا يضيف سببًا آخر للاختلاف. ولأنه لو أعلن اجتهاده فإن أهل إفريقية لا يرضون بمذهب مالك بديلًا. فلذلك لم يخرج عن مذهب مالك.
وهذا لا يتيسر قبوله لأن المجتهد هو الذي اطمأن إلى أن ما بلغ إليه اجتهاده صواب يحتمل الخطأ وما ذهب إليه المخالف له خطأ يحتمل الصواب. ولذا فإن دينه وأمانته تمنعه أن يفتي بما هو يعتقد خطأه. فالمجتهد ملزم شرعًا بأن يعلن عن حكم الله الذي اطمأن إليه. والمازري في ورعه وعلمه أبعد من أن يظن به هذا. ولذا فلما كان المازري رحمه الله قد اودع فقهه في كتبه. وخاصة كتاب التلقين. فإننا سننظر في أثره هذا. فهل يضيء لنا هذا الكتاب القيم الإجابة عن هذا السؤال؟
إنه لا بد قبل تتبع فقهه في كتاب التلقين تدقيق أمر.
أولًا ما المقصود بالاجتهاد. الذي نفاه من نفاه وأثبته من أثبته؟.

الاجتهاد على مراتب.
أعلى المراتب: الاجتهاد المطلق = وهي المرتبة التي تثبت للفقيه الذي نظر في المنهج الذي يتبع في استنباط الأحكام. فهو الذي سن الأدلة ما يعتبر دليلأوما لا يعتبر دليلًا. وما يمكن أن يستند إليه الفقيه وما لا يستند إليه في بيان حكم الله.
ثم بعد الاطمئنان إلى ما ينتج وما لا ينتج. ينظر في ترتيب تلك الأدلة ما يقدم منها وما يؤخر وما هو موقف الفقيه منها عند التعارض. فالكتاب حجة مثلًا. والسنة حجة والإجماع حجة والقياس حجة. فإذا تعارض نص السنة ونص الكتاب فكيف يتم الترجيح. وكذلك القياس. وعمل أهل المدينة حجة عند مالك. والسنة حجة فإذا عارض حديث الآحاد عمل أهل المدينة فبماذا يأخذ الفقيه. وكذلك قول الصحابي هل هو حجة أولًا؟. ثم إذا أثبته الفقيه فما

(1/93)


هو موقفه إذا عارض قول الصحابي القياس؛ ثم بعد هذا. الإجماع حجة. فهل الإجماع حجة في كل عصر من الأعصار أو الحجة في اتباع إجماع الصحابة خاصة؟ والقياس حجة فهل القياس المعني هو القياس الجلي أو كل الأقيسة. والعرف حجة ولكن متى يعتبر المحرف؟ فالفقيه الذي وضع منهجًا كاملًا في ترتيب الأدلة وما يؤخذ منه وما يترك هو المجتهد المطلق. وهذا القسم آخر من بلغه داود الظاهري. بخلافه في اعتبار القياس واقتصاره على القياس الجلي. وانحصرت المذاهب السنية في الأربعة الباقية الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.
وما نسب الاجتهاد المطلق بعد داود الظاهري لأحد من العلماء. ولا أبرز أي عالم من العلماء منهجًا في الاجتهاد جديدًا. فقد آل الأمر إلى أن كل فقيه بلغ رتبة الاجتهاد. فمعنى ذلك أنه أخذ بالطريقة الخاصة التي قام عليها مذهب من المذاهب الأربعة.
الطبقة التالية لأهل الاجتهاد المطلق التي انقرضت. أهل الاجتهاد المقيد. كأبي يوسف ومحمد في المذهب الحنفي وابن القاسم وأشهب وأصبغ في المذهب المالكي. والبويطي والمزني في المذهب الشافعي.
وهؤلاء ينظرون في أدلة الأحكام المعتمدة عند إمامهم ويرتبونها حسب ترتيب إمامهم. وقد يصلون بعد ذلك إلى حكم الجزئية المنظور فيها إلى ما يوافق إمامهم. وقد يصلون إلى خلاف ذلك فيعلنون أنهم أتباع الإِمام وأنهم يخالفونه في استنباطه. وترد عليهم الحوادث التي لا نص لإمامهم فيها فيعتبر قولهم هو المذهب في تلك الحادثة العارضة. وهؤلاء هم الذين وسّعوا المذاهب.
وطبقة أقل من هذه وهم الذينِ يلتزمون كل ما قاله أئمة المذهب. ولكن عندما تعرض الحوادث المستجدة يُخرّجون على قول إمامهم حكم النازلة تطبيقًا لقواعد المذهب وهم أهل التطبيق.
وطبقة رابعة تتبع الأقوال وتجمعها وتوازن بينها ثم ترجح الأقوال. ولكن تبين النواحي التي تقوي الأخذ بأحد الأقوال أو توهن الأخذ به.
وبعد هؤلاء طبقة خامسة هم المدونون للثروة الفقهية المرتبون لها

(1/94)


الميسرون لمعرفة حكم النازلة المطلوبة مما سبق لأئمة المذهب على اختلاف طبقاتهم قول فيها. مع تتبع الأقوال تتبعًا مستقصيًا أو تتبعًا على الجملة. أو اقتصارًا على القول المعتمد.
ففي آية مرتبة من هذه المراتب يعتبر الإِمام المازري؟ فالمرتبة الأولى لم يدعها أحد ولم يبرز أي فقيه منهجًا جديدًا في النظر. فلا معنى لقول من يقول إنه عدل عن إبراز مذهبه لئلا يزيد الاختلاف حدة، ولأن أهل إفريقية لا يقبلون بمذهب الإِمام مالك بديلًا.
كما أني لم أجده رافضًا لقول مالك مخالفًا له في الفروع. بل هو يدقق في رواية المدونة. ويوازن بين نصوصها. فهو إذن ليس من أهل الاجتهاد المقيد.
ولكن نصوصه في هذا الكتاب تعلن أنه من أهل التطبيق وأهل الترجيح.
فمن النوع الأول.
إنه حقق أنه إذا خاف متى استعمل الماء أن يعطش عطشًا يهلكه أنه يتيمم.
ثم بعد ذلك فرض سؤالًا قائلًا: فما قولكم فيمن معه من الماء ما يذهب نجاسة بدنه وإن لم يغسل به النجاسة كفاه لوضوئه؟ قيل أما هذا فلا أحفظ الآن في عين هذه المسألة نصًا لأحد من أصحابنا سوى ما حكاه ابن حبيب عن بعض أصحاب مالك فيمن مسح على خفيه، ثم لحقتها نجاسة وهو في السفر، ولا ماء معه، أن ينزع خفيه ويتيمم. فهذه الرواية تشير إلى أن الصلاة بطهارة التيمم مع عدم النجاسة أولى منها بطهارة الماء مع حصول النجاسة. فعلى هذا يغسل نجاسته بالماء وإن نقله ذلك إلى التيمم (1). فهو في هذا النص يخرج حكم من كان معه من الماء ما يكفي لإحدى الطهارتين في أنه يغسل النجاسة ويتيمم على حكم من تنجس خفه ولا ماء معه أنه ينزعه ويتيمم.
ومن ذلك أيضًا أنه في باب المياه أورد على كلام القاضي عشرة أسئلة كان السؤال السادس ما حكم الماء المشكوك فيه؟ وفصل القول. فيه إما أن يكون
__________
(1) شرح التلقين ص 280.

(1/95)


الشك في المغير هل يؤثر أو لا؟ وإما أن يشك في محل النجاسة لا في
حصولها. وبعد أن بين اختلاف الفقهاء في ذلك ووجهة نظر كل عقبه بقوله بافتراض حالة أخرى. وهو أنه إذا انقلب أحد الإناءين قبل أن ينظر فيهما للتحري. قال لا أعلم فيها نصًا. لأصحابنا. ويجب عندي أن يكون حكم التيمم عند من قال به في وجودهما على ما تقدم بيانه. لأنه إنما وجب التيمم عنده بحصول الشك في عين النجس منهما. والشك في الباقي منهما حاصل كحصوله مع وجودهما. فوجب أن يكون الحكم واحدًا (1). وانظر كذلك تخريجه للمسح على الخفين إذا لبسهما المحرم على القولين في جواز المسح لمن سفره سفر معصية (2).
وأما في باب الترجيح فإنه قد انتشر في تتبعه لأقوال الفقهاء. إذ هو يوازن بينها ثم ينظر في الملاءمة بين القول والدليل. ويرجح أو يضعف القول تبعًا لذلك. ومن أمثلة ذلك:
أنه لما ذكر حكم العدل إذا بين النجاسة التي وقعت في الماء أنه يقبل خبره. وأتبعه بحكم ما إذا لم يبين مفصلًا إما أن يتساوى السائل والمسؤول في المذهب فيجب الأخذ بقول المخبر. وإن اختلف مذهباهما لم يحرم استعمال الماء" بمجرد إجماله. حتى يكشف عن النجس وحاله. ويستحسن عندي العدول عنه إلى غيره (3).
ومن ذلك أنه لما ذكر اختلاف الأقوال في الإبراد بالظهر. أنهى كلامه بقوله والأصح عندي مراعاة حال يومه، فإذا فتر الحر القاطع عن استيفاء الصلاة، أمر بإيقاع الصلاة حينئذ إذا حان الوقت المختار. فإن لم يفتر حتى خيف ذوات الوقت لم تؤخر عن الوقت (4).
__________
(1) شرح التلقين ص 222.
(2) شرح التلقين ص 317.
(3) نفس المصدرص 225.
(4) نفس المصدر ص 390/ 391.

(1/96)


ومما يدلك أيضًا على أنه لم ير نفسه مؤهلًا للاجتهاد المقيد ما ذكره في قراءة صلاة الشفع. قال: وقد كنت في سن الحداثة، وعمري عشرون عامًا وقع في نفسي أن القراءة في الشفع لا يستحب تعيينها إذا كانت عقب تهجد بالليل.
وأن الاستحباب إنما يتوجه في حق من اقتصر على شفع الوتر. فأمرت من يصلي التراويح في رمضان أن يوتر عقيب فراغه من عدد الأشفاع، ويأتي بجميع مقروءاته بالحزب الذي يقوم به فيه ويوتر عقيبه. فتمالأ المشائخ المفتون حينئذ على إنكار ذلك واجتمعوا بالقاضي. وكان ممن يقرأ علي. ويصرف الفتوى فيما يحكم به إلى. فسألوه أن يمنع من ذلك. فأبى عليهم إلا أن يجتمعوا لمناظرتي على المسألة فأبوا، فأبى. واتسع الأمر وصارت المساجد تفعل كما فعلت. وخفت اندراس ركعتي الشفع عند العوام إن لم تخص في رمضان بقراءة فرجعت إلى المألوف. ثم بعد زمن طويل رأيت أبا الوليد الباجي أشار في كتابه إلى الطريقة التي كنت سلكت. فذكر في بعض كتبه قول مالك في الشفع: ما عندي فيه شيء يستحب القراءة فيه. فقال: هذا يدل على أن الشفع من جنس سائر النوافل. قال وهذا عندي لمن كان وتره واحدة عقيب صلاته بالليل. فأما من لم يوتر إلا عقيب الشفع فإنه يستحب له أن يقرأ في الشفع: بسبح، وقيل يا أيها الكافرون. فأنت ترى أن أبا الوليد كيف فصل التفصيل الذي كنت اخترته (1).
إن هذا النص يعلن فيه الإِمام المازري عن ابتهاجه بأن فتواه في سن الحداثة قد وافقت تحقيق الشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي. والباجي ما كانت رتبته إلا رتبة أهل التطبيق أو الترجيح. فلو كان المازري يشعر أنه أعلى منه درجة في الفقه لما ابتهج هذا الابتهاج. رغم أنه في نهاية الفصل ضعف رأيه ورأى أب الوليد معًا.
__________
(1) انظر تمامه ص 784/ 785.

(1/97)


مكانته في عصره
إن النص؟ السابق يدل على أن الإِمام المازري برزت مكانته العلمية. منذ عهد حداثته وازدادت تلك المكانة رسوخًا مع نضجه وتقدم سنه. فإذا كان وهو ابن عشرين سنة مرجعًا للقاضي يعود إليه ولا يخرج عن رأيه. وأنه منذ حداثته يهاب الشيوخ البالغون درجة الإفتاء مناظرته. فإن ذلك يدلك على أنه كان أرفع مقامًا وأعلى شأنًا بعد ذهاب شيوخه وتفرده بالإمامة.
وهذه المنزلة التي استقرت في نفوس أهل العلم كان ينظر بها إليه أهل السلطان. فقد ذكر أثناء بيانه شرائط الجمعة وأن منها إيقاع الجمعة في المسجد. وأنها لا تقام على ظهر المسجد. قال: وقد كتب إلى سلطان يسألني عن الصلاة بمقصورة في قصره، الحائط مشترك بينها وبين الجامع. وأحب أن يصلي على أعلى الحائط المشترك مرتفعًا عن الناس محجوبًا عنهم. فأجبته بأن سر اشتراط الجامع والجماعة في الجمعة بخلاف غيرها من الصلوات أنها صلاة قصد بها المباهاة والإشادة والإعلان. ولهذا جهر بالقراءة فيها، وإن كانت صلاة نهار وجعل فيها الخطبة. فكل معنى تكمل المباهاة فيه ويزيد في بهاء الإِسلام كان أولى أن يسلك. والإخفاء والاستتار نقيض الغرض الذي أشار إليه الشرع. فلما كتبت إليه بهذا امتنع من إحداثه. وبعثه الإيثار على الاعتزال عن الناس على أن حاول أن يخرج من قصره هذه المقصورة إلى الهواء الذي يحيط به حيطان الجامع ليكون مصليًا في داخله فيرتفع ما رأيته فيما كتب به إلي. فسألني أيضًا عن هذا أيضًا فأشكل علي أمره. لمعان عرضت فمِه. فقربت له من إباحته على أنه أولى بالأجزاء من عرض الحائط لكون المصلي فيه مصليًا في داخل الجامع. وباطنه ... فهو الآن يصلي في المقصورة (1).
فهذه المحاورة تدلك على مكانته عند ذوي السلطان. وعلى صدقه مع الله فهو لم يحاب السلطان. ولم يعتمد التعلات التي يبرر بها بعضهم بأن الأولى أن نؤلف قلوب أمثال هؤلاء وأن نيسر عليهم أداء الصلاة. وذلك خير من أن
__________
(1) شرح التلقين ص 972/ 973.

(1/98)


ننفرهم فلا يصلون. كأن الله أوكل لهم أن يجمعوا على الصلاة أكثر عدد ممكن. وما كلفهم الله ذلك إذ هو الذي ضبط الطريقة التي يرتضيها في عبادته، فمن اهتدى إليها فأقامها كما أمر سبحانه وحدد. فاز بالطاعة. ومن أعرض واستكبر فلم يقم الله أحدًا وكيلًا على عباده ليعبدوه. وقد رأينا أن صدق المازري مع الله انتهى إلى أن السلطان أدخل جزءًا من قصره في حدود الجامع. وخضع. ويغلب على الظن أن الأمير الذي استفتاه هو الحسن بن علي الصنهاجي الذي تولى الملك سنة 515. ذلك أن إملاءه لهذا الشرح كان مما محض له نشاطه العلمي في آخر حياته. فقوله فهو يصلي الآن في المقصورة أي وقت إملائه للشرح. وبين تولي الحسن بن علي السلطة وبين وفاة المازري إحدى وعشرون سنة.
ولعله يثور سؤال مما سبق لك وهو أن المازري قد بلغ من العلم والفطنة والورع ما بوأه مكانة الإمامة في عصره فلماذا لم يقدمه السلطان لولاية القضاء مع أنه كان يستشيره ويأخذ برأيه ولا يجرأ على تجاوزه؟ قد يكون مرد ذلك أن المازري نظر في الأوضاع الاجتماعية وفي أخلاق أهل عصره. فتبين له أن لا يستطيع أن ينهض بمهمة القضاء. إذ يقول في الطعن بالعداوة بين المحكوم عليه والشهود والمفتي أو القاضي: إذ الغالب اليوم عدم الثقة من العدول والقضاة والمفتين. وفي جو مثل هذا رأى أنه أمام سيل طام من الفساد لا يستطيع مواجهته ولا إبراز الحق في هذه الظلمات التي بعضها فوق بعض والله غالب على أمره وهو الحكيم الخبير. فقد كان انصرافه عن القضاء مساعدًا له على التأمل والتفقه. وبث العلم في صدور الرجال (1). رحمه الله وأجزل مثوبته.
__________
(1) انظر ما تقدم في فتنة شيخه عبد الحميد.

(1/99)