الشرح الكبير على متن المقنع

* (باب ستر العورة) * (وهو الشرط الثالث) ستر العورة شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم، قال ابن عبد البر: أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عرياناً وهو قول الشافعي

(1/455)


وأصحاب الرأي، وقال إسحاق وبعض أصحاب مالك: هو شرط مع الذكر وقال بعضهم هو واجب وليس بشرط لأن وجوبه غير مختص بالصلاة فلم يكن شرطاً فيها كقضاء الدين ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " وعن سلمة بن الاكوع قال: قلت يا رسول الله إني أكون في الصيد فأصلي في القميص الواحد؟ قال " نعم وازرره ولو بشركة " رواهما ابن ماجة والترمذي وقال فيهما حسن (مسألة) (وسترها عن النظر بما لا يصف البشرة واجب) لأن الستر إنما يحصل بذلك فإن كان خفيفاً يصف لون البشرة فيبين من ورائه بياض الجلد وحمرته لم تجز الصلاة فيه، وإن كان يستر
اللون ويصف الخلقة جازت الصلاة فيه لأن البشرة مستورة وهذا لا يمكن التحرز منه وإن كان الساتر صفيقاً (مسألة) (وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة وعنه أنها الفرجان) عورة الرجل ما بين السرة والركبة في ظاهر المذهب نص عليه في رواية الجماعة وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر العلماء وروي عنه أنها الفرجان نقله عنه مهنا وهو قول ابن ابي ذئب لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الأزار عن فخذه رواه البخاري ومسلم.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره فلا ينظر إلى شئ من عورته فإن ما تحت السرة إلى ركبته عورة " يريد الأمة رواه الإمام أحمد وأبو داود.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته كاشفاً عن فخذيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على ذلك ثم استأذن عمر فأذن له وهو على ذلك رواه الإمام أحمد.
ولأنه ليس بمخرج فلم يكن عورة كالساق، ووجه الأولى ما روى جرهد الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " غط فخذك فإن الفخذ من العورة " رواه

(1/456)


الامام احمد وابو داود والترمذي وقال حديث حسن وعن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت " رواه أبو داود، وعن ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة فقال: " غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته " رواه الإمام أحمد: قال البخاري حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط (فصل) والسرة والركبتان ليست من العورة، وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة الركبة من العورة لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الركبة من العورة " ولنا ما روى أبو أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة " رواه أبو بكر، وحديث عمرو بن شعيب، ولأن الركبة حد العورة فلم تكن منها كالسرة والعبد والحر في ذلك سواء لعموم الأخبار فيهما وحديثهم يرويه أبو الجنوب ولا يثبته أهل النقل (فصل) وأما الأمة، قال ابن حامد عورتها كعورة الرجل ما بين السرة والركبة، حكاه القاضي في المجرد وابن عقيل قال القاضي وقد لوح إليه أحمد وهو ظاهر مذهب الشافعي لحديث عمرو بن
شعيب والمراد به الأمة فإن الأجير والعبد لا تختلف حاله بالتزويج وعدمه، وقال القاضي في الجامع عورة الأمة ما عدا الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، وهو قول بعض الشافعية لأن هذا يظهر عادة عند التقليب والخدمة فهو كالرأس وما سواه لا يظهر غالباً ولا تدعو الحاجة إلى كشفه أشبه ما بين السرة والركبة والأول أولى لما ذكرنا ولأن من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة كالرجل وقال الحسن في الأمة إذا تزوجت أو إتخذها الرجل لنفسه يجب عليها الخمار ولنا أن عمر كان ينهى الإماء عن التقنع وقال إنما القناع للحرائر واشتهر ذلك ولم ينكر فكان

(1/457)


إجماعاً ولأنها أمة أشبهت التي لم تتزوج، وفيه رواية ثالثة أن عورتها الفرجان كالرجل ذكرها أبو الخطاب وشيخنا في الكتاب المشروح والصحيح خلافها إن شاء الله تعالى.
والمكاتبة والمدبرة والمعلق عتقها بصفة كالأمة القن فيما ذكرنا لأنهن إماء يجوز بيعهن وعتقهن أشبهن القن.
وقال ابن البنا هن كأم الولد (مسألة) (والحرة كلها عورة إلا الوجه وفي الكفين روايتان) أما وجه الحرة فإنه يجوز للمرأة كشفه في الصلاة بغير خلاف نعلمه واختلفت الرواية في الكفين فروي عنه جواز كشفهما وهو قول مالك والشافعي لأنه روي عن ابن عباس وعائشة في قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال الوجه والكفين، ولأنه يحرم على المحرمة سترهما بالقفازين كما يحرم ستر الوجه بالنقاب ويظهران غالباً وتدعو الحاجة الى كشفهما للبيع والشراء فأشبها الوجه.
وروي عنه إنهما من العورة وهذا اختيار الخرقي.
قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد، لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " المرأة عورة " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح: وهذا عام في جميعها ترك في الوجه للحاجة فيبقى فيما عداه.
وقول ابن عباس وعائشة قد خالفهما ابن مسعود فقال الثياب ولأن الحاجة لا تدعو إلى كشفهما وظهورهما كالحاجة إلى كشف الوجه فلا يصح القياس ثم يبطل قياسهم بالقدمين فإنهما يظهران عادة وسترهما واجب وهما بالرجلين أشبه من الوجه فقياسهما عليهما أولى (فصل) وما سوى الوجه والكفين فيجب ستره في الصلاة رواية واحدة وهو قول مالك والشافعي والاوزاعي.
وقال أبو حنيفة القدمان ليسا من العورة لأنهما يظهران عادة ويغسلان في
الوضوء أشبها الوجه والكفين ولنا قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) وما روت ام سلمة أنها سألت النبي صلى

(1/458)


الله عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار؟ قال " نعم إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها " رواه أبو داود، والخبر الذي رويناه في أن المرأة عورة خرج منه الوجه فيبقى فيما عداه على قضية الدليل وأما ما عدا الوجه والكفين والقدمين فهو عورة بالإجماع لا نعلم فيه خلافاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " حديث صحيح (مسألة) (وأم الولد والمعتق بعضها كالأمة وعنه كالحرة) نقل عن أحمد رحمه الله في المعتق بعضها روايتان (إحداهما) أنها كالحرة لأن فيها حرية تقتضي الستر فوجب كما يجب على الخنثى المشكل ستر فرجيه معاً لوجوب ستر أحدهما (والثانية) هي كالأمة القن لأن المقتضى للستر بالإجماع الحرية الكاملة ولم توجد فتبقى على الأصل وهذا قول ابن المنذر (فصل) وحكم أم الولد حكم الأمة في صلاتها وسترتها وهو قول النخعي والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد أنها كالحرة تغطي شعرها وقدميها نقلها عنه الأثرم لأنها لا تباع ولا ينقل الملك فيها أشبهت الحرة وهو قول الحسن وابن سيرين في تغطية الرأس حكاه ابن المنذر.
ووجه الأولى أنها أمة حكمها حكم الإماء وكونها لا ينتقل الملك فيها لا يخرجها عن حكم الأمة كالموقوفة، وانعقاد سبب الحرية فيها لا يؤثر أيضاً بدليل المكاتبة والمدبرة، لكن يستحب لها ستر رأسها لتخرج من الخلاف وتأخذ بالإحتياط (فصل) وعورة الخنثى المشكل كعورة الرجل لأنه اليقين والأنوثة مشكوك فيها فلا نوجب عليه ستر محل مشكوك في وجوبه كما لو نوجب نقض الوضوء بمس أحد فرجيه ولا الغسل بإيلاجه لكن يجب عليه ستر فرجيه إذا قلنا العورة الفرجان لأن أحدهما فرج حقيقي ولا يتحقق ستره إلا بسترهما فوجب عليه كستر ما قرب من العورة لأجل سترها، وعنه حكمه حكم المرأة ذكره في المستوعب لأنه يحتمل أن يكون امرأة فوجب ذلك إحتياطاً (فصل) فإن عتقت الأمة في أثناء صلاتها وهي مكشوفة الرأس ووجدت سترة فهي كالعريان يجد
السترة في أثناء صلاته وسيأتي إن شاء الله، وإن لم تعلم بالعتق حتى أتمت صلاتها أو علمت به ولم تعلم

(1/459)


بوجوب الستر فصلاتها باطلة لأن شروط الصلاة لا يعذر فيها بالجهل فأما إن عتقت ولم تقدر على سترة أتمت صلاتها ولا إعادة عليها لأنها عاجزة عن السترة فهي كالحرة الأصلية إذا عجزت (مسألة) (ويستحب للرجل أن يصلي في ثوبين) لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال قال عمر " إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب واحد فليتزر به " رواه أبو داود، وعن عمر أنه قال إذا أوسع الله فأوسعوا - جمع رجل عليه ثيابه - صلى رجل في إزار ورداء - في إزار وقميص - في إزار وقباء - في سراويل ورداء - في سراويل وقميص - في سراويل وقباء، في تبان وقميص، قال القاضي وذلك في الإمام آكد لأنه بين يدي المأمومين وتتعلق صلاتهم بصلاته فإن لم يكن إلا ثوب واحد فالقميص أولى لأنه أبلغ في الستر ثم الرداء ثم المئزر أو السراويل (مسألة) (فان اقتصر على ستر العورة أجزأه إذا كان على عاتقه شئ من اللباس) وجملة ذلك أن الرجل متى ستر عورته في الصلاة صحت صلاته إذا كان على عاتقه شئ من اللباس سواء كان من الثوب الذي ستر عورته أو من غيره إذا كان قادراً على ذلك لما روى عمر بن أبي سلمة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة قد ألقى طرفيه على عاتقه.
وعن أبي هريرة أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد قال " أو لكلكم ثوبان؟ " متفق عليهما.
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان الثوب واسعاً فالتحف به وإذا كان ضيقاً فاشدده على حقوك - وفي لفظ - فاتزر به " رواه البخاري (فصل) ولا يجزئ من ذلك إلا ما ستر العورة عن غيره ونفسه فلو كان القميص واسع الجيب يرى عورته إذا ركع أو سجد أو كانت بحيث يراها لم تصح صلاته لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع " وازرره ولو بشوكة " فإن كان ذا لحية كبيرة تغطي الجيب فتستر عورته صحت صلاته نص عليه لأن عورته مستورة وهذا مذهب الشافعي (فصل) ويجب عليه أن يضع على عاتقه شيئاً من اللباس مع القدرة، اختاره ابن المنذر وأكثر العلماء على خلافه لأنهما ليسا من العورة أشبها بقية البدن

(1/460)


ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ " رواه مسلم، وعن بريدة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف ولا يتوشح به وأن يصلي في سراويل ليس عليه رداء.
رواه أبو داود وهو شرط لصحة الصلاة في ظاهر المذهب واختاره ابن المنذر لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ولأن ستره واجب في الصلاة فإلاخلال به يفسدها كالعورة، وذكر القاضي وابن عقيل أنه نقل عن أحمد ما يدل على أنه ليس بشرط فإنه قال في رواية مثنى بن جامع فيمن صلى وثوبه على إحدى عاتقية والأخرى مكشوفة يكره قيل له يؤمر أن يعيد؟ فلم ير عليه إعادة.
قال شيخنا وليس هذا رواية أخرى إنما يدل على أنه لا يجب ستر المنكبين جميعاً لأن الخبر لا يقتضي سترهما فعلى هذا لا يجب سترهما جميعاً بل يجزئه وضع ثوب على أحد عاتقيه وإن كان يصف البشرة لأن وجوب ذلك بالخبر ولفظه " لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ " وهذا يقع على ما يعم المنكبين ومالا يعم، وقال القاضي وابو الخطاب وابن عقيل يجب ستر المنكبين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا صلى أحدكم في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه على عاتقيه " صحيح (فصل) فإن طرح على كتفيه ما يستر البشرة ومالا يستر - حبلاً أو نحوه - لم يجزه في اختيار الخرقي والقاضي، وقال بعض أصحابنا يجزئه قالوا لان هذا شئ فيتناوله الخبر.
قال بعضهم وقد روي عن جابر أنه صلى في ثوب واحد متوشحاً به كأني أنظر إليه كان على عاتقه ذنب فأرة، وعن إبراهيم قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد أحدهم ثوباً ألقى على عاتقه عقالاً وصلى وقال شيخنا والصحيح أنه لا يجزئ لأن ذلك لا يسمى سترة ولا لباساً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا صلى أحدكم في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه على عاتقيه " صحيح رواه أبو داود والأمر بوضعه على العاتقين للستر ولا يحصل ذلك بوضع خيط ولاحبل، وما روي عن جابر لا يصح، وما روى

(1/461)


الصحابة إن صح فلعدم ما سواه لقوله " إذا لم يجد " وفي هذا دليل على أنه لا يجزي مع وجود الثوب والله أعلم
(فصل) (وقال القاضي يجزئه ستر العورة في النفل دون الفرض) يعني إذا اقتصر على ستر العورة دون المنكبين أجزأه في النفل دون الفرض، نص عليه أحمد في رواية حنبل قال: يجزئه أن يأتزر بالثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ في التطوع لأن مبناه على التخفيف ولذلك يسامح فيه بترك القيام والاستقبال في حال سيره مع القدرة فسومح فيه بهذا القدر واستدل أبو بكر بقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان الثوب ضيقاً فاشدده على حقوك " قال هذا في التطوع.
وحديث أبي هريرة في الفرض وظاهر كلام الخرقي التسوية بينهما لأن ما إشترط للفرض اشترط للنفل كالطهارة ولأن الخبر عام فيهما وهذا ظاهر كلام شيخنا رحمه الله والله أعلم.
(مسألة) (ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وملحفة فإن إقتصرت على ستر العورة أجزأها) روي نحو ذلك عن عمر وابنه وعائشة وهو قول الشافعي وذلك أنه أستر وأحسن فإنه إذا كان عليها جلباب تجافى عنها راكعة وساجدة فلا يصفها ولا تبين عجيزتها ومواضع العورة المغلظة.
وروي عن ابن عمر وابن سيرين ونافع قالوا تصلي المرأة في أربعة أثواب لذلك وهذا على وجه الاستحباب فإن إقتصرت على ستر عورتها أجزأها، قال أحمد: قد إتفق عامتهم على الدرع والخمار وما زاد فهو خير وأستر.
وقد دل عليه حديث أم سلمة حين قالت: يا رسول الله أتصلي المرأة في درع وخمار؟ قال: " نعم إذا كان سابقا يغطي ظهور قدميها " وروي عن عاشة وميمونة وأم سلمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنهن كن يرين الصلاة في درع وخمار، حكاه ابن المنذر ولأنها سترت ما يجب عليها ستره أشبهت الرجل (فصل) ويكره للمرأة النقاب وهي تصلي، قال ابن عبد البر: اجمعوا على ان على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام ولأن ذلك يخل بمباشرة المصلي بالجبهة والأنف ويغطي الفم.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل عنه

(1/462)


(مسألة) (وإذا إنكشف من العورة يسير لم يفحش في النظر لم تبطل صلاته) نص عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة.
وقال الشافعي تبطل لأنه حكم يتعلق بالعورة فاستوى قليله وكثيره كالنظر ولنا ما روى عن عمرو بن سلمة الجرمي قال: إنطلق أبي وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من
قومه فعلمهم الصلاة وقال " يؤمكم أقرؤكم " فكنت أقرأهم فقدموني فكنت أؤمهم وعلي بردة صفراء صغيرة فكنت إذا سجدت إنكشفت عني فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم.
فاشتروا لي قميصاً عمانيا فما فرحت بعد الإسلام فرحي به.
وفي لفظ فكنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق فكنت إذا سجدت فيها خرجت أستى.
رواه أبو داود والنسائي وهذا ينتشر ولم ينكر ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكره ولا أحد من أصحابه ولأن ما صحت الصلاة مع كثيره حال العذر فرق بين قليله وكثيره في غير حال العذر كالمشي، ولأن اليسير يشق الإحتراز منه فعفي عنه كيسير الدم وحد اليسير مالا يفحش في النظر عادة ولا فرق في ذلك بين الفرجين وغيرهما إلا أن العورة المغلظة يفحش منها ما لا يفحش من غيرها فيعتبر ذلك وسواء في ذلك الرجل والمرأة.
وقال أبو حنيفة إن إنكشف من المغلظة قدر الدرهم أو من غيرها أقل من ربعها لم تبطل الصلاة وإن كان أكثر بطلت ولنا أن هذا تقدير لم يرد الشرع به فلا يجوز المصير إليه وما لم يرد الشرع فيه بالتقدير يرد إلى العرف كالكثير من العمل في الصلاة والتفرق والاحتراز فإن إنكشفت عورته من غير عمد فسترها في الحال لم تبطل لأنه يسير في الزمن أشبه اليسير في القدر.
وقال التميمي إن بدت عورته وقتاً واستترت وقتاً لم يعد لحديث عمرو بن سلمة فلم يشترط اليسير.
قال شيخنا ولابد من اشتراطه لأنه يفحش ويمكن التحرز منه أشبه الكثير في القدر (مسألة) (وإن فحش بطلت) يعني ما فحش في النظر عادة وعرفاً لما ذكرنا لأن التحرز منه ممكن من غير مشقة أشبه سائر العورة.
قال إبن المنذر اجمعوا على ان المرأة الحرة إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها الإعادة ولأن الأصل وجوب ستر جميع العورة عفي عنه في اليسير لمشقة التحرز

(1/463)


منه يبقى فيما عداه على قضية الدليل (مسألة) (ومن صلى في ثوب حرير أو مغصوب لم تصح صلاته وعنه تصح مع التحريم) لبس المغصوب والصلاة فيه حرام على الرجال والنساء وجهاً واحدا فإن صلى فيه فهل تصح صلاته على روايتين أظهرهما لا تصح إذا كان هو الساتر للعورة لأنه استعمل المحرم في شرط الصلاة فلم تصح كما لو كان نجسا
ولأن الصلاة قربة وطاعة وقيام هذا وقعوده في هذا الثوب منهي عنه فكيف يكون متقرباً بما هو عاص به مأموراً بما هو منهي عنه.
وقال ابن عمر من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم تقبل له صلاة مادام عليه.
ثم أدخل أصبعيه في أذنيه وقال: صمتاً إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقوله.
رواه الإمام أحمد وفي إسناده رجل غير معروف (والثانية) تصح وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
لأن النهي لا يعود إلى الصلاة ولا يختص التحريم بها فهو كما لو صلى في عمامة مغصوبة أو غسل ثوبه من النجاسة بماء مغصوب.
فإن ترك الثوب المغصوب في كمه أو صلى في عمامة مغصوبة أو في يده خاتم مغصوب صحت صلاته لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة فلم يؤثر فيها كما لو كان في جيبه درهم مغصوب.
والفرض والنفل في ذلك سواء لأن ما كان شرطاً للفرض فهو شرط للنفل (فصل) فإن صلى وعليه سترتان إحداهما مغصوبة ففيه الروايتان سواء كان الفوقاني أو التحتاني لأن الستر لا يتعين بإحداهما والمغصوب من جنس ما يستتر به بمثابة ما زاد على المشروط من اللفائف في حق الميت فإنه يجري مجراه في وجوب القطع فإن صلى في قميص بعضه حلال وبعضه حرام لم تصح صلاته على الرواية الأولى سواء كان المغصوب هو الذي ستر العورة أو بالعكس لأن القميص يتبع بعضه بعضاً فلا يتميز بدليل دخوله في مطلق البيع، ذكر هذا الفصل ابن عقيل (فصل) وإن صلى الرجل في ثوب حرير لم يجز له والحكم في صحة الصلاة فيه كالحكم في الثوب

(1/464)


المغصوب على ما بينا لأنه في معناه وتصح صلاة المرأة فيه لأنه مباح لها وكذلك صلاة الرجل فيه في حال العذر إذا قلنا بإباحته له (مسألة) (ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا صلى فيه) وذلك لأن ستر العورة آكد من إزالة النجاسة لتعلق حق الآدمي به في ستر عورته ووجوبه في الصلاة وغيرها فكان تقديمه أولى وهذا قول مالك، وقال الشافعي يصلي عرياناً ولا يعيد، وقال أبو حنيفة في النجاسة كلها يخير في الفعلين لأنه لابد من ترك واجب في كلا الفعلين، وقد ذكرنا أو الستر آكد فوجب تقديمه ولأنه قدر على ستر عورته فلزمه كما لو وجد ثوباً طاهراً
(مسألة) (وتلزمه الإعادة على المنصوص) لأنه أخل بشرط الصلاة مع القدرة عليه أشبه ما لوصلى محدثاً.
ويتخرج أن لا يعيد بناء على من صلى في موضع نجس لا يمكنه الخروج منه فإنه قال: لا إعادة عليه.
وهذا اختيار شيخنا لأن الشرع منعه نزعه أشبه ما إذا لم يمكنه وهو مذهب مالك والاوزاعي ولأن التحرز من النجاسة شرط عجز عنه فسقط كالعجز عن السترة، فان لم يجد إلا ثوب حرير صلى فيه ولا إعادة عليه لأن تحريم لبسه يزول بالحاجة إليه، وذكر ابن عقيل أنه يخرج على الروايتين في السترة النجسة فان لم يجد إلا ثوباً مغصوباً صلى عرياناً لأن تحريمه لحق آدمي أشبه من لم يجد إلا ماء مغصوباً وذكر ابن عقيل في وجوب الإعادة على من صلى في الثوب النجس روايتين (إحداهما) يعيد لما ذكرنا (والثانية) لا يعد لأنه أتى بما أمر به أشبه مالو لم تكن عليه نجاسة (مسألة) (فإن لم يجد إلا ما يستر عورته سترها) إذا لم يجد إلا ما يستر عورته حسب - بدأ بها وترك منكبيه لأن ستر العورة متفق على وجوبه وستر المنكبين مختلف فيه ولأن ستر العورة واجب في غير الصلاة ففيها أولى وقد روي حنبل عن أحمد فيمن معه ثوب واحد لطيف أن ستر عورته إنكشف منكباه فقال يصلي جالساً ويرسله من ورائه على منكبيه وعجيزته واحتج لذلك بأن ستر

(1/465)


المنكبين الحديث فيه أصح من ستر الفخذين والقيام يسقط في حق العريان وله بدل فإذا صلى جالساً حصل ستر العجيزة والمنكبين بالثوب وستر العورة بالجلوس.
والصحيح الأول إختاره شيخنا لما ذكرنا ولما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا كان الثوب واسعاً فخالف بين طرفيه وإذا كان ضيقاً فاشدده على حقوك " رواه أبو داود وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من كان له ثوبان فليأتزر وليرتد ومن لم يكن له ثوبان فليأتزر ثم ليصل " رواه الإمام أحمد ولأن القيام متفق على وجوبه فلا يترك لأمر مختلف فيه والله أعلم (مسألة) (فإن لم يكف جميعها ستر الفرجين) لأنهما أفحش وهما عورة بغير خلاف (مسألة) (فإن لم يكفهما جميعاً ستر أيهما شاء) لاستوائهما والأولى ستر الدبر على ظاهر كلامه لأنه أفحش وينفرج في الركوع والسجود وقيل القبل أولى لأن به يستقبل القبلة والدبر مستور بالأليتين
(مسألة) (وإن بذلت له سترة لزمه قبولها إذا كانت عارية) لأن المنة لا تكثر في العارية فيكون قادراً على ستر عورته بما لا ضرر فيه.
وإن كانت هبة لا يلزمه قبولها لأن المنة تكثر فيها.
قال شيخنا ويحتمل أن يلزمه لأن العار في كشف عورته أكثر من الضرر فيما يلحقه من المنة.
وإن وجد من يبيعه سترة أو يؤجره بثمن المثل أو زيادة يسيرة وقدر على العوض لزمه وإن كانت كثيرة لا تجحف بماله فهو كما لو قدر على شراء الماء بذلك وفيه وجهان مضى توجيههما (مسألة) (فإن عدم بكل حال صلى جالساً يومئ إيماء وإن صلى قائماً جاز، وعنه أنه يصلي قائماً ويسجد بالأرض) لا تسقط الصلاة عن العريان بغير خلاف علمناه لأنه شرط عجز عنه فلم تسقط الصلاة بعجزه عنه كالإستقبال ويصلي جالسا يومئ بالركوع والسجود وهو قول أبي حنيفة، وقال مالك والشافعي وابن المنذر يصلي قائماً كغير العريان لقوله صلى الله عليه وسلم " صلى قائماً فإن لم تستطع فقاعداً " رواه البخاري ولأنه قادر على القيام من غير ضرر فلم يجز له تركه كالقادر على الستر ولنا ما روى عن ابن عمر أن قوماً إنكسرت بهم مركبهم فخرجوا عراة قال يصلون جلوساً

(1/466)


يومئون إيماء برؤوسهم ولم ينقل خلافه ولأن الستر آكد من القيام لأمرين (أحدهما) أنه لا يسقط مع القدرة بحال والقيام يسقط في النافلة (والثاني) أن الستر لا يختص الصلاة بخلاف القيام فإذا لم يكن بد من أحدهما فترك الأخف أولى، فإن قيل فلا يحصل الستر كله مع فوات أركان ثلاثة القيام والركوع والسجود.
فالجواب أنا إذا قلنا العورة الفرجان فقد حصل سترهما وإن قلنا هما بعض العورة فهما آكدها وجوباً وأفحشها في النظر فكان سترهما أولى ولا تجب عليه إعادة لأنه صلى كما أمر أشبه ما لو صلى إلى غير القبلة عند العجز فإن صلى قائماً جاز لما ذكرنا.
وقد روي عنه أنه يصلي جالساً ويسجد بالأرض لأن السجود آكد من القيام لكونه مقصوداً في نفسه ولا يسقط فيما يسقط فيه القيام وهو النفل.
والأولى الإيماء بالسجود لأن القيام سقط عنهم لحفظ العورة وهي في حال السجود أفحش فكان سقوطه أولى وإن صلى قائماً وركع وسجد بالأرض جاز في ظاهر كلام أحمد وقول أصحاب الرأي لأنه لابد من ترك أحد الواجبين فأيهما ترك فقد أتى بالآخر وعلى أي حال صلى فإنه يتضام ولا يتجافى،
قيل لأبي عبد الله يتضامون أم يتربعون؟ قال بل يتضامون، وقد قيل أنهم يتربعون في حال القيام كصلاة النافلة قاعداً والأول أولى.
(فصل) فإذا وجد العريان جلداً طاهراً أو ورقاً يمكن خصفه عليه أو حشيشاً يمكن ربطه عليه فيستتر لزمه لأنه قادر على ستر عورته بطاهر لا يضره فقد ستر النبي صلى الله عليه وسلم رجلي مصعب بن عمير بالأذخر لما لم يجد سترة.
وإن وجد طيناً يطلي به جسده لم يلزمه لأنه يتناثر إذا جف وفيه مشقة ولا يغيب الخلقة، وقال ابن عقيل يلزمه لأنه يستر وما تناثر سقط حكمه واستتر بما بقي وهو قول بعض الشافعية وإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه وإن كان كدراً لأن عليه فيه مشقة وضرراً لا يحتمل.
وإن وجد حفرة لم يلزمه النزول فيها لأنها لا تلصق بجسده فهي كالجدار وإن وجد سترة تضر به كبارية ونحوها لم يلزمه الإستتار بها لما فيها من الضرر والمنع من إكمال الركوع والسجود

(1/467)


(مسألة) (وإن وجد السترة قريبة منه في أثناء الصلاة ستر وبنى وإن كانت بعيدة ستر وابتدأ) وجملة ذلك أن العريان متى قدر على السترة في أثناء الصلاة وأمكنه من غير زمن طويل ولا عمل كثير ستر وبنى على ما مضى من الصلاة كأهل قباء لما علموا بتحويل القبلة استداروا إليها وأتموا صلاتهم.
وإن لم يمكن الستر إلا بعمل كثير أو زمن طويل بطلت الصلاة لأنه لا يمكنه المضي فيها إلا بما ينافيها من العمل الكثير أو فعلها بدون شرطها والمرجع في ذلك إلى العرف لأنه لا تقدير فيه توقيفاً وذكر القاضي فيمن وجدت السترة إحتمالاً أن صلاتها لا تبطل بانتظارها وإن طال لأنه إنتظار واجب ولا يصح ذلك لأنها صلت في زمن طويل عارية مع إمكان الستر فلا تصح كالصلاة كلها وما ذكروه يبطل بما لو أتمت صلاتها في حال إنتظارها وانتظرت من يأتي فيناولها وقياس الكثير على اليسير فاسد لما ثبت في الشرع من العفو عن اليسير دون الكثير في مواضع كثيرة (فصل) فإن صلى عرياناً ثم بأن معه ستارة أنسبها أعاد لأنه مفرط كما قلنا في الماء (مسألة) (ويصلي العراة جماعة وأمامهم في وسطهم) الجماعة تشرع للعراة كغيرهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الرجل في الجميع تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة " وهذا قول
قتادة، وقال مالك والاوزاعي وأصحاب الرأي يصلون فرادى، قال مالك ويتباعد بعضهم من بعض وإن كانوا في ظلمة صلوا جماعة ويتقدمهم إمامهم وبه قال الشافعي في القديم، وقال في موضع الجماعة والأفراد سواء لأن في الجماعة الإخلال بسنة الموقف وفي الإنفراد الإخلال بفضيلة الجماعة ووافقنا أن أمامهم يقوم وسطهم وعلى مشروعية الجماعة للنساء العراة لأن أمامتهن تقوم في وسطهن فلا يحصل الإخلال في حقهن بفضيلة الموقف: ولنا الحديث الذي ذكرنا ولأنهم قدروا على الجماعة من غير عذر أشبهوا المستترين ولا تسقط الجماعة لفوات السنة في الموقف كما لو كانوا في ضيق لا يمكن تقديم أحدهم، وإذا شرعت الجماعة حال الخوف مع تعذر الإقتداء بالإمام في بعض الصلاة والحاجة إلى مفارقته وفعل ما يبطل الصلاة في غير

(1/468)


تلك الحال فأولى أن تشرع ههنا.
إذا ثبت هذا فإن إمامهم يكون في وسطهم ويصلون صفاً واحداً لأنه أستر لهم فإن لم يسعهم صف واحد وقفوا صفوفاً وغضوا أبصارهم وإن صلى كل صف جماعة فهو أحسن (مسألة) (وإن كانوا رجالاً ونساء صلى كل نوع لأنفسهم) لئلا يرى بعضهم عوراة بعض وإن كانوا في ضيق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهم الرجال لئلا ينظر بعضهم إلى بعض (فصل) (فإن كان مع العراة واحد له سترة لزمه الصلاة فيها) فإن أعارها وصلى عرياناً لم تصح لأنه قادر على السترة، وإذا صلى فيه إستحب أن يعيره لقول الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولا يجب ذلك بخلاف ما لو كان معه طعام فاضل عن حاجته ووجد مضطراً فإنه يلزمه إعطاؤه.
وإذا بذله لهم صلى فيه واحد بعد واحد ولم يجز لهم الصلاة عراة لقدرتهم على الستر، إلا أن يخافوا ضيق الوقت فيصلون عراة جماعة لأنهم لو كانوا في سفينة لا يمكن جميعهم الصلاة قياماً صلى واحد بعد واحد إلا أن يخافوا فوت الوقت فيصلي واحد قائماً والباقون قعوداً كذلك هذا ولأن هذا يحصل به إدراك الوقت والجماعة وذاك إنما يحصل به الستر خاصة.
ويحتمل أن ينتظروا الثوب وإن فات الوقت لأنه قدر على شرط الصلاة فلم تصح صلاته بدونه كواجد الماء لا يتيمم وإن خاف فوت الوقت.
قال شيخنا: وهذا أقيس عندي، فإن إمتنع صاحب الثوب من إعارته فالمستحب أن يؤمهم ويقف بين
أيديهم، فإن كان أمياً وهم قراء صلى العراة جماعة وصاحب الثوب وحده لأنه لا يجوزه أن يؤمهم لكونه أمياً ولا يأتم بهم لكونهم عراة وهو مستتر، وإن صلى وبقي وقت صلاة واحدة إستحب أن يعيره لمن يصلح لامامتهم وإن عاره لغيره جاز وصار حكمه حكم صاحب الثوب، فإن استووا ولم يكن الثوب لواحد منهم أقرع بينهم فيكون من تقع له القرعة أحق به وإلا قدم من تستحب البداية بعاريته وإن كانوا رجالاً ونساء فالنساء أحق لأن عورتهن أفحشن وسترها آكد وإذا صلين فيه أخذه الرجال (مسألة) (ويكره في الصلاة السدل) وهو أن يطرح على كتفيه ثوباً ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الآخر، وهذا قول ابن مسعود والثوري والشافعي لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة، رواه أبو داود.
فإن فعل فلا إعادة عليه، وقال ابن أبي موسى: يعيد الصلاة في إحدى الروايتين للنهي عنه.
فأما إن رد أحد طرفيه على الكتف الأخرى أو ضم طرفيه بيديه لم يكره لزوال السدل.
وقد روي عن جابر وابن عمر الرخصة في السدل، قال إبن المنذر: لا أعلم فيه حديثاً يثبت، وحكاه الترمذي عن أحمد (مسألة) (ويكره إشتمال الصماء وهو أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره) لما روى أبو هريرة

(1/469)


وأبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبستين إشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل بثوب ليس بين فرجيه وبين السماء شئ أخرجه الخباري، ومعنى الاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر كلبسة المحرم وهذا هو إشتمال الصماء ذكره بعض أصحابنا وجاء مفسراً في حديث أبي سعيد بذلك من رواية إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أظن عن عطاء ابن يزيد عن أبي سعيد.
وإنما كره لأنه إذا فعل ذلك وليس عليه ثوب غيره بدت عورته كذلك رواه حنبل عن أحمد، أما إذا كان عليه غيره فتلك لبسة المحرم وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا ينبغي أن يكون إشتمال الصماء محرماً لإفضائه إلى كشف العورة، وروى أبو بكر باسناده عن ابن مسعود قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجل ثوباً واحداً يأخذ بجوانبه على منكبيه فتدعى تلك الصماء وقال بعض أصحاب الشافعي إشتمال الصماء أن يلتحف بالثوب ثم يخرج يديه من قبل صدره فتبدو
عورته وهو في معنى تفسير أصحابنا.
وقال أبو عبيد إشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوب يخلل به جسده كله ولا يرفع منه جانباً يخرج منه يده كأنه يذهب به إلى أنه لعله يصيبه شئ يريد الإحتراس منه فلا يقدر عليه.
قال شيخنا والفقهاء أعلم بالتأويل (وعنه يكره وأن كان عليه غيره) روي عن أحمد رحمه الله كراهة ذلك مطلقاً لعموم النهي ولأن كل ما نهي عنه من اللباس في الصلاة لم يفرق بين أن يكون عليه ثوب غيره أو لم يكن كالسدل والإسبال (مسألة) (ويكره تغطية الوجه والتلثم على الفم والأنف) لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه رواه أبو داود، ففي هذا تنبيه على كراهية تغطية الوجه لإشتماله على تغطية الفم ويكره تغطية الأنف قياساً على الفم، روى ذلك عن ابن عمر وفيه رواية أخرى لا يكره لأن تخصيص الفم بالنهي يدل على إباحة غيره.
(مسألة) (ويكره لف الكم) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعراً ولا ثوبا " متفق عليه (مسألة) (ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار) لما فيه من التشبه بأهل الكتاب وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم فقال " لا تشتملوا إشتمال اليهود " رواه أبو داود، فإما شد الوسط بمئزر أو حبل أو نحوهما مما لا يشبه شد الزنار فلا يكره.
قال أحمد لا بأس به أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يصلي أحدكم إلا وهو محتزم " وقال أبو طالب سألت أحمد عن الرجل يصلي وعليه القميص يأتزر بالمنديل فوقه؟ قال نعم فعل ذلك ابن عمر.
وعن الشعبي قال كان يقال: شد

(1/470)


حقوك في الصلاة ولو بعقال رواه الخلال، وعن يزيد بن الأصم مثله (مسألة) (ويكره إسبال شئ من ثيابه خيلاء) يكره إسبال القميص والإزار مطلقاً وكذلك السراويل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برفع الإزار فإن فعله خيلاء فهو حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه " متفق عليه، وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله جل ذكره في حل ولا حرام " رواه أبو داود
(فصل) ولا يجوز لبس ما فيه صورة حيوان في أحد الوجهين.
اختاره أبو الخطاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة " متفق عليه (والثاني) لا يحرم قاله ابن عقيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الخبر " إلا رقما في ثوب " متفق عليه، ولأنه يباح إذا كان مفروشاً أو يتكأ عليه فكذلك إذا كان يلبس، ويكره التصليب في الثوب لقول عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصليب إلا قضبه.
رواه أبو داود (مسألة) (ولا يجوز للرجل لبس ثياب الحرير ولا ما غالبه الحرير ولا إفتراشه إلا من ضرورة) يحرم على الرجل لبس ثياب الحرير في الصلاة وغيرها في غير حال العذر إجماعا حكاه ابن عبد البر لما روى أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم " أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " متفق عليه والإفتراش كاللبس لما روى حذيفة قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم إن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وأن نلبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه.
رواه البخاري، فأما المنسوج من الحرير وغيره فإن كان الأغلب الحرير حرم لعموم الخبر، وإن كان الأغلب غيره حل لأن الحكم للأغلب والقليل مستهلك فيه أشبه الضبة من الفضة والعلم في الثوب.
وقال ابن عبد البر مذهب ابن عباس وجماعة من أهل العلم أن المحرم الحرير الصافي الذي لا يخالطه غيره.
قال ابن عباس إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير أما العلم وسدى الثوب فليس به بأس.
رواه أبو داود والاثرم (مسألة) فإن أستوى هو وما نسج معه فعلى وجهين (أحدهما) يباح لحديث ابن عباس ولأن الحرير ليس بأغلب أشبه الأقل (والثاني) يحرم.
قال ابن عقيل: هو الأشبه لعموم الخبر

(1/471)


(مسألة) ويحرم لبس المنسوج بالذهب والمموه به لما ذكرنا من حديث أبي موسى، فإن استحال لونه فعلى وجهين (أحدهما) يحرم للحديث (والثاني) يباح لزوال علة التحريم من السرف
والخيلاء وكسر قلوب الفقراء (مسألة) (وإن لبس الحرير لمرض أو حكة أو في الحرب أو ألبسه الصبي فعلى روايتين) متى احتاج إلى لبس الحرير لمرض أو حكة أو من أجل القمل جاز في ظاهر المذهب، لأن أنساً روي أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما.
وفي رواية شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل فرخص لهما في قميص الحرير ورأيته عليهما.
متفق عليه، وما يثبت في حق صحابي يثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل فثبت بالحديث في القمل وقسنا عليه غيره مما ينفع فيه لبس الحرير.
وعن أحمد رواية أخرى لا يباح وهو قول مالك لعموم الخبر المحرم والرخصة يحتمل أن تكون خاصة لهما (فصل) وفي لبسه في الحرب لغير حاجة روايتان (إحداهما) الإباحة وهو ظاهر كلامه أحمد قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن لبس الحرير في الحرب؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس وهو قول عروة وعطاء، وكان لعروة يملق من ديباج بطانته من سندس محشو قزاً يلبسه في الحرب ولأن المنع من لبسه لما فيه من الخيلاء وذلك غير مذموم في الحرب، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى بعض أصحابه يمشي بين الصفين قال " إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن " (والثانية) يحرم لعموم الخبر، فأما إن إحتاج إليه مثل أن يكون بطانة لبيضة أو درع أو نحوه أبيح.
قال بعض أصحابنا يجوز مثل ذلك من الذهب كدرع مموه من الذهب لا يستغني عن لبسه وهو محتاج إليه (فصل) وهل يجوز لولي الصبي أن يلبسه الحرير؟ على روايتين (إحداهما) تحريمه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " حرام على ذكور أمتي " وعن جابر قال: كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري رواه أبو داود وقدم حذيفة من سفر فوجد على صبيانه قمصاً من حرير فمزقها عن الصباين وتركها على الجواري رواه الأثرم، وروي نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود (والثانية) يباح لأنهم غير مكلفين أشبهوا البهائم ولأنهم محل للزينة أشبهوا النساء.
والأول أولى لظاهر الخبر وفعل الصحابة، ويتعلق التحريم بالمكلفين بتمكينهم من الحرام كتمكينهم من شرب الخمر وغيره من المحرمات وكونهم محل الزينة مع تحريم الاستمتاع أبلغ في التحريم ولذلك حرم على النساء التبرج بالزينة للأجانب

(1/472)


(مسألة) (ويباح حشو الجباب والفرش به ويحتمل أن يحرم) ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه لا خيلاء فيه، ويحتمل أن يحرم لعموم الخبر ولأن فيه سرفا أشبه مالو جعل البطانة حريراً (فصل) (ولا بأس بلبس الخز) ص عليه وقد روي عن عمران بن حصين والحسن بن علي وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن عباس وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم أنهم لبسوا الخز وعن عبد الله ابن سعد عن أبيه سعد قال: رأيت رجلاً ببخارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود، وقال ابن عقيل في الخز: إن كان فيه وبر وكان الوبر أكثر من القز صحت الصلاة فيه.
وإن كان أكثره القز لم تصح الصلاة فيه في الصحيح.
وإن إستويا إحتمل وجهين فجعله كغيره من الثياب المنسوجة من الحرير وغيره (مسألة) (ويباح العلم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون) لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع، رواه مسلم وقال أبو بكر في التنبيه: يباح وإن كان مذهباً لأنه يسير أشبه الحرير ويسير الفضة وكذلك الرقاع ولبنة الجيب وسجف الفراء لدخوله فيما استثناه في الحديث (مسألة) (ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر) لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجال عن التزعفر متفق عليه، وعن علي قال: نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس المعصفر، رواه مسلم ولا بأس بلبسه للنساء لأن تخصيص النهي بالرجل دليل على إباحته للنساء (فصل) فأما لبس الأحمر غير المزعفر فقال أصحابنا: يكره وهو مذهب ابن عمر فروي عنه أنه اشترى ثوباً فرأى فيه خيطاً أحمر فرده، وروي عن عبد الله بن عمرو قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه بردان أحمران فسلم فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وعن رافع بن خديج قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رواحلنا أكسية فيها خيوط عهن أحمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم " فقمنا سراعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفر بعض إبلنا وأخذنا الأكسية فنزعناها عنها رواهما أبو داود، والصحيح أنه لا بأس بها لما روى أبو جحيفة قال:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء الحديث، وقال البراء: ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، متفق عليهما (1) وعن هلال بن عامر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة وعليه برد أحمر رواه أبو داود، وقال أنس: كان أحب اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة،
__________
1) لا نعلمه بهذا اللفظ في الصحيحين فيراجع

(1/473)


متفق عليه وهي التي فيها حمرة وبياض.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو يخطب إذ رأى الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهما ولم ينكر ذلك ولأنها لون أشبهت سائر الألوان فأما أحاديثهم فحديث رافع في إسناده رجل مجهول ويحتمل أنها كانت معصفرة فلذلك كرهها ولو قدر التعارض كانت أحاديث الإباحة أصح وأثبت فهي أولى.
(فصل) فأما غير الحمرة من الألوان فلا يكره فقد قال صلى الله عليه وسلم " البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم " وعن ابن عمر أنه قيل له: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، رواهما أبو داود وعن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عليه بردين أخضرين ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، متفق عليهما والله أعلم.