الشرح الكبير على متن المقنع

(باب الإحرام) (مسألة) (يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويلبس ثوبين أبيضين نظيفين ازارا أو رداء ويتجرد عن المخيط)

(3/224)


يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل قبله وهو قول طاوس والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل، رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام، ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس فسن لها الاغتسال كالجمعة، وليس ذلك واجباً في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال وأنه غير واجب وحكي عن الحسن أنه قال: إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكر، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله قيل له عن بعض أهل المدينة من ترك الاغتسال عند الإحرام فعليه دم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء " اغتسلي فكيف الطاهر؟ فأظهر التعجب من هذا القول، وكان ابن عمر يغتسل أحياناً ويتوضأ أحياناً وأي ذلك فعل أجزأه ولا أوجب (1) الاغتسال ولا أمر به إلا لحائض أو نفساء، ولو كان واجباً لأمر به غيرهما، ولأنه لأمر مستقبل فأشبه غسل الجمعة، فان لم يجد ماء، فقال القاضي يتيمم لأنه غسل
مشروع فناب التيمم عنه كالواجب، والصحيح أنه غير مسنون لأنه غسل غير واجب فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة وما ذكره منتقض بغسل الجمعة، والفرق بين الواجب والمسنون أن

(3/225)


الواجب شرع لإباحة الصلاة والتيمم يقوم مقامه في ذلك، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة والتيمم لا يحصل هذا بل يحصل شعثاً وتغبيراً، ولذلك افترقا في الطهارة الصفرى فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح (فصل) ويستحب للمرأة الغسل كالرجل وإن كانت حائضاً أو نفساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل رواه مسلم، وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض.
فإن رجت الحائض أو النفساء الطهر قبل الخروج من الميقات استحب لهما تأخير الاغتسال حتى يطهرا ليكون أكمل لهما وإلا اغتسلتا لما ذكرناه (فصل) ويستحب التنظيف بازالة الشعر وقطع الرائحة ونتف الإبط وقص الشارب وتقليم الأظفار وحلق العانة لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب فسن له هذا كالجمعة، ولأن الإحرام يمنع قطع الشعر وتقليم الأظفار فاستحب له فعله قبله لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه (فصل) ويستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ولا فرق بين ما تبقى عينه كالمسك

(3/226)


أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وعائشة وأم حبيبة ومعاوية رضي الله عنهم وروي عن ابن الحنفية وأبي سعيد وعروة والقاسم والشعبي وابن جريج.
وكان عطاء يكره ذلك، وهو قول مالك وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم وإحتج مالك بما روى يعلى بن أمية أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم يعني ساعة ثم قال " اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك " متفق عليه ولأنه يمنع من ابتدائه فمنع من استدامته كاللبس
ولنا قول عائشة رضي الله عنها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت.
وقالت كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
متفق عليه وفي لفظ لمسلم طيبته بأطيب الطيب وقالت بطيب فيه مسك وحديثهم في بعض ألفاظه عليه جبة بها أثر الخلوق رواه مسلم وفي بعضها وهو متضمخ بالخلوق وفي بعضها عليه ردع من زعفران وهذا يدل على أن طيب الرجل كان من الزعفران وهو منهي عنه للرجال في غير الإحرام ففيه أولى وقد روي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل ولأن حديثهم في سنة ثمان وحديثنا في سنة عشر قال ابن

(3/227)


جريج كان شأن صاحب الجبة قبل حجة الوداع قال ابن عبد البر لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام خيبر بالجعرانة سنة ثمان وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر فعند ذلك أن قدر التعارض فحديثنا ناسخ لحديثهم فإن قيل فقد روى محمد بن المنتشر قال سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال لأن أطلي بالقطران أحب إلي من ذلك قلنا تمام الحديث قال فذكرت ذلك لعائشة فقالت يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف في نسائه ثم يصبح ينضح طيباً فإذا صار الخبر حجة على من احتج به فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة على ابن عمر وغيره وقياسهم يبطل بالنكاح فإن الإحرام يمنع ابتداءه دون استدامته (فصل) فإن طيب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه فليس له لبسه فإن لبسه افتدى لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة وكذا إن نقل الطيب من موضع من بدنه إلى موضع يفتدي لأنه ابتدأ الطيب وكذا إن تعمد مسه بيده أو نحاه عن موضعه ثم رده إليه فأما إن عرق الطيب أو ذاب بالشمس فسال إلى موضع اخر فلا شئ عليه لأنه ليس من فعله قالت عائشة رضي الله عنها كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيرانا النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا رواه أبو داود

(3/228)


(فصل) ويستحب أن يلبس ثوبين أبيضين نظيفين إزارا ورداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وليحرم
أحدكم في إزار ورداء ونعلين " ويستحب أن يكونا نظيفين إما جديدين أو مفسولين لأنا أحببنا له التنظيف في بدنه فكذلك في ثيابه كشاهد الجمعة، والأولى أن يكونا أبيضين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياكم وكفنوا فيها موتاكم " رواه النسائي بمعناه (فصل) ويتجرد عن المخيط إن كان رجلاً، فأما المرأة فلها ليس لبس المخيط في الإحرام لأن المحرم ممنوع من لبسه في شئ من بدنه وهو كل ما يخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل والبرنس، ولو لبس إزاراً موصلاً، أو اتشح بثوب مخيط كان جائزاً وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى (مسألة) (ويصلي ركعتين ويحرم عقيبهما) المستحب أن يحرم عقيب الصلاة فإن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقيبها وإلا صلى ركعتين تطوعاً وأحرم عقيبهما وهذا قول عطاء وطاوس ومالك والشافعي والثوري وأبي حنيفة واسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وروي عن ابن عمر وابن عباس، وقد روي عن أحمد أن الإحرام عقيب الصلاة وإذا استوت به راحلته وإذا بدأ السير سواء لأن الجميع مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحيحة.
قال الأثرم سألت أبا عبد الله أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به راحته؟ قال كل ذلك قد جا، في دبر الصلاة وإذا علا البيداء وإذا استوت به راحلته فوسع في ذلك كله.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة وروى ابن عباس وأنس رضي الله عنهما نحوه.
رواهن البخاري والأولى الإحرام عقيب الصلاة

(3/229)


لما روى سعيد بن جبير قال: ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته، ثم خرج فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته واسوت به قائمة أهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين استوت به راحلته وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك ثم سار حتى علا البيداء فأهل فأدرك ذلك منه ناس فقالوا: أهل حين علا البيداء.
رواه أبو داود
والاثرم وهذا لفظه، وهذا فيه بيان وزيادة فتعين حمل الأمر عليه، ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه جمعاً بين الأخبار المختلفة وعلى سبيل الاستحباب، وكيفما أحرم جاز.
لا نعلم أحدا خالف في ذلك (مسألة) (وينوي الإحرام بنسك معين ولا ينعقد إلا بالنية) يستحب أن يعين ما يحرم به من الإنساك، وبه قال مالك وقال الشافعي في أحد قوليه الإطلاق أولى لما روي طاوس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجاً ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلوها عمرة ولأن ذلك أحوط لأنه لا يأمن الإحصار أو تعذر فعل الحج فيجعلها عمرة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين فقال " من شاء منكم أن يهل بالحج أو عمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل " والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما أحرموا بمعين لما نذكره إن شاء الله تعالى في الأحاديث الصحيحة، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه في صحبته يطلعون على أحواله ويقتدون به أعلم به من طاوس، ثم إن حديثه مرسل والشافعي لا يحتج بالمراسيل فكيف صار إليه مع مخالفه الروايات الصحيحة المسندة والاحتياط ممكن بأن يجعلها عمرة، فإن شاء كان متمتعاً، وإن شاء أدخل عليها الحج فصار قارناً (فصل) وينوي الإحرام بقلبه ولا ينعقد إلا بالنية لقول البني صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة فإن لبى من غير نية لم يصر محرماً لما ذكرنا وإن اقتصر على النية كفاه ذلك وهو قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا ينعقد بمجرد النية حتى يضاف إليها التلبية أو سوق الهدي لما روى خلاد بن السائب الانصاري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية قال الترمذي هذا حديث حسن ولأنها

(3/230)


عبادة ذات تحريم وتحليل فكان لها نطق واجب كالصلاة ولأن الهدي والأضحية لا يجبان بمجرد النية كذلك النسك.
ولنا أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب فلم يكن في أولها كالصيام والخبر المراد به الاستحباب فإن منطوقه رفع الصوت ولا خلاف في عدم وجوبه فما هو من ضرورته أولى ولو وجب النطق لم يلزم كونه شرطاً فأن كثيراً من واجبات الحج غير مشترطه فيه والصلاة في آخرها نطق واجب بخلاف الحج والعمرة وأما الهدي والأضحية فإيجاب مال فهو يشبه النذر بخلاف الحج لأنه عبادة بدنية فعلى هذا لو نطق بغير ما نواه نحو أن ينوي العمرة فيسبق لسانه إلى الحج أو بالعكس انعقد ما نواه دون ما لفظه به.
قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا وذلك لأن الواجب النية وعليها الاعتماد واللفظ لا عبرة به فلم يؤثر كما لا يؤثر اختلاف النية فيما يعتبر له اللفظ دون النية فإن لبى أو ساق الهدي من غير نية لم ينعقد إحرامه لأن ما اعتبرت له النية لا ينعقد بدونها كالصوم والصلاة (مسألة) (ويشترط فيقول اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستي) فإن أراد التمتع قال اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستي وإن أراد الأفراد قال اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني وبشترط.
وإن أراد القران قال اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني وبشترط.
وهذا الاشتراط مستحب ويفيد هذا الشرط شيئين.
(أحدهما) أنه إذا عاقه عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه أن له التحلل (والثاني) أنه متى حل بذلك فلا شئ عليه وممن رأى الاشتراط في الإحرام عمر وعلي وابن مسعود وعمار رضي الله عنهم وبه قال عبيدة السلماني وعلقمة والاسود وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء وعكرمة والشافعي بالعراق وأنكره ابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير والزهري ومالك وأبو حنيفة وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار واحتجوا بأن ابن عمر كان ينكر الاشتراط ويقول حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ولأنها عبادة تجب بأصل الشرع فلم يفد الاشتراط فيها كالصوم والصلاة.
ولنا ماروت عائشة رضي الله عنها قالت دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت يارسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال النبي صلى الله عليه وسلم " حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني " متفق عليه

(3/231)


وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضباعة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال قولي (لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني.
فإن لك على ربك ما استثنيت) رواه مسلم ولا قول لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يعارض بقول ابن عمر ولو لم يكن فيه حديث لكان قول الخليفتين الراشدين مع من قد ذكرنا قوله من فقهاء الصحابة أولى من قول ابن عمر إذا ثبت هذا فإن غير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يقوم مقامه لأن المقصود المعنى واللفظ إنما أريد لتأدية المعنى قال إبراهيم خرجنا مع علقمة وهو يريد العمرة فقال اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت وإلا فلا حرج علي.
وكان شريح يقول اللهم قد عرفت نيتي وما أريد فإن كان أمراً تتمه فهو أحب إلي وإلا فلا حرج علي.
وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة قل اللهم إني أريد الحج وإياه نويت فإن تيسر وإلا فعمرة.
فإن نوى الاشتراط ولم يتلفظ به احتمل أن يصح لأنه تابع لعقد الإحرام والإحرام ينعقد بالنية فكذلك تابعه واحتمل أنه لابد من القول لأنه اشتراط فاعتبر فيه القول كالاشتراط في النذر والاعتكاف والوقوف ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس " قولي محلي من الأرض حيث تحبسني " (مسألة) (وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران) لا خلاف بين أهل العلم في جواز الإحرام بأي الإنساك الثلاثة شاء، وقد دل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومن من أهل بحج متفق عليه فذكرت التمتع والقران والإفراد (مسألة) (وأفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران، وعنه إن ساق الهدي فالقران أفضل ثم التمتع) أفضل الإنساك التمتع ثم الإفراد ثم القران، وممن روي عنه اختيار التمتع ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد وسالم والقاسم وعكرمه وأحد قولي الشافعي، وروى المروذي عن أحمدان ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتمتع أفضل

(3/232)


لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه وذهب الثوري وأصحاب الرأي إلى اختيار القران لما روى أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعاً " لبيك عمرة وحجاً " متفق عليه، وحديث الضبي بن معبد حين أحرم بهما فأنى عمر فسأله فقال هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وروي عن مروان بن الحكم قال كنت جالساً عند عثمان ابن عفان فسمع علياً يلبي بعمرة وحج فأرسل إليه فقال ألم نكن نهينا عن هذا؟ فقال بلى.
ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعاً فلم أكن أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك رواه سعيد ولأن القران مبادرة إلى فعل العبادة وإحرام بالنسكين من الميقات وفيه زيادة نسك هو الدم فكان أولى، وذهب مالك وأبو ثور إلى اختيار الأفراد وهو ظاهر مذهب الشافعي وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم لما روت عائشة وجابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج متفق عليهما وعن ابن عمر وابن عباس مثل ذلك متفق عليه ولأنه يأتي بالحج تاماً من غير احتياج إلى جبر فكان أولى قال عثمان: ألا إن الحج التام من أهليكم والعمرة التامة من أهليكم وقال إبراهيم أن أبا بكر وعمر وابن مسعود وعائشة كانوا يجردون الحج ولنا ما روى ابن عباس وجابر وأبو موسى وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه

(3/233)


لما طافوا بالبيت أن يحلو ويجعلوها عمرة فنقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة متفق عليهما ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل ولم يختلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه وقال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " قال جابر حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم " حلوا من إحرامكم واجعلوا التي قدمتم بها متعة " فقالوا كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج؟ فقال " افعلوا ما أمرتكم به فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به " وفي لفظ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اهديت " فحللنا
وسمعنا وأطعنا متفق عليهما فنقلهم إلى التمتع وتأسف إذ لم يمكنه ذلك فدل على فضله، ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى بقوله (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) دون سائر الانساك ولأن التمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة مع زيادة نسك فكان أولى فأما القرآن فإنما يؤتى فيه بأفعال الحج وتدخل أفعال العمرة فيه والمفرد إنما يأتي بالحج وجده وإن اعتمر بعده من أدنى الحل فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام وكذلك اختلف في إجزاء عمرة القارن ولا خلاف في إجزاء عمرة المتمتع فكان أولى فأما حجتهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ففيها أجوبة (أحدها) منع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم محرما بغير التمتع لأمور أولها أن رواة أحاديثهم قد رووا

(3/234)


أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج رواه ابن عمر وعائشة وجابر رضي الله عنهم من طرق صحاح فسقط الاحتجاج بها (وثانيها) أن روايتهم اختلفت فرووا مرة أنه أفرد ومرة أنه تمتع ومرة أنه قرن والقضية واحدة ولا يمكن الجمع بينها فوجب اطراح الكل وأحاديثهم في القرآن أصحها حديث أنس وقد أنكره ابن عمر فقال رحم الله انسا ذهل أنس متفق عليه وفي رواية: كان أنس يتولج على النساء أي كان صغيراً وحديث علي رواه حفص بن أبي داود وهو ضعيف عن ابن أبي ليلى وهو كثير الوهم قاله الدارقطني (وثالثها) أن أكثر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً روى ذلك عمر وعلي وعثمان وسعد ابن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر ومعاوية وأبو موسى وجابر وعائشة وحفصة بأحاديث صحاح وإنما منعه من الحل الهدي الذي كان معه ففي حديث عمر أنه قال إني لا أنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله ولقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني العمرة في الحج وفي حديث علي أنه اختلف هو وعثمان في المتعة بعسفان فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه متفق عليه وللنسائي قال علي لعثمان ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع؟ قال بلى وعن ابن عمر قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وعنه أن حفصة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا

(3/235)


أحل حتى أنحر متفق عليهما وقال سعد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه وهذه الأحاديث راجحة لأن رواتها أكثر وأعلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالمتعة عن نفسه في حديث حفصة فلا يعارض خبره غيره ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالمتعة ثم لم يحل منها لأجل هديه حتى أحرم بالحج فصار قارناً وسماه من سماه مفرداً لأنه اشتغل بأفعال الحج وحدها بعد فراغه من أفعال العمرة فإن الجمع بين الأحاديث مهما أمكن أولى من حملها على التعارض (الوجه الثاني) من الجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالانتقال إلى المتعة عن الافراد والقرآن ولا يأمرهم إلا بالانتقال إلى الأفضل فإنه من المحال أن ينقلهم من الأفضل إلى الأدنى وهو الداعي إلى الخير الهادي إلى الفضل ثم أكد ذلك بتأسفه على فوات ذلك في حقه ولأنه لا يقدر على انتقاله وحله لسوقه وهذا ظاهر الدلالة (الثالث) إن ما ذكرناه قول النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحتجون بفعله وعند التعارض يجب تقديم القول لاحتمال اختصاصه بفعله دون غيره كنهيه عن الوصال مع فعله له ونكاحه بغير ولي مع قوله " لا نكاح إلا بولي " فإن قيل فقد قال أبو ذر كانت متعة الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة رواه مسلم قلنا هذا قول صحابي يخالف الكتاب والسنة والإجماع وقول من هو خير وأعلم أما الكتاب

(3/236)


فقوله سبحانه (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) وهذا عام وأجمع المسلمون على إباحة التمتع، وأما السنة فروى سعيد بإسناده أن سراقة بن مالك سأل النبي صلى الله عليه وسلم المتعة لنا خاصة أم هي للأبد؟ قال " بل هي للأبد " وفي لفظ قال هي لعامنا أو للأبد؟ قال " بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " وفي حديث جابر الذي رواه مسلم في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا ومعناه والله أعلم أن الجاهلية كانوا لا يحيزون التمتع ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فبين النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قد شرع العمرة في أشهر الحج وجوز المتعة إلى يوم القيامة وقد خالف أبا ذر علي وسعد وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين وسائر المسلمين قال عمران تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونزل فيه القرآن ولم ينهنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينسخها شئ فقال فيها رجل برأيه ما شاء متفق عليه وقال سعد بن أبي وقاص فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني المتعة وهذا يومئذ كافر بالعرش يعني الناهي عنها والعرش بيوت مكة قال أحمد حين ذكر له حديث أبي ذر أفيقول بهذا أحد؟ المتعة في كتاب الله تعالى وقد أجمع المسلمون على جوازها، فإن قيل فقد روى أبو داود أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3/237)


ينهى عن العمرة قبل الحج قلنا هذا حاله في مخالفة الكتاب والسنة والإجماع كحال حديث أبي ذر بل هو أدنى حالا فإن في إسناده مقالاً فإن قيل فقد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية قلنا فقد أنكر عليهم علماء الصحابة نهيهم عنها وخالفوهم في فعلها وقد ذكرنا إنكار علي على عثمان واعتراف عثمان له وقول عمران بن حصين منكراً لنهي من نهى وقول سعد عائباً على معاوية نهيه عنها وردهم عليهم بحجج لم يكن لهم عنها جواب بل ذكر بعض من نهى في كلامه الحجة عليه فقال عمر رضي الله عنه والله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله وقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في أن من خالف كتاب الله وسنة رسوله له حقيق بأن لا يقبل نهيه ولا يحتج به مع أنه قد سئل سالم بن عبد الله بن عمر أنهى عمر عن المتعة؟ قال لا والله ما نهى عنها عمر ولكن قد نهى عنها عثمان ولما نهى معاوية عن المتعة أمرت عائشة حشمها ومواليها أن يهلوا بها فقال معاوية من هؤلاء فقيل حشم أو موالي عائشة فأرسل إليها ما حملك على ذلك؟ فقالت أحببت أن يعلم أن الذي قلت ليس كما قلت وقيل لابن عباس أن فلانا نهى عن المتعة قال انظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيه فقد كذب على الله وعلى رسوله وإن لم تجدوها فقد صدق فأي الفريقين أحق بالاتباع وأولى بالصواب؟ الذين معهم كتاب الله وسنة رسوله أم الذين يخالفونهما؟ ثم قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة على الخلق أجمعين فكيف

(3/238)


يعارض بقول غيره قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " عروة نهى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما عن المتعة فقال ابن عباس أراهم سيهلكون أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم
ويقولون نهى عنها أبو بكر وعمر وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقال إنك تخالف أباك فقال: عمر لم يقل الذي تقولون فإذا أكثروا عليه قال فكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر؟ روى الأثرم هذا كله (مسألة) (وصفة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ويحرم بالحج من مكة أو من قريب منها في عامة، والإفراد أن يحرم بالحج مفرداً والقران أن يحرم بهما جميعاً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يصح إحرامه بها) إذا أدخل الحج على العمرة قبل طوافها من غير خوف الفوات جاز وكان قارناً بغير خلاف وقد فعل ذلك ابن عمر ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارناً وبهذا قال الشافعي وابو ثور وروي عن عطاء، وقال مالك يصير قارناً وحكي ذلك عن أبي حنيفة لأنه أدخل الحج على إحرام العمرة فصح كما قبل الطواف ولنا أنه قد شرع في التحلل من العمرة فلم يجز إدخال الحج عليها كما بعد السعي (فصل) إلا أن يكون معه هدي فله ذلك لأنه لا يجوز له التحلل حتى ينحر هديه لقوله سبحانه (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) فلا يتحلل بطوافه ويتعين عليه إدخال الحج على العمرة لئلا يفوته الحج ويصير قارناً بخلاف غيره (فصل) فأما إدخال العمرة على الحج فلا يجوز وإن فعل لم يصح ولم يصر قارناً روى ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال مالك وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة يصح ويصير قارناً لأنه أحد النسكين فجاز إدخاله على الآخر كالآخر ولنا أنه قول علي رضي الله عنه رواه عنه الأثرم ولأن إدخال العمرة على الحج لا يفيد إلا ما أفاده العقد الأول فلم يصح كما لو استأجره على عمل ثم استأجره عليه ثانياً وعكسه إذا أدخل الحج على العمرة (مسألة) (ويجب على المتمتع والقارن دم نسك إذا لم يكونا من حاضري المسجد الحرام وهم أهل مكة ومن كان منها دون مسافة القصر)

(3/239)


يجب الدم على المتمتع في الجملة بالإجماع قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة
في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها فحج من عامة أنه متمتع وعليه الهدي إن وجد وإلا فالصيام وقد نص الله سبحانه عليه بقوله (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) الآية وقال ابن عمر تمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس " من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر ثم ليهل بالحج ويهدي فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه وعن أبي حمزة قال سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال فيها جزور أو بقرة أو شرك في دم متفق عليه (مسألة) (والدم الواجب شاة أو سبع بدنة أو بدنة فإن نحر بدنة أو ذبح بقرة فقد زاد خيراً) وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك لا يجزئ إلا بدنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تمتع ساق بدنة والذي ذكره ترك لظاهر القرآن لأنه سبحانه قال (فما استيسر من الهدي) واطراح الآثار الثابتة وما احتجوا به فلا حجة فيه فإن إهداء النبي صلى الله عليه وسلم للبدنة لا يمنع اجزاء ما دونها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق مائة بدنة ولا خلاف في أن ذلك ليس بواجب فلا يجب أن تكون البدنة التي ذبحها على صفة بدن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنهم يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً في حجته ولذلك ذهبوا إلى تفضيل الأفراد فكيف يكون سوقه للبدنة دليلاً لهم في التمتع ولم يكن متمتعاً (فصل) وإنما يجب الدم بشروط خمسة (أولها) أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإن أحرم بها في غير أشهره لم يكن متمتعاً ولا يلزمه دم سواء وقعت أفعالها في أشهر الحج أو في غيره، نص عليه قال الأثرم سمعت أبا عبد الله سئل من أهل بعمرة في غير أشهر الحج ثم قدم في شوال أيحل في عمرته من شوال أو يكون متمتعاً؟ قال لا يكون متمتعاً واحتج بحديث جابر وذكر إسناده عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن امرأة تجعل على نفسها عمرة في شهر مسمى ثم يخلو إلا ليلة واحدة ثم تحيض، قال لتخرج ثم لتهل بعمرة، ثم لتنتظر حتى تطهر، ثم لتطف بالبيت، قال أبو عبد الله فجعل عمرتها في الشهر الذي حلت فيه ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً أن من اعتمر في غير أشهر الحج وفرغ من عمرته قبل أشهر الحج أنه لا يكون متمتعاً إلا قولين شاذين

(3/240)


(أحدهما) عن طاوس أنه قال: إذا اعتمرت في غير أشهر الحج ثم أقمت حتى الحج فأنت متمتع (والآخر) عن الحسن أنه قال: من اعتمر بعد النحر فهي متعة، قال إبن المنذر لا نعلم أحدا قال بواحد من هذين القولين، فأما إن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج ثم حل منها في أشهر الحج فإنه لا يكون متمتعاً على ما ذكرناه عن أحمد، ونقل معنى ذلك عن جابر وأبي عياض وهو قول إسحاق وأحد قولي الشافعي، وقال طاوس عمرته في الشهر الذي يدخل فيه الحرم، وقال الحسن والحكم وابن شبرمة والثوري والشافي في أحد قوليه عمرته في الشهر الذي يطوف فيه، وقال عطاء عمرته في الشهر الذي يحل فيه وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج فهو متمتع لأن العمرة صحت في أشهر الحج بدليل أنه لو وطئ أفسدها أشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج ولنا ما ذكرناه عن جابر ولأنه أتى بالنسك لا تتم العمرة إلا به في غير أشهر الحج فلم يكن متمتعاً كما لو طاف ويخرج عليه ما قاسوا عليه (الثاني) أن يحج من عامة فإن اعتمر في أشهر الحج فلم يحج ذلك العام بل حج في العام القابل فليس بمتمتع لا نعلم فيه خلافاً إلا قولاً شاذاً عن الحسن فيمن اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع حج أو لم يحج، والجمهور على خلاف هذا لأن الله تعالى قال (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) وهذا يقتضي الموالاة بينهما، ولأنهم إذا اجمعوا على أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج من عامه فليس بمتمتع فهذا أولى لأن التباعد بينهما أكثر (الثالث) أن لا يسافر بين العمرة والحج سفراً بعيداً تقصر في مثله الصلاة، نص عليه، وروي ذلك عن عطاء والمغيرة والمديني واسحق، وقال الشافعي إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه، وقال أصحاب الرأي إن رجع من مصره بطلت متعته وإلا فلا، وقال مالك إن رجع إلى مصرة أو إلى غيره أبعد من مصره بطلت متعته وإلا فلا، وقال الحسن هو متمتع وإن رجع إلى بلده، واختاره ابن المنذر لعموم قوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) الآية
ولنا ماروي عمر رضي الله عنه أنه قال إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع فإن خرج

(3/241)


ورجع فليس بمتمتع وعن ابن عمر نحو ذلك ولأنه إذا رجع إلى الميقات أو ما دونه لزمه الإحرام منه فإن كان بعيداً فقد أنشأ سفرا بعيداً لحجه فلم يترفه بترك أحد السفرين فلم يلزمه دم كموضع الوفاق والآية تناولت المتمتع وهذا ليس بمتمتع بدليل قول عمر رضي الله عنه (الرابع) أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج فإن أدخل الحج على العمرة قبل حله منها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يصير قارناً ولا يلزمه دم المتعة قالت عائشة رضي الله عنها خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج وعدي العمرة " قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال هذه عمرة مكان عمرتك، قال عروة فقضى الله حجتها وعمرتها ولم يكن في شئ من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة متفق عليه ولكن عليه دم للقران لأنه صار قارناً وترفه بسقوط أحد السفرين، فأما قول عروة لم يكن في ذلك هدي يحتمل أنه أراد لم يكن فيه هدي للمتعة إذ قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه بقرة بينهن (الخامس) أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ولا خلاف بين أهل العلم في أن دم المتعة لا يجب على حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) والمعنى في ذلك إن حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة ولا يحصل له الترفه بترك أحد السفرين ولأنه أحرم من ميقاته أشبه المفرد.
(فصل) وحاضرو المسجد الحرام أهل الحرم ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر نص عليه أحمد وروي ذلك عن عطاء وبه قال الشافعي وقال مالك: هم أهل مكة وقال مجاهد: هم أهل الحرم وروي ذلك عن طاوس وروي عن مكحول وأصحاب الرأي من دون المواقيت لأنه موضع شرع فيه النسك فأشبه الحرم
لونا أن حاضر الشئ من دنا منه ومن دون مسافة القصر قريب من حكم الحاضر بدليل أنه إذا قصده لا يترخص رخص المسافر من الفطر والقصر فيكون من حاضريه، وتحديده بالميقات

(3/242)


لا يصح لأنه قد يكون بعيداً يثبت له حكم السفر البعيد إذا قصده ولأن ذلك يفضي إلى جعل البعيد من حاضريه، والقريب من غير حاضريه لتفاوت المواقيت في القرب والبعد واعتباره بما ذكرنا أولى لأن الشارع حد الحاضر دون مسافة القصر بنفي أحكام المسافرين عنه فكان الاعتبار به أولى من الاعتبار بالنسك لوجود لفظ الحضور في الآية (فصل) إذا كان للمتمتع قريتان قريبة وبعيده فهو من حاضري المسجد الحرام لأنه إذا كان بعض أهله قريباً لم يوجد فيه الشرط وهو أن لا يكون أهله من حاضري المسجد الحرام، ولأن له أن يحرم من القريبة فلم يكن بالتمتع مترفها بترك أحد السفرين، وقال القاضي: له حكم القرية التي يقيم بها أكثر فإن استويا فمن التي ماله بها أكثر؟ فإن استويا فمن التي ينوي الإقامة بها أكثر؟ فإن استويا فله حكم القرية التي أحرم منها وقد ذكرنا دليل ما قلناه (فصل) فإن دخل الآفاقي مكة متمتعاً ناوياً الإقامة بها بعد تمتعه فعليه دم المتعة قال إبن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم ولو كان الرجل منشأة بمكة فخرج عنها منتقلاً مقيماً بغيرها ثم عاد إليها متمتعاً ناوياً للإقامة بها أو ناو فعليه دم متعة لأنه خرج بالانتقال عنها عن أن يكون من أهلها وبه قال مالك والشافعي واسحاق وذلك لأن حضور المسجد الحرام إنما حصل بنية الإقامة وفعلها وهذا إنما نوى الإقامة إذا فرغ من أفعال الحج لأنه إذا فرغ من عمرته فهو ناو للخروج إلى الحج فكأنه إنما نوى أن يقيم بعد وجوب الدم عليه فأما إن سافر المكي غير منتقل ثم عاد فاعتمر من الميقات وحج من عامة فلا دم عليه لأنه لم يخرج بذلك عن كون أهله من حاضري المسجد الحرام (فصل) وهذا الشرط الخامس شرط لوجوب الدم عليه وليس بشرط لكونه متمتعاً فإن متعة المكي صحيحة لأن التمتع أحد الإنساك الثلاثة فصح من المكي كالنسكين الآخرين ولأن حقيقة التمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامة وهذا موجود في المكي وقد نقل عن أحمد ليس على
أهل مكة متعة ومعناه ليس عليهم دم متعة لأن المتعة له لا عليه فتعين حمله على ما ذكرناه (فصل) إذا ترك الآفاقي الإحرام من الميقات وأحرم من دونه بعمرة ثم حل منها وأحرم بالحج من مكة من عامه فهو متمتع وعليه دمان دم المتعة ودم لإحرامه من دون الميقات.
قال إبن المنذر

(3/243)


وابن عبد البر أجمع العلماء على أن من أحرم في أشهر الحج بعمرة وحل منها ولم يكن من حاضري المسجد ثم أقام بمكة حلالاً ثم حج من عامه أنه متمتع عليه دم.
وقال القاضي إذا تجاوز الميقات حتى صار بينه وبين مكة أقل من مسافة القصر فأحرم منه فلا دم عليه للمتعة لأنه من حاضري المسجد الحرام وليس بجيد فإن حضور المسجد الحرام إنما يحصل بالإقامة به ونية ذلك، وهذا لم تحصل منه الإقامة ولا نيتها ولأن الله تعالى قال (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وهذا يقتضي أن يكون المانع من الدم السكنى به وهذا ليس بساكن، وإن أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم في أشهر الحج وحج من عامه فهو متمتع نص عليه أحمد وعليه دم وفي تنصيصه على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى، وذكر القاضي شرطاً سادساً لوجوب الدم وهو أن ينوي في ابتداء العمرة وفي أثنائها أنه متمتع وظاهر النص يدل على أن هذا غير مشترط فإنه لم يذكره، وكذلك الإجماع الذي ذكرناه مخالف لهذا القول لأنه قد حصل له الترفه بترك أحد السفرين فلزمه الدم كمن نوى (فصل في وقت وجوب الهدي وذبحه) أما وقت وجوبه فعن أحمد أنه يجب إذا أحرم بالحج وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن الله تعالى قال (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وهذا قد فعل ذلك ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) وعنه أنه يجب الدم إذا وقف بعرفه اختاره القاضي، وهو قول مالك لأن التمتع بالعمرة إلى الحج إنما يحصل بعد وجود الحج منه ولا يحصل ذلك إلا بالوقوف لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " ولأنه قبل ذلك بعرض الفوات فلا يحصل التمتع ولأنه لو احرم بالحج ثم أحصر أو فاته الحج لم يلزمه دم المتعة ولا كان متمتعاً ولو وجب الدم لما سقط وقال عطاء: يجب إذا رمى الجمرة.
ونحوه قال أبي الخطاب
قال: يجب إذا طلع الفجر يوم النحر لأنه وقت ذبحه فكان وقت وجوبه، وأما وقت ذبحه فيوم النحر، وبه قال مالك وأبو حنيفة لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز ذبح الأضحية فيه فلا يجوز ذبح الهدي الذي للمتمتع كما قبل التحلل من العمرة، وقال أبو الخطاب: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي قال ينحر بمكة وإن قدم قبل العشر نحره لا يضيع أو يموت أو

(3/244)


يسرق، وكذا قال عطاء: وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بنى لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا في العشر فلم ينحروا حتى نحروا بمنى.
ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته وأقام على إحرامه وكان قارنا، وقال الشافعي: يجوز نحره بعد الإحرام بالحج قولاً واحداً وفيما قبل ذلك بعد حله من العمرة احتمالان ووجه جوازه أنه دم يتعلق بالإحرام وينوب عنه الصيام فجاز قبل يوم النحر كدم الطيب ولأنه يجوز إذا بدله قبل يوم النحر فجاز اداؤه قبله كسائر الفديات (فصل) ويجب الدم على القارن في قول عامة أهل العلم ولا نعلم فيه خلافاً الا عن داود لأنه قال لا دم عليه وروي عن طاوس وحكى ابن المنذر إن ابن داود لما دخل مكة سئل عن القارن هل يجب عليه دم؟ فقال لا فجروا برحله وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم ولنا قوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وهذا متمتع بالعمرة إلى الحج بدليل أن عليا لما سمع عثمان ينهى عن المتعة أهل بالعمرة والحج ليعلم الناس أنه ليس بمنهي عنه وقال ابن عمر رضي الله عنهما إنما القران لأهل الآفاق وتلا قوله (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قرن بين حجته فليهريق دما " ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين فأشبه المتمتع فإن عدم الدم فعليه صيام كصيام المتمتع سواء ومن شرط وجوب الدم عليه أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام في قول جمهور العلماء.
وقال ابن الماجشون: عليه دم لأن الله تعالى إنما أسقط الدم عن المتمتع وليس هذا متمتعاً والصحيح الأول فإننا قد ذكرنا أنه متمتع وإن لم يكن متمتعاً فهو فرع عليه ووجوب الدم على القارن إنما كان معنى النص على المتمتع ولا يجوز أن يخالف الفرع عليه
(مسألة) (ومن كان مفرداً أو قارناً أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمره لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك إلا أن يكون معه هدي فيكون على إحرامه) إذا كان مع المفرد والقارن هدي فليس له أن يحل من إحرامه ويجعله عمرة بغير خلاف علمناه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة قال للناس " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شئ حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة

(3/245)


وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد ومن لم يحل هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه.
فأما من لا هدي معه فيستحب له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيته بالحج وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعاً إن لم يكن وقف بعرفة.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن من طاف بالبيت وسعى فقد حل وإن لم ينو ذلك وبهذا الذي ذكرناه قال مجاهد والحسن وداود وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يجوز له ذلك لأن الحج أحد النسكين فلم يجز فسخه كالعمرة.
وروى ابن ماجة عن بلال بن الحارث المزني عن أبيه أنه قال يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن يأتي قال " لنا خاصة " وروي أيضاً عن المرقع الأسدي عن أبي ذر رضي الله عنه قال كان ما أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا مكة أن نجعلها عمرة ونحل من كل شئ إن تلك كانت لنا خاصة رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون جميع الناس ولنا أنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي في أحاديث كثيرة متفق عليها بحيث يقرب من المتواتر ولم يختلف في صحة ذلك وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من أهل العلم علمناه.
وذكر أبو حفص في شرحه بإسناده عن إبراهيم الخرقي وقد سئل عن فسخ إلى العمرة فقال قال سلمة بن شبيب لاحمد ابن حنبل يا أبا عبد الله: كل شئ منك حسن جميل إلا خلة واحدة فقال وما هي؟ قال تقول نفسخ الحج قال احمد ما كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً كلها في فسخ الحج أتركها لقولك، وقد روى فسخ الحج إلى العمرة ابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله
عنهم وأحاديثهم متفق عليها ورواه غيرهم من وجوه صحاح.
قال جابر: أهللنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصاً وحده وليس معه غيره فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فلما قدمنا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إن نحل قال أحلوا وأصيبوا من النساء قال فبلغه عنا أنا نقول لم يكن بيننا وبين عرفة لا خمس ليال أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا بالمني قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي تحللت كما تحلون فحلوا، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اهديت " قال فحللنا وسمعنا وأطعنا، قال فقال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي

(3/246)


متعتنا هذه يارسول الله لعامنا هذا أم للأبد؟ فظنه محمد بن أبي بكر أنه قال: للأبد متفق عليه، فأما حديثهم فقال أحمد روى هذا الحديث الحرث بن بلال، فمن الحارث بن بلال؟ يعني أنه مجهول ولم يروه إلا الداروردي، وحديث أبي ذر رواه مرقع الأسدي، فمن مرقع الأسدي؟ شاعر من أهل الكوفة لم يلق أبا ذر، فقيل له أفليس قد روى الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال كانت لنا متعة الحج خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفيقول هذا أحد؟ المتعة في كتاب الله؟ وقد أجمع الناس على أنها جائزة، قال الجوزجاني مرقع الأسدي ليس بالمشهور، ومثل هذه الأحاديث في ضعفها وجهالة رواتها لا تقبل إذا انفردت فكيف تقبل في رد حكم ثابت بالتواتر مع أن قول أبي ذر من رأيه، وقد خالفه من هو أعلم منه، وقد شذ به عن الصحابة رضي الله عنهم فلا يكون حجة، وأما قياسهم فلا يقبل في مقابلة النص الصحيح على أن قياس الحج على العمرة في هذا لا يصح فإنه يجوز قلب الحج إلى العمرة في حق من فاته الحج ومن حصر عن عرفة والعمرة لا تصير حجاً بحال، ولأن فسخ الحج إلى العمرة يصير به متمتعاً فحصل الفضيلة وفسخ العمرة إلى الحج يفوت الفضيلة، ولا يلزم من مشروعية ما يحصل الفضيلة مشروعية ما يفوتها (فصل) وإذا فسخ الحج إلى العمرة صار متمتعاً حكمه حكم المتمتعين في وجوب الدم وغيره، وقال القاضي لا يجب الدم لأن من شرط وجوبه أن ينوي في ابتداء العمرة أو في انتهائها أنه متمتع، وهذه دعوى لا دليل عليها تخالف عموم الكتاب وصريح السنة الثابتة فإن الله تعالى قال (فمن تمتع
بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وفي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهدي، ومن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه، ولأن وجوب دم المتعة للترفه بسقوط أحد السفرين، وهذا المعنى لا يختلف بالنية وعدمها فوجب أن لا يختلف في الوجوب على أنه لو ثبت أن النية شرط فقد وجدت فانه ماحل حتى نوى أنه يحل ثم يحرم بالحج (مسألة) ولو ساق المتمتع الهدي لم يكن له أن يحل لقول الله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى

(3/247)


يبلغ الهدي محله) ولما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس من كان معه هدي فإنه لا يحل من شئ حرم منه حتى يقضي حجته متفق عليه وهذا مذهب أبي حنيفة وقال مالك والشافعي في قول: له التحلل وينحر هديه عند المروة ويحتمله كلام الخرقي ولنا ما ذكرنا من الآية وحديث ابن عمر وروت حفصة رضي الله عنها أنها قالت يارسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أغت من عمرتك؟ قال " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر " متفق عليه والأحاديث في ذلك كثيرة وعن أحمد فيمن قدم متمتعاً في أشهر الحج وساق الهدي قال: إن دخلها في العشر لم ينحر الهدي حتى ينحره يوم النحر وإن قدم قبل العشر نحر الهدي، وهذا يدل على أن المتمتع إذا قدم قبل العشر حل وإن كان معه هدي وهذا قول عطاء رواه حنبل في المناسك وقال من لبد أو ضفر فهو بمنزلة من ساق الهدي لحديث حفصة والرواية الأولى أولى لما ذكرنا من الحديث الصحيح وهو أولى بالاتباع (فصل) فأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل بكل حال في أشهر الحج وغيرها كان معه هدي أو لم يكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى عمرته التي مع حجته بعضهن في ذي القعدة فكان يحل فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره من الحرم جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل فجاج مكة طريق ومنحر " رواه أبو داود وابن ماجة
(مسألة) (والمرأة إذا دخلت متمعة فحاضت فخشيت فوات الحج أحرمت بالحج وصارت قارنة) إذا حاضت المتمتعة قبل طواف العمرة لم يكن لها أن تطوف بالبيت لأنه صلاة ولأنها ممنوعة من دخول المسجد ولا يمكنها أن تحل من عمرتها قبل الطواف فإذا خشيت فوات الحج أحرمت بالحج من عمرتها وصارت قارنة، هذا قول مالك والاوزاعي والشافعي وكثير من أهل العلم، وقال أبو حنيفة قد رفضت العمرة وصار حجا وما قال هذا أحد غير أبي حنيفة وحجته ما روى عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت أهللت بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي

(3/248)


العمرة قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال هذه عمرة مكان عمرتك متفق عليه دليل على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج من وجوه.
(أحدها) قوله (دعي عمرتك) و (الثاني) قوله (وامتشطي) و (الثالث) قوله (هذه عمرة مكان عمرتك) ولنا ما روى جابر قال: أقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال " ما شأنك؟ " قالت شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن فقال " إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج " ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال " قد حللت من حجتك وعمرتك " قالت يارسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال " فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم " وروى طاوس عن عائشة أنها قالت أهللت بعمرة فقدمت ولم أطف حتى حضت فنسكت المناسك كلها، وقد أهللت بالحج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك " فأبت فبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرها من التنعيم.
رواهما مسلم وهما يدلان على جميع ما ذكرنا، ولأن إدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات فمع خشيته أولى، وقال
ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لمن أهل بالعمرة أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز رفضها كغير الحائض، فأما حديث عروة فإن قوله " انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة " انفرد به عروة وخالف به كل من روي عن عائشة حين حاضت وقد روي ذلك طاوس والقاسم والاسود وغيره عن عائشة فلم يذكروا ذلك، وحديث جابر وطاوس مخالفان لهذه الزيادة

(3/249)


وقد روى حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة حديث حيضها فقال فيه حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها " دعي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي " وذكر تمام الحديث، وهذا يدل على أنه لم يسمع من عائشة هذه الزيادة وهو مع ما ذكرنا من مخالفة بقية الرواة يدل على الوهم مع مخالفتها للكتاب والأصول إذ ليس لنا موضع آخر يجوز فيه رفض العمرة مع إمكان إتمامها، ويحتمل أن قوله " دعي العمرة " أي دعيها بحالها وأهلي بالحج معها أو دعي أفعال العمرة فإنها تدخل في أفعال الحج، فأما العمرة من التنعيم فلم يأمرها بها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال " فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم " وروى الأثرم باسناده عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قال: قلت اعتمرت بعد الحج؟ قالت والله ما كانت عمرة ما كانت إلا زيارة ورب البيت إنما هي مثل نفقتها.
قال أحمد: إنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين ألحت عليه فقالت يرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك فقال " يا عبد الرحمن أعمرها " فنظر إلى أدنى الحل فأعمرها منه (مسألة) (ومن أحرم مطلقا صح وله صرفه إلى ما شاء) يصح الإحرام بالنسك المطلق وهو أن لا يعين حجاً ولا عمرة لأنه إذا صح الإحرام مع الإبهام صح مع الإطلاق قياساً عليه، فإذا أحرم مطلقاً فله صرفه إلى ما شاء من الإنساك لأن له أن يبتدئ
الإحرام بأيها شاء فكان له صرف المطلق إلى ذلك.
والأولى صرفه إلى العمرة لأنه إن كان في غير أشهر الحج فالإحرام بالحج مكروه أو ممتنع، وإن كان في أشهر الحج فالعمرة أولى لأن التمتع أفضل وقد قال أحمد يجعله عمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها عمرة كذا هذا

(3/250)


(مسألة) (وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان انعقد إحرامه بمثله) يصح إبهام الإحرام وهو أن يحرم بما أحرم به فلان لما روى أبو موسى رضي الله عنه قال قدمت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال لي بما أهللت؟ فقلت لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أحسنت " فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال " حل " متفق عليه وروى جابر وأنس أن عليا قدم من اليمن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بما أهللت؟ فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر في حديثه قال " فاهد وامكث إحراماً " وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن معي هديا لحللت " متفق عليهما ولا يخلو من أبهم إحرامه من أربعة أحوال (أحدها) أن يعلم ما أحرم به فلان فينعقد حرامه بمثله فان علياً رضي الله عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فإن معي الهدي فلا تحل " (الثاني) أن لا يعلم ما أحرم به فلان فيكون حكمه حكم الناسي على ما سنذكره إن شاء الله تعالى (الثالث) أن يكون فلان قد أحرم مطلقاً فيكون حكمه حكم الفصل الذي قبله (الرابع) أن لا يعلم هل أحرم فلان أو لا فحكمه حكم من لم يحرم لأن الأصل عدم إحرامه فيكون إحرامه ههنا مطلقاً يصرفه إلى ما شاء فإن صرفه قبل الطواف وقع طوافه عما صرف إليه، وإن طاف قبل صرفه لم يعتد بطوافه لأنه طاف لا في حج ولا عمرة

(3/251)


(مسألة) (وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد إحرامه بإحداهما)
إذ أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بإحداهما ولغت الأخرى، وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة ينعقد بهما وعليه قضاء إحداهما لأنه أحرم بها ولم يتمها ولنا أنهما عبادتان لا يلزمه المضي فيهما فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين، وعلى هذا لو أفسد حجه وعمرته لم يلزمه إلا قضاؤها وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما معا بناء على صحة احرامه بهما (مسألة) (وإن أحرم بنسك ونسيه جعله عمرة وقال القاضي يصرفه إلى ما شاء) أما إذا أحرم بنسك ونسيه قبل الطواف فله صرفه إلى أي الإنساك شاء فإنه إن صرفه إلى عمرة وكان المنسي عمرة فقد أصاب وان كان حجا مفرداً أو قارناً فله فسخهما إلى العمرة على ما ذكرناه وإن صرفه إلى القران وكان المنسي قرانا فقد أصاب وإن كان عمرة فادخال الحج على العمرة جائز قبل الطواف فيصير قارناً، وإن كان مفرداً لغا إحرامه بالعمرة، وصح حجه، وسقط فرضه وإن صرفه إلى الإفراد وكان مفرداً فقد أصاب وإن كان متمتعاً فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارناً في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى وهو يظن أنه مفرد وإن كان قارناً فكذلك والمنصوص عن أحمد أنه يجعله عمرة قال القاضي هذا على سبيل الاستحباب لأنه إذا أستحب ذلك مع العلم فمع عدمه أولى وقال أبو حنيفة يصرفه إلى القران، وهو قول الشافعي الجديد، وقال في القديم يتحرى فيبني على غالب ظنه لأنه من شرائط العبادة فيدخله التحري كالقبلة ومبني الخلاف على فسخ الحج إلى العمرة فإنه جائز عندنا ولا يجوز عندهم فعلى هذا إن صرفه إلى المتعة فهو متمتع عليه دم المتعة ويجزئه عن الحج والعمرة جميعاً وإن صرفه إلى إفراد أو قران لم يجزه عن العمرة إذ من المحتمل أن يكون المنسي حجاً مفرداً

(3/252)


وليس له إدخال العمرة على الحج فتكون صحة العمرة مشكوكاً فيها فلا تسقط بالشك ولا دم عليه لذلك فانه لم يثبت حكم القران يقينا فلا يجب الدم مع الشك في سببه، ويحتمل أن يجب وأما إن شك بعد الطواف لم يجز صرفه إلا إلى العمرة لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز إلا أن يكون معه هدي فإن صرفه إلى حج أو قران فإنه يتحلل بفعل الحج ولا يجزئه واحد من النسكين لأنه يحتمل أن يكون حجاً وإدخال العمرة عليه غير جائز فلم يجزه عن واحد منهما مع
الشك ولا دم عليه للشك فيما يوجب الدم ولا قضاء عليه للنسك فيما يوجبه، وإن شك وهو في الوقوف بعد الطواف والسعي جعله عمرة فقصر، ثم أحرم بالحج فإنه إن كان المنسي عمرة فقد أصاب وكان متمتعاً، وإن كان إفراداً أو قراناً لم ينفسخ بتقصيره وعليه دم بكل حال لأنه لا يخلو إما أن يكون متمتعاً عليه دم المتعة أو غير متمتع فلزمه دم لتقصيره، وإن شك ولم يكن طاف وسعى جعله قراناً لأنه إن كان قرانا فقد أصاب، وإن كان معتمراً فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارناً، وإن كان مفرداً لغا إحرامه بالعمرة وصح إحرامه بالحج، وإن صرفه إلى الحج جاز أيضاً، ولا يجزئه عن العمرة في هذه المواضع لاحتمال أن يكون مفرداً وإدخال العمرة على الحج غير جائز ولا دم عليه للشك في وجود سببه (مسألة) (وإن أحرم عن رجلين وقع عن نفسه) إذا استنابه اثنان في النسك فأحرم عنهما به وقع عن نفسه دونهما لأنه لا يمكن وقوعه عنهما،

(3/253)


وليس أحدهما أولى به من الآخر، وإن أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه لأنه إذا وقع عن نفسه ولم ينوها فمع نيته أولى (مسألة) (وإن أحرم عن أحدها لا بعينه وقع عن نفسه، وقال أبو الخطاب له صرفه إلى أيهما شاء) أما إذا أحرم عن أحدهما غير معين فإنه يقع عن نفسه أيضاً لأن أحدهما ليس أولى من الآخر أشبه المسألة قبلها.
ويحتمل أن يصح وله صرفه إلى أيهما شاء اختاره أبو الخطاب لأن الإحرام يصح بالمجهول فصح عن المجهول كما لو احرم مطلقاً فان لم يفعل حتى طاف شوطاً وقع عن نفسه ولم يكن له صرفه إلى أحدهما لأن الطواف لا يقع عن غير معين (مسألة) (وإذا استوى على راحلته لبى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " تستحب التلبية إذا استوى على راحلته لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وأدنى أحوال الأمر الاستحباب.
وروى سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يلبي إلا
لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا " وتستحب البداية بها إذا استوى على راحلته لما روى أنس وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ركب راحته واستوت

(3/254)


به أهل رواه البخاري.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل يعني لبى ومعنى الإهلال رفع الصوت من قولهم استهل الصبي إذا صاح والأصل فيه أنهم كانوا إذا رأوا الهلال صاحوا فقيل لكل صائح مستهل وإنما يرفع بالتلبية وهذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم روى ابن عمر في المتفق عليه إن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " رواه مسلم عن جابر.
والتلبية مأخوذه من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال أنا أقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك، ولا شارد عليك هذا ونحوه.
وثنوها وكرروها لأنهم أرادوا إقامة بعد إقامة كما لو قالوا حنانيك أي رحمة بعد رحمة أو رحمه مع رحمه أو ما أشبهه.
وقال جماعة من العلماء معنى التلبية إجابة نداء إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال.
لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج قال: رب وما يبلغ صوتي قال أذن

(3/255)


وعلي البلاغ فنادى إبراهيم أيها الناس كتب عليكم الحج فسمعه ما بين السماء والأرض أفلا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون ويقولون لبيك إن الحمد (بكسر الهمزة) نص عليه أحمد والفتح جائز والكسر أجود قال ثعلب: من قال إن بالفتح فقد خص ومن قال بكسر الألف فقد عم يعني أي أن من كسر فقد جعل الحمد لله على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك لأن الحمد لك أي لهذا السبب (فصل) ولا تستحب الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكره ونحوه.
وقال الشافعي وابن المنذر لقول جابر فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته وكان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد مع هذا لبيك لبيك، لبيك وسعديك والخير
بيديك والرغباء إليك والعمل متفق عليه وزاد عمر رضي الله عنه لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرهوباً ومرغوباً اليك لبيك هذا معناه رواه الأثرم ويروى أن أنساً كان يزيد: لبيك حقاً حقا، تعبداً ورقا.
ففي هذا دليل على أنه لا بأس بالزيادة ولا تستحب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها: وقد روي أن سعداً سمع بعض بني أخيه وهو يلبي يا ذا المعارج فقال إنه لذو المعارج وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (مسألة) (والتلبية سنة ويستحب رفع الصوت بها والإكثار منها والدعاء بعدها) التلبية سنة كما ذكرنا وليست واجبة، وبه قال الشافعي وعن أصحاب مالك أنها واجبة يجب

(3/256)


الدم بتركها، وعن الثوري وأبى حنيفة أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج) قال الإهلال، وعن عطاء وطاوس وعكرمة هي التلبية ولأن النسك عبادة ذات إحلال وإحرام فكان في أولها ذكر واجب كالصلاة ولنا أنها ذكر فلم تجب في الحج كسائر الإذكار، وفارق الصلاة فإن النطق في آخرها يجب فوجب في أولها بخلاف الحج، ويستحب رفع الصوت بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال " العج والثج " حديث غريب: العج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة الدماء بالذبح والنحر وروى الترمذي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أتاني جبريل يأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " وهو حديث حسن صحيح، وقال أنس: سمعتهم يصرخون بها صراخاً وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية.
وقال سالم: كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأتي الروحاء حتى يصحل صوته، ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيته (فصل) ويستحب الإكثار منها على كل حال لما روى ابن ماجة عن عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مامن مسلم يضحي (1) لله يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه " رواه ابن ماجه
(فصل) ولا يستحب رفع الصوت بها في مساجد الأمصار ولا في الأمصار إلا في مكة والمسجد

(3/257)


الحرام لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يلبي بالمدينة فقال: إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت وهذا قول مالك.
وقال الشافعي يلبي في المساجد كلها ويرفع صوته لعموم الحديث ولنا قول ابن عباس ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت عامة إلا الإمام خاصة فوجب إبقاؤها على عمومها فأما مكة فتستحب التلبية فيها لأنها محل النسك وكذلك المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم كمسجد منى وفي عرفات أيضاً (فصل) ويتسحب الدعاء بعدها فيسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ويدعو بما أحب لما روى الدارقطني بإسناده عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه، واستعاذه برحمته من النار.
وقال القاسم بن محمد: يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه الدعاء، ولأن الدعاء مشروع مطلقاً فتأكدت مشروعيته بعد ذكر الله تعالى.
ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرعت فيه الصلاة على رسوله كالصلاة، أو فشرع فيه ذكر رسوله كالأذان (فصل) ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته.
قال أحمد: إن شئت لبيت بالحج وإن شئت لبيت بعمرة وإن شئت لبيت بحج وعمرة فقلت لبيك بحجة وعمرة.
وقال أبو الخطاب: لا يستحب ويروى عن ابن عمر وهو قول الشافعي لأن جابرا قال: ما سمى النبي صلى الله عليه وسلم في تلبيته

(3/258)


حجاً ولا عمرة، وسمع ابن عمر رجلاً يقول لبيت بعمرة فضرب صدره قال تعلمه ما في نفسك ولنا ما روى أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لبيك عمرة وحجا " وقال جابر: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول لبيك بالحج وقال ابن عباس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يلبون بالحج، وقال ابن عمر: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج متفق على هذه الأحاديث.
وقال أنس: سمعتهم يصرخون بهما صراخاً رواه البخاري، وهذه الأحاديث أصح من حديثهم وأكثر، وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه فإن النسائي روي بإسناده عن الضبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعاً ثم ذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس فإن النية محلها القلب والله سبحانه عالم بها (فصل) ولا يلبي بغير العربية إلا أن يعجز عنها لأنه ذكر مشروع فلا يشرع بغير العربية كالأذان والإذكار المشروعة في الصلاة (فصل) وإن حج عن غيره كفاه مجرد النية عنه قال أحمد لا بأس بالحج عن الرجل ولا يسميه وإن ذكره في التلبية فحسن قال أحمد إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان، ثم لا يبالي أن لا يقول بعد ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سمعه يلبي عن شبرمة " لب عن نفسك ثم لب عن شبرمة "

(3/259)


ومتى لبى بالحج والعمرة بدأ بذكر العمرة نص عليه أحمد وذلك لقول أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لبيك عمرة وحجا " (مسألة) (ويلبي إذا علا نشزاً أو هبط وادياً وفي دبر الصلوات المكتوبات.
وإقبال الليل والنهار وإذا التقت الرفاق) التلبية مستحبة في جميع الأوقات ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع منها الستة المذكورة، والسابع إذا فعل محظورا ناسياً، الثامن (1) إذا سمع ملبياً لما روى جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي في حجته إذا لقي راكباً أو علا أكمة أو هبط وادياً وفي دبر الصلوات المكتوبة ومن آخر الليل: وقال إبراهيم النخعي كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة، وإذا هبط واديا، وإذا علا نشزاً، وإذا لقي راكباً وإذا استوت به راحلته، وبهذا قال الشافعي وقد كان قبل يقول مثل قول مالك لا يلبي عند اصطدام الرفاق والحديث يدل عليه وكذلك قول النخعي (فصل) ويجزئ من التلبية دبر الصلاة مرة واحدة قال الأثرم قلت لأبي عبد الله ماشئ يفعله
العامة يلبون في دبر الصلاة ثلاثاً؟ فتبسم وقال ما أدري من أين جاؤا به قلت أليس يجزئه مرة واحدة؟ قال بلى وذلك لأن المروي التلبية مطلقاً من غير تقييد وذلك يحصل بمرة واحدة وهكذا التكبير في أدبار الصلوات الخمس في أيام الأضحى وأيام التشريق.
وإن زاد فلا بأس لأن ذلك زيادة ذكر وخير وتكراره ثلاثاً حسن فإن الله وتر يحب الوتر

(3/260)


(فصل) ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم، وبه قال ابن عباس وعطاء بن السائب وربيعة ابن عبد الرحمن وابن أبي ليلى وداود والشافعي، وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال: لا يلبي حول البيت، وقال ابن عينية: ما رأينا أحداً يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب.
وقال أبو الخطاب: لا يلبي وهو قول للشافعي لأنه مشتغل بذكر يخصه فكان أولى ولنا أنه زمن التلبية فلم يكره له كما لو لم يكن حول البيت ويمكن الجمع بين التلبية والذكر المشروع في الطواف، ويكره له رفع الصوت بالتلبية حول البيت لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم واذكارهم (فصل) ولا بأس أن يلبي الحلال، وبه قال الحسن والنخعي وعطاء بن السائب والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وكره هذا مالك ولنا أنه ذكر مستحب للمحرم فلم يكره لغيره كسائر الاذكار (مسألة) (ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بقدر ما تسمع نفسها) قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تسمع نفسها، وبهذا قال عطاء ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن سليمان بن يسار أنه قال: السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها ولهذا لا يسن لها اذان ولا إقامة، والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح

(3/261)