الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الطهارة]
[باب حكم الماء الطاهر]
[كتاب] الطهارة باب حكم الماء الطاهر
يجوز التطهر من الحدث والنجاسة بكل ماء نزل من السماء: من
(1/15)
المطر، وذوب الثلج والبرد؛ لقول الله
تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ
بِهِ} [الأنفال: 11]
(1/16)
وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد» متفق عليه. وبكل ماء نبع
من الأرض، من العيون، والبحار، والآبار، لما
(1/17)
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا
رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، أفنتوضأ بماء
البحر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو الطهور
ماؤه الحل ميتته» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(1/18)
و «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يتوضأ من بئر بضاعة» رواه النسائي.
فصل:
فإن سخن بالشمس، أو بطاهر، لم تكره الطهارة به؛ لأنها صفة خلق عليها الماء،
فأشبه ما لو برده، وإن سخن بنجاسة يحتمل وصولها إليه، ولم
(1/19)
يتحقق فهو طاهر؛ لأن الأصل طهارته، فلا
تزول بالشك، ويكره استعماله لاحتمال النجاسة. وذكر أبو الخطاب رواية أخرى:
أنه لا يكره؛ لأن الأصل عدم الكراهة. وإن كانت النجاسة لا تصل إليه غالباً،
ففيه وجهان:
أحدهما: يكره؛ لأنه يحتمل النجاسة، فكره كالتي قبلها.
والثاني: لا يكره؛ لأن احتمال النجاسة بعيد، فأشبه غير المسخن.
وإن خالط الماء طاهر لم يغيره، لم يمنع الطهارة به؛
(1/20)
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «اغتسل هو وزوجته من قصعة فيها أثر العجين» رواه النسائي وابن
ماجه والأثرم [و] لأن الماء باق على إطلاقه.
فإن كان معه ماء يكفيه لطهارته فزاده مائعاً لم يغيره، ثم [تطهر] به، صح
لما ذكرنا.
وإن كان الماء لا يكفيه لطهارته، فكذلك؛ لأنه المائع استهلك في الماء كالتي
قبلها.
وفيه وجه آخر: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه أكملها بغير الماء، فأشبه ما لو
غسل به بعض أعضائه.
(1/21)
وإن غير الطاهر صفة الماء لم يخل من أوجه
أربعة:
أحدها: ما يوافق الماء في الطهورية، كالتراب، وما أصله الماء كالملح
المنعقد من الماء، فلا يمنع الطهارة به؛ لأنه يوافق الماء في صفته، أشبه
الثلج.
والثاني: ما لا يختلط بالماء كالدهن والكافور والعود، فلا يمنع؛ لأنه تغير
عن مجاورة، فأشبه ما لو تغير الماء بجيفة بقربه.
الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب وسائر ما ينبت في الماء، وما يجري
عليه الماء من الكبريت والقار وغيرهما، وورق الشجر على السواقي والبرك، وما
تلقيه الرياح والسيول في الماء من الحشيش والتبن ونحوهما، فلا يمنع؛ لأنه
لا يمكن صون الماء عنه.
الرابع: ما سوى هذه الأنواع، كالزعفران والأشنان والملح المعدني، وما لا
ينجس بالموت كالخنافس والزنابير، وما عفي عنه لمشقة التحرز إذا ألقي في
الماء قصداً، فهذا إن غلب على أجزاء الماء مثل أن جعله صبغاً، أو حبراً، أو
طبخ فيه، سلبه الطهورية
(1/22)
[بغير] خلاف؛ لأنه زال اسم الماء، فأشبه
الخل.
وإن غير إحدى صفاته طعمه أو لونه أو ريحه، ولم يطبخ فيه، فأكثر الروايات عن
أحمد أنه لا يمنع؛ لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}
[النساء: 43] ، ولأنه خالطه طاهر لم يسلبه اسمه، ولا رقته، ولا جريانه،
أشبه سائر الأنواع. وعنه: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه سلب إطلاق اسم الماء،
أشبه ماء الباقلاء المغلي، وهذا اختيار الخرقي، وأكثر الأصحاب.
فصل:
فإن استعمل في رفع الحدث، فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «صب على جابر من وضوئه» رواه البخاري. ولأنه لم يصبه نجاسة
فكان طاهراً، كالذي تبرد به.
(1/23)
وهل تزول طهوريته؟
فيه روايتان:
أشهرهما: زوالها؛ لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء أشبه المتغير بالزعفران.
والثانية: لا تزول؛ لأنه استعمال لم يغير الماء، أشبه التبرد به.
وإن استعمل في طهارة مستحبة، كالتجديد وغسل الجمعة، والغسلة الثانية
والثالثة، فهو باق على إطلاقه؛ لأنه لم يرفع حدثاً، ولم يزل نجساً.
وعنه: أنه غير مطهر؛ لأنه مستعمل في طهارة شرعية، أشبه المستعمل في رفع
الحدث.
(1/24)
فصل:
وإن استعمل في غسل نجاسة، فانفصل متغيراً بها، أو قبل زوالها، فهو نجس؛
لأنه متغير بنجاسة، أو ملاق لنجاسة لم يطهرها، فكان نجساً، كما لو وردت
عليه.
وما انفصل من الغسلة التي طهرت المحل غير متغير، فهو طاهر إن كان المحل
أرضاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر أن يصب على
بول الأعرابي ذنوب من ماء» متفق عليه.
فلو كان المنفصل نجساً لكان تكثيراً للنجاسة.
وإن كان غير الأرض، ففيه وجهان:
أظهرهما: طهارته كالمنفصل عن الأرض، ولأن البلل الباقي في المحل طاهر،
والمنفصل بعض المتصل، فكان حكمه حكمه.
والثاني: هو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى نجاسة فتنجس بها، كما لو وردت عليه.
فإن قلنا بطهارته، فهل يكون مطهراً؟ على وجهين بناء على الروايتين في
المستعمل
(1/25)
في رفع الحدث، وقد مضى توجيههما.
فصل:
وإذا انغمس المحدث في ماء يسير ينوي به رفع الحدث، صار مستعملاً؛ لأنه
استعمل في رفع الحدث، ولم يرتفع حدثه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه وهو جنب»
رواه مسلم. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه،
(1/26)
ولأنه بأول جزء انفصل منه صار مستعملاً،
فلم يرتفع الحدث عن سائره.
(1/27)
فصل:
وما سوى الماء من المائعات كالخل والمرق والنبيذ، وماء الورد، والمعتصر من
الشجر، لا يرفع حدثاً، ولا يزيل نجساً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فأوجب التيمم على من لم يجد
ماء، «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم
الحيض يصيب الثوب: تحتيه ثم تقرصيه ثم تنضحيه بالماء ثم تصلي فيه» متفق
عليه. فدل على أنه لا يجوز بغيره. والله أعلم.
[باب الماء النجس]
إذا وقع في الماء نجاسة فغيرته، نجس بغير خلاف؛ لأن تغيره لظهور أجزاء
النجاسة فيه.
وإن لم تغيره لم يخل من حالين:
أحدهما: أن يكون قلتين فصاعداً، فهو طاهر لما روى ابن عمر رضي الله
(1/28)
عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، «سئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: إذا كان
الماء قلتين لم يحمل الخبث» رواه الأئمة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي
لفظ: «لم ينجسه شيء» وروى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل:
يا رسول
(1/29)
الله، أتتوضأ من بئر بضاعة وهي: بئر يلقى
فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء» . قال
أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح.
قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فوجدتها ستة أذرع، ولأن الماء الكثير
لا يمكن حفظه في الأوعية، فعفي عنه كالذي لا يمكن نزحه.
الثاني: ما دون القلتين، ففيه روايتان:
أظهرهما: نجاسته؛ لأن قوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء» يدل على أن
ما لم يبلغهما ينجس، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات» متفق عليه. فدل على
نجاسته من غير تغيير، ولأن الماء اليسير يمكن حفظه [في الأوعية] فلم يعف
عنه، وجعلت القلتان حداً بين القليل والكثير.
والثانية: هو طاهر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الماء طهور لا ينجسه شيء» . وروى أبو
(1/30)
أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «الماء طهور لا ينجسه إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو
ريحه» رواه ابن ماجه. ولأنه لم يتغير بالنجاسة أشبه الكثير.
فصل:
وفي قدر القلتين روايتان:
إحداهما: [أنهما] أربعمائة رطل بالعراقي؛ لأنه روي عن ابن جريج ويحيى بن
عقيل: أن القلة تأخذ قربتين، وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصارت
القلتان بهذه المقدمات أربعمائة رطل.
والثانية: هما خمسمائة رطل؛ لأنه يروى عن ابن جريج أنه قال: رأيت قلال هجر،
فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئاً. فالاحتياط أن يجعل الشيء
نصفاً فيكونان خمس قرب.
وهل ذلك تحديد أو تقريب؟
(1/31)
فيه وجهان:
أظهرهما: أنه تقريب، فلو نقص رطل أو رطلان لم يؤثر؛ لأن القربة إنما جعلت
مائة رطل تقريباً، والشيء إنما جعل نصفاً احتياطاً، والغالب أنه يستعمل
فيما دون النصف، وهذا لا تحديد فيه.
والثاني: أنه تحديد، فلو نقص شيئاً يسيراً تنجس بالنجاسة؛ لأنا جعلنا ذلك
احتياطاً، وما وجب الاحتياط به صار فرضاً، كغسل جزء من الرأس مع الوجه.
فصل:
وجميع النجاسات في هذا سواء إلا بول الآدميين، وعذرتهم المائعة، فإن أكثر
الروايات عن أحمد أنها تنجس الماء الكثير؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم
يغتسل منه» متفق عليه. إلا أن يبلغ حداً
(1/32)
لا يمكن نزحه، كالغدران والمصانع بطريق
مكة، فذلك الذي لا ينجسه شيء؛ لأن «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن البول في الماء الدائم» ينصرف إلى ما كان في أرضه على عهده
من آبار المدينة ونحوها.
وعنه أنه كسائر النجاسات لعموم الأحاديث التي ذكرناها، ولأن البول كغيره من
النجاسات في سائر الأحكام، فكذلك في تنجيس الماء، وحديث البول لا بد من
تخصيصه، فنخصه بخبر القلتين.
فصل:
وإذا وقعت النجاسة في ماء فغيرت بعضه فالمتغير نجس، وما لم يتغير إن بلغ
قلتين فهو طاهر لعموم الأخبار فيه، ولأنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة، فكان
طاهراً كما لو لم يتغير فيه شيء. وإن نقص عنهما فهو نجس؛ لأنه ماء يسير
لاقى ماء نجسا فنجس به. فإذا كان بين الغديرين ساقية فيها ماء يتصل بهما
فهما ماء واحد.
(1/33)
فصل:
فأما الماء الجاري إذا تغير بعض جريانه بالنجاسة، فالجرية المتغيرة نجسة،
وما أمامها طاهر؛ لأنها لم تصل إليه، وما وراءها طاهر؛ لأنه لم يصل إليها.
وإن لم يتغير منه شيء، احتمل أنه لا ينجس؛ لأنه ماء كثير يتصل بعضه ببعض
فيدخل في عموم الأخبار السابقة أولاً، فلم ينجس كالراكد. ولو كان ماء
الساقية راكداً لم ينجس إلا بالتغير، فالجاري أولى لأنه أحسن حالاً.
وجعل أصحابنا المتأخرون كل جرية كالماء المنفرد، فإذا كانت النجاسة في جرية
تبلغ قلتين، فهي طاهرة ما لم تتغير. وإن كان دون القلتين فهي نجسة، وإن
كانت النجاسة واقفة، فكل جرية تمر عليها إن بلغت قلتين، فهي طاهرة وإلا فهي
نجسة. وإن اجتمعت الجريات، فكان في الماء قلتان طاهرتان، متصلة لاحقة، أو
سابقة، فالمجتمع كله طاهر، إلا أن يتغير بالنجاسة؛ لأن القلتين تدفعان
النجاسة عن نفسهما ويطهرهما ما اجتمع معهما، وإن لم يكن فالجميع نجس،
والجرية ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها وما قرب منها مع
ما يحاذي ذلك فيما بين طرفي النهر.
(1/34)
فصل:
وهو ثلاثة أقسام:
ما دون القلتين: فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين، إما أن ينبع فيه، أو
يصب عليه، وسواء كان متغيراً فزال تغيره أو غير متغير فبقي بحاله.
الثاني: قدر القلتين، فتطهيره بالمكاثرة المذكورة، أو بزوال تغيره بمكثه.
الثالث: الزائد عن القلتين، فتطهيره بهذين الأمرين، أو بنزح يزيل تغيره
ويبقى بعده قلتان، ولا يعتبر صب الماء دفعة واحدة؛ لأن ذلك يشق، لكن يصبه
على حسب ما أمكنه من المتابعة، إما أن يجريه من ساقية، أو يصبه دلواً
فدلواً. وإن كوثر بماء دون القلتين، أو طرح فيه تراب، أو غير الماء، لم
يطهره؛ لأن ذلك لا يدفع النجاسة عن نفسه، فلم يطهره الماء، كما لو طرح فيه
مسك، ويتخرج أن يطهره؛ لأنه تغير الماء، فأشبه ما لو زال بنفسه، ولأن علة
التنجيس في الماء الكثير التغير، فإذا زالت زال حكمها، كما لو زال تغير
المتغير بالطاهرات.
(1/35)
فأما ما دون القلتين، فلا يطهر بزوال
التغير؛ لأن العلة فيه المخالطة لا التغير.
فصل:
فإن اجتمع نجس إلى نجس، فالجميع نجس وإن كثر؛ لأن اجتماع النجس إلى النجس
لا يتولد بينهما طاهر، كالمتولد بين الكلب والخنزير، ويتخرج أن يطهر إذا
زال التغير، وبلغ القلتين، لما ذكرناه، وإن اجتمع مستعمل إلى مثله، فهو باق
على المنع، فإن اجتمع إلى طهور يبلغ قلتين، فالكل طهور؛ لأن القلتين تزيل
حكم النجاسة، فالاستعمال أولى، فإن اجتمع مستعمل إلى طهور دون القلتين،
وكان المستعمل يسيراً، عفي عنه؛ لأنه لو كان مائعاً غير الماء، عفي عنه،
فالمستعمل أولى وإن كثر؛ بحيث لو كان مائعاً غلب على أجزاء الماء، منع
كغيره من الطاهرات.
[باب الشك في الماء]
إذا شك في نجاسته لم يمنع الطهارة به، سواء وجده متغيراً أو غير متغير؛ لأن
الأصل الطهارة، والتغير يحتمل أن يكون من مكثه، أو بما لا يمنع، فلا يزول
بالشك.
وإن تيقن نجاسته، ثم شك في طهارته، فهو نجس؛ لأن الأصل نجاسته.
(1/36)
وإن علم وقوع النجاسة فيه، ثم وجده متغيراً
تغيراً يجوز أن يكون منها، فهو نجس؛ لأن الظاهر تغيره بها.
وإن أخبره ثقة بنجاسة الماء، لم يقبل حين يعين سببها لاحتمال اعتقاده
نجاسته بما لا ينجسه، كموت ذبابة فيه، وإن عين سببها، لزمه القبول، رجلاً
كان أو امرأة، بصيراً أو أعمى؛ لأنه خبر ديني، فلزمه قبوله كرواية الحديث،
ولأن للأعمى طريقاً إلى العلم بالحس والخبر، ولا يقبل خبر كافر، ولا صبي
ولا مجنون ولا فاسق؛ لأن روايتهم غير مقبولة.
وإن أخبره أن كلباً ولغ في هذا الإناء دون هذا وقال آخر: إنما ولغ في هذا
الإناء دون ذاك حكم بنجاستهما؛ لأنه يمكن صدقهما، لكونهما في وقتين. أو
كانا كلبين. وإن عينا كلباً ووقتاً لا يمكن شربه فيه منهما، تعارضا وسقط
قولهما؛ لأنه لا يمكن صدقهما، ولم يترجح أحدهما.
(1/37)
[فصل في اشتباه
الماء النجس بالطاهر]
فصل:
وإن اشتبه الماء النجس بالطاهر، تيمم، ولم يجز له استعمال أحدهما، سواء كثر
عدد الطاهر أو لم يكثر. وحكي عن أبي علي النجاد أنه إذا كثر عدد الطاهر،
فله أن يتحرى ويتوضأ بالطاهر عنده؛ لأن احتمال إصابة الطاهر أكثر، والأول
المذهب؛ لأنه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة، فلم يجز التحري
كما لو كان النجس بولاً، أو كثر عدد النجس أو اشتبهت أخته بأجنبيات، ولأنه
لو توضأ بأحدهما ثم تغير اجتهاده في الوضوء الثاني، فتوضأ بالأول، لتوضأ
بماء يعتقد نجاسته، وإن توضأ بالثاني من غير غسل أثر الأول، تنجس يقيناً،
وإن غسل أثر الأول، نقض اجتهاده باجتهاده، وفيه حرج ينتفي بقوله سبحانه:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فتركهما
أولاً أولى.
وهل يشترط لصحة التيمم إراقتهما أو خلطهما؟ فيه روايتان:
إحداهما: يشترط ليتحقق عدم الطاهر.
والثانية: لا يشترط؛ لأن الوصول إلى الطاهر متعذر، واستعماله ممنوع منه،
فلم يشترط عدمه كماء الغير.
(1/38)
وإن اشتبه مطلق بمستعمل، توضأ من كل إناء
وضوءاً لتحصل له الطهارة بيقين، وصلى صلاة واحدة. وإن اشتبهت الثياب
الطاهرة بالنجسة، وأمكنه الصلاة في عدد النجس، وزيادة صلاة، لزمه ذلك؛ لأنه
أمكنه تأدية فرضه يقيناً من غير مشقة، فلزمه كما لو اشتبه المطلق
بالمستعمل، وإن كثر عدد النجس، فذكر ابن عقيل أنه يصلي في أحدها بالتحري؛
لأن اعتبار اليقين يشق، فاكتفي بالظاهر، كما لو اشتبهت القبلة.
[أقسام الحيوان]
فصل:
وهو ثلاثة أقسام:
(1/39)
طاهر، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: الآدمي متطهراً كان، أو محدثاً، لما روى أبو هريرة، قال: «لقيني
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جنب فانخنست منه،
فاغتسلت، ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله ! كنت
جنباً، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إن المؤمن
ليس بنجس» متفق عليه. وعن عائشة: «أنها كانت تشرب من الإناء، وهي حائض
فيأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع فاه على موضع
فيها فيشرب» رواه مسلم.
النوع الثاني: ما يؤكل لحمه، فهو طاهر بلا خلاف.
الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، وهو السنور، وما دونها في الخلقة، لما روت
كبشة بنت كعب بن مالك، قالت: «دخل علي أبو قتادة، فسكبت له وضوءاً، فجاءت
هرة، فأصغى لها الإناء حتى شربت، فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة
أخي؟! قلت: نعم، قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» رواه الترمذي،
وقال: حديث حسن صحيح. دل بمنطوقه على طهارة الهرة، وبتعليله على طهارة ما
دونها، لكونه مما يطوف علينا، ولا يمكن التحرز عنه، كالفأرة ونحوها، فهذا
سؤره وعرقه وغيرهما طاهر.
القسم الثاني: نجس، وهو: الكلب والخنزير، وما تولد منهما فسؤره نجس، وجميع
أجزائه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ
الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً»
(1/40)
متفق عليه. ولولا نجاسته ما وجب غسله،
والخنزير شر منه؛ لأنه منصوص على تحريمه، ولا يباح إنقاذه بحال. وكذلك ما
تولد من النجاسات كدود الكنيف وصراصره؛ لأنه متولد من نجاسة، فكان نجساً،
كولد الكلب.
القسم الثالث: مختلف فيه، وهو ثلاثة أنواع كذلك:
أحدها: سائر سباع البهائم والطير، وفيهما روايتان:
إحداهما: أنها نجسة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل
عن الماء وما ينوبه من السباع فقال: إذا كان الماء قلتين، لم ينجسه شيء»
فمفهومه: أنه ينجس إذا لم يبلغهما، ولأنه حيوان حرم لخبثه يمكن التحرز عنه،
فكان نجساً كالكلب.
والثانية: أنها طاهرة لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها
السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة بها، فقال: لها ما أخذت في أفواهها،
ولنا ما غبر طهور» رواه ابن ماجه.
ومر عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص بحوض، فقال عمرو: يا صاحب الحوض! ترد على
حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرد عليها، وترد
علينا. رواه مالك في الموطأ.
النوع الثاني: الحمار الأهلي والبغل، ففيهما روايتان:
(1/41)
إحداهما: نجاستهما، «لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحمر يوم خيبر: إنها رجس» متفق عليه،
ولما ذكرنا في السباع.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأنه قال: إذا لم يجد غير سؤرهما، تيمم معه، ولو شك
في نجاسته، لم يبح استعماله، ووجهها ما روى جابر أن رسول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت
السباع كلها» رواه الشافعي في مسنده. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يركب الحمار والبغال، وكان الصحابة يقتنونها ويصحبونها في
أسفارهم، فلو كانت نجسة، لبين لهم نجاستها، ولأنه لا يمكن التحرز عنها
لمقتنيها، فأشبهت الهر ويحكم بطهارته، ويجوز بيعها، فأشبهت مأكول اللحم.
النوع الثالث: الجلالة وهي: التي أكثر علفها النجاسة، ففيها روايتان:
إحداهما: نجاستها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى
عن ركوب الجلالة وألبانها» ، رواه أبو داود. ولأنها تنجست بالنجاسة، والريق
لا يطهر.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأن الضبع والهر يأكلان النجاسة، وهما طاهران.
وحكم أجزاء الحيوان من جلده وشعره وريشه حكم سؤره؛ لأنه من أجزائه، فأشبه
فمه، فإذا وقع في الماء ثم خرج حياً، فحكم ذلك حكم سؤره.
قال أحمد في فأرة سقطت في ماء، ثم خرجت حية: لا بأس به.
(1/42)
فصل:
إذا أكلت الهرة نجاسة، ثم شربت من ماء بعد غيبتها، لم ينجس؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنها ليست بنجس» مع علمه بأكلها
النجاسات. وإن شربت قبل الغيبة، فقال أبو الحسن الآمدي: ظاهر قول أصحابنا:
طهارته؛ للخبر. ولأننا حكمنا بطهارتها بعد الغيبة، واحتمال طهارتها بها شك
لا يزيل يقين النجاسة.
وقال القاضي: ينجس؛ لأن أثر النجاسة في فمها، بخلاف ما بعد الغيبة، فإنه
يحتمل أن تشرب من ماء يطهر فاها، فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك.
[فصل في أقسام الحيوان الطاهر]
فصل:
والحيوان الطاهر على أربعة أضرب:
أحدها: ما تباح ميتته، كالسمك ونحوه، والجراد وشبهه فميتته طاهرة؛ لقول
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والحل ميتته» .
والثاني: ما ليست له نفس سائلة، كالذباب والعقارب والخنافس، فهو طاهر حياً
وميتاً، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وقع
الذباب في إناء أحدكم، فامقلوه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء»
رواه البخاري بمعناه فأمر بمقله؛ ليكون شفاء
(1/43)
لنا إذا أكلنا، ولأنه لا نفس له سائلة،
أشبه دود الخل إذا مات فيه.
والثالث: الآدمي، ففيه روايتان:
أظهرهما: أنه طاهر بعد الموت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن المؤمن ليس بنجس» ولأنه لو كان نجس العين، لم يشرع غسله،
كسائر النجاسات.
والثانية: هو نجس، قال أحمد في صبي مات في بئر: تنزح، وذلك لأنه حيوان له
نفس سائلة أشبه الشاة.
والرابع: ما عدا ما ذكرنا، مما له نفس سائلة لا تباح ميتته، فميتته نجسة،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]
وقوله [تعالى] : {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ
لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] .
[باب الآنية]
وهي ضربان:
مباح من غير كراهة: وهو إناء طاهر من غير جنس الأثمان، ثميناً كان أو
(1/44)
غير ثمين، كالياقوت والبلور والعقيق والخزف
والخشب والجلود والصفر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
اغتسل من جفنة، وتوضأ من تور من صفر، وتور من حجارة، ومن قربة وإداوة.
والثاني: محرم، وهو آنية الذهب والفضة، لما روى حذيفة أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا
تأكلوا من صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» ، وقال: «الذي
يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليهما.
فتوعد عليه بالنار، فدل على تحريمه، ولأن فيه سرفاً وخيلاء، وكسر قلوب
الفقراء، ولا يحصل هذا في [ثمين] الجواهر؛ لأنه لا يعرفها إلا خواص الناس،
ويحرم اتخاذها، لأن ما حرم استعماله، حرم اتخاذه [على] هيئة الاستعمال،
كالطنبور، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لعموم الخبر. وإنما أبيح للنساء
التحلي للحاجة إلى الزينة للأزواج، فما عداه تجب التسوية فيه بين الجميع،
وما ضبب بالفضة أبيح إذا كان يسيراً، لما روى أنس «أن
(1/45)
قدح الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة.» رواه البخاري.
ولا يباح الكثير؛ لأن فيه سرفاً، فأشبه الإناء الكامل، واشترط أبو الخطاب
أن يكون لحاجة؛ لأن الرخصة وردت في شعب القدح، وهو لحاجة. ومعنى الحاجة أن
تدعو الحاجة إلى ما فعله به، وإن كان غيره يقوم مقامه. وقال القاضي: يباح
من غير حاجة لأنه يسير، إلا أن أحمد كره الحلقة؛ لأنها تستعمل، وتكره
مباشرة الفضة بالاستعمال، فأما الذهب، فلا يباح إلا في الضرورة، كأنف
الذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رخص لعرفجة بن
سعد لما قطع أنفه يوم الكلاب واتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره أن يتخذ
أنفاً من الذهب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ويباح ربط أسنانه
بالذهب إذا خشي سقوطها؛ لأنه في معنى أنف الذهب. وذكر أبو بكر في " التنبيه
" أنه يباح يسير الذهب. وقال أبو الخطاب: ولا بأس بقبيعة السيف بالذهب؛ لأن
سيف عمر كان فيه سبائك من ذهب. ذكره الإمام أحمد. وعن مزيدة العصري قال:
«دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح وعلى سيفه
ذهب وفضة» . رواه الترمذي، وقال: هو حديث غريب.
[التطهر من آنية الذهب والفضة]
فصل:
فإن تطهر من آنية الذهب والفضة، ففيه وجهان:
أحدهما: تصح طهارته، وهذا قول الخرقي؛ لأن الوضوء جريان الماء على العضو
وليس بمعصية، وإنما المعصية استعمال الإناء.
والثاني: لا تصح، اختاره أبو بكر؛ لأنه استعمال للمعصية في العبادة، أشبه
(1/46)
الصلاة في الدار المغصوبة.
[فصل في استعمال آنية أهل الكتاب]
فصل:
وهم ضربان:
أحدهما: من لا يستحل الميتة كاليهود، فأوانيهم طاهرة [مباحة الاستعمال] ؛
«لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضافه يهودي بخبز وإهالة
سنخة فأجابه» ، رواه أحمد في المسند وتوضأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
من جرة نصرانية.
والثاني: من يستحل الميتات والنجاسات، كعبد الأوثان والمجوس، وبعض النصارى،
فلما لم يستعملوه من آنيتهم، فهو طاهر، وما استعملوه فهو نجس، لما روى أبو
ثعلبة الخشني [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «قلت: يا رسول الله، إنا
بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها، إلا أن لا
تجدوا غيرها، فاغسلوها، ثم
(1/47)
كلوا فيها» متفق عليه. وما شك في استعماله
فهو طاهر، وذكر أبو الخطاب أن أواني الكفار كلها طاهرة.
وفي كراهية استعمالها روايتان:
إحداهما: تكره، لهذا الحديث.
والثانية: لا تكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل
فيها.
[فصل في حكم ثياب الكفار]
فأما ثياب الكفار، فما لم يلبسوه، أو علا من ثيابهم كالعمامة والطيلسان،
فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا
يلبسون ثياباً من نسج الكفار. وما لاقى عوراتهم، فقال أحمد: أحب إلي أن
يعيد إذا صلى فيها، فيحتمل وجوب الإعادة، وهو قول القاضي؛ لأنهم يتعبدون
بالنجاسة، ويحتمل أن لا تجب، وهو قول أبي الخطاب؛ لأن الأصل الطهارة، فلا
تزول بالشك.
[فصل في حكم طهارة الميتة]
فصل:
وجلود الميتة نجسة، ولا تطهر بالدباغ في ظاهر المذهب؛ لقول الله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والجلد جزء منها. وروى
أحمد عن يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن
عكيم قال: «قرئ علينا كتاب رسول الله في أرض جهينة، وأنا غلام شاب: أن لا
تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» .
(1/48)
قال أحمد: ما أصلح إسناده، [تعجب منه] .
ولأنه جزء من الميتة، نجس بالموت، فلم يطهر كاللحم. وعنه: يطهر منها جلد ما
كان طاهراً حال الحياة، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة،
فقال: ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به؟ قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما
حرم أكلها» متفق عليه.
ولا يطهر جلد ما كان نجساً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «نهى عن جلود السباع وعن مياثر النمور» رواه الأثرم. ولأن أثر الدبغ في
إزالة نجاسة حادثة بالموت، فيعود الجلد إلى ما كان عليه قبل الموت، كجلد
الخنزير.
وهل يعتبر في طهارة الجلد المدبوغ أن يغسل بعد دبغه؟ على وجهين:
أحدهما: لا يعتبر، لما روى ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] عن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر»
متفق عليه.
والثاني: يعتبر؛ لأن الجلد محل النجس، فلا يطهر بغير الماء، كالثوب.
فصل:
وعظم الميتة وقرنها وظفرها وحافرها نجس لا يطهر بحال؛ لأنه جزء من
(1/49)
الميتة فيدخل في عموم قول الله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والدليل على أنه منها قول
الله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] . ولأن
دليل الحياة الإحساس والألم، والضرس يألم ويحس بالضرس، برد الماء وحرارته،
وما فيه حياة يحله الموت، فينجس به كاللحم.
فصل:
وصوفها ووبرها وشعرها وريشها طاهر لأنه لا روح له، فلا يحله الموت؛ لأن
الحيوان لا يألم بأخذه، ولا يحس، ولأنه لو كانت فيه حياة لنجس بفصله من
الحيوان في حياته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما
أبين من حي فهو ميت» رواه أبو داود بمعناه.
فصل:
وحكم شعر الحيوان وريشه حكمه في الطهارة والنجاسة، متصلاً كان أو منفصلاً
في حياة الحيوان أو موته، فشعر الآدمي طاهر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس» . رواه الترمذي،
وقال: حديث حسن واتفق على معناه. ولولا طهارته لما فعل، ولأنه شعر حيوان
طاهر، فأشبه شعر الغنم.
(1/50)
فصل:
ولبن الميتة نجس؛ لأنه مائع في وعاء نجس، وإنفحتها نجسة لذلك، وعنه: أنها
طاهرة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أكلوا من جبن المجوس، وهو
يصنع بالإنفحة، وذبائحهم ميتة. فأما البيضة: فإن صلب قشرها، لم تنجس، كما
لو وقعت في شيء نجس، وإن لم يصلب، فهي كاللبن.
وقال ابن عقيل: لا تنجس إذا كان عليها جلدة تمنع وصول النجاسة إلى داخلها.
(1/51)
فصل:
وكل ذبح لا يفيد إباحة اللحم لا يفيد طهارة المذبوح، كذبح المجوسي، ومتروك
التسمية، وذبح المحرم للصيد، وذبح الحيوان غير المأكول؛ لأنه ذبح غير
مشروع، فلم يطهر كذبح المرتد.
[باب السواك وغيره]
السواك سنة مؤكدة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» متفق عليه. وعنه -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أنه قال: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» رواه
الإمام أحمد في المسند، ويتأكد استحبابه في أوقات ثلاثة: عند الصلاة؛ لما
ذكرنا، وإذا قام من النوم؛ لما روى حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
«كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل
يشوص فاه بالسواك» ، متفق عليه. ولأن النائم ينطبق فمه ويتغير. والثالث:
عند تغير الفم بمأكول أو خلو معدته، ولأن السواك شرع لتنظيف الفم، وإزالة
رائحته. ويستحب في سائر الأوقات؛ لما روى شريح بن هانئ، قال: «سألت عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأي شيء كان يبدأ
(1/52)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك» . رواه مسلم.
قال ابن عقيل: لا يختلف المذهب أنه لا يستحب السواك للصائم بعد الزوال؛
لأنه يزيل خلوف فم الصائم، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك،
ولأنه أثر عبادة مستطاب شرعاً، فلم يستحب إزالته، كدم الشهداء. وهل يكره؟
على روايتين:
إحداهما: يكره لذلك.
والثانية: لا يكره؛ لأن عامر بن ربيعة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» . قال الترمذي:
هذا حديث حسن، ويستاك بعود لين ينقي الفم، ولا يجرحه ولا يتفتت فيه، وكان
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستاك بعود أراك، ولا يستاك
بعود رمان؛ لأنه يضر بلحم الفم، ولا عود ريحان؛ لأنه يروى أنه يحرك عرق
الجذام، فإن استاك بأصبعه أو خرقة، لم يصب السنة؛ لأنها لم ترد به، ولا
يسمى سواكاً، [قال ابن عبد القوي على القول المجود] : ويحتمل أن يصيب؛
(1/53)
لأنه يحصل من الإنقاء بقدره.
فصل:
ومن السنة تقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة، لما روى أبو
هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب،
وتقليم الأظافر، ونتف الإبط» متفق عليه.
فصل:
ويجب الختان؛ لأنه من ملة إبراهيم، فإنه روي «أن إبراهيم - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، ختن نفسه» متفق عليه. وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]
ولأنه يجوز كشف العورة من أجله، ولولا أنه واجب ما جاز النظر إليها لفعل
مندوب.
(1/54)
فإن كان كبيراً وخاف على نفسه من الختان،
سقط وجوبه.
[باب فرائض الوضوء وسننه]
أول فرائضه: النية: وهي شرط لطهارة الأحدث كلها، الغسل، والوضوء، والتيمم؛
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات،
وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه. ولأنها عبادة محضة، فلم تصح من غير نية،
كالصلاة.
ومحل النية: القلب؛ لأنها عبارة عن القصد، ويقال: نواك بخير، أي: قصدك به.
ومحل القصد القلب، ولا يعتبر أن يقول بلسانه شيئاً، فإن لفظ بما نواه كان
آكد. وموضع وجوبها عند المضمضة؛ لأنها أول واجباته، ويستحب تقديمها على غسل
اليدين والتسمية، لتشمل مفروض الوضوء ومسنونه. ويستحب استدامة ذكرها في
سائر وضوئه، فإن عزبت في أثنائها جاز؛ لأن النية في أول العبادة تشمل جميع
أجزائها كالصيام، وإن تقدمت النية الطهارة بزمن يسير، وعزبت عنه في
(1/55)
أولها، جاز؛ لأنها عبادة، فلم يشترط اقتران
النية بأولها كالصيام.
وصفتها: أن ينوي رفع الحدث، أي: إزالة المانع من الصلاة أو الطهارة، لأمر
لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، وإن نوى الجنب بغسله قراءة
القرآن صح؛ لأنه يتضمن رفع الحدث، وإن نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة،
كلبس ثوبه ودخول بيته والأكل، لم يرتفع حدثه؛ لأنه ليس بمشروع، أشبه
التبرد، وإن نوى ما يستحب له الطهارة، كقراءة القرآن، وتجديد الوضوء وغسل
الجمعة والجلوس في المسجد والنوم، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه لا يفتقر
إلى رفع الحدث أشبه لبس الثوب، والأخرى: يرتفع حدثه؛ لأنه يشرع له فعل هذا،
وهو غير محدث، وقد نوى ذلك، فينبغي أن تحصل له، ولأنها طهارة صحيحة، فرفعت
الحدث، كما لو نوى رفعه. وإن نوى رفع الحدث والتبرد، صحت طهارته؛ لأنه أتى
بما يجزئه، وضم إليه ما لا ينافيه، فأشبه ما لو نوى بالصلاة العبادة
والإدمان على السهر، فإن نوى طهارة مطلقة، لم يصح؛ لأن منها ما لا يرفع
الحدث، وهو الطهارة من النجاسة. وإن نوى رفع حدث بعينه، فهل يرتفع غيره؟
على وجهين: قال أبو بكر: لا يرتفع؛ لأنه لم ينوه، أشبه إذا لم ينو شيئاً.
وقال القاضي: يرتفع؛ لأن الأحداث تتداخل، فإن ارتفع بعضها ارتفع جميعها،
وإن نوى صلاة واحدة نفلاً
(1/56)
أو فرضاً لا يصلي غيرها، ارتفع حدثه، ويصلي
ما شاء؛ لأن الحدث إذا ارتفع لم يعد إلا لسبب جديد، ونيته للصلاة تضمنت رفع
الحدث، وإن نوى نية صحيحة ثم غير نيته، فنوى التبرد في غسل بعض الأعضاء، لم
يصح ما غسله للتبرد، فإن أعاد غسل العضو بنية الطهارة، صح، ما لم يطل
الفصل.
فصل:
ثم يقول: بسم الله. وفيها روايتان:
إحداهما: أنها واجبة في طهارات [الأحداث] كلها، اختارها أبو بكر، لما روى
أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا
وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» . قال أحمد: حديث أبي سعيد أحسن شيء في
الباب.
والثانية: أنها سنة اختارها الخرقي. قال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه:
أنه لا بأس به إذا ترك التسمية؛ لأنها عبادة، فلا تجب فيها التسمية كغيرها،
وضعف أحمد الحديث فيها، وقال: ليس يثبت في هذا حديث، واختلف من أوجبها في
سقوطها بالسهو، فمنهم من قال: لا تسقط كسائر واجبات الطهارة ومنهم من
أسقطها؛ لأن الطهارة عبادة تشتمل على مفروض ومسنون، فكان من فروضها ما
يسقطه السهو، كالصلاة والحج، فإن ذكرها في أثناء وضوئه، سمى حيث
(1/57)
ذكر.
ومحل التسمية اللسان؛ لأنها ذكر، وموضعها بعد النية، ليكون مسمياً على جميع
الوضوء.
فصل:
في غسل الكفين: ثم يغسل كفيه ثلاثاً؛ «لأن عثمان وعبد الله بن زيد - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، وصفا وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقالا: فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات» . متفق
عليهما، ولأن اليدين آلة نقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلهما احتياط لجميع
الوضوء، ثم إن كان لم يقم من نوم الليل، فغسلهما مستحب؛ لما روى أبو هريرة
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من
نومه، فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت
يده» متفق عليه. ولم يذكر البخاري "ثلاثاً". فتخصيصه هذه الحالة بالأمر،
دليل على عدم الوجوب في غيرها.
وإن قام في نوم الليل ففيه روايتان:
إحداهما: أنه واجب، اختارها أبو بكر لظاهر الأمر، فإن غمسهما قبل
(1/58)
غسلهما، صار الماء مستعملاً؛ لأن النهي عن
غمسهما يدل على أنه يفيد منعاً، وإن غسلهما دون الثلاث، ثم غمسهما، فكذلك؛
لأن النهي باق، وغمس بعض يده كغمس جميعها، ويفتقر غسلهما إلى النية؛ لأنه
غسل وجب تعبداً، أشبه الوضوء.
والرواية الثانية: ليس بواجب، اختارها الخرقي؛ لأن اليد عضو لا حدث عليه
ولا نجاسة، فأشبهت سائر الأعضاء، وتعليل الحديث يدل على أنه أريد به
الاستحباب؛ لأنه علل بوهم النجاسة، ولا يزال اليقين بالشك، فإن غمسهما في
الماء فهو باق على إطلاقه.
فصل:
ثم يتمضمض ويستنشق؛ لأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مضمض واستنشق، وهما واجبان في الطهارتين؛
لقول الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وهما داخلان في
حد الوجه، ظاهران، يفطر الصائم بوصول القيء إليهما، ولا يفطر بوضع الطعام
فيهما، ولا يحد بوضع الخمر فيهما، ولا يحصل الرضاع بوصول اللبن إليهما،
ويجب غسلهما من النجاسة، فيدخلان في عموم الآية.
وعنه: الاستنشاق وحده واجب؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-[أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال] : «إذا توضأ أحدكم،
فليجعل في أنفه، ثم لينتثر» متفق عليه. وعنه: أنهما واجبان في الكبرى دون
الصغرى؛ لأنها طهارة تعم جميع البدن ويجب فيها غسل ما تحت الشعور، وتحت
الخفين.
(1/59)
ويستحب المبالغة فيهما، إلا أن يكون
صائماً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للقيط بن
صبرة: «وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً» حديث صحيح. وصفة المبالغة
اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف، ولا يجعله سعوطاً، وفي المضمضة، إدارة
الماء في أقاصي الفم، ولا يجعله وجوراً، وهو مخير بين أن يمضمض ويستنشق
ثلاثاً من غرفة أو من ثلاث غرفات؛ لأن في حديث عبد الله بن زيد أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «مضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك
ثلاثاً» ، وفي لفظ: «أدخل يده في الإناء، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً
بثلاث غرفات» ، متفق عليهما. وإن شاء فصل بينهما؛ لأن جد طلحة بن مصرف قال:
«رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يفصل بين المضمضة
والاستنشاق» . رواه أبو داود. ولا يجب الترتيب بينهما وبين الوجه؛ لأنهما
منه، لكن تستحب البداءة بهما اقتداءً برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
فصل:
ثم يغسل وجهه، وذلك فرض بالإجماع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]
(1/60)
وحده من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما
انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، ولا اعتبار
بالأصلع الذي ينحسر شعره عن ناصيته، ولا الأفرع الذي ينزل شعره على جبهته.
فإن كان في الوجه شعر كثيف يستر البشرة، لم يجب غسل ما تحته؛ لأنه باطن
أشبه [باطن] أقصى الأنف، ويستحب تخليله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلل لحيته. وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «كان إذا توضأ، أخذ كفاً
من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي، عز وجل»
رواه أبو داود.
وإن كان يصف البشرة، وجب غسل الشعر والبشرة.
وإن كان بعضه خفيفا، وبعضه كثيفاً، وجب غسل ظاهر الكثيف، وبشرة الخفيف معه.
وسواء في هذا شعر اللحية والحاجبين، والشارب والعنفقة؛ لأنها شعور معتادة
في الوجه، أشبهت اللحية.
(1/61)
وفي المسترسل من اللحية عن حد الوجه
روايتان:
إحداهما: لا يجب غسله؛ لأنه شعر نازل عن محل الفرض، أشبه الذؤابة في الرأس.
والثاني: يجب؛ لأنه نابت في بشرة الوجه، أشبه الحاجب. ويدخل في حد الوجه
العذار، [وهو: الشعر الذي على العظم الناتئ سمت صماخ الأذن إلى الصدغ.
والعارض: الذي تحت العذار] . والذقن: وهو مجتمع اللحيين، ويخرج منه
النزعتان، وهما: ما ينحسر عنهما الشعر في فودي الرأس؛ لأنهما من الرأس،
لدخولهما فيه. والصدغ: وهو الذي عليه الشعر في حق الغلام، محاذ لطرف الأذن
الأعلى؛ لأنه شعر متصل بالرأس ابتداء، فكان من الرأس كسائره، وقد مسحه
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع رأسه في حديث الربيع.
ويستحب أن يزيد في ماء الوجه؛ لأن فيه غضوناً وشعوراً، ودواخل وخوارج،
ويمسح مآقيه، ويتعاهد المفصل وهو البياض الذي بين اللحية والأذن، فيغسله.
ولا يجب غسل داخل العينين. ولا يستحب؛ لأنه لا يؤمن الضرر من
(1/62)
غسلهما.
فصل:
ثم يغسل يديه إلى المرفقين، وهو فرض بالإجماع، لقول الله تعالى:
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . ويجب غسل المرفقين؛
لأن جابراً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه» ، رواه الدارقطني،
وفيه: " دار الماء " وهذا يصلح بياناً؛ لأن " إلى " تكون بمعنى " مع "
كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] [أي: مع
الله] ، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]
.
ويجب غسل أظفاره، وإن طالت، والأصبع الزائدة، والسلعة؛ لأن ذلك من يده، وإن
كانت له يد زائدة أصلها في محل الفرض، وجب غسلها؛ لأنها نابتة في محل
الفرض، أشبهت الأصبع، وإن نبتت في العضد أو المنكب، لم يجب غسلها وإن حاذت
محل الفرض؛ لأنها في غير محل الفرض، فهي كالقصيرة. وإن كانت له يدان
متساويتان على منكب واحد، وجب غسلهما؛ لأن إحداهما ليست أولى من الأخرى.
وإن تقلعت جلدة من الذراع، فتدلت من العضد، لم يجب غسلها؛ لأنها صارت من
العضد، وإن تقلعت من العضد، فتدلت من الذراع، وجب غسلها؛ لأنها متدلية من
محل الفرض. وإن تقلعت من إحداهما، فالتحم رأسها بالأخرى، وجب غسل ما حاذى
محل الفرض منها؛ لأنها كالجلد الذي عليهما، فإن كانت متجافية في وسطها، غسل
ما تحتها من محل الفرض. وإن كان أقطع فعليه غسل ما بقي من محل الفرض، فإن
لم يبق منه شيء، سقط الغسل، ويستحب أن يمس محل القطع بالماء، لئلا يخلو
العضو من طهارة.
(1/63)
وتستحب البداءة بغسل اليمنى من يديه
ورجليه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يحب التيمن
في ترجله وتنعله وطهوره، وفي شأنه كله» . متفق عليه. فإن بدأ باليسرى جاز؛
لأنهما كعضو واحد، بدليل قوله سبحانه: {وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]
{وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] فجمع بينهما.
فصل:
ثم يمسح رأسه، وهو فرض بغير خلاف، لقول الله تعالى: {وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وهو ما ينبت عليه الشعر المعتاد في الصبي مع
النزعتين. ويجب استيعابه بالمسح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] والباء للإلصاق، فكأنه قال: امسحوا رؤوسكم،
وصار كقوله سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
[المائدة: 6] قال ابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض، فقد جاء أهل اللغة
بما لا يعرفونه. وظاهر قول الإمام أحمد: المرأة يجزئها مسح مقدم الرأس؛ لأن
عائشة كانت تمسح مقدم رأسها، وعنه في الرجل: أنه يجزئه مسح بعضه؛ لأن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسح
(1/64)
بناصيته وعمامته» . رواه مسلم.
وكيفما مسح الرأس أجزأ، بيد واحدة، أو بيدين، إلا أن المستحب أن يمر يديه
من مقدم رأسه إلى قفاه، ثم يعيدهما إلى الموضع الذي بدأ منه، لأن عبد الله
بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في صفة وضوء النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة
واحدة» ، متفق عليه. ولا يستحب تكرار المسح، لأن أكثر من وصف وضوء النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مسح مرة واحدة، ولأنه ممسوح
في طهارة، أشبه التيمم. وعنه: يستحب تكراره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «توضأ ثلاثا ثلاثا. وقال: " هذا وضوئي ووضوء
المرسلين قبلي» رواه ابن ماجه. ولأنه أصل في الطهارة، أشبه الغسل.
(1/65)
والأذنان في الرأس يمسحان معه، لقول النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأذنان من الرأس» رواه أبو داود.
وروت الربيع بنت معوذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مسح
برأسه، وصدغيه، وأذنيه، مسحة واحدة» . رواه الترمذي، وقال حديث [حسن] صحيح.
ويستحب إفرادهما بماء جديد لأنهما كالعضو المنفرد، وإنما هما من الرأس على
وجه التبع، ولا يجزئ مسحهما عنه لذلك، وظاهر كلام أحمد أنه لا يجب مسحهما
لذلك، ويستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، ويجعل إبهاميه لظاهرهما، ولا
يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، ولا يجزئ مسحه عن الرأس سواء رده فعقده
فوق رأسه أو لم يرده، لأن الرأس ما ترأس وعلا، ولو أدخل يده تحت الشعر،
فمسح البشرة دون الظاهر لم يجزه، لأن الحكم تعلق بالشعر فلم يجزه مسح غيره،
ولو مسح رأسه ثم حلقه، أو غسل عضوا ثم قطع جزعا منه أو جلده، لم يؤثر في
طهارته، لأنه ليس ببدل عما تحته، فلم يلزمه بظهوره طهارة، فإن أحدث بعد ذلك
غسل ما ظهر لأنه صار ظاهرا، فتعلق الحكم به، ولو حصل في بعض أعضائه شق أو
ثقب، لزمه غسله لأنه صار ظاهرا.
فصل:
ثم يغسل رجليه إلى الكعبين، وهو فرض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ
إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]
(1/66)
ويدخل الكعبين في الغسل لما ذكرنا في
المرفقين، ولا يجزئ مسح الرجلين، لما روى عمر «أن رجلا ترك موضع ظفر في
قدمه اليمنى فأبصره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "
ارجع فأحسن وضوءك " فرجع ثم صلى» رواه مسلم. وإن كان الرجل أقطع اليدين
فقدر على أن يستأجر من يوضئه بأجرة مثله، لزمه كما يلزمه شراء الماء. ولا
يعفى عن شيء من طهارة الحدث، وإن كان يسيرا لما ذكرنا من حديث عمر.
ويستحب أن يخلل أصابعه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قال: «إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث
حسن.
فصل:
ويجب ترتيب الوضوء على ما ذكرنا في ظاهر المذهب، وحكي عنه أنه ليس بواجب،
لأن الله سبحانه وتعالى عطف الأعضاء المغسولة بالواو، ولا ترتيب فيها.
ولنا أن في الآية قرينة تدل على الترتيب، لأنه أدخل الممسوح بين المغسولات،
وقطع النظير عن نظيره، ولا يفعل الفصحاء هذا إلا لفائدة، ولا نعلم هنا
فائدة سوى الترتيب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
ينقل عنه الوضوء إلا مرتبا، وهو يفسر كلام الله سبحانه بقوله مرة وبفعله
مرة أخرى. فإن نكس وضوءه فختم بوجهه لم يصح إلا غسل وجهه، وإن غسل وجهه
ويديه، ثم غسل رجليه ثم مسح برأسه، صح وضوءه إلا غسل رجليه، فيغسلهما ويتم
وضوءه.
(1/67)
فصل:
ويوالي بين غسل الأعضاء، وفي وجوب الموالاة روايتان:
إحداهما: يجب، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رأى رجلا
يصلي وفي رجله لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء
والصلاة» . رواه أبو داود. ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسلها، ولأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والى بين الغسل.
والثانية: لا تجب، لأن المأمور به الغسل، وقد أتى به، وقد روي عن ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه توضأ وترك مسح خفيه حتى دخل المسجد، فدعي
لجنازة، فمسح عليهما وصلى عليها. والتفريق المختلف فيه: أن يؤخر غسل عضو
حتى يمضي زمن ينشف فيه الذي قبله في الزمان المعتدل فإن أخر غسل عضو لأمر
في الطهارة من إزالة الوسخ، أو عرك عضو لم يقدح في طهارته.
فصل:
والوضوء مرة مرة يجزئ، والثلاث أفضل، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له
صلاة "، ثم توضأ مرتين، ثم قال: " هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من
الأجر "، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا،، ثم قال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين من
قبلي» أخرجه ابن ماجه. وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فلا بأس، فقد «حكى
عبد الله بن زيد وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فغسل يديه مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثا [وغسل وجهه ثلاثا] ثم غسل يديه
مرتين إلى
(1/68)
المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما
وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما ثم رجع إلى المكان
الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» ، متفق عليه. ولا يزيد على ثلاث لأن «أعرابيا
سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوضوء، فأراه ثلاثا
ثلاثا ثم قال: " هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم» رواه أبو داود،
ويكره الإسراف في الماء لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مر على سعد وهو يتوضأ فقال: " لا تسرف " قال: يا رسول الله: في الماء
إسراف؟ قال: " نعم وإن كنت على نهر جار» رواه ابن ماجه.
فصل:
ويستحب إسباغ الوضوء، ومجاوزة قدر الواجب بالغسل، لأن «أبا هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد، ورجله حتى أشرع في
الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتم
الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته
وتحجيله» متفق عليه.
فصل:
ولا بأس بالمعاونة على الوضوء والغسل بتقريب الماء، وحمله وصبه لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحمل له الماء، ويصب عليه. قال
أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ينطلق لحاجته فآتيه أنا وغلام من الأنصار بإداوة من ماء
يستنجي به» ، وعن المغيرة
(1/69)
بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
«كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمشى حتى توارى عني
في سواد الليل، ثم جاء فصببت عليه من الإداوة، فغسل وجهه وذكر بقية الوضوء»
، متفق عليهما. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كنا نعد لرسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة آنية من الليل مخمرة،
إناء لطهره، وإنا لسواكه، وإنا لشرابه» ، أخرجه ابن ماجه.
فصل:
وفي تنشيف بلل الغسل والوضوء روايتان:
إحداهما: يكره، لأن «ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وصفت غسل النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: فأتيته بالمنديل فلم يردها،
وجعل ينفض الماء بيده» ، متفق عليه.
والأخرى: لا بأس به، لأنه إزالة الماء عن بدنه، أشبه نفضه بيديه.
فصل:
ويستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من توضأ فأحسن
وضوئه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
(1/70)
أن محمدا عبده ورسوله فتح الله له أبواب
الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم.
فصل:
والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح
الرأس، وغسل الرجلين.
وخمسة فيها روايتان: الترتيب، والموالاة، والمضمضة والاستنشاق، والتسمية.
والسنن سبعة: غسل الكفين والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتخليل اللحية،
وأخذ ماء جديد للأذنين، وتخليل الأصابع، والبداءة باليمنى والدفعة الثانية
والثالثة.
[باب المسح على الخفين]
وهو جائز بغير خلاف لما روى جرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، ثم توضأ، ومسح على
خفيه» ، متفق عليه. قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا، لأن إسلام جرير كان بعد
نزول المائدة، ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه، وتلحق المشقة بنزعه، فجاز المسح
عليه كالجبائر ويختص جوازه بالوضوء دون الغسل، لما روى صفوان بن عسال -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا مسافرين، أو سفر أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام
ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم» . أخرجه الترمذي وقال: حديث
حسن صحيح. ولأن الغسل يقل فلا
(1/71)
تدعو الحاجة إلى المسح على الخف فيه بخلاف
الوضوء، ولجواز المسح عليه شروط أربعة:
أحدها: أن يكون ساترا لمحل الفرض من القدم كله، فإن ظهر منه شيء لم يجز
المسح، لأن حكم ما استتر المسح، وحكم ما ظهر الغسل، ولا سبيل إلى الجمع
بينهما، فغلب الغسل، كما لو ظهرت إحدى الرجلين، فإن تخرقت البطانة دون
الظهارة، أو الظهارة دون البطانة جاز المسح، لأن القدم مستور به، وإن كان
فيه شق مستطيل ينضم لا يظهر منه القدم، جاز المسح [عليه] لذلك، وإن كان
الخف رقيقا يصف لم يجز المسح عليه، لأنه غير ساتر، وإن كان ذي شرج في موضع
القدم، وكان مشدودا لا يظهر شيء من القدم إذا مشى جاز المسح عليه، لأنه
كالمخيط.
فصل:
الثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه، فإن كان يسقط من القدم لسعته، أو ثقله
لم يجز المسح عليه، لأن الذي تدعو الحاجة إليه هو الذي يمكن متابعة المشي
فيه، وسواء في ذلك الجلود والخرق والجوارب لما روى المغيرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مسح
على الجوربين والنعلين» . أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
قال الإمام أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه ملبوس ساتر للقدم يمكن
متابعة المشي فيه، أشبه الخف. فإن شد على رجليه لفائف، لم يجز المسح عليها،
لأنها لا تثبت
(1/72)
بنفسها إنما تثبت بشدها.
فصل:
الثالث: أن يكون مباحا فلا يجوز المسح على المغصوب والحرير، لأن لبسه
معصية، فلا تستباح به الرخصة، كسفر المعصية.
فصل:
الرابع: أن تلبسهما على طهارة كاملة، لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: «كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في
سفر فأهويت لأنزع خفيه، قال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما»
متفق عليه. فإن تيمم، ثم لبس الخف، لم يجز المسح عليه، لأن طهارته لا ترفع
الحدث. وإن لبست المستحاضة، ومن به سلس البول خفا على طهارتهما فلهما
المسح، نص عليه، لأن طهارتهما كاملة في حقهما فإن عوفيا لم يجز المسح؛
لأنها صارت ناقصة في حقهما، فأشبهت التيمم.
وإن غسل إحدى رجليه، فأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى فأدخلها، لم يجز المسح،
لأنه لبس الأول قبل كمال الطهارة.
وعنه: يجوز لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس، فأشبه ما لو نزع الأول، ثم
لبسه بعد أن غسل الأخرى.
وإن تطهر ولبس خفيه، فأحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف، لم يجز المسح،
(1/73)
لأن الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فأشبه من
بدأ اللبس محدثا، وإن لبس خفا على طهارة، ثم لبس فوقه آخر، أو جرموقا قبل
أن يحدث جاز المسح على الفوقاني سواء كان التحتاني صحيحا أو مخرقا، لأنه خف
صحيح يمكن متابعة المشي فيه لبسه على طهارة كاملة، أشبه المنفرد، وإن لبس
الثاني بعد الحدث، لم يجز المسح عليه لأنه لبسه على غير طهارة، وإن مسح
الأول، ثم لبس الثاني، لم يجز المسح عليه، لأن المسح لم يزل الحدث عن الرجل
فلم تكمل الطهارة.
وإن كان التحتاني صحيحا، والفوقاني مخرقا، فالمنصوص جواز المسح لأن القدم
مستور بخف صحيح. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز، لأن الحكم تعلق بالفوقاني،
فاعتبرت صحته كالمنفرد. وإن لبس المخرق فوق لفافة، لم يجز المسح عليه، لأن
القدم لم يستتر بخف صحيح، وإن لبس مخرقا فوق مخرق فاستتر القدم بهما احتمل
أن لا يجوز المسح لذلك، واحتمل أن يجوز، لأن القدم استتر بهما فصارا كالخف
الواحد.
[فصل في مدة المسح على الخفين]
فصل:
ويتوقت المسح بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، لما روى
عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام
ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم» . قال الإمام أحمد: هذا أجود حديث
في المسح على الخفين لأنه في غزوة تبوك، آخر غزاة غزاها النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو آخر فعله.
(1/74)
وسفر المعصية كالحضر، لأن ما زاد يستفاد
بالسفر، وهو معصية فلم يجز أن يستفاد به الرخصة.
ويعتبر ابتداء المدة من حين الحدث بعد اللبس في إحدى الروايتين، لأنهما
عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها، كالصلاة. والأخرى من حين
المسح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بالمسح ثلاثة
أيام، فاقتضى أن تكون الثلاثة كلها يمسح فيها.
وإن أحدث في الحضر، ثم سافر قبل المسح، أتم مسح مسافر، لأنه بدأ العبادة في
السفر.
وإن مسح في الحضر، ثم سافر، أو مسح في السفر ثم أقام، أتم مسح مقيم، لأنها
عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر، فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكم
كالصلاة، وإن مسح المسافر أكثر من يوم وليلة، ثم أقام، انقضت مدته في
الحال. وإن شك هل بدأ المسح في الحضر، أو في السفر بنى على مسح الحضر، لأن
الأصل الغسل والمسح رخصة، فإذا شككنا في شرطها رجعنا إلى الأصل. وإن لبس
وأحدث، وصلى الظهر ثم شك هل مسح قبل الظهر أو بعدها، وقلنا: ابتداء المدة
من حين المسح بنى الأمر في المسح على أنه قبل الظهر، وفي الصلاة على أنه
مسح بعدها، لأن الأصل بقاء الصلاة، في ذمته، ووجوب غسل الرجل فرددنا كل
واحد منهما إلى أصله.
فصل:
والسنة أن يمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه، فيضع يديه مفرجتي الأصابع على
(1/75)
أصابع قدميه، ثم يجرهما إلى ساقيه، لما روى
المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين على ظاهرهما» ، حديث حسن صحيح. وعن
علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف
أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يمسح على ظاهر خفيه» . رواه أبو داود.
فإن اقتصر على مسح الأكثر من أعلاه أجزأه، وإن اقتصر على مسح أسفله لم يجزه
لأنه ليس محلا للمسح أشبه الساق.
[فصل في نواقض المسح على الخفين]
فصل:
إذا انقضت مدة المسح، أو خلع خفيه، أو أحدهما بعد المسح، بطلت طهارته في
أشهر الروايتين، ولزمه خلعهما، لأن المسح أقيم مقام الغسل، فإذا زال بطلت
الطهارة في القدمين، فتبطل في جميعها لكونها لا تتبعض.
والثانية، يجزئه غسل قدميه، لأنه زال بدل غسلهما فأجزأه المبدل كالمتيمم
يجد الماء. وإن أخرج قدمه إلى ساق الخف، بطل المسح، لأن استباحة المسح
تعلقت باستقرارهما، فبطلت بزواله كاللبس.
وإن مسح على الخف الفوقاني، ثم نزعه، بطل مسحه، ولزمه نزع التحتاني، لأنه
زال الممسوح عليه، فأشبه المنفرد.
[فصل في المسح على العمامة]
فصل:
في المسح على العمامة: ويجوز المسح على العمامة لما روى المغيرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: «توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ومسح على الخفين والعمامة» . حديث [حسن]
(1/76)
صحيح. وعن عمرو بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح
على عمامته وخفيه» . رواهما البخاري. وروى الخلال بإسناده عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله. ولأن
الرأس عضو سقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. ويشترط أن
تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، لأنه جرت العادة بكشفه في
العمائم، فعفي عنه بخلاف بعض القدم، ويشترط أن تكون لها ذؤابة أو تكون تحت
الحنك، لأن ما لا ذؤابة لها ولا حنك تشبه عمائم أهل الذمة، وقد نهي عن
التشبه بهم، فلم تستبح بها الرخصة، كالخف المغصوب، فإن كانت ذات حنك جاز
المسح عليها، وإن لم يكن لها ذؤابة، لأنها تفارق عمائم أهل الذمة.
وإن أرخى لها ذؤابة، ولم يتحنك، ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز المسح عليها لذلك.
والثاني: لا يجوز، لأنه يروى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط» ، قال أبو عبيد: الاقتعاط أن
لا يكون تحت الحنك منها شيء.
فصل:
وحكمها في التوقيت، واشتراط تقديم الطهارة، وبطلان الطهارة بخلعها،
(1/77)
كحكم الخف لأنها أحد الممسوحين على سبيل
البدل، وفيما يجزئه مسحه منها؟ روايتان:
إحداهما: مسح أكثرها لما ذكرنا.
والثاني: يلزمه استيعابها، لأنها بدل من جنس المبدل، فاعتبر كونه مثله، كما
لو عجز عن قراءة الفاتحة، وقدر على قراءة غيرها اعتبر أن يكون بقدرها، ولو
عجز عن القراءة فأبدلها بالتسبيح لم يعتبر كونه بقدرها. وإن خلع العمامة
بعد مسحها. وقلنا لا يبطل الخلع الطهارة. لزمه مسح رأسه، وغسل قدميه، ليأتي
بالترتيب.
وإن قلنا بوجوب استيعاب مسح الرأس، فظهرت ناصيته، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مسحها معه، لأن المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «توضأ فمسح بناصيته وعلى
العمامة والخفين» . ولأنه جزء من الرأس ظاهر، فلزم مسحه، كما لو ظهر سائر
رأسه.
والثاني: لا يلزمه، لأن الفرض تعلق بالعمامة، فلم يجب مسح غيرها، كما لو
ظهرت أذناه.
وإن انتقض من العمامة كور، ففيه روايتان:
إحداهما: يبطل المسح لزوال الممسوح عليه.
والأخرى: لا يبطل، لأن العمامة باقية، أشبه كشط الخف مع بقاء البطانة.
(1/78)
فصل:
ولا يجوز المسح على الكلوتة ولا وقاية المرأة لأنها لا تستر جميع الرأس،
ولا يشق نزعها، فأما القلانس المبطنات، كدنيات القضاة والنوميات، وخمار
المرأة، ففيها روايتان:
إحداهما: يجوز المسح عليها؛ لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسح على
قلنسوته. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء
مسح على قلنسوته وعمامته. وكانت أم سلمة تمسح على الخمار. وقال الخلال: قد
روي المسح على القلنسوة من رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأسانيد صحاح، واختاره لأنه ملبوس للرأس معتاد أشبه
العمامة.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يشق نزع القلنسوة، ولا يشق على المرأة المسح من
تحت خمارها، فأشبه الكلوتة والوقاية.
[فصل في المسح على الجبيرة]
فصل:
ويجوز المسح على الجبائر الموضوعة على الكسر، لأنه يروى عن علي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «انكسرت إحدى زندي فأمرني رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أمسح عليها» . رواه ابن ماجه، ولأنه ملبوس
يشق نزعه، فجاز المسح عليه كالخف، ولا إعادة على الماسح لما ذكرنا.
(1/79)
ويشترط أن لا يتجاوز بالشد موضع الحاجة لأن
المسح عليها إنما جاز للضرورة، فوجب أن يتقيد الجواز بموضع الضرورة.
وتفارق الجبيرة الخف في ثلاثة أشياء:
أحدها: أنه يجب مسح جميعها، لأنه مسح للضرورة أشبه التيمم، ولأن استيعابها
بالمسح لا يضر بخلاف الخف.
الثاني: أن مسحها لا يتوقف، لأنه جاز لأجل الضرورة فيبقى ببقائه.
الثالث: أنه يجوز في الطهارة الكبرى، لأنه مسح أجيز للضرورة أشبه التيمم.
وفي تقدم الطهارة روايتان:
إحداهما: يشترط لأنه حائل منفصل يمسح عليه، أشبه الخف، فإن لبسها على غير
طهارة، أو تجاوز بشدها موضع الحاجة، وخاف الضرر بنزعها تيمم لها، كالجريح
العاجز عن غسل جرحه.
والثانية: لا يشترط، لأنه مسح أجيز للضرورة، فلم يشترط تقدم الطهارة له
كالتيمم.
فصل: ولا فرق بين الجبيرة على كسر، أو جرح يخاف الضرر بغسله؛ لأنه موضع
يحتاج إلى الشد عليه، فأشبه الكسر، ولو وضع على الجرح دواء، وخاف الضرر
(1/80)
بنزعه، مسح عليه، نص عليه. وقد روى الأثرم
بإسناده عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة، فكان يتوضأ
عليها.
[باب نواقض الطهارة الصغرى]
وهي ثمانية: الخارج من السبيلين، وهو نوعان:
معتاد فينقض بلا خلاف، لقول الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ} [المائدة: 6] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «ولكن من غائط وبول ونوم» وقوله: «فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا»
وقال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» متفق عليه.
النوع الثاني: نادر كالحصى والدود والشعر والدم، فينقض أيضا؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال للمستحاضة: «تتوضأ عند كل صلاة»
رواه أبو داود، ودمها غير معتاد، ولأنه خارج من السبيل، أشبه المعتاد، ولا
فرق بين القليل والكثير.
فصل:
الثاني: خروج النجاسة من سائر البدن، وهو نوعان:
(1/81)
غائط وبول فينقض قليله وكثيره، لدخوله في
النصوص المذكورة.
الثاني: دم وقيح وصديد وغيره، فينقض كثيره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إنه دم عرق فتوضئي لكل
صلاة» رواه الترمذي، فعلل بكونه دم عرق، وهذا كذلك، ولأنها نجاسة خارجة من
البدن، أشبهت الخارج من السبيل. ولا ينقض يسيره لقول ابن عباس في الدم: إذا
كان فاحشا فعليه الإعادة، قال الإمام أحمد: عدة من الصحابة تكلموا فيه، ابن
عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ، وابن أبي أوفى عصر دملا، وذكر
غيرهما، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا.
وظاهر مذهب أحمد أنه لا حد للكثير إلا ما فحش، لقول ابن عباس.
وقال ابن عقيل: إنما يعتبر الفاحش في نفوس أوساط الناس، لا المتبذلين، ولا
الموسوسين، كما رجعنا في يسير اللقطة الذي لا يجب تعريفه إلى ما لا تتبعه
نفوس الأوساط.
وعن أحمد: أن الكثير شبر في شبر.
وعنه: قدر الكف فاحش.
وعنه: قدر عشر أصابع كثير، وما يرفعه بأصابعه الخمس يسير.
(1/82)
قال الخلال: والذي استقر عليه قوله: إن
الفاحش ما يستفحشه كل إنسان في نفسه.
فصل:
الثالث: زوال العقل، وهو نوعان:
أحدهما: النوم فينقض، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«ولكن من غائط وبول ونوم» . وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «العين
وكاء السه فمن نام فليتوضأ» رواه أبو داود. ولأن النوم مظنة الحدث، فقام
مقامه كسائر المظان. ولا يخلو من أربع أحوال:
أحدها: أن يكون مضجعا أو متكئا أو معتمدا على شيء، فينقض الوضوء قليله
وكثيره، لما رويناه.
والثاني: أن يكون جالسا غير معتمد على شيء فلا ينقض قليله، لما روى أنس «أن
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا ينتظرون
العشاء فينامون قعودا ثم يصلون، ولا يتوضؤون» رواه مسلم بمعناه. ولأن النوم
إنما نقض، لأنه مظنة لخروج الريح من غير علمه، ولا يحصل ذلك ههنا، لأنه يشق
التحرز منه لكثرة وجوده من منتظري الصلاة، فعفي عنه، وإن كثر واستثقل، نقض،
لأنه لا يعلم بالخارج مع استثقاله ويمكن التحرز منه.
الحال الثالث: القائم، ففيه روايتان:
إحداهما: إلحاقه بحالة الجلوس، لأنه في معناه.
(1/83)
والثانية: ينقض يسيره، لأنه لا يتحفظ حفاظ
الجالس.
الرابع: الراكع والساجد، وفيه روايتان:
أولاهما: أنه كالمضطجع لأنه ينفرج محل الحدث، فلا يتحفظ، فأشبه المضطجع.
والثانية: أنه كالجالس، لأنه على حال من أحوال الصلاة، أشبه الجالس.
والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف، ما عد كثيرا فهو كثير، وما لا فلا،
لأنه لا حد له في الشرع فيرجع فيه إلى العرف، كالقبض والإحراز، وإن تغير عن
هيئته انتقض وضوءه لأنه دليل على كثرته استثقال فيه.
النوع الثاني: زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر ينقض الوضوء، لأنه لما نص
على نقضه بالنوم نبه على نقضه بهذه الأشياء، لأنها أبلغ في إزالة العقل،
ولا فرق بين الجالس وغيره، والقليل والكثير، لأن صاحب هذه الأمور لا يحس
بحال، بخلاف النائم فإنه إذا نبه انتبه، وإن خرج منه شيء قبل استثقاله في
نومه أحس به.
(1/84)
فصل:
الرابع: أكل لحم الجزور فينقض الوضوء، لما روى جابر بن سمرة «أن رجلا سأل
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟
قال: " إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ " قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال:
" نعم توضأ من لحوم الإبل» رواه مسلم. قال أبو عبد الله: فيه حديثان صحيحان
عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حديث البراء بن عازب،
وجابر بن سمرة. ولا فرق بين قليله وكثيره، ونيئه ومطبوخه، لعموم الحديث.
وعنه في من أكل وصلى ولم يتوضأ: إن كان يعلم أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بالوضوء منه، فعليه الإعادة، وإن كان جاهلا فلا
إعادة عليه.
(1/85)
وفي اللبن روايتان:
إحداهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم.
والثانية: ينقض، لما روى أسيد بن حضير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «توضؤوا من لحوم الإبل وألبانها» رواه أحمد في المسند.
وفي الكبد والطحال، وما لا يسمى لحما وجهان:
أحدهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم.
والثاني: ينقض، لأنه من جملته، فأشبه اللحم، وقد نص الله على تحريم لحم
الخنزير فدخل فيه سائر أجزائه.
ولا ينقض الوضوء مأكول غير لحم الإبل، ولا ما غيرت الناس لقول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحم الغنم: «وإن شئت فلا توضأ»
ويروى أن آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«ترك الوضوء مما غيرت النار» . رواه أبو داود.
(1/86)
فصل:
والخامس: لمس الذكر فيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا ينقض [الوضوء] ، لما روى قيس بن طلق [عن أبيه] «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سئل عن الرجل يمس ذكره، وهو في
الصلاة. قال: " هل هو إلا بضعة منك» رواه أبو داود. ولأنه جزء من جسده،
أشبه يده.
والثانية: ينقض وهي أصح، لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» . قال أحمد - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: هو حديث صحيح. وروى أبو هريرة نحوه، وهو متأخر عن حديث
طلق، لأن في حديث طلق أنه قدم، وهم يؤسسون المسجد، وأبو هريرة قدم حين فتحت
خيبر فيكون ناسخا له.
والثالثة: إن قصد إلي مسه نقض، ولا ينقض من غير قصد، لأنه لمس فلم ينقض
بغير قصد كلمس النساء.
وفي لمس حلقة الدبر، ومس المرأة فرجها روايتان:
إحداهما: لا ينقض لأن تخصيص الذكر بالنقض دليل على عدمه من غيره.
(1/87)
والثانية: ينقض، لأن أبا أيوب وأم حبيبة
قالا: سمعنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس
فرجه فليتوضأ» قال أحمد: حديث أم حبيبة صحيح. وهذا عام؛ ولأنه سبيل فأشبه
الذكر.
وحكم لمسه فرج غيره حكم لمس فرج نفسه صغيرا كان أو كبيرا، لأن نصه على نقض
الوضوء بمس ذكر نفسه، ولم يهتك به حرمة وهذا تنبيه على نقضه بمسه من غيره.
وفي مس الذكر المقطوع وجهان:
أحدهما: لا ينقض كمس يد المرأة المقطوعة.
والآخر: ينقض، لأنه مس ذكر. وإن انسد المخرج وانفتح غيره لم ينقض مسه، لأنه
ليس بفرج. ولا ينقض مس فرج البهيمة، لأنه لا حرمة لها، ولا مس ذكر الخنثى
المشكل، ولا قبله، لأنه لا يتحقق كونه فرجا. وإن مسهما معا نقض لأن أحدهما
فرج. وإن مس رجل ذكره لشهوة نقض، لأنه إن كان ذكرا فقد مس ذكره، وإن كانت
امرأة فقد مسها لشهوة. وإن مست امرأة قبله لشهوة فكذلك
(1/88)
لما ذكرنا. واللمس الذي ينقض هو اللمس بيده
إلى الكوع، ولا فرق بين ظهر الكف وبطنه، لأن أبا هريرة روى أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره
ليس بينهما شيء فليتوضأ» من " المسند "، ورواه الدارقطني بمعناه. واليد
المطلقة تتناول اليد إلى الكوع لما نذكره في التيمم.
ولا ينقض غير الفرج كالعانة والأنثيين وغيرهما، لأن تخصيص الفرج به دليل
على عدمه فيما سواه.
فصل:
السادس: لمس النساء وهو أن تمس بشرته بشرة أنثى، وفيه ثلاث روايات:
إحداهن: ينقض بكل حال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]
الثانية: لا ينقض لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قبل عائشة ثم صلى ولم يتوضأ» . رواه أبو داود، وعن عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «فقدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، فجعلت أطلبه فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد» . رواه
النسائي ومسلم. ولو بطل وضوءه لفسدت صلاته.
(1/89)
والثالثة: هي ظاهر المذهب أنه ينقض إذا كان
لشهوة، ولا ينقض لغيرها جمعا بين الآية والأخبار، ولأن اللمس ليس بحدث،
إنما هو داع إلى الحدث، فاعتبرت فيه الحالة التي تدعو فيها إلى الحدث
كالنوم.
ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة، وذوات المحارم وغيرهن، لعموم الأدلة فيه.
وإن لمست امرأة رجلا ففيه روايتان:
إحداهما: أنها كالرجل، لأنها ملامسة توجب طهارة فاستوى فيها الرجل والمرأة
كالجماع.
والثانية: لا ينقض وضوءها، لأن النص لم يرد فيها، ولا يصح قياسها على
المنصوص، لأن اللمس منه أدعى إلى الخروج.
وهل ينقض وضوء الملموس؟ فيه روايتان.
وإن لمس سن امرأة أو شعرها أو ظفرها لم ينقض وضوءه. لأنه لا يقع عليها
(1/90)
الطلاق بإيقاعه عليه، وإن لمس عضوا مقطوعا،
لم ينقض وضوءه، لأنه لا يقع عليه اسم امرأة، وإن مس غلاما أو بهيمة أو مست
امرأة امرأة، لم ينقض الوضوء، لأنه ليس محلا لشهوة الآخر شرعا.
فصل:
السابع: الردة عن الإسلام، وهو أن ينطق بكلمة الكفر، أو يعتقدها، أو يشك
شكا يخرجه عن الإسلام، فينتقض وضوءه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ولأن الردة حدث لقول ابن عباس: الحدث
حدثان وأشدهما حدث اللسان. فيدخل في عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» متفق عليه. ولأنها طهارة من حدث،
فأبطلتها الردة كالتيمم.
فصل:
الثامن: غسل الميت. عده أصحابنا من نواقض الوضوء، لأن ابن عمر وابن عباس
كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء. وقال أبو هريرة: أقل ما فيه الوضوء، لأنه
مظنة لمس الفرج فأقيم مقامه كالنوم مع الحدث. ولا فرق بين الميت المسلم،
والكافر، والصغير والكبير في ذلك، لعموم الأمر والمعنى.
(1/91)
وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب،
فإنه قال: أحب إلي أن يتوضأ. وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكون الحديث
موقوفا على أبي هريرة والوضوء كذلك، ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا هو في معنى
المنصوص، والأصل عدم وجوبه، فيبقى عليه، وما عدا هذا لا ينقض بحال.
فصل:
ومن تيقن الطهارة وشك هل أحدث أم لا فهو على طهارته، لما روي عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا
فأشكل عليه هل خرج شيء أو لم يخرج؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو
يجد ريحا» رواه مسلم والبخاري، ولأن اليقين لا يزال بالشك.
وإن تيقن الحدث، شك في الطهارة، فهو محدث لذلك.
وإن تيقنهما، وشك في السابق منهما نظر في حاله قبلهما فإن كان متطهرا فهو
محدث الآن لأنه تيقن زوال تلك الطهارة، بحدث وشك هل زال أم لا، فلم يزل
يقين الحدث بشك الطهارة، وإن كان قبلهما محدثا، فهو الآن متطهر لما ذكرنا
في التي قبلها.
فصل:
ولا تشترط الطهارتان معا إلا لثلاثة أشياء:
الصلاة: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله
صلاة من أحدث حتى يتوضأ» .
والطواف: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف
بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» رواه
(1/92)
الشافعي في مسنده.
ومس المصحف: لقول الله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ}
[الواقعة: 79] . وفي كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم. ولا بأس بحمله
في كمه أو بعلاقته، وتصفحه بعود، لأنه ليس بمس له، ولذلك لو فعله بامرأة لم
ينتقض وضوءه.
وإن مس المحدث كتاب فقه، أو رسالة فيها آي من القرآن جاز لأنه لا يسمى
مصحفا، والقصد منه غير القرآن، ولذلك «كتب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلى قيصر في رسالته: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية» متفق
عليه. وكذلك إن مس ثوبا مطرزا بآية من القرآن.
وإن مس درهما مكتوبا عليه آية فكذلك في أحد الوجهين لما ذكرنا.
والثاني: لا يجوز لأنه معظم ما فيه من القرآن.
وفي مس الصبيان ألواحهم، وحملها على غير طهارة وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنهم محدثون، فأشبهوا البالغين.
(1/93)
والثاني: يجوز؛ لأن حاجتهم ماسة إلى ذلك
ولا تتحفظ طهارتهم، فأشبه الدرهم.
ومن كان طاهرا وبعض أعضائه نجس فمس المصحف بالعضو الطاهر جاز، لأن حكم
النجاسة لا يتعدى محلها بخلاف الحدث.
فصل:
ويستحب تجديد الطهارة، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان يتوضأ لكل صلاة» طلبا للفضل. رواه البخاري.
" «وصلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد» ليبين الجواز. رواه مسلم.
[باب آداب التخلي]
يستحب لمن أراد قضاء الحاجة أن يقول: بسم الله. لما روى علي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن
(1/94)
يقول: بسم الله» رواه ابن ماجه والترمذي.
ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» لما روى أنس أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان إذا دخل الخلاء قال ذلك. متفق
عليه.
فإذا خرج قال: «غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» " لما روت
عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج
من الخلاء قال: " غفرانك» حديث حسن. وعن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني
الأذى وعافاني» رواه ابن ماجه، ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في
الخروج، لأن اليسرى للأذى واليمنى لما سواه، ويضع ما فيه ذكر الله أو قرآن
(1/95)
صيانة له، فإذا كان ذلك دراهم، فقال أحمد -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرجو أن لا يكون به بأس. قال: والخاتم فيه اسم
الله يجعله في بطن كفه، ويدخل الخلاء.
فصل:
وإن كان في الفضاء أبعد لما روى جابر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد» .
ويستتر عن العيون، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع
كثيبا من رمل فليستدبره» .
ويرتاد لبوله مكانا رخوا لئلا يترشش عليه. ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض
لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان إذا
أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض» أخرج هذه الأحاديث الثلاثة أبو
داود.
ويبول قاعدا لأنه أستر له، وأبعد من أن يترشش عليه.
فصل:
ولا يجوز استقبال القبلة في الفضاء بغائط ولا بول، لما روى أبو أيوب قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الغائط
فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا ".
قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف
عنها، ونستغفر الله» ، متفق عليه.
(1/96)
وفي استدبارها روايتان:
إحداهما: لا يجوز، لهذا الحديث.
والأخرى: يجوز، لما روى ابن عمر قال: «رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسا على حاجته، مستقبل الشام،
مستدبر الكعبة.» متفق عليه.
وفي استدبارها في البنيان روايتان:
إحداهما: لا يجوز لعموم النهي.
والثانية: يجوز، لما روى عراك بن مالك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
قالت: «ذكر عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قوما
يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: " أو قد فعلوها؟ !
استقبلوا بمقعدتي القبلة» رواه الإمام أحمد وابن
ماجه. قال أحمد: أحسن حديث يروى في الرخصة حديث عراك، وإن كان مرسلا فإن
مخرجه حسن. سماه مرسلا، لأن عراكا لم يسمع من عائشة. وعن مروان الأصفر أنه
قال: «أناخ ابن عمر بعيره مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليه فقلت: يا أبا
عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء أما
إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس» . رواه أبو داود.
ويكره أن يستقبل الشمس والقمر تكريما لهما، وأن يستقبل الريح لئلا ترد
(1/97)
البول عليه.
فصل:
ويكره أن يبول في شق أو ثقب، لما روى عبد الله بن سرجس أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى أن يبال في الجحر» رواه أبو داود.
ولأنه لا يأمن أن يكون مسكنا للجن، أو يكون فيه دابة تلسعه، ويكره البول في
طريق أو ظل ينتفع به، أو مورد ماء، لما روى معاذ قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في
الموارد، وقارعة الطريق، والظل» رواه أبو داود، ويكره البول في موضع تسقط
فيه الثمرة لئلا تتنجس به، والبول في المغتسل، لما روى عبد الله بن مغفل
قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبول الرجل
في مغتسله» رواه ابن ماجه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن صب عليه
الماء فجرى في البالوعة فذهب فلا بأس.
فصل:
يكره أن يتكلم على البول أو يسلم، أو يذكر الله تعالى بلسانه «لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم عليه رجل، وهو يبول، فلم يرد عليه
حتى توضأ ثم قال: " كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» رواه أبو داود والنسائي
وابن ماجه. ويكره الإطالة أكثر من
(1/98)
الحاجة، لأنه يقال: إن ذلك يدمي الكبد،
ويأخذ منه الباسور. ويتوكأ في جلوسه على الرجل اليسرى، لما روى سراقة بن
مالك قال: «علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا
أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى، وننصب اليمنى.» رواه الطبراني في معجمه،
ولأنه أسهل لخروج الخارج، ويتنحنح ليخرج ما تم، ثم يسلت من أصل ذكره فيما
بين المخرجين، ثم ينتره برفق ثلاثا فإذا أراد الاستنجاء تحول من موضعه لئلا
يرش على نفسه.
فصل:
والاستنجاء واجب من كل خارج من السبيل معتادا كان أو نادرا، لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ»
وقال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه»
رواه أبو داود عن ابن أبي أوفى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - والنسائي وأحمد والدارقطني وقال: إسناده حسن صحيح. ولأن
المعتاد نجاسة لا مشقة في إزالتها فلم تصح الصلاة معها كالكثير، والنادر لا
يخلو من رطوبة تصحبه غالبا، ولا يجب من الريح، لأنها ليست نجسة، ولا يصحبها
نجاسة، وقد روي: «من استنجى من الريح فليس منا» رواه الطبراني في المعجم
الصغير.
فصل:
وإن تعدت النجاسة المخرج بما لم تجر العادة به، كالصفحتين ومعظم الحشفة لم
يجزئه إلا الماء، لأن ذلك نادر، فلم يجز فيه المسح، كيده وإن لم يتجاوز قدر
العادة جاز بالماء والحجر، نادرا كان أو معتادا، لحديث ابن أبي أوفى، ولأن
النادر
(1/99)
خارج يوجب الاستنجاء أشبه المعتاد. والأفضل
الجمع بين الماء والحجر يبدأ بالحجر، لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
قالت: «مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول، فإني
أستحييهم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يفعله» .
حديث صحيح. ولأنه أبلغ في الإنقاء وأنظف. ولأن الحجر يزيل عين النجاسة، فلا
تباشرها يده، فإن اقتصر على أحدهما جاز، والماء أفضل، لأن أنسا قال: «كان
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج لحاجة أجيء أنا وغلام
معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به» متفق عليه. ولأنه يزيل عين النجاسة
وأثرها، ويطهر المحل.
وإن اقتصر على الحجر أجزأ بشرطين:
أحدهما: الإنقاء وهو أن لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء بحيث يخرج
الآخر نقيا.
والثاني: استيفاء ثلاثة أحجار، لقول سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لقد
نهانا - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستنجي
باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم» . رواه
مسلم. وإن كان الحجر كبيرا فمسح بجوانبه ثلاث مسحات أجزأه. ذكره الخرقي،
لأن المقصود عدد المسحات دون عدد الأحجار بدليل أنا لم نقتصر على الأحجار
بل عديناه إلى ما في معناه من الخشب والخرق.
وقال أبو بكر لا يجزئه اتباعا للفظ الحديث، وقال: لا يجزئه الاستجمار
(1/100)
بغير الأحجار، لأن الأمر ورد بها على
الخصوص، ولا يصح، لأن في سياقه «وأن نستنجي برجيع أو عظم» فيدل على أنه
أراد الحجر، وما في معناه، ولولا ذلك لم يخص هذين بالنهي، وروى طاوس أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فليستطب بثلاثة أحجار،
أو ثلاثة أعواد، أو ثلاثة حثيات من تراب» رواه الدارقطني. ولأنه نص على
الأحجار لمعنى معقول، فيتعداه الحكم كنصه على الغضب في منع القضاء.
فصل:
ويجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منق، غير مطعوم، لا حرمة له، ولا متصل
بحيوان، فيدخل فيه الحجر، وما قام مقامه من الخشب والخرق والتراب، ويخرج
منه المائع، لأنه يتنجس بإصابة النجاسة، فيزيد المحل تنجسا، ويخرج منه
النجس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ألقى الروثة،
وقال: «إنها ركس» رواه البخاري. ولأنه يكسب المحل نجاسة. فإن استجمر به،
والمحل رطب، لم يجزه الاستجمار بعده، لأن المحل صار نجسا بنجاسة واردة
عليه، فلزم غسله، كما لو تنجس بذلك في حال طهارته، ويخرج ما لا ينقي
كالزجاج والفحم الرخو لأن الإنقاء شرط، ولا يحصل به، ويخرج المطعومات
والروث والرمة، وإن كانا ظاهرين لما روى ابن مسعود أن النبي (- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام فإنه
زاد إخوانكم من الجن» رواه مسلم. علل
(1/101)
النهي بكونه زادا للجن فزادنا أولى. ويخرج
ما له حرمة كالورق المكتوب، لأن له حرمة، أشبه المطعوم، ويخرج منه ما يتصل
بحيوان، كيده، وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها، لأنه ذو حرمة، فأشبه سائر
أعضاءها. وإن استجمر بما نهي عنه لم يصح، لأن الاستجمار رخصة فلا تستباح
بالمحرم كسائر الرخص.
فصل:
ولا يستجمر بيمينه، ولا يستعين بها فيه، لحديث سلمان وروى أبو قتادة أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمسكن أحدكم ذكره
بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه» متفق عليه. فيأخذ ذكره
بيساره، ويمسح به الحجر أو الأرض، فإن
(1/102)
كان الحجر صغيرا أمسكه بعقبيه، أو بإبهامي
قدميه، فمسح عليه، فإن لم يمكنه، أخذ الحجر بيمينه، والذكر بيساره، فمسحه
على الحجر.
ولا يكره الاستعانة باليمنى في الماء، لأن الحاجة داعية إليه، فإذا استجمر
بيمينه أجزأه، لأن الاستجمار بالحجر لا باليد، فلم يقع النهي على ما يستنجى
به.
فصل:
وكيف حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأه إلا أن المستحب أن يمر حجرا من مقدم
صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يمره على صفحته اليسرى حتى يرجع به إلى الموضع
الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك، ثم يمر الثالث على
المسربة والصفحتين، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، أنه قال: «أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحتين، وحجرا للمسربة» رواه
الدارقطني، وقال إسناد حسن. ويبدأ بالقبل لينظفه لئلا تتنجس يده به عند
الاستجمار في الدبر، والمرأة مخيرة في البداءة بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها.
فصل:
فإن توضأ قبل الاستنجاء ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه، لأنها طهارة يبطلها الحدث، فاشترط تقديم الاستنجاء
عليها كالتيمم.
والثانية: يصح لأنها نجاسة فلم يشترط تقديم إزالتها كالتي على ساقه، فعلى
هذه الرواية إن قدم التيمم على الاستجمار ففيه وجهان:
أحدهما: يصح قياسا على الوضوء.
(1/103)
والثاني: لا يصح لأنه لا يرفع الحدث، وإنما
تستباح به الصلاة، فلا تباح مع قيام المانع. وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في
غير الفرج، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح قياسا على نجاسة الفرج.
والثاني: يصح لأنها نجاسة لم توجب التيمم فلم تمنع صحته كالتي على ثوبه.
[باب ما يوجب الغسل]
والموجب له في حق الرجل ثلاثة أشياء:
الأول: إنزال المني، وهو الماء الدافق تشتد الشهوة عند خروجه، ويفتر البدن
بعده. وماء الرجل أبيض ثخين، وماء المرأة أصفر رقيق، قال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق
أصفر» رواه مسلم. فيجب الغسل بخروجه في
(1/104)
النوم واليقظة، «لأن أم سليم قالت: يا رسول
الله، إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال
رسول الله (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : " نعم إذا رأت الماء»
متفق عليه. فإن خرج لمرض من غير شهوة لم يوجب، لأن النبي (- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض، ولا يخرج في المرض
إلا رقيقا. فإن احتلم فلم ير بللا فلا غسل عليه، لحديث أم سليم. وإن رأى
منيا ولم يذكر احتلاما فعليه الغسل، لما روت عائشة قالت: «سئل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر
احتلاما، فقال: " يغتسل» ". «وسئل عن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد
البلل، فقال: " لا غسل عليه» رواه أبو داود. فإن وجد منيا في ثوب ينام فيه
هو وغيره، فلا غسل عليه، لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
وإن لم يكن ينام فيه غيره، وهو ممن يمكن أن يحتلم كابن اثني عشر سنة فعليه
الغسل،
(1/105)
وإعادة الصلاة من أحدث نومة نامها، لأن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى في ثوبه منيا بعد أن صلى، فاغتسل وأعاد
الصلاة.
فصل:
والمذي: ماء رقيق يخرج بعد الشهوة متسببا لا يحس بخروجه، فلا غسل فيه، ويجب
منه الوضوء، لما روى سهل بن حنيف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت ألقى
من المذي شدة وعناء، فكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسألته عنه، فقال: " يجزيك من ذلك
الوضوء» ، حديث صحيح. وهل يوجب غسل الذكر والأنثيين؟ على روايتين:
إحداهما: لا يوجب، لحديث سهل.
والثانية: يوجب لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت رجلا
مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لمكان ابنته، فأمرت المقداد فسأله، فقال: " يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ» رواه
أبو داود.
والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، فليس فيه إلا الوضوء، لأن الشرع لم يرد
فيه بزيادة عليه.
فإن خرج منه شيء ولم يدر، أمنى هو أو غيره؟ في يقظة فلا غسل فيه، لأن المني
الموجب للغسل يخرج دفقا بشهوة، فلا يشتبه بغيره، وإن كان في نوم، وكان نومه
عقيب شهوة بملاعبة أهله، أو تذكر فهو مذي، لأن ذلك سبب المذي، والظاهر أنه
(1/106)
مذي، وإن لم يكن كذلك اغتسل، لحديث عائشة
في الذي يجد البلل، ولأن خروج المني في النوم معتاد، وغيره نادر، فحمل
الأمر على المعتاد.
فصل:
وإن أحس بانتقال المني من ظهره، فأمسك ذكره فلم يخرج، ففيه روايتان:
إحداهما: لا غسل عليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إذا رأت الماء» .
والثانية: يجب، لأنه خرج من مقره، أشبه ما لو ظهر.
فإن اغتسل فخرج بعد ذلك، وجب الغسل على الرواية الأولى، لأن الواجب متعلق
بخروجه، ولم يجب على الثانية، لأنه تعلق بانتقاله، وقد اغتسل له.
وعنه: إن خرج قبل البول، وجب الغسل، لأنا نعلم أنه المني المنتقل، فإن خرج
بعده لم يجب لأنه يحتمل أنه غيره، وهو خارج لغير شهوة، وفي فضلة المني
الخارجة بعد الغسل الروايات الثلاث.
فصل:
والثاني: التقاء الختانين، وهو تغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل وإن عري عن
الإنزال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جلس بين
شعبها الأربع
(1/107)
ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» رواه
مسلم. وختان الرجل: الجلدة التي تبقى بعد الختان، وختان المرأة، جلدة كعرف
الديك في أعلى الفرج يقطع منها في الختان، فإذا غابت الحشفة في الفرج تحاذى
ختاناهما فيقال: التقيا وإن لم يتماسا.
ويجب الغسل في الإيلاج في كل فرج، قبل أو دبر، من آدمي، أو بهيمة، حي أو
ميت، لأنه فرج أشبه قبل المرأة.
(1/108)
فإن أولج من قبل الخنثى المشكل، فلا غسل
عليهما لأنه لا يتيقن كونه فرجا فلا يجب الغسل بالشك.
فصل:
والثالث: إسلام الكافر وفيه روايتان:
إحداهما: يوجب الغسل، اختارها الخرقي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أمر ثمامة بن أثال، وقيس بن عاصم أن يغتسلا حين أسلما، ولأن
الكافر لا يسلم من حدث لا يرتفع حكمه باغتساله، فقامت مظنة ذلك مقامه، ولا
يلزمه أن يغتسل للجنابة، لأن الحكم تعلق بالمظنة، فسقط حكم المظنة كالمشقة
في السفر.
والثانية: لا غسل عليه اختارها أبو بكر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ: «إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى
شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض
عليهم خمس صلوات» متفق عليه. ولم يأمرهم بالغسل، ولو كان أول الفروض لأمر
به، ولأنه أسلم العدد الكثير، والجم الغفير، فلو أمروا بالغسل لنقل نقلا
متواترا.
(1/109)
فإن أجنب في حال كفره احتمل أن لا يجب
الغسل عليه لما ذكرناه، واحتمل أن يجب، وهو قول أبي بكر، لأن حكم الحدث
باق.
فصل:
فأما المرأة فيجب من حقها الأغسال المذكورة، وتزيد بالغسل من الحيض،
والنفاس، ونذكره في بابه.
ولا يجب الغسل بالولادة العارية عن دم، لأن الإيجاب من الشرع، ولم يوجب
لها، ولا هي في معنى المنصوص عليه.
وعنه يجب بها، لأنها لا تكاد تعرى من نفاس موجب، فكانت مظنة له، فأقيمت
مقامه كاتقاء الختانين مع الإنزال.
فصل:
ولا يجب الغسل بغير ذلك، من غسل ميت، أو إفاقة مجنون، أو مغمى عليه، لما
ذكرناه.
[فصل فيما يحرم على الجنب]
فصل:
ومن لزمه الغسل حرم عليه ما حرم على المحدث، ويحرم عليه قراءة آية
(1/110)
فصاعدا، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من الخلاء
فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه. أو قال: يحجزه عن قراءة
القرآن شيء ليس الجنابة» . رواه أبو داود. وفي بعض آية روايتان:
إحداهما: يحرم قراءته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن» رواه أبو
داود.
والأخرى: يجوز، لأن الجنب لا يمنع من قول: بسم الله، والحمد لله، وذلك بعض
آية.
فصل:
ويحرم عليه اللبث في المسجد لقول الله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي
سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، يعني مواضع الصلاة. وقال
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لحائض، ولا
جنب» رواه أبو داود. ولا يحرم العبور في المسجد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]
(1/111)
، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «ناوليني الخمرة من المسجد " قالت: إني حائض، قال:
" إن حيضتك ليست في يدك» .
قال بعض أصحابنا: إذا توضأ الجنب حل له اللبث في المسجد، لأن الصحابة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كان أحدهم إذا أراد أن يتحدث في المسجد وهو جنب،
توضأ ثم دخل فجلس فيه، ولأن الوضوء يخفف بعض حدثه فيزول بعض ما منعه.
(1/112)
فصل:
ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة، لما روى ابن عمر «أن
عمر قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: " نعم، إذا توضأ أحدكم
فليرقد» متفق عليه. ويستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يعود للجماع،
ويغسل فرجه، فأما الحائض فلا يستحب لها شيء من ذلك، لأن الوضوء لا يؤثر في
حدثها، ولا يصح منها.
[باب صفة الغسل من الجنابة]
باب الغسل من الجنابة وهي على ضربين: كامل، ومجزئ.
الضرب الأول: الكامل، يأتي فيه بتسعة أشياء: النية، وهو أن ينوي الغسل
للجنابة، أو استباحة ما لا يستباح إلا بالغسل، كقراءة القرآن، واللبث في
المسجد ثم يسمي، ثم يغسل يديه ثلاثا قبل إدخالهما الإناء. ثم يغسل ما به من
أذى، ويغسل فرجه وما يليه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يحثي على رأسه ثلاث
حثيات يروي بها أصول شعره، ويخلله بيده، ثم يفيض الماء على سائر جسده، ثم
يدلك بدنه بيده، وإن توضأ إلا غسل رجليه، ثم غسل قدميه آخرا، فحسن. قال
أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغسل من الجنابة على حديث عائشة، يعني
قولها: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من
الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعره بيديه، حتى إذا ظن أنه
(1/113)
قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات،
ثم غسل سائر جسده» .
وقالت ميمونة: «وضع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوء
الجنابة، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا، ثم تمضمض، واستنشق، وغسل
وجهه، وذراعيه، ثم أفاض على رأسه، ثم غسل جسده، فأتيته بالمنديل فلم يردها،
وجعل ينفض الماء بيده» . متفق عليهما.
الضرب الثاني: المجزئ، وهو أن ينوي، ويعم بدنه وشعره بالغسل، والتسمية ههنا
كالتسمية في الوضوء فيما ذكرنا، ويجب إيصال الماء إلى البشرة التي تحت
الشعر وإن كان كثيفا، لحديث عائشة، ولا يجب نقضه إن كان مضفورا؛ لما روت أم
سلمة قالت: «قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل
الجنابة؟ قال: " لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين
عليك الماء فتطهرين» رواه مسلم، ولا ترتيب الغسل، لأن الله تعالى قال:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يقدم بعض البدن
على بعض لكن يستحب البداءة بما ذكرناه، والبداءة بغسل الشق الأيمن، لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في طهوره،
ولا موالاة فيه، لأنه طهارة لا ترتيب فيها فلم يكن فيها موالاة كغسل
النجاسة.
فصل:
فأما غسل الحيض، فهو كغسل الجنابة سواء إلا أنه يستحب لها أن تأخذ شيئا
(1/114)
من المسك أو طيب أو غيره، فتتبع به أثر
الدم، ليزيل [زفورته] لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة
جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله عن الغسل
من الحيض، فقال: " خذي فرصة من مسك، فتطهري بها " فقالت: كيف أتطهر
(1/115)
بها؟ فقالت عائشة: قلت: تتبعي بها أثر
الدم» . رواه مسلم. فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب، فإن لم تجد فالماء
كاف.
وهل عليها نقض شعرها للغسل منه؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يجب، لأنه غسل واجب أشبه الجنابة.
والثانية: يجب، ليتيقن وصول الماء إلى ما تحته، وإنما عفي عنه في الجنابة،
لأنه يتكرر فيشق النقض فيه، بخلاف الحيض.
فصل:
والأفضل تقديم الوضوء على الغسل، للخبر الوارد، فإن اقتصر على الغسل
ونواهما أجزأه عنهما لقول الله تعالى: [ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يأمر بالوضوء معه] ، ولأنهما عبادتان من
جنس: صغرى وكبرى، فدخلت الصغرى في الكبرى في
(1/116)
الأفعال دون النية، كالحج، والعمرة.
وعنه: لا يجزئه عن الحدث الأصغر حتى يتوضأ، لأنهما نوعان يجبان بسببين، فلم
يدخل إحداهما في الآخر، كالحدود. وإن نوى إحداهما دون الأخرى، فليس له
غيرها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وإنما لكل
امرئ ما نوى» .
فصل:
ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا، ويتوضآ من إناء واحد، لأن «النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد، يغرفان
منه جميعا» ، متفق عليه. وقال ابن عمر: «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد» ، رواه أبو
داود، ويجوز للمرأة التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة، وللرجل
التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة ما لم تخل به.
فإن خلت به، ففيه وجهان:
إحداهما: يجوز أيضا، لما روت ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت:
«أجنبت فاغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليغتسل منه، فقلت: إني
(1/117)
اغتسلت منه فقال: " إن الماء ليس عليه
جنابة» رواه أبو داود، ولأنه ماء لم ينجس، ولم يزل عن إطلاقه، فأشبه فضله
الرجل.
والثانية: لا يجوز للرجل التطهر به، لما روى الحكم بن عمرو قال: «نهى النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» ،
حديث حسن. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جماعة من الصحابة كرهوه ذكر منهم
ابن عمر وعبد الله بن سرجس، وخص ما خلت به، لقول عبد الله بن سرجس: توضأ
أنت ههنا، وهي ههنا، فأما إذا خلت به فلا تقربنه.
ومعنى الخلوة: أن لا يشاهدها إنسان تخرج بحضوره عن الخلوة في النكاح.
وذكر القاضي أنها لا تخرج عن الخلوة ما لم يشاهدها رجل.
وإنما تؤثر خلوتها في الماء اليسير، لأن النجاسة لا تؤثر في الكثير، فهذا
أولى.
ولا يخرج الماء الذي خلت به المرأة عن إطلاقه. بل يجوز للنساء التطهر به من
الحدث والنجاسة،
(1/118)
وللرجل إزالة النجاسة به، لأن منع الرجل من
الوضوء به تعبد، فوجب قصره على مورده.
وذكر القاضي أنه لا يزيل النجاسة، لأن ما لا يرفع الحدث لا يزيل النجس،
كالخل.
وهذا لا يمكن القول بموجبه، فإن هذا يرفع حدث المرأة بخلاف الخل.
[باب التيمم]
التيمم طهارة بالتراب يقوم مقام الطهارة بالماء عند العجز عن استعماله،
لعدم، أو مرض، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلى قوله:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وروى عمار قال: «أجنبت
فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي (- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فذكرت ذلك له فقال: " إنما يكفيك أن تقول
بيديك هكذا " ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين،
وظاهر كفيه , ووجهه» . متفق عليه. والسنة في التيمم أن يضرب بيديه على
الأرض ضربة
(1/119)
واحدة، ثم يمسح بهما وجهه، ويديه إلى
الكوعين، للخبر، ولأن الله تعالى أمر بمسح اليدين. واليد عند الإطلاق في
الشرع تتناول اليد إلى الكوع، بدليل قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وإن مسح يديه
إلى المرفقين، فلا بأس، لأنه قد روي عن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -) وسواء فعل ذلك بضربتين أو أكثر. ويستحب تفريق أصابعه عند
الضرب ليدخل الغبار فيما بينهما، وإن كان التراب ناعما فوضع اليدين عليه
وضعا أجزأه، ويمسح جميع ما يجب غسله من الوجه، مما لا يشق، مثل باطن الفم،
والأنف، وما تحت الشعور الخفيفة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] وكيفما مسح بعد أن يستوعب الوجه والكفين إلى
الكوعين، جاز لأن المستحب في الضربة الواحدة أن يمسح وجهه بباطن أصابع
يديه، وظاهر كفيه بباطن راحتيه، وإن مسح بضربتين، مسح بأولاهما وجهه،
وبالثانية يديه، فإن مسح إلى المرفقين، وضع بطون أصابع اليسرى على ظهور
أصابع اليمنى، ثم يمرهما إلى مرفقيه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، ويمر
عليه، ويرفع إبهامه، فإن بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده
اليمنى ثم مسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك، ثم مسح إحدى الراحتين بالأخرى،
ويخلل بين أصابعه، وإن يممه غير جاز، كما يجوز أن يوضئه.
وإن أثارت الريح عليه ترابا، فمسح وجهه بما على يديه جاز، وإن مسح وجهه بما
عليه لم يجز، لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد والمسح به، ويحتمل أن يجزئه
إذا صمد للريح، لأنه بمنزلة مسح غيره له.
(1/120)
[فصل في فرائض
التيمم]
فصل:
وفرائض التيمم: النية، لما ذكرنا في الوضوء، ومسح الوجه والكفين، للأمر به،
وترتيب اليدين على الوجه قياسا على الوضوء، وفي التسمية والموالاة روايتان،
كالوضوء.
فأما النية، فهو أن ينوي استباحة ما لا يباح إلا به، فإن نوى صلاة مكتوبة
أبيح له سائر الأشياء لأنه تابع لها، فيدخل في نية المتبوع، وإن نوى نفلا
أو صلاة مطلقة، لم يبح له الفرض، لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما تستباح
به الصلاة، فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه، وله قراءة القرآن لأن النافلة
تتضمن القرآن، وليس له الجنازة المتعينة، لأنها فرض ولو كانت نفلا فله
فعلها.
وإن نوى قراءة القرآن لم يكن له التنفل لأنه أعلى.
فإن نوى رفع الحدث لم يجزئه. لأن التيمم لا يرفع الحدث.
وعنه: ما يدل على أنه يرفع الحدث، فيكون حكمه حكم الوضوء في نيته.
ولا بد له من تعيين ما يتيمم له من الحدث الموجب للغسل، أو الوضوء أو
النجاسة، فإن تيمم للحدث ونسي الجنابة، أو الجنابة ونسي الحدث، لم يجزئه،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنما لكل امرئ ما
نوى» ولأن ذلك لا يجزئ في الماء وهو الأصل، ففي البدل أولى.
[فصل فيما يباح بالتيمم]
فصل:
ويجوز التيمم عن جميع الأحداث لظاهر الآية، وحديث عمار وروى عمران بن حصين
«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا معتزلا لم
يصل مع القوم، فقال: " يا فلان، ما
(1/121)
منعك أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة
ولا ماء عندي، قال: عليك بالصعيد فإنك يكفيك» متفق عليه.
ويجوز التيمم للنجاسة على البدن، لأنها طهارة مشترطة للصلاة، فناب فيها
التيمم، كطهارة الحدث.
واختار أبو الخطاب أنه يلزمه الإعادة إذا تيمم لها عند عدم الماء.
وقيل في وجوب الإعادة روايتان:
إحداهما: لا يجب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التراب كافيك ما لم تجد
الماء» وقياسا على التيمم الحدث.
والأخرى: تجب الإعادة، لأنه صلى بالنجاسة، فلزمته الإعادة، كما لو تيمم.
ولا يجوز التيمم عن النجاسة في غير البدن، لأنها طهارة في البدن فلا تؤثر
في غيره كالوضوء.
[فصل في شرائط التيمم]
فصل:
ولجواز التيمم ثلاث شروط:
(1/122)
أحدها: العجز عن استعمال الماء، وهو نوعان:
أحدهما: عدم الماء، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43]
. ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء
المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإن وجدت الماء فأمسه جلدك» رواه أبو
داود.
النوع الثاني: الخوف على نفسه باستعمال الماء، لمرض أو قرح يخاف باستعمال
الماء تلفا أو زيادة مرض أو تباطؤ البرء أو شيئا فاحشا في جسمه، لقول الله
تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ،
وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وإن وجد ماء يحتاج إلى
شربه للعطش، أو شرب رفيقه أو بهائمه، أو بينه وبينه سبع أو عدو يخافه على
نفسه أو ماله، أو خاف على ماله إن تركه وذهب إلى الماء، فله التيمم لأنه
خائف الضرر باستعماله، فهو كالمريض. وإن خاف لشدة البرد تيمم وصلى، لما روى
عمرو بن العاص قال: «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن
اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ "
فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، ثم قلت سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا» . رواه أبو
داود.
ولأنه خائف على نفس، أشبه المريض، ولا إعادة عليه إن كان مسافرا، لما
ذكرنا.
وإن كان حاضرا ففيه روايتان:
(1/123)
إحداهما: لا يلزمه الإعادة لذلك.
والثانية: يلزمه، لأنه ليس بمريض، ولا مسافر، فلا يدخل في عموم الآية، ولأن
الحضر مظنة إمكان إسخان الماء، فالعجز عنه عذر غير متصل.
وإن قدر على إسخان الماء، لزمه كما يلزمه شراء الماء، ومن كان واجدا للماء
فخاف فوت الوقت لتشاغله بتحصيله، أو استسقائه لم يبح له التيمم، لأن الله
تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد.
وإن خاف فوات الجنازة فليس له التيمم لذلك.
وعنه: يجوز، لأنه لا يمكن استدراكها.
فصل:
والثاني: طلب الماء شرط في الرواية المشهورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، ولا يقال: لم يجد إلا لمن
طلب، ولأنه بدل، فلم يجز العدول إليه قبل طلب المبدل، كالصيام في الظهار.
وعنه: ليس بشرط، لأنه ليس بواجب قبل الطلب، فيدخل في الآية.
وصفة الطلب أن ينظر يمينه، وشماله، وأمامه، ووراءه، وإن كان قريبا من حائل،
من ربوة، أو حائط، علاه فنظر حوله. وإن رأى خضرة أو نحوها استبرأها.
(1/124)
وإن كان معه رفيق، سأله الماء فإن بذله له
لزمه قبوله. لأن المنة لا تكثر في قبوله.
وإن وجد ماء يباع بثمن المثل أو بزيادة غير مجحفة بماله، وهو واجد للثمن،
غير محتاج إليه، لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة.
فإن لم يبذله له صاحبه، لم يكن له أخذه قهرا، وإن استغنى عنه صاحبه، لأن له
بدلا، وإن علم بماء قريب، لزمه قصده ما لم يخف على نفسه أو ماله أو فوت
الوقت أو الرفقة وإن تيمم ثم رأى ركبا، أو خضرة، أو شيئا يدل على الماء، أو
سرابا ظنه ماء قبل الصلاة، لزمه الطلب؛ لأنه وجد دليل الماء، وبطل تيممه،
لأنه وجب عليه الطلب، فبطل تيممه، كما لو رأى ماء. وإن رأى الركب ونحوه في
الصلاة، لم تبطل؛ لأنه شرع فيها بطهارة متيقنة، فلا يبطلها بالشك.
فصل:
الثالث: دخول الوقت شرط، لأنه قبل الوقت مستغن عن التيمم، فلم يصح تيممه،
كما لو تيمم وهو واجد للماء، وإن كان التيمم لنافلة، لم يجز في وقت النهي
عن فعلها، لأنه قبل وقتها، وإن تيمم لفائتة أو نافلة قبل وقت الصلاة، ثم
دخل الوقت بطل تيممه، وإن تيمم لمكتوبة في وقتها، فله أن يصليها وما شاء من
النوافل قبلها وبعدها، ويقضي فوائت، ويجمع بين الصلاتين، لأنها طهارة أباحت
فرضا، فأباحت سائر ما ذكرناه، كالوضوء.
(1/125)
ومتى خرج الوقت بطل التيمم في ظاهر المذهب،
لأنها طهارة عذر وضرورة، فتقدرت بالوقت كطهارة المستحاضة.
وعنه: يصلي بالتيمم حتى يحدث، قياسا على طهارة الماء.
فصل:
والأفضل تأخير التيمم إلى آخر الوقت إن رجا وجود الماء، لقول علي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - في الجنب: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، ولأن الطهارة
بالماء فريضة. وأول الوقت فضيلة، وانتظار الفريضة أولى. وإن يئس من الماء،
استحب تقديمه لئلا يترك فضيلة متيقنة لأمر غير مرجو.
ومتى تيمم وصلى صحت صلاته، ولا إعادة عليه، وإن وجد الماء في الوقت، لما
روى عطاء بن يسار، قال: «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء،
فتيمما صعيدا طيبا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء
والصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: " أجزأتك صلاتك " وقال للذي
أعاد: " لك الأجر مرتين» رواه أبو داود. وقال: قد روي عن أبي سعيد عن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصحيح أنه مرسل، ولأنه أدى فريضة
بطهارة، فأشبه ما لو أداها بطهارة الماء.
(1/126)
فإن علم أن في رحله ماء نسيه، فعليه
الإعادة، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالنسيان، كما لو نسي عضوا لم يغسله،
وإن ضل عن رحله، أو ضل عنه غلامه الذي معه الماء، فلا إعادة عليه، لأنه غير
مفرط، وإن وجد بقربه بئرا أو غديرا علامته ظاهرة، أعاد لأنه مفرط في الطلب،
وإن كانت أعلامه خفية لم يعد لعدم تفريطه.
فصل:
وإن وجد ماء لا يكفيه لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنبا، لقول الله
تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد،
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم» رواه البخاري. وقال: «إذا وجدت الماء فأمسه جلدك» ولأنه
مسح أبيح للضرورة، فلم يبح في غير موضعها كمسح الجبيرة.
وإن كان محدثا ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه استعماله لذلك.
والآخر: لا يلزمه، لأن الموالاة شرط يفوت بترك غسل الباقي، فبطلت طهارته،
بخلاف غسل الجنابة.
وإن كان بعض بدنه صحيحا، وبعضه جريحا، غسل الصحيح، وتيمم للجريح جنبا كان
أو محدثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أصابته
الشجة: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح
عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، لأن العجز ههنا ببعض البدن، وفي
الإعواز العجز ببعض الأصل، فاختلفا، كما أن الحر إذا عجز عن بعض الرقبة في
الكفارة، فله العدول إلى الصوم، ولو كان بعضه حرا فملك بنصفه الحر مالا،
لزمه التكفير بالمال، ولم تكن كالتي قبلها.
(1/127)
[فصل في مبطلات
التيمم]
فصل:
ويبطل التيمم بجميع مبطلات الطهارة التي تيمم عنها، لأنه بدل عنها. فإن
تيمم لجنابة، ثم أحدث منع ما يمنعه المحدث من الصلاة والطواف، ومس المصحف،
لأن التيمم ناب عن الغسل، فأشبه المغتسل إذا أحدث، ويزيد التيمم بمبطلين:
أحدهما: القدرة على استعمال الماء سواء وجدت في الصلاة أو قبلها أو بعدها،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء
المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» دل بمفهومه
على أنه ليس بطهور عند وجود الماء، وبمنطوقه على وجوب استعماله عند وجوده،
ولأنه قدر على استعمال الماء، فأشبه الخارج من الصلاة.
فعلى هذا إن وجده في الصلاة خرج، وتوضأ، واغتسل إن كان جنبا، واستقبل
الصلاة، كما لو أحدث في أثنائها.
وعنه: إذا وجده في الصلاة لم تبطل، لأنه شرع في المقصود، فأشبه المكفر يقدر
على الإعتاق بعد شروعه في الصيام، إلا أن المروذي روي عنه أنه قال: كنت
أقول: إنه يمضي ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث أنه يخرج. وهذا يدل على رجوعه
عن هذه الرواية.
والثاني: خروج الوقت يبطلها لما ذكرناه، فإن خرج وهو في الصلاة بطل، كما لو
أحدث.
ومن تيمم وهو لابس خفا أو عمامة، يجوز المسح عليهما، ثم خلع أحدهما، فقد
ذكر أصحابنا أنه يبطل تيممه، لأنه من مبطلات الوضوء، ولا يقوى ذلك عندي،
لأنها طهارة لم يمسح عليهما، فلم تبطل بخلعهما، كالملبوس على غير طهارة
بخلاف الوضوء.
(1/128)
فصل
ويجوز التيمم في السفر الطويل والقصير، وهو ما بين قريتين قريبتين؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ولأن الماء يعدم في
القصير غالباً، أشبه الطويل، ويجوز في الحضر للمرض للآية، ولأنه عذر غالب
يتصل، أشبه السفر.
وإن عدم الماء في الحضر لحبس، تيمم ولا إعادة عليه؛ لأنه في عدم الماء،
وعجزه عن طلبه كالمسافر، وأبلغ منه فألحق به، وإن عدمه لغير ذلك، وكان
يرجوه قريباً، تشاغل بطلبه ولم يتيمم، وإن كان ذلك يتمادى، تيمم وصلى
وأعاد؛ لأنه عذر نادر غير متصل، ويحتمل أن لا يعيد؛ لأنه في معنى عادم
الماء في السفر، فألحق به.
وإن كان مع المسافر ماء، فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت، فتركه،
ثم عدم الماء في الوقت تيمم وصلى ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يخاطب باستعماله.
وإن كان ذلك في الوقت، ففيه وجهان: أحدهما: تلزمه الإعادة؛ لأنه مفرط.
والثاني: لا تلزمه؛ لأنه عادم للماء أشبه ما قبل الوقت.
[فصل فيما يجوز التيمم به]
فصل
ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
مِنْهُ} [المائدة: 6] وما لا غبار له لا يمسح شيء منه.
وقال ابن عباس: الصعيد تراب الحرث، والطيب: هو الطاهر، وروي عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أعطيت ما لم يعط نبي من
أنبياء الله تعالى قبلي جعل لي التراب طهوراً» رواه الشافعي في " مسنده "
ولو كان غيره طهوراً ذكره فيما من الله به عليه.
وعنه: يجوز التيمم بالرمل والسبخة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
(1/129)
«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» رواه
البخاري ومسلم، وقال ابن أبي موسى: إن لم يجد غيرهما، تيمم بهما، وإن دق
الخزف أو الحجارة، وتيمم به لم يجزئه؛ لأنه ليس بتراب.
(1/130)
وإن خالط التراب جص، أو دقيق، أو زرنيخ،
فحكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات، وإن خالط ما لم يعلق باليد، كالرمل
والحصى، لم يمنع التيمم به؛ لأنه لا يمنع وصول الغبار إلى اليد، وإن ضرب
بيده على صخرة عليها غبار، أو حائط، أو لبد، فعلا يديه غبار، أبيح التيمم
به؛ لأن المقصود التراب الذي يمسح به وجهه ويديه، وقد روى ابن عمر أن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما
وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه» رواه أبو داود.
ولا بأس أن يتيمم الجماعة من موضع واحد، كما يتوضئون من حوض واحد، وإن
تناثر من التراب عن العضو بعد استعماله شيء: احتمل أن يمنع من استعماله مرة
ثانية؛ لأنه كالماء المستعمل، واحتمل أن يجوز؛ لأنه لم يرفع حدثاً ولم يزل
نجساً، بخلاف الماء.
[فصل في حكم فاقد الطهورين]
فصل
فإن عدم الماء والتراب ووجد طيناً، لم يستعمله، وصلى على حسب حاله
(1/131)
ولم يترك الصلاة؛ لأن الطهارة شرط، فتعذرها
لا يبيح ترك الصلاة، كالسترة، والقبلة، وفي الإعادة روايتان: إحداهما: لا
تلزمه؛ لأن الطهارة شرط، فأشبهت السترة والقبلة.
والثانية: تلزمه؛ لأنه عذر نادر غير متصل، أشبه نسيان الطهارة.
فصل
إذا اجتمع جنب، وميت، وحائض، معهم ماء لأحدهم لا يفضل عنه، فهو أحق به، ولا
يجوز أن يؤثر به؛ لأنه واجد للماء، فلم يجزئه التيمم، فإن آثر به وتيمم، لم
يصح تيممه مع وجوده لذلك، وإن استعمله الآخر، فحكم المؤثر به حكم من أراق
الماء، وإن كان الماء لهم، فهم فيه سواء، وإن وجدوه، فهو للأحياء دون
الميت؛ لأنه لا وجدان له، وإن كان لغيرهم فأراد أن يجود به، فالميت أولى
به؛ لأن غسله خاتمة طهارته، وصاحباه يرجعان إلى الماء ويغتسلان.
(1/132)
وإن فضل عنه ما يكفي أحدهما، فالحائض أحق
به؛ لأن حدثها آكد، وتستبيح بغسلها ما يستبيحه الجنب وزيادة الوطء، وإن
اجتمع على رجل حدث ونجاسة، فغسل النجاسة أولى؛ لأن طهارة الحدث لها بدل
مجمع عليه، بخلاف النجاسة.
وإن اجتمع محدث وجنب، فلم يجدا إلا ما يكفي المحدث، فهو أحق به؛ لأنه يرفع
جميع حدثه، وإن كان يكفي الجنب وحده، فهو أحق به، لما ذكرنا في الحائض، وإن
كان يفضل عن كل واحد منهما فضلة لا تكفي صاحبه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها:
يقدم الجنب لما ذكرنا.
والثاني: المحدث؛ لأن فضلته يلزم الجنب [استعمالها] فلا تضيع، بخلاف فضلة
الجنب.
والثالث: التسوية: لأنه تقابل الترجيحان فتساويا، فتدفع إلى من شاء منهما،
أو يقرع بينهما والله أعلم.
[باب الحيض]
وهو دم ترخيه الرحم يخرج من المرأة في أوقات معتادة يتعلق به ثلاثة عشر
حكماً:
(1/133)
أحدها: تحريم فعل الصلاة؛ لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» متفق
عليه.
والثاني: سقوط فرضها؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنا نحيض
على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنؤمر بقضاء
الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» ، متفق عليه.
والثالث: تحريم الصيام، ولا يسقط وجوبه، لحديث عائشة، وقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل؟ "
(1/134)
قلن: بلى» ، رواه البخاري.
والرابع: تحريم الطواف؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لعائشة إذ حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري»
متفق عليه.
والخامس: تحريم قراءة القرآن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن» رواه الترمذي.
والسادس: تحريم مس المصحف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا
الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم.
والسابع: تحريم اللبث في المسجد، لما ذكرناه من قبل.
والثامن: تحريم الطلاق، لما نذكره في النكاح.
والتاسع: تحريم الوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
[البقرة: 222] .
ولا يحرم الاستمتاع بها في غير الفرج؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصنعوا كل شيء غير
(1/135)
النكاح» رواه مسلم.
وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرني
فأتزر فيباشرني، وأنا حائض» ، متفق عليه، ولأنه وطء حرم للأذى، فاختص
بمحله، كالوطء في الدبر.
والعاشر: منع صحة الطهارة؛ لأنه حدث يوجب الطهارة فاستمراره يمنع صحتها
كالبول.
والحادي عشر: وجوب الغسل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي» متفق
عليه.
الثاني عشر: وجوب الاعتداد به، لما نذكره في العدد.
الثالث عشر: حصول البلوغ به لما نذكره في موضعه.
فإذا انقطع دمها ولم تغتسل زالت أربعة أحكام: سقوط فرض الصلاة؛ لأن سقوطه
بالحيض قد زال، ومنع صحة الطهارة لذلك، وتحريم الصيام؛ لأن وجوب الغسل لا
يمنع
(1/136)
فعله، كالجنابة، وتحريم الطلاق؛ لأن تحريمه
لتطويل العدة، وقد زال هذا المعنى.
وسائر المحرمات باقية؛ لأنها تثبت في حق المحدث الحدث الأكبر، وحدثها باق،
وتحريم الوطء باق؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] قال مجاهد:
حتى يغتسلن.
فإن لم تجد الماء تيممت، وحل وطؤها؛ لأنه قائم مقام الغسل، فحل به ما يحل
بالغسل، وإن تيممت للصلاة حل وطؤها؛ لأن ما أباح الصلاة أباح ما دونها.
وإن وطئ الحائض قبل طهرها؛ فعليه كفارة [دينار أو] نصف دينار، لما روى ابن
عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في الذي يأتي امرأته
وهي حائض، قال: " يتصدق بدينار أو بنصف دينار» ، قال أبو داود: كذا الرواية
الصحيحة.
وعن أحمد: لا كفارة فيه؛ لأنه وطء حرم للأذى، فلم تجب به كفارة كالوطء في
الدبر، والحديث توقف أحمد عنه للشك في عدالة راويه.
وإن وطئها بعد انقطاع دمها، فلا كفارة عليه؛ لأن حكمه أخف ولم يرد الشرع
بالكفارة فيه.
فصل
وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين، فإن رأت قبل ذلك دماً فليس
(1/137)
بحيض، ولا يتعلق به أحكامه؛ لأنه لم يثبت
في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك، وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
وأقل الحيض يوم وليلة.
وعنه: يوم؛ لأن الشرع علق على الحيض أحكاماً ولم يبين قدره، فعلم أنه رده
إلى العادة، كالقبض والحرز، وقد وجد حيض معتاد يوماً، ولم يوجد أقل منه.
قال عطاء: رأيت من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر.
قال أبو عبد الله الزبيري: كان في نسائنا من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر
يوماً.
[وأكثره خمسة عشر يوماً] لما ذكرنا، وعنه سبعة عشرة يوماً.
وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أنه سئل عن امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر، فقال لشريح: قل فيها،
فقال: إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدن أنها حاضت في شهر ثلاث مرات تترك
(1/138)
الصلاة فيها، وإلا فهي كاذبة، فقال علي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قالون " يعني جيد، وهذا اتفاق منهما على إمكان
ثلاث حيضات في شهر، ولا يمكن إلا بما ذكرنا من أقل الحيض، وأقل الطهر.
وعنه: أقله خمسة عشر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي» وليس لأكثره حد، وغالب الحيض ست أو سبع؛
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: «تحيضي -
في علم الله - ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يوماً، أو
ثلاثة وعشرين كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن» حديث حسن،
وغالب الطهر أربعة وعشرون أو ثلاثة وعشرون، لهذا الحديث.
وإذا بلغت المرأة ستين عاماً يئست من المحيض؛ لأنه لم يوجد لمثلها حيض
معتاد، فإن رأت دماً فهو دم فاسد، وإن رأته بعد الخمسين، ففيه روايتان:
(1/139)
إحداهما: هو دم فاسد أيضاً؛ لأن عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد
الحيض.
والثانية: إن تكرر بها الدم فهو حيض، وهذا أصح؛ لأنه قد وجد ذلك، وعنه: أن
نساء العجم ييأسن في خمسين، ونساء العرب إلى ستين؛ لأنهن أقوى جبلة.
وقال الخرقي: إذا رأت الدم، ولها خمسون سنة، فلا تدع الصلاة، ولا الصوم،
وتقضي الصوم احتياطاً، وإن رأته بعد الستين، فقد زال الإشكال، فتصوم وتصلي،
ولا تقضي.
والحامل لا تحيض، فإن رأت دماً، فهو دم فاسد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في سبايا أوطاس: " لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل
حتى تستبرأ بحيضة» يعني تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة، فدل على أنها لا
تجتمع معه.
(1/140)
فصل
والمبتدأ بها الدم في سن تحيض لمثله تترك الصلاة والصوم؛ لأن دم الحيض جبلة
وعادة، ودم الفساد عارض لمرض ونحوه، والأصل عدمه، فإن انقطع لدون يوم
وليلة، فهو دم فساد، وإن بلغ ذلك جلست يوماً وليلة، فإن انقطع دمها لذلك
اغتسلت وصلت، وكان ذلك حيضها.
وإن زاد عليه، ففيه أربع روايات: أشهرهن: أنها تغتسل عقيب اليوم والليلة،
وتصلي؛ لأن العبادة واجبة بيقين، وما زاد على أقل الحيض مشكوك فيه، فلا
تسقطها بالشك، فإن انقطع دمها، ولم يعبر أكثر الحيض، اغتسلت غسلاً ثانياً،
ثم تفعل ذلك في شهر آخر، وعنه: تفعله في شهرين آخرين.
فإن كان في الأشهر كلها مدة واحدة، علمت أن ذلك حيضها، فانتقلت إليه، وعملت
عليه، وأعادت ما صامت الفرض فيه؛ لأننا تبينا أنها صامته في حيضها.
(1/141)
والثانية: تجلس ما تراه من الدم إلى أكثر
الحيض؛ لأنه دم يصلح حيضاً، فتجلسه كاليوم والليلة.
والثالثة: تجلس ستاً أو سبعاً؛ لأن الغالب من النساء هكذا يحضن، ثم تغتسل
وتصلي.
والرابعة: تجلس عادة نسائها؛ لأن الغالب أنها تشبههن في جميع ذلك، فإذا
انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون وتكرر، صار عادة، فانتقلت إليه، وأعادت ما
صامته من الفرض فيه.
وإن عبر دمها أكثر الحيض، علمنا استحاضتها فنظر في دمها، فإن كان متميزاً
بعضه أسود ثخين منتن، وبعضه رقيق أحمر، وكان الأسود لا يزيد على أكثر
الحيض، ولا ينقص عن أقله، فهذه مدة حيضها زمن الدم الأسود، فتجلسه، فإذا
خلفته اغتسلت وصلت، لما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش «قالت: يا رسول الله،
إني أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: " لا إنما ذلك عرق، ليس بالحيض،
فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم، وصلي» متفق
عليه.
يعني بإقباله: سواده ونتنه، وبإدباره: رقته وحمرته، وفي لفظ، قال: «إذا كان
دم الحيض، فإنه أسود، يعرف فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الأحمر فتوضئي إنما
هو عرق» رواه النسائي , وقال ابن عباس: ما رأت الدم البحراني، فإنها تدع
الصلاة، إنها والله لن ترى الدم بعد أيام محيضها إلا كغسالة ماء اللحم،
ولأنه خارج من الفرج يوجب الغسل، فرجع إلى صفته عند الاشتباه، كالمني
والمذي، وإن لم تكن مميزة
(1/142)
جلست من كل شهر ستة أيام، أو سبعة، لما روي
أن حمنة بنت جحش «قالت: يا رسول الله، إني أستحاض حيضة شديدة، منكرة، قد
منعتني الصوم والصلاة، فقال لها: " تحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام، في علم
الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي ثلاثاً وعشرين
ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، وصومي فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في
كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وذكر أبو الخطاب في المبتدأة هذه الروايات الأربع، وحكي عن ابن عقيل في
المبتدأة المميزة أنها تجلس بالتمييز في أول مرة، لما ذكرنا من الأخبار؛
ولأن التمييز يجري مجرى العادة، والمعتادة تجلس عدة أيام عادتها، كذلك
المميزة.
فصل
وإن استقرت لها عادة، فما رأت من الدم فيها، فهو حيض سواء كان كدرة أو صفرة
أو غيرهما، لما روى مالك عن علقمة عن أمه: أن النساء كن يرسلن بالدرجة،
فيها الشيء من الصفرة، إلى عائشة فتقول: لا تصلين حتى ترين القصة البيضاء.
قال مالك وأحمد: هو ماء أبيض يتبع الحيضة، ولأنه دم في زمن العادة أشبه
الأسود، فإن تغيرت العادة، لم تخل من ثلاثة أقسام: أحدها: أن ترى الطهر قبل
تمامها، فإنها تغتسل وتصلي؛ لأن ابن عباس قال: لا يحل لها ما رأت الطهر
ساعة إلا أن تغتسل، ولأنها طاهر فتلزمها الصلاة، كسائر الطاهرات.
(1/143)
وإن عاودها الدم في عادتها، ففيه روايتان:
إحداهما: تتحيض فيه، وهي الأولى؛ لأنه دم صادف العادة، فكان حيضاً كالأول.
والثانية: لا تجلسه حتى يتكرر؛ لأنه جاء بعد طهر، فلم يكن حيضاً بغير
تكرار، كالخارج عن العادة، وإن عاودها بعد العادة، وعبر أكثر الحيض، فهو
استحاضة، وإن لم يعبر ذلك وتكرر، فهو حيض، وإلا فلا؛ لأنه لم يصادف عادة،
فلا يكون حيضاً بغير تكرار.
القسم الثاني: أن ترى الدم في غير عادتها، قبلها أو بعدها مع بقاء عادتها،
أو طهرها فيها، أو في بعضها، فالمذهب أنها لا تجلس ما خرج عن العادة حتى
يتكرر، وفي قدره روايتان: إحداهما: ثلاثاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعي الصلاة أيام أقرائك» وأقل ذلك ثلاثاً.
والثانية: مرتان؛ لأن العادة مأخوذة من المعاودة، وذلك يحصل بمرتين، فعلى
هذا تصوم وتصلي فيما خرج عن العادة مرتين أو ثلاثاً، فإذا تكرر، انتقلت
إليه، وصار عادة، وأعادت ما صامته من الفرض فيه؛ لأنا تبينا أنها صامته في
حيضها.
قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويقوى عندي أنها تجلس متى رأت دماً يمكن
أن يكون حيضاً، وافق العادة أو خالفها؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- قالت: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، ولم تقيده بالعادة وظاهر الأخبار
تدل على أن النساء كن يعددن ما يرينه من الدم حيضاً من غير افتقاد عادة،
ولم ينقل عنهن ذكر العادة، ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -
(1/144)
بيان لها ولا الاستفصال عنها إلا في التي
قالت: إني أستحاض فلا أطهر، وشبهها من المستحاضات، أما في امرأة يأتي دمها
في وقت يمكن أن يكون حيضاً، ثم يطهر فلا، والظاهر أنهن جرين على العرف في
اعتقاد ذلك حيضاً، ولم يأت من الشرع تغيير، ولذلك أجلسنا المبتدأة من غير
تقدم عادة، ورجعنا في أكثر أحكام الحيض إلى العرف، والعرف أن الحيضة تتقدم
وتتأخر وتزيد وتنقص، وفي اعتبار العادة على هذا الوجه، إخلال ببعض
المنتقلات عن الحيض بالكلية، مع رؤيتها للدم في وقت الحيض على صفته، وهذا
لا سبيل إليه.
فصل
القسم الثالث: أن ينضم إلى العادة ما يزيدان بمجموعهما على أكثر الحيض، فلا
تخلو من حالين: أحدهما: أن تكون ذاكرة لعادتها، فإن كانت غير مميزة، جلست
قدر عادتها، واغتسلت بعدها وصلت وصامت؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة قدر الأيام التي
كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» متفق عليه، وإن كانت مميزة ففيها
روايتان:
إحداهما: تعمل بالعادة، لهذا الحديث، والأخرى: تعمل بالتمييز، وهو اختيار
الخرقي، لما تقدم من أدلته.
الحال الثاني: أن تكون ناسية لعادتها: فإن كانت مميزة، عملت بتمييزها؛ لأنه
دليل لا معارض له، فوجب العمل به كالمبتدأة.
(1/145)
وإن لم تكن مميزة فهي على ثلاثة أضرب:
إحداهن: المتحيرة وهي الناسية لوقتها وعددها، فهذه تتحيض في كل شهر ستة
أيام أو سبعة، على حديث حمنة بنت جحش، ولأنه غالب عادات النساء، فالظاهر،
أنه حيضها، وعنه: أنها ترد إلى عادة نسائها، كما تقدم، وقيل: فيها الروايات
الأربع.
ويجعل حيضها من أول كل شهر في أحد الوجهين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحيضي في علم الله ستة أيام، أو سبعة أيام، من كل
شهر، ثم اغتسلي، وصلي ثلاثة وعشرين يوماً» فجعل حيضها من أوله، والصلاة في
بقيته.
والآخر: تجلسه بالاجتهاد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ردها إلى الاجتهاد في العدد بين الست والسبع، فكذلك في الوقت.
(1/146)
وإن علمت أن حيضها في وقت من الشهر كالنصف
الأول ولم تعلم موضعه منه، ولا عدده فكذلك، إلا أن اجتهادها يختص بذلك
الوقت دون غيره.
الضرب الثاني: أن تعلم عددها وتنسى وقتها، نحو أن تعلم أن حيضها خمس ولا
تعلم لها وقتاً، فهذه تجلس قدر أيامها من أول كل شهر في أحد الوجهين، وفي
الآخر تجلسه بالتحري.
وإن علمته في وقت من الشهر، مثل أن علمت أن حيضها في العشر الأول من الشهر
أو العشر الأوسط، جلست قدر أيامها من ذلك الوقت دون غيره.
الضرب الثالث: ذكرت وقتها ونسيت عددها، مثل أن تعلم أن اليوم العاشر من
حيضها، ولا تدري قدره، فحكمها في قدر ما تجلسه حكم المتحيرة، واليوم العاشر
حيض بيقين، فإن علمته أول حيضها، جلست بقية أيامها بعده، وإن علمته آخر
حيضها، جلست الباقي قبله.
وإن لم تعلم أوله ولا آخره جلست مما يلي أول الشهر في أحد الوجهين، وفي
الآخر تجلس بالتحري.
فصل
ومتى ذكرت الناسية عادتها، رجعت إليها؛ لأنها تركتها للعجز عنها، فإذا زال
العجز، وجب العمل بها لزوال العارض، فإن كانت مخالفة لما عملت قضت ما صامت
من الفرض في مدة العادة، وما تركت من الصلاة والصيام فيما خرج عنها؛ لأننا
تبينا أنها تركتها وهي طاهرة.
(1/147)
فصل
ولا تصير المرأة معتادة حتى تعلم حيضها وطهرها وشهرها، ويتكرر.
وشهرها: هو المدة التي يجتمع لها فيه حيض وطهر، وأقل ذلك أربعة عشر يوماً،
يوم للحيض وثلاثة عشر للطهر، وغالبه الشهر المعروف، لحديث حمنة، ولأنه غالب
عادات النساء، وأكثره، لا حد له [لأن أكثر الحيض لا يتعداه] وتثبت العادة
بالتمييز، كما تثبت بانقطاع الدم، فلو رأت المبتدأة خمسة أيام دماً أسود،
ثم احمر وعبر أكثر الحيض، وتكرر ذلك ثلاثاً، ثم رأت في الرابع دماً مبهماً،
كان حيضها أيام الدم الأسود؛ لأنه صار عادة لها.
فصل
والعادة على ضربين: متفقة ومختلفة.
فالمتفقة: مثل من تحيض خمسة من كل شهر، والمختلفة مثل من تحيض في شهر
ثلاثة، وفي الثاني أربعة، وفي الثالث خمسة، ثم يعود إلى الثلاثة، ثم إلى
أربعة على هذا الترتيب، أو في شهر ثلاثة، وفي الثاني خمسة، وفي الثالث
أربعة، ثم تعود إلى الثلاثة، فكل ما أمكن ضبطه من ذلك، فهو عادة مستقرة،
وما لم يمكن ضبطه نظرت إلى القدر الذي تكرر منه، فجعلته عادة، كأنها رأت في
شهر ثلاثة، وفي شهر أربعة، وفي شهر خمسة، فالثلاثة حيض، لتكررها ثلاثاً.
فإذا رأت في الرابع ستة، فالأربعة حيض: لتكررها ثلاثاً، فإذا رأت في الخامس
سبعة، فالخمسة حيض، وعلى هذا ما تكرر، فهو حيض، وما لا فلا.
فصل
في التلفيق: إذا رأت يوماً دماً، ويوم طهراً، فإنها تغتسل، وتصلي في زمن
الطهر، لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يحل لها إذا رأت الطهر
ساعة إلا أن تغتسل، ثم إن انقطع الدم لخمسة عشر فما دون، فجميعه حيض، تغتسل
عقيب كل يوم وتصلي في الطهر، وإن عبر الخمسة عشر، فهي مستحاضة ترد إلى
عادتها، فإن كانت عادتها، سبعة متوالية، جلست ما وافقها من الدم، فيكون
حيضها منه ثلاثة أيام، أو أربعة، وإن كانت ناسية، فأجلسناها سبعة فكذلك،
وإن أجلسناها أقل الحيض، جلست
(1/148)
يوماً وليلة لا غير، وإن كانت مميزة، ترى
يوماً دماً أسود، ثم ترى نقاء ثم ترى أسود إلى عشرة أيام، ثم ترى دماً أحمر
وعبر، ردت إلى التمييز، فيكون حيضها زمن الدم الأسود دون غيره، ولا فرق بين
أن ترى الدم زمناً يمكن يكون أن يكون حيضاً كيوم وليلة، أو دون ذلك، كنصف
يوم، ونصف ليلة، فإن كان النقاء أقل من ساعة، فالظاهر أنه ليس بطهر؛ لأن
الدم يجري تارة، وينقطع أخرى، وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:
لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
فصل
وإذا رأت ثلاثة أيام دماً، ثم طهرت اثني عشر يوماً، ثم رأته ثلاثة دماً،
فالأول حيض؛ لأنها رأته في زمان إمكانه، والثاني استحاضة؛ لأنه لا يمكن أن
يكون ابتداء حيض، لكونه لم يتقدمه أقل الطهر، ولا من الحيض الأول؛ لأنه
يخرج عن الخمسة عشر.
والحيضة الواحدة لا يكون بين طرفيها أكثر من خمسة عشر يوماً. فإن كان بين
الدمين ثلاثة عشر يوماً فأكثر وتكرر، فهما حيضتان؛ لأنه أمكن جعل كل واحد
منهما حيضة منفردة، لفصل أقل الطهر بينهما، وإن أمكن جعلهما حيضة واحدة بأن
لا يكون بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوماً مثل أن ترى يومين دماً وتطهر
عشرة، وترى ثلاثة دماً وتكرر، فهما حيضة واحدة؛ لأنه لم يخرج زمنهما عن مدة
أكثر الحيض. وعلى هذا يعتبر ما ألقي من المسائل في التلفيق.
فصل
في المستحاضة وهي:
التي ترى دماً ليس بحيض ولا نفاس. وحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات
وفعلها؛ لأنها نجاسة غير معتادة، أشبه سلس البول، فإن اختلط حيضها
باستحاضتها، فعليها الغسل عند انقطاع الحيض، لحديث فاطمة، ومتى أرادت
الصلاة؛ غسلت فرجها، وما أصابها من الدم، حتى إذا استنقأت عصبت فرجها،
واستوثقت بالشد، والتلجم، ثم توضأت وصلت، لما روي أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال لحمنة بنت جحش حين شكت إليه كثرة الدم:
" أنعت لك الكرسف " يعني القطن، تحشي به المكان. قالت: إنه أشد من ذلك،
فقال: " تلجمي» .
(1/149)
وعن أم سلمة «أن امرأة كانت تهراق الدماء
على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتت لها أم
سلمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لتنظر عدة
الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها،
فلتترك الصلاة، قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب،
ثم لتصل» رواه أبو داود، فإن خرج الدم بعد الوضوء لتفريط في الشد، أعادت
الوضوء؛ لأنه حدث أمكن التحرز عنه.
وإن خرج لغير تفريط، فلا شيء عليها لما روت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - قالت: اعتكفت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم، والصفرة والطست تحتها، وهي تصلي» رواه
البخاري.
ولأنه لا يمكن التحرز منه فسقط، وتصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض
والنوافل قبل الفريضة وبعدها، حتى يخرج الوقت فتبطل بها طهارتها، وتستأنف
الطهارة لصلاة أخرى، لما روي في حديث «فاطمة أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال لها: "اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي» قال
الترمذي: هذا حديث صحيح، ولأنها طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم،
وإن توضأت قبل الوقت، بطل وضوءها بدخوله، كما في التيمم، وإن انقطع دمها
بعد الوضوء، وكانت عادتها انقطاعه وقتاً لا يتسع للصلاة لم يؤثر انقطاعه؛
لأنه لا يمكن الصلاة فيه، وإن لم تكن به عادة أو كانت عادتها انقطاعه مدة
طويلة، لزمها استئناف الوضوء، وإن كانت في الصلاة، بطلت؛ لأن العفو عن
الدم، لضرورة جريانه فيزول بزواله، وحكم من به سلس البول أو المذي أو الريح
أو الجرح الذي لا يرقأ دمه حكمها في ذلك إلا أن ما
(1/150)
لا يمكن عصبه يصلي بحاله، فقد صلى عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجرحه يثعب دماً.
فصل
قال أصحابنا: ولا توطأ مستحاضة لغير ضرورة؛ لأنه أذى في الفرج، أشبه دم
الحيض، فإن الله تعالى قال: {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فعلله بكونه أذى، وإن خاف على نفسه العنت، أبيح
الوطء؛ لأنه يتطاول، فيشق التحرز منه، وحكمه أخف، لعدم ثبوت أحكام الحيض
فيه، وحكى أبو الخطاب فيه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان:
إحداهما: كما ذكرنا.
والثانية: يحل مطلقاً لعموم النص في حل الزوجات، وامتناع قياس المستحاضة
على الحائض، لمخالفتها لها في أكثر أحكامها، ولأن وطء الحائض ربما يتعدى
ضرره إلى الولد، فإنه قد قيل: إنه يكون مجذوماً بخلاف دم المستحاضة.
فصل
ويستحب لها الغسل لكل صلاة؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - روت: «أن
أم حبيبة استحيضت، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فأمرها أن تغتسل لكل صلاة.» [رواه أبو داود] ، وإن جمعت بين الصلاتين بغسل
واحد، فهو حسن، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال لحمنة: «فإن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، ثم تغتسلين حتى تطهرين،
وتصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب، وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين
وتجمعين بين الصلاتين، وتغتسلين مع الصبح، كذلك فافعلي إن قويت على
(1/151)
ذلك هو أعجب الأمرين إلي» وهو حديث صحيح،
وإن توضأت لوقت كل صلاة أجزأها لما ذكرنا سابقاً.
[باب النفاس]
وهو خروج الدم، بسبب الولادة، وحكمه حكم الحيض فيما يحرم ويجب ويسقط به؛
لأنه دم حيض مجتمع، احتبس لأجل الحمل، فإن خرج قبل الولادة بيومين، أو
ثلاثة، فهو نفاس؛ لأن سبب خروجه الولادة، وإن خرج قبل ذلك، فهو دم فساد؛
لأنه ليس بنفاس، لبعده من الولادة، ولا حيض؛ لأن الحامل لا تحيض.
وأكثر النفاس أربعون يوماً لما روت أم سلمة قالت: «كانت النفساء على عهد
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد بعد نفاسها أربعين
يوماً أو أربعين ليلة» رواه أبو داود.
وليس لأقله حد فأي وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي، ويستحب لزوجها
الإمساك عن وطئها حتى تتم الأربعين، فإن عاودها الدم في مدة النفاس، فهو
نفاس؛ لأنه في مدته أشبه الأول، وعنه: أنه مشكوك فيه، تصوم وتصلي وتقضي
الصوم احتياطاً؛ لأن الصوم واجب بيقين، فلا يجوز تركه لعارض مشكوك فيه،
ويجب قضاؤه لأنه ثابت بيقين فلا يسقط بفعل مشكوك فيه، ويفارق الحيض المشكوك
فيه، لكثرته وتكرره ومشقة إيجاب القضاء فيه، وما زاد على الأربعين، فليس
بنفاس، وحكمها فيه حكم غير النفساء، إذا رأت الدم وصادف عادة الحيض فهو
حيض، وإلا فلا.
(1/152)
فصل
وإذا ولدت توأمين، فالنفاس من الأول؛ لأنه دم خرج عقيب الولادة، فكان
نفاساً، كما لو كان منفرداً، وآخره منه، فإذا أكملت أربعين من ولادة الأول
انقضت مدتها؛ لأنه نفاس واحد، لحمل واحد، فلم تزد العادة منه على أربعين.
وعنه: أنه من الأول، ثم تستأنفه في الثاني؛ لأن كل واحد منهما سبب للمدة،
فإذا اجتمعا اعتبر أولها من الأول، وآخرها من الثاني، كالوطء في إيجاب
العدة.
[باب أحكام النجاسات]
بول الآدمي نجس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في
الذي يعذب في قبره: «إنه كان لا يستتر
(1/153)
من بوله» متفق عليه، والغائط مثله.
والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، حكمه حكم البول لأنه في معناه.
والمذي نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المذي: «اغسل ذكرك» ولأنه خارج من الذكر لا
يخلق منه الولد، أشبه البول، وعنه: أنه كالمني: لأنه خارج بسبب الشهوة،
أشبه المني.
وبول ما لا يؤكل لحمه، ورجيعه نجس؛ لأنه بول حيوان غير مأكول، أشبه بول
الآدمي إلا بول ما لا نفس له سائلة، فإن ميتته طاهرة فأشبه الجراد.
وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر، وعنه أنه كالدم؛ لأنه رجيع، والمذهب الأول؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا في مرابض
الغنم» حديث صحيح، وكان يصلي فيها قبل بناء
(1/154)
مسجده، وقال للعرنيين: «انطلقوا إلى إبل
الصدقة فاشربوا من ألبانها وأبوالها» متفق عليه.
ومني الآدمي طاهر؛ لأن عائشة قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيصلي فيه» ، متفق عليه، ولأنه بدء
خلق آدمي، فكان طاهراً كالطين، وعنه: أنه نجس، يجزئ فرك يابسه، ويعفى عن
يسيره لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أنها كانت تغسل المني
من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» هذا حديث صحيح؛
لأنه خارج من مخرج البول أشبه المذي.
(1/155)
وفي رطوبة فرج المرأة روايتان: إحداهما:
أنها نجس؛ لأنها بلل من الفرج، لا يخلق منه الولد، أشبه المذي.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأن عائشة كانت تفرك المني من ثوب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من جماع؛ لأن الأنبياء لا
يحتلمون، وهو يصيب رطوبة الفرج.
والقيء نجس؛ لأنه طعام استحال في الجوف إلى الفساد، أشبه الغائط.
وفي كل حيوان غير الآدمي ومنيه، في حكم بوله في الطهارة والنجاسة؛ لأنه في
معناه.
(1/156)
والنخامة طاهرة، سواء خرجت من رأس، أو صدر؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تنخع أحدكم
فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه، فإن لم يجد، فليقل هكذا ووصف القاسم، وتفل
في ثوبه ومسح بعضه على بعض» رواه مسلم.
وذكر أبو الخطاب: أن البلغم نجس، قياساً على القيء، والأول أصح، والبصاق
والمخاط والعرق، وسائر رطوبات بدن الآدمي طاهرة؛ لأنه من جسم طاهر، وكذلك
هذه الفضلات، من كل حيوان طاهر.
فصل
والدم نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في
الدم: «اغسليه بالماء» متفق عليه، ولأنه نجس لعينه، بنص القرآن، أشبه
الميتة، إلا دم السمك، فإنه طاهر؛ لأن ميتته طاهرة مباحة.
وفي دم ما لا نفس له سائلة، كالذباب والبق والبراغيث والقمل، روايتان:
إحداهما: نجاسته؛ لأنه دم أشبه المسفوح.
والثانية: طهارته؛ لأنه دم حيوان، لا ينجس بالموت، أشبه دم السمك، وإنما
حرم الدم المسفوح.
(1/157)
والعلقة نجسة؛ لأنها دم خارج من الفرج،
أشبه الحيض، وعنه: إنها طاهرة؛ لأنها بدء خلق آدمي، أشبهت المني.
والقيح نجس؛ لأنه دم استحال إلى نتن وفساد، والصديد مثله، إلا أن أحمد قال:
هما أخف حكماً من الدم، لوقوع الخلاف في نجاستهما، وعدم النص فيهما.
وما بقي من الدم في اللحم معفو عنه، ولو علت حمرة الدم في القدر، لم يكن
نجساً؛ لأنه لا يمكن التحرز منه.
فصل
والخمر نجس؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر، فكان نجساً
كالدم، والنبيذ مثله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» رواه مسلم، ولأنه شراب فيه شدة مطربة،
أشبه الخمر، فإن انقلبت الخمرة خلاً بنفسها طهرت؛ لأن نجاستها لشدتها
المسكرة، وقد
(1/158)
زال ذلك، من غير نجاسة خلفتها فوجب أن
تطهر، كالماء الذي تنجس بالتغير [إذا زال تغيره] .
وإن خللت لم تطهر لما روي: «أن أبا طلحة، سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن أيتام ورثوا خمراً فقال: أهرقها، قال: أفلا
أخللها؟ قال: لا» ، رواه أحمد في مسنده والترمذي، ولو جاز التخليل، لم ينه
عنه، ويتخرج أن تطهر لزوال علة التحريم، كما لو تخللت، ولا يطهر غيرها من
النجاسات بالاستحالة، فلو أحرقت فصارت رماداً أو تركت في ملاحة، فصارت
ملحاً لم تطهر؛ لأن نجاستها لعينها بخلاف الخمر، فإن نجاستها لمعنى زال
بالانقلاب.
ودخان النجاسة وبخارها نجس، فإن اجتمع منه شيء، أو لاقى جسماً صقيلاً، فصار
ماءً، فهو نجس.
وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة، وغبارها، فلم يجتمع منه شيء، ولا ظهرت
صفته فهو معفو عنه، لعدم إمكان التحرز منه.
فصل
ولا يختلف المذهب، في نجاسة الكلب والخنزير، وما تولد منهما، إذا
(1/159)
أصابت غير الأرض أنه يجب غسلها سبعاً
إحداهن بالتراب، سواء كان من ولوغه أو غيره، لما روي عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم
فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب» متفق عليه، ولمسلم: «أولاهن بالتراب» .
(1/160)
وعنه: «يغسله سبعاً، وواحدة بالتراب» ، لما
روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب
في الإناء، فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب» رواه مسلم والأولى أصح؛
لأنه يحتمل أنه عد التراب ثامنة، لكونه مع الماء، من غير جنسه، والأولى جعل
التراب، في الأولى للخبر، وليكون الماء بعده، فينظفه، وحيث جعله جاز، لقوله
في اللفظ الآخر: «وعفروه الثامنة بالتراب» فيدل على أن عين الغسلة غير
مرادة.
وإن جعل مكان التراب جامداً آخر كالأشنان، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجزئه؛
لأن نصه على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه تطهير ورد الشرع فيه بالتراب، فلم يقم غيره مقامه
كالتيمم.
(1/161)
والثالث: يجزئه إن عدم التراب، أو كان
مفسداً للمغسول للحاجة، وإلا فلا.
وإن جعل مكانه غسلة ثامنة، لم يجزه؛ لأنه أمر بالتراب معونة للماء، في قلع
النجاسة، أو للتعبد، ولا يحصل بالماء وحده، وقد ذكر فيه الأوجه الثلاثة،
وإن ولغ في الإناء كلاب، أو وقعت فيه نجاسة أخرى، لم تغير حكمه؛ لأن الغسل
لا يزداد بتكرار النجاسة، كما لو ولغ الكلب فيه مرات.
وإن أصاب الثوب من ماء الغسلات، ففيه وجهان: أحدهما: يغسل سبعاً إحداهن
بالتراب؛ لأنها نجاسة كلب.
والثاني: حكمه حكم المحل الذي انفصل عنه في الغسل بالتراب وفي عدد الغسلات؛
لأن المنفصل كالبلل الباقي، وهو يطهر بباقي العدد كذلك هذا.
فصل
والنجاسات كلها على الأرض، يطهرها أن يغمرها الماء، فيذهب عينها ولونها؛
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صبوا على بول الأعرابي
ذنوباً من ماء» متفق عليه، ولو كانت أرض البئر نجسة فنبع عليها الماء
طهرها.
(1/162)
ولا تطهر الأرض النجسة بشمس، ولا ريح؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بغسل بول الأعرابي،
ولأنه محل نجس، أشبه الثوب.
وإن طبخ اللبن المخلوط بالزبل النجس، لم يطهر، لكن ما يظهر منه يحترق فيذهب
عينه، ويبقى أثره، فإذا غسل طهر ظاهره، وبقي باطنه نجساً لو حمله مصل، لم
تصح صلاته، وإن ظهر من باطنه شيء فهو نجس.
فصل
إذا أصاب أسفل الخف، أو الحذاء نجاسة، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يجزئ دلكه
بالأرض، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه، فطهورهما التراب» وفي لفظ: «إذا وطئ
بنعله» ، رواه أبو داود؛ لأنه محل تتكرر فيه النجاسة، فأجزأ فيه المسح،
كمحل الاستنجاء.
والثانية: يجب غسله؛ لأنه ملبوس فلم يجز فيه المسح كظاهره.
والثالثة: يجب غسله من البول والعذرة لفحشهما، ويجزئ دلكه من غيرهما، فإن
قلنا: يجزئ المسح، ففيه وجهان: أحدهما: يطهر اختاره ابن حامد، للخبر.
(1/163)
والثاني: لا يطهر؛ لأنه محل نجس فلم يطهره
المسح كغيره، وفي محل الاستنجاء بعد الاستجمار وجهان أيضاً: أحدهما: يطهر،
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المستجمر: يعرق في سراويله: لا بأس
به، «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الروث والرمة:
لا يطهران» دليل على أن غيرهما يطهر.
والثاني: لا يطهر، لما ذكرنا من القياس.
فصل
ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو أن يغمره بالماء، وإن
لم يزل عنه لما «روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل
الطعام، إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجلسه في
حجره، فبال على ثوبه
(1/164)
فدعا بماء فنضحه ولم يغسله» متفق عليه.
ولا يجزئ في بول الجارية إلا الغسل، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بول الغلام
ينضح، وبول الجارية يغسل» رواه أحمد في
(1/165)
" المسند " فإن أكلا الطعام وتغذيا به غسل
بولهما؛ لأن الرخصة وردت فيمن لم يطعم، فبقي من عداه على الأصل.
وفي المذي روايتان: إحداهما: يجزئ نضحه، لما «روى سهل بن حنيف، قال: كنت
ألقى من المذي شدة وعناء، فقلت: يا رسول الله، فكيف بما أصاب ثوبي منه؟
قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه» ، قال
الترمذي: هذا حديث صحيح.
(1/166)
والثانية: يجب غسله؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بغسل الذكر منه، ولأنه نجاسة من كبير،
أشبه البول.
فصل
وما عدا المذكور من النجاسات، في سائر المحال، فيه روايتان: إحداهما: يجزئ
مكاثرتها بالماء حتى تذهب عين النجاسة ولونها من غير عدد، قياساً على نجاسة
الأرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسماء في
الدم: «اغسليه بالماء» ولم يذكر عدداً، «وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - قال: كان غسل الثوب من النجاسة سبع مرات، فلم يزل النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل، حتى جعل الغسل من البول مرة»
رواه أبو داود.
والثانية: يجب فيها العدد، وفي قدره روايتان: إحداهما: سبع؛ لأنها نجاسة في
غير الأرض، فأشبهت نجاسة الكلب، وفي اشتراط التراب وجهان.
(1/167)
والثانية: ثلاث؛ لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في
الإناء، حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» أمر بالثلاث، وعلل
بوهم النجاسة، ولا يرفع وهمها إلا ما يرفع حقيقتها.
فإن قلنا بالعدد، لم يحتسب برفع الثوب من الماء غسلة، حتى يعصره، وعصر كل
شيء بحسبه، فإن كان بساطاً ثقيلاً أو زلياً فعصره بتقليبه ودقه، حتى يذهب
أكثر ما فيه من الماء.
فصل
وإذا غسل النجاسة، فلم يذهب لونها أو ريحها لمشقة إزالته، عفي عنه، لما
«روي
(1/168)
أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله،
أرأيت لو بقي أثره، تعني: الدم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: الماء يكفيك، ولا يضرك أثره» رواه أبو داود بمعناه.
فصل
ويعفى عن يسير الدم في غير المائعات؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، فإن الغالب
أن الإنسان، لا يخلو من حبة وبثرة، فألحق نادره بغالبه، وقد روي عن جماعة
من الصحابة الصلاة مع الدم، ولم يعرف لهم مخالف، وحد اليسير ما لا ينقض
مثله الوضوء، وقد ذكر في موضعه.
والقيح والصديد كالدم لأنه مستحيل منه، وفي المني إذا حكمنا بنجاسته
روايتان: إحداهما: أنه كالدم؛ لأنه مستحيل منه.
والثانية: لا يعفى عنه؛ لأنه يمكن التحرز منه.
(1/169)
وفي المذي، وريق البغل والحمار وعرقهما،
وسباع البهائم وجوارح الطير وبول الخفاش، روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره،
لمشقة التحرز منه، فإن المذي يكثر من الشباب، ولا يكاد يسلم مقتني هذه
الحيوانات من بللها، فعفي عن يسيرها كالدم.
والثانية: لا يعفى عنها، لعدم ورود الشرع فيها.
وفي النبيذ روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره، لوقوع الخلاف فيه.
والثانية: لا يعفى عنه؛ لأن التحرز عنه ممكن.
وما عدا هذا من النجاسة، لا يعفى عن شيء منه، ما أدركه الطرف منها، وما لم
يدركه؛ لأنها نجاسة، لا يشق التحرز منها، فلم يعف عنها كالكثير.
(1/170)
|