الكافي
في فقه الإمام أحمد [باب صفة الحج]
يستحب لمن بمكة الخروج يوم التروية -
وهو الثامن من ذي الحجة - قبل صلاة الظهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يومئذ، فصلى الظهر بمنى، فمن كان حراماً، خرج على
حاله، ومن كان حلالاً من المتمتعين والمكيين، أحرم بالحج، وفعل فعله عند
الإحرام من الميقات، ومن أحرم من الحرم جاز؛ لأن جابراً قال: «أمرنا النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى
منى فأهللنا من الأبطح» .
والمستحب أن يطوف بالبيت سبعاً، ويصلي ركعتين، ثم يستلم الركن وينطلق منه
مهلاً بالحج؛ لأن عطاء كان يفعل ذلك، ويفعل في إقامته بمنى ورواحه منها،
ووقوفه، مثل ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
جابر: «ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى بمنى
الظهر والعصر
(1/518)
والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى
طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضُربت له بنمرة، فسار حتى أتى عرفة، فوجد
القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت
له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام
فصلى العصر، ثم لم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات
وجعل حبل المشاة بين يديه، فاستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس،
وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، ودفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فهذا أولى ما فعل اقتداء برسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ويستحب أن يخطب الإمام خطبة، يعلم الناس مناسكهم وفعلهم في وقوفهم، ودفعهم
في أول ما تزول الشمس، ويقصر الخطبة؛ لأن سالم بن عبد الله قال للحجاج يوم
عرفة: إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة، وعجل الصلاة، قال ابن عمر:
صدق. رواه البخاري. ويأمر بالأذان، فينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع
بينهما بأذان وإقامتين للخبر. ومن لم يصل مع الإمام، جمع في رحله؛ لأنهما
صلاتا جمع، فشرع جمعهما في حق المنفرد كصلاتي المزدلفة، ثم يصير إلى موقف
عرفة، وأين وقف منها جاز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «عرفة كلها موقف» رواه أبو داود. وهي من الجبل المشرف على عرفة إلى
الجبال المقابلة له، إلى ما يلي حوائط بني عامر، إلى بطن عرنة؛ لقول النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن
عرنة» رواه ابن ماجه.
والأفضل الوقوف في موقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
وأن يقف راكباً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف
راكباً؛ ولأنه أمكن له من الدعاء، وقيل: الراجل أفضل؛ لأنه أروح لراحلته،
ويحتمل أن يكونا سواء.
فصل:
ويجتهد في الذكر والدعاء؛ لأنه يوم رغبة ترجى فيه الإجابة، فإن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من يوم أكثر من يعتق الله
فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، فإنه ليدنو عز وجل فيباهي بهم الملائكة.
فيقول: ما أراد هؤلاء» رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ويدعو بما روي عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أكثر دعاء الأنبياء
قبلي، ودعائي عشية عرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله
الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم
اجعل لي في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، ويسر لي أمري» ويدعو بدعاء ابن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي ذكرناه. ويختار من الدعاء ما أمكنه.
فصل:
ووقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، لما روى عروة
(1/519)
بن مضرس بن أوس بن لام قال: «أتيت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة
فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبلي طيئ، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله
ما تركت من جبل إلا ووقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد
وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجته وقضى تفثه» هذا حديث صحيح.
وقال أبو حفص العكبري: أول وقته زوال الشمس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف بعده، والأول أولى للخبر، ولأن ما قبل الزوال من
يوم عرفة، فكان وقتاً للوقوف بها، كالذي بعده، ووقوف النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستوعب الوقت، بدليل ما بعد الغروب، ومن
حصل بعرفة في وقت الوقوف قائماً، أو قاعداً أو مجتازاً أو نائماً، أو غير
عالم أنه بعرفة، فقد أدرك الحج للخبر، ومن كان مغمى عليه، أو مجنونا لم
يحتسب له به؛ لأنه ليس من أهل العبادات، بخلاف النائم لما ذكرنا في الصيام.
ومن فاته ذلك. فقد فاته الحج.
قال ابن عقيل: والسكران كالمغمى عليه؛ لأنه ليس من أهل العبادات.
ولا يشترط للوقوف طهارة، ولا سترة ولا استقبال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة إذ حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا
تطوفي بالبيت» وأمرها فوقفت. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يستحب أن
يشهد المناسك كلها على وضوء؛ لأنه أكمل وأفضل، ويجب أن يقف حتى تغرب الشمس؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف كذلك، فإن دفع قبل
الغروب ثم عاد فلا دم عليه؛ لأنه جمع بين الليل والنهار، فإن لم يعد، فعليه
دم؛ لأنه ترك نسكاً واجباً، ولا يبطل حجه، لحديث عروة بن مضرس. ومن وافى
عرفة ليلاً أجزأه ذلك، ولا دم عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه»
رواه أبو داود. ويستحب أن لا يدفع قبل الإمام. قال أحمد: وما يعجبني أن
يدفع إلا مع الإمام؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لم يدفعوا قبله.
فصل:
ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة، ويسير، وعليه السكينة، وإذا وجد فرجة،
أسرع؛ لقول جابر: «وأردف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أسامة وسار وهو يقول: أيها الناس السكينة، السكينة حتى أتى المزدلفة، فصلى
بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما» وقال أسامة:
«كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسير العنق، فإذا
وجد فرجة، نص»
(1/520)
يعني: أسرع. متفق عليه ويكون في الطريق
يلبي، ويذكر الله تعالى، لما روى الفضل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» . متفق عليه. فإن
وصل مزدلفة، أناخ راحلته ثم صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال، يجمع
بينهما، لخبر جابر، وروى أسامة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أقام فصلى المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم، ولم يحلوا حتى
أقام العشاء الآخرة، فصلوا ثم حلوا» رواه مسلم. وإن صلى المغرب في طريق
مزدلفة، ترك السنة وأجزأه؛ لأن الجمع رخصة فجاز تركها كسائر الرخص، ثم يبيت
لمزدلفة حتى يطلع الفجر، ثم يصلي الفجر في أول وقتها، ثم يأتي المشعر
الحرام فيقف عليه، ويستقبل القبلة ويدعو، ويكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا
فيه، وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا
بقولك، وقولك الحق، {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] .
ثم يقف حتى يسفر جداً، ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى، فإذا أتى بطن محسر،
أسرع، حتى يجاوزه، ثم يسير حتى يأتي جمرة العقبة، فيرميها؛ لقول جابر في
حديثه: «ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع
الفجر، فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى
المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره. وهلله ووحده، ولم يزل
واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل طلوع الشمس، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً
ثم سلك الطريق الوسطى، حتى أتى الجمرة، يعني جمرة العقبة فرماها بسبع
حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف» وأين وقف من مزدلفة جاز؛ لقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا
عن بطن محسر» وحدها ما بين مأزمي وعرفة وقرن محسر، ويستحب أخذ حصى الجمار
منها، ليكون مستعداً بالحصى، لا يشتغل بجمعه في منى عن تعجيل الرمي، ومن
حيث أخذه جاز، وعدده سبعون حصاة، ويستحب أن يكون مثل حصى الخذف، ويلقطهن
لقطاً، لما روى ابن عباس قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - غداة العقبة القط لي حصاً فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف،
فجعل ينفضهن في كفيه، ويقول: أمثال هؤلاء، فارموا ثم قال: أيها الناس،
إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» رواه ابن
ماجه.
والمبيت بمزدلفة واجب، يجب بتركه دم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وقف به، وسماه موقفاً، وليس بركن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-: «الحج عرفة» .
ويجوز الدفع بعد نصف الليل، لما روت عائشة قالت: «أرسل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/521)
بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل
الفجر، ثم أفاضت» . رواه أبو داود. ولا بأس بتقديم الضعفة ليلاً لهذا
الحديث. ولما روى ابن عباس قال: «كنت فيمن قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى» . متفق عليه ولا
يجوز الدفع قبل منتصف الليل، فمن خرج قبل ذلك ثم عاد إليها في ليله فلا دم
عليه ومن لم يعد فعليه دم. فإن وافاها بعد نصف الليل فلا دم عليه، كما قلنا
في عرفة سواء.
فصل:
فإذا وصل منى بدأ برمي جمرة العقبة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بدأ بها، ولأنها تحية منى، فلم يقدم عليها شيء كالطواف في
المسجد، والمستحب رميها بعد طلوع الشمس. لما روى ابن عباس أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع
الشمس» من " المسند ".
وأول وقته بعد نصف الليل، لحديث عائشة، ويستحب لمن كان راكباً أن يأتيها
راكباً، لما روى جابر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: لتأخذوا عني مناسككم» .
رواه مسلم. ويستحب أن يستبطن الوادي ويستقبل القبلة، ويرمي على حاجبه
الأيمن، لما روى عبد الرحمن بن يزيد قال: «لما أتى عبد الله جمرة العقبة،
استبطن الوادي، واستقبل القبلة، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن، ثم رمى
بسبع حصيات ثم قال: والله الذي لا إله غيره، من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه
سورة البقرة» . متفق عليه، وإن رماها من فوقها جاز، لما روي عن عمر أنه جاء
والزحام عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها، ويقطع التلبية عند البداءة
بالرمي؛ لقول الفضل: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» ، ولأن التلبية للإحرام، وبالرمي يشرع في
التحلل منه، فلا يبقى للتلبية معنى. ويكبر مع كل حصاة، لحديث جابر، وعن ابن
عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استبطن الوادي ورمى
بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة: الله أكبر الله أكبر، اللهم اجعله حجاً
مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً» ، رواه حنبل في " مناسكه "،
ويرفع يده في الرمي حتى يرى بياض إبطيه، ولا يجزئه غير الحجر في الرمي من
المدر والخذف، ولا بحجر قد رمي به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رمى بالحصى، وأمر بلقطه من غير المرمى ولأن ما تقبل من الحصى
رفع، والباقي مردود فلا يرمى به، وإن رمى بحجر كبير أجزأه؛ لأنه حجر، وعنه:
لا يجزئه؛ لأنه منهي عنه.
ولا يجزئه وضع الحصى في المرمى بغير رمي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى.
فإن رمى السبع دفعة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى سبع رميات.
(1/522)
ولو رمى فوقعت الحصاة في غير المرمى
واستقرت، لم تجزئه، وإن طارت فوقعت في المرمى أجزأته؛ لأنها حصلت فيه
برميه، وإن وقعت على ثوب إنسان أو محمله، ثم طارت إلى المرمى أجزأته، وإن
رماها الإنسان عن ثوبه، أو وقعت بحركة المحمل، لم تجزئه؛ لأنها لم تصل
برميه، وإن رماها من مكان عال فتدحرجت إلى المرمى، أجزأته لأنها حصلت فيه
بفعله، وإن وقعت في غير المرمى، فأطارت أخرى إلى المرمى، لم تجزئه؛ لأن
التي رماها لم تصل.
وإذا فرغ من الرمي انصرف، ولم يقف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم يقف عندها، فإن أخر الرمي إلى المساء، رمى ولا شيء عليه،
لما روى ابن عباس قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يسأل بمنى قال رجل: رميت بعدما أمسيت. فقال: لا حرج» رواه البخاري، فإن لم
يرم حتى جاء الليل لم يرم، وأخره إلى غد بعد الزوال؛ لأن ابن عمر قال ذلك.
فصل:
ثم ينصرف فيذبح هدياً إن كان معه، وإن كان واجباً عليه، ولا هدي معه،
اشتراه فذبحه؛ لقول جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إنه رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده»
، ويسن أن ينحر بيده، لهذا الحديث، ويجوز أن يستنيب فيه؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى علياً فنحر ما غبر. وحد منى ما
بين العقبة وبطن محسر، فحيث نحر منها أو من الحرم أجزأه؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر
وطريق» .
فصل:
ثم يحلق رأسه، ويستحب أن يكبر عند حلقه؛ لأنه نسك، ويستقبل القبلة، ويبدأ
بشقه الأيمن لما روى أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
دعا بالحلاق، فأخذ بشق رأسه الأيمن، فحلقه ثم الأيسر» . رواه أبو داود.
ويجوز أن يقصر من شعره، إلا أن أحمد قال: من لبد رأسه أو عقص أو ظفر،
فليحلق؛ لأن عمر وابنه أمرا من لبد رأسه أن يحلق. ويروى عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لبد فليحلق» فأما غير هؤلاء فيجزئهم
التقصير بالإجماع، والحلق أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حلق وقال: «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله
والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال
في الرابعة: والمقصرين» .
والمرأة تقصر، ولا تحلق؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء تقصير» رواه أبو داود. ولأن
الحلق في حقها مثله، فلم يكن مشروعاً.
(1/523)
ومن لا شعر له فلا شيء عليه؛ لأنها عبادة
تتعلق بمحل فسقطت بذهابه، كغسل اليد في الوضوء، ويستحب أن يمر الموسى على
رأسه لأن ابن عمر قال ذلك.
فصل:
وفي الحلاق والتقصير روايتان:
إحداهما: ليس بنسك، إنما هو استباحة محظور؛ لأنه محرم فلم يكن نسكاً،
كالطيب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا موسى أن
يتحلل بطواف وسعي، ولم يذكر تقصيراً.
والثانية: هو نسك، وهو أصح لقول الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . ولأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر به
بقوله: «فليقصر وليحلل» ودعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة. والتفاضل إنما
هو في النسك، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنما على النساء التقصير» فإن
قلنا: هو استباحة محظور، فله الخير بين فعله وتركه، والأخذ من بعضه دون
بعض، ويحصل التحلل الأول برمي الجمرة قبله، فيحل له كل محرم بالإحرام إلا
النساء، وما يتعلق بهن من الوطء والعقد والمباشرة، لما روت أم سلمة أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم النحر: «إن هذا يوم
رخص لكم، إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا - يعني من كل شيء - إلا النساء»
رواه أبو داود.
وعنه: يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج. وإن قلنا، هو نسك فعليه الحلق، أو
التقصير من جميع رأسه؛ لقول الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] .
وحلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جميع رأسه.
وعنه: يجزئه بعضه كالمسح، ويقصر قدر الأنملة؛ لأن ابن عمر قال ذلك، وإن أخذ
أقل من ذلك جاز؛ لأن الأمر به مطلق، ولا يحصل التحلل الأول إلا به مع
الرمي؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليقصر وليحلل»
.
والأولى حصول التحلل بالرمي وحده، لحديث أم سلمة، عن ابن عباس مثله. وإن
أخر الحلاق إلى آخر أيام النحر جاز؛ لأن تأخير النحر جائز، وهو مقدم على
الحلق فالحلق أولى، وإن أخره عن ذلك ففيه روايتان:
إحداهما: عليه دم؛ لأنه ترك النسك في وقته، فأشبه تأخير الرمي.
(1/524)
والثانية: لا شيء عليه سوى فعله؛ لأن الله
تعالى بين أول وقته بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . ولم يبين آخره؛ لأنه لو أخر
الطواف لم يلزمه إلا فعله، فالحلق أولى، ويستحب لمن حلق أن يأخذ من شاربه
وأظفاره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق رأسه،
قلم أظفاره، ولا بأس أن يتطيب؛ لقول عائشة: «طيبت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف
بالبيت» . متفق عليه.
فصل:
ويسن أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى خطبة، يعلمهم فيها الإفاضة والرمي
والمبيت بمنى، وسائر مناسكهم، لما روى ابن عمر قال: «خطبنا النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر فقال في خطبته: إن هذا يوم الحج
الأكبر» رواه البخاري. ولأنه يوم فيه وفيما بعده مناسك، يحتاج إلى العمل
بها، فشرعت فيه الخطبة، كيوم عرفة.
فصل:
ثم يفيض إلى مكة، فيطوف بالبيت طوافاً ينوي به الزيارة، ويسمى طواف
الزيارة، وطواف الإفاضة، وهو ركن الحج لا يتم إلا به؛ لقول الله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وروت عائشة: «أن
صفية حاضت. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت. قال: فلتنفر إذا» متفق
عليه. فدل على أنه لا بد من فعله.
وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، لحديث أم سلمة، والأفضل فعله يوم
النحر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رمى الجمرة
أفاض إلى البيت، في حديث جابر. وإن أخره جاز؛ لأنه يأتي به بعد دخول وقته،
فإذا فرغ منه، حل له كل شيء؛ لقول ابن عمر: «أفاض بالبيت، ثم حل من كل شيء
حرم منه» ، يعني: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعن عائشة:
مثله. متفق عليهما.
وإن أفاض قبل الرمي حل التحلل الأول ووقف الثاني على الرمي، فإن فات وقته
قبل رميه سقط وحل التحلل الثاني بسقوطه، وهذا في حق من سعى مع طواف القدوم،
أما من لم يسع فعليه أن يسعى بعد طواف الزيارة، ويقف التحلل على السعي.
قال أصحابنا: يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة، الرمي والحلق والطواف،
(1/525)
ويحصل التحلل الثاني بالثالث، إن قلنا:
الحلق نسك، وإن قلنا: ليس بنسك، حصل التحلل الأول بواحد من اثنين، وهما
الرمي والطواف، وحصل التحلل الثاني بالثالث.
فصل:
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في المتمتع إذا دخل مكة لطواف
الزيارة: يبدأ قبله بطواف القدوم، ويسعى بعده، ثم يطوف للزيارة بعدهما.
وهكذا القارن والمفرد، إذا لم يكونا دخلا مكة قبل يوم النحر، ولا طافا
للقدوم، فإذا دخلا للإفاضة، بدآ بطواف القدوم، وسعيا بعده، ثم طافا
للزيارة،؛ لأن طواف القدوم مشروع، فلا يسقط بتعيين طواف الزيارة إلا أنه
قال في المرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج: أهلت الحج، وكانت
قارنة، ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم.
واحتج أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
-: «فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم طافوا طوافاً
آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم» ، متفق عليه، قال الشيخ: لم يتبين لي من
هذا الحديث إلا أن طواف القدوم في حقهم غير مشروع، لكونهم لم يطوفوا بعد
الرجوع من منى إلا طوافاً واحداً، ولو شرع طواف القدوم لطافوا طوافين، ولأن
عائشة لم تطف للقدوم حين أدخلت الحج على العمرة، ولم تكن طافت له قبل ذلك؛
لأن طواف القدوم تحية المسجد، فسقط بتعيين الفرض، كتحية المسجد في حق من
دخل وقد أقيمت المفروضة.
فصل:
يوم الحج الأكبر يوم النحر، لما تقدم من حديث ابن عمر، سمي بذلك لكثرة
أفعال الحج فيه، فإنه يفعل فيه ستة أشياء: الوقوف في المشعر الحرام، ثم
الإفاضة إلى منى، ثم الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم طواف الزيارة. والسنة:
ترتيبها هكذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رتبها في
حديث جابر وغيره، فإن فعل شيئاً قبل شيء، جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه،
لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل له
يوم النحر، في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير. قال: لا حرج» متفق
عليه. فإن فعل ذلك عالماً ذاكراً، ففيه روايتان:
إحداهما: لا شيء عليه للخبر.
والثانية: عليه دم؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . ولأن الحلق كان
محرماً قبل التحلل الأول، ولا يحصل إلا بالرمي.
(1/526)
فصل:
ثم يرجع إلى منى من يومه، فيمكث بها ليالي أيام التشريق، لما روت عائشة
قالت: «أفاض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يومه
حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق» .
وهل المبيت بها واجب أم لا؟ فيه روايتان:
إحداهما: ليس بواجب؛ لقول ابن عباس: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت، ولأنه
مبيت بمنى، فلم يجب كليلة عرفة.
والثانية: هو واجب؛ لأن ابن عمر روى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من
أجل سقايته» . متفق عليه. فيدل على أنه لا رخصة لغيره.
فعلى هذا، إن تركه، فقال أحمد: يطعم شيئاً تمراً أو نحوه، وخففه، وهذا يدل
على أنه أي شيء تصدق به أجزأه.
وعنه في ليلة مد، وفي ليلتين مدان.
وعنه: في ليلة درهم، وفي ليلتين درهمان، لما ذكرنا في الشعر.
وعنه: في ليلة نصف درهم، فأما الليلة الثالثة، فلا شيء في تركها؛ لأنها لا
تجب إلا على من أدركه الليل بها.
فإن تركها في هذه الحال مع الليلتين الأوليتين، فعليه في الثلاث دم، في
إحدى الروايتين.
فصل:
ثم يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال، كل جمرة في كل يوم
بسبع حصيات، يبتدئ بالجمرة الأولى، وهي أبعدها من مكة، وتلي مسجد الخيف،
فيجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة ويرميها، كما وصفنا جمرة العقبة. ثم
يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصى، فيقف وقوفاً طويلاً، يدعو الله رافعاً
يديه، ثم يتقدم إلى الوسطى، فيجعلها عن يمينه ويرميها كذلك ويفعل من الوقوف
والدعاء فعله في الأولى، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع على صفة رميه يوم النحر،
ولا يقف عندها، لما روت عائشة، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا
زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، يقف عند الأولى
والثانية،
(1/527)
فيطيل المقام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا
يقف عندها» . رواه أبو داود. ولا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال، مرتباً
للخبر. فإن نكسه فبدأ بالثالثة، ثم بالثانية، ثم بالأولى لم يعتد له إلا
بالأولى. وإن ترك الوقوف والدعاء، فلا شيء عليه؛ لأنه دعاء مشروع، فلم يجب
كما في سائر المشاعر.
فصل:
ولا ينقص من سبع. والمشهور عن أحمد أن استيفاءها غير واجب.
وقال: من رمى بست حصيات لا بأس، وخمس حسن، وأقل من خمس لا يرمي أحد وأحب
إلي سبع، لما روى سعد قال: «رجعنا من الحجة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعضنا يقول: رميت بست، وبعضنا يقول: رميت بسبع، فلم
يعب في ذلك بعضنا على بعض» . رواه الأثرم. وعنه: أن استيفاء السبع شرط؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى بسبع، وقال: «خذوا عني
مناسككم» فعلى هذه الرواية إن أخل بحصاة من الأولى، لم يصح رمي الثانية،
فإن لم يعلم من أي الجمار تركها حسبها من الأولى ليسقط الفرض بيقين، فإن
ترك الرمي كله حتى مضت أيام التشريق فعليه دم؛ لأنه ترك نسكاً واجباً.
وإن ترك حصاة أو اثنتين، فعلى الرواية الأولى لا شيء عليه، وعلى الثانية
يخرج فيها مثل ما ذكرنا في ليالي منى.
وعنه: من رمى بست ناسياً لا شيء عليه. فإن تعمده تصدق بشيء، وإن أخر رمي
يوم إلى آخر أو أخر الرمي كله إلى اليوم الثالث، ترك السنة، ولا شيء عليه،
لكنه يقدم بالنية رمي الأول، ثم الثاني ثم الثالث؛ لأن أيام التشريق كلها
وقت للرمي، فجاز تأخيره إلى آخر وقته، كتأخير الوقوف بعرفة إلى الليل.
وإنما وجب الترتيب بالنية؛ لأنها عبادات يجب الترتيب فيها، مع فعلها في
أيامها، فوجب مع فعلها مجموعة، كالصلوات.
فصل:
ويجوز لرعاة الإبل، وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى ليالي منى، وترك رمي
اليوم الأول، إلى الثاني، أو الثالث، إن أحبوا أن يرموا الجميع في وقت
واحد، والرمي في الليل، فيرمون رمي كل يوم في الليلة المستقبلة، لحديث ابن
عمر في الرخصة للعباس. وقال عاصم بن عدي: «رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرعاة الإبل أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي
يومين، بعد يوم النحر، يرمونه في أحدهما» . حديث صحيح. ولأنهم يشتغلون
بالرعاية، واستقاء الماء، فرخص لهم ذلك. وكل ذي عذر من مرض، أو
(1/528)
خوف على نفسه أو ماله، كالرعاة في هذا؛
لأنهم في معناهم، لكن إذا غربت الشمس عليهم بمنى لزم الرعاة البيتوتة دون
أهل السقاية؛ لأن الرعاة رعيهم في النهار، فلا حاجة لهم في الخروج ليلاً
فهم كالمريض تسقط عنه الجمعة، وإن حضرها وجبت عليه، وأهل السقاية يستقون
بالليل، فلا يلزمهم المبيت.
فصل:
ومن عجز عن الرمي جاز أن يستنيب من يرمي عنه؛ لأن جابراً قال: لبينا عن
الصبيان، ورمينا عنهم، والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر النائب،
فإن رمى عنه، ثم برئ لم يلزمه إعادته؛ لأن الواجب سقط بفعل النائب، وإن
أغمي على إنسان، فرمى عنه إنسان، فإن كان أذن له جاز، وإلا فلا.
فصل:
ويسن أن يخطب الإمام يوم النفر، وهو أوسط أيام التشريق، ويعلم الناس حكم
التعجيل، والتأخير، وتوديعهم، لما روي عن رجلين من بني بكر، قالا: «رأينا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بين أوسط أيام
التشريق، ونحن عند راحلته» ، أخرجه أبو داود. ولأن بالناس حاجة إلى أن
يعلمهم ذلك، فشرعت الخطبة فيه، كيوم عرفة.
فصل:
وإذا كان رمي اليوم الثاني، وأحب أن ينفر، نفر قبل غروب الشمس، وسقط عنه
المبيت تلك الليلة، والرمي بعدها، وإن غربت وهو في منى، لزمته البيتوتة،
والرمي من الغد بعد الزوال؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}
[البقرة: 203] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه»
رواه الترمذي. واليوم: اسم لبياض النهار. وإن رحل، وخرج ثم عاد إليها
لحاجة، فلم يلزمه المبيت، ولا الرمي؛ لأن الرخصة قد حصلت له بالتعجيل. قال
بعض أصحابنا: يستحب لمن نفر أن ينزل المحصب، ثم يدخل مكة، لما روى نافع
قال: «كان ابن عمر يصلي بها الظهر، والعصر والمغرب، والعشاء، ثم يهجع هجعة،
ويذكر ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق
عليه. وقال ابن عباس وعائشة: «ليس نزول الأبطح بسنة، إنما نزله رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليكون أسمح لخروجه» . متفق عليه. وهذا
لفظ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
(1/529)
فصل:
ومن أراد المقام بمكة فلا توديع عليه؛ لأن الوداع للمفارق. ومن أراد الخروج
لم يجز له ذلك يودع البيت بطواف، لما روى ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون
آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض» . متفق عليه. ويجعل الوداع في
آخر أمره، ليكون آخر عهده بالبيت، فإن ودع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة لزمته
إعادته للخبر.
وإن صلى في طريقه، أو اشترى لنفسه شيئاً، لم يعده؛ لأن هذا لا يخرجه عن
كونه وداعاً، وإن خرج ولم يودع، لزمه الرجوع ما كان قريباً يمكنه الرجوع،
فإن لم يفعل، أو لم يمكنه الرجوع فعليه دم، فإن رجع بعد بلوغه مسافة القصر
لم يسقط عنه الدم؛ لأن طوافه لخروجه الثاني، وقد استقر عليه دم الأول.
والمرأة كالرجل، إلا إذا كانت حائضاً، أو نفساء، خرجت ولا وداع عليها، ولا
فدية للخبر، إلا أن يستحب لها أن تقف على باب المسجد فتدعو بدعاء المودع،
وإن نفرت فطهرت قبل مفارقة البنيان لزمها التوديع؛ لأنها في البلد، وإن لم
تطهر حتى فارقته فلا رجوع عليها؛ لأنه لم يوجد في حقها ما يوجبه في البلد.
فصل:
ويستحب للمودع أن يقف في الملتزم بين الركن والباب، كما روي «عن عبد الله
بن عمر أنه قام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا،
وبسطها بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يفعله» . رواه أبو داود. ويدعو فيقول: اللهم هذا بيتك وأنا
عبدك وابن عبدك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى
بلغتني بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضاً،
وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي،
غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغباً عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني
العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني
طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.
وما زاد على ذلك من الدعاء فحسن، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ومن ترك طواف الزيارة، فطافه عند الخروج، أجزأ عن طواف الوداع، لأنه يحصل
به المقصود منه فأجزأ عنه، كإجزاء طواف العمرة عن طواف القدوم، وصلاة الفرض
عن تحية المسجد. وإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة لقوله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
(1/530)
«وإنما لامرئ ما نوى» وحكمه حكم من ترك
طواف الزيارة، يبقى على إحرامه أبداً حتى يرجع فيطوف للزيارة، إلا أن
إحرامه عن النساء فحسب؛ لأنه قد حل له بالتحلل الأول كل شيء إلا النساء.
فصل:
وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد، وإن قتل صيداً فجزاؤه واحد.
وعنه: عليه طوافان وسعيان؛ لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وتمامهما بأفعالهما. ولنا قول عائشة:
«وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافا واحداً» .
متفق عليه. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة لما
قرنت: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» رواه مسلم. ولأنهما عبادتان من جنس،
اجتمعتا فدخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين.
فصل:
أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، وفي الإحرام والسعي روايتان.
وواجباته: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة
إلى نصف الليل، والرمي، وطواف الوداع، وفي الحلق والمبيت بمنى روايتان.
وسننه: الاغتسال، وطواف القدوم، والرمل، والاضطباع فيه، واستلام الركنين،
وتقبيل الحجر، والإسراع، والمشي في مواضعهما، والخطب، والأذكار، والدعاء،
والصعود إلى الصفا والمروة.
وأركان العمرة: الطواف، وفي الإحرام والسعي روايتان.
وواجبها: الحلق في إحدى الروايتين.
وسننها: الغسل، والدعاء، والذكر، والسنن التي في الطواف والسعي، فمن ترك
ركناً فلم يتم نسكه إلا به، ومن ترك واجباً فعليه دم، ومن ترك سنة فلا شيء
عليه.
فصل:
فإذا رجع قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوله إذا قفل. متفق عليه.
(1/531)
ويستحب زيارة قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لما روي أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من زارني أو زار قبري
كنت له شفيعاً أو شهيداً» رواه أبو داود والطيالسي. ويصلي في مسجد رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من
المساجد إلا المسجد الحرام» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تشد الرحال
إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» متفق
عليه.
[باب ما يفسد الحج وحكم الفوات والإحصار]
ومن وطئ في الفرج، فأنزل أو لم ينزل في إحرام الحج قبل التحلل الأول، فقد
فسد حجه، وعليه المضي في فاسده، لما روي عن ابن عمر أن رجلاً سأله، فقال:
إني واقعت امرأتي، ونحن محرمان، فقال: أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس
فاقضوا ما يقضون، واحلق إذا حلقوا، فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت
وامرأتك، واهديا هدياً، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا
رجعتم. وقال ابن عباس وعبد الله بن عمر مثل ذلك رواه سعيد بن منصور، وروي
أيضاً عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا مخالف لهم، فكان إجماعاً،
ولأنه لا يمكنه التحلل من الإحرام إلا بأفعاله، وعليه القضاء على الفور
للخبر، ولأنه حج واجب بالشرع، فكان واجباً على الفور، كحجة الإسلام. ويجب
عليهما الإحرام للقضاء من حيث أحرما أولاً أو من قدره، إن سلكا طريقاً
غيرها؛ لأنه قضاء لعبادة، فكان على وفقها، كقضاء الصلاة، ويفسد حج المرأة
للخبر، ولأنها أحد المتجامعين، فأشبهت الرجل، وعليها القضاء ونفقة القضاء
عليها إن كانت مطاوعة كالرجل، وإن كانت مكرهة فعلى الزوج؛ لأنه ألزمها ذلك.
فكان موجبه عليه ولا فرق بين العمد والسهو والعلم والجهل للخبر، ولأنه معنى
يوجب القضاء، فاستوى فيه ذلك كالفوائت. ولا فرق بين الوطء في القبل والدبر
من آدمي أو بهيمة؛ لأنه وطء في فرج أشبه وطء فرج الآدمية.
فصل:
ويتفرقان في القضاء؛ لأن ابن عباس قال: ويتفرقان من حيث يحرمان حتى يقضيا
حجهما وفيه وجهان:
(1/532)
أحدهما: أنه واجب لأن ابن عباس ذكره حكماً
للمجامع، فكان واجباً كالقضاء.
والثاني: لا يجب؛ لأنه حج فلم يجب فيه مفارقة الزوجة كغير القضاء ولأن
مقصود الفراق التحرز من إصابتها، وهذا وهم لا يقتضي الوجوب، ومعنى التفرق:
اجتناب الركوب معها على بعير واحد، والجلوس معها في خباء، ولكن يكون قريباً
منها، يراعي حالها؛ لأنه محرمها.
فصل:
ومن وطئ دون الفرج أو قبَّل أو لمس فلم ينزل، لم يفسد حجه، وإن أنزل ففيه
روايتان:
إحداهما: يفسد حجه؛ لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الوطء في الفرج، والأخرى: لا
يفسد وهي أصح؛ لأنه فعل لا يجب الحد بجنسه، ولا المهر، ولا يتعلق به حكم
بدون الإنزال، أشبه النظر، ولا يفسد النسك بغير ما ذكرنا من المحرمات كلها
بغير خلاف.
فصل:
ومن وطئ بعد التحلل الأول، وقبل الثاني، لم يفسد حجه؛ لأنها عبادة لها
تحللان، فوجود المفسد بعد أولهما لا يفسدها، كالصلاة، ولكنه يخرج إلى الحل،
فيحرم ليطوف للزيارة بإحرام صحيح. وإن وطئ المعتمر في عمرته، أفسدها، وعليه
إتمامها وقضاؤها كالحج. ويتعلق بالماضي في الفاسد من الأحكام، وتحريم
المحرمات، ووجوب الفدية فيها مثل ما يتعلق بالصحيح، سواء لأنه باق على
الإحرام فتعلق به ذلك كالصحيح.
فصل:
ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر، فقد فاته الحج، لما روى جابر عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يفوت الحج حتى
يطلع الفجر من ليلة جمع» رواه الأثرم، وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة، وهي
طواف وسعي وتقصير؛ لأن ذلك يروى عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قال عمر لأبي أيوب حين فاته الحج: اصنع ما يصنع
المعتمر، ثم قد حللت. وقال ابن أبي موسى: يمضي في حج فاسد، يعني: أنه يلزمه
المبيت والرمي، والصحيح الأول؛ لقول الصحابة، ولأن المبيت تبع للوقوف فيسقط
بسقوطه، ويجب عليه القضاء على الفور.
(1/533)
وعنه لا قضاء عليه إن كانت نفلاً، وإن كانت
فرضاً فعلها بالوجوب السابق، قياساً على سائر العبادات، والمذهب الأول؛
لأنه قول الصحابة والمسلمين، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، ولأن الحج يلزم
بالشروع، فيلزم قضاؤه كالمنذور، بخلاف غيره.
ويجزئه القضاء عن الحجة الواجبة بغير خلاف؛ لأن الحجة لو تمت لأجزأت عن
الواجب فكذلك قضاؤها؛ لأنه يقوم مقام الأداء، ويجب على ما فاته الحج هدي.
وعنه: لا هدي عليه؛ لأنه لو لزمه هدي لزم المحصر هديان، للفوات والإحصار،
والصحيح الأول؛ لأنه قول الصحابة المسلمين، ولأنه حل في إحرامه قبل إتمامه
فلزمه هدي، كالمحصر، ويخرجه في سنة القضاء، لما روى سليمان بن يسار: أن
هبار بن الأسود حج من الشام، فقدم يوم النحر فقال له عمر: انطلق إلى البيت،
فطف به سبعاً، وإن كان معك هدي فانحرها، ثم إن كان عام قادم فاحجج، وإن
وجدت سعة فاهد، وإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعت إن شاء
الله تعالى. رواه الأثرم. فعلى هذا العمل؛ لأنه قول منتشر لم يعرف له
مخالف، فإن عدم الهدي، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
وقال الخرقي: يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوماً: لأنه أقرب إلى معادلة
الهدي كبدل جزاء الصيد، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أولى.
فصل:
إذا أخطأ الناس العدد، فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك؛ لأنه لا يؤمن
مثل ذلك في القضاء فيشق، وإن وقع لنفر منهم، لم يجزئهم؛ لأنه لتفريطهم، وقد
روي أن عمر قال لهبار: ما حبسك؟ قال: كنت أحسب أن اليوم يوم عرفة. فلم يعذر
بذلك.
فصل:
وإذا حصر المحرم عدو من المسلمين، فمنعه المضي، فالأفضل التحلل، وترك
قتاله؛ لأنه أسهل من قتال المسلمين، وإن كان مشركاً لم يجب قتاله إلا أن
يبدأ به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقاتل الذين
أحصروه، وإن غلب على ظن المحرم الظفر، استحب القتال، ليجمع بين الجهاد
والحج، وإن غلب على ظنه خلاف ذلك، استحب الانصراف، صيانة للمسلمين عن
التغرير، ثم إن وجد طريقاً آمناً، لم يجز له التحلل قرب أو بعد؛ لأنه قادر
على أداء نسكه، فأشبه من لم يحصر، فإن كان لا يصل إلا بعد الفوات، مضى
وتحلل بعمرة، وفي القضاء روايتان:
(1/534)
إحداهما: يجب؛ لأنه فاته الحج، أشبه من
أخطأ الطريق.
والثانية: لا قضاء عليه؛ لأنه تحلل بسبب الحصر، أشبه من تحلل قبل الفوات
وإن لم يجد طريقاً آمناً فله التحلل؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . ولأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصره العدو بالحديبية فتحلل،
ولأنه لو لزمه البقاء على الإحرام لحرج؛ لأنه قد يبقى الحصر سنين. وله أن
يتحلل وقت الحصر، سواء كان معتمراً أو مفرداً أو قارناً.
وعنه: في المحرم بالحج لا يحل إلا يوم النحر، ليتحقق الفوات؛ لأنه لا ييأس
من زوال الحصر. وكذلك من ساق هدياً لا يتحلل إلا يوم النحر؛ لأنه ليس له
النحر قبل وقته. والصحيح الأول للآية والخبر، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق هدياً فنحره وحل قبل يوم النحر، ولأن الحج أحد
الأنساك، فأشبه العمرة، ولو وقف الحل على يقين الفوات، لم يجر الحل في
العمرة؛ لأنها لا تفوت.
فصل:
فإن كان معه هدي، لم يحل حتى ينحره؛ لقول الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وله ذبحه حين أحصر.
وعنه: إن قدر على الحرم، أو على إرساله إليه، لزمه ذلك ويواطئ رجلاً على
اليوم الذي يذبحه فيه، فيحل حينئذ؛ لأنه قادر على الذبح في الحرم، فأشبه
المحصر في الحرم، والأول أصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نحر هديه في الحديبية. وهي من الحل باتفاق أهل السير ولذلك قال
الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]
. ولأنه موضع حله، فكان موضع ذبحه كالحرم، ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به؛
لأن الهدي يكون لغيره فلزمته النية، ليميز بينهما، ثم يحلق، لما روى ابن
عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج معتمراً
فحالت كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية» . وهل
يجب الحلاق أو التقصير أو لا؟ مبني على الروايتين فيه، هل هو نسك أو لا؟
فإن قلنا: هو نسك حصل الحل به، وبالهدي وبالنية، وإن قلنا: ليس بنسك حصل
الحل بهما دونه.
فصل:
وإن لم يجد هدياً، صام عشرة أيام، ثم حل؛ لأنه دم واجب للإحرام، فكان له
بدل ينتقل إليه، كدم التمتع. ولا يحل إلا بعد الصيام، كما لا يحل إلا بعد
الهدي، فإن
(1/535)
نوى التحلل قبله، لم يحل فكان على إحرامه
حتى يذبح أو يصوم؛ لأنه أقيم هاهنا مقام أفعال الحج.
فصل:
وليس عليه قضاء.
وعنه: يجب عليه القضاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قضى عمرة الحديبية، وسميت الثانية عمرة القضية. ولأنه حل من إحرامه قبل
إتمامه، فلزمه القضاء كمن فاته الحج.
ووجه الأولى: أنه تطوع جاز التحلل منه، مع صلاح الوقت له، فلم يجب قضاؤه،
كما لو دخل في الصوم يعتقده واجباً، فلم يكن. فأما الخبر، فإن الذين صدوا
كانوا ألفاً وأربعمائة، والذين اعتمروا معه في القضاء كانوا نفراً يسيراً،
ولم يأمر الباقين بالقضاء، والقضية: الصلح الذي جرى بينهم، وهو غير القضاء،
ويفارق الفوات، فإنه بتفريطه.
فصل:
فإن لم يحل المحصر حتى زال الحصر، لم يجز له التحلل؛ لأنه زال العذر، وإن
زال العذر بعد الفوات، تحلل بعمرة، وعليه هدي للفوات لا للحصر؛ لأنه لم يحل
به، وإن فاته الحج مع بقاء الحصر، فله الحل به؛ لأنه إذا حل به قبل الفوات
فمعه أولى، وعليه الهدي للحل، ويحتمل أن يلزمه هدي آخر للفوات. وإن حل
بالإحصار، ثم زال، وأمكنه الحج من عامه، لزمه ذلك، وإن قلنا بوجوب القضاء،
أو كانت الحجة واجبة؛ لأن الحج على الفور وإلا فلا.
ومن كان إحرامه فاسداً، فله التحلل بالإحصار؛ لأنه إذا حل من الصحيح فمن
الفاسد أولى، فإن زال الحصر بعد الحل، وأمكنه الحج من عامه، فله القضاء
فيه، ولا يتصور القضاء للحج في العام الذي أفسده فيه، إلا في هذا الموضع.
فصل:
ومن صد عن عرفة، وتمكن من البيت، فله أن يتحلل بعمرة؛ لأن له ذلك من غير
حصر، فمعه أولى. وعنه: لا يجوز له التحلل، بل يقيم على إحرامه حتى يفوته
الحج، ثم يحل بعمرة؛ لأنه إنما جاز له التحلل بعمرة في موضع يمكنه الحج من
عامه ليصير متمتعاً [وهذا ممنوع من الحج فلا يمكنه أن يصير متمتعاً] .
(1/536)
فصل:
والحصر الخاص: مثل أن يحبسه سلطان، أو غريم ظلماً، أو بحق لا يقدر على
إيفائه. والعبد إذا منعه سيده، والزوجة يمنعها زوجها، كالعام في جواز
التحلل، لعموم الآية [وتحقق المعنى فيه، فأما من أحصره مرض أو عدم نفقة
ففيه روايتان:
إحداهما: له التحلل لعموم الآية] . ولأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كسر أو عرج، فقد حل وعليه حجة أخرى»
رواه النسائي. ولأنه محصر فأشبه من حصره العدو.
والثانية: ليس له التحلل؛ لأن ابن عباس وابن عمر قالا: لا حصر إلا حصر
العدو. ولأنه لا يستفيد بالحل الانتقال من حاله، والتخلص من الأذى به،
بخلاف حصر العدو. |