الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب النفقات]
باب نفقة الزوجات يجب على الرجل نفقة زوجته، وكسوتها بالمعروف إذا سلمت
نفسها إليه، ومكنته من الاستمتاع بها، لما روى جابر: أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان
عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم
رزقهن وكسوتهن بالمعروف» رواه مسلم. فإن امتنعت من تسليم نفسها كما يجب
عليها، أو مكنت من استمتاع دون استمتاع، أو في منزل دون منزل، أو في بلد
دون بلد، ولم تكن شرطت دارها ولا بلدها، فلا نفقة لها؛ لأنه لم يوجد
التمكين التام، فأشبه البائع إذا امتنع من تسليم المبيع، أو تسليمه في موضع
دون موضع. وإن عرضت عليه، وبذلت له التمكين التام وهو حاضر، لزمته النفقة؛
لأنها بذلت الواجب عليها، وإن كان غائبًا، لم تجب حتى يقدم هو أو وكيله، أو
يمضي زمن ولو سار، لقدر على أخذها؛ لأنه لا يوجد التمكين إلا بذلك. وإن لم
تسلم إليه، ولم تعرض عليه فلا نفقة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج عائشة، فلم ينفق عليها حتى أدخلت عليه. ولأنه لم
يوجد التمكين، فلا تجب النفقة، كما لو منعت نفسها.
(3/227)
فصل:
ولو عرضت عليه وهي صغيرة، لا يوطأ مثلها، فلا نفقة لها؛ لأنه لم يوجد
التمكين من الاستمتاع، لأمر من جهتها. وإن كانت كبيرة والزوج صغير، وجبت
نفقتها؛ لأن التمكين وجد من جهتها، وإنما تعذر من جهته، فوجبت النفقة، كما
لو سلمت إليه، وهو كبير فهرب منها. وإن سلمت إليه وهو مجبوب، أو مريض لا
يمكنه الوطء، وجبت النفقة كذلك. وإن سلمت إليه وهي رقتاء، أو نحيفة، أو
مريضة، لا يمكن وطؤها، وجبت نفقتها؛ لأن تعذر الاستمتاع لسبب لا تنسب إلى
التفريط فيه.
فصل:
وإن سافرت زوجته بغير إذنه لغير واجب، أو انتقلت من منزله، فلا نفقة لها.
وإن كان غائبًا؛ لأنها خرجت عن قبضته وطاعته، فأشبهت الناشز. وإن سافرت
بإذنه، فعلى ما ذكرناه في القسم. وإن أحرمت بحج، أو عمرة في الوقت الواجب
من الميقات، لم تسقط نفقتها؛ لأنها فعلت الواجب بأصل الشرع، فأشبه ما لو
صامت رمضان. وإن تطوعت بالإحرام بغير إذنه، أو أحرمت بالواجب قبل الوقت، أو
قبل الميقات بغير إذنه، فلا نفقة لها؛ لأنها منعته الاستمتاع بما لا يجب
عليها، فهو كسفرها بغير إذنه وإن فعلته بإذنه، فهو كسفرها لحاجتها. وإن
أحرمت بالحج المنذور، فقال أصحابنا: لها النفقة، وينبغي أن يقال: إن كان
النذر قبل النكاح، فلها النفقة؛ لأنه وجب قبل النكاح، فكان مقدمًا على حقه
فيها. وإن كان بعد النكاح بإذن الزوج، فلها النفقة؛ لأنه إذن في إلزامها
إياه، فكان راضيًا بموجبه. وإن كان بغير إذنه، فلا نفقة لها؛ لأنها فوتت
التمكين اختيارًا منها بغير رضاه، فأشبه السفر لحاجتها.
فصل:
وصوم رمضان لا يسقط النفقة؛ لأنه واجب معين. والحكم في صوم النذر والتطوع
والاعتكاف المنذور والتطوع، كالحكم في الحج الذي كذلك. وأما قضاء رمضان،
فإن ضاق وقته، لم يمنع النفقة؛ لأنه واجب مضيق، أشبه رمضان، وإن كان وقتًا
متسعًا، فهو كالإحرام قبل الوقت.
فصل:
وإذا أسلمت زوجة الكافر بعد الدخول، فلها نفقة العدة؛ لأن الإسلام واجب
عليها، مضيق، أشبه الإحرام بالحج الواجب في وقته. وإن أسلم هو دونها، وهي
غير كتابية، فلا نفقة لها؛ لأنها منعته بمعصيتها، وإقامتها على كفرها. وإن
ارتدت مسلمة، فلا نفقة لها كذلك، وإن كان هو المرتد، فعليه النفقة؛ لأنه
الممتنع بردته. وإن عادت المرتدة
(3/228)
إلى الإسلام، فلها النفقة من حين عادت، ولو
كان غائبًا؛ لأن سقوط نفقتها لردتها، فعادت بزوالها. وإن نشزت الزوجة، ثم
عادت إلى الطاعة والزوج غائب، فلا نفقة لها حتى يمضي زمن لو سار فيه، لقدر
على استمتاعها؛ لأن سقوط نفقتها لعدم التمكين، ولم يحصل بعودها إلى الطاعة.
فصل:
وللأمة المزوجة النفقة في الزمن الذي تسلم نفسها فيه، فإن سلمت إليه ليلًا
ونهارًا، فلها النفقة كلها، كالحرة. وإن سلمت ليلًا دون النهار، فلها نصف
نفقتها؛ لأنها سلمت نفسها في الزمن الذي يلزمها تسليم نفسها فيه، فكان لها
نفقتها فيه، كالحرة في جميع الزمان.
فصل:
ولا تجب النفقة في النكاح الفاسد؛ لأنه ليس بنكاح شرعي.
[باب نفقة المعتدة]
وهي ثمانية أقسام: أحدها: الرجعية، فلها النفقة السكنى؛ لأنها باقية على
الزوجية غير مانعة له من الاستمتاع، أشبه ما قبل الطلاق.
الثاني: البائن بفسخ الطلاق، فإن كانت حاملًا فلها النفقة والسكنى، لقول
الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] {وَإِنْ كُنَّ
أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
[الطلاق: 6] وهل تجب النفقة للحمل أو للحامل؟ فيه وجهان:
أحدهما: للحمل؛ لأنها تجب بوجوده، وتسقط بعدمه.
والثاني: تجب لها بسببه؛ لأنها تجب مع الإعسار، ونفقة الولد لا تجب على
معسر. وإن كانت حائلًا، فلا نفقة لها، لدلالة الآية، بدليل خطابها على
عدمها. وفي السكنى روايتان:
إحداهما: تجب، للآية. والأخرى: لا تجب، لحديث فاطمة بنت قيس، وهو
(3/229)
مفسر للآية فإن قلنا: تجب النفقة للحمل،
فلا نفقة لزوجة العبد، ولا للأمة الحامل؛ لأنه لا تجب نفقة ولدهما على
أبيه. وإن قلنا: تجب للحامل، وجبت نفقتهما، كما تجب في صلب النكاح.
فصل:
الثالث: المعتدة في الوفاة، فإن كانت حائلًا، فلا نفقة لها ولا سكنى؛ لأن
ذلك يجب للتمكين من الاستمتاع، وقد فات بالوفاة، وإن كانت حاملًا، ففي
وجوبهما روايتان:
إحداهما: لا تجبان كذلك.
والثانية: تجبان؛ لأنها معتدة في نكاح صحيح، أشبهت البائن في الحياة.
فصل:
الرابع: المعتدة من اللعان، فإن كانت حائلًا، أو منفيًا حملها، فلا سكنى
لها ولا نفقة، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «فرق بين المتلاعنين. وقضى: أن لا بيت عليه ولا قوت» . رواه
أبو داود. ولأنها بائن لا ولد له معها، فأشبهت المختلعة الحائل. وإن كانت
حاملا حملًا يلحقه نسبه، فلها السكنى والنفقة؛ لأن ذلك يجب للحمل، أو
لسببه، وهو موجود، فإن نفاه فأنفقت وسكنت، ثم استلحقه، لحقه ولزمه ما
أنفقت، وأجرة رضاعها ومسكنها؛ لأنها فعلت ذلك على أنه لا أب له، وقد بان
خلافه.
فصل:
الخامس: المعتدة من وطء شبهة، أو نكاح فاسد، إذا فرق بينهما، فلا سكنى لها
بحال؛ لأنه إنما تجب بسبب النكاح، ولا نكاح هاهنا، ولا نفقة لها إن كانت
حائلًا. وإن كانت حاملًا، وقلنا بوجوب النفقة للحمل، وجبت؛ لأن الحمل هاهنا
لاحق به، فأشبه الحمل في النكاح الصحيح. وإن قلنا: تجب للحامل، فلا نفقة
لها؛ لأن حرمته هاهنا غير كاملة.
فصل:
السادس: الزانية: لا نفقة لها، ولا سكنى بحال؛ لأنه لا نكاح بينهما، ولا
يلحقه
(3/230)
نسب حملها.
فصل:
السابع: زوجة المفقود، لها النفقة لمدة التربص؛ لأنها محبوسة عليه في بيته،
فإذا حكم لها بالفرقة، انقطعت نفقتها، لزوال نكاحها حكمًا، فإذا قدم فردت
عليه، فلها النفقة لما يستقبل دون ما مضى؛ لأنها خرجت بمفارقتها إياه عن
قبضته، فلا تجب إلا بعودها إليه، وإن لم ترد إليه، فلا نفقة لها بحال.
فصل:
الثامن: زوجة العبد، والأمة المزوجة، وقد تقدم بيان حكمهما.
فصل:
ومن وجبت لها النفقة للحمل، وجب دفعها إليها يومًا بيوم، لقول الله تعالى:
{فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] .
ولأن الحمل يتحقق حكمًا في منع النكاح، والأخذ في الزكاة، ووجوب الدفع في
الدية، والرد بالعيب، فكذلك في وجوب النفقة لها. وقال أبو الخطاب: ويحتمل
أنه لا يجب دفع النفقة إليها، حتى تضع الحمل؛ لأنه لا يتحقق، ولذلك لم يصح
اللعان عليه قبل وضعه على إحدى الروايتين، والمذهب:
الأول: فإن أنفق عليها، ثم تبين أنها غير حامل، رجع عليها؛ لأنه دفعها
إليها، على أنها واجبة، فرجع عليها، كما لو قضاها دينًا، ثم تبين براءته
منه. وعنه: لا يرجع عليها؛ لأنه لو كان النكاح فاسدًا، فأنفق عليها، ثم فرق
بينهما، لم يرجع، كذا هاهنا. وإن لم ينفق عليها لظنه أنها حائل، ثم تبين
أنها حامل، رجعت عليه؛ لأننا تبينا استحقاقها له، فرجعت به عليه، كالدين.
وإن ادعت الحمل، لتأخذ النفقة، أنفق عليها ثلاثة أشهر، ثم ترى القوابل، فإن
بان أنها حامل، فقد أخذت حقها، وإن بان خلافه، رجع عليها.
[باب قدر النفقة]
يجب للمرأة من النفقة قدر كفايتها بالمعروف، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما
(3/231)
يكفيك وولدك بالمعروف» . متفق عليه. ولأن
الله قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . والمعروف: قدر الكفاية، ولأنها نفقة
واجبة، لدفع الحاجة، فتقدرت بالكفاية، كنفقة المملوك، فإذا ثبت أنها غير
مقدرة، فإنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم، فيفرض لها قدر كفايتها من الخبز
والأدم. وقال القاضي: هي مقدرة برطلي خبز بالعراقي، وما يكفيها من الأدم؛
لأن الواجب للمسكين في الكفارة رطلان. ويجب لها في القوت الخبز؛ لأنه
المقتات في العادة. وقال ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . الخبز والزيت، وعن ابن عمر:
الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز والتمر. ومن أفضل ما تطعمهم: الخبز
واللحم. ويجب لها من الأدم بقدر ما تحتاج إليه من أدم البلد، من الزيت،
والشيرج والسمن واللبن واللحم، وسائر ما يؤتدم به؛ لأن ذلك من النفقة
بالمعروف، وقد أمر الله تعالى ورسوله به.
فصل:
ويختلف ذلك بيسار الزوج وإعساره، لقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ
مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ
اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] .
وتعتبر حال المرأة أيضًا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فيجب للموسرة تحت الموسر من أرفع خبز
البلد وأدمه بما جرت به عادة مثلها ومثله، وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز
البلد وأدمه، على قدر عادتهما، وللمتوسطة تحت المتوسط، أو إذا كان أحدهما
غنيًا والآخر فقيرًا، ما بينهما، كل على حسب عادته؛ لأنه إيجاب نفقة
الموسرين على المعسر، وإنفاق الموسر نفقة المعسرين، ليس من المعروف، وفيه
إضرار بصاحبه. وحكم المكاتب والعبد حكم المعسر، ولأنهما ليسا بأحسن حالًا
منه، ومن نصفه حر، إن كان معسرًا، فهو كالمعسرين، وإن كان موسرًا، فهو
كالمتوسطين.
فصل:
فإن دفع إليها قيمة الخبز والأدم، أو الحب والدقيق، لم يلزمها قبوله؛ لأنه
طعام وجب في الذمة بالشرع، فلم يجب أخذ عوضه، كالكفارة، وإن اتفقا على ذلك
جاز؛ لأنه حق آدمي، فجاز أخذ عوضه باتفاقهما، كالقرض.
فصل:
ويجب لها ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها، والماء والسدر لغسله، وما
(3/232)
يعود بنظافتها؛ لأنه يراد للتنظيف، فيجب
عليه، كما يجب على المستأجر كنس الدار وتنظيفها. ولا يلزمه ثمن الخضاب؛
لأنه للزينة، فأشبه الحلي، ولا ثمن الدواء وأجرة الطبيب؛ لأنه ليس من
النفقة الراتبة، إنما يحتاج إليه لعارض. وأما الطيب، فما يراد منه لقطع
السهك والريح الكريهة والعرق، لزمه؛ لأنه يراد للتنظيف، وما يراد للتلذذ
والاستمتاع، لم يلزمه؛ لأن الاستمتاع حق له، فلا يجب عليه.
فصل:
وتجب الكسوة، للآية والخبر، ولأنه يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام
فلزمته، كالنفقة. ويجب للموسرة تحت الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد، من
الإبريسم. والخز والقطن والكتان. وللفقيرة تحت الفقير من غليظ القطن
والكتان، وللمتوسطة تحت المتوسط، أو إذا كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا،
ما بينهما على حسب عوائدهم في الملبوس، كما قلنا في النفقة. وأقل ما يجب
قميص وسراويل ومقنعة، ومداس للرجل، وجبة للشتاء؛ لأن ذلك من الكسوة
بالمعروف، وملحفة، أو كساء، أو مضربة محشوة للنوم، وبساط، ولبد، أو حصير
للنهار. ويكون ذلك من المرتفع للأولى، ومن الأدون للثانية، ومن المتوسط
للثالثة؛ لأنه من المعروف.
فصل:
ويجب لها مسكن؛ لأنها لا تستغني عنه للإيواء، والاستتار عن العيون، للتصرف
والاستمتاع، ويكون ذلك على قدرهن، كما ذكرنا في النفقة.
فصل:
وإن كانت ممن لا تخدم نفسها، لكونها من ذوات الأقدار، أو مريضة، وجب لها
خادم، لقول الله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] .
وإخدامها في العشرة بالمعروف، ولا يجب لها أكثر من خادم؛ لأن المستحق
خدمتها في نفسها، وذلك يحصل بخادم واحد، ولا يجوز أن يخدمها إلا امرأة، أو
ذا رحم محرم، أو صغيرًا وهل يجوز أن تكون كتابية؟ فيه وجهان: بناء على
إباحة النظر لهن، فإن قلنا بجوازه: فهل يلزم المرأة قبولها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمها قبولها؛ لأنهم يصلحون للخدمة.
والثاني: لا يلزمها؛ لأن النفس تعافهم وإن قالت المرأة: أنا أخدم نفسي،
وآخذ أجرة الخادم، لم يلزم الزوج لأن القصد بالخدمة ترفيهها، وتوفيرها على
حقه، وذلك
(3/233)
يفوت بخدمتها. وإن قال: أنا أخدمك بنفسي،
ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمها الرضى به؛ لأن الكفاية تحصل به.
والثاني: لا يلزمها؛ لأنها تحتشمه، فلا تستوفي حقها من الخدمة، ولا يلزمه
أن يملكها خادمًا، بل إن كان له، أو استأجره، جاز. وإن كان مملوكًا لها،
فاتفقا على خدمته، لزمه نفقته بقدر نفقة الفقيرين، في القوت والأدم
والكسوة، ولا يجب له مشط، ولا سدر، ولا دهن للرأس لأنه يراد للتنظيف
والزينة، ولا يراد ذلك من الخادم. ويجب للخادمة خف إذا كانت تخرج إلى
الحاجات، لحاجتها إليه.
فصل:
وعليه دفع نفقتها إليها كل يوم إذا طلعت الشمس؛ لأنه أول وقت الحاجة. فإن
اتفقا على تعجيلها، أو تأخيرها، أو تسليفها النفقة لشهر، أو عام، أو أكثر،
جاز؛ لأن الحق لا يخرج عنهما، فجاز فيه ما تراضيا عليه، كالدين. فإن دفع
إليها نفقة يوم، فبانت فيه، لم يرجع بما بقي؛ لأنها أخذت ما تستحقه. وإن
أسلفها نفقة أيام، ثم بانت، رجع عليها؛ لأنه غير مستحق لها. وذكر القاضي:
ما يدل على أن حكم ذلك حكم الرجوع في معجل الزكاة، على ذكر في موضعه. فأما
إن غاب عن زوجته زمنًا، ولم ينفق عليها، فإنها ترجع عليه بنفقة ما مضى، لما
روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال
غابوا عن نسائهم، إن طلقوا: أن يبعثوا بنفقة ما مضى. ولأنه حق لها عليه
بحكم العوض، فرجعت به عليه، كالدين. وعنه: لا ترجع عليه إلا أن يكون الحاكم
قد فرضها لها؛ لأنها نفقة، فأشبهت نفقة الأقارب.
فصل:
وعليه كسوتها في كل عام مرة في أوله؛ لأنه العادة. فإن تلفت في الوقت الذي
يبلى فيه مثلها، لزمه بدلها؛ لأن ذلك من تمام كسوتها، وإن بليت قبله، لم
يلزمه بدلها؛ لأنه لتفريطها، فأشبه ما لو أتلفتها. وإن مضى زمن يبلى فيه
مثلها ولم تبل، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه بدلها؛ لأنها غير محتاجة إلى الكسوة.
والثاني: يجب؛ لأن الاعتبار بالمدة، بدليل أنها لو تلفت قبل انقضاء المدة،
لم يلزمه بدلها، وإن كساها ثم أبانها، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأنه دفع ما تستحق دفعه، فلم يرجع به، كنفقة اليوم.
والثاني: يرجع؛ لأنه دفع لزمن مستقبل، أشبه ما لو سلفها النفقة، ثم أبانها.
(3/234)
فصل:
وإذا دفع إليها النفقة، فلها أن تتصرف فيها بما شاءت، من بيع وصدقة
وغيرهما. لأنها حق لها، فملكت التصرف فيها، كالمهر، إلا أن يعود ذلك عليها
بضرر في بدنها، ونقص في استمتاعها، فلا تملكه؛ لأنه يفوت حقه، وكذلك الحكم
في الكسوة في أحد الوجهين. وفي الآخر: ليس لها التصرف فيها بحال؛ لأنه يملك
استرجاعها بطلاقها، بخلاف النفقة.
فصل:
وإذا نشزت المرأة، سقطت نفقتها؛ لأنها تستحقها في مقابلة التمكين من
استمتاعها، وقد فات ذلك بنشوزها. وإن كان لها ولد، لم تسقط نفقته؛ لأن ذلك
حق له، فلا تسقط بنشوزها.
[باب قطع النفقة]
إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر، فلها فسخ النكاح، لقول الله تعالى:
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وقد
تعذر الإمساك بالمعروف، فيتعين التسريح بإحسان. وكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم: يأمرهم أن ينفقوا أو
يطلقوا. فإن طلقوا، بعثوا بنفقة ما مضى، ولأنه إذا ثبت لها الفسخ لعجزه عن
الوطء، فلأن يثبت بالعجز عن النفقة أولى؛ لأن الضرر فيه أكثر. وإن أعسر
ببعضها، فلها الفسخ؛ لأن البدن لا يقوم بدونها. وإن أعسر بكسوة المعسر،
فلها الفسخ؛ لأن البدن لا يقوم بدونها، فأشبهت القوت. وإن أعسر بما زاد على
نفقة المعسر، فلا خيار لها؛ لأنها تسقط بإعساره، ولأن البدن يقوم بدونها.
ومن لم يجد إلا قوت يوم بيوم، فليس بمعسر بالنفقة؛ لأن هذا هو الواجب. وإن
كان يجد في أول النهار ما يغديها، وفي آخره ما يعشيها، فلا خيار لها؛ لأنها
تصل إلى كفايتها. وإن كان يجد قوت يوم دون يوم، فلها الخيار؛ لأنها لا تصل
إلى كفايتها، وإن كان صانعًا يعمل في كل أسبوع ثوبًا، يكفيه ثمنه للأسبوع
كله، فلا خيار لها؛ لأنها تصل إلى كفايتها. ومتى عازه أمكنه الاقتراض، ثم
يقضيه، فلا تنقطع النفقة. فإن كانت نفقته من عمل عجز عنه لمرض مرجو الزوال،
أو غيبة ماله، وأمكنه الاقتراض إلى زوال العارض وفعل، فلا
(3/235)
خيار لها. وإن عجز عن الاقتراض، وكان
العارض يزول في ثلاثة أيام فما دون، فلا خيار لها؛ لأن ذلك قريب. وإن كثر،
فلها الفسخ؛ لأن الضرر يكثر. وإن أعسر بالمسكن ففيه وجهان:
أحدهما: لا خيار لها؛ لأن البدن يقوم بدونه.
والثاني: لها الخيار؛ لأنه مما لا بد منه، أشبه النفقة والكسوة.
فصل:
فإن منع النفقة من يساره، وقدرت له على مال، أخذت منه قدر كفايتها
بالمعروف، لما روي «أن هندًا جاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من
النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه.
وإن منعها بعض الكفاية، فلها أخذه، للخبر. ولها أن تأخذ نفقة ولدها الصغير،
للخبر، فإن وجدت من جنس الواجب لها، أخذته، وإن لم تجد، أخذت بقدره من غيره
متحرية للعدل في ذلك. فإن لم تجد ما تأخذه، رفعته إلى الحاكم، ليأمره
بالإنفاق، أو الطلاق، فإن أبى، حبسه. فإن صبر على الحبس، وقدر الحاكم على
ماله، أنفق منه. وإن لم يجد إلا عروضًا، باعها وأنفق منها، فإن تعذر ذلك،
فلها الفسخ لما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه إذا
ثبت الفسخ مع العذر دفعًا للضرر، فمع عدمه أولى. وإن كان الزوج غائبًا، كتب
الحاكم إليه، كما كتب عمر إلى الذين غابوا عن نسائهم. فإن لم يعلم خبره، أو
تعذرت النفقة منه، ولم يوجد له مال، فلها الفسخ، لما ذكرنا، وهذا اختيار
الخرقي، وأبي الخطاب. وذكر القاضي: أن الفسخ لا يثبت مع اليسار؛ لأن الخيار
لعيب الإعسار، ولم يثبت ذلك. وما ذكرناه أصح، فإن الإعسار ليس بعيب، وإنما
الفسخ لدفع الضرر، وهما فيه سواء، ومن كان له دين يتمكن من استيفائه، فهو
كالموسر؛ لأنه قادر عليه. وإن لم يتمكن من استيفائه، فهو كالمعدوم؛ لأنه
عاجز عنه.
فصل:
فإن كان له عليها دين من جنس الواجب لها من النفقة، فأراد أن يحتسب به
عليها وهي موسرة، فله ذلك؛ لأن له أن يقضي دينه من أي ماله شاء، وهذا منه،
وإن كانت معسرة، لم يملك ذلك؛ لأن قضاء الدين في الفاضل عن الكفاية، ولا
فضل لها.
(3/236)
فصل:
ومتى ثبت لها الفسخ، فرضيت بالمقام معه، ثبت لها في ذمته ما يجب على
المعسر، من القوت، والأدم، والكسوة، والمسكن، والخادم، تطالبه بها إذا
أيسر؛ لأنها حقوق واجبة عجز عنها، فثبتت في ذمته كالدين. وقال القاضي: لا
يثبت في ذمته شيء، قياسًا على الزائد عن نفقة المعسر، والفرق ظاهر، فإن
الزائد غير واجب على معسر، وهذا معسر، بخلاف هذا، ولا يلزمها التمكين من
الاستمتاع، ولا الإقامة في منزله؛ لأن ذلك في مقابلة النفقة، فلا يجب مع
عدمها، ومتى عن لها الفسخ، فلها الفسخ؛ لأن وجوب النفقة يتجدد كل يوم،
فيتجدد حق الفسخ، ولو تزوجت معسرًا عالمة بإعساره، ثم بدا لها الفسخ
لعسرته، فلها الفسخ لما ذكرنا. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد، أنه ليس لها
الفسخ في الموضعين؛ لأنها رضيت بعيبه، فأشبه امرأة العنين إذا رضيت بعنته.
فصل:
وإن اختارت الفسخ، لم يجز لها ذلك، إلا بحكم حاكم؛ لأنه مختلف فيه، فلم يجز
بغير الحاكم، كالفسخ بالعنة، ولها المطالبة بالفسخ في الحال؛ لأنه فسخ
لتعذر العوض، فثبت في الحال، كفسخ البيع لفلس المشتري.
فصل:
وإن أعسر زوج الأمة، فلم تختر الفسخ، لم يكن لسيدها الفسخ؛ لأن الحق لها،
فلم يكن له الفسخ، كالفسخ للعنة، وإن أعسر زوج الصغيرة والمجنونة، فليس
لوليهما الفسخ؛ لأنه فسخ لنكاحهما، فلم يملكها وليهما، كالفسخ للعيب، وحكي
عن القاضي: أن لسيد الأمة الفسخ؛ لأن الضرر عليه، ويحتمل أن يملك ولي
الصغيرة والمجنونة الفسخ؛ لأنه فسخ لفوات العوض، فملكه كفسخ البيع، لتعذر
الثمن.
فصل:
وإذا وجد التمكين الموجب للنفقة، فلم ينفق حتى مضت مدة، صارت النفقة دينًا
في ذمته، سواء تركها لعذر، أو غيره، لحديث عمر، ولأنه مال يجب على سبيل
البدل في عقد معاوضة، قلم يسقط بمضي الزمان، كالصداق، وإن أعسر بقضائها، لم
تملك الفسخ؛ لأنها دين يقوم البدن بدونه، فأشبهت دين القرض. وعنه: لا يثبت
في الذمة، وتسقط ما لم يكن الحاكم قد فرضها؛ لأنها نفقة تجب يومًا بيوم،
فإذا لم يفرضها الحاكم، سقطت بمضي الزمن، كنفقة الأقارب، فعلى هذا لا يصح
ضمانها؛ لأنه ليس مآلها إلى الوجوب، وعلى الرواية الأولى، يصح ضمان ما وجب
منها، وما يجب في المستقبل؛ لأن مآله إلى الوجوب.
(3/237)
فصل:
وإذا ادعى الزوج، أنه دفع إليها نفقتها، فأنكرته، فالقول قولها مع يمينها؛
لأن الأصل عدم القبض. وإن مضت مدة لم ينفق فيها، فادعت أنه كان موسرًا،
فأنكرها ولم يعرف له مال قبل ذلك، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدمه،
وإن عرف له مال، فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ادعت التمكين الموجب
للنفقة فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمه. وإن قالت: فرض الحاكم نفقتي
منذ سنة، فقال: بل منذ شهر، فالقول قوله كذلك، وإن ادعى نشوزها فأنكرته،
فالقول قولها كذلك، وإن طلقها طلقة رجعية، وكانت حاملًا، فقال الزوج: طلقتك
قبل الوضع، فانقضت عدتك به، وقالت: بل بعده، لم يبق له رجعة لإقراره
بانقضاء عدتها، ولزمتها العدة، لإقرارها بها، والقول قولها مع يمينها، في
وجوب نفقتها؛ لأن الأصل بقاؤها.
[باب نفقة الأقارب]
وهما صنفان: عمود النسب، وهم الوالدان، وإن علوا، والولد وولده وإن سفل،
فتجب نفقتهم لقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:
83] ومن الإحسان الإنفاق عليهما، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» . وقال
الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فثبتت نفقة الوالدين
والولد، بالكتاب والسنة، وثبتت نفقة الأجداد، وأولاد الأولاد، لدخولهم في
اسم الآباء، والأولاد، قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}
[الحج: 78] . وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] وقال النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحسين: «إن ابني هذا سيد» وسواء
كان وارثًا، أو غير وارث؛ لأن أحمد قال: لا
(3/238)
تدفع الزكاة إلى ولد ابنته، لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ابني هذا سيد» وإذا منع دفع
الزكاة إليهم لقرابتهم، يجب أن تلزمه نفقتهم. وذكر القاضي ما يدل على هذا،
وذكر في موضع آخر، أنه لا تجب النفقة إلا على وارث، وهو ظاهر قول الخرقي
وغيره من أصحابنا.
الصنف الثاني: كل موروث سوى من ذكرنا، وسوى الزوج، لقول الله تعالى:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
[البقرة: 233] إلى قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]
فأوجب على الوارث أجرة رضاع الصبي، فيجب أن تلزمه نفقته. وروي أن «رجلًا
سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أبر؟ قال: أمك
وأباك وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصول» رواه أبو
داود. وقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على بني عم منفوس بنفقته. ولأنها
قرابة تقتضي التوريث، فتوجب الإنفاق، كقرابة الولد.
فصل:
فأما ذو الرحم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب، فلا نفقة عليهم في المنصوص،
لعدم النص فيهم، وامتناع قياسهم على المنصوص، لضعف قرابتهم، ويتخرج وجوبها
عليهم؛ لأنهم يرثون في حال، فتجب النفقة عليهم في تلك الحال. وإن كان
الوارث غير موروث، كالمعتقة، وعم المرأة، وابن عمها، وابن أخيها، والمعتق،
وجب عليهم الإنفاق في المنصوص؛ لأنهم وارثون، فيدخلون في العموم. وعنه: لا
نفقة عليهم؛ لأنهم غير موروثين، أشبهوا ذوي الأرحام.
فصل:
ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط:
أحدها: فقر من تجب نفقته. فإن استغنى بمال، أو كسب، لم تجب نفقته؛ لأنها
تجب على سبيل المواساة، فلا تستحق مع الغنى عنها، كالزكاة، وإن قدر على
الكسب
(3/239)
من غير حرفة، ففيه روايتان:
إحداهما: لا نفقة له؛ لأنه يستغني بكسبه، أشبه المحترف.
والثانية: له النفقة؛ لأنه لا مال له، ولا حرفة، أشبه الزمن.
الثاني: أن يكون للمنفق ما ينفق عليهم فاضلًا عن نفقة نفسه وزوجته، لما روى
جابر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ابدأ بنفسك،
ثم بمن تعول» قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولأن نفقة القريب مواساة، فيجب
أن تكون في الفاضل عن الحاجة الأصلية، ونفقة نفسه من الحاجة الأصلية، وكذلك
نفقة زوجته؛ لأنها تجب لحاجته، فأشبهت نفقة نفسه، وكذلك نفقة خادمه الذي لا
يستغني عن خدمته، تقدم كذلك.
الثالث: اتفاقهما في الدين والحرية، فلا يجب على الإنسان الإنفاق على من
ليس على دينه؛ لأنه لا ولاية بينهما، ولا يرث أحدهما صاحبه؛ لأنها تجب على
سبيل المواساة، والصلة، فلمن تجب له مع اختلاف الدين، كالزكاة. وعنه في
عمودي النسب: أنها تجب مع اختلاف الدين؛ لأنهم يعتقون عليه. فينفق عليهم،
كما لو اتفق دينهما. وأما العبد، فلا نفقة عليه؛ لأنه لا شيء له يواسي به،
فلا تجب نفقته على قريبه؛ لأن نفقته على سيده، ولأنه لا توارث بينهما، ولا
ولاية، فلم ينفق أحدهما على صاحبه، كالأجانب.
فصل:
ولا يشترط في وجوب النفقة نقصان الخلقة، بزمانة، أو صغر، أو جنون، لعموم
الخبر، وعن أحمد أنه يشترط ذلك في غير الوالدين؛ لأن من علم ذلك فيه في
مظنة التكسب، فكان في مظنة الغنى. ولا يشترط البلوغ ولا العقل فيمن تجب
النفقة عليه، بل يجب على الصبي والمجنون، نفقة قريبهما إذا كانا موسرين؛
لأنها من الحقوق المالية فتجب عليهما، كأرش جنايتهما.
فصل:
ومن كان له أب، لم تجب نفقته على غيره؛ لأن الله تعالى أمر الآباء أن يعطوا
(3/240)
الوالدات أجر الرضاع بقوله تعالى: {فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وقوله سبحانه:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
[البقرة: 233] . «وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هندًا:
أن تأخذ ما يكفي ولدها من مال أبيهم» . فإن لم يكن لهم أب، ولم يكن له إلا
وارث واحد، فالنفقة عليه. وإن كان له وارثان، فالنفقة عليهما على قدر
إرثهما. فإذا كان لهم أم وجد، فعلى الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثان.
وإن كان له جدة وأخ، فعلى الجدة سدس النفقة، والباقي على الأخ. وإن كان له
أخوان، أو أختان، فالنفقة عليهما نصفين. وإن كان له أخ وأخت، فالنفقة
عليهما أثلاثًا. وإن كان له أخت وأم، فعلى الأخت ثلاثة أخماس النفقة، وعلى
الأم الخمسان؛ لأنه مال يستحق بالقرابة، فكان على ما ذكرناه كالميراث، وإن
كان له من الورثة ثلاثة، أو أكثر، فنفقته عليهم على قدر إرثهم، لما ذكرنا،
وإن اجتمع أم أم، وأبو أم، فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة.
فصل:
ومن كان وارثه فقيرًا، وله قريب موسر محجوب به، كعم معسر، وابن عم موسر،
وأخ فقير، وابن أخ موسر، فلا نفقة له عليهما، ذكره القاضي، وأبو الخطاب؛
لأنه علة الوجوب الإرث، فيسقط بحجبه، كما يسقط ميراثه. وإن كانا من عمودي
النسب، كأب معسر، وجد موسر، فالنفقة على الجد؛ لأن وجوب النفقة عليه،
لقرابته، وهي باقية مع الحجب. ويحتمل أن يجب الإنفاق على الموسر في التي
قبلها؛ لأن الموجب للنفقة القرابة الموجبة للميراث، لا نفس الميراث، وهي
موجودة مع الحجب، ووجود المعسر كعدمه.
فصل:
ومن لم يفضل عنده إلا نفقة واحدة، بدأ بالأقرب فالأقرب؛ لأنه أولى، فإذا
كان له أب وجد، فالنفقة للأب، وإن كان له ابن، وابن ابن، فهي للابن. وإن
اجتمع أب وابن صغير، أو زمن، فالنفقة للابن؛ لأن نفقته وجبت بالنص، وإن كان
كبيرًا، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقدم الابن كذلك.
والثاني: يقدم الأب؛ لأن حرمته آكد.
(3/241)
والثالث: هما سواء، لتساويهما في القرب؛
لأن كل واحد يدلي بنفسه. وإن اجتمع أبوان، ففيهما ثلاثة أوجه:
أحدها: هما سواء لتساويهما في القرابة.
والثاني: الأم أحق، لما روي أن «رجلًا قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك،
قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك» .
والثالث: الأب؛ لأنه ساواها في القرابة وهي الولادة، وانفرد بالتعصيب. وإن
اجتمع أخ وجد، احتمل أن يقدم الجد؛ لأنه آكد حرمة، وقرابته قرابة ولادة،
ولهذا لا يقاد به، ويحتمل تساويهما، لتساويهما في التعصيب والإرث، وإن كان
مع الجد عم، أو ابن عم، قدم الجد، لتقديمه في الحرمة والإرث، ولأنهما
يدليان به، فقدم عليهما، كالأب مع الأخ.
فصل:
وعلى المعتق نفقة عتيقه، إذا وجدت الشروط؛ لأنه وارثه، ولا نفقة للمعتق على
عتيقه؛ لأنه لا يرثه.
فصل:
وتجب نفقة القريب مقدرة بالكفاية؛ لأنها تجب للحاجة، فيجب ما تندفع به. وإن
احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمه. وإن كانت له زوجة، وجبت نفقة زوجته؛
لأنه من تمام الكفاية، وعنه: لا يلزم الرجل نفقة زوجة ابنه. فعلى هذه
الرواية لا يلزمه نفقة غير القريب؛ لأن الواجب نفقته، لا نفقة غيره.
فصل:
ويلزمه إعفاف أبيه، وجده، وابنه الذين تلزمه نفقتهم إذا طلبوا ذلك؛ لأنه
يحتاج إليه ويضره فقده، فأشبه النفقة، وهو مخير بين أن يزوجه حرة، أو يسريه
بأمة، ولا يجوز أن يزوجه أمة؛ لأنه بوجوب إعفافه، يستغني عن الأمة ونكاحها.
ولا يعفه بعجوز ولا قبيحة؛ لأن القصد الاستمتاع، ولا يحصل ذلك بهما. وإن
أعفه بزوجة فطلقها، أو بأمة فأعتقها، لم يلزمه إعفافه ثانيًا؛ لأنه ضيع على
نفسه، وإن أعفه بأمة فاستغنى عنها، لم يملك استرجاعها؛ لأنه دفعها إليه في
حال وجوبها عليه، فم يملك استرجاعها كالزكاة. ويجيء على قول أصحابنا: أن
يلزمه إعفاف كل من لزمه نفقته؛ لأنه من تمام كفايته، فأشبه النفقة.
(3/242)
فصل:
وإن احتاج الطفل إلى الرضاع، لزم إرضاعه؛ لأن الرضاع في حق الصغير كنفقة
الكبير. ولا يجب إلا في حولين، لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فإن امتنعت الأم من رضاعه، لم تجبر.
سواء كانت في حبال الأب، أو مطلقة، لقول الله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ولأنها لا تجبر على نفقة الولد مع
وجود الأب، فلا تجبر على الرضاع، إلا أن يضطر إليها، ويخشى عليه، فيلزمها
إرضاعه كما لو لم يكن له أحد غيرها. ومتى بذلت الأم إرضاعه متبرعة، أو
بأجرة مثلها، فهي أحق به، سواء وجد الأب متبرعة برضاعه، أو لم يجد، لقول
الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] إلى
قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، وقوله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولأنها أحق بحضانته، فوجب تقديمها.
وإن أبت أن ترضعه إلا بأكثر من أجر مثلها، لم يلزمه ذلك، ويسقط حقها؛ لأنها
أسقطته باشتطاطها، ولأن ما لا يوجد بثمن المثل، كالمعدوم، مثل الرقبة في
الكفارة. وإن كانت ذات زوج أجنبي من الطفل، فمنعها زوجها الرضاع، سقط حقها.
وإن أذن لها، فهي على حقها من ذلك.
فصل:
وتفارق نفقة القريب، نفقة الزوجة، في أربعة أشياء:
أحدها: أن نفقة الزوجة تجب مع الإعسار؛ لأنها بدل، فأشبهت الثمن في المبيع،
ونفقة القريب مواساة، فلا تجب إلا من الفاضل لقول الله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]
الثاني: أن نفقة الزوجة تجب للزمن الماضي، لما ذكرنا، ونفقه القريب لا تجب
لما مضى؛ لأنها وجبت لإحياء النفس، وتزجية الحال، وقد حصل ذلك في الماضي
بدونها.
الثالث: إذا دفع إلى الزوجة نفقة يومها، أو كسوة عامها، فمضت المدة ولم
تتصرف فيها، فعليه ما يجب للمدة الثانية، والقريب بخلاف ذلك.
(3/243)
والرابع: أنه إذا دفع إلى الزوجة ما يجب
ليومها، أو لعامها، فسرق، أو تلف، لم يلزمه عوضه، والقريب بخلافه، لما
ذكرنا.
[باب الحضانة]
إذا افترق الزوجان وبينهما طفل، أو مجنون، وجبت حضانته؛ لأنه إن ترك، ضاع
وهلك، فيجب إحياؤه. وأحق الناس بالحضانة، الأم؛ لأن أبا بكر الصديق قضى
بعاصم بن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأمه أم عاصم، وقال
لعمر: ريحها وشمها ولطفها خير له منك. رواه سعيد. واشتهر ذلك في الصحابة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فلم ينكر، فكان إجماعًا. ولأن الأم أقرب وأشفق،
ولا يشاركها في قربها إلا الأب، وليس له شفقتها، ولا يلي الحضانة بنفسه.
فإن عدمت الأم، أو لم تكن من أهل الحضانة، فأحقهم بها أمهاتها الأقرب
فالأقرب؛ لأنهن أمهات. ولا يشاركهن إلا أمهات الأب، وهن أضعف منهن ميراثًا،
ثم الأب؛ لأنه أحد الأبوين، ثم أمهاته وإن علون، ثم الجد، ثم أمهاته. وعنه:
أن أمهات الأب، أولى من أمهات الأم؛ لأنهن يدلين بعصبة، فعلى هذا يكون الأب
بعد الأم، ثم أمهاته، ثم أمهات الأم. وعنه: أن الخالة، والأخت من الأم، أحق
من الأب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخالة أم» . فعلى هذا، الأخت من
الأبوين أحق منه ومنهما؛ لأنها أدلت بالأم وزادت بقرابة الأب. والأول
المشهور في المذهب. فإذا انقرض الآباء والأمهات، انتقلت إلى الأخت من
الأبوين. ويحتمل أن ينتقل إلى الأخ؛ لأنه عصبة، والأول أولى؛ لأنها امرأة،
فتقدم على من في درجتها من الذكور، كالأم والجدة، ولأنها تلي الحضانة
بنفسها. ثم الأخت من الأب؛ لأنها تقوم مقام الأخت من الأبوين، وترث
ميراثها. ثم الأخت من الأم؛ لأنها ركضت معها في الرحم. ثم الأخ للأبوين، ثم
الأخ للأب، ثم بنوهم كذلك. فإذا انقرض الإخوة
(3/244)
والأخوات، فالحضانة للخالات. ويحتمل كلام
الخرقي تقديم العمات؛ لأنهن يدلين بعصبة فقدمن، كتقديم الأخت من الأب على
الأخت من الأم، والأولى أولى؛ لأنهن استوين في عدم الميراث، فكان من يدلي
بالأم أولى ممن يدلي بالأب كالجدات، ولأن الخالة أم. ثم العمات، وتقدم التي
من الأبوين، ثم التي من الأب، ثم التي من الأم، ثم الأعمام، ثم بنوهم.
فصل:
وللرجال من العصبات حق في الحضانة، بدليل ما روي «أن عليًا وجعفرًا وزيد بن
حارثة تنازعوا في حضانة بنت حمزة، فقال علي: بنت عمي وعندي بنت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال زيد بن حارثة: بنت أخي؛ لأن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين زيد وحمزة. وقال
جعفر: بنت عمي وعندي خالتها. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: الخالة أم. وسلمها إلى جعفر» . رواه أبو داود. إلا أن العم لا
حضانة له على جارية؛ لأنه ليس بمحرم لها، فلا تسلم إليه، وأولاهم بالحضانة
أولاهم بالميراث. فأما الرجال من ذوي الأرحام، كالأخ من الأم، والخال، وأبي
الأم، والعم من الأم، فلا حضانة لهم مع أحد من أهل الحضانة؛ لأنهم لا
يحضنون بأنفسهم، وليس لهم قرابة قوية يستحقون بها، ولا حضانة لمن يدلي بهم
من النساء؛ لأنه إذا لم يثبت لهم حضانة، فمن أدلى بهم أولى. فإن عدم أهل
الحضانة، احتمل أن تنتقل إليهم؛ لأنهم يرثون عند عدم الوارث، فكذلك يحضنون
عند عدم من يحضن، واحتمل أن لا يثبت لهم حضانة، وتنتقل إلى الحاكم، لما
ذكرناه أولًا.
فصل:
ولا حضانة لرقيق، لعجزه عنها بخدمة المولى، ولا لمعتوه، لعجزه عنها، ولا
لفاسق؛ لأنه لا يوفي الحضانة حقها، ولا حظ للولد في حضانته؛ لأنه ينشأ على
طريقته، ولا لكافر على مسلم كذلك، ولا للمرأة إذا تزوجت أجنبيًا من الطفل،
لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني
هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد
أن ينزعه مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت
أحق به ما لم تنكحي» . رواه أبو داود. ولأنها تشتغل عن الحضانة بالاستمتاع.
وقد روي هاهنا عن أحمد: إذا تزوجت الأم وابنها صغير، أخذ
(3/245)
منها. قيل له: فالجارية مثل الصبي؟ قال:
لا، الجارية تكون معها إلى سبع سنين؛ لأن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل بنت حمزة عند خالتها. إلى سبع وهي مزوجة» .
والأول: المذهب. وإنما تركت بنت حمزة عند خالتها؛ لأن زوجها من أهل
الحضانة.
وإن تزوجت المرأة بمن هو من أهل الحضانة، كالجدة المزوجة بالجد، لم تسقط
حضانتها؛ لأن كل واحد منهما له الحضانة منفردًا، فمع اجتماعهما أولى. ومتى
زالت الموانع منهم، مثل، أن طلقت المرأة المزوجة، أو عتق الرقيق، أو عقل
المعتوه، أو أسلم الكافر، أو عدل الفاسق، عاد حقهم من الحضانة؛ لأنه زال
المانع، فثبت الحكم بالسبب الخالي من المانع.
فصل:
ومن ثبتت له الحضانة فتركها، سقط حقه منها. وهل يسقط حق من يدلي به؟ على
وجهين:
أحدهما: يسقط؛ لأنه فرع عليه. فإذا سقط الأصل، سقط التبع.
والثاني: لا يسقط؛ لأن حق القريب سقط لمعنى اختص به، فاختص السقوط به، كما
لو سقط لمانع. فعلى هذا إذا تركت الأم الحضانة، فهي لأمها. وعلى الأول:
تنتقل إلى الأب. وإذا استوى اثنان من أهل الحضانة، كالأختين، والعمتين،
أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، قدم؛ لأنهما استويا من غير ترجيح، فقدم
أحدهما بالقرعة، كالعبدين في العتق، والزوجتين في السفر بإحداهما.
فصل:
وإذا بلغ الغلام سبعًا وهو غير معتوه، خير بين أبويه، فكان مع من اختار
منهما، لما روى أبو هريرة: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- خير غلامًا بين أبيه وأمه» . رواه سعيد. وروى أبو داود بإسناده عن أبي
هريرة قال: «جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فقالت: يا رسول الله يريد زوجي أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة،
وقد نفعني، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(3/246)
هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت
فأخذ بيد أمه فانطلقت به» ، فإن لم يختر واحدًا منهما. أو اختارهما معًا،
قدم أحدهما بالقرعة؛ لأنهما تساويا وتعذر الجمع، فصرنا إلى القرعة. وإن
اختار الأم، أو صار لها بالقرعة، كان عندها ليلًا، ويأخذه الأب نهارًا،
ليسلمه في مكتب أو صناعة؛ لأن القصد حظ الولد، وحظه فيما ذكرنا. وإن اختار
أباه، كان عنده ليلًا ونهارًا، ولا يمنع من زيارة أمه، لما فيه من الإغراء
بالعقوق وقطيعة الرحم. وإن مرض صارت الأم أحق بتمريضه؛ لأنه صار كالصغير في
حاجته إلى من يقوم بأمره. وإن مرض أحد الأبوين وهو عند الآخر، لم يمنع من
عيادته وحضروه عنده، لما ذكرنا. وإن اختار أحدهما، ثم عاد فاختار الآخر،
سلم إليه، ثم إن اختار الأول، رد إليه؛ لأن هذا اختيار تشه، وقد يشتهي
أحدهما في وقت دون وقت، فأتبع ما يشتهيه، كما يتبع ما يشتهيه من مأكول
ومشروب. وإن لم يكن له أب، خير بين أمه وعصبته، لما روى عامر بن عبد الله
قال: خاصم عمي أمي، وأراد أن يأخذني، فاختصما إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، فخيرني علي ثلاث مرات، فاخترت أمي، فدفعني إليها.
فصل:
وإذا بلغت الجارية سبعًا، تركت عند الأب بلا تخيير؛ لأن حظها في الكون عند
أبيها؛ لأنها تحتاج إلى الحفظ، والأب أولى به، ولأنها تقارب الصلاحية
للتزويج. وإنما تخطب من أبيها؛ لأنه وليها، والمالك لتزويجها، وتكون عنده
ليلًا ونهارًا؛ لأن تأديبها وتخريجها في البيت. ولا تمنع الأم من زيارتها،
من غير أن يخلو بها الزوج. ولا تطيل ولا تتبسط؛ لأن الفرقة بين الزوجين
تمنع تبسط أحدهما في منزل الآخر. وإن مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيتها لما
ذكرناه في الغلام. وإن مرضت الأم، لم تمنع الجارية من عيادتها لما ذكرنا.
فصل:
وإن كان الولد بالغًا رشيدًا، فلا حضانة عليه. والخيرة إليه في الإقامة عند
من شاء منهما. وإن أراد الانفراد وهو رجل، فله ذلك؛ لأنه مستغن عن الحضانة.
ويستحب ألا ينفرد عنهما، ولا يقطع بره لهما، لقول الله تعالى:
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] . وإن كانت جارية، فلأبيها
منعها من الانفراد؛ لأنه لا يؤمن عليها دخول المفسدين.
(3/247)
فصل:
وإن أراد أحد أبوي الطفل السفر، والآخر الإقامة، والطريق أو البلد الذي
يسافر إليه مخوف، أو كان السفر لحاجة ثم يعود، فالمقيم أحق بالولد؛ لأن في
السفر ضررًا، وفي تكليفه السفر مع العود إتعاب له، ومشقة عليه. وإن كان
السفر لنقلة إلى بلد آمن بعيد في طريق آمن، فالأب أحق بالولد؛ لأن كونه مع
أبيه أحفظ لنسبه، وأحوط عليه، وأبلغ في تأديبه وتخريجه. وإن انتقلا جميعًا،
فالأم على حقها من الحضانة. وإن كانت النقلة إلى مكان قريب، بحيث يمكن الأب
رؤيتهم كل يوم، فالأم على حضانتها؛ لأن مراعاة الأب له ممكنة. وإن كان أبعد
من ذلك، فظاهر كلام أحمد: انقطاع حق أمه من الحضانة، لعجز الأب عن مراعاة
ولده، فهو كالسفر البعيد. وقال القاضي: إن كان دون مسافة القصر، فالأم على
حضانتها؛ لأنه في حكم القريب.
[باب نفقة المماليك]
ويجب على الرجل نفقة مملوكه، مما لا غنى عنه، وكسوته، لما روى أبو هريرة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» متفق
عليه. وتجب نفقته من قوت بلده؛ لأنه المتعارف. والمستحب أن يطعمه مما يأكل،
ويكسوه مما يلبس، لما روى أبو ذر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت
يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن
كلفتموهم، فأعينوهم عليه» متفق عليه. وإن ولي طعامه، استحب له أن يطعمه
منه، لما روى أبو هريرة قال:
(3/248)
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة
أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي دخانه وحره» رواه البخاري. وهو
مخير بين أن يجعل نفقته في كسبه، وبين أن ينفق عليه من ماله، ويأخذ كسبه،
أو يجعله برسم خدمته؛ لأن الكل خدمته. فإن جعل نفقته في كسبه وكان وفق
الكسب، فحسن. وإن كان في الكسب فضل، فهو لسيده. وإن كان فيه عوز، فعلى سيده
تمامه، ويستحب التسوية بين عبيده، وإمائه في النفقة والكسوة، ويجوز له
التفضيل. وإن كان في بعض إمائه من يعدها للتسري، فلا بأس بزيادتها في
الكسوة؛ لأن ذلك هو العادة.
فصل:
وعلى السيد إعفافه إذا طلب ذلك، فإن امتنع، أجبر على بيعه إذا طلب ذلك. وإن
طلبت الأمة التزويج وكان يستمتع بها، لم يجبر على تزويجها؛ لأنه يكفيها،
وعليه في تزويجها ضرر. وإن لم يستمتع بها، لزمه إجابتها، أو بيعها. وإن كان
لعبده زوجة، مكنه من الاستمتاع بها ليلًا؛ لأنه إذنه في النكاح تضمن إذنه
في الاستمتاع.
فصل:
ولا يجوز أن يكلفه في العمل ما يغلبه، أو يشق عليه، للخبر. وإن سافر به،
أركبه عقبة، ولا يجبر العبد على المخارجة؛ لأنه معاوضة، فلم يجبر عليها،
كالكتابة. وإن طلب العبد ذلك، لم يجبر عليه المولى كذلك. وإن اتفقا عليها
وله الكسب، جاز، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حجمه أبو طيبة، فأعطاه أجره، وسأل مواليه أن يخففوا عنه من خراجه» . وإن لم
يكن له كسب، لم يجز؛ لأنه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة
(3/249)
حل، فلم يجز. وإن مرض العبد، أو الأمة، أو
زمنا، أو عميا، لزمه نفقتهما؛ لأن نفقتهما بالملك وهو موجود.
فصل:
وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها، إلا أن يكون فيها فضل عن ريه؛ لأن فيه
إضرارًا بولدها، واللبن مخلوق له، فوجب أن يقدم فيه على غيره.
فصل:
ومن ملك بهيمة، لزمه القيام بعلفها، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعًا فدخلت
النار، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض» متفق عليه. ولا
يجوز أن يحمل عليها ما لا تطيق؛ لأنه إضرار بها، فمنع منه، كترك الإنفاق.
ولا يحلب منها، إلا ما فضل عن ولدها؛ لأنها غذاء للولد، فلم يملك منعه منه.
فإن امتنع من الإنفاق عليها، أجبر على بيعها. فإن أبى اكتريت، وأنفق عليها.
فإن أمكن وإلا بيعت. كما يزال ملكه عن زوجته إذا أعسر بنفقتها، بلغت
القراءة والحمد لله رب العالمين.
(3/250)
|