الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الديات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب الديات تجب الدية بقتل المؤمن،
والذمي، والمستأمن ومن بيننا وبينه هدنة؛ لقول الله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فأما من لم تبلغه
الدعوة فلا يضمن؛ لأنه لا إيمان له ولا أمان، فأشبه الحربي.
وقال أبو الخطاب: تجب ديته؛ لأنه محقون الدم من أهل القتال، أشبه الذمي،
وإن قتل في دار الحرب مسلمًا كاتمًا لإسلامه يظنه حربيًا، ففيه روايتان:
إحداهما: لا دية فيه؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ
لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولم
يذكر دية.
والثانية: يضمنه؛ لأنه قتل مؤمنًا معصومًا خطأ، وإن أرسل سهمه إلى حربي،
فتترس بمسلم، فقتله ففيه روايتان:
إحداهما: يضمنه كذلك.
والثانية: لا يضمنه؛ لأنه مضطر إلى رميه غير مفرط في فعله.
فصل:
وإن قطع طرف مسلم، فارتد ومات، ففيه وجهان:
(4/3)
أحدهما: لا يضمن شيئًا؛ لأن القطع صار
قتلًا لنفس لا ضمان فيها.
والثاني: تجب دية الطرف؛ لأن الجناية أوجبت ديته، والردة قطعت سرايته، فلا
يسقط ما تقدم وجوبه، كما لو قطع يده، فقتل المجروح نفسه، وفي قدر الواجب
وجهان:
أحدهما: أرش الجرح بالغًا ما بلغ، كما لو قتل الرجل نفسه.
والثاني: أقل الأمرين من أرشه، أو دية النفس؛ لأنه لو لم يرتد، لم يجب أكثر
من دية النفس، فإذا ارتد، كان أولى ألا يريد ضمانه.
فصل:
وإن قطع يد مسلم فارتد، ثم أسلم ومات، وزمن الردة مما لا تسري فيه الجناية،
ففيه دية كاملة؛ لأنه زمن الردة لا أثر له، وإن كان مما تسري فيه الجناية،
فكذلك على ظاهر كلامه؛ لأنه مسلم في حالة الجرح والموت. وقال القاضي: يحتمل
وجوب دية كاملة اعتبارًا بحال استقرار الجناية، ويحتمل أن يجب نصفها؛ لأنه
مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة، أشبه من مات من جرح نفسه وأجنبي.
فصل:
وإن قطع يد مرتد أو حربي فأسلم ومات لم يضمن؛ لأنه مات من سراية جرح مأذون
فيه، فلم يضمن كالسارق، إذا سرى قطعه، ولو رمى حربيًا أو مرتدًا، فلم يقع
به السهم حتى أسلم، فلا ضمان فيه؛ لأنه وجد السبب منه في حال هو مأمور
بقتله، على وجه لا يمكن تلافيه، أشبه ما لو جرحه، ثم أسلم.
ويحتمل كلام الخرقي وجوب ديته؛ لأنه قال: لو رمى إلى كافر أو عبد، فلم يقع
به السهم، حتى عتق وأسلم، فعليه دية حر مسلم؛ ولأن الاعتبار في الضمان بحال
الجناية دون حال السبب، بدليل ما لو حفر بئرًا لحربي، فوقع فيها بعدما
أسلم، ويحتمل التفريق بين الحربي والمرتد؛ لأن قتل الحربي مأمور به، وقتل
المرتد إلى الإمام، وإن أرسل سهمه إلى مسلم، فأصابه بعد أن ارتد، لم يضمنه؛
لأن الجناية حصلت وهو غير مضمون، أشبه ما لو أرسله على حي، فأصابه بعد
موته.
فصل:
وإذا اشترك الجماعة في القتل، فعليهم دية واحدة تقسم على عددهم؛ لأنه بدل
متلف يتجزأ، فيقسم بين الجماعة على عددهم، كغرامة المال، وإن جرحه أحدهم
جراحات، وسائرهم جرحًا واحدًا، فهم سواء لما تقدم، وإن كان القتل عمدًا،
فالدية
(4/4)
واحدة، وقال ابن أبي موسى: إذا قلنا: له أن
يقتص من جميعهم، ففيه روايتان:
أظهرهما: أن على كل واحد دية كاملة، بدلًا عن نفسه.
والثانية: تجب دية واحدة، وهذا أصح؛ لأن الدية بدل المحل، فلا يختلف بكثرة
المتلفين وقلتهم، كبدل المال، وإن أراد الولي أن يقتص من بعضهم، ويعفو عن
البعض، ويأخذ الدية من الباقين فله ذلك، ويأخذ منهم حصتهم من الدية، لما
ذكرنا، والمكرِه والمكرَه مشتركان في القتل، حكمهما ما ذكرنا، وكذلك حكم
الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، ومن المعنى فيه.
فصل:
وإن طرح إنسانًا في ماء يسير، يمكنه التخلص منه، فأقام فيه قصدًا حتى هلك،
لم يجب ضمانه؛ لأن طرحه لم يهلكه، وإنما هلك بإقامته، فكان هو المهلك
لنفسه، وإن طرحه في نار يمكنه الخلاص منها، فلم يفعل حتى هلك، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه كذلك.
والثاني: يضمنه؛ لأن تركه التخلص لا يُسقط ضمان الجناية، كما لو جرحه، فترك
مداواة نفسه حتى هلك به وفارق الماء؛ لأن الناس يدخلونه للسباحة وغيرها.
وإن شده في موضع، فهلك بزيادة الماء ضمنه. فإن كانت الزيادة معلومة، كمد
البصرة، فهو عمد محض، وإن كانت تحتمل ويحتمل، فهو شبه عمد، وإن كانت نادرة
فهو خطأ، وإن ألقاه في ماء يسير، فالتقمه حوت، فهو خطأ محض، وإن كان الماء
كثيرًا، فهو شبه عمد، وإن ألقاه مكتوفًا فأكله سبع، فهو شبه عمد؛ لأنه عمد
إلى فعل لا يهلك به غالبًا فهلك به، أشبه ما لو وكزه.
فصل:
وإن صاح بصبي، أو تغفل غافلًا فصاح به، فسقط عن شيء هلك به ضمنه؛ لأنه هلك
بسببه، فإن قصده بالصياح، فهو شبه عمد، وإن لم يقصده فهو خطأ، وإن كان
العاقل متيقظًا لم يضمنه؛ لأن ذلك لا يقتله، وإن اتبع إنسانًا بسيف، فوقع
في شيء هلك به ضمنه؛ لأنه تسبب إلى إهلاكه، وكذلك إن طرده إلى موضع؛ فأكله
به سبع.
فصل
وإن بعث السلطان إلى امرأة ليحضرها، ففزعت فألقت جنينًا ميتًا وجب ضمانه؛
لما روي: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرسل إلى امرأة مغيبة
كان يُدْخَل عليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر؟ ! فبينا هي في الطريق
إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولدًا، فصاح الصبي صيحتين؛ ثم مات، فاستشار
عمر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأشار
(4/5)
بعضهم: أن ليس عليك شيء، إنما أنت مؤدب،
فصمت علي، فأقبل عليه عمر، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا
قالوا برأيهم فقد أخطئوا رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك،
إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها، فألقت.
وإن هلكت المرأة بسبب وضعها ضمنها أيضًا؛ لأنه سبب لإتلافها، وإن فزعت
فماتت، لم يضمنها؛ لأنه ليس بسبب لهلاكها غالبًا، ويحتمل أن يلزمه ضمانها؛
لأنها هلكت بفعله فضمنها، كما لو ضربها سوطًا فماتت، وإن زنى بامرأة مكرها
فأحبلها، فماتت من الولادة ضمنها؛ لأنها ماتت بسببٍ تعدى به.
فصل:
وإن رمى إنسانًا من علو، فتلقاه آخر بسيف، فقتله، فالضمان على القاتل؛ لأنه
مباشر، والملقي متسبب، فكان الضمان على المباشر، كالحافر والدافع.
فصل
وإن حفر بئرًا في الطريق، أو وضع حجرًا أو حديدة، أو قشر بطيخ أو ماء، فهلك
به إنسان ضمنه؛ لأنه تعدى به، ولزمه ضمان ما هلك به، كما لو جنى عليه، فإن
دفعه آخر في البئر أو على الحجر أو الحديدة، فالضمان على الدافع؛ لأنه
مباشر، والآخر صاحب سبب، وإن حفر بئرًا، أو نصب حديدة، ووضع آخر حجرًا،
فعثر بالحجر، فوقع في البئر، أو على الحديدة فمات، فالضمان على واضع الحجر؛
لأنه الذي ألقاه، فأشبه ما لو ألقاه بيده.
فصل
ومن حفر بئرًا في طريق لنفسه، ضمن ما هلك بها؛ لأنه ليس له أن يختص بشيء من
طريق المسلمين، وكذلك إن حفرها في ملك غيره بغير إذنه؛ لأنه متعد بحفرها،
وإن حفرها في الطريق لمصلحة المسلمين، وكانت في طريق ضيق، ضمن ما تلف بها؛
لأنه ليس له ذلك، وإن كانت في طريق واسع لم يضمن؛ لأنه لم يتعد بها، فلم
يضمن ما تلف بها، كما لو أذن فيها الإمام.
وعنه: إن حفرها بغير إذن الإمام ضمن؛ لأن ما يتعلق بمصلحة المسلمين يختص
الإمام بالنظر فيه، فمن افتأت عليه، كان متعديًا به، فضمن ما هلك به، وإن
بنى مسجدًا في موضع لا ضرر فيه، أو علق قنديلًا في مسجد، أو بابًا، أو فرش
فيه حصيرًا، لم يضمن ما تلف به؛ لأن هذا من المصالح التي يشق استئذان
الإمام فيها، فملك فعله بغير إذنه، كإنكار المنكر، وذكر القاضي: أنه كحفر
البئر في الطريق، وإن حفر بئرًا في موات لينتفع بها، أو لينتفع بها
المسلمون، أو ليتملكه، لم يضمن ما تلف بها؛ لأنه غير متعد بحفرها، وإن كان
في داره بئر، أو كلب عقور،
(4/6)
فدخل إنسان بغير إذنه، فهلك بها، أو عقره
الكلب لم يضمنه؛ لأن التفريط من الداخل، وإن دخل بإذنه والبئر مكشوفة في
موضع يراها الداخل لم يضمنه، وإن كانت مغطاة، أو في ظلمة، أو الداخل ضريرًا
ضمنه؛ لأنه فرط في ترك إعلامه، وإن وضع حجرًا في ملكه، وحفر آخر بئرًا في
الطريق، فتعثر بالحجر، فوقع في البئر، فالضمان على الحافر؛ لأن العدوان
منه، فكان الضمان عليه، والواضع في ملكه لا عدوان منه فلم يضمن، وإن وضع
جرة على سطحه، فألقتها الريح على شيء فأتلفته لم يضمنه؛ لأنه غير متعد
بالوضع، ولا صنع له في إلقائها.
فصل:
وإن بنى حائطًا مائلًا إلى الطريق، أو إلى ملك غيره، فسقط على شيء أتلفه
ضمنه؛ لأنه تلف بسببٍ تعدى به، وإن بناه في ملكه مستويًا، فمال إلى الطريق،
أو إلى ملك غيره، فأمره المالك بنقضه، أو أمره مسلم أو ذمي بنقص المائل إلى
الطريق، وأمكنه ذلك فلم يفعل، ضمن ما تلف به أحد الوجهين؛ لأن ذلك يضر
المالك والمارة، فكان لهم المطالبة بإزالته، فإذا لم يزله ضمن، كما لو بناه
مائلًا. والثاني: لا يضمن؛ لأنه وضعه في ملكه، وسقط بغير فعله، فأشبه الجرة
التي ألقتها الريح، ويحتمل أن يضمن، وإن لم يطالب بنقضه؛ لأن بقائه مائلًا
يضر، فلزمه إزالته وإن لم يطالب به، كالذي بناه مائلا. وإن لم يمكنه نقضه
لم يضمن؛ لأنه غير مفرط. وإن أخرج جناحًا، أو ميزابًا إلى الطريق، فوقع على
إنسان ضمنه؛ لأنه تلف بسبب تعدى به. فأشبه ما لو بنى حائط مائلًا.
فصل:
وإذا رمى إلى هدف، فمر صبي فأصابه السهم، فقتله أو مرت بهيمة فأصابها، ضمن
ذلك؛ لأنه أتلفه وإن قدم إنسانٌ الصبيَ، أو البهيمةَ إلى الهدف فأصابهما
السهم، فالضمان على من قدّمهما؛ لأن الرامي كالحافر، والآخر كالدافع. وإن
أمر من لا يميز أن ينزل بئرًا، أو يصعد نخلة، فهلك بذلك ضمنه؛ لأنه تسبب
إلى إتلافه. وإن أمر من يميز بذلك فهلك به لم يضمنه؛ لأنه يفعل ذلك
باختياره. فإن كان الآمر السلطان، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه كذلك.
(4/7)
والثاني: يضمنه؛ لأن عليه طاعة السلطان،
فأشبه ما لو أكرهه على فعله، وإن غصب صبيًا، فأصابته عنده صاعقة، أو نهشته
حية ضمنه؛ لأنه تلف في يده العادية.
وإن مرض فمات، ففيه وجهان:
أحدهما: يضمنه كذلك، فأشبه العبد الصغير.
والثاني: لا يضمنه؛ لأنه حر لا تثبت اليد عليه في الغصب، فأشبه الكبير، وإن
أدب المعلم صبيانه، أو الرجل ولده أو زوجته، أو السلطان رعيته، الأدب
المأمور به، لم يضمن ما تلف به؛ لأنه أدب مأمور به، فلم يضمن ما تلف به
كالحد، ويحتمل أن يضمن، كما لو أرسل إلى امرأة ليحضرها، فأجهضت جنينها.
فصل:
وما أتلفت الدابة بيدها أو فمها، ضمنه راكبها وقائدها وسائقها، وما أتلفت
برجلها أو ذنبها لم يضمنه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «الرِّجْل جُبَار» رواه سعيد. فمفهومه أن جناية اليد
مضمونة، والفم في معناها؛ ولأن اليد يمكن حفظها، فضمن ما تلف بها، بخلاف
الرِّجل، وعنه: في السائق أنه يضمن جناية الرجل والذنب؛ لأنه يشاهدهما،
فأشبه اليد في حق القائد، وإن بالت في الطريق، ضمن ما تلف به؛ لأنه كما لو
صبه فيها، ويحتمل أن لا يضمن في هذا؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، أشبه جناية
الرجل، وإن كان على دابة راكبان، فالضمان على الأول منهما؛ لأنه المتصرف
فيها، وإن كان لها قائد وسائق اشتركا في الضمان؛ لاشتراكهما في تمشيتها،
وإن كان معهما راكب، فالضمان بينهم أثلاثًا كذلك، ويحتمل أن يختص به
الراكب؛ لأنه أقوى منهما يدًا، والجمل المقطور إلى جمل عليه راكب، كالذي في
يده؛ لأن يده عليه، وليس عليه ضمان ما جنى ولد البهيمة؛ لأنه لا يمكنه
حفظه، وكذلك ما جنت الدابة، إذا لم يكن عليها يد، لم يضمن مالكها كذلك.
فصل:
وإذا اصطدم نفسان فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه؛ لأن كل واحد
منهما مات من صدمة صاحبه، وإنما هو قرّب نفسه إلى محل الجناية عن غير قصد،
وإن ماتت دابتاهما، ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر، وإذا كان أحدهما
يسير والآخر واقفًا، فعلى السائر دية الواقف وضمان دابته؛ لأنه قتلهما
بصدمته، ولا ضمان على الواقف؛ لأنه لا فعل منه، إلا أن يقف في طريق ضيق،
فيكون الضمان عليه؛ لأنه
(4/8)
تعدى بالوقوف فيه، فأشبه واضع الحجر فيه،
وإن تصادما عمدًا، وذلك مما يقتل غالبًا، فدماؤهما هدر؛ لأن ضمان كل واحد
منهما يلزم الآخر في ذمته، فيتقاصان ويسقطان. وإن ركب صبيان، أو أركبهما
وليهما فاصطدما، فهما كالبالغين.
وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما، فعليه ضمان ما تلف منهما؛ لأنه تلف
بسبب جنايته، وإن أركب الصبي من لا ولاية له، فصدمه كبير فقتله، فالضمان
على الصادم؛ لأنه مباشر، فيقدم على المتسبب، وإن مات الكبير فقتله، فضمانه
على الذي أركب الصبي؛ لأنه تلف بسبب جنايته، وإن اصطدمت امرأتان حاملان،
فحكمهما في أنفسهما ما ذكرنا، وعلى كل واحد منهما نصف ضمان جنينها، ونصف
ضمان جنين الأخرى؛ لأنهما اشتركا في قتلهما لجنايتهما عليهما، وإن تصادم
عبدان فماتا، فهما هدر؛ لأن جناية كل واحد منهما تتعلق برقبته، فتفوت
بفواته، فإن مات أحدهما فقيمته في رقبة الآخر، كسائر جناياته.
فصل:
وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا، لتفريط من القيمين، مثل تقصيرهما في آلتهما،
وتركهما ضبطهما مع إمكانه، أو تسييرهما إياهما في ريح شديدة لا تسير السفن
في مثلها، ضمن كل واحد منها سفينة الآخر بما فيها، كالفارسين إذا اصطدما،
فإن لم يفرطا، فلا ضمان عليهما؛ لأنه تلف حصل بأمر لا صنع لهما فيه، ولا
تفريط منهما، أشبه التلف بصاعقة، وإن فرط أحدهما دون صاحبه، ضمن المفرط
وحده. وإن فرطا جميعًا، وكان أحدهما منحدرًا، والآخر مصعدًا، فعلى المنحدر
ضمان المصعد؛ لأن المنحدر كالسائر، والمصعد كالواقف، فيختص المنحدر بالضمان
كالسائر. ومن غرق سفينة فيها ركبان بسبب يقتل مثله غالبًا عمدًا، فعليه
القصاص، وإن كان خطأ، فعلى عاقلته دية الركبان. وإن كان عمدًا بسبب لا يقتل
مثله غالبًا، فقتلهم شبه عمد.
فصل:
وإذا قال بعض ركبان السفينة لرجل: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وجب عليه
ضمانه؛ لأنه استدعى منه إتلاف ماله بعوض، لغرض صحيح، فأشبه ما لو قال: أعتق
عبدك وعلي ثمنه، وإن قال: ألقه وضمانه علي، وعلى ركبان السفينة ففعل، فعليه
بحصته من الضمان. إن كانوا عشرة فعليه العشر، ويسقط سائره؛ لأنه جعل الضمان
على الجميع، فلم يجب عليه أكثر من حصته، وإن قال: ألق ونحن نضمنه لك، وعلي
تحصيله لك لزمه؛ لأنه تكفل له بتحصيل عوضه، وكذلك إن قال: قد أذنوا لي في
الضمان عنهم، فألقه ونحن ضمنا لك، ضمن جميعه؛ لأنه غره.
(4/9)
فصل:
وإذا رمى أربعة بالمنجنيق، فقتل الحجر رجلًا، فعلى كل واحد منهم ربع ديته،
وإن قتل الحجر أحدهم، ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط ربع ديته، ويلزم شركاءه ثلاثة أرباعها؛ لأنه مات بفعله
وفعلهم، فهدر ما قابل فعله، ولزم شركاءه الباقي، كما مات من جراحاتهم،
وجراح نفسه.
الثاني: يلزم شركاءه جميع ديته، ويلغو فعل نفسه، قياسًا على المصطدمين.
وإن كانوا ثلاثة فما دون، ففيه وجه ثالث، وهو أن يجب ثلث دية المقتول على
عاقلته لورثته، ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته.
فصل:
إذا وقع رجل في بئر، ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع فمات الأول، وجبت
ديته على الثاني؛ لما روى علي بن رباح اللخمي: أن بصيرًا كان يقود أعمى،
فخرا في بئر، ووقع الأعمى فوق البصير فقتله، فقضى عمر بعقل البصير على
الأعمى، فكان الأعمى ينشد في الموسم:
يا أيها الناس لقيت منكرا ... هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا معًا كلاهما تكسرا
ولأن الأول مات بوقوع الثاني عليه، فوجبت ديته عليه، وإن مات الثاني هدرت
ديته؛ لأنه لا صنع لغيره في هلاكه، وإن ماتا معًا، فعليه ضمان الأول، ودمه
هدر كذلك، وإن وقع عليهما ثالث، فدية الأول على الثاني والثالث؛ لأنه مات
بوقوعهما عليه، ودية الثاني على الثالث؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، فانفرد
بديته، ودم الثالث هدر، هذا إذا كان الوقوع عليه هو الذي قتله، فإن كان
البئر عميقًا يموت الواقع بمجرد وقوعه، لم يجب الضمان على أحد؛ لأن كل واحد
منهم مات بوقعته، لا بفعل غيره. وإن احتمل الأمرين فكذلك؛ لأن الأصل عدم
الضمان.
فصل:
فإن خر رجل في زبية أسد، فجذب ثانيًا، وجذب الثاني ثالثًا، وجذب الثالث
رابعًا، فقتلهم الأسد، فدم الأول هدر؛ لأنه لا صنع لأحد في إلقائه، وعليه
دية الثاني؛ لأنه السبب في قتله، وعلى الثاني دية الثالث كذلك، وعلى الثالث
دية الرابع، كذلك.
(4/10)
وفيه وجه آخر: أن دية الثالث على الأول،
والثاني نصفين؛ لأن جذب الأول الثاني سبب في جذب الثالث، ودية الرابع على
الثلاثة أثلاثًا كذلك، وقد روي عن أحمد: أنه ذهب فيها إلى قضية علي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ما روى حنش الصنعاني: «أن قومًا من أهل اليمن
حفروا زبية للأسد فوقع فيها، فاجتمع الناس على رأسها، فهوى فيها واحد، فجذب
ثانيًا، فجذب الثاني ثالثًا، ثم جذب الثالث رابعًا، فقتلهم الأسد، فرفع ذلك
إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: للأول ربع الدية؛ لأنه هلك فوقه
ثلاثة، وللثاني ثلث الدية؛ لأنه هلك فوقه اثنان، وللثالث نصف الدية؛ لأنه
هلك فوقه واحد، وللرابع الدية كاملة، وقال: وإني أجعل الدية على من حفر رأس
البئر، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هو كما
قال» رواها سعيد بن منصور بإسناده، وذكرها أحمد. واحتج بها، وذهب إليها،
فإن كان هلاكهم لوقوع بعضهم على بعض، فلا شيء على الرابع؛ لأنه لا صنع له،
وتجب ديته على الثالث في إحدى الوجهين؛ لأنه المباشر لجذبه.
وفي الثاني: ديته على الثلاثة أثلاثًا، وتجب دية الثالث على الثاني في أحد
الوجوه، والثاني تجب ديته على الأول والثاني نصفين، ويلغى فعل نفسه،
والثالث يهدر ما قابل فعله في نفسه، ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته،
والرابع يهدر نصف ديته، ويجب على عاقلة الثاني نصفها، وأما الثاني: ففيه
ثلاثة أوجه:
أحدها: تجب ديته على الأول والثالث نصفين.
والثاني: يهدر من ديته ثلثها؛ لأنه قابل فعل نفسه، ويجب ثلثاها على الأول
والثالث.
والثالث: تجب الدية على عواقلهم ثلاثتهم.
وفي الأول ثلاثة أوجه:
أحدها: تجب ديته على الثاني والثالث نصفين.
والثاني: يجب عليهما ثلثاها ويسقط ثلثها.
والثالث: تجب الدية على عواقلهم كلهم.
فصل:
إذا تجارح رجلان، وزعم كل واحد منهما، أنه جرح الآخر دفعًا عن نفسه، وجب
على كل واحد منهما ضمان صاحبه؛ لأن الجرح قد وجد، وما يدعيه من القصد لم
يثبت فوجب الضمان، والقول قول كل واحد منهما مع يمينه في نفي القصاص؛ لأن
ما يدعيه محتمل فيندرئ به القصاص؛ لأنه يندرئ بالشبهات.
(4/11)
فصل
ومن اضطر إلى طعام إنسان، أو شرابه، فمنعه مع غناه عنه فهلك ضمنه؛ لأن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى بذلك، ولأنه قتله بمنعه طعامًا يجب دفعه
إليه فضمنه، كما لو منعه طعامه فهلك بذلك. وإن رآه في مهلكة فلم ينجيه لم
يضمنه؛ لأنه لم يتسبب إلى قتله بخلاف التي قبلها، وقال أبو الخطاب -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه ضمانه على قياس التي قبلها، ولا يصح؛ لأنه في
الأول منعه من تناول ما تبقى حياته به، فنسب هلاكه إليه، بخلاف هذا، فإنه
لا صنع له فيه.
[باب مقادير الديات]
دية الحر المسلم: مائة من الإبل؛ لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم،
عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب
إلى أهل اليمن، بكتاب فيه الفرائض والسنن: «وإن في النفس الدية؛ مائة من
الإبل» رواه مالك في الموطأ، والنسائي في السنن.
فصل:
ودية العمد المحض، وشبه العمد أرباع، خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقة،
وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض، في إحدى الروايتين؛ لما روى
الزهري، عن السائب بن يزيد قال: «كانت الدية على عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرباعًا، خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين
حقة، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض» ، ولأنه قول ابن
مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والثانية: يجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، أي حاملًا؛ لما روى
عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «ألا في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون
في بطونها أولادها» رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدًا دفع
إلى أولياء المقتول إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا، أخذوا الدية، وهي ثلاثون
حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه، فهو لهم» رواه الترمذي.
وقال: حديث
(4/12)
حسن. والخلفة: الحامل. وعن عمرو بن شعيب:
أن رجلًا يقال له: قتادة، حذف ابنه بالسيف فقتله، فأخذ منه عمر ثلاثين حقة،
وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة رواه مالك في الموطأ. وهل يعتبر في الأربعين،
أن تكون ثنايا؟ على وجهين:
أحدهما: لا يعتبر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق
الخلفات، فاعتبار السن تقييد لا يصار إليه إلا بدليل.
والثاني: يجب أن تكون ثنايا؛ لأن في بعض الألفاظ، منها أربعون خلفة، ما بين
ثنية عامها إلى بازل، ولأن سائر الأنواع مقدرة السن، فكذلك الخلفات.
فصل:
ودية الخطأ وما أجري مجراه أخماس، عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون
بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة؛ لما روى ابن مسعود: أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في دية الخطأ عشرون جذعة،
وعشرون حقة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض» رواه أبو
داود. وعمد الصبي، والمجنون جار مجرى الخطأ، وحكمه حكمه؛ لأنه لا يوجب
قصاصًا بحال، وكذلك فعل النائم، مثل أن ينقلب على شخص فيقتله، والقتل
بالسبب مثل حفر البئر، ووضع الحجر، وسائر ما ذكرناه حكمه حكم الخطأ.
فصل:
وتجب الإبل صحاحًا، غير مراض، ولا عجاف، ولا معيبة؛ لأنه بدل متلف من غير
جنسه، فلم يقبل فيه معيب، كقيمة المال. ومتى أحضرها على الصفة المشروطة،
لزم قبولها، سواء كانت من جنس ماله، أو لم تكن؛ لأنها بدل متلف، فلم يعتبر
كونها من جنس ماله، كسائر قيم المتلفات.
فصل:
وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يعتبر قيمة الإبل، بل متى وجدت الصفة المشروطة
وجب أخذها، قلت قيمتها أو كثرت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أطلق الإبل، فتقييدها بالقيمة يخالف ظاهر الخبر، ولأنه خالف
بين أسنان دية العمد والخطأ، تخفيفًا لدية الخطأ عن دية العمد، واعتبارها
بقيمة واحدة تسوية بينهما، وإزالة للتخفيف المشروع.
(4/13)
وعن أحمد: أنه يعتبر أن تكون قيمة كل بعير
مائة وعشرين درهمًا؛ لأن عمر قومها باثني عشر ألف درهم، ولأنها إبدال محل
واحد، فيجب أن تستوي قيمتها، كالمثل والقيمة في المتلفات.
فصل:
وظاهر كلام الخرقي: أن الإبل هي الأصل في الدية، قال أبو الخطاب: هذا إحدى
الروايتين عن أحمد؛ لما روينا من الأخبار. والرواية الأخرى: أن الأصول ستة
أنواع: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والورق، والحلل؛ لما روي في كتاب
عمرو بن حزم: «وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف
دينار» رواه النسائي.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن عمر قام خطيبًا فقال: إن الإبل قد
غلت، قال: فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا،
وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي
حلة رواه أبو داود. وهذا كان بمحضر من الصحابة فكان إجماعًا. وقال القاضي:
لا يختلف المذهب في أن هذه الأنواع أصول في الدية، إلا الحلل، فإن فيها
روايتين، فأي شيء منها أحضره من عليه الدية، لزم الولي قبوله؛ لأنها أبدال
فائت، فكانت الخيرة إلى المعطي، كالأعيان في الجنس الواحد، وإذا قلنا:
الأصل الإبل خاصة، وجب عليه تسليمها، وأيهما أراد العدول إلى غيرها، فللآخر
منعه؛ لأن الحق متعين فيها، كالمثل في المثليات، فإن أعوزت، أو لم توجد إلا
بأكثر من ثمن مثلها، فله الانتقال إلى أحد هذه الأنواع؛ لأنها أبدال عنها،
فيصار إليها عند إعوازها، كالقيمة في بدل المثليات.
فصل:
وقدرها من هذه الأنواع على ما جاء في حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
وهي ألف مثقال من الذهب الخالص، أو اثنا عشر ألف درهم من دراهم الإسلام
التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة مقدرة بما
تجب في الزكاة، ففي البقر، النصف مسنات، والنصف أتبعة، وفي الغنم يجب النصف
ثنايا، والنصف أجذعة، إذا كانت من الضأن.
ويجب في الحلل المتعارف من حلل اليمن، كل حلة بردان، ويجب أن يكون كل نوع
منها تبلغ قيمته اثني عشر ألف درهم على الرواية التي تعتبر فيها قيمة
الإبل، فيكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهمًا، وقيمة كل شاة ستة دراهم؛
(4/14)
لما ذكرنا، ولما روى ابن عباس: «أن رجلًا
من بني عدي قتل، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديته
اثني عشر ألفًا» رواه أبو داود.
فصل:
وذهب أصحابنا إلى أن الدية تغلظ بالقتل في الحرم والإحرام والشهر الحرام،
وقال أبو بكر: وتغلظ أيضًا بالرحم المحرم، وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد
أنها لا تغلظ به، ومعنى التغليظ: أن يزاد لكل واحد من هذه الحرمات ثلث
الدية، فإن اجتمعت الحرمات الثلاث، وجب ديتان، وعلى قول أبي بكر: إذا
اجتمعت الأربع، وجبت ديتان وثلث؛ لما روي، عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: أن امرأة وطئت في الطواف، فقضى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فيها بستة آلاف، وألفين تغليظًا للحرم.
وعن ابن عمر أنه قال: من قتل في الحرم، أو ذا رحم، أو في شهر الحرام، فعليه
دية وثلث. وعن ابن عباس: أن رجلًا قتل رجلًا في الشهر الحرام، وفي البلد
الحرام. فقال: ديته اثنا عشر ألفًا، وللشهر الحرام أربعة آلاف، وللبلد
الحرام أربعة آلاف، ولم يظهر خلاف هذا، فكان إجماعًا، ولا تغلظ لغير ما
ذكرنا؛ لعدم الأثر فيه، وامتناع قياسه على ما ورد الأثر فيه، وظاهر كلام
الخرقي أنها لا تزاد على مائة من الإبل؛ لقوله الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وهذا عام في كل قتيل، وفسر النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدية بمائة من الإبل، وإخبار النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تقدير الواجب بالقتل بمائة من الإبل أو
غيرها، مطلقة في الأمكنة والأزمنة والقرابة. وقد قتلت خزاعة قتيلًا من هذيل
بمكة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأنتم يا خزاعة،
قد قتلتم هذا القتيل من هذيل؟ وأنا والله عاقله، فمن قتل له قتيل بعد ذلك،
فأهله بين خيرتين، إما أن يقتلوا، وإما أن يأخذوا الدية» ولم يزد.
وقتل قتادة ابنه فلم يأخذ منه عمر أكثر من مائة، ولأنه بدل متلف، فلم يختلف
بهذه المعاني، كسائر المتلفات.
فصل:
ودية الحرة المسلمة نصف دية الرجل؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في كتاب عمرو بن حزم أنه قال: «دية المرأة على النصف
من دية الرجل» ، ولأنه إجماع الصحابة؛ روي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد،
وابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا مخالف لهم، وتساوي
جراحها جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت، صارت على النصف، لما روى عمرو
بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «عقل المرأة مثل
(4/15)
عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» رواه
النسائي. «وعن ربيعة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال:
عشر. قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون. قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون. قلت:
ففي أربع أصابع؟ قال: عشرون. قلت: لما عظمت مصيبتها، قل عقلها؟ قال: هكذا
السنة يا ابن أخي» رواه سعيد بإسناده، وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل
ودية الكاتبي: نصف دية المسلم؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «دية المعاهد نصف
دية المسلم» رواه أبو داود. وروي عنه: أن ديته ثلث الدية، لما روي أن عمر:
جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، إلا أنه رجع عن هذه الرواية. وقال:
كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، فأنا اليوم أذهب إلى
نصف دية المسلم. فإن قتله المسلم عمدًا، أضعفت الدية على قاتله، لإزالة
القود؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم بذلك، ولو قتله الكافر لم
تضعف ديته؛ لأن القود واجب، ونساؤهم على النصف من دياتهم، كما أن نساء
المسلمين على النصف منهم، ودية المجوسي: ثمانمائة درهم؛ لما روي عن عمر،
وعثمان، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: ديته ثمانمائة
درهم، والمستأمن: كالذمي، وإن كان وثنيًا فديته: دية المجوسي؛ لأنه كافر،
لا يحل نكاح نسائه، فأما من لم تبلغه الدعوة، إن لم يكن له عهد، فلا ضمان
فيه؛ لأنه كافر لا عهد له، أشبه نساء أهل الحرب، وقال أبو الخطاب: يضمن بما
يضمن به أهل دينه؛ لأنه محقون الدم من أهل القتال، أشبه المستأمن.
فصل:
وإذا قطع طرف ذمي فأسلم، ثم مات، ففيه وجهان:
أحدهما: تجب دية مسلم. اختاره ابن حامد؛ لأن الاعتبار بحال استقرار
الجناية، بدليل ما لو قطع يديه ورجليه فمات، وجبت دية واحدة، اعتبارًا بحال
الاستقرار.
والثاني: يجب دية ذمي، وهو ظاهر قول أبي بكر والقاضي؛ لأن الجناية يراعى
فيها حال وجودها، بدليل عدم وجوب القصاص فيها، وهو في حالة الجناية ذمي،
فأما إن رمى إلى ذمي، فلم يقع به السهم حتى أسلم، فعليه دية مسلم؛ لأن
الإصابة لمسلم.
(4/16)
فصل
ودية الخنثى المشكل: نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى. وذلك ثلاثة أرباع دية
الذكر؛ لأنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالًا على السواء، فيجب التوسط
بينهما كالميراث، والحكم في جراحه، كالحكم في ديته، فإن كانت دون الثلث
استوى الذكر والأنثى، وفيما زاد ثلاثة أرباع دية حر ذكر.
فصل:
ودية العبد والأمة: قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك؛ لأنه مال مضمون بالإتلاف لحق
الآدمي بغير جنسه، فأشبه الفرس. وإن جنى عليه جناية غير مقدرة في الحر،
ففيه ما نقصه بعد التئام الجرح، كسائر الأموال، وإن كانت مقدرة في الحر،
فهي مقدرة في العبد من قيمته، فما وجبت فيه الدية: كالأنف، واللسان،
والذكر، والأنثيين، ضمن من العبد بقيمته، وما يجب فيه ديتان، كإذهاب سمعه
وبصره، ففيه مثلا قيمته، وما ضمن بجزء من الدية، كاليد والرجل والإصبع، ضمن
من العبد بمثله من قيمته؛ لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،
ولأنه ساوى الحر في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة، فساواه في اعتبار ما
دون النفس ببدل النفس، كالرجل والمرأة، وعن أحمد رواية أخرى: أن الجناية
على العبد بما نقص من قيمته، سواء كانت مقدرة في الحر، أو لم تكن مقدرة؛
لأن ضمانه ضمان الأموال، فيجب فيه ما نقص كالبهائم، والحكم في المكاتب وأم
الولد، كالحكم في القن؛ لأنهم رقيق. فأما من بعضه حر، ففيه بالحساب، من دية
حر وقيمة عبد، فإن كان نصفه حرًا، ففيه نصف دية حر لورثته، ونصف قيمته
لسيده، وهكذا في جراحه؛ لأن الضمان يتجزأ، فوجب أن يقسم على قدر ما فيه
منهما كالكسب.
فصل:
إذا فقأ عيني عبد قيمته ألفان فاندمل، ثم أعتق ومات، وجبت قيمته بكاملها
لسيده؛ لأنه استقر حكم الجرح وهو مملوك، وكذلك إن اندمل بعد العتق؛ لأن
الضمان يجب بالجناية، وهو حينئذ مملوك، وإن سرى الجرح إلى نفسه، فروى حنبل
عن أحمد، أن على الجاني قيمته السيد. وهذا اختيار أبي بكر والقاضي؛ لأن
الضمان يجب بالجناية، وهو حينئذ مملوك، فأشبه ما لو اندمل الجرح، وقال ابن
حامد: يجب فيه دية حر؛ لأن اعتبار مقدار الواجب بحال الاستقرار، بدليل ما
لو فقأ عينه، وقطع أنفه،
(4/17)
فمات من سراية الجرح، لم يجب إلا قيمة
واحدة، ويصرف ذلك إلى السيد؛ لأن الجناية في ملكه، فإن فقأ إحدى عينيه،
فسرى إلى نفسه بعد العتق، فعلى الوجه الأول تجب القيمة بكمالها للسيد،
اعتبارًا بحال وجودها، وعلى قول ابن حامد: يجب دية حر، لسيده منها أقل من
الأمرين، من نصف القيمة، أو كمال الدية؛ لأنه إن كان نصف القيمة أقل، فهو
الذي وجب له، والزيادة حصلت حال الحرية، وإن كانت الدية أقل، فنقصها بسبب
من جهته وهو العتق.
فصل:
وإن قطع يد عبد فأعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى ومات، فلا قصاص على الأول،
لعدم التكافؤ في حال الجناية، وعليه نصف القيمة لسيده على قول أبي بكر.
وعلى قول ابن حامد: عليه نصف ديته، لسيده منها الأقل من نصف قيمته يوم
القطع، أو نصف الدية؛ لأن نصف القيمة إن كان أقل، فهو أرش الجناية الموجودة
في ملكه، وإن كان أكثر، فالحرية نقصت ما زاد عليه. وأما الثاني: فعليه
القصاص في الطرف. إن وقف قطعه، وفي النفس إن سرى؛ لأنه شارك في القتل العمد
العدوان، فأشبه شريك الأب، ويتخرج أن لا قصاص عليه، بناء على الرواية
الأخرى في شريك الأب، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، أن الجناية ثم
من واحد، فكانت الدية جميعها عليه، وهاهنا من اثنين، فقسمت الدية عليهما.
فإن عاد الأول، فذبحه بعد اندمال الجرحين، فعليه القصاص للورثة، ونصف
القيمة للسيد، وعلى الثاني: القصاص في الطرف، أو نصف الدية، وإن كان قبل
الاندمال، فعلى الأول القصاص في النفس دون الطرف، فإن اقتصوا، سقط حق
السيد. وإن عفوا على مال، فلهم الدية لا غير، وللسيد أقل الأمرين من نصف
القيمة، أو أرش المقطوع، وعلى الثاني: القصاص في الطرف، أو نصف الدية؛ لأن
الذبح، قطع سرايتها، فصارت كالمندملة. فإن كان قاطع اليد الأخرى، هو قاطع
الأولى، ولم يقتل، فلا قصاص في اليد الأولى لما ذكرنا.
ويجب في الثانية إن وقف القطع. وإن سرى القطعان، فلا قصاص في النفس؛ لأن
أحد الجرحين موجب، والآخر غير موجب، ولكن له القصاص من اليد الثانية، فإن
عفا عنه على مال، وجب عليه مثل ما يجب على القاطعين في المسألة الأولى،
للسيد منه نصف القيمة على قول أبي بكر، وأقل الأمرين من نصف القيمة، أو نصف
الدية على قول ابن حامد، وإن اقتص منه في اليد الثانية، فعليه في اليد
الأولى نصف القيمة، أو نصف الدية على اختلاف الوجهين، وإن قطع يد عبد
فأعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى، ثم قطع آخر رجله، فمات من الجراحات، فلا
قصاص على الأول؛ لعدم التكافؤ حال الجناية، وعلى الآخرين القصاص في النفس
في ظاهر المذهب، بناء على شريك الأب، فإن عفا على
(4/18)
مال، فالدية عليهم أثلاثًا، وفيما يستحقه
السيد وجهان:
أحدهما: أقل الأمرين من نصف قيمته، أو ثلث ديته؛ لأنه بالقطع استحق النصف،
فإذا صارت نفسًا، صار الواجب ثلث الدية، فله أقلهما، وعلى الآخر له أقل
الأمرين من ثلث الدية، أو ثلث القيمة، اعتبارًا للجناية بما آلت إليه.
فصل:
وإذا جنى على عبد في رأسه، أو وجهه من دون الموضحة، فزاد أرشها على
الموضحة، ففيه وجهان:
أحدهما: يرد إلى أرش الموضحة، كالجناية على الحر.
واحتمل أن يجب ما نقص من قيمته بالغًا ما بلغ، لأن ذلك الأصل في ضمان
العبيد، خولف فيما قدر الشرع أرشه، ففيما عداه يرد إلى الأصل.
فصل:
ودية الجنين الحر المسلم: غرة عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل، وهو: نصف
عشر الدية؛ لما «روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه استشار الناس في
إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قضى فيه بغرة: عبد أو أمة، وهو: نصف عشر الدية. قال:
لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة» متفق عليه. وروي عن عمر، وزيد
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا في الغرة: قيمتها خمس من الإبل،
ولأنه أقل ما قد في الشرع في الجنايات، وهو دية السن والموضحة، ولا يقبل في
الغرة معيبة، وإن قل العيب، ولا خصي وإن كثرت قيمته؛ لأنه عيب، ولا قيمة
الغرة مع وجودها، كما لا يجبر على قبول ما ليس بأصل في الدية فيها، فإن
أعوزت، وجبت قيمتها من أحد الأصول في الدية، وسواء كان الجنين ذكرًا أو
أنثى؛ لأن الخبر مطلق، ولأن المرأة تساوي الذكر فيما دون الثلث.
فصل:
وإنما يجب ضمانه إذا علم تلفه بالجناية، ولو ضرب بطنًا منتفخًا، أو فيه
حركة فزالت، ولم يسقط لم يجب شيء؛ لأنه يحتمل أن ذلك ريح ذهبت، وإن قتل
حاملًا، فلم تسقط، لم يضمن جنينها؛ لعدم التيقن لحملها، وإن ضرب بطن امرأة،
فألقت يدًا،
(4/19)
أو رجلًا، أو غيرها من أجزاء الآدمي، وجبت
الغرة؛ لأننا تيقنا أنه جنين. والظاهر تلفه بالجناية، فأشبه ما لو ألقته،
وإن ألقت رأسين، أو أربعة أيد، لم يجب أكثر من غرة؛ لأن ذلك يحتمل أن يكون
من واحد، فلا يجب الزائد بالشك. وإن ألقت جنينين، فعليه غرتان؛ لأن في كل
جنين غرة، فأشبه ما لو كانا من امرأتين.
فصل:
وإن ألقت جنينًا حيًا، ثم مات من الضربة. وكان سقوطه لوقت يعيش مثله، ففيه
دية كاملة، لما ذكرنا من حديث عمر في التي أجهضت جنينها فزعًا منه، ولأننا
تيقنا حياته، وعلمنا موته بالجناية، فأشبه غير الجنين، وإن سقط لوقت لا
يعيش مثله، ففيه الغرة؛ لأنه لم يعلم منه حياة يتصور بقاؤه بها، فالواجب
فيه غرة، كالذي ألقته ميتًا.
فصل:
وإنما يجب ضمانه إذا علم أنه سقط بالضربة ومات بها، بأن تلقيه عقيب الضرب،
أو تبقى متألمة إلى أن تلقيه، ويموت عقيب وضعه، أو يبقى متألمًا إلى أن
يموت، فإن بقي مدة سالمًا لا ألم به ثم مات، لم يضمنه الضارب؛ لأن الغالب
أنه لم يمت من الضربة، وإن ألقته حيًا فيه حياة مستقرة، فقتله غير الضارب
فضمانه عليه؛ لأنه القاتل. وإن كانت حركته حركة المذبوح، فالقاتل هو الأول،
وعليه كمال ديته.
فصل
:
وإن كان الجنين كافرًا، فألقته ميتًا، ففيه غرة، قيمتها عشر دية أمه، فإن
كان أحد أبويه كتابيًا، والآخر مجوسيًا، ففيه عشر دية كتابية؛ لأن الضمان
إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب، وفي الآخر ما يسقط غلب الإيجاب، بدليل ما لو
قتل المحرم صيدًا متولدًا من مأكول وغيره. وإن ضرب بطن كتابية حاملًا من
كتابي فأسلمت، ثم ألقته، ففيه غرة قيمتها: خمس من الإبل على قول ابن حامد؛
لأن الضمان معتبر بحالة الاستقرار. وعلى قياس قول أبي بكر: قيمتها عشر دية
كتابية، اعتبارًا بحال الجناية، وما وجب في الجنين الحر ورثه ورثته؛ لأنه
بدل حر، فورث عنه كدية غيره.
فصل:
وإن ألقت مضغة لا صورة فيها، لم يجب ضمانها؛ لأنه لا يعلم أنها جنين، وإن
شهد ثقات من القوابل: أن فيها صورة خفية، ففيها غرة؛ لأنه جنين، وإن شهدن
أنه مبتدأ خلق آدمي، لو بقي تصور، ففيه وجهان:
أحدهما: فيه الغرة؛ لأنه بدء خلق آدمي، أشبه المصور.
(4/20)
والثاني: لا شيء فيه؛ لأنه غير متصور، أشبه
العلقة.
فصل:
إذا شربت الحامل دواء، فأسقطت جنينًا، فعليها غرة لا ترث منها شيئًا؛ لأن
القاتل لا يرث، وتعتق رقبة.
فصل:
وإن ضرب بطن مملوكة، فألقت جنينًا ميتًا، ففيه عشر قيمة أمه؛ لأنه جنين
آدمية، فوجب فيه عشر دية أمة، كجنين الحرة، ولأنه جزء منها متصل بها، فقدر
بدله من ديتها، كسائر أعضائها، وتعتبر قيمتها يوم الجناية كموضحتها، وإن
ضرب بطنها وهي أمة، فأعتقت ثم ألقت، فعلى قول ابن حامد: فيه غرة اعتبارًا
بحالة الاستقرار، وعلى قول أبي بكر: فيه عشر قيمة أمه؛ لأن الجناية على
عبد، وفي جنين المعتق نصفها: نصف غرة، ونصف عشر قيمة أمه؛ لأن نصفه حر
ونصفه عبد، ويستوي الذكر والأنثى؛ لأنه جنين مات بالجناية في بطن أمه، فلم
يختلف بالذكورية والأنوثية، كجنين الحرة.
فصل:
إذا غر بحرية أمة فوطئها، فحملت منه، ثم ضربها ضارب، فألقت جنينًا، ففيه
غرة؛ لأنه حر، وريثها ورثته كذلك، وعلى الواطئ عشر قيمة أمه لسيدها؛ لأنه
لولا اعتقاده الحرية، لوجب لسيدها عشر قيمتها على الضارب، فقد حال بين
سيدها وبين ذلك، فألزمناه إياه، سواء كان بقدر الغرة، أو أقل أو أكثر. ولو
ضرب السيد بطن أمته، ثم أعتقها، فأسقطت جنينًا، ففي قياس قول أبي بكر: لا
ضمان على الضارب؛ لأنه جنى على مملوكه، وعلى قياس قول ابن حامد عليه غرة؛
لأنه حر حين استقرار الجناية.
[باب ديات الجروح]
وهي نوعان: شجاج وغيرها. فالشجاج: جروح الرأس والوجه خاصة، وهي عشر: أولها:
الحارصة: وهي التي تشق الجلد قليلًا، ثم البازلة: وهي الدامية التي يخرج
منها دم يسير، ثم الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، ثم المتلاحمة:
وهي التي تنزل في اللحم، ثم السمحاق: وهي التي تشق اللحم كله حتى ينتهي إلى
قشرة رقيقة بين العظم واللحم، تسمى السمحاق، فسميت الشجة بها، فهذه الخمس
لا توقيت فيها، وعنه: في الدامية بعير، والباضعة بعيران. وفي المتلاحمة
ثلاثة، وفي
(4/21)
السمحاق أربعة؛ لأن هذا يروى عن زيد بن
ثابت ورواه سعيد، عن علي، وزيد في السمحاق. والأول: ظاهر المذهب؛ لأنها
جروح لم يرد الشرع فيها بتوقيت، فكان الواجب فيها الحكومة، كجروح البدن،
قال مكحول: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
الموضحة، بخمس من الإبل، ولم يقض فيما دونها» ، ثم الموضحة: وهي التي تنتهي
إلى العظم، فتبدي وضحه أي بياضه، ثم الهاشمة التي تهشم العظم بعد إيضاحه،
ثم المنقلة، وهي التي تنقل العظم من مكان إلى غيره، ثم المأمومة وتسمى
الأمة، وهي التي تصل إلى أم الدماغ، وهي جلدة رقيقة تحيط به، ثم الدامغة،
وهي التي تنتهي إلى الدماغ.
فهذه الخمس فيها مقدر، ففي الموضحة خمس من الإبل، لما ذكرنا، ولما روى عمرو
بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال: «في المواضح خمسٌ خمس» رواه أبو داود. وسواء في ذلك الكبيرة
والصغيرة، وموضحة الرأس والوجه، وعنه: في موضحة الوجه عشر من الإبل؛ لأن
شينها أكثر، ولا تسترها العمامة، والأول: المذهب للخبر، ولأننا سوينا
الصغرى والكبرى مع اختلاف شينهما، كذا هاهنا. وإن أوضحه موضحتين بينهما
حاجز، ففيهما عشر، فإن أزال الحاجز بينهما بفعله، أو ذهب بالسراية، ففيهما
أرش موضحة؛ لأنهما صارا موضحة واحدة بفعله أو سرايته، وسراية الفعل كالفعل،
وإن أزال الحاجز بعد اندمالهما، فهي ثلاث مواضح؛ لأن استقر أرش الأوليين
باندمالهما، وإن أزال الحاجز أجنبي، فعليه أرش موضحة، وعلى الأول أرش
موضحتين.
سواء أزاله قبل اندمالهما أو بعده؛ لأن فعل أحدهما لا ينبني على الآخر،
فصار كل واحد كالمنفرد بجنايته، وإن أزاله المجني عليه، فعلى الأول أرش
موضحتين كذلك، وإن أوضحه موضحتين، وحرق ما بينهما في الظاهر دون الباطن،
فهما موضحتان، لأن ما بينهما ليس بموضحة، وإن حرق ما بينهما في الباطن دون
الظاهر، فكذلك في أحد الوجهين، وفي الثاني: هما موضحة واحدة، لا تصالهما في
الباطن، وإن أوضحه في رأسه، ونزل إلى وجهه، ففيه وجهان:
أحدهما: فيها أرش موضحتين؛ لأنها في عضوين.
والثاني: هي موضحة واحدة؛ لأن الجميع إيضاح لا حاجز فيه، أشبه ما كان في
عضو واحد، وإن أوضحه في هامته، فنزل إلى قفاه، ففيه أرش موضحة، وحكومة لجرح
القفا؛ لأنه ليس بمحل للموضحة، فانفرد الجرح فيه بالضمان. ولو شق جميع رأسه
سمحاقًا إلا موضعًا منه أوضحه، لم يلزمه إلا دية موضحة؛ لأنه لو أوضح
الجميع لم يجب إلا دية موضحة، فهاهنا أولى، وإن أوضحه في جميع رأسه ورأس
الشاج قدر
(4/22)
ثلاثة أرباع رأس المشجوج، فاقتص منه، فله
ربع أرش الموضحة؛ لأن الباقي بعد القصاص ربعها، فوجب ربع أرشها، وقال أبو
بكر: لا يجب مع القصاص شيء؛ لئلا يجمع بين قصاص ودية في جرح واحد، وفي
الهاشمة عشر من الإبل؛ لما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: في الهاشمة عشر من
الإبل، وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز، ففيهما دية هاشمتين، وسائر فروعها
على ما ذكرنا في الموضحة، وإن ضربه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح، ففيه
وجهان:
أحدهما: فيه حكومة؛ لأنه كسر عظم من غير إيضاح، أشبه كسر عظم الساق.
والثاني: فيه خمس من الإبل؛ لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عشر، ولو أوضحه ولم
يهشمه، وجب خمس؛ فدل على أن الخمس الأخرى وجبت في الهشم، فيجب ذلك فيه، وإن
انفرد على الإيضاح، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفي المأمومة ثلث
الدية؛ لما روي عن عمرو بن حزم: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: «في الموضحة خمس من الإبل، وفي المأمومة
ثلث الدية» رواه النسائي. فأما الدامغة، ففيها ما في المأمومة؛ لأن الزيادة
لم يرد الشرع بإيجاب شيء فيها. وقيل: يجب للزيادة حكومة مع أرش المأمومة،
لتعديه بخرق جلدة الدماغ، وإن أوضحه رجل ثم هشمه آخر، ثم جعلها آخر منقلة،
ثم جعلها الرابع مأمومة، فعلى الأول أرش موضحة، وعلى الثاني خمس تمام أرش
الهاشمة، وعلى الثالث خمس تمام أرش المنقلة، وعلى الرابع ثماني عشر وثلث
تمام أرش المأمومة.
فصل:
النوع الثاني: غير الشجاج، وهي جروح سائر البدن، وذلك قسمان:
أحدهما: الجائفة، وهي الجراحة الواصلة إلى الجوف من بطن، أو ظهر، أو ورك،
أو صدر، أو ثغرة نحر، فيجب فيها ثلث الدية؛ لما روى عمرو بن حزم: أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: «في
الجائفة ثلث الدية» رواه النسائي. والكبيرة والصغيرة سواء، لما ذكرنا في
الموضحة، وإن أجافه جائفتين بينهما حاجز، أو طعنه في جوفه، فخرج من جانب
آخر، أو من ظهره، فهما جائفتان؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن
عمر قضى في الجائفة إذا نفذت في الجوف، فهي جائفتان، ولأنهما جراحتان
نافذتان إلى الجوف، فوجب فيهما أرش الجائفتين كالواصلتين من خارج، وإن
أجافه رجل، ووسع آخر الجائفة، فعلى كل واحد منهما أرش جائفة؛ لأن فعل
الثاني لو انفرد كان جائفة، وإن وسعها في الظاهر دون الباطن، أو في الباطن
دون الظاهر، فعليه
(4/23)
حكومة، لأن جنايته لم تبلغ الجائفة، وإن
أجافه، ونزل بالسكين إلى الفخذ، فعليه دية جائفة، وحكومة لجرح الفخذ؛ لأنه
في غير محل الجائفة؛ فأشبه ما لو أوضحه، ومد السكين إلى القفا، وإن خزق
شدقه، فليس بجائفة؛ لأن حكم الفم حكم الظاهر، فإن طعنه في وجنته، فكسر
العظم، ووصل إلى فيه، فليس بجائفة كذلك، وعليه دية هاشمة، لكسر العظم،
وفيما زاد حكومة. وإن خاط الجائفة، ففتقها آخر قبل التحامها عزر، وعليه
ضمان ما أتلف من الخيوط، وأجرة الخياط.
ولا يلزمه دية الجائفة؛ لأنه لم يجفه، وإن كانت قد التحمت، فعليه دية
جائفة؛ لأنها بالالتحام عادت إلى ما كانت، وإن التحم بعضها دون بعض، ففتق
ما التحم، فعليه دية جائفة كذلك. وقال القاضي: ليس عليه إلا حكومة، فإن
أدخل خشبة في دبر إنسان، ففتح جلده في الباطن، ففيه وجهان بناء على من وسع
الموضحة في الباطن وحده، فإن وطئ مكرهة، أو امرأة بشبهة، أو زوجته الصغيرة
ففتقها، وهو أن يجعل مسلك البول والمني واحدًا، فعليه ثلث الدية؛ لما روي
عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الإفضاء بثلث الدية، ولأنها
جناية تجرح جلدة تفضي إلى جوف، أشبه الجائفة، وإن وطئ زوجته التي يوطأ
مثلها، ففتقها لم يلزمه شيء؛ لأنه من أثر فعل مباح، أشبه أرش البكارة، وإن
زنى بامرأة مطاوعة، فلا شيء عليه؛ لأنه فعل مأذون فيه، فلم يلزمه أرش لذلك،
كما لو أذنت في قطع عضوها.
فصل
والقسم الثاني: غير الجائفة مثل إن أوضح عظمًا، أو هشمه أو نقله، فلا يجب
سوى الحكومة؛ لأنه لا تقدير فيها، ولا يمكن قياسها على المقدر، لعدم
المشاركة في الشين والخوف عليها منها، وإن لطم إنسانًا في وجهه أو غيره فلم
يؤثر، فلا أرش عليه، وإن سود وجهه أو خضره، وجبت عليه دية كاملة؛ لأنه أذهب
الجمال على الكمال، فلزمته دية كما لو قطع أنفه. وإن سود غيره من الأعضاء
أو خضره، ففيه حكومة، وكذلك إن حمر وجهه أو صفره، أو سود بعضه، ففيه حكومة؛
لأنه لم يذهب بالجمال على الكمال. وإن صعره وهو أن يصير وجهه في جانب، ففيه
الدية؛ لما روى مكحول، عن زيد بن ثابت أنه قال: في الصعر الدية، ولأنه أذهب
الجمال والمنفعة، فوجبت عليه الدية، كإذهاب البصر، وإن لم يبلغ الصعر، لكن
يشق عليه الالتفات، أو ابتلاع الماء، فعليه حكومة كذلك؛ لأنه لم يذهب
بالمنفعة كلها، فأشبه ما لو قلل بصره.
فصل
ومعنى الحكومة أن يقوم المجني عليه، كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوم وهي به
قد
(4/24)
برأت، فما نقص من القيمة، فله بقسطه من
الدية، كأن قيمته وهو عبد لا جناية به مائة، وقيمته بعد الجناية تسعة
وتسعون، فيجب فيه عُشر عشر ديته؛ لأن الجناية نقصته عشر عُشر قيمته؛ لأنه
لما عدم النص في أرشه، وجب المصير فيه إلى الاجتهاد بما ذكرنا، كالصيد
الحرمي، إذا لم يوجد نص في مثله، رجع فيه إلى ذوي عدل، ليعرف مثله، ولا
يقبل التقويم إلا من عدلين من أهل الخبرة بقيم العبيد، كما في تقويم سائر
المتلفات، ويجب بقدر ما نقص من الدية؛ لأنه مضمون بها، كما يجب أرش المعيب
من الثمن، لكونه مضمونًا به، وإذا نقصته الجناية عشر قيمته، وجب عشر ديته،
إلا أن تكون الجناية في رأس، أو وجه فتزيد الجراح بالحكومة على أرش موضحة،
أو على عضو، فتزيد على ديته، فإن يرد إلى أرش الموضحة ودية العضو، وينقص
عنه بقدر ما يؤدي إليها اجتهاد الحاكم؛ لأنه لا يجوز أن يجب فيما دون
الموضحة ما يجب فيها؛ لأن من جرح الموضحة، فقد أتى على ما دونها، وزاد
عليه، وكذلك لا يجوز أن يجب في جراح الإصبع فوق ديتها.
فصل:
وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا نفع، مثل قطع إصبع زائدة، أو قلع سن
زائدة، أو لحية امرأة، فاندمل الموضع من غير نقص، أو زاده جمالًا وقيمة،
ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب شيء؛ لأنه لم يحصل بفعله نقص، فلم يجب شيء، كما لو لكمه فلم
يؤثر.
والثاني: يجب ضمانه؛ لأنه جزء من مضمون، فوجب ضمانه كغيره، فعلى هذا يقومه
في أقرب أحواله إلى الاندمال؛ لأنه لما سقط اعتباره بعد اندماله، قوم في
أقرب أحواله إليه كولد المغرور يقوم في أول حال يمكن فيها التقويم بعد
العلوق، وهي عند الوضع، فإن لم ينقص في تلك الحال، قوم حين جريان الدم، وإن
قلع سنًا زائدة، قوم وليس خلفها سن أصلية، وإن قلع لحية امرأة، قومت كرجل
لا لحية له، ثم يقوم وله لحية، ويجب ما بينهما.
فصل:
وإن جنى عليه جناية لها أرش، ثم ذبحه قبل اندمال الجرح، دخل أرش الجرح في
دية النفس؛ لأنه مات بفعله قبل استقرار الجناية، أشبه ما لو مات من سراية
الجرح.
(4/25)
وإن قتله غيره وجب أرش الجرح؛ لأنه لا
ينبني فعل غيره على فعله، أشبه ما لو اندمل الجرح.
[باب دية الأعضاء والمنافع]
كل ما في الإنسان منه شيء واحد: كاللسان، والأنف، والذكر، ففيه الدية
كاملة، وما فيه منه شيئان كالعينين وغيرهما ففيهما الدية، وفي أحدهما
نصفها، وما فيه منه أربعة، كأجفان العينين، ففيهن الدية، وفي إحداهن ربعها،
وما فيه منه عشر، كأصابع اليدين والرجلين، ففيها الدية، وفي الواحدة عشرها،
وفي إتلاف منفعة الحس: كالسمع، أو البصر، أو الشم، أو العقل ونحوه الدية؛
لأن ذلك يجري مجرى تلف الآدمي، فجرى مجراه في ديته.
فصل:
يجب في العينين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لعمر بن حزم: «وفي العينين الدية» ولأنه إجماع، وفي إحداهما
نصف الدية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي العين
خمسون من الإبل» رواه مالك في الموطأ. وسواء في ذلك الصحيحة والمريضة، وعين
الصغير والكبير كذلك، وفي عين الأعور دية كاملة؛ لأنه يروى عن عمر، وعثمان،
وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قضوا بذلك، ولم نعرف لهم
مخالفًا في عصرهم؛ فكان إجماعًا، ولأنه يحصل بها ما يحصل بالعينين، فكانت
مثلهما في الدية، وإن قلع الأعور عيني صحيح، ففيها الدية، لما تقدم، وإن
قلع عينه التي لا تماثل عين القالع، ففيها نصف الدية كذلك. وإن قلع
المماثلة لعينه خطأ فكذلك، وإن قلعها عمدًا، فلا قصاص، وعليه دية كاملة؛
لأنه يروى عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه منع القصاص
مع وجود سببه، فأضعفت الدية، كقاتل الذمي عمدًا.
فصل:
وفي البصر الدية؛ لأنه النفع المقصود بالعين، وفي ذهابه من إحداهما نصفها،
فإن ذهب بالجناية على رأسه أو عينيه، أو بمداواة الجناية، وجبت الدية؛ لأنه
بسببه، فإن ذهب ثم عاد، لم تجب الدية. فإن كان قد أخذها ردها؛ لأن عوده يدل
على أنه لم يذهب، إذ لو ذهب لما عاد. وإن ذهب، فقال عدلان من أهل الخبرة:
إنه يرجى عوده إلى مدة، انتظر إليها، فإن مات قبلها، وجبت الدية؛ لأنه لم
يعد، وإن بلغ المدة ولم يعد وجبت؛ لأننا تبينا ذهابه، وإن قالا: يرجى عوده،
ولم يقدرا مدة، لم ينتظر؛ لأنه ذاهب في الحال، وانتظاره لا إلى مدة، إسقاط
لموجب الجناية بالكلية، وكذلك الحكم في السمع والشم والسن.
(4/26)
فصل
وإن نقص الضوء، وجبت الحكومة، وإن نقص ضوء إحداهما، عصبت العليلة، وأطلقت
الصحيحة، ونصب له شخص، كما فعل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برجل ادعى
نقص ضوء عينه، فأمر بها فعصبت، وأعطى رجلًا بيضة، فانطلق بها وهو ينظر حتى
انتهى بصره، ثم أمر فخط عند ذلك، ثم أمر بعينه الأخرى فعصبت، وفتحت
العليلة، وأعطى رجلًا بيضة، فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره، ثم خط عنه
ذلك، ثم حول إلى مكان آخر، ففعل مثل ذلك، فوجده سواء، فأعطاه بقدر نقص بصره
من مال الآخر، وإنما يمتحن بذلك مرتين، ليعلم صدقه بتساوي المسافتين، وكذبه
باختلافهما، والجناية على الصبي والمجنون، كالجناية على غيرهما، إلا أن
وليهما خصم عنهما، فإن توجهت اليمين عليهما، لم يحلفا، ولم يحلف وليهما،
حتى إذا بلغ الصبي، وعقل المجنون، حلفا حينئذ، وإن جنى عليه، فأحول عينه أو
شخصت ففيه حكومة؛ لأنه نقص لم يذهب بالمنفعة كلها، فأشبه ما لو قل بصره.
فصل
ويجب في جفون العينين الدية؛ لأن فيها جمالًا كاملًا، ونفعًا كثيرًا؛ لأنها
تقي العينين ما يؤذيهما وسواء في هذا البصير والأعمى؛ لأن العمى عيب في غير
الجفون، وفي الواحد منهما ربع الدية؛ لأنه ربع ما فيه الدية، وإن قلع
العينين بجفونهما، لزمته ديتان؛ لأنهما جنسان يجب في كل واحد منهما دية،
فيجب فيهما ديتان، إذا أتلفا، كاليدين والرجلين، ويجب في أهداب العينين
الدية؛ لأن فيها جمالًا ظاهرًا، ونفعا كاملًا؛ لأنها وقاية للعين، فأشبهت
الجفون، وفي الواحد منها ربع الدية، فإن قلع الجفون بأهدابها، لم يجب أكثر
من دية؛ لأن الشعر يزول تبعًا لزوال الأجفان، فلم يجب فيه شيء، كالأصابع
إذا زالت بقطع الكف.
فصل
وفي الأذنين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لعمرو بن حزم: «وفي الأذنين الدية» ولأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا
كاملا، يجمعان الصوت، ويوصلانه إلى الدماغ، فأشبها العينين. وفي إحداهما
نصفها؛ لأنه نصف ما فيه الدية، فأشبهت العين، ودية أذن الأصم، كدية أذن
الصحيح؛ لأن الصمم نقص في غير الأذن، فلا يؤثر في ديتها، كما لم يؤثر العمى
في دية الجفون، وإن جنى عليها، فاستحشفت فعليه حكومة؛ لأن نفعها لا يزول
بذلك، إن قطعت بعد استحشافها وجبت ديتها؛ لأنها أذن فيها الجمال والمنفعة،
فأشبهت الصحيحة، وفي قطع بعض الأذن بقسطه، يقدر بالأجزاء؛ لأن ما وجبت فيه
الدية وجب في بعضه بقسطه، كالأصابع.
(4/27)
فصل
وفى السمع الدية؛ لما روى أبو المهلب، عن أبي قلابة: أن رجلًا رمى رجلًا
بحجر في رأسه، فذهب بصره، وسمعه، وعقله، ولسانه، فقضى فيه عمر بأربع ديات
وهو حي، ولأن جنايته تختص بمنفعة، فأشبه البصر، وفي سمع إحدى الأذنين نصف
الدية، كبصر إحدى العينين. وإن قطع الأذنين فذهب السمع، وجب ديتان؛ لأن
السمع في غير الأذنين، فلم تدخل دية أحدهما في الآخر، كالبصر والجفون، وإن
قل السمع أو ساء ففيه حكومة، وإن نقص سمع إحدى الأذنين، سدت العليلة،
وأطلقت الصحيحة. وأمر الرجل يصيح من موضع يسمعه ويعمل كما عمل في نقص البصر
من إحدى العينين، ويؤخذ من الدية بقدر نقصه.
فصل
وفي مارن الأنف، وهو ما لان منه الدية؛ لأنه في كتاب عمرو بن حزم، ولما روى
طاوس قال: كان في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«في الأنف إذا أوعب مارنه جدعًا الدية» رواه النسائي. ولأن فيه جمالًا
ظاهرًا، ونفعًا كاملًا، فإنه يجمع الشم، ويمنع وصول التراب ونحوه إلى
الدماغ، والأخشم كالأشم؛ لأن الشم في غير الأنف، وفي قطع جزء من الأنف
بقسطه، كما في الأذن. وفي كل واحد من المنخرين ثلث الدية، وفي الحاجز
بينهما ثلثها؛ لأنه يشتمل على ثلاثة أشياء، فتوزعت الدية عليها، ويحتمل أن
يجب في كل واحد من المنخرين نصف الدية؛ لأنه يذهب بذهاب أحدهما نصف الجمال
والنفع، فإن قطع أحدها والحاجز، ففيهما ثلث الدية، على الأول، وعلى
الاحتمال الثاني، يجب نصف الدية، وحكومة. وفي الحاجز وحده حكومة. وإن قطع
المارن وشيئًا من القصبة، ففيه دية للمارن، وحكومة للقصبة، وقياس المذهب:
أن الواجب دية واحدة، كقطع اليد من الذراع.
فصل
وفي الشم الدية، وفي ذهابه من أحد المنخرين نصفها، وفي نقصه حكومة، وإن نقص
من أحد المنخرين، قدر بمثل ما يقدر به، نقص السمع من إحدى الأذنين، وإن قطع
أنفه، فذهب شمه، وجبت ديتان، لما ذكرنا في السمع.
فصل
وفي ذهاب العقل الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي العقل
(4/28)
الدية» ، ولما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن العقل أشرف الحواس، به يتميز عن البهيمة، ويعرف
حقائق المعلومات، ويدخل في التكليف، فكان أحق بإيجاب الدية، وإن نقص عقله
نقصًا يعرف قدره، مثل من يجن نصف الزمان، ويفيق نصفًا، وجب من الدية بقدره،
وإن لم يعرف قدره، بأن صار مدهوشًا، أو يفزعه الشيء اليسير، ففيه حكومة؛
لأنه تعذر إيجاب مقدر، فيصير إلى الحكومة، فإن كانت الجناية المذهبة للعقل
لها أرش كالموضحة، أو أذهبت سمعه وعقله وجبت ديتهما؛ لحديث عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - ولأنها جناية أذهبت نفعًا في غير محل الجناية، مع بقاء
النفس فلم يتداخلا، كما لو أوضحه فذهب بصره، وإن شهر سيفًا على صبي، أو
بالغ مضعوف، أو صاح عليه صيحة شديدة، فذهب عقله، فعليه ديته؛ لأن ذلك سبب
لزوال عقله، وكذلك إن أفزعه بشيء، مثل أن دلاه في بئر أو من شاهق، أو قدم
إليه حية، أو أسدًا لما ذكرنا.
فصل
وفي الشفتين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لعمرو بن حزم: «وفي الشفتين الدية» ، ولأن فيهما نفعًا كبيرًا، وجمالًا
ظاهرًا، فإنهما يقيان الفم ما يؤذيه، ويردان الريق، وينفخ بهما، ويمسك بهما
الماء، ويتم بهما الكلام، ويستران الأسنان، وفي إحداهما نصف الدية، وعنه:
في العليا ثلثها، وفي السفلى ثلثاها؛ لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولأن
النفع بالسفلى أعظم؛ لأنها تدور وتتحرك، وتحفظ الريق والطعام، والأول
المذهب؛ لأنه قول أبي بكر الصديق وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن
كل شيئين وجبت الدية فيهما، وجب في إحداهما نصفها كاليدين، ولا عبرة بزيادة
النفع، بدليل اليمنى مع اليسرى والأصابع، وإن ضربهما فأشلهما، أو تقلصتا
بحيث لا ينطبقان على الأسنان، أو التصقتا بحيث لا ينفصلان عنها، ففيهما
ديتهما؛ لأنه عطل نفعهما، فأشبه ما أشل يده، وإن تقلصتا بعض التقلص، ففيهما
حكومة.
فصل
وفي اللسان الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لعمرو بن حزم: «وفي اللسان الدية» ولأن فيه جمالًا ظاهرا، ونفعًا كثيرًا؛
لأنه يقال: جمال الرجل في لسانه، والمرء بأصغريه: قلبه ولسانه، ولأنه يبلغ
به الأغراض، ويقضي به الحاجات، ويتم به العبادات، ويذوق به الطعام والشراب،
ويستعين به في مضغ الطعام، وفي الكلام الدية؛ لأنه من أعظم المنافع، فإن
جنى على لسانه فخرس، وجبت عليه الدية؛ لأنه أذهب المنفعة به، فأشبه ما لو
جنى على عينه فعميت، وإن ذهب بعض الكلام، وجب بقدر ما ذهب؛ لأن ما ضمن
جميعه بالدية، ضمن بعضه بقدره منها، كالأصابع.
(4/29)
ويقسم على الحروف الثمانية والعشرين،
ويحتمل أن يقسم على حروف اللسان، وهي ثمانية عشر حرفًا، يسقط منها حروف
الحلق الستة؛ وهي: العين والغين، والحاء والخاء، والهاء والهمزة، وحروف
الشفة وهي أربعة: الباء، والفاء، والميم، والواو، ولأن اللسان لا عمل له
فيها، والأول أولى؛ لأن هذه الحروف ينطق بها اللسان أيضًا، بدليل أن الأخرس
لا ينطق بشيء منها، وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة، وجب أرش الحرف وحده؛ لأن
الضمان وجب لما تلف، وإن صار ألثغ وجب دية الحرف الذاهب؛ لأنه عجز عن النطق
بحرف، وإن حصل في كلامه ثقل، أو تمتمة، أو عجلة، لم تكن، ففيه حكومة لما
حصل من النقص؛ لأنه لم يمكن إيجاب مقدر. وإن قطع جزءًا من لسانه فذهب جزء
من كلامه وجب دية الأكثر، فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام، أو نصف
اللسان فذهب ربع الكلام وجب نصف الدية؛ لأن ما يتلف من كل واحد منهما
مضمون، فوجبت دية أكثرهما، وإن قطع ربع اللسان، فذهب نصف الكلام، ثم قطع
آخر بقيته، فعلى الأول نصف الدية، وعلى الثاني نصفها، وحكومة لربع اللسان؛
لأنه شل، فكانت فيه حكومة.
وإن قطع نصف اللسان، فذهب ربع الكلام، وقطع آخر باقيه، فعلى الثاني ثلاثة
أرباع الدية؛ لأنه ذهب بثلاثة أرباع الكلام، ولو جنى عليه، فذهب ثلاث أرباع
كلامه من غير قطع، وجب ثلاثة أرباع الدية، فمع قطع نصفه أولى، وإن جنى على
لسانه فاقتص مثل جنايته، فذهب من الجاني مثل ما ذهب من المجني عليه، فقد
استوفى حقه، وإن ذهب من الجاني أكثر، فكذلك؛ لأن الزائد ذهب من سراية
القود، وإن ذهب من كلام المجني عليه أكثر، أخذ من الجاني بقدر ما نقص عنه
الجاني من الدية؛ ليحصل تمام حقه، وإن كان لسان رجل ذا طرفين، فقطع أحدهما
ولم يذهب من الكلام شيء، وكانا متساويين في الخلقة، فهما كلسان مشقوق،
فيهما الدية، وفي أحدهما نصفها، وإن كان أحدهما تام الخلقة، والآخر ناقصًا،
فالتام هو الأصلي فيه الدية كاملة، والناقص زائد فيه حكومة.
فصل
وإن قطع لسان طفل يتحرك بالبكاء، وبما يعبر به الأطفال، كقوله: بابا ونحوه،
ففيه الدية؛ لأنه لسان ناطق، وإن كان لا يتحرك بشيء، وقد بلغ حدًا يتحرك
به، ففيه ما في لسان الأخرس؛ لأن الظاهر أنه لو كان ناطقًا لتحرك بما يدل
عليه، فإن قطع قبل مضي زمن يتحرك فيه اللسان، ففيه الدية؛ لأن الظاهر
السلامة، فضمن كما تضمن أطرافه، وإن لم يظهر فيها بطش.
(4/30)
فصل
وإن جنى على لسانه فذهب ذوقه، فلا يحس بشيء من المذاق، وهي خمس: الحلاوة،
والمرارة، والحموضة، والعذوبة، والملوحة، وجبت الدية؛ لأنه أتلف حاسة
لمنفعة مقصودة، فلزمته الدية كالبصر، وإن نقص الذوق نقصًا يتقدر بأن لا
يدرك أحدها وحدها، ففيها الخمس، وفى الاثنين الخمسان، وفي الثلاثة ثلاثة
أخماس؛ لأنه تقدر المتلف، فيتقدر الأرش كالأصابع، وإن لم يتقدر بأن يحس
المذاق كلها، لكن لا يدركها على كمالها، وجبت الحكومة لتعذر التقدير، وإن
أذهب ذوق الأخرس، فعليه الدية كذلك، وإن جنى على لسان ناطق، فأذهب كلامه
وذوقه مع بقاء اللسان، فعليه ديتان؛ لأنهما منفعتان تضمن كل واحدة منهما
منفردة، فيضمنان إذا اجتمعتا كالسمع والبصر، فإن قطع لسانه، لم يلزمه إلا
دية واحدة؛ لأن نفع العضو لا يفرد بضمان مع ذهابه، كالبطش في اليد.
فصل
وفي كل سن خمس من الإبل، سواء قلعت دفعة واحدة أو في دفعات؛ لأن في كتاب
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لعمرو بن حزم: «وفي السن خمس
من الإبل» رواه النسائي. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «وفي الأسنان خمس» رواه أبو
داود.
والأضراس والأنياب والرباعيات سواء؛ لما روى ابن عباس: أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «الأصابع سواء، والأسنان سواء،
والثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء» رواه أبو داود. ولأنه جنس ذو عدد، فلم
تختلف ديته باختلاف منافعه كالأصابع. وإن قلع السن بسنخها، أو كسر ما ظهر
منها، وخرج من لحم اللثة، ففيها دية السن؛ لأن النفع والجمال فيما ظهر،
فكملت الدية فيه كالإصبع، وإن قلع السنخ وحده ففيه حكومة، ككف لا أصابع له.
وإن كسر بعض السن طولًا أو عرضًا، وجب من دية السن بقدر ما كسر بقدر
الأجزاء من الظاهر كالأصابع، وإن ظهر السنخ المعيب بعلة، اعتبر بما كان
ظاهرًا قبل العلة؛ لأن الدية تجب بما كان ظاهرًا، فاعتبر المكسور منه، وإن
قلع سنًا فيها داء أو أكلة، ولم يذهب شيء من أجزائها، كملت ديتها، كاليد
المريضة. وإن ذهب منهما جزء، سقط من ديتها بقدر الذاهب، وإن كانت إحدى
ثنيتيه أقصر من الأخرى،
(4/31)
فقلع القصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها؛
لأنهما لا يختلفان عادة فإذا اختلفا، كانت القصيرة ناقصة فنقصت ديتها،
كالإصبع الناقصة، وإن قلع سنًا مضطربة لكبر، أو مرض، وبعض نفعها باق، كملت
ديتها، كاليد المريضة، ويد الكبير، وإن ذهب نفعها، فهي كاليد الشلاء، وإن
جنى على سنه فاحمرت أو اصفرت، ففيها حكومة؛ لأن نفعها باق، وإنما ذهب
جمالها، وإن اخضرت أو اسودت، ففيها روايتان:
إحداهما: فيها ديتها؛ لأنه يروى عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،
ولأنه سود ما له دية، فوجبت ديته كالوجه.
والأخرى: فيها حكومة، اختارها القاضي؛ لأنه لم يذهب منها إلا الجمال، فأشبه
ما لو حمرها، وإن نقصتها الجناية، ففيها حكومة لنقصها، وإن جنى على سنه،
فأذهب نفعها كله، من المضغ وحفظ الريق والطعام، ففيها ديتها، كما لو أشل
يده.
فصل
وإن قلع سن صبي لم يثغر، لم يلزمه شيء في الحال؛ لأن العادة عودها، فأشبه
ما لو نتف شعره، فإن لم تنبت وأيس من نباتها، وجبت ديتها. قال أحمد: ينتظر
عامًا؛ لأنه الغالب في نباتها. وقال القاضي: إذا أسقطت أخواتها ثم نبتن ولم
تنبت، وجبت ديتها، فإن مات قبل اليأس منها، ففيه وجهان:
أحدهما: تجب ديتها؛ لأنه قلع سنًا لم تعد.
والثاني: لا يجب؛ لأن الظاهر عودها، وإنما فات بموته، فأشبه نتف شعره، وإن
عادت لا نقص فيها، لم يجب شيء. وإن نبتت خارجة عن صف الأسنان لا ينتفع بها،
ففيها ديتها. وإن كان ينتفع بها، ففيها حكومة للنقص، وإن نبتت قصيرة، ففيها
من ديتها بقدر النقص؛ لأنه نقص حصل بجنايته، وإن نبتت أطول من نظيرتها أو
حمر أو صفر، ففيها حكومة، للشين الحاصل بجنايته، ويحتمل أن لا يجب شيء
لطولها؛ لأن الظاهر أن الزيادة لا تكون من الجناية، وإن نبتت سوداء، ففيها
روايتان، ذكرهما القاضي:
إحداهما: فيها ديتها.
والثانية: فيها حكومة، كما لو جنى عليها فسودها، وهكذا الحكم فيمن قلع سن
كبير، إلا أنه إذا مات قبل عودها، وجبت ديتها؛ لأن الظاهر أنها لا تعود،
وتجب ديتها حين قلعها، إلا أن يقول عدلان من أهل الطب: إنه يرجى عودها إلى
مدة، فينتظر إليها، وإن قلع سنًا فردها صاحبها، فنبتت في موضعها، لم تجب
ديتها نص عليه، وهو اختيار أبي بكر، وإن قلعها آخر بعد ذلك، فعليه ديتها.
(4/32)
وقال القاضي: على الأول الدية، ويؤمر
صاحبها بقلعها؛ لأنها صارت ميتة، ولا شيء على الثاني في قلعها؛ لأنه محسن
به، وإن جعل مكانها سن حيوان مأكول أو ذهبًا، فثبت، فقلعه قالع، احتمل أن
لا يلزمه شيء؛ لأنه ليس من بدنه، واحتمل أن يلزمه حكومة؛ لأنه أزال جماله
ومنفعته، فأشبه عضوه.
فصل
وفي اللحيين الدية، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى؛ لأن فيهما
جمالًا كاملًا، ونفعًا كثيرًا، وفي أحدهما نصفها، وإن قلعهما مع الأسنان،
وجبت ديتهما، ودية الأسنان؛ لأنهما جنسان مختلفان، يجب في كل واحد منهما
دية مقدرة، فلم تدخل دية أحدهما في الآخر، كالشفتين مع الأسنان، بخلاف الكف
مع الأصابع.
فصل
وفى اليدين الدية كاملة؛ لما روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «في اليدين الدية، وفي إحداهما نصفها» ، لأن في كتاب
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي اليد
خمسون من الإبل» ولأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كثيرًا، أشبها العينين،
وسواء قطعهما من الكوع، أو المرفق، أو المنكب، أو مما بين ذلك، نص عليه؛
لأن اليد اسم للجميع، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] .
ولما نزلت آية التيمم، مسح الصحابة إلى المناكب، وفي كل إصبع عشر الدية؛
لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل إصبع» قال الترمذي: هذا
حديث حسن صحيح. وفى لفظ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «هذه وهذه سواء يعني الإبهام والخنصر» أخرجه البخاري، ولأنه
جنس ذو عدد، تجب فيه الدية، فلم يختلف باختلاف منافعه كاليدين، وفي كل
أنملة ثلث دية الإصبع إلا الإبهام، فإنها مفصلان، ففي كل أنملة منها خمس من
الإبل؛ لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع، وجب أن تقسم دية الإصبع
على عدد الأنامل، وإن جنى على اليد أو الإصبع فأشلها، فعليه ديتها؛ لأنه
ذهب بنفعها، فلزمه ديتها، كما لو جنى على عين فأعماها، أو لسان فأخرسه.
فصل
وفي الرجلين الدية، وفي إحداهما نصفها، وفي كل إصبع عشر الدية، وفي كل
أنملة ثلث عقلها إلا الإبهام، لما ذكرنا في اليدين.
(4/33)
فصل
وفي قدم الأعرج، ويد الأعسم السالمتين الدية؛ لأن العيب في غيرهما؛ لأن
العرج لقصور أحد الساقين، والعسم لاعوجاج الرسغ، أو قصر العضد أو الذراع،
أو اعوجاج فيه، فلم يمنع كمال الدية في القدم والكف، كأذن الأصم، وإن كسر
ساعده، أو ساقه، أو خلع كفه، أو قدمه، فجبرت وعادت مستقيمة، لم يجب شيء،
وإن حصل نقص، وجبت الحكومة لجبر النقص، وإن عادت معوجة، كانت الحكومة أكثر،
فإن قال الجاني: أنا أعيد خلعها، وأجبرها مستقيمة، منع منه؛ لأنه استئناف
جناية، فإن كابره وخلعها فعادت مستقيمة، لم تسقط الحكومة؛ لأنها استقرت
باندمالها، وما حصل من الاستقامة، حصل بجناية أخرى، وتجب حكومة أخرى للخلع
الثاني؛ لأنه جناية ثانية.
فصل
فإن كان لرجل كفان في ذراع لا يبطش بها، فهي كاليد الشلاء؛ لأن نفعها غير
موجود، فإن كان يبطش بأحدهما دون الآخر، فالباطش هو الأصلي، فيه القود، أو
الدية، والآخر خلقة زائدة، وإن كان يبطش بهما إلا أن أحدهما أكثر بطشًا،
فهو الأصلي والآخر زائد؛ لأن اليد خلقت للبطش، فاستدل به على الأصلي منهما،
كما يرجح في الخنثى إلى بوله، وإن استويا في البطش، وأحدهما مستو على
الذراع، والآخر منحرف، فالمستوي هو الأصلي، وإن استويا في ذلك، وأحدهما
ناقص، والآخر تام، فالتام هو الأصلي فيه القصاص أو الدية، ولا يرجح بالإصبع
الزائدة؛ لأن الزيادة نقص في المعنى، وإن استويا في جميع الدلائل، فهما يد
واحدة، فيهما الدية، وفي إحداهما نصفها. وفي إصبع إحداهما نصف دية إصبع،
ولا قصاص في أحدهما، لعدم المماثلة، وإن قطعهما قاطع، وجب القود أو الدية؛
لأننا علمنا أنه قد قطع يدًا أصلية، وحكومة للزيادة، ويحتمل أن لا يجب
حكومة؛ لأن هذه الزيادة نقص في المعنى، فأشبه السلعة والحكم في القدمين على
ساق، كالحكم في الكفين على ذراع واحد، وإن كانت إحداهما أطول من الأخرى،
فقطع الطولى، وأمكنه المشي على القصيرة، فهي الأصلية، وإلا فهي الزائدة.
فصل
وإن قطع يد أقطع أو رجله، ففيها نصف الدية، لما ذكرنا، وعنه: إن كانت
الأولى ذهبت في سبيل الله، ففي الثانية ديتهما؛ لأنه عطل منافعه من
العضوين، ولم يأخذ عوضًا عن الأولى، فأشبه ما لو قلع عين أعور، والأول أصح؛
لأن إحداهما لا يحصل بها من النفع والجمال ما يحصل بالعضوين، فلم تجب فيه
ديتهما، كأحد الأذنين والمنخرين، وكما لو ذهبت في غير سبيل الله، وفارق عين
الأعور؛ لأنه
(4/34)
يحصل بها من النفع، والنظر وتكميل الأحكام
ما يحصل بالعينين.
فصل
وفي الثديين الدية، وفي أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا
كثيرًا، وإن أشلهما، ففيهما الدية؛ لأنه أذهب نفعهما، فأشبه ما لو أشل
اليدين، وإن جنى عليهما، فأذهب لبنهما، فقال أصحابنا: تجب حكومة لنقصهما،
ويحتمل أن تجب ديتهما؛ لأن ذلك معظم نفعهما، فأشبه البطش، وإن جنى على ثدي
صغيرة، ثم ولدت فلم ينزل لها لبن، وقال أهل الخبرة: إن الجناية قطعت اللبن،
فعليه ضمانه، وإن قالوا: قد ينقطع من غير الجناية لم يضمن؛ لأنه يحتمل أن
يكون انقطاعه لغير الجناية، فلا يجب الضمان بالشك، وفي حلمتي الثديين
الدية؛ لأن نفعهما بالحلمتين؛ لأن بهما يمتص الصبي، فيبطل نفعهما بذهابهما،
فأشبه أصابع اليدين، وفي الثندوتين الدية، وهما ثديا الرجل؛ لأن ما وجبت
الدية فيه من المرأة، وجبت فيه من الرجل إذا اشتركا فيه كاليدين.
فصل
وفي الأليتين الدية؛ لأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كبيرًا، فأشبها
اليدين، وفي إحداهما نصفها، وفي قطع بعضها بقدره من الدية، فإن جهل قدره،
وجبت الحكومة، كنقص ضوء العين.
فصل
وفي الذكر الدية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
كتاب عمرو بن حزم: «وفي الذكر الدية» وفي حشفته الدية؛ لأن نفعه يكمل بها،
كما يكمل نفع اليد بأصابعها، والثدي بحلمته، وسواء في هذا ذكر الشيخ
والطفل، والخصي والعنين؛ لأنه سليم في نفسه وعنه: في ذكر العنين والخصي
حكومة؛ لأن معظم نفع الذكر بالإنزال، والإحبال، وهو معدوم فيهما، فأشبها
الأشل. وإن جنى على الذكر فأشله، لزمته ديته؛ لأنه أذهب نفعه، فأشبه ما لو
أشل يده. وإن قطع بعض حشفته، وجب من الدية بقدر ما قطع منها، يقسط عليها
وحدها، كما تقسط دية اليد على الأصابع.
فصل
وفي الأنثيين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «في الأنثيين الدية» وفي إحداهما نصفها؛ لأن ما
وجبت الدية فيهما، وجبت في أحدهما نصفها، كاليدين، فإن قطع الذكر والأنثيين
معًا، أو قطع الذكر، ثم قطع الأنثيين، فعليه ديتان، كما لو قطع يديه
ورجليه، وإن قطع الأنثيين، ثم قطع الذكر، فعليه دية الأنثيين، وحكومة لقطع
(4/35)
الذكر، نص عليه؛ لأنه ذكر خصي، وعنه فيه
دية، على ما ذكرنا في ذكر الخصي.
فصل
وفي أسكتي المرأة الدية، وهما اللحم المحيط بالفرج، كإحاطة الشفتين بالفم؛
لأن فيهما جمالًا ونفعًا في المباشرة، فأشبها الأنثيين، وفي إحداهما نصفها
لما ذكرناه، وفي قطع بعض إحداهما بقدره من ديته، إن أمكن تقديره، وإلا
فحكومة.
فصل
وإن جنى على مثانته، فلم يستمسك بوله، وجبت الدية؛ لأنها منفعة مقصودة، ليس
في البدن من جنسها، فوجبت الدية بتفويتها كسائر المنافع، وإن جنى عليه، فلم
يستمسك غائطه، فعليه الدية كذلك، وإن أذهب المنفعتين، لزمته ديتان، كما لو
أذهب سمعه وبصره، وإن جنى على صلبه أو غيره، فعجز عن المشي، فعليه الدية
كذلك، وإن عجز عن الوطء لزمته كذلك دية، وإن جنى على صلبه، فبطل مشيه
ونكاحه، لزمته ديتان؛ لأن في كل واحد منهما دية منفردًا، فوجبت فيهما ديتان
عند الاجتماع، كسمعه وبصره، وعنه: عليه دية واحدة؛ لأنهما منفعة عضو واحد،
فأشبه ما لو قطع أنثييه، فذهب جماعه ونسله، وإن ضعف المشي أو الجماع أو
نقص، فعليه حكومة. وإن كسر صلبه فانجبر وعاد إلى حاله، ففيه الحكومة للكسر،
وإن احدودب فعليه حكومة للشين، وعنه: في الحدب الدية؛ لما روى الزهري، عن
سعيد بن المسيب أنه قال: «مضت السنة أن في الصلب الدية» ، ولأنه أبطل عليه
منفعة مقصودة، فأشبه ما ذكرناه.
فصل
وفي الصلع بعير، وفي الترقوة بعير، وفي الترقوتين بعيران؛ لما روى أسلم
مولى عمر، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قضى في الترقوتين بجمل،
وفي الضلع بجمل، ويجب في كل زند بعيران؛ لما روى عمرو بن شعيب: أن عمرو بن
العاص كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أحد الزندين إذا كسر، فكتب
إليه عمر أن فيه بعيرين، ولأن في الزند عظمين، ففي كل عظم بعير، وإن كسر
الزندين، ففيهما أربعة أبعرة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا توقيف في سائر
العظام؛ لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف، ولا توقيف فيها. وقال القاضي في
عظم الساق: بعيران، وفي عظم الفخذ مثله، قياسًا على الزند.
فصل
وفي اليد الشلاء، والسن السوداء، والعين القائمة ثلث ديتها؛ لما روى عمرو
بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية، وفي اليد الشلاء
إذا قطعت بثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها»
(4/36)
رواه النسائي. وقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - بمثل ذلك، وعنه رواية أخرى في ذلك كله حكومة؛ لأنه تعذر إيجاب دية
كاملة بعد ذهاب نفعه، فوجبت الحكومة فيه، كاليد الزائدة، وهكذا الروايتان
في كل عضو ذهب نفعه، وبقيت صورته، كالرجل الشلاء، والإصبع الشلاء، والشفة
الشلاء، والذكر الأشل، وذكر الخصي، ولسان الأخرس، قياسًا على ما تقدم، وفي
الكف الذي لا أصابع عليه روايتان، مثل ما ذكرنا؛ لأنه قد ذهب نفعه وبقي
جماله، وعلى قياسه ساق لا قدم له، وذراع لا كف له، وذكر لا حشفة له. فأما
اليد الزائدة والإصبع الزائدة، ففيها حكومة؛ لأنه لا مقدر فيها، ولا يمكن
قياسها على ما ذكرنا؛ لأن هذه الأعضاء يبقى جمالها لبقاء صورتها، والزائد
يشين ولا يزين، وذكر القاضي أنه في معنى الأشل، فيقاس عليه، فيكون فيه
وجهان.
فصل
وفي الأذن الشلاء والأنف الأشل دية كاملة، كدية الصحيح؛ لأن نفعهما
وجمالهما باق بعد شللها، فإن نفع الأذن جمع الصوت، ومنع دخول الماء والهوام
في صماخه، ونفع الأنف جمع الرائحة، ومنع وصول شيء إلى دماغه، وهذا باق بعد
الشلل بخلاف سائر الأعضاء.
فصل
ويجب في الحاجبين إذا لم ينبت الشعر الدية، وفي أحدهما نصفها؛ لأن فيهما
جمالًا ونفعًا؛ لأنهما يردان العرق والماء عن العين ويفرقانه، فوجبت الدية
فيهما كالجفون. وفي قرع الرأس إذا لم ينبت الشعر الدية، وفي اللحية إذا لم
تنبت الدية؛ لأن فيها جمالًا كاملًا، فوجبت الدية فيها، كأنف الأخشم، وأذن
الأصم، وفي ذهاب نقص ذلك بقسطه من ديته يقدر بالمساحة، فإن بقي منها ما لا
جمال فيه، كاليسير من لحيته، ففيه وجهان:
أحدهما: يؤخذ بالقسط كما لو بقي من أذنه يسيرًا.
والثاني: تجب الدية بكمالها؛ لأنه أذهب المقصود منها، فأشبه ما لو أذهب
وضوء العين، ومتى عاد شيء من هذه الشعور، سقطت الدية، كما ذكرنا في عود
السن.
فصل
وذكر أبو الخطاب: أن في الظفر خمس دية الإصبع إذا قلعه، أو سوده، فإن عاد
(4/37)
فنبت على صفته، رد أرشه. وعنه: أن له خمسة
دنانير، وإن نبت أسود فله عشرة، نص عليه. وهذا إنما يصار إليه بالتوقيف،
وما لا توقيف فيه من سائر الجروح، تجب فيه الحكومة؛ لأن القياس يقتضيها في
جميع الجروح، وخولف ذلك فيما ورد الشرع بتقديره، ففي ما عداه يجب البقاء
على مقتضى القياس، والله أعلم.
[باب ما تحمله العاقلة وما لا تحمله]
إذا قتل الحر حرًا خطأ، أو شبه عمد، وجبت ديته على عاقلته؛ لما روى أبو
هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما
في بطنها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدية
المرأة على عاقلتها» متفق عليه. ولأن القتل بذلك يكثر، فإيجاب ديته على
القاتل يجحف به، وقال أبو بكر: لا تحمل العاقلة عقل شبه العمد؛ لأنه موجب
مثل قصده، فأشبه العمد المحض، فأما الجناية على ما دون النفس، فإن العاقلة
تحمل منه ما بلغ الثلث فصاعدًا، ولا تحمل ما دونه؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الدية: أن لا تحمل منها العاقلة شيئًا حتى
تبلغ الدية عقل المأمومة، ولأن الأصل وجوب الضمان على الجاني، وخولف الأصل
في الثلث لإجحافه بالجاني لكثرته، فما عداه يبقى في الأصل، وتحمل العاقلة
دية المرأة والذمي، وما بلغ من جراحهما ثلث دية الحر المسلم، ولا تحمل ما
دونه لما ذكرنا، وتحمل دية الجنين إن مات مع أمه؛ لأن ديتهما وجبت بجناية
واحدة، وهي زائدة على الثلث، ولا تحمله إذا مات منفردًا؛ لأن ديته دون
الثلث.
فصل
ولا تحمل العاقلة عمدًا، ولا عبدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا؛ لما روي عن
ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا
تحمل العاقلة عمدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا» وروي ذلك موقوفًا على ابن
عباس، ولأن حمل العاقلة ثبت على خلاف الأصل، للتخفيف عن الجاني المعذور،
والعامد غير معذور، ولا يليق به التخفيف، وضمان العبد مال، فلم تحمله
العاقلة، كقيمة البهيمة، وما صالح عليه، أو اعترف به، ثبت بقوله فلا يلزم
غيره، ولأنه يتهم في أن يواطئ غيره بصلح أو اعتراف ليوجب العقل على عاقلته،
ثم يقاسمه.
فصل
وجناية الصبي والمجنون حكمهما حكم الخطأ، وتحملهما العاقلة، وإن عمدًا؛
لأنه
(4/38)
لم يتحقق منهما كمال المقصود، ولا توجب
جنايتهما قصاصًا، فصارت كشبه العمد، ومن اقتص بحديدة مسمومة من الطرف، ففيه
وجهان:
أحدهما: لا تحمله العاقلة؛ لأنه قصد القطع بما يقتل غالبًا، فأشبه العمد
المحض.
والثاني: تحمله؛ لأنه ليس بعمد محض، ولا يوجب قصاصًا، فأشبه شبه العمد، ولو
وكل وكيلًا يستوفي له القصاص، ثم عفا عن الجاني، فلم يعلم الوكيل حتى اقتص،
فقال القاضي: لا تحمله العاقلة؛ لأنه عمد محض، وقال أبو الخطاب: تحمله
العاقلة؛ لأنه لم يقصد الجناية.
فصل
ومن جنى على نفسه، أو طرفه خطأ، ففيه روايتان:
إحداهما: هي هدر؛ لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبًا يوم خيبر، فرجع سيفه على
نفسه فقتلها، فلم يقض فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بشيء، ولأنه جنى على نفسه فلم يضمن كالعمد؛ لأن حمل العاقلة إنما كان معونة
له على الضمان للغير، ولا يتحقق هاهنا.
والثانية: ديته على عاقلته لورثته، ودية طرفه على عاقلته لنفسه؛ لما روي:
أن رجلًا ساق حمارًا بعصا كانت معه، فطارت منها شظية، فأصابت عينه، ففقأتها
فجعل عمر ديته على عاقلته، وقال: هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء،
ولأنها جناية خطأ، فأشبه جنايته على غيره، فإن كانت العاقلة هي الوارثة، لم
يجب شيء؛ لأنه لا يجب شيء للإنسان على نفسه، وإن كان بعضهم وارثًا، سقط ما
عليه وحده.
فصل
وما يجب بخطأ الإمام والحاكم في اجتهاده من الديات، ففيه روايتان:
إحداهما: يجب على عاقلته؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه
قال لعلي كرم الله وجهه في جنين المرأة التي أجهضت لما بعث إليها: عزمت
عليك، لا تبرح حتى تقسمها على قومك.
والثانية: في بيت المال؛ لأن خطأه يكثر في أحكامه واجتهاده، فإيجاب ما يجب
به على عاقلته يجحف بهم، فأما الكفارة ففي ماله على كل حال؛ لأنها لا تتحمل
في موضع، ويحتمل أن تجب في بيت المال؛ لأنها تكثر فأشبهت الدية.
فصل
وكل ما لا تحمله العاقلة من دية العمد، وما دون الثلث وغيره، يجب حالًا؛
لأنه
(4/39)
بدل متلف لا تحمله العاقلة، فوجب حالًا
كغرامة المتلفات. وما يجب بجناية الخطأ، وعمد الخطأ مما تحمله العاقلة، يجب
مؤجلًا؛ لأنه يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قضيا
بالدية في ثلاث سنين، ولا يعرف لهما مخالف في عصرهما، فإن كان الواجب دية
كاملة، كدية الحر المسلم، أو دية سمعه، أو بصره، أو يديه، أو رجليه، قسمت
في ثلاث سنين، لما ذكرنا، ووجب في آخر كل حول ثلثها.
وإن كان الواجب ثلث دية، كدية المأمومة، والجائفة، وجب ذلك عند آخر الحول
الأول، وإن كانت نصف الدية، كدية اليد، أو العين أو ثلثي الدية، كدية
مأمومتين، أو جائفتين، وجب في رأس الحول الأول الثلث، والباقي في الحول
الثاني، وإن زاد على الثلثين، وجب الزائد في الحول الثالث، وإن وجب بجنايته
ديتان، كدية سمعه، وبصره، وجب في ست سنين في كل سنة ثلثها؛ لأنها جناية على
واحد، فلم يجب له في كل حول أكثر من ثلث دية، كما لو لم تزد على دية، وإن
وجب بجنايته ديتان لاثنين بأن قتلهما، وجب لكل واحد منهما في كل حول ثلث؛
لأنهما يجبان لمستحقين، فلم ينقص واحد منهما من الثلث، كما لو انفرد، وإن
كان الواجب دية نفس ناقصة، كدية المرأة والذمي، ففيه وجهان:
أحدهما: تقسم في ثلاث سنين؛ لأنه بدل نفس، أشبه الدية الكاملة.
والثاني: يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية، وباقيها في العام الثاني؛
لأنها تنقص عن الدية، أشبه دية اليد، ويعتبر ابتداء الحول في دية النفس من
وقت الموت؛ لأنه حق مؤجل، فاعتبرت المدة من حين وجود سببه كالدين، وإن كان
دية طرف اعتبرت المدة من حين الجناية؛ لأنه وقت الوجوب، فأشبه أرش
المأمومة، وإن تلف شيء بالسراية، فابتداء مدته حين الاندمال؛ لأن ما تلف
بالسراية، اعتبر بحالة الاستقرار كالنفس.
فصل
والعاقلة: العصبة من كانوا من النسب والولاء؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن جده قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئًا إلا ما فضل عن
ورثتها» رواه ابن ماجه. وهذا اختيار أبي بكر، وعن أحمد رواية أخرى: أن
الآباء والأبناء لا يعقلون مع العاقلة؛ لما روى جابربن عبد الله قال: «فجعل
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على
عاقلتها، وبرأ زوجها وولدها، فقال عاقلة
(4/40)
المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ميراثها لزوجها وولدها» رواه أبو
داود.
فثبت هذا في الابن؛ لأنه ولد، وقسنا عليه الأب لتساويهما في العصبية، ولأن
الدية جعلت على العاقلة، كيلا يكثر على القاتل فيجحف به، ومال والده وولده
كماله، وجعل الخرقي الإخوة في هذا كالأبناء وغيره من أصحابنا يخص الروايتين
بالأب والأبناء؛ لأنهم الذين لا تقبل شهادتهم له، وشهادته لهم، وبينهم
قرابة جزئية، وبعضية، فإن كان الابن من بني العم، حمل من العقل؛ لأنه من
بني عمه فيعقل، كما لو لم يكن ابنًا.
فصل
ولا عقل على من ليس بعصبة، كالإخوة من الأم، والمولى من أسفل؛ لأنهم من غير
العصبات، فلا يعقلون كالنساء، ومن لم يكن له عاقلة، ففيه روايتان إن كان
مسلمًا:
إحداهما: عقله في بيت المال؛ لأن ماله يصرف إليه فيعقله، كعصبته.
والثاني: لا يعقله؛ لأن فيه حقًا للنساء والصبيان والفقراء، ولا عقل عليهم
فأما الذمي، فلا يعقل من بيت المال؛ لأنه للمسلمين، والذمي ليس منهم، فإن
لم يكن له عاقلة، فقال القاضي: يؤخذ من ماله، فأما المسلم فإن تعذر إيجاب
ديته على العاقل أو بعضها، ولم يؤخذ من بيت المال شيء، فقال أصحابنا: لا
يلزم القاتل شيء؛ لأنه حق يجب على العاقلة ابتداء، فلم يجب على غيرهم
كالدين، ويحتمل أن يجب عليه؛ لأنه هو الجاني، فإذا تعذر أداء موجب جنايته
من غيره لزمه كالذمي، والمضمون عنه إذا تعذر الاستيفاء من الضامن،
وكالمسائل التي تلي هذا.
فصل
ويتعاقل أهل الذمة، وعنه: لا يتعاقلون. وهل يتعاقلون مع اختلافهم دينهم؟
على وجهين بناء على الروايتين في توريثهم، ولا يعقل مسلم عن كافر، ولا كافر
عن مسلم، ولا حربي عن ذمي، ولا ذمي عن حربي؛ لأنه لا يرث بعضهم بعضًا، فلا
يعقل بعضهم بعضًا كغير العصبات. فإن رمى نصراني صيدًا، ثم أسلم، ثم أصاب
السهم إنسانًا فقتله، وجبت الدية عليه؛ لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من
النصارى؛ لأنه قتل وهو مسلم، ولا على عاقلته من المسلمين؛ لأنه رمى وهو
نصراني، وإن قطع نصراني يد رجل، ثم أسلم فمات المقطوع، فديته على عاقلته
النصارى؛ لأن الجناية وجدت
(4/41)
وهو نصراني، ولهذا يجب القصاص، ولا يسقط
بالإسلام، وإن رمى مسلم سهمًا، ثم ارتد، فقتل إنسانًا، وجبت الدية في ذمته
لما تقدم، وإن قطع يدًا، ثم ارتد، ثم مات المجروح، فعقله على عاقلته
المسلمين لما ذكرنا.
ويحتمل أن لا تحمل العاقلة أكثر من أرش الجراح في هذه المسألة، وفيما إذا
قطع نصراني يد رجل، ثم أسلم، فما زاد على أرش الجراح في مال الجاني؛ لأنه
حصل بعد مخالفته لدين عاقلته، فأشبه ما ذكرنا من المسائل، ولو جنى حر أمه
مولاة، وأبوه عبد، عقله موالي أمه؛ لأن ولاءه لهم، فإن حصل سراية الجناية
بعد عتق أبيه، فالدية في مال الجاني؛ لأنه تعذر إيجابه على مولى أمه؛ لأن
السراية حصلت بعد زوال تعصيبهم، ولا يجب على موالي الأب؛ لأن الجناية صدرت
وهو مولى غيرهم، ولو حفر العبد بئرًا، ثم أعتقه سيده، ثم وقع فيها إنسان،
فضمانه على الحافر، لما ذكرناه.
فصل
وليس على فقير من العاقلة، لا امرأة، ولا صبي، ولا زائل العقل حمل شيء من
الدية؛ لأن وجوبها للنصرة والمواساة، وليس هؤلاء من أهل النصرة، والفقير
ليس من أهل المواساة، وحكى أبو الخطاب في الفقير المعتمل رواية أخرى أنه
يعقل، والمذهب الأول، لما ذكرناه، ولذلك لا تجب عليه الزكاة، ويعقل الشيخ
ما لم يهرم، والمريض الذي لم يزمن، وأما الشيخ الهرم والزمن، ففيهما وجهان:
أحدهما: يعقلان؛ لأنهما من أهل المواساة، وتجب عليهما الزكاة، أشبها ما قبل
ذلك.
والثاني: لا يعقلان؛ لأنهما ليسا من أهل النصرة، أشبها المجنون، وتعتبر
صفاتهم عند الحول، فمن مات، أو افتقر، أو جن قبل الحول، سقط ما عليه، فإن
بلغ، أو عقل، أو استغنى عند الحول لزمه؛ لأنه معنى يعتبر له الحول، فاعتبر
في آخره كالزكاة، ومن مات أو تغير حاله بعد الحول، لم يسقط ما عليه
كالزكاة.
فصل
والحاضر والغائب سواء في العقل؛ لأنهم تساووا في إرثه، فيتساوون في عقله،
ويقدم الأقرب فالأقرب من العصبات؛ لأنه حكم يتعلق بالعصبات، فقدم فيه
الأقرب فالأقرب، كالولاية والتوريث، فيبدأ بإخوة القاتل وبنيهم، وأعمامه
وبنيهم، وأعمام أبيه وبنيهم كذلك، حتى ينقرض المناسبون، فيجب على مولاه، ثم
عصباته، ثم مولى مولاه، ثم عصباته، كالميراث بالولاء سواء، فإذا كان القاتل
هاشميًا، عقله بنو هاشم، فإن فضل شيء، دخل معهم بنو عبد مناف، فإن فضل شيء،
دخل بنو قصي، وهل
(4/42)
يقدم ولد الأبوين على ولد الأب؟ على وجهين
بناء التقديم في الولاية، ومتى اتسع الأقربون لحمل العقل، لم يدخل معهم من
بعدهم، وإن كثرت العاقلة في درجة، قسم الواجب بينهم بالسوية؛ لأنه حق يستحق
بالتعصيب، فيستوون فيه، كالميراث.
فصل
ولا يجب على واحد من العاقلة ما يجحف به ويشق عليه، ولأنه حق لزمهم من غير
جنايتهم على سبيل المواساة، فلا يجب ما يضر بهم كالزكاة؛ لأنه وجب للتخفيف
عن الجاني، ولا يزال الضرر بالضرر، ويرجع إلى اجتهاد الحاكم في قدر الواجب،
فيفرض على كل واحد منهم قدرًا يسهل ولا يؤذي؛ لأن التقدير لا يصار إليه إلا
بتوقيف، ولا توقيف هاهنا، فوجب المصير إلى الاجتهاد، وعنه: أنه يفرض على
الموسر نصف مثقال، وعلى المتوسط ربع مثقال، وهذا اختيار أبي بكر؛ لأن أقل
مال وجب على الموسر على سبيل المواساة نصف مثقال في الزكاة، وأول مقدار
يخرج به المال عن حد التافه ربع مثقال، فوجب على المتوسط، ولهذا قالت عائشة
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه، وهل يتكرر
هذا الواجب في الأحوال الثلاثة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتكرر لأنه قد يتعلق بالحول على سبيل المواساة، فيتكرر بالحول
كالزكاة.
والثاني: لا يتكرر؛ لأنه يفضي إلى إيجاب أكثر من أقل الزكاة، فيكون مضرًا،
ويعتبر الغنى والتوسط عند حلول الحول كالزكاة.
فصل
وإذا جنى العبد جناية توجب المال، تعلق أرشها برقبته؛ لأنه لا يجوز إيجابها
على المولى؛ لعدم الجناية منه، وإلا إهدارها؛ لأنها جناية من آدمي، ولا
تأخيرها إلى العتق؛ لإفضائه إلى إهدارها، فتعلقت برقبته، والمولى مخير بين
فدائه وتسليمه على ما ذكرناه فيما تقدم، وإن قتل عبدان رجلًا عمدًا، فقتل
الولي أحدهما، وعفا عن الآخر، تعلق برقبته نصف ديته؛ لأنه قتل واحدًا بنصف،
وبقي له النصف.
[باب القسامة]
إذا وجد قتيل، فادعى وليه على إنسان قتله، لم تسمع الدعوى إلا محررة على
معين؛ لأنها دعوى في حق، فاشترط لها تعيين المدعى عليه، كسائر الدعاوى،
فإذا حرر الدعوى، ولم يكن بينهم لوث، فالقول قول المدعى عليه؛ لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو
(4/43)
يعطى الناس بدعاويهم، لادعى قوم دماء رجال
وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم. ولأن الأصل براءة ذمته،
فكان القول قوله، كدعوى المال، وهل يستحلف؟ فيه روايتان:
إحداهما: يستحلف للخبر، ولأنه دعوى في حق آدمي، أشبهت دعوى المال.
والأخرى: لا يستحلف، ويخلى سبيله؛ لأنها دعوى فيما لا يجوز بدله، فلم
يستحلف فيها، كالحدود، وإذا قلنا: يستحلف، حلف يمينًا واحدة؛ لأنها يمين
يعضدها الظاهر والأصل، فلم تغلظ بالعدد، كاليمن في المال.
وإن كان بينهما لوث، فادعى أنه قتله عمدًا، حلف المدعي خمسين يمينًا،
واستحق القصاص؛ لما روى سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج: «أن محيصة بن
مسعود، وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر، فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله
بن سهل، فاتهموا اليهود، فجاء عبد الرحمن، وابنا عمه حويصة ومحيصة النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه، وهو
أصغرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كبر الكبر
فتكلما في أمر صاحبهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته فقالوا: أمر
لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم فقالوا: يا رسول
الله، قوم كفار ضلال. قال: فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من قبله» متفق عليه.
ولأن اللوث يقوي جنبة المدعي، ويغلب على الظن صدقه، فسمعت يمينه أولًا،
كالزوج في اللعان، وإذا حلف استحق القصاص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «فيدفع إليكم برمته» وفي لفظ: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم»
ولأنها حجة يثبت بها القتل العمد، فيجب بها القود كالبينة، وليس له القسامة
على أكثر من واحد؛ لقوله: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم
برمته» ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد، فيقتصر عليه.
فصل
ويقسم الورثة دون غيرهم في إحدى الروايتين؛ لأنها يمين في دعوى، فلم تشرع
في حق غير المتداعيين، كسائر الأيمان.
والثانية: يقسم من العصبة الوارث وغيرهم خمسون رجلًا؛ لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» فعلى هذا
يحلف أولياؤه - الأقرب منهم فالأقرب، كقولنا في تحمل العقل - كل واحد
يمينًا واحدة، وعلى الرواية الأولى يفرض على ورثة المقتول على قد ميراثهم،
فإن كان له ابنان، حلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يمينًا، وإن كان فيها كسر
جبر وكملت يمينًا في حق كل واحد، فإذا كانوا
(4/44)
ثلاثة بنين، حلف كل واحد سبعة عشر يمينًا،
وإن كان له أب وابن، حلف الأب تسعة أيمان، وحلف الابن اثنين وأربعين
يمينًا؛ لأن اليمين لا تتبعض، فوجب أن تكمل.
فصل
وإن نكل المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ؛ لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» ، وعن
أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهم يحلفون ويغرمون الدية؛ لأن ذلك يروى عن
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والأول المذهب للخبر. وفي لفظ منه قال:
«فيحلفون خمسين يمينًا، ويبرءون من دمه» ، ولأنها أيمان مشروعة في حق
المدعى عليه، فبرئ بها كسائر الأيمان، فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا
بيمين المدعى عليه، فداه الإمام من بيت المال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى الأنصاري بمائة من الإبل، إذ لم يحلفوا ولم يرضوا
بيمين اليهود، فإن تعذرت ديته، لم يكن لهم إلا يمين المدعى عليهم، كسائر
الدعاوى، وإن نكل المدعى عليهم، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يخلى سبيلهم؛ لأنها يمين في حق المدعى عليه، فلم يحبس عليها كسائر
الأيمان، قال القاضي: ويديه الإمام من بيت المال، كالتي قبلها.
والثانية: يحبسوا حتى يحلفوا أو يقروا؛ لأنها أيمان مكررة يبدأ فيها بيمين
المدعي، فيحبس المدعى عليه في نكولها كاللعان.
والثالثة: تجب الدية على المدعى عليه؛ لأنه حكم يثبت بالنكول، فثبت بالنكول
هاهنا، كما لو كانت الدعوى قتل خطأ.
فصل
ومن مات ممن عليه الأيمان، قام ورثته مقامه، ويقسم حصته من الأيمان بينهم،
ويجبر كسرها عليهم، كورثة القتيل، فإن مات بعد حلفه البعض، بطل ما حلفه،
وابتدءوا الأيمان؛ لأن الخمسين جرت مجرى يمين واحدة، ولا يجوز أن يبني
الوارث على بعض يمين الموروث، وإن جن ثم أفاق، بنى على ما حلفه؛ لأن
الموالاة غير مشترطة في الأيمان.
فصل
وتشرع القسامة في كل قتل موجب القصاص، سواء كان المقتول مسلمًا أو كافرًا،
أو حرًا أو عبدًا؛ لأنه قتل موجب للقصاص، أشبه قتل المسلم الحر، وظاهر كلام
الخرقي: أنها لا تشرع في قتل غير موجب للقود كالخطأ، وشبه العمد، وقتل
المسلم الكافر، والحر العبد، والوالد الولد؛ لأن الخبر يدل على وجوب القود
بها، فلا
(4/45)
تشرع في غيره، ولأنها مشروطة باللوث، ولا
تأثير له في الخطأ، فعلى هذا يكون حكمه حكم الدعوى مع عدم اللوث سواء. وقال
غيره: تجري القسامة في كل قتل؛ لأنها حجة تثبت العمد الموجب للقصاص، فيثبت
بها غيرها كالبينة، فعلى قولهم تسمع الدعوى على جماعة إذا كان القتل غير
موجب للقصاص، وإذا ردت الأيمان عليهم، حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا، وقال
بعض أصحابنا: تقسم الأيمان عليهم بالحصص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا» لم يزد عليها. والأول: أقيس؛
لأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد كسائر
الدعاوى، وإن كانت الدعوى على جماعة في حق بعضهم لوث، حلف المدعون على صاحب
اللوث، وأخذوا حصته من الدية، وحلف المدعى عليه يمينًا واحدة وبرئ. ولا
تشرع القسامة فيما دون النفس من الجروح والأطراف؛ لأنها تثبت في النفس
لحرمتها، فاختصت بها كالكفارة.
فصل
ويشترط للقسامة اتفاق المستحقين على الدعوى، فإن ادعى بعضهم القتل، فكذبه
البعض، لم يجب قسامة؛ لأن المكذب منكر لحق نفسه، فقبل كالإقرار. وإن قال
بعضهم: قتله هذا، وقال بعضهم: قتله هو وآخر، فعلى قول الخرقي: لا قسامة،
وعلى قول غيره: يقسمان على المتفق عليه، ويأخذان نصف الدية، ويحلف الآخر
ويبرأ، وإن قال أحدهما: قتله زيد، وآخر لا أعرفه، وقال الآخر: قتله عمرو،
وآخر لا أعرفه، فقال أبو بكر: ليس هاهنا تكذيب؛ لأنه يمكن أن يكون المجهول
في حق أحدهما هو الذي عرفه أخوه، ويحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين
يمينًا، وله ربع الدية، فإن عاد كل واحد منهما، فقال: الذي جهلته، هو الذي
عينه أخي، حلف خمسًا وعشرين يمينًا، واستحق عليه ربع الدية، وإن قال: الذي
جهلته قد عرفته هو غير الذي عينه أخي، بطلت القسامة وعليه رد ما أخذ؛ لأن
التكذيب يقدح في اللوث، وإن رجع الولي عن الدعوى بعد القسامة بطلت، ولزمه
رد ما أخذ؛ لأنه يقر على نفسه، فقبل إقراره، وعليه رد ما أخذه.
فصل
وإن كان في ورثة القتيل صبي، أو غائب، وكانت الدعوى عمدًا لم تثبت القسامة
حتى يبلغ الصبي، ويقدم الغائب؛ لأن حلف أحدهما غير مفيد، وإن كانت موجبة
للمال كالخطأ ونحوه، فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق حصته من الدية، وفي قدر
أيمانه وجهان:
أحدهما: يحلف خمسين يمينًا، هذا قول أبي بكر: لأننا لا نحكم بوجوب الدية
(4/46)
إلا بالأيمان الكاملة، ولأن الخمسين في
القسامة، كاليمين الواحدة في غيرها.
والآخر: يحلف خمسًا وعشرين يمينًا، هذا قول ابن حامد؛ لأنه لو كان أخوه
كبيرًا حاضرًا، لم يحلف إلا خمسًا وعشرين، فكذلك إذا كان صغيرًا أو غائبًا،
ولأنه لا يستحق أكثر من نصف الدية، فلا يلزمه أكثر من نصف الأيمان، فإذا
قدم الغائب، وبلغ الصغير، حلف نصف الأيمان وجهًا واحدًا؛ لأنه يبني على
يمين غيره، ويستحق قسطه من الدية، فإن كانوا ثلاثة، فعلى قول ابن حامد:
يحلف كل واحد سبعة عشر يمينًا، وعلى قول أبي بكر: يحلف الأول خمسين. وإذا
قدم الثاني حلف خمسًا وعشرين، فإذا قدم الثالث حلف سبعة عشر يمينًا.
فصل
قال أصحابنا: ولا مدخل للنساء في القسامة؛ لأنه لا مدخل لهن في العقل، فإذا
كان في الورثة رجال ونساء، أقسم الرجال دون النساء، فإن كانت المرأة مدعى
عليها، فينبغي أن تقسم؛ لأن اليمين لا تشرع في حق غير المدعى عليه، ولو كان
جميع ورثة القتيل نساء، احتمل أن يقسم المدعى عليهم؛ لتعذر الأيمان من
المدعين، واحتمل أن يقسم من عصبات القتيل خمسون رجلًا، ويثبت الحق للنساء
إذا قلنا: إن القسامة تشرع في حق غير الوارث، فإن لم يوجد من عصبته خمسون،
قسمت على من وجد منهم.
فصل
واللوث المشترط في القسامة: هو العداوة الظاهرة بين القتيل والمدعى عليه،
كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل المتحاربين، وما بين أهل
البغي والعدل، وما بين الشرطة واللصوص؛ لأن اللوث إنما ثبت بحكم النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأنصاري المقتول بخيبر عقيب قول
الأنصار: عدي على صاحبنا فقتل، وليس لنا بخيبر عدو إلا يهود، فقضى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم باليمين، فوجب أن يعلل
بذلك، ويعدى إلى مثله، ولا يلحق به ما يخالفه. وعنه: أن اللوث ما يغلب على
الظن صدق المدعي في أن المدعى عليه قتله؛ إما العداوة المذكورة، أو تفرق
جماعة عن قتيل، أو وجود قتيل عقيب ازدحامهم، أو في مكان عنده في رجل معه
سيف أو حديدة ملطخة بدم، أو يقتتل طائفتان، فيوجد في إحداهما قتيل، أو يشهد
بالقتل من لا تقبل شهادته من: النساء، والصبيان، والعبيد، والفساق، أو عدل
واحد؛ لأن العداوة إنما كانت لوثًا، لتأثيرها في غلبة الظن بصدق المدعي،
فنقيس عليها ما شاركها في ذلك، فأما قول القتيل: دمي عند فلان، فليس بلوث؛
لأن قوله غير مقبول على خصمه، ولو شهد عدلان أن أحد هذين هو القاتل، لم يكن
لوثًا؛ لأنهم لم يعينوا واحدًا، ومن شرط القسامة التعيين.
(4/47)
فصل
ولا يشترط في اللوث أن يكون بالقتيل أثر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسأل الأنصار عن هذا، ولو اشترط، لاستفصل -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وسأل عنه، ولأنه قد يقتل بما لا يظهر أثره، كغم
الوجه، وعصر الخصيتين. وقال أبو بكر: يشترط ذلك، وقد أومأ إليه أحمد؛ لأن
الغالب أن القتل لا يحصل إلا بما يؤثر، فإذا لم يكن به أثر، فالظاهر أنه
مات بغير قتل.
فصل
وإذا ادعى رجل على رجل قتل وليه وبينهما لوث، فجاء آخر فقال: أنا قتلته،
ولم يقتله هذا، لم تسقط القسامة بإقراره؛ لأنه قول أجنبي، ولا يثبت القتل
على المقر؛ لأن الولي لم يدعه، وعن أحمد: أن الدعوى تبطل على الأول؛ لأنها
عن ظن، وقد بان خلافه. وله الدية على الثاني؛ لأنه مقر على نفسه بها ولا
قصاص عليه، ولأن دعوى الولي على الأول شبهة في تبرئة الثاني، فيمتنع
القصاص، ويحتمل أن لا يملك مطالبته بالدية كذلك، وإن كان قد أخذ الدية من
الأول، ردها عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب اختلاف الجاني والمجني عليه]
إذا قتل رجلًا، وادعى أنه قتله وهو عبد، فأنكر وليه، فالقول قول الولي مع
يمنيه؛ لأن الأصل الحرية، والظاهر في الدار الحرية، ولهذا يحكم بإسلام
لقيطها وحريته، وإن ادعى أنه كان قد ارتد، فأنكر الولي؛ فالقول قوله كذلك.
وإن قد ملفوفًا في كساء، وادعى أنه كان ميتًا، فالقول قول الولي؛ لأن الأصل
حياته، وكونه مضمونًا، فأشبه ما ذكرنا، وإن جنى على عضو، وادعى أنه كان أشل
بعد اتفاقهما على أنه كان سليمًا، فالقول قول المجني عليه، وإن لم يتفقا
على ذلك. فإن كان من الأعضاء الباطنة، فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأصل
السلامة، وإن كان من الأعضاء الظاهرة، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الولي؛ لأن الأصل السلامة.
والثاني: القول قول الجاني؛ لأن العضو يظهر ويعرف حاله، فلو كان سليمًا، لم
تتعذر إقامة البينة عليه، وهذا اختيار القاضي.
فصل
وإذا زاد المقتص على حقه، وادعى أنه أخطأ، وقال الجاني: تعمد، فالقول قول
المقتص مع يمينه؛ لأنه أعلم بقصده، إلا أن يكون مما لا يجوز الخطأ في مثله،
فلا يقبل قوله فيه لعدم الاحتمال، وإن قال: هذه الزيادة حصلت باضطرابه،
فأنكر الجاني،
(4/48)
فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الاضطراب، وفيه
وجه آخر: أن القول قول المقتص؛ لأن الأصل براءة ذمته.
فصل
وإذا جرح ثلاثة رجلًا فمات، فادعى أحدهم أن جرحه برأ، وأنكره الآخران، فصدق
الولي المدعي في موضع يريد القصاص، قبل تصديقه، وليس على المدعي إلا ضمان
الجرح؛ لأنه لا ضرر على الآخرين في تصديقه؛ لأن القصاص يلزمهما في الحالين،
وإن أراد أخذ الدية، لم يقبل تصديقه في حقهما؛ لأن عليهما ضررًا، فإنه إذا
حصل القتل من ثلاثة، وجب على كل واحد ثلث الدية، وإذا برأ جرح أحدهم، كان
القتل من اثنين، فلزم كل واحد نصفها، ويقبل تصديقه في حق نفسه، ويسقط عن
المدعي ثلث الدية، ويلزمه أرش الجرح، ويجب على الآخرين ثلثا الدية.
فصل
وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز، فأزيل الحاجز، فقال الجاني: تأكل بالسراية،
فلا يلزمني إلا دية موضحة، وقال المجني عليه: أنا أزلته، فالقول قول المجني
عليه؛ لأن الأصل بقاء أرش موضحتين، وإن قال الجاني: ما أوضحتك إلا واحدة،
وقال المجني عليه: بل أوضحتني اثنتين، فخرقت ما بينهما، فصارا واحدة،
فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته من أرش أخرى، وإن قطع أصابع
امرأة، فقال: قطعت من أصابعك أربعًا، فقالت: إنما قطعت ثلاثًا، والرابعة
قطعها غيرك، فالقول قولها؛ لأن الأصل وجوب دية ثلاث.
فصل
وإن قطع أنف رجل وأذنيه فمات، فقال الجاني: مات من الجناية، فلا يلزمني إلا
دية نفسه، وقال وليه: بل اندملت الجنايتان، فالقول قول وليه؛ لأن الأصل
وجوب ديتين، فلا يسقط بالاحتمال، وإن قطع ذلك، ثم ضرب عنقه في مدة لا يحتمل
البرء فيها، فليس عليه إلا دية واحدة، وإن كان بينهما مدة تحتمل البرء
فادعاه الولي، فالقول قوله وعلى الجاني ثلاث ديات لما ذكرنا. وإن ضرب عنقه
أجنبي آخر، فعلى الأول ديتان، وعلى الثاني: دية، وإن كان قبل الاندمال؛ لأن
جناية الثاني قطعت سراية الأول، فإن قال القاطع: أنا قتلته، وقال الولي: بل
قتله غيرك، فالقول قول الولي: لما ذكرنا.
فصل
وإن جنى على عين، فأذهب ضوءها، ثم مات المجني عليه، فقال الجاني: عاد بصره
قبل موته، وأنكر الولي، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن قلع العين آخر،
(4/49)
وادعى أنه قلعها قبل عود بصرها، فأنكر
الولي والجاني الأول، فالقول قول الثاني؛ لأن الأصل معه، فإن صدق الولي
والمجني عليه الأول، قبل قوله في إبرائه؛ لأنه يسقط حقه، ولم يقبل على
الثاني؛ لأنه يوجب عليه حقًا الأصل عدمه.
فصل
وإذا ادعى المجني عليه ذهاب سمعه بالجناية، فأنكر الجاني، امتحن في أوقات
غفلاته بالصياح مرة بعد أخرى، فإن ظهر منه انزعاج، أو إجابة، أو أمارة
للسماع، فالقول قول الجاني؛ لأن الظاهر معه ويحلف؛ لئلا يكون ما ظهر من
أمارة السماع اتفاقًا، وإن لم يظهر منه أمارة السماع، فالقول قول المجني
عليه؛ لأن الظاهر معه ويحلف، لئلا يكون ذلك لجودة تحفظه، وإن ادعى ذهاب
شمه، امتحن في أوقات غفلاته بالرائحة الطيبة والمنتنة، فإن ظهر منه تعبيس
من المنتنة، وارتياح للطيبة، فالقول قول الجاني مع يمينه، وإلا فالقول قول
المجني عليه مع يمينه. وإن ادعى ذهاب سمع إحدى أذنيه، أو الشم من أحد
منخريه، سد الصحيح، وامتحن بما ذكرنا. وإن ادعى نقص سمعه، أو شمه، فالقول
قوله مع يمينه؛ لأنه يدعي محتملًا لا يعرف إلا من جهته، ولا سبيل إلى إقامة
البينة عليه، فيقبل قوله مع يمينه، كقول المرأة في حيضها، ومتى حكم له
بالدية ثم انزعج عند صوت، أو غطى أنفه عند رائحة منتنة، فطولب بالدية فادعى
أنه فعل ذلك اتفاقًا، فالقول قوله؛ لأنه يحتمل ما قاله، فلا ينقض الحكم
بالاحتمال، وإن تكرر منه ذلك، بحيث تعلم صحة سمعه وشمه، رد ما أخذ؛ لأننا
تبينا كذبه، ولو كسر صلبه، فادعى ذهاب جماعه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه
محتمل لا يعرف إلا من جهته.
فصل
وإن ضرب بطن امرأة، فألقت جنينًا، وقالت: هو من ضربك فأنكرها، وكان الإسقاط
عقيب الضرب، أو بقيت متألمة إلى أن أسقطت، فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها،
وإن بقيت مدة غير متألمة، فالقول قوله؛ لأنه يحتمل ما قاله، احتمالًا
ظاهرًا، والأصل براءة ذمته. وإن اختلفا في التألم، فالقول قول الجاني؛ لأن
الأصل عدم التألم، وهو مما يظهر، ويمكن إقامة البينة عليه، وإن أسقطت
الجنين حيًا ثم مات، فقالت المرأة: مات من ضربك فأنكرها، وكان موته عقب
الإسقاط، أو بقي متألمًا إلى أن مات، فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها، وإن
بقي مدة صحيحًا ثم مات، فالقول قول الجاني، وإن اختلفا في تألمه، فالقول
قوله لما ذكرنا، وإن قالت المرأة: استهل ثم مات، فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن
الأصل عدمه، وإن اتفقا على استهلاله، وقالت: كان ذكرًا، وقال: بل أنثى،
فالقول قوله؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزائد على دية أنثى.
(4/50)
وإن صدق الجاني المرأة في حياته، وكونه
ذكرًا، وأنكرت العاقلة، وجبت الدية في مال الجاني؛ لأن العاقلة لا تحمل
اعترافًا، وإن مات الجنين مع أمه، واعترف الجاني، أنه سقط حيًا، ثم مات،
وأنكرت العاقلة، فعلى العاقلة غرة؛ لأنها لم تعترف بأكثر منها وما زاد على
الجاني؛ لأن قوله مقبول على نفسه دون العاقلة.
فصل
وإن اصطدمت سفينتان، فتلفت إحداهما، فادعى صاحبها أن القيم فرط في ضبطها
فأنكر، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التفريط، ومتى اختلفا في وجود
جناية غير ما يوجب القسامة، كالجناية على الأطراف وغيرها، فالقول قول
الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته، وعدم الجناية.
فصل
وإذا سلم دية العمد ثم اختلفا، فقال الولي: لم يكن فيها خلفات، وقال
الجاني: كانت فيها، ولم تكن، رجع فيه إلى أهل الخبرة، فالقول قول الولي؛
لأن الأصل عدم الحمل، وإن رجع في الدفع إليهم، فالقول قول الدافع؛ لأننا
حكمنا بأنها خلفات بقولهم، فلا ينقض ما حكمنا به إلا بدليل.
[باب كفارة القتل]
تجب الكفارة، على كل من قتل نفسًا محرمة مضمونة خطأ، بمباشرة أو تسبب، كحفر
البئر، وشهادة الزور؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}
[النساء: 92] ، وتجب على من قتل في بلاد الروم مسلمًا يعتقده كافرًا؛ لقول
الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وكذلك يلزم من رمى صف
الكفار فقتل مسلمًا، قياسًا عليه، ومن ضرب بطن امرأة، فألقت جنينًا حيًا أو
ميتًا، فعليه كفارة؛ لأنه آدمي محقون الدم لحرمته، فوجبت فيه الكفارة
كغيره، وإن قتله وأمه، فعليه كفارتان؛ لأنه قتل نفسين، وإن قتل نفسه أو
عبده خطأ، فعليه كفارة؛ لأنها تجب لحق الله تعالى، وقتل نفسه وعبده كقتل
غيرهما في التحريم، لحق الله تعالى، وإن اشترك جماعة في قتل واحد، فعلى كل
واحد منهم كفارة؛ لأنها كفارة لا تجب على سبيل البدل، اشتركوا في سببها
فلزم كل واحد
(4/51)
كفارة، كالطيب في الإحرام، وعنه: على
الجميع كفارة؛ لأنها تجب بالقتل، فإذا كان واحدًا، وجبت كفارة واحدة، كقتل
الصيد.
فصل
ولا تجب الكفارة بالعمد المحض، سواء أوجب القصاص أو لم يوجبه؛ لقول الله
تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
[النساء: 92] فتخصيصه بها يدل على نفيها في غيره، ولأنها لو وجبت في العمد،
لمحت عقوبته في الآخرة؛ لأنها شرعت لستر الذنب، وعقوبة القاتل عمدًا ثابتة
بالنص لا تمحى بها، فوجب ألا تجب الكفارة فيه، وعنه: أنها تجب؛ لأنها إذا
وجبت في الخطأ مع قلة إثمه، ففي العمد أولى.
وأما شبه العمد، فتجب فيه الكفارة؛ لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي عقوبته،
وتحمل العاقلة ديته وتأجيلها، فكذلك في الكفارة، ولأنه لو لم تجب الكفارة،
لم يلزم القاتل شيء؛ لأن الدية تحملها العاقلة، وتجب الكفارة في مال الصبي
والمجنون إذا قتلا وإن تعمدا؛ لأن عمدهما أجري مجرى الخطأ في أحكامه، وهذا
من أحكامه، وتجب على النائم إذا انقلب على شخص فقتله، وعلى من قتلت بهيمته
بيدها، أو فمها إذا كان قائدها، أو راكبها، أو سائقها؛ لأن حكم القتل لزمه،
فكذلك كفارته.
فصل
ولا يجب بالجناية على الأطراف كفارة، ولا بقتل غير الآدمي؛ لأن وجوبها من
الشرع، وإنما أوجبها في النفس، وقياس غيرها عليها ممتنع؛ لأنها أعظم حرمة،
ولذلك اختصت بالقسامة، ولا تجب بقتل مباح، كقتل الزاني المحصن، والقصاص،
وقتل أهل البغي، والصائل، ومن ضرب الحد فمات فيه أو في التعزير، أو قطع
بالسرقة، أو القصاص، فسرى إلى نفسه، ونحو ذلك؛ لأن الكفارة شرعت للتكفير
والمحو، وهذا لا شيء فيه يمحى.
فصل
والكفارة تحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين للآية، فإن
لم يستطع؛ ففيه روايتان:
إحداهما: يلزمه إطعام ستين مسكينًا؛ لأنها كفارة فيها العتق وصيام شهرين،
فوجب فيها إطعام ستين مسكينًا إذا عجز عنهما، ككفارة الظهار، والجماع في
رمضان.
(4/52)
والأخرى: لا يجب فيها الإطعام؛ لأن الله
تعالى لم يذكره، وصفة الرقبة والصيام والإطعام، كصفة الواجب في كفارة
الظهار على ما ذكر فيه، ومن عجز عن الكفارة، بقيت في ذمته؛ لأنها كفارة تجب
بالقتل، فلا تسقط بالعجز، ككفارة قتل الصيد الحرمي.
(4/53)
|