الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الجهاد]
وهو فرض؛ لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] .
وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] وقَوْله تَعَالَى: {إِلا
تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] . وهو من فروض
الكفايات. إذا قام به من فيه كفاية، سقط عن الباقين؛ لقول الله سبحانه: {لا
يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] إلى قوله: {وَكُلا
وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] . ولو كان فرضاً على الجميع، لما
وعد تاركه الحسنى. وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً} [التوبة: 122] ؛ ولأنه لو فرض على الأعيان لاشتغل الناس به عن
العمارة، وطلب المعاش، والعلم، فيؤدي إلى خراب الأرض، وهلاك الخلق. ولا يجب
إلا بشروط خمسة:
أحدها: التكليف، فلا يجب على صبي، ولا مجنون، ولا كافر؛ لما تقدم؛ ولأن هذه
من شرائط التكليف بسائر الفروع. وقد روي «عن ابن عمر أنه قال: عرضت على
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع
عشر سنة، فلم يجزني في المقاتلة.» متفق عليه.
ولأن المجنون لا يستطيع الجهاد، والكافر غير مأمون، والصبي ضعيف البنية.
الثاني: السلامة من الضرر؛ لقوله سبحانه: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
[النساء: 95] وهو العمى، والعرج، والمرض، والضعف؛ لقول الله سبحانه:
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] . وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] . ومن كان في بصره سوء يمنعه من رؤية
عدوه، وما يتقيه من سلاح، لم يلزمه الجهاد؛ لأنه في معنى الأعمى، في
(4/116)
عدم إمكان القتال، وإن لم يمنعه من ذلك، لم
يسقط عنه فرضه، ويجب على الأعشى الذي يبصر في النهار دون الليل، وعلى
الأعور؛ لأنهما يتمكنان من القتال. ولا يجب على أقطع اليد، أو الرجل؛ لأنه
إذا سقط عن الأعرج، فالأقطع أولى، ولأنه يحتاج إلى الرجلين في المشي،
واليدين ليتقي بأحدهما، ويضرب بالأخرى، والأشل، كالأقطع. ومن أكثر أصابعه
ذاهب، أو إبهامه، أو ما لا تبقى منفعة إليه بعد ذهابه، فهو كالأقطع كذلك.
ومن كان عرجه يسيراً أو مرضه يسيراً، لا يمنعه الركوب والمشي، والعدو
والقتال، لم يسقط عنه الجهاد؛ لأنه متمكن منه.
الثالث: الحرية. فلا يجب على العبد؛ لقوله سبحانه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ
لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] . والعبد لا يجد ما
ينفق، ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة، فلم يجب على العبد كالحج.
الرابع: الذكورية: فلا يجب على المرأة؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - أنها قالت: قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: جهاد لا
قتال فيه، الحج والعمرة» ولأن الجهاد القتال، والمرأة ليست من أهله لضعفها
وخورها. ولا يجب على خنثى مشكل؛ لأنه لا يعلم كونه رجلاً.
الخامس: الاستطاعة؛ لقول الله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ
مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] ؛ ولأنه يحتاج إلى قطع مسافة، فأشبه
الحج. وإن كان القتال قريباً من البلد، لم يشترط ذلك؛ لأنه لا يحتاج إلى
ركوب، ولا نفقة طريق، والاستطاعة: وجدان الزاد، والسلاح، وآلة القتال،
ومركوب يبلغه إذا كان على مسافة القصر؛ لقول الله تعالى: {وَلا عَلَى
الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] .
فصل
ويتعين الجهاد في موضعين:
إحداهما: إذا التقى الزحفان، تعين الجهاد على من حضر؛ لقول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}
[الأنفال: 45] . وقوله سبحانه: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]
(4/117)
الآية.
الثاني: إذا نزل الكفار ببلد المسلمين، تعين على أهله قتالهم، والنفير
إليهم، ولم يجز لأحد التخلف، إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل، والمكان،
والمال، ومن يمنعه الأمير الخروج؛ لقول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا
وَثِقَالا} [التوبة: 41] ولأنهم في معنى حاضر الصف، فتعين عليهم، كما تعين
عليه.
فصل
وأقل ما يفعل الجهاد مرة في كل عام؛ لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل
عام مرة، وهي بدل عن النصرة، فكذلك مبدلها، وهو الجهاد، إلا لعذر من ضعف
بالمسلمين، أو انتظار مدد، أو مانع في الطريق من قلة علف أو غيره، أو طمعه
في إسلامهم بتأخير قتالهم، ونحو هذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قد صالح قريشاً عشر سنين، وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده، وإن دعت
الحاجة إلى فعله في العام أكثر من مرة، وجب؛ لأنه فرض كفاية، فكان على حسب
الحاجة.
فصل:
ومن كان أحد أبويه مسلماً، لم يجز له الجهاد إلا بإذنه؛ لما روى ابن العباس
قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال:
يا رسول الله أجاهد؟ قال: لك أبوان قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» ، قال
الترمذي: هذا حديث صحيح؛ ولأن الجهاد فرض كفاية، وبرهما فرض عين، فوجب
تقديمه. فإن كانا كافرين، فلا إذن لهما؛ لأن أبا بكر الصديق، وأبا حذيفة بن
عتبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وغيرهما كانوا يجاهدون بغير إذن
آبائهم، ولأنهما متهمان في الدين. وإن كانا رقيقين، ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر إذنهما؛ لأنهما كالحرين في البر والشفقة والدين.
والثاني: لا إذن لهما؛ لأنه لا ولاية لهما، ولا نفقة ولا إذن لهما في
أنفسهما، ففي غيرهما أولى، ولا إذن لغيرهما من الأقارب، كالجدين، وسائر
الأقارب؛ لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا هو في معنى المنصوص عليه، لتأكيد حرمة
الوالدين في البر، والتقديم في الإرث، والنفقة، والحجب، والولاية وغيرها.
ومتى تعين الجهاد، فلا إذن لأبويه، لأنه صار فرض عين، فلم يعتبر إذنهما
فيه، كالحج الواجب. وكذلك كل الفرائض، لا طاعة لهما في تركه؛ لأن تركه
معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله
(4/118)
تعالى، كالسفر لطلب العلم الواجب الذي لا
يقدر على تحصيله في بلده، ونحو ذلك. وإن أراد سفراً غير واجب، فمنعاه منه،
لم يجز له؛ لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء رجل إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت
أبوي يبكيان، قال: ارجع إليهما فأضحكهما، كما أبكيتهما» . من المسند.
فصل:
ولا يجوز لمن عليه دين الجهاد إلا بإذن غريمه إلا أن يقيم به كفيلاً، أو
يعطي به رهناً، أو يكون له من يقضيه عنه؛ لما روى أبو قتادة «أن رجلاً جاء
إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله،
إن قتلت في سبيل الله، كفر الله خطاياي؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلا غير مدبر
كفر الله عنك خطاياك، إلا الدين كذلك قال جبريل» رواه مسلم؛ ولأن فرض أداء
الدين متعين عليه، فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم غيره فيه مقامه.
والمؤجل، كالحال؛ لأنه يعرض نفسه للقتل، فيضيع الحق. فإن كان له مال غائب،
فهو كالمعسر؛ لأنه قد يتلف، فيضيع الحق. وإن تعين عليه الجهاد، فلا إذن
لغريمه؛ لما ذكرنا في الوالدين. وإن أذن له الغريم، جاز له الجهاد؛ لأن
الحق له، فجاز بإذنه. فإن رجع عن الإذن، أو أذن له أبواه في الغزو، ثم
رجعا، أو كانا كافرين فأسلما، أو رقيقين فعتقا قبل التقاء الزحفين، لم يجز
الخروج إلا بإذن مستأنف. وإن كان بعده، فلا إذن لهما؛ لأنه صار متعيناً،
فقدم؛ لما ذكرناه.
فصل:
وأفضل التطوع الجهاد في سبيل الله، نص عليه أحمد، وذكر له أمر الغزو، فجعل
يبكي ويقول: ما من أعمال البر أفضل منه، وأي عمل أفضل منه؟ والذين يقاتلون
في سبيل الله: هم الذين يدفعون عن الإسلام، وعن حريمهم، وقد بذلوا مهج
أنفسهم، الناس آمنون، وهم خائفون. وقد روى أبو سعيد الخدري قال: «قيل: يا
رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» .
متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ أو أي الأعمال خير؟ قال: إيمان بالله
ورسوله، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد سنام العمل، قيل: ثم أي؟ قال: ثم حج
مبرور» حديث صحيح؛ ولأن نفعه عظيم، وخطره كبير، فكان أفضل مما دونه.
(4/119)
وغزو البحر أفضل من غزو البر؛ لما روى أبو
داود عن أم حرام عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المائد
في البحر الذي يصيبه القيء، له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين» وروى ابن
ماجه بإسناده عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: «شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر، كالمتشحط
في دمه في البر، وما بين الموجتين، كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله
وكل ملك الموت بقبض الأرواح، إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم،
ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها، إلا الدين، ولشهيد البحر الذنوب والدين»
ولأن غزو البحر أعظم خطراً، فإنه بين خطر القتل والغرق، ولا يمكنه الفرار
دون أصحابه.
فصل:
وفي الرباط فضل عظيم: وهو المقام بالثغر مقوياً للمسلمين. والثغر: كل مكان
يخيف العدو ويخافه. قال أحمد: ليس يعدل الرباط والجهاد شيء. وعن سلمان قال:
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم
وليلة خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري
عليه رزقه، وأمن الفتان» أخرجه مسلم.
وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما
سواه من المنازل» . حديث صحيح. وليس لأقله وأكثره حد، وتمامه أربعون يوماً؛
لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تمام
الرباط أربعون يوماً» أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب. ويروى ذلك عن ابن
عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وأفضل الرباط المقام بأشد
الثغور خوفاً؛ لأنه أنفع للمسلمين، وأشد خطراً، ولا يستحب نقل أهله إلى
الثغر المخوف. نص عليه أحمد وقال: أخاف عليه الإثم؛ لأنه يعرض ذريته
للمشركين. وقد قال عمر: لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر. ويستحب لأهل الثغر
أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم، ليكون أجمع لهم إذا حضر النفير.
فيبلغ الخبر جميعهم، وتراهم عين الكفار، فتخافهم وتخوف منهم. قال الأوزاعي:
لو أن لي ولاية على المساجد، يعني التي في الثغر، لسمرت أبوابها، يريد أن
تكون صلاتهم في موضع واحد.
(4/120)
فصل
ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}
[التوبة: 123] ولأنهم أهم، فتجب البداءة بهم، إلا أن تدعو الحاجة إلى
البداءة بغيرهم. إما لانتهاز فرصة فيهم أو خوف الضرر بتركهم، أو لمانع من
قتال الأقرب، فيبدأ بالأبعد لذلك، ويستحب التحريض على القتال؛ لقول الله
تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ
وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] ويستحب ذكر الله، والدعاء؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ
فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الأنفال: 45] ، ويستحب أن يدعو الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم؛ لما روى
سهل بن سعد الساعدي قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر: إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى
الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً
خير لك من حمر النعم» متفق عليه. ولا تجب الدعوة. نص عليه أحمد. وقال: إن
الدعوة قد بلغت كل أحد، ولا أعرف اليوم أحداً يدعى، إنما كانت الدعوة في
أول الإسلام. وقد روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون، وإبلهم تسقى على الماء،
فقتل المقاتلة، وسبى الذرية.» متفق عليه، وإن اتفق في الجزائر البعيدة، من
لم تبلغه الدعوة، وجبت دعوته؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . فلا يجوز قتالهم على ما لا
يلزمهم.
فصل
ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين، ولا لجماعة أن يفروا من مثليهم؛ لقول
الله تعالى {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] .
وهذا أمر بلفظ الخبر؛ لأنه لو كان خبراً بمعناه، لم يكن تخفيفاً، ولوقع
الخبر بخلاف المخبر، والأمر يقتضي الوجوب {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ}
[الأنفال: 16] وهو أن ينصرف من ضيق إلى سعة، أو من سفل إلى علو، أو من مكان
منكشف إلى مستتر، أو من استقبال ريح أو شمس إلى استدبارهما، ونحو ذلك مما
هو أمكن له في القتال {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] ينضم
إليهم ليقاتل معهم؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ
الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا
مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] .
(4/121)
وسواء قربت الفئة أو بعدت؛ لما «روى ابن
عمر: أنه كان في سرية من سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فحاص المسلمون حيصة عظيمة، وكنت فيمن حاص، فلما برزنا قلنا:
كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بغضب من الله؟! فجلسنا لرسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا فقلنا
له: نحن الفرارون. فقال: لا بل أنتم العكارون أنا فئة كل مسلم» أخرجه
الترمذي وقال: حديث حسن. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أنا
فئة كل مسلم، وقال: لو أن أبا عبيد تحيز إلي، لكنت له فئة وكان أبو عبيد
بالعراق. وإن كان العدو أكثر من المثلين، لم تجب مصابرتهم؛ لأن الله تعالى
لما فرض مصابرة المثلين، دل على إباحة الفرار من الزائد عليهما. وقال ابن
عباس: من فر من اثنين، فقد فر. ومن فر من ثلاثة، فما فر. لكن إن غلب على
ظنهم الظفر، فالأولى لهم الثبات، ليحصل لهم الأجر والغنيمة ومسرة المسلمين
بظفرهم. وإن غلب على ظنهم الهلاك بالإقامة، والنجاة في الفرار. فالفرار
أولى؛ لئلا يكسروا قلوب المسلمين بهلاكهم. وإن ثبتوا جاز؛ لأن لهم غرضاً في
الشهادة. وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف، فالأولى الثبات؛
ليحصل لهم ثواب الشهداء الصابرين المقبلين؛ ولأنه يجوز أن يظفروا فيسلموا
ويغنموا، فإن الله تعالى يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:
249] وإن خشوا الأسر، قاتلوا حتى يقتلوا لينالوا شرف الشهادة، ولا يتسلط
الكفار على إهانتهم وتعذيبهم. وإن استأسروا جاز؛ لأن عاصم بن ثابت وخبيب بن
عدي وزيد بن الدثنة في عشرة رهط كانوا سرية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام، فعرضوا
عليهم أن يستأسروا فأبوا، فقتلوا عاصماً في سبعة، ونزل إليهم خبيب وزيد على
العهد والميثاق، فلم يذم أحداً منهم. وإن ألقى الكفار ناراً في سفينة فيها
مسلمون، فما غلب على ظنهم السلامة فيه، فالأولى فعله؛ لأن فيهم صيانتهم عن
الهلاك. وإن ثبتوا جاز. قال أحمد: كيف شاء صنع. وإن تساوى الأمران، فهم
بالخيار بين المقام بالسفينة، وإلقاء نفوسهم في الماء؛ لأنهما موتتان،
فيختار أيسرهما. وعنه: أنه يلزمهم المقام، لئلا يكون موته بفعله، فيكون
معيناً على نفسه.
[باب ما يلزم الإمام وما يجوز له]
يجب عليه أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم، ويقويها بالعدد،
والآلات ويؤمر عليهم أميراً ذا رأي، وشجاعة، ودين؛ لأنه إذا لم يفعل، لم
يأمن
(4/122)
دخول الكفار من بعض الثغور، فيصيبون
المسلمين. وإن احتاج إلى بناء حصن، أو حفر خندق، فعل؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفر خندق على المدينة في غزوة الأحزاب. وإذا
بعث جيشاً، أو سرية، لزمه أن يولي عليهم أميراً على الصفة المذكورة، ويوصيه
بجيشه؛ لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إذا بعث أميراً على سرية، أو جيش، أمره بتقوى الله في خاصته، ومن معه من
المسلمين» ، ولما بعث أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيوشه إلى الشام،
خرج مع أمرائهم يشيعهم، ويوصيهم، ويعهد إليهم.
فصل
وإذا أراد الإمام، أو الأمير الغزو، لزمه أن يعرض جيشه، ويتعاهد الخيل
والرجال، فلا يدع فرساً حطماً، وهو الكسير، ولا قحماً، وهو الكبير، ولا
ضرعاً وهو الصغير، ولا هزيلاً يدخل معه أرض العدو، لئلا ينقطع فيها، وربما
كانت سبباً للهزيمة. ولا يأذن لمخذل من الناس، وهو الذي يفند الناس عن
الغزو، ولا لمرجف، وهو الذي يحدث بقوة الكفار، وضعف المسلمين، وهلاك بعضهم،
ويخيل لهم أسباب ظفر عدوهم بهم، ولا لمن يعين العدو بمكاتبتهم، بأخبار
المسلمين، والتجسس لهم، ولا لمن يضر المسلمين بإيقاع الاختلاف بينهم، ولا
لمن يعرف بالنفاق والزندقة؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ
إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة:
83] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] .
وقَوْله تَعَالَى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا
وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] قيل:
معناه: لأوقعوا بينكم الاختلاف، وقيل: لأسرعوا في تفريق جمعكم؛ ولأن في
حضورهم ضرراً، فيجب صيانة المسلمين عنه. ولا يأذن لطفل ولا مجنون؛ لأن
دخولهم تعرض للهلاك، لغير فائدة. ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان؛ لأن
فيهم معونة ونفعاً، ولا يأذن لمشرك؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى
بدر، فتبعه رجل من المشركين، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع
فلن نستعين بمشرك» . حديث حسن. فإن دعت حاجة إليه، ولم يكن حسن الرأي في
المسلمين، لم يستعن به أيضاً؛ لأن ما يخشى من ضرره أكثر مما يرجى من نفعه،
وإن كان حسن الرأي فيهم، جاز؛ لأن صفوان بن أمية شهد حنيناً مع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على شركه. ولا يأذن للمرأة الشابة
الجميلة؛ لأنها ليست من
(4/123)
أهل القتال، ولا يؤمن الضرر عليها وبها،
ويجوز أن يأذن للطاعنة في السن، لسقي الماء، ومعالجة الجرحى؛ لما روى أنس
قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بأم سليم
ونسوة معها من الأنصار، يسقين الماء، ويداوين الجرحى.» وهذا حديث صحيح.
فصل
ويستحب أن يخرج يوم الخميس؛ لما روى كعب بن مالك قال: «قلما كان رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج في سفر إلا يوم الخميس.» ويعبئ
جيشه، ويرتب في كل جانب كفؤاً؛ لما «روى أبو هريرة قال: كنت مع النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل خالداً على إحدى المجنبتين، وجعل
الزبير في الأخرى، وجعل أبا عبيدة على الساقة» ؛ ولأن ذلك أحوط للحرب،
وأبلغ في إرهاب العدو. ويعقد الألوية والرايات، ويجعل لكل طائفة لواء؛ لما
روى ابن عباس: «أن أبا سفيان حين أسلم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: احبسه على الوادي حتى تمر
به جنود الله فيراها قال: فحبسته على الوادي، حيث أمرني رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومرت به القبائل على راياتها. وهو متحير في
ألوانها» . لكنه يغاير ألوانها، ليعرف كل قوم راياتهم، ويعرف عليهم
العرفاء، ويجعل لكل طائفة أميراً، ويكلفهم من السير ما يقدر عليه ضعيفهم؛
لئلا ينقطع عنهم، أو يشق عليه إلا أن تدعو حاجة إلى الجد في السير لمصلحة
رآها، فيجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جد في
السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي: ليخرجن الأعز منها الأذل. ليشغل الناس
عن الخوض فيه. ويتخير لهم من المنازل أصلحها لهم، ويتتبع مكامنها فيحوطها
عليهم، ولا يغفل الحرس والطلائع، ليحفظهم من البيات. وقد «روى سهل بن
الحنظلية: أنهم ساروا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يوم حنين، فأطنبوا السير حتى إذا كان عشية، قال: من يحرسنا الليلة؟ فقال
أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله، قال: فاركب فركب فرساً له، وجاء
إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال له: استقبل هذا
الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة، فلما أصبحنا، خرج رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم
قال: هل أحسستم فارسكم قالوا: لا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته قال: أبشروا فقد جاءكم
فارسكم فإذا هو قد جاء، حتى وقف على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فسلم، فقال: إني انطلقت، حتى كنت في أعلى هذا الشعب، حيث أمرني
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبحت، اطلعت
الشعبين كليهما فنظرت، فلم أر أحداً، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل نزلت الليلة قال: لا، إلا مصلياً، أو قاضياً
حاجة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد وجبت،
فلا عليك ألا تعمل بعدها.» رواه أبو داود. ويذكي العيون، ليعلم أخبار
(4/124)
عدوه، فيتحرز منهم، ويتمكن من الفرصة فيهم،
ويستشير ذوي الرأي من أصحابه؛ لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أكثر الناس مشاورة لأصحابه. ويمنع جيشه من المعاصي، والتشاغل
بالتجارة المانعة لهم من القتال، ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب
الظفر، ويعد ذا الصبر منهم بالأجر والنفل، ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه؛
لئلا يعلم به عدوه، فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إذا أراد غزوة، ورى بغيرها، ولا يميل مع أهله وموافقيه في مذهبه على
مخالفيه؛ لئلا تنكسر قلوبهم، فيخذلوه عند الحاجة، ويعد لهم الزاد، ويراعي
من معه، ويرزق كل واحد بحسب حاجته.
فصل
ويقاتل أهل الكتاب والمجوس، حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؛
لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . ويقاتل
من سواهم من الكفار حتى يسلموا، في ظاهر المذهب. ولا يجوز قتل نسائهم،
وصبيانهم؛ لما روى ابن عمر «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه نهى عن قتل النساء والصبيان» ، متفق عليه؛ ولأنهما يصيران رقيقاً
ومالاً للمسلمين، فقتلهما إتلاف لمال المسلمين.
ولا قتل شيخ فإن؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال: «لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة» رواه أبو داود؛
ولأنه لا نكاية له في الحرب، أشبه المرأة.
ولا قتل زمن ولا أعمى؛ لأنهما في معنى الشيخ الفاني. ولا راهب؛ لما روي عن
أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه أوصى يزيد بن أبي سفيان حين
بعثه إلى الشام، فقال: لا تقتلوا الولدان، ولا النساء، ولا الشيوخ، وستجدون
قوماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم، ولا قتل خنثى
مشكل، لأنه يحتمل أنه امرأة، فلا يجوز قتله مع الشك. ومن قاتل من هؤلاء
كلهم، قتل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل يوم قريظة
امرأة ألقت حجراً على محمود بن مسلمة. ومن كان ذا رأي يعين به في الحرب،
جاز قتله؛ لأن الرأي في الحرب، أبلغ من القتال؛ لأنه الأصل. وعنه يصدر
القتال. قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
(4/125)
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من
العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الفرسان
وإن تترس الكفار بصبيانهم ونسائهم، جاز رميهم، بقصد المقاتلة؛ لأن المنع من
رميهم، يفضي إلى تعطيل الجهاد. وإن تترسوا بأسارى المسلمين، أو أهل الذمة،
لم يجز رميهم إلا في حال التحام الحرب، والخوف على المسلمين؛ لأنهم معصومون
لأنفسهم، فلم يبح التعرض لإتلافهم من غير ضرورة. وفي حال الضرورة، يباح
رميهم؛ لأن حفظ الجيش أهم.
فصل
ويجوز بيات الكفار، ورميهم بالمنجنيق والنار، وقطع المياه عنهم، وإن تضمن
ذلك إتلاف النساء والصبيان؛ لما «روى الصعب بن جثامة، قال سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عن الدار من ديار المشركين،
نبيتهم فنصيب من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم» متفق عليه. وروي عن علي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نصب منجنيقاً على أهل الطائف.» والتغريق بالماء في معناه.
فإن كان فيهم مسلمون، فأمكن الفتح بدون ذلك، لم يجز رميهم؛ لأنه تعريض
لقتلهم من غير حاجة، وإن لم يمكن بدونه، جاز؛ لأن تحريمه يفضي إلى تعطيل
الجهاد.
فصل
ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من دوابهم؛ لأن قتلها وسيلة إلى الظفر بهم، فإذا
صارت إلينا، لم يجز قتلها؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- نهى عن قتل شيء من الدواب صبراً» ولأنها مال المسلمين. ولا يجوز ذبحها
إلا لأكل لا بد لهم منه. ولا يجوز تحريق النحل، ولا تغريقه؛ «لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النحلة.» وقال أبو بكر: لا
تحرقن نحلاً ولا تغرقنه. ويجوز أخذ الشهد، وفي أخذه كله روايتان:
إحداهما: لا يجوز؛ لأن فيه قتل النحل وهلاكه.
والثانية: يجوز؛ لأن هلاكه إنما يحصل ضمناً غير مقصود، فأشبه قتل النساء في
البيات.
ويجوز هدم بنيانهم، وقطع شجرهم، وحرق زرعهم إذا احتيج إليه، للتمكن من
قتالهم ونحوه، ولا يجوز إذا كان فيه ضرر بالمسلمين، لحاجتهم إلى الاستظلال
أو الاستتار به، أو الأكل منه، أو علف دوابهم. وما عدا ذلك، ففيه روايتان:
إحداهما: جوازه؛ لقول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] .
(4/126)
وروى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فأنزل
الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] ولها يقول حسان -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
رواه مسلم.
» وروى أسامة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عهد
إليه فقال: أغر على أُبْنَى صباحاً وحرق» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
والثانية: لا يجوز إلا أن يكونوا يفعلون ذلك بنا؛ لما روي أن أبا بكر
الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ليزيد وهو يوصيه حين بعثه أميراً: يا
يزيد لا تقتل صبياً، ولا امرأة، ولا هرماً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن
شجراً مثمراً، ولا دابة عجماء، ولا شاة إلا لمأكلة، ولا تحرقن نحلاً ولا
تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن. رواه سعيد. فإن كانوا يفعلونه في بلدنا، جاز
فعله بهم، لينتهوا، وإن أخذنا منهم مالاً، فعجزنا عن تخليصه إلى دار
الإسلام. جاز إتلافه كيلا ينتفعوا به.
فصل
ويخير الإمام في الأسرى من أهل القتال بين أربعة أشياء؛ القتل، والفداء،
والمن، والاسترقاق. فأما الفداء والمن، فقول الله تعالى: {فَإِذَا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً} [محمد: 4] ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مَنَّ على أبي عزة الجمحي الشاعر ومَنَّ على أبي العاص بن الربيع، ومَنَّ
على ثمامة بن أثال الحنفي. وفادى أسيراً برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف،
وفادى أُسارى بدر بالمال. وأما القتل، «فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل يوم بدر النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط
صبراً» ، «وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي» ، وقتل قريظة؛ ولأنه أنكى فيهم
وأبلغ في إرهابهم، فيكون أولى. وأما الاسترقاق فيجوز في أهل الكتاب
والمجوس؛ لأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية، فالرق أولى؛ لأنه أبلغ في
صغارهم، وإن كان من غيرهم، ففيه روايتان:
(4/127)
إحداهما: لا يجوز إرقاقه. اختارها الخرقي؛
لأنه لا يقر بالجزية، فلم يجز إرقاقه، كالمرتد.
والثانية: يجوز؛ لأنه كافر أصلي، فأشبه الكتابي. وإن أسلم الأسير، حرم
قتله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ
مسلم إلا بإحدى ثلاث» ويتخير فيه بين المن عليه؛ لأنه إذا جاز المن عليه
حال كفره، ففي حال إسلامه أولى، بين إرقاقه وفدائه.
وقال أصحابنا: يصير رقيقاً بنفس الإسلام، ويسقط التخيير؛ لأنه ممن يحرم
قتله، فأشبه المرأة.
وأما النساء والصبيان، فإنهم يصيرون رقيقاً بنفس السبي؛ لأنهم مال لا ضرر
في اقتنائه، فأشبهوا البهائم.
وأما الرجال الذين يحرم قتلهم، كالشيخ الفاني ونحوه، فلا يجوز سبيهم؛ لأنه
لا نفع من استرقاقهم، ولا يحل قتلهم. إذا ثبت هذا. فإن التخيير الثابت في
الأسرى تخيير مصلحة واجتهاد، لا تخيير شهوة،
فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال، تعينت عليه
، ولم يجز له غيرها؛ لأنه ناظر للمسلمين فلم يجز له ترك ما فيه الحظ لهم،
كولي اليتيم، فمتى رأى القتل، ضرب عنقه بالسيف؛ لقول الله تعالى: {فَضَرْبَ
الرِّقَابِ} [محمد: 4] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أمر بالذين قتلهم، فضربت أعناقهم، ولا يجوز التمثيل به؛ لما روى بريدة، «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أمر أميراً على
جيش، أو سرية قال: اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا
تمثلوا ولا تغلوا» وإن اختار الفداء، جاز أن يفاديهم بأسارى المسلمين، وجاز
بالمال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين.
وقال أبو الخطاب: لا يجوز فداؤهم بالمال في أحد الوجهين، فإن فادى بالمال،
أو استرقهم، كان الرقيق، والمال للغانمين. وليس له إطلاق الأسارى ولا المال
إلا برضاهم؛ لما روى مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاءه وفد هوازن مسلمين قال: إن
إخوانكم جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد عليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب
ذلك، فليفعل، ومن أحب أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله
علينا، فليفعل فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله.» أخرجه البخاري.
(4/128)
فصل:
ومنع أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فداء النساء بالمال؛ لأن في بقائهن في
الرق تعريضا لهن للإسلام، لمعاشرتهن للمسلمين، وجوز أن يفادى بهن أسارى
المسلمين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فادى بالمرأة
التي أخذها من سلمة بن الأكوع رجلين من المسلمين؛ ولأن في ذلك استنقاذ مسلم
متحقق إسلامه. وإن أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار، بفداء ولا غيره، لقول
الله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، ولا
يجوز المفاداة بالصبيان بحال؛ لأنهم يصيرون مسلمين بإسلام سابيهم.
فصل:
ولا يجوز بيع رقيق المسلمين لكافر. نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-، لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كتب إلى أمراء
الأمصار: ينهاهم عنه؛ ولأن في بقائهم رقيقا للمسلمين، تعريضا لهم للإسلام،
وفي بيعهم لكافر، تفويت ذلك، فلم يجز.
فصل:
وإن أسر من يقر بالجزية فبذلها، لم يلزم قبولها؛ لأنه قد ثبت حق التخيير
فيه بين الأمور الأربعة، فلم يسقط ببذله، ويجوز للإمام إجابته إليها إذا
رأى ذلك؛ لأنه بمنزلة المن عليه.
فصل:
ويكره نقل رءوس الكفار من بلد إلى بلد، ورميها في المنجنيق؛ لأن فيه
مُثْلَة، وقد روى عقبة بن عامر: أنه قدم على أبي بكر برأس بَنَّاق البطريق،
فأنكر ذلك، فقيل: يا خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، إنهم يفعلون بنا هذا، قال: فَاسْتِنَانٌ بفارس والروم؟ لا يحمل رأس،
وإنما يكفي الكتاب والخبر. رواه سعيد.
فصل:
إذا حصر الإمام حصنا، فرأى المصلحة في مصابرته، لزمه ذلك؛ لأن عليه فعل ما
فيه الحظ للمسلمين. وإن كانت المصلحة في الانصراف، انصرف لذلك. وقد روي «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم
شيئا، فقال: إنا قافلون إن شاء الله غدا فقال المسلمون: أنرجع ولم نفتتحه؟
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغدوا على القتال
فغدوا عليه، فأصابهم جراح، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إنا قافلون غدا فأعجبهم، فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه.
(4/129)
وإن أسلم أهل الحصن قبل فتحه، عصموا دماءهم
وأموالهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحقها» .
وإن طلبوا النزول على حكم حاكم، جاز؛ «لأن بني قريظة حين حصرهم النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم
فيهم: بقتل مقاتليهم، وسبي ذراريهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
» ويجب أن يكون الحاكم بالغا عاقلا حرا مسلما ذكرا عدلا عالما؛ لأنه ولاية
حكم، فأشبه ولاية القضاء، ولا يشترط أن يكون بصيرا؛ لأن الذي يقتضي الحكم
فيهم هو الذي يشتهر من حالهم، وذلك يُدرك بالسمع، فأشبه الشهادة فيما طريقه
السمع.
ويكره أن يكون حسن الرأي فيهم؛ لأنه يخشى ميله إليهم. ويجوز حكمه؛ لأنه عدل
في دينه. فإن نزلوا على حكم من يختاره الإمام، جاز؛ لأنه لا يختار إلا من
يجوز حكمه. ولا يجوز أن ينزلوا على حكم من يختارونه؛ لأنهم قد يختارون من
لا يصلح. ويجوز أن ينزلوا على حكم اثنين، أو أكثر؛ لأنه تحكيم في مصلحة
طريقها الرأي، فأشبه التحكيم في اختيار الإمام. وإن نزلوا على حكم من لا
يجوز حكمه، أو حكم من يجوز، فمات قبل الحكم، وجب ردهم إلى حصنهم؛ لأنهم
نزلوا على أمان، فلا يجوز أخذهم، ولا يجوز للحاكم الحكم إلا بما فيه الحظ
للمسلمين؛ لأنه نائب الإمام، فقام مقامه في اختيار الأحظ من الأمور
الأربعة. فإن حكم بالمن، فقال القاضي: يلزم حكمه كذلك. وقال أبو الخطاب: لا
يلزم؛ لأن الإمام إذا لم يره، تبين أنه لا حظ فيه، فلم يلزم حكمه به. فإن
حكم بعقد الذمة، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزم حكمه؛ لأنهم رضوا بحكمه.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه عقد معاوضة، فلم يجز إلا برضا الفريقين، فإن حكم
بالقتل والسبي، جاز؛ لأن سعدا حكم به في بني قريظة، فصادف حكم الله تعالى.
وللإمام أن يمن على من حكم عليه بالقتل؛ لأن ثابت بن قيس بن شماس سأل رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يهب له الزبير بن باطا
اليهودي بعد الحكم عليهم، فوهبه له، وأطلق له أهله وماله.
وإن حكم باسترقاقهم، لم يجز أن يمن عليهم، إلا برضا الغانمين؛ لأنهم صاروا
مالا لهم. وإن حكم بالقتل فأسلموا، عصموا دماءهم؛ لأن قتل المسلم حرام، ولم
يعصموا أموالهم؛ لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم. وفي استرقاقهم روايتان:
(4/130)
إحداهما: لا يسترقون، ذكره القاضي؛ لأنهم
أسلموا قبل استرقاقهم، فأشبه ما لو أسلموا قبل القدرة عليهم.
والثانية: يسترقون؛ لأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم، ووجوب قتلهم، فأشبهوا
الأسير إذا أسلم بعد اختيار الإمام قتله.
فصل:
ومن أسلم قبل القدرة عليه، عصم نفسه وماله، وأولاده الصغار، للخبر المذكور.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حاصر بني قريظة، فأسلم
ابنا سبيعة، فأحرز إسلامهما أموالهما وأولادهما؛ ولأن الأولاد تبع لوالدهما
في الإسلام، فكذلك في العصمة. وإن كان للمسلم منفعة بإجارة، لم تملك عليه؛
لأنها مال. ولا يعصم زوجته؛ لأن النكاح ليس بمال. ولا يجري مجراه، وإن كانت
حاملا منه، فولده مسلم معصوم. ويجوز استرقاقها؛ لأنها حربية، لا أمان لها
ولا يعصم أولاده البالغين؛ لأنهم لا يتبعونه في دينه فكذلك في عصمته. وإذا
ادعى الأسير أنه أسلم قبل الأسر. لم يقبل إلا ببينة. فإن شهد له مسلم وحلف
معه، ثبت ذلك له؛ لأن ابن مسعود شهد لسهيل بن بيضاء أنه سمعه يذكر الإسلام،
فقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهادته وأطلقه من الأسر.
فصل:
ومن أسلم من الأبوين، كان أولاده الأصاغر تبعا له في الإسلام، رجلا كان أو
امرأة، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]
، ويتبعه الحمل؛ لأنه لا يصح إسلامه بنفسه، فتبعه كالولد. وإن لم يسلم واحد
منهما، فولدهما كافر؛ لأنه لا حكم لنفسه، فتبع أبويه، كولد المسلم. فإن مات
الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام، حكم بإسلام الولد، لما روى أبو هريرة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»
فجعل التبعية لأبويه معا. فإذا مات أحدهما، انقطعت التبعية، فوجب بقاؤه على
حكم الفطرة؛ ولأن الدار يغلب فيها حكم الإسلام، بدليل الحكم بإسلام لقيطها.
وإنما منع ظهور حكمها اتباعه لأبويه، فإذا مات أحدهما، اختل المانع، فظهر
حكم الدار. والحكم في المجنون الذي يبلغ مجنونا، كالحكم في الصبي؛ لأنه لا
حكم لقوله، فتبع في الإسلام كالطفل؛ ولأنه يتبع والديه في الكفر، ففي
الإسلام أولى؛ وإن بلغ عاقلا ثم جن، ففيه وجهان:
(4/131)
أحدهما: يتبع أباه؛ لأنه لا حكم لقوله.
والثاني: لا يتبع؛ لأنه زال حكم التبعية، ببلوغه عاقلا، فلا يعود.
فصل:
وإن سبي الطفل منفردا عن أبويه، تبع سابيه في الإسلام؛ لأنه زال حكم أبويه،
لإفراده عنهما، واختلاف الدار بهما، فأشبه ما لو ماتا؛ ولأن سابيه، كأبيه
في حضانته، فكان مثله في استتباعه، وإن سبي معهما، تبعهما، لخبر أبي هريرة؛
ولأنه لم ينفرد عنهما، أشبه ما لو كان ذميا. وإن سبي مع أحد أبويه، حكم
بإسلامه؛ لأنه انقطع اتباعه لأحد أبويه، فأشبه ما لو أسلم، أو مات، وقال
أبو الخطاب: يتبع أباه، وقال القاضي: فيه روايتان:
أشهرهما: أنه يحكم بإسلامه، لما ذكرنا.
والثانية: يتبع أباه.
فصل:
ولا يجوز التفريق في السبي بين الوالدة وولدها، ولا بين الوالد وولده، ولا
بين ذوي رحم محرم، إذا كان أحدهما صغيرا. فإن كانا بالغين، فعلى روايتين،
ذكرناهما في البيع. فإن اشترى من المغنم اثنين على أنه يحرم التفريق
بينهما، فتبين أنه جائز، وجب رد الفضل الذي حصل بإباحة التفريق؛ لأنه تبين
له فضل لم يعلم به البائع، فوجب رده، كما لو قبض الثمن على أنه عشرة، فبان
أحد عشر. ولو اشترى من المغنم جارية معها مال، أو حلي، أو ثياب غير لباسها،
لزمه رده. نص عليه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبدا وله مال،
فماله للبائع» لأن البيع إنما وقع عليها دونه.
فصل:
إذا سبيت المرأة دون زوجها، انفسخ نكاحها، لقول الله تعالى: «
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء: 24] . قال أبو سعيد الخدري: نزلت هذه الآية في سبي أوطاس، أصبنا
سبايا ولهن أزواج في قومهن، فذكر ذلك لرسول الله، فنزلت الآية» . قال
الترمذي: هذا حديث حسن؛ ولأنه استولى على محل حق الكافر الحربي، فأزاله،
كما لو سبيت أمته. وقال أبو الخطاب: عندي لا ينفسخ. وإن سبي الرجل وحده، لم
ينفسخ نكاحه؛ لأنه لم يستول على محل حقه، أشبه ما لو لم يسب؛ وإن سبي
الزوجان، لم
(4/132)
ينفسخ نكاحهما؛ لأن الرق لا يمنع ابتداء
النكاح، فلم يقطع استدامته، كالعتق. ويحتمل أن ينفسخ نكاحهما؛ لأنه استولى
على محل حقه، فزال ملكه عنه، كماله، أو كما لم يسب معها.
فصل:
وإن أسلم عبد الحربي ولم يخرج إلينا، فهو على رقه؛ لأن يد سيده لم تزل عنه،
فلم يزل ملكه، كما لو لم يسلم، وإن خرج إلينا، صار حرا؛ لأنه أزال يد سيده
قهرا، فزال ملكه، كما لو استولى عليه مسلم. وإن أسر سيده، وأخذ ماله
وعياله، فالمال له، والسبي رقيقه؛ لأن دار الحرب دار قهر، فما استولى عليها
فيها، فهو للمستولي. وقد روى أبو سعيد الأعشم قال: «قضى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العبد، إذا أخرج من دار الحرب قبل سيده،
أنه حر، فإن خرج سيده بعد، لم يرد إليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد
ثم خرج العبد، رد على سيده» ، رواه سعيد.
فصل:
وليس للإمام أن يقيم حدا في أرض الحرب، ولا يستوفي قصاصا، لما روي عن بسر
بن أرطاة، أنه «أتى برجل في الغزاة، قد سرق بختية، فقال: لولا أني سمعت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا تقطع الأيدي في
الغزو لقطعتك» . رواه أبو داود.
وروى سعيد بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى الناس: أن
لا يجلدن أمير جيش، ولا سرية، رجلا من المسلمين حدا وهو غاز، حتى يقطع
الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان، فيلحق بالكفار؛ ولأنا لا نأمن أن
يحمله الخوف من الحد، فيلحق بالكفار، فيجب تأخيره. فإذا قفل وخرج من دار
الحرب، أقيم عليه حد ما فعل في دار الحرب؛ لأنه واجب لوجود سببه، تأخر
لعارض زال بقفوله، فتجب إقامته، كما لو أخر لمرض. وأما الثغور، فتقام بها
الحدود والقصاص؛ لأنها دار إسلام. وقد كتب عمر إلى أبي عبيدة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن يجلد من شرب الخمر عنده ثمانين. وكتب إلى خالد
يأمره بمثل ذلك.
[ما يلزم الجيش من طاعة الإمام]
باب ما يلزم الجيش من طاعة الإمام يلزم
الجيش طاعة أميرهم، وامتثال أوامره، والانتهاء عن مناهيه، لقول الله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}
[النساء: 59] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
أطاعني فقد
(4/133)
أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن
عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري، فقد عصاني» رواه النسائي. ولا يجوز
الخروج إلى الغزو إلا بإذنه؛ لأنه أعلم بمصالح الحرب، والطرقات، ومكامن
العدو، وكثرتهم وقلتهم، فيجب الرجوع إلى رأيه، إلا أن يعرض ما يمنع، من
استئذانه من مفاجأة عدو يخاف الضرر بتأخير حربه، أو فرصة يخاف فوتها
بانتظار رأيه، فيجوز من غير إذنه. قال أحمد: وإذا نادى الإمام: الصلاة
جامعة، لأمر يحدث يشاور فيه، لم يتخلف أحد إلا من عذر. وإن غضب على رجل،
فقال: اخرج، عليك ألا تصحبني، فلا يصحبه حتى يأذن له.
فصل:
ويُغْزَى مع كل بر وفاجر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا.» رواه أبو
داود؛ ولأن تركه مع الفاجر يُفضي إلى تعطيل الجهاد وظهور العدو.
وقال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع القائد إذا عرف بالهزيمة، وتضييع
المسلمين، فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر، والغلول، يغزى معه إذا كان له
شفقة وحيطة على المسلمين. إنما فجوره على نفسه، ويروى عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل
الفاجر» متفق عليه
فصل:
وإذا غزا الأمير بالناس، لم يجز لأحد أن يخرج من المعسكر لتعلّف، ولا
احتطاب، ولا غارة، ولا غير ذلك إلا بإذنه، لقول الله تعالى: {وَإِذَا
كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ؛ ولأن الأمير أعرف بحال الناس، ومكامن
العدو، وقربه وبعده، ومواضع الأمن، فلا يأذن لهم، إلا مع أمنه عليهم، وإن
خرجوا من غير أمره، لم يأمنوا كمينا للعدو. أو مهلكة يهلكون بها، وربما رحل
الجيش فيضيع الخارج.
فصل:
وتجوز المبارزة في الحرب، وهو: أن يخرج الرجل من المسلمين، إلى الرجل من
الكافرين بين الصفين، ليقاتل كل واحد منهما صاحبه؛ لأن حمزة وعليا وعبيدة
بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، بارزوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني
ربيعة، والوليد بن عتبة، بأمر
(4/134)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فأنزل الله فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ} [الحج: 19] الآيات ولا يجوز إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر القتال
موكول إليه، وهو أعلم برجاله، فلا يؤمن مع مخالفته، أن يتم ما ينكسر به
الجيش. ومتى خرج كافر يطلب البراز، جاز رميه وقتله؛ لأنه مشرك لا أمان له،
إلا أن تجري العادة بينهم بترك التعرض لمن يطلب البراز، فلا يجوز التعرض
له؛ لأن ذلك يجري مجرى الشرط، ويستحب لمن يعلم من نفسه الشدة والشجاعة
مبارزته؛ لأن في ترك مبارزته كسرا على المسلمين. ويكره للضعيف الخروج إليه
لأن القصد إظهار القوة. والظاهر من مبارزة الضعيف خلاف ذلك. فإن طلب الشجاع
المبارزة ابتداء، أبيح له؛ لأن فيه إظهار القوة، ولا يستحب؛ لأنه لا حاجة
إليه، ولا يأمن الغلبة، فيكسر قلوب المسلمين. ومتى تبارزا بشرط أن لا يعين
واحدا أصحابه، لم يجز رمي الكافر، وفاء بشرطه. فإن ولى مثخنا، أو محتازا،
أو ولى عنه المسلم، جاز رميه؛ لأنه شرط الأمان حال القتال، وقد انقضى
القتال فزال الأمان. وإن استنجد الكافر أصحابه، أو بدءوا بإعانته، فلم
يمنعهم، انتقض أمانه لنقضه إياه. وإن منعهم فلم يقبلوا منه، فهو على أمانه؛
لأنه لم ينقضه. وإن شرط أن لا يرميه أحد حتى يرجع إلى صفه، وفي له بشرطه.
فإن ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله، جاز رميه؛ لأنه نقض الشرط، فسقط أمانه.
فصل:
ومن أسر أسيرا، لم يكن له قتله حتى يأتي به الإمام، فيرى فيه رأيه؛ لأنه
إذا صار أسيرا فالخيرة فيه إلى الإمام. وعنه: ما يدل على إباحة قتله؛ لأنه
في وقت الحرب، فأشبه قتله حال القتال. وإن امتنع الأسير أن ينقاد معه. فله
إكراهه بالضرب وغيره، فإن لم يمكنه إكراهه، أو خافه على نفسه، أو خاف
انقلابه، فله قتله؛ لأنه كافر لا أمان له، يخاف شره، فأبيح قتله، كما قبل
الأسر. وإن كان امتناعه لمرض، أبيح قتله، كما يجوز أن يذفف على جريحهم. وقد
توقف أحمد عن قتله، والأولى إباحته. ومتى قتل أسيره، أو أسير غيره قبل
بلوغه إلى الإمام، أو بعده قبل الحكم باسترقاقه، لم يضمنه؛ لأنه ليس بمال،
ولذلك أبيح للأمير إتلافه. وإن قتل امرأة أو صبيا قبل الاستيلاء عليهم، لم
يضمنهم؛ لأنهم لم يصيروا مالا للمسلمين وإن قتلهم بعد الاستيلاء عليهم
ضمنهم لأنهم يصيرون رقيقا بنفس السبي.
(4/135)
فصل:
وإذا وجد المسلمون بأرض الحرب طعاما أو علفا، فلهم الأكل منه، وعلف دوابهم
مع الحاجة وعدمها من غير إذن الإمام، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال:
أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه، ثم ينصرف.
وروي أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا فتحنا
أرضا كثيرة الطعام والعلف، وكرهنا أن نقدم في شيء من ذلك. فكتب إليه: دع
الناس يعلفون، ويأكلون، فمن باع منهم شيئا، بذهب أو فضة، ففيه خمس الله،
وسهام المسلمين. رواهما سعيد؛ ولأن الحاجة تدعو إليه، ففي المنع ضرر
بالجيش؛ لأنه يشق عليهم حمل الزاد والعلف. ولآخذه أن يعطيه لمن يحتاج إليه،
فيكون أحق به. وليس له بيعه؛ لأن الحاجة تدعو إلى الأكل دون البيع، فإن
باعه لبعض الغانمين، صار الآخذ أحق به؛ لأنه صار في يده، وهو من الغانمين
الذين لهم الأكل منه. وله أخذ ما دفع من ثمنه؛ لأنه دفعه إلى من لا يستحق،
فإن رد الطعام إلى البائع، صار البائع أحق به؛ لأنه صار إليه. وإن باعه
لغير الغانمين، فالبيع باطل، ويرد المبيع إلى الغنيمة؛ لأنه لا يملك بيعه.
فإن تعذر رده، رد ثمنه، لخبر عمر؛ ولأنه تعذر رد المبيع، فوجب رد قيمته،
كالمغصوب. وإن وجد دهنا مأكولا، فله أكله؛ لأنه من الطعام. وقد روى عبد
الله بن مغفل قال: «دلي جراب من شحم يوم خيبر، فأتينه فالتزمته وقلت: هذا
لي، فالتفت فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتسم
لي، فاستحييت منه» . متفق عليه.
وإن أراد أن يدهن به، أو يدهن به دابته، فقال أحمد: إذا كان من ضرورة، أو
صداع، فلا بأس، وإن كان للزينة، فلا يعجبني. وذلك لأن ما تدعو الحاجة إليه
من هذا، فهو مثل الطعام في الحاجة إليه، فأبيح، ولا حاجة إلى الزينة، فلم
تبح، كلبس الثوب. وليس له غسل ثيابه بالصابون؛ لأنه للزينة والتحسين , قال
القاضي: وليس له إطعام الجوارح، كالفهد والكلب، والصقر؛ لأنه لا حاجة إليه.
وما يحتاج إليه من المشروبات للدواء، أبيح له تناوله؛ لأنه طعام احتاج
إليه، فأشبه الفاكهة.
فصل:
وإن أحرزت الغنيمة، فقال الخرقي: لا يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة، بأن لا
يجدوا ما يأكلون. ونص عليه أحمد؛ لأن المسلمين ملكوها بحيازتها، فلم يجز
الأكل منها، كما لو حيزت إلى بلد الإسلام. وقال القاضي: لهم الأكل منها ما
لم تحرز بدار الإسلام، أو تقسم؛ لأن الحاجة تدعو إلى الأكل منها، فأشبه ما
قبل الحيازة. ويحتمل أن الخرقي أراد بالإحراز إدخالها دار الإسلام، فيكون
معنى القولين واحدا. وإذا وجد في دار الحرب حيوانا مأكولا، فقال الخرقي: لا
تعقر شاة، ولا دابة إلا لأكل لا بد
(4/136)
منه؛ لأنها تقتنى لغير الأكل، فأشبهت
الفرس. وقال القاضي: يجوز ذبح ما جرت العادة بذبحه للأكل، كالشاة وما
دونها؛ لأنها مما تؤكل عادة، فأشبه الطعام. فأما الطيور، كالدجاج ونحوها،
فيباح ذبحها وأكلها. نص عليه أحمد؛ لأن هذا مما لا يمكن حمله إلى دار
الإسلام. فأشبه الطعام.
فصل:
ومن فضل معه من الطعام والعلف كثير، فأدخله البلد، فعليه رده إلى المغنم؛
لأنه إنما أبيح للحاجة وقد زالت الحاجة. وإن كان يسيرا، ففيه روايتان:
إحداهما: يجب رده؛ لأنه أبيح للحاجة وقد زالت.
والثانية: له أخذه؛ لأنه أخذ ما له أخذه، فلم يجب رده، كالسلب؛ ولأن اليسير
تجري المسامحة فيه. قال الأوزاعي: أدركت الناس يقدمون من أرض العدو. بفضل
الطعام والعلف، فيعلفون دوابهم، ويهديه بعضهم إلى بعض، لا ينكره إمام، ولا
عامل ولا جماعة، وكانوا يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم إلى بعض.
فصل:
ولا يجوز أخذ إبرة، ولا خيط، ولا شعر، ولا صوف، لما روي «أن رجلا أتى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبة من شعر الغنم، فقال: يا
رسول الله، إنا نعمل الشعر فهبها لي، قال: نصيبي منها لك» رواه سعيد. ولا
يجوز أخذ جلد، سواء كان جلد ما نذبحه، أو غيره؛ لأنه إذا لم يجز أخذ الشعر،
فالجلد أولى؛ ولأنه ليس بمأكول، أشبه الثياب. ولا يجوز ركوب دابة من
المغنم، ولا لبس ثوب، لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر، فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان
يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلق رده
فيه» وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أن له ركوب الفرس عند الحاجة حتى تنقضي
الحرب، ثم يردها؛ لأنها من آلات الحرب، فأشبهت السلاح.
فصل:
ومن أخذ من مباحات دار الحرب شيئا، كالصيد، والحجر، والحشيش والشجر ونحوها،
فاحتاج إليه للأكل والعلف، انتفع به. وإن لم يحتج إليه لذلك، وله قيمة في
موضعه، فهو غنيمة؛ لأنه وصل إليه بقوة الجيش. وإن لم يكن له قيمة في موضعه،
(4/137)
وإنما يصير له قيمة بنقله، فهو لآخذه؛ لأنه
إنما صارت له قيمة بفعله، وكذلك الركاز.
وإن وجد لقطة يعلم أنها للكفار، فهي غنيمة. وإن احتمل أن تكون لمسلم، عرفها
حولا، ثم ردها في الغنيمة إن لم تعرف لذلك. وإن ترك صاحب المغنم شيئا عجز
عن حمله، فقال: من أخذ منه شيئا، فهو له، فهو لمن أخذه. نص عليه؛ لأنه
بمنزلة ما لا قيمة له في دارهم. وإن لم يقل ذلك، فأكثر الروايات عن أحمد
أنه لآخذه كذلك. وعنه: يكون غنيمة؛ لأنه ذو قيمة، فهو كالصيد.
فصل:
ومن وجد كتبا فيها كفر، فعليه إتلافها؛ لأن قراءتها والنظر فيها معصية،
وكذلك كتب التوراة والإنجيل؛ لأنها مبدلة منسوخة منهي عن قراءتها. وإن أمكن
الانتفاع بجلودها، أو رقها إذا غسل، فعل ذلك. وإن وجد خمرا، وجبت إراقته؛
لأن شربه معصية. وإن وجد خنزيرا، قتله. وإن وجد كلبا لا يباح اقتناؤه تركه،
وإن أبيح اقتناؤه، فله أخذه لنفسه ودفعه إلى من ينتفع به من الغانمين، أو
أهل الخمس؛ لأن الكلب لا قيمة له. وإن وجد فهدا معلما، أو بازيا، فهو
غنيمة؛ لأن له قيمة.
[باب الأنفال والأسلاب]
النفل: ما يعطاه زيادة على سهمه. وهو نوعان:
أحدهما: ما يستحق بالشرط، وهو ضربان:
أحدهما: أن الأمير إذا دخل دار الحرب غازيا، بعث سرية بين يديه تغير على
العدو، ويجعل لهم الربع بعد الخمس. فإذا قفل، بعث سرية تغير، ويجعل لهم
الثلث بعد الخمس، فما قدمت به السرية خمسه، ثم أعطى السرية ما جعل لها، ثم
قسم الباقي في الجيش والسرية معه، لما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال: «شهدت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل الربع في البدأة،
والثلث في الرجعة» . وفي لفظ: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان ينفل الربع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس، إذا قفل» ،
رواهما أبو داود. وعن عبادة بن الصامت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان ينفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث» . قال الترمذي:
هذا حديث حسن. وروى الأثرم عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه
قال لجرير بن عبد الله لما قدم عليه في قومه يريد الشام: هل لك أن تأتي
الكوفة ولك الثلث بعد الخمس
(4/138)
من كل أرض وسبي؟ ولا تجوز الزيادة على
الثلث؛ لأن نفل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتهى إليه
ويجوز النقص منه؛ لأنه إذا جاز أن لا ينفل شيئا، فلأن يجوز تنفيل القليل
أولى، ولا يستحق هذا النفل إلا بالشرط. نص عليه؛ لأن استحقاقه بغير شرط
إنما يثبت بالشرع، ولم يرد الشرع باستحقاقه على الإطلاق.
الضرب الثاني: أن يجعل الأمير جعلا لمن يعمل عملا فيه غناء عن المسلمين،
مثل أن يقول: من طلع هذا الحصن، فله كذا أو من نقبه، أو من جاء بأسير، فله
كذا، ومن جاء بعشرة رءوس، فله رأس، وأشباه هذا مما يراه الإمام مصلحة
للمسلمين، فيجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«من قتل قتيلا، فله سلبه» ويجوز أن يجعل الجعل من مال المسلمين، ومما يؤخذ
من المشركين، فإن جعله من مال المسلمين لم يجز إلا معلوما مقدرا، كالجعل في
المسابقة، ورد الضالة. وإن كان من الكفار، جاز مجهولا؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الثلث والربع، وسلب المقتول، وهو مجهول؛
ولأنه ضرر فيه على المسلمين، فجاز مع الجهالة، كسلب القتيل.
النوع الثاني: أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء، لغنائه وبأسه، أو لمكروه
تحمله، ككونه طليعة، أو عينا، فيجوز من غير شرط، لما روى سلمة بن الأكوع
قال: «أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتبعتهم، وذكر الحديث إلى قوله: فأعطاني رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم الفارس والراجل» ، وعنه: «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر، فبيتنا عدونا،
فقتلت منهم تسعة أهل أبيات، فأخذت منهم امرأة، فنفلنيها أبو بكر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، فلما قدمت المدينة استوهبها مني رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوهبتها له» ، رواهما أبو داود؛ ولأن في هذا
تحريضا على القتال، ونفعا للمسلمين، والدفع عنهم، فجاز، كإعطاء السهم.
فصل:
إذا قال: من دلني على القلعة الفلانية، أو من دلني على طريق سهل، ونحو ذلك،
فله كذا - جاز. فإن كان الجعل جارية من القلعة، جاز أن تكون معينة، وغير
معينة كجارية مطلقة. فإن لم تفتح القلعة، فلا شيء له؛ لأن تقدير الكلام: من
دلني على القلعة ففتحها الله علينا، فله جارية منها، لتعذر تسليمه جارية
منها قبل فتحها، فإن فتحت، فلم يكن فيها جارية، أو لم يكن فيها المعينة،
فلا شيء له؛ لأنه شرط
(4/139)
معدوما. وإن كانت فيها فماتت قبل الفتح،
فلا شيء له؛ لأنها غير مقدور عليها، أشبهت المعدومة. وإن كانت باقية، سلمت
إليه؛ لأنه استحقها بالشرط. فإن كانت قد أسلمت قبل الفتح، عصمت نفسها
بإسلامها، وله قيمتها؛ لأنه تعذر تسليمها مع وجودها، والقدرة عليها. وإن
أسلمت بعد الفتح، سلمت إليه إن كان مسلما، وإن كان مشركا، انتقل إلى
قيمتها، لتعذر تسليمها إليه مع القدرة عليها فإن أسلم بعد ذلك، احتمل أن لا
يستحقها؛ لأن حقه انتقل إلى قيمتها، واحتمل أن يستحقها؛ لأن تعذر تسليمها
إليه لمانع زال فأشبه من غصب عبدا، فأبق، ثم قدر عليه. وإن فتحت القلعة
صلحا، فاستثنى الأمير الجارية وسلمها، جاز. وإن وقع مطلقا، فرضي مستحقها
بقيمتها، أعطيها. وإن أبى وامتنع صاحب القلعة من بذلها بقيمتها، فسخ الصلح،
لتعذر إمضائه، لسبق حق الدال، وتعذر إيصاله إليه مع تمام المصلحة، ويحتمل
أن يعطى مستحقها قيمتها؛ لأنه تعذر دفعها إليه، فأشبه ما لو أسلمت.
فصل:
ومن قتل في وقت الحرب كافرا، فله سلبه، لما روى أبو قتادة، «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قتل قتيلا له عليه بينة، فله
سلبه» متفق عليه. وعن أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال يوم حنين: من قتل كافرا فله سلبه فقتل أبو طلحة عشرين رجلا، وأخذ
أسلابهم» .
ولا يقبل دعوى القتل إلا ببينة، للخبر. ولا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، نص
عليه؛ لأنه دعوى القتل، فأشبه قتل المسلم. وقياس المذهب أن يقبل فيها ما
يقبل في الأموال؛ لأن مقصوده المال، فأشبه الشهادة على الغصب، والجناية
الموجبة للمال. ويحتمل أن يقبل فيه قول واحد؛ لأن أبا قتادة، لما شهد له
الرجل الذي أخذ سلبه، دفعه إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بقوله وحده، ولا يخمس السلب؛ لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «فله سلبه» يتناول جميعه. وقد روى عوف بن مالك، وخالد بن
الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في السلب للقاتل، ولم يخمس السلب» . رواه أبو
داود.
فصل:
ولا يستحقه إلا بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون القاتل ذا حق في المغنم، حرا كان أو عبدا، رجلا أو صبيا، أو
امرأة لعموم الخبر. وإن لم يكن ذا حق، كالمخذل، والمرجف، والكافر إذا حضر
(4/140)
بغير إذن، لم يستحقه؛ لأنه لا حق له في
السهم الثابت، فغيره أولى.
والثاني: أن يغرر بنفسه في قتله، كالمبارز، فإن قتله بسهم رماه من صف
المسلمين ونحوه، لم يستحقه؛ لأنه إنما ورد الخبر في المبارز ونحوه.
الثالث: أن يقتله وهو مقبل على الحرب، فإن قتل أسيرا، أو مثخنا، أو منهزما
إلى غير فئة، لم يستحقه؛ لأن ابن مسعود ذفف على أبي جهل يوم بدر، فلم يعط
سلبه؛ ولأن استحقاق السلب للمخاطرة، والتغرير بالنفس، ولا خطر هاهنا. وإن
قتل موليا ليكر، أو متحيزا إلى فئة، فله سلبه؛ لأن سلمة بن الأكوع، أدرك
طليعة للكفار موليا، فقتله، «فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: من قتله؟ قالوا: ابن الأكوع، قال: فله سلبه أجمع» ؛ ولأن
القتال كر وفر.
الرابع: أن يقتله لأن الخبر خص القاتل بالسلب، فاختص به دون غيره، فإن أسره
لم يستحق سلبه كذلك. وقال القاضي: له سلبه، سواء قتله الإمام، أو من عليه،
أو فاداه، وله فداؤه؛ لأن مال حصل بسبب تغريره في تحصيله، أشبه سلب القتيل.
وظاهر كلام أحمد أنه يشترط أن ينفرد بقتله؛ لأنه قال في رواية حرب: له سلبه
إذا انفرد بقتله؛ ولأنه يستحق للتغرير بالنفس، ولا يحصل مع الاشتراك، وإن
قطع أحدهما يده، أو رجله وقتله الآخر، فكذلك؛ لأنهما شريكان فيه. وإن قطع
أحدهما أربعته وقتله الآخر، فسلبه للقاطع؛ لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت
أبا جهل، وتمم عليه ابن مسعود، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بسلبه لمعاذ؛ ولأن القاطع كفى شره، فأشبه القاتل، وإن قطع يديه
أو رجليه، فكذلك لأنه قد عطله، ويحتمل أن لا يستحقه؛ لأنه إن قطع رجليه،
قاتل بيديه، وإن قطع يديه فهو يعدو، ويكثر ويهيب، فما كفى شره. وإن عانق
رجلا فقتله الآخر فالسلب للقاتل للخبر؛ ولأنه قاتل لمن لم يكف المسلمون
شره، أشبه المطلق. وظاهر المذهب أنه يستحق، وإن لم يشرطه الإمام له، للخبر،
إلا أنه أعجب أحمد أن لا يأخذه إلا بإذن الإمام؛ لأنه أمر مجتهد فيه، فلا
يأخذه إلا بإذنه كالسهم. وعنه: لا يستحقه إلا بجعل الإمام قبل قتله، أو
تنفيله بعده؛ لأنه نفل فلا يستحقه إلا بإذنه، كسائر الأنفال.
فصل:
والسلب: ما على القتيل من ثيابه، وحليه، وسلاحه، وإن كثر، لما روي أن عمرو
بن معديكرب حمل على أسوار، فطعنه، فدق صلبه، فصرعه، فنزل إليه، فقطع
(4/141)
يديه، وأخذ سوارين كانا عليه، ويلمقا من
ديباج وسيفا ومنطقة، فسلم ذلك له. وبارز البراء مرزبان الزارة، فقتله، فبلغ
سواراه ومنطقته ثلاثين ألفا.
وفي الدابة وآلتها روايتان:
إحداهما: هي من السلب، اختارها الخرقي؛ لأنها يستعان بها في الحرب، فهي
كالسلاح.
والثانية: ليست منه، اختارها الخلال، وأبو بكر؛ لأن السلب ما كان على
البدن، والدابة ليست كذلك. فإن كان يقاتل وهو ممسك بعنانها، فعن أحمد أنها
من السلب؛ لأنه يركبها إذا احتاج إليها. وعنه: ليست منه؛ لأنه ليس بمستعين
بها في حال قتاله، أشبهت التي في رحله. فإن كان معه فرس مجنوبة إلى فرسه،
فليست من السلب كذلك، وكذلك المال الذي في كمرانه، وغيره، ورحله، وسلاحه
الذي ليس معه حال قتله، ليس من السلب؛ لأن سلبه ما عليه حال قتله، أو ما
يستعان به في القتال.
[باب قسمة الغنائم]
الغنيمة: ما أخذ من مال الكفار بإيجاف، فخمسها لأهل الخمس، وأربعة أخماسها
للغانمين، لقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. فأضافها إليهم ثم جعل
خمسها لله فدل على أن أربعة أخماسها لهم. ثم قال الله تعالى: {فَكُلُوا
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] ولأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم الغنائم كذلك. والإمام مخير بين قسمتها
في دار الحرب، وبين تأخير القسمة إلى دار الإسلام، أي ذلك رأى المصلحة فيه
فعل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين جميعا،
فقسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء، قريبا من بدر، وغنائم بني المصطلق
على مياههم، وغنائم حنين بأوطاس واد من حنين، وقسم فداء أسارى بدر
بالمدينة، وهو غنيمة؛ ولأن المسلمين قد ملكوا الغنيمة بالاستيلاء التام في
دار الحرب، فجازت قسمتها، كما لو جاوزها إلى دار الإسلام.
فصل:
فإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب، فدفعها إلى أهلها وإن كان فيها مال المسلم،
دفع إليه لأنه استحقه بسبب سابق، ثم يدفع منه أجرة الحافظ، والناقل،
والقاسم،
(4/142)
والحاسب؛ لأنه لمصلحة الغنيمة. وفي الرضخ
وجهان:
أحدهما: هو من أصل الغنيمة؛ لأنه يستحقه للمعاونة في تحصيلها، أشبه أجرة
النقال.
والثاني: من أربعة الأخماس؛ لأنه استحق بحضور الوقعة، أشبه السهمان. فعلى
الأول يعطى الرضخ لأهله، ثم يقسم الباقي على خمسة أسهم، سهم منها لأهل
الخمس، ثم يدفع الأنفال مما بقي، ثم يقسم الباقي بين الغانمين، للراجل سهم،
وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه، لما روى ابن عمر: «أن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم يوم خيبر، للفارس ثلاثة أسهم،
سهمان لفرسه، وسهم له» . متفق عليه، وعن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهما»
. رواه الأثرم.
فصل:
ويقسم ما بين الغانمين، كقسمة المتاع بين الشركاء، فيقوم ما عدا الأثمان،
ويدفعها إليهم بقيمتها، فإن أمكن تخصيص كل إنسان بعين، كجارية وفرس وثوب،
فعل، وإن لم يمكن، شرك بين الجماعة في العين الواحدة. ويقسم الغنيمة بين من
شهد الوقعة من أهل القتال، من قاتل ومن لم يقاتل، لما روي عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة. ولأن غير المقاتل ردء
له ومعين فيشاركه، كرد المحارب. فأما غير أهل القتال، كالطفل، والمجنون،
ومن ينبغي للإمام منعه كالمرجف والمخذل، والمعين للعدو، فلا شيء له وإن
قاتل؛ لأن ضره أكثر من نفعه. ومن كان مريضا مرضا يمنعه القتال، فلا سهم له،
كالمجنون، وإن لم يمنعه القتال، كالحمى الخفيفة والصداع، والسعال، أسهم له؛
لأنه من أهل القتال.
فصل:
ولا يسهم لفرس ينبغي للإمام منعه كالقحم، والحطم، والضرع، والأعجف لما
ذكرنا في الرجل، ولا لغير الخيل من البغال والحمير، والإبل لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسهم لغير الخيل؛ ولأنها لا تلحق
بالخيل في التأثير في الحرب والكر والفر، فلم تلحق بها في السهم. وهذا
اختيار أبي الخطاب. وروي عن أحمد فيمن غزا على بعير لا يقدر على غيره، قسم
له ولبعيره سهمان، لقول الله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ولأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض،
أشبه الفرس.
(4/143)
فصل:
وفي غير العربي من الخيل أربع روايات:
إحداهن: أنه كالعربي في سهمه، اختارها الخلال؛ ولأن اسم الفرس شامل له؛
ولأنه حيوان ذو سهم، فاستوى العربي وغيره، كالرجال.
والثانية: له سهم واحد، اختارها الخرقي، لما روى أبو الأقمر قال: غارت
الخيل على الشام، فأدركت العراب من يومها، وأدركت الكوادن ضحى الغد، وعلى
الخيل رجل من همدان يقال له: المنذر بن أبي حميضة فقال: لا أجعل التي أدركت
من يومها مثل التي لم تدرك، ففضل الخيل، فقال عمر: هبلت الوداعي أمه،
امضوها على ما قال. أخرجه سعيد؛ ولأنهما تختلف غناؤهما فاختلفت سهمانهما،
كالفارس والراجل.
الثالثة: ما أدرك منها إدراك العراب، فله سهمها؛ لأنه عمل عملها، وساواها
في جنسها، فساواها في سهمها، كما لو اتفق نوعهما.
والرابعة: لا سهم له؛ لأنه لا يعمل عمل العراب أشبه البغال.
فصل:
ومن غزا على فرسين، قسم لهما أربعة أسهم، ولصاحبهما سهم، ولا يسهم لأكثر من
فرسين، لما روى الأوزاعي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه
عشرة أفراس» . وعن أزهر بن عبد الله: أن عمر كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح:
أن أسهم للفرس سهمين، وللفرسين أربعة أسهم، ولصاحبهما سهما، فذلك خمسة
أسهم. وما كان فوق الفرسين، فهو جنائب.
فصل:
ومن غزا على فرس حبيس، فله سهمه؛ لأنه استحق نفعه، فملك سهمه، كالمستعار.
ومن غصب فرسا، فقاتل عليه، فسهم الفرس لمالكه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للفرس سهمين، فكانا لمالكها، كما لو كان راكبها.
وإن كان الفرس عارية أو بأجرة، فسهمها لراكبها لأنه ملك نفعه. وهذا من
نفعه. وعنه: أن سهم المستعار لمالكه؛ لأنه من نمائه، أشبه ولده. وإن قاتل
العبد على فرس سيده، قسم للفرس لأنه قوتل عليه في الحرب فاستحق السهم، كما
لو قاتل عليه حر، ويكون سهمه لمالكه. ومن دخل أرض الحرب فارسا، وحضر الوقعة
غير فارس لموت فرسه، أو بيعه، أو إجارته، أو إعارته أو غصبه أو ضيعته، فله
سهم راجل. وإن دخل راجلا، فملك فرسا، أو استأجره فحضر به الوقعة فله سهم
فارس؛ لأن الفرس حيوان ذو سهم، فاعتبر وجوده
(4/144)
حال القتال فيسهم له مع وجوده، ولا يسهم له
مع العدم، كالآدمي.
فصل:
ولا يسهم لامرأة ولا صبي ولا مملوك؛ لأنهم من غير أهل القتال. ويرضخ لهم
دون السهم، لما روى ابن عباس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بالنساء فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة.
وأما سهم، فلم يضرب لهن» . رواه مسلم. وقال سعيد بن المسيب: كان الصبيان
والعبيد يحذون من الغنيمة في صدر هذه الأمة. وقال تميم بن قرع: كنت في
الجيش الذي فتح الإسكندرية في المرة الآخرة، فلم يسهم لي عمرو شيئا وقال:
غلام لم يحتلم، فسألوا أبا بصرة الغفاري، وعقبة بن عامر، فقالا: انظروا،
فإن كان قد أشعر فاقسموا له، فنظر إلي بعض القوم، فإذا أنا قد أنبت، فقسم
لي. وقال الجوزجاني: هذا من مشاهير حديث مصر، وجيده. وعن عمير مولى آبي
اللحم قال: «شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرني فقلدت سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك،
فأمر لي بشيء من خرثي المتاع.» رواه أحمد، وأبو داود والترمذي.
والمكاتب والمدبر، كالقن؛ لأنه عبد، فأما المعتق بعضه، فظاهر كلام أحمد أنه
يرضخ له؛ لأنه لم تكمل له الحرية، أشبه القن. وقال أبو بكر: يسهم له بقدر
ما فيه من الحرية والرق؛ لأنه يتجزأ، فقسم على قدر ما فيه كالميراث. قال
ابن أبي موسى: هذا هو الصحيح. ومن أعتق قبل انقضاء الحرب، أو بلغ، أسهم له؛
لأنه صار من أهل الاستحقاق، فأشبه المدد إذا لحق. والرضخ غير مقدر لكنه
يرجع فيه إلى اجتهاد أمير الجيش، فيفضل ذا الغناء على من دونه في النفع؛
لأن الشرع لم يرد بتقديره، فرجع في تقديره إلى الاجتهاد كالتعزير. ولا يبلغ
بالرضخ لراجل سهم راجل؛ لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه، كالتعزير عن الحد.
والحكومة لا يبلغ بها أرش العضو. ويكون الرضخ من أربعة أخماس الغنيمة؛
لأنهم من المجاهدين، فكان حقهم من أربعة الأخماس، كذوي السهمان.
فصل:
وإذا غزا الكافر معنا من غير إذن الأمير فلا سهم له؛ لأنهم ممن يستحق المنع
من الغزو، فأشبه المخذل. وإن غزا بإذنه ففيه روايتان:
(4/145)
إحداهما: لا سهم له؛ لأنه من غير أهل
الجهاد، فلم يسهم له، كالعبد. فعلى هذا يرضخ له كالعبد.
والثانية: يسهم له. اختارها الخرقي، لما روى سعيد بإسناده عن الزهري «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بناس من اليهود في
حربه، فأسهم لهم» . وروي «أن صفوان بن أمية خرج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين وهو على شركه، فأسهم له» ؛ ولأن الكفر نقص
دين، فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق.
فصل:
ومن استؤجر على الجهاد من غير أهل القتال، كالكافر والعبد، لم يستحق غير
الأجرة. وهكذا الأجير للخدمة، والذي يكري دابته. فأما المسلم الحر إذا
استؤجر للجهاد، فقال القاضي: لا يصح استئجاره؛ لأن الغزو يتعين بحضوره على
من هو من أهله، فلا يصح أن يفعله عن غيره، كالحج. فعلى هذا: يرد الأجرة وله
سهمه؛ لأن غزوه بغير أجرة. وظاهر كلام أحمد والخرقي صحة الإجارة لمن لم
يتعين عليه الجهاد؛ لأنه مما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، فجاز
استئجار الحر المسلم عليه، كبناء المساجد؛ ولأن ما صحت إجارة العبد والكافر
عليه، صح إجارة الحر المسلم عليه، كالبناء. فعلى هذا إذا حضر القتال، فظاهر
نص أحمد والخرقي أنه لا يسهم له، لما روى «يعلى بن منية أنه استأجر أجيرا
يكفيه من الغزو، قال: فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمة، أردت أن
أجري له سهمه، فذكرت الدنانير، فجئت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فذكرت له أمره، فقال: ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا
والآخرة إلا دنانيره التي سمى» رواه أبو داود؛ ولأن غزوه بعوض، فكأنه واقع
من غيره، فلم يثبت له حكمه وفائدته، كما له حج عن غيره. واستحقاق الغنيمة
من أحكامه وفوائده، وروي عن أحمد أنه يسهم له. قال الخلال: وهو الذي أعتمد
عليه من قول أبي عبد الله، لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال:
«للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي» . رواه أبو داود. وعن جبير بن
نفير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل
الذين يغزون عن أمتي، ويأخذون الجعل، ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى
ترضع ولدها وتأخذ أجرها» . رواه سعيد؛ ولأنه حاضر للوقعة من أهل القتال،
فأشبه أهل الديوان.
فأما التاجر والصانع وأشباههما، فيسهم لهم إذا حضروا القتال، نص عليه أحمد،
(4/146)
لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
الغنيمة لمن حضر الوقعة. قال القاضي: هذا إذا كان قصدهم الجهاد، ويقاتلون
إذا احتيج إليهم وأمكنهم، وكذلك من يكري دابته. ومن لم يكن كذلك، لم يسهم
له؛ لأنه لا نفع في حضوره، أشبه المخذل.
فصل:
وإذا لحق الجيش مدد، أو أسير أفلت، أو فودي به قبل انقضاء الحرب، أسهم لهم،
وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لهم، لقول عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن شهد الوقعة. ولما روى أبو هريرة «أن أبان بن
سعيد وأصحابه قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بخيبر بعد أن فتحها، فقال: اقسم لنا يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجلس يا أبان ولم يقسم له» . رواه أبو داود؛
ولأنهم إذا قدموا قبل انقضاء الحرب، فقد شاركوا الغانمين في السبب،
فشاركوهم في الاستحقاق، كما لو قدموا قبل الحرب. وإذا قدموا بعد ذلك، فلا
شيء لهم؛ لأنهم لم يشاركوهم في السبب ولأنهم حضروا بعد أن صارت الغنيمة
للغانمين، فأشبه ما لو حضروا بعد القسمة. وإن حضروا بعد تقضي الحرب، وقبل
إحراز الغنيمة، فظاهر كلام الخرقي أنهم يشاركونهم؛ لأن الغنيمة تملك
بحيازتها، والاستيلاء عليها، ولا يتم إلا بحيازتها، وظاهر قول القاضي: أنهم
لا يشاركونهم؛ لأنه ذكر أن الغنيمة تملك بتقضي الحرب قبل الحيازة؛ لأنها
صارت مقدورا عليها بإزالة يد الكفار عنها، فأشبه ما بعد الحيازة، وإن حازها
الغانمون، ثم جاءهم الكفار يقاتلونهم عليها فأدركهم المدد، فقاتلوا معهم
حتى سلموا الغنيمة، فنص أحمد: أنه لا شيء للمدد؛ لأن الأولين ملكوها،
والمدد يقاتلون عن الغانمين بعد ملكهم للغنيمة، فأشبهت سائر أموالهم، وإن
استنقذها الكفار من أيديهم، ثم جاءهم المدد، فقاتلوا معهم حتى استنقذوها،
فقال أحمد: أعجب إلي أن يصطلحوا.
فصل:
وإذا غزا الأمير بجيش، فأسرى سرية، أو سرايا إلى جهة مقصده، أو غيره،
فغنمت، شاركهم الجيش وإن غنم الجيش، شارك سراياه؛ لأنه يروى أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين هزم هوازن بحنين، أسرى قبل أوطاس
سرية، فغنمت، فقسم غنائمهم بين الجميع. وفي تنفيل النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السرية الثلث والربع، دليل على مقاسمة الجيش لها
الباقي؛ ولأن الجميع جيش واحد، فلم يختص بعضهم بغنيمة، كأحد جانبي الجيش،
وإن بعث السرايا، وأقام الجيش في بلد الإسلام، فلكل سرية غنيمتها؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث السرايا من المدينة، فلم
يشاركهم أهل المدينة في غنائمهم. وإن خلف الأمير قوما في بلد
(4/147)
العدو لضعف، أو غيره، وغزا فغنم، فأقاموا
في بلد العدو حتى رجع، شاركوهم. نص عليه. سواء رجع عليهم، أو من غير
طريقهم؛ لأنهم كالسرية، وإن رجعوا إلى حصون المسلمين، أو بلادهم، فلا سهم
لهم؛ لأنهم برجوعهم صاروا كالمقيمين بدار الإسلام.
فصل:
ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش، كالبريد، والطليعة، والجاسوس، فلم يحضر
الغنيمة أسهم له؛ لأنه في مصلحة الجيش، أشبه السرية؛ ولأنه إذا أسهم
للمتخلف عن الجيش، فلهؤلاء أولى. وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من بدر ولم
يحضرها، لاشتغاله بتمريض رقية ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
فصل:
ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه؛ لأنه ثبت ملكه فيه،
فقام وارثه مقامه، كما بعد القسمة. وإن أسر، فله سهمه كذلك. وإن أسر، أو
مات قبل تقضي الحرب، فلا شيء له لأنه لم يملك شيئا.
فصل:
وإذا قال الإمام: من أخذ شيئا، فهو له، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم
بدر: «ومن أخذ شيئا فهو له» ولأنهم غزوا على هذا ورضوا به.
والثانية: لا يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يقسم الغنائم، والخلفاء بعده؛ ولأن ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن
القتال، فيفضي إلى ظفر العدو بهم، وقصة بدر منسوخة بقول الله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}
[الأنفال: 1] .
فصل:
فأما تفضيل بعض الغانمين على بعض، فإن كان على سبيل التنفيل لبعضهم، فقد
ذكرناه. وإن كان على غير ذلك، لم يجز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سوى بينهم؛ ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية، فيجب
التسوية بينهم، كسائر الشركاء.
فصل:
ومن غل من الغنيمة وهو أن يكتم ما غنمه، أو شيئا منه، وجب إحراق رحله،
(4/148)
إلا السلاح والمصحف، وما فيه روح، لما روى
صالح بن محمد بن زائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غل فسأل
سالما عنه، فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل، فأحرقوا متاعه
واضربوه» قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسألنا سالما عنه، فقال: بعه وتصدق
بثمنه.
ولا يحرق المصحف والحيوان لحرمته، ولا ثيابه؛ لأنه يبقى عريانا، ولا ما غله
لأنه للمسلمين. وإن مات قبل إحراق متاعه، لم يحرق؛ لأنه عقوبة فسقط بموته،
كالحد؛ ولأن ماله ينتقل إلى وارثه فيصير إحراقه عقوبة لغير الجاني، ولا
يحرم الغال سهمه؛ لأن سبب استحقاقه متحقق.
فصل:
وإذا كان في السبي، من يعتق على بعض الغانمين بالملك، أو عتق عبدا من
الغنيمة عتق عليه كله، وعليه قيمته، يرد في المقسم إن كان موسرا؛ لأنه ملك
جزءا منه بفعله، فعتق عليه جميعه، كما لو اشترى جزءا منه. وإن كان معسرا،
لم يعتق عليه، إلا ما ملك منه كذلك. ومن وطئ جارية من المغنم، ممن له فيها
حق أو لولده، فلا حد عليه للشبهة ويعزر، وعليه مهرها؛ لأنه وطء سقط فيه
الحد عن الواطئ للشبهة، فوجب به المهر، كالوطء في نكاح فاسد، وإن أحبلها،
ثبت نسب الولد، وينعقد حرا للشبهة، وتصير أم ولد له، وعليه قيمتها ترد في
المغنم. وهل يلزمه قيمة الولد؟ فيه روايتان:
إحداهما: تلزمه لأنه فوت رقه.
والثانية: لا يجب؛ لأنه ينعقد حرا، فلم يدخل في ملك الغانمين.
فصل:
ويجوز للأمير البيع من الغنيمة قبل القسمة للغانمين، ولغيرهم إذا رأى
المصلحة فيه؛ لأن الولاية ثابتة له عليها، وقد تدعو الحاجة إلى ذلك لإزالة
كلفة نقلها، أو لتعذر قسمتها بعينها، ويجوز لكل واحد من الغانمين، بيع ما
يحصل له بعد القسم، والتصرف فيه كيف شاء؛ لأن ملكه ثابت فيه. فإن باع
الأمير، أو بعض الغانمين في دار الحرب شيئا، فغلب عليه العدو قبل إخراجه
إلى دار الإسلام، ففيه روايتان:
(4/149)
إحداهما: هو من ضمان المشتري. اختارها
الخلال وصاحبه؛ لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه التصرف فيه، فكان من ضمانه،
كما لو اشتراه في دار الإسلام.
والثانية: ينفسخ البيع، ويسقط الثمن عن المشتري، أو يرد إليه إن كان أخذ
منه. اختارها الخرقي؛ لأنه لم يكمل قبضه، لكونه في دار الحرب، في خطر قهر
العدو، فلم يضمنه المشتري كالثمر في الشجر. هذا إذا أخذ بغير تفريط من
المشتري، فإن أخذ منه لخروجه من العسكر، فهو من ضمانه؛ لأنه ذهب بتفريطه،
أشبه ما لو أتلفه.
فصل:
قال أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : ولا يجوز لأمير الجيش، أن يشتري من
مغنم المسلمين شيئا؛ لأنه يحابي؛ ولأن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] رد
ما اشتراه ابنه، في غزوة جلولاء، فأما إن وكل من يشتري له، ممن لا يعرف أنه
وكيله، صح الشراء، لعدم المحاباة. ورخص أبو عبد الله، فيما إذا قوم أصحاب
المقاسم، فقالوا: جلود الماعز بكذا، والخرفان بكذا، فاحتاج أحد الغانمين
إلى أخذ شيء منه بتلك القيمة أن يأخذه، ولا يأتي المقاسم، لأجل المشقة في
استئذانهم في جميع ذلك.
فصل:
وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين، أو أهل الذمة، ثم ظهر عليه
المسلمون، فأدركه صاحبه قبل قسمه، وجب رده إليه، لما روى ابن عمر أنه ذهب
فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعنه: «أن غلاما له أبق إلى أرض العدو، فظهر
عليه المسلمون، فرده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ابن
عمر، ولم يقسم» . رواهما أبو داود.
فإن لم يرده إليه الإمام، وقسمه مع العلم، لم تصح قسمته؛ لأنه قسم مال
مسلم، يجب رده إليه فأشبه المغصوب، ولصاحبه أخذه بغير شيء. فأما إن أدركه
صاحبه بعد القسم ففيه روايتان:
إحداهما: لا حق له فيه، لما روي أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما أحرز المشركون من المسلمين، ثم ظهر المسلمون
عليهم بعد، قال: من وجد عين ماله بعينه، فهو أحق به ما لم يقسم. وقال سلمان
بن ربيعة: إذا قسم، فلا حق له فيه. رواهما سعيد. وروى أصحابنا عن ابن عمر،
أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ماله
قبل أن يقسم، فهو له. وإن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شيء» .
(4/150)
والثانية: هو أحق به بالثمن الذي حسب به
على آخذه، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلا وجد
بعيرا له، كان المشركون أصابوه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إن أصبته قبل القسمة، فهو لك، وإن أصبته بعدما قسم، أخذته
بالقيمة» ؛ ولأن امتناع أخذه خشية ضياع حق آخذه من الغنيمة أو تضييع الثمن
على المشتري، وهذا ينجبر بأداء الثمن، فوجب أن يأخذه بالثمن، كالشقص
المشفوع. وإن أخذ أحد الرعية مال المسلم من الكفار بغير عوض، كالهبة،
والسرقة، فصاحبه أحق به، لما روي: «أن قوما أغاروا على سرح النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذوا ناقته، وجارية من الأنصار، فأقامت
عندهم أياما، ثم خرجت في بعض الليل، قالت: فما وضعت يدي على ناقة، إلا رغت،
حتى وضعتها على ناقة ذلول، فامتطيتها، ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني
الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذها، فقلت: يا رسول
الله، إني نذرت أن أنحرها، فقال: بئس ما جازيتها، لا نذر في معصية» وفي
لفظ: «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم» ؛ ولأنه حصل في يده بغير عوض ولا قسمة،
أشبه ما لو أدركه في الغنيمة، قبل القسمة. وإن أخذه من الكفار بثمن فحكمه
حكم المقسوم. هل يكون صاحبه أحق به بالثمن، أو لا يستحقه؟ يحتمل وجهين؛ لما
روى الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب، فأصابوا سبايا العرب،
فكتب السائب بن الأقرع، إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم قد اشتراه
التجار من أهل ماه، فكتب عمر فيمن أصاب رقيقه، ومتاعه في أيدي التجار بعدما
اقتسم، فلا سبيل إليه، وأيما حر اشتراه التجار، فإنه ترد إليهم رءوس
أموالهم. فإن الحر لا يباع، ولا يشترى. رواه سعيد.
فصل:
وإن استولى حربي على مال مسلم، ثم أسلم، أو دخل إلينا بأمان، فهو له. نص
عليه أحمد. وإن كان قد أتلفه أو باعه فلا شيء عليه، لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» ، وإن كان أخذه من
المستولي عليه بسرقة، أو هبة، أو شراء، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه قد
حصل منه الاستيلاء، والأخرى صاحبه أحق به بالقيمة؛ لأنه كالمقسوم. فإن
استولى على جارية، فاستولدها، فهي أم ولد له. فإن غنمها المسلمون فأدركها
صاحبها، أخذها، وكان أولادها غنيمة؛ لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر
لها.
(4/151)
فصل:
وإن استولى الكفار على حر من المسلمين، أو أهل الذمة، لم يملكوه. وإن
اشتراه رجل منهم فعلى الأسير أداء ما اشتراه به، لما ذكرنا من خبر عمر. وإن
استولوا على عبد، فحكمه حكم الأموال، قنا كان أو مدبرا، أو مكاتبا أو
مدبرا؛ لأنه يضمن بالقيمة. وهل يكون سيده أحق به بالثمن بعد القسمة؟ على
الروايتين. وإن استولوا على أم ولد، فأدركها صاحبها بعد القسمة، أو في يد
مشتريها من الكفار، فهو أحق بها بالقيمة بكل حال؛ لأنه قد حصل فيها سبب
للحرية لازم، فأثر ذلك في منع إقرار اليد عليها. فإن لم يحب سيد المكاتب
أخذه. فهو في يد مشتريه، أو من أعطيه من الغانمين فبقي على ما بقي عليه من
كتابته، يعتق بالأداء. وولاؤه لمن يؤدي إليه.
فصل:
وإن غنم المسلمون من الكفار شيئا عليه علامة المسلمين، ولم يعرف صاحبه، فهو
غنيمة، تجوز قسمته؛ لأنه قد وجد سبب الملك وهو الاستيلاء، ولم يتحقق ما
يمنعه. فإن كان فيها شيء موسوم عليه، حبيس، رد إلى أهله؛ لأنه قد عرف
مصرفه، وإن كان فيها عبد فقال: أنا لفلان، قبل منه ورد إلى صاحبه، وإن
أصابوا مركبا، كان للمسلمين، وفيه النواتية، فقالوا: هذا لفلان، وهذا
لفلان، لم يقسم. نص أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على هذا كله.
فصل:
وإذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فغنموا، ففي غنيمتهم
ثلاث روايات:
إحداهن: فيها الخمس وسائرها لهم؛ لعموم قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] .
والثانية: هي لهم من غير خمس؛ لأنه اكتساب مباح من غير جهاد، فأشبه
الاحتطاب.
والثالثة: هي فيء لا شيء لهم فيها؛ لأنهم عصاة بفعلهم، فلم يملكوه، كالسرقة
من المسلمين. وإن كانت الطائفة ذات منعة فكذلك، لما ذكرنا من التعليل،
وقيل: لا يكون لهم بغير خمس، رواية واحدة لأنها غنيمة، فلا يستحقونها بغير
خمس للآية، وكسائر الغنائم.
(4/152)
فصل:
ومن أجر نفسه على حفظ الغنيمة أو سوق دوابها، أو رعيها أو حملها، فله
أجرته؛ لأنه فعل بالمسلمين إليه حاجة لم يتعين عليه فعله، فأبيح له إجارة
نفسه فيه، كالدلالة على الطريق. وليس له ركوب دابة من المغنم، ولا حبيس؛
لأنه يستعمل دابة المسلمين فيما يختص نفعه به، فلم يجز، كما لو أجر نفسه
لأجنبي. فإن فعل فعليه أجرة مثل الدابة، يرد في المغنم إن كانت من الغنيمة،
أو تصرف في نفقة دابة الحبيس، إن كانت حبيسا. وإن شرط له في الإجارة ركوب
دابة من المغنم، جاز؛ لأن ركوبها من الأجرة، فجازت من المغنم، كما لو أجر
نفسه بدابة من المغنم.
فصل:
وما أهداه أهل الحرب لأمير الجيش، أو غيره من أهل الجيش في دار الحرب، فهو
غنيمة؛ لأنه يغلب على الظن أنه بذله خوفا من المسلمين. وإن كانت الهدية من
دار الحرب إلى دار الإسلام، فهي لمن أهدي إليه؛ لأنه تبرع له بذلك من غير
خوف، فأشبه هدية المسلمين.
فصل:
وإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد، وإن حصلت غنائم، قسمها أهلها بينهم على
موجب الشرع؛ لأنها مال لهم مشترك، فجاز لهم قسمته كسائر الأموال. فإن كان
فيها إماء، أخروا قسمتهن حتى يظهر إمام؛ لأن في قسمتهن إباحة الفروج،
فاحتيط في بابها.
[باب قسمة الخمس]
يقسم الخمس على خمسة أسهم: سهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن
السبيل، لقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] . فسهم رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف في مصالح المسلمين، لما روى جبير
بن مطعم «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تناول بيده
وبرة من بعير ثم قال: والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله إلا الخمس،
والخمس مردود عليكم» فجعله لجميع المسلمين. ولا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا
بصرفه في مصالحهم، من سد الثغور، وكفاية أهلها، وشراء
(4/153)
الكراع والسلاح، ثم الأهم فالأهم، على ما
سنذكره في الفيء. وعنه: أن سهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يختص بأهل الديوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
استحقه لحصول النصرة، فيكون لمن يقوم مقامه في النصرة. وعنه: أنه يصرف في
الكراع والسلاح.
فصل:
وسهم ذي القربى لبني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، لما روى جبير بن
مطعم، قال: «لما كان يوم خيبر، وضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب، جئت أنا وعثمان،
فقلنا: يا رسول الله، إن إخواننا بني هاشم لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك
الله به منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا؟ وإنما نحن
وهم بمنزلة واحدة، فقال: إنهم لم يفارقوني في جاهلية وإسلام، إنما بنو هاشم
وبنو المطلب شيء واحد ثم شبك بين أصابعه» . رواه أبو داود.
ويجب تعميمهم به حيث كانوا، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى}
[الأنفال: 41] ولأنه حق يستحق بالقرابة، فوجب تعميمهم به كالميراث. ويعطى
الغني والفقير والذكر والأنثى كذلك؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أعطى منه العباس وهو غني، وأعطى صفية عمته. ويقسم للذكر مثل حظ
الأنثيين؛ لأنه يستحق بقرابة الأب بالشرع، أشبه الميراث، ويحتمل أن يسوى
بينهما، كالمستحق بالوصية للقرابة.
فصل:
وأما سهم اليتامى، فهو لصغير لا أب له، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد احتلام» . ويعتبر أن يكون فقيرا؛ لأن
غناه بالمال أكثر من غناه بالأب، وسهم المساكين للفقراء، أو المساكين الذين
يستحقون من الزكاة؛ لأنه متى أفرد لفظ المساكين أو الفقراء، تناول الصنفين،
بدليل مصرف الكفارات، والوصايا والنذور. وسهم ابن السبيل للصنف المذكور في
أصناف الزكاة.
فصل:
ولا حق في الخمس لكافر؛ لأنه عطية من الله، فلم يكن لكافر فيه حق كالزكاة،
ولا للعبد؛ لأن ما يعطاه لسيده، فكانت العطية لسيده دونه.
(4/154)
[باب قسمة
الفيء]
باب قسم الفيء
فصل:
وهو: كل مال أخذ من المشركين بغير قتال كالجزية، والخراج، والعشور المأخوذة
من تجارهم، وما تركوه فزعا وهربوا، أو بذلوه لنا في الهدنة، ونحو ذلك، فذكر
الخرقي: أنه يخمس، فيصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة، لقول الله
تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] وهؤلاء أهل الخمس، وهذا إحدى الروايتين عن
أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وظاهر المذهب أنه لا يخمس، لقول الله
تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ... الآيات.
فجعله كله لجميع المسلمين. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما قرأها:
هذه استوعبت المسلمين، ولئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم
يعرق فيها جبينه. وعلى كلتا الروايتين يبدأ فيه بالأهم فالأهم. وأهم
المصالح كفاية أجناد المسلمين بأرزاقهم، وسد الثغور بمن فيه كفاية.
وكفايتهم بأرزاقهم، وبناء ما يحتاج إلى بنائه منها، وحفره الخنادق، وشراء
ما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ثم الأهم فالأهم من عمارة القناطر والطرق
والمساجد، وكري الأنهار، وسد البثوق، وأرزاق القضاة، والأئمة، والمؤذنين،
ومن يحتاج إليه المسلمون، وكل ما يعود نفعه إلى المسلمين، ثم ما فضل قسمه
على المسلمين، لما ذكرنا من الآية، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وذكر القاضي: أن الفيء لأهل الجهاد خاصة دون غيرهم من الأعراب، ومن لا يعد
نفسه للجهاد؛ لأنه ذلك كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لحصول النصرة به، فلما مات أعطي لمن يقوم مقامه في ذلك، وهم المقاتلة دون
غيرهم.
فصل:
ويفرض للمقاتلة من المسلمين قدر كفايتهم؛ لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد
فيجب أن يكفوا المؤنة، ويتعاهد عدد عيالهم لأنهم قد يزيدون وينقصون، ويتعرف
أسعار ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة؛ لأنه قد يغلو ويرخص، لتكون
أعطيتهم على قدر كفايتهم، ولا يفرض في المقاتلة لصبي ولا مجنون، ولا عبد
ولا امرأة، ولا ضعيف عاجز عن الجهاد، ولا لمريض لا يرجى برؤه؛ لأنهم من غير
أهل الجهاد. ويفرض للمريض المرجو برؤه؛ لأن أحدا لا يخلو من عارض. وإن مات
مجاهد وله
(4/155)
عائلة، أجري عليهم قدر كفايتهم؛ لأن فيه
تطييب قلوب المجاهدين، فمتى علموا أن عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم،
توفروا على الجهاد. وإن علموا خلاف ذلك، توفروا على الكسب، وآثروه على
الجهاد. فإذا بلغ الذكور منهم، فاختاروا أن يكونوا من المقاتلة، فرض لهم.
وإن لم يختاروا، تركوا. ومتى تزوجت المرأة، سقط حقها؛ لأنها خرجت من عيال
الميت. ومن مات بعد حلول وقت العطاء، دفع إلى ورثته حقه؛ لأنه مات بعد
الاستحقاق، فانتقل حقه إلى وارثه، كسائر الموروثات.
فصل:
وينبغي للإمام أن يضع ديوانا يكتب فيه أسماء المقاتلة، وقدر أرزاقهم لما
روي عن أبي هريرة قال: قدمت على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثمانمائة
ألف درهم، فلما أصبح، أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهم: قد جاء للناس مال لم يأتيهم مثله منذ كان
الإسلام، أشيروا علي بمن أبدأ؟ قالوا: بك يا أمير المؤمنين، إنك ولي ذلك.
قال: لا، ولكن ابدءوا بأهل بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، الأقرب فالأقرب، فوضع الديوان على ذلك، ويجعل لكل طائفة عريفا
يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء، ووقت الغزو؛ لأنه يروى أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل عام خيبر على كل عشرة عريفا، ويجعل
العطاء في كل عام مرة أو مرتين. ولا يجعل في أقل من ذلك، لئلا يشغلهم عن
الغزو، ويبدأ ببني هاشم؛ لأنهم أقارب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما ذكرنا من خبر عمر، ثم ببني المطلب، لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وشبك
بين أصابعه. ثم ببني عبد شمس؛ لأنه أخو هاشم لأبيه وأمه. قال آدم بن عبد
العزيز بن عمر بن عبد العزيز: عبد شمس كان يتلو هاشما، وهما بعد لأم وأب،
ثم ببني نوفل؛ لأنه أخو هاشم لأبيه، ثم يعطى بنو عبد العزى، وعبد الدار
ويقدم عبد العزى؛ لأن فيهم أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فإن خديجة منهم، فعلى هذا: يعطى الأقرب فالأقرب، حتى تنقضي
قريش، وهم بنو النضر بن كنانة، ثم يقدم الأنصار على سائر العرب لسابقتهم
وآثارهم الجميلة، ثم سائر العرب، ثم العجم، وإن استوى اثنان في الدرجة، قدم
أسنهما، ثم أقدمهما هجرة وسابقة.
فصل:
واختلفت الرواية عن أحمد في جواز تفضيل بعضهم على بعض، فروي عنه: أنه يسوى
بينهم في العطاء، ولا يجوز التفضيل؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - سوى بينهم فيه، وقال: فضائلهم عند ربهم؛ ولأن الغنائم تقسم بين من
حضر الوقعة على السواء، فكذلك الفيء. وعنه: أن للإمام تفضيل قوم على قوم؛
لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قسم بينهم على السوابق، وقال: لا أجعل
من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قسم النفل بين أهله متفاضلا، وهذا في معناه.
(4/156)
فصل:
ومن ضل من أهل الحرب الطريق، فوقع في دار الإسلام، أو حملته الريح في
المركب إلينا، أو شرد من دوابهم فحصل في أيدينا، ذكر أبو الخطاب، فيه
روايتين:
إحداهما: يكون فيئا؛ لأنه مال مشرك ظهر عليه بغير قتال، أشبه ما تركوه فزعا
وهربوا.
والثانية: هو لمن أخذه؛ لأنه مباح ظهر عليه بغير جهاد، فكان لآخذه كمباحات
دار الإسلام. وقد روي عن أحمد فيمن ضل الطريق منهم، فدخل إلى قرية، قال: هو
لأهل القرية كلهم، وقال في عبد أبق إلى أرض الروم، ثم رجع ومعه متاع:
فالعبد لمولاه، وما معه من المتاع والمال فهو للمسلمين. قال القاضي: هذا
على الرواية التي تجعل غنيمة الذين دخلوا أرض الحرب بغير إذن الإمام فيئا،
فأما على الرواية الأخرى، فيكون المال لسيده؛ لأنه كسب عبده، وفي تخميسه
روايتان. ولو أسر الكفار رجلا، فغنم منهم شيئا، وخرج به إلى دار الإسلام،
كان له؛ لأنه كسبه، ويحتمل أن يجب فيه الخمس؛ لأنه غنيمة. وقد روى الأوزاعي
أنه لما أقفل عمر بن عبد العزيز الجيش الذين كانوا مع مسلمة، كسر مركب
بعضهم، فأخذ المشركون ناسا من القبط، فكانوا خدما لهم ثم خرجوا إلى عبد
لهم، وخلف القبط في مركبهم، ورفع القبط القلع، وفي المركب متاع الآخرين
وسلاحهم، فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت، فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد
العزيز، فكتب إليهم عمر: نفلوهم القلع وكل شيء جاءوا به، إلا الخمس. رواه
سعيد. ويحتمل أن يكون فيئا، استدلالا بقول عمر: نفلوهم الذي جاءوا به، ولو
كان لهم، لم يكن نفلا.
[باب حكم الأرضين المغنومة]
الأرض التي بأيدي المسلمين تنقسم قسمين:
أحدهما: ما هو مملوك لأهله، لا خراج عليه، وهو ما أسلم عليه أهله، كأرض
مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو غنمه المسلمون فقسم
بينهم، كأرض خيبر التي قسمها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بين أصحابه الذين افتتحوها، أو ما صالح أهله على أن الأرض لهم، كأرض اليمن،
والحيرة وبانقيا، وأليس من العراق، أو ما أحياه المسلمون من موات الأرض،
كأرض البصرة، كانت سبخة، فأحياها عتبة بن غزوان، وعثمان بن أبي العاص، فهذا
ملك لأهله، لهم التصرف فيه، بالبيع وسائر التصرفات؛ لأنه مملوك لهم، أشبه
الثياب والسلاح.
(4/157)
القسم الثاني: ما وقفه الأئمة على المسلمين
ولم يقسموه، كأرض الشام كلها، ما خلا مدنها، والعراق كله إلا ما ذكرنا منه،
والجزيرة ومصر، والمغرب وسائر ما افتتح عنوة، فهذا وقفه عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - ومن بعده من الأئمة، ولم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أحد من أصحابه - أنه قسم أرضا عنوة غير خيبر.
وروى أبو عبيد بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قدم الجابية،
فأراد قسمة الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذا ليكونن ما تكره،
إنك إن قسمتها اليوم، صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون، فيصير
ذلك إلى الرجل الواحد، والمرأة الواحدة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من
الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا، فانظروا أمرا يسع أولهم وآخرهم، فصار عمر
إلى قول معاذ.
ولما افتتح عمرو بن العاص مصر، طلب منه الزبير قسمتها، فكتب في ذلك إلى
عمر، فكتب عمر: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة. وروي عن بكير بن عامر،
قال: اشترى عتبة بن فرقد أرضا من أرض الخراج، فأتى عمر فأخبره، فقال عمر:
ممن اشتريتها؟ قال: من أهلها، قال: فهؤلاء أهلها، للمسلمين، أبعتموه شيئا؟
قالوا: لا، قال: فاذهب فاطلب مالك.
وعن عبد الله بن المغفل أنه قال: لا تشتر من أرض السواد، إلا من أهل
الحيرة، وبانقيا، وأليس. روى هذا كله أبو عبيد. وقد اشتهرت قصة عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ضرب الخراج على أرض السواد، وإقراره في يد أهله
بالخراج الذي ضربه، وجعل ذلك أجرة له، ولم يقدر مدته، لعموم المصلحة فيه،
فهذا لا يجوز بيعه، ولا شراؤه، لخبر عتبة بن فرقد؛ ولأنه موقوف للمسلمين
كلهم، فلم يجز بيعه، كسائر الوقوف. فأما إجارته فجائزة؛ لأنه مستأجر في
أيدي أربابه بالخراج. وإجارة المستأجر جائزة. وذكر القاضي في إجارته
روايتين، والصحيح ما ذكرناه. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى:
أنه كره بيعها، وأجاز شراءها؛ لأنه استنقاذ لها، فجاز، كشراء الأسير. ومن
كانت في يده أرض، فهو أحق بها بالخراج، كالمستأجر. وتنتقل إلى وارثه بعده،
على وجه الذي كانت في يد موروثه. وإن آثر بها أحدا، صار الثاني أحق بها.
وإن عجز رب الأرض عن عمارتها، وأداء خراجها، أجبر على رفع يده عنها، ودفعت
إلى غيره؛ لأن الأرض للمسلمين، فلا يجوز تعطيلها عليهم.
فصل:
ويجب الخراج في العامر الذي يمكن زرعه، والانتفاع به، فأما الموات الذي لا
يمكن زرعه، فلا خراج فيه؛ لأن الخراج أجرة الأرض، ولا أجرة لهذا. وعنه: يجب
فيه الخراج إذا كان على صفة يمكن إحياؤه، ليحييه من هو في يده، أو يرفع يده
عنه فيحييه غيره، وينتفع به. وما كان من الأرض لا يمكن زرعها حتى تراح
عاما، وتزرع
(4/158)
عاما، فخراجها على النصف من خراج غيرها؛
لأن نفعها على النصف، وحكم الخراج حكم الدين يطالب به الموسر، وينظر به
المعسر؛ لأنه أجرة، فأشبه أجرة المساكن. وإن رأى الإمام المصلحة في ترك
خراج إنسان له، أو تخفيفه، جاز له؛ لأنه فيء، فكان النظر فيه إلى الإمام.
ويجوز لصاحب الأرض أن يرشو العامل، ليدفع عنه الظلم في خراجه؛ لأنه يتوصل
بماله إلى كف اليد العادية عنه. ولا يجوز له ذلك، ليدع له من خراجه شيئا؛
لأنه رشوة، لإبطال حق، فحرمت على الآخذ والمعطي، كرشوة الحاكم، ليحكم له
بغير الحق.
فصل:
ولا يسقط خراج هذه الأرض بإسلام أهلها، أو انتقالها إلى مسلم؛ لأنه أجرة،
فأشبه أجرة المساكن. قال أحمد: ما كان من أرض عنوة، ثم أسلم صاحبها، وضعت
عنه الجزية وأقر على أرض الخراج. وقال أيضا: أرض أهل الذمة فيها الخراج،
فإن اشتراها المسلم، ففيها الخراج؛ لأنه حق على الأرض. قال: ويكره للمسلم
أن يشتري من أرض الخراج والمزارع؛ لأن في الخراج معنى الذلة، وبهذا وردت
الأخبار عن عمر وغيره. ومعنى الشراء هاهنا: أن يتقبل الأرض بما عليها من
خراجها؛ لأن شراء هذه الأرض غير جائز، أو يكون على الرواية التي أجاز
شراءها، لكونه استنقاذا لها، فهو كاستنقاذ الأسير.
فصل:
ويعتبر الخراج بما تحمله الأرض من القليل والكثير، والمرجع فيه إلى اجتهاد
الإمام، في إحدى الروايات، وهي اختيار الخلال وعامة شيوخنا؛ لأنها أجرة،
فلم تتقدر بمقدار ما لا يختلف، كأجرة المساكن.
والثانية: يرجع فيه إلى ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لا تجوز
الزيادة عليه، ولا النقصان منه؛ لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره.
والثالثة: تجوز الزيادة عليه، ولا يجوز النقصان، لما روى عمرو بن ميمون:
أنه سمع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول لحذيفة، وعثمان بن حنيف:
لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق، فقال عثمان: والله لئن زدت عليهم، لا تشق
عليهم ولا تجهدهم. فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم.
واختلف عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قدر الخراج، إلا أنه روي عن
عمرو بن ميمون: أنه وضع على كل جريب، من أرض السواد قفيزا ودرهما. قال
أحمد: أعلى وأصح حديث في أرض السواد، حديث عمرو بن ميمون في الدرهم
والقفيز. وهذا يدل على أنه أخذ به.
(4/159)
فصل:
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قدر القفيز، صاع قدره ثمانية أرطال.
قال القاضي: عندي أن ثمانية أرطال بالمكي، فيكون ستة عشر رطلا بالعراقي.
وقال أبو بكر: قد قيل: إن قدره ثلاثون رطلا، وينبغي أن يكون من جنس ما
تخرجه الأرض؛ لأنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه ضرب على
الطعام درهما، وقفيز حنطة، وعلى الشعير درهما وقفيز شعير.
فصل:
والجريب: عشر قصبات في عشر قصبات. والقصبة: ستة أذرع بذراع عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، وهو ذراع وسط، لا أطول ذراع ولا أقصرها، وقبضة وإبهام
قائمة، وما بين الشجر من بياض الأرض تبع لها. ومن ظلم في خراجه، لم يحتسبه
من العشر؛ لأنه ظلم، فلم يحتسبه من العشر، كالغصب. وعنه: يحتسبه من العشر؛
لأن الآخذ لهما واحد، وهذا اختيار أبي بكر.
فصل:
وما فتح عنوة، فالإمام مخير بين قسمته بين الغانمين، فيصير ملكا لهم، لا
خراج عليه، وبين وقفها على المسلمين، وضرب الخراج عليها؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين في خيبر، فقسم نصفها،
ووقف نصفها، وعمر وقف كل شيء فتحه ولم يقسمه، فدل على جواز الأمرين، وليس
له إلا فعل ما يرى المصلحة فيه، فما فعل من ذلك، لزم. قال أحمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: هم على ما يفعل الفاتح، إذا كان من أئمة الهدى. وعنه: أن الأرض
تصير وقفا بنفس الظهور عليها؛ لأن الأئمة بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقسموا أرضا افتتحوها؛ ولأن في قسمتها المحذور
الذي ذكره معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وإنما قسم النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصف خيبر في بدء الإسلام، لضعفهم وحاجتهم.
وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة: أنها تقسم بين الغانمين من غير تخيير، لعموم
قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ؛ لأن فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى من فعل غيره، والأول أولى؛ لأن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - ومن بعده، لم يقسموا الأرض، وتابعهم علماء الصحابة عليه،
فحصل إجماعا. وما وقفه الإمام، فهو مخير بين إقرار أهله فيه بالخراج وبين
إجلائهم، وجلب غيرهم؛ لأن الأرض قد ملكت عليهم. فأما ما جلا عنها أهلها
خوفا من المسلمين، فتصير وقفا بنفس الظهور عليها؛ لأنها ليست غنيمة، فتقسم.
وعنه: لا
(4/160)
تصير وقفا حتى يقفها الإمام؛ لأن الوقف لا
يثبت بنفسه. وحكمها حكم العنوة إذا وقفت، وكذلك الحكم فيما صالحونا عليه،
على أن الأرض للمسلمين، وتقر في أيديهم بالخراج. فأما إن صالحناهم على أن
الأرض لهم، ولنا عليها الخراج، فهذه ملك لأربابها، متى أسلموا، سقط عنهم؛
لأنه بمنزلة الجزية، فيسقط بالإسلام، كالجزية. ولهم بيعها والتصرف فيها.
وإن انتقلت إلى مسلم، لم يؤخذ خراجها، لما ذكرناه.
[باب الأمان]
يحوز عقد الأمان لجميع الكفار وآحادهم، لقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ
اللَّهِ} [التوبة: 6] . وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ذمة المسلمين واحدة يسعى
بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا
يقبل منه صرف ولا عدل.» رواه البخاري.
وتصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار، ذكرا كان أو أنثى، حرا أو عبدا للخبر،
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إن كانت المرأة لتجير على
المؤمنين، فيجوز. وعن فضيل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيشا فكنت فيه، فحضرنا موضعا، فرأينا أنا سنفتحها
اليوم، وجعلنا نقبل ونروح، فبقي عبد منا، فراطنهم وراطنوه، فكتب لهم الأمان
في صحيفة، وشدها على سهم، ورمى بها إليهم، فأخذوها، وخرجوا، فكتب بذلك إلى
عمر، فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه. رواهما سعيد، ويصح
أمان الأسير المسلم إذا عقده غير مكره، كذلك.
فصل:
ولا يصح من كافر، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يسعى بها أدناهم» وليس
الكافر منهم؛ ولأنه متهم في الدين. ولا من مجنون، ولا طفل؛ لأنه لا حكم
لقولهما، ولا مكره؛ لأنه عقد أكره عليه بغير حق، فلم يصح، كالبيع، وفي
الصبي المميز روايتان:
إحداهما: لا يصح منه؛ لأن القلم مرفوع عنه، ولا يلزمه بقوله حكم، فلا يلزم
غيره كالمجنون.
والثانية: يصح، لعموم الخبر؛ ولأنه مسلم عاقل فصح أمانه، كالبالغ، فإن دخل
مشرك بأمان من لا يصح أمانه، عالما بفساده، جاز قتله، وأخذ ماله؛ لأنه حربي
لا أمان
(4/161)
له وإن لم يعرف، عرف ذلك، ورد إلى مأمنه،
ولم يجز قتله؛ لأنه دخل على أنه بأمان.
فصل:
وللإمام عقده لجميع الكفار؛ لأن له الولاية على جميع المسلمين، وللأمير
عقده لمن أقيم بإزائه؛ لأن إليه الأمر فيهم. وأما سائر الرعية، فلهم عقده
للواحد، والعشرة، والحصن الصغير، لحديث عمر في أمان العبد. ولا يصح لأهل
بلدة ورستاق ونحوهم؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد، والافتئات على الإمام.
وللإمام والأمير أمان الأسير؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمن
الهرمزان وهو أسير؛ ولأن له المن عليه، فالأمان أولى، وليس ذلك لغيره؛ لأن
أمر الأسير إلى الإمام، فلم يجز لغيره الافتئات عليه. وذكر أبو الخطاب: أن
ذلك لكل مسلم؛ لأن زينب ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره، فأمضاه رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله، ويعرف الشريعة، وجب أن يعطاه، ثم يرد إلى
مأمنه، لقول الله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}
[التوبة: 6] . ويجوز عقده للمستأمن غير مقيد بمدة؛ لأن ذلك لا يفضي إلى ترك
الجهاد. قال القاضي: يجوز أن يقيموا في دارنا مدة الهدنة، بغير جزية، وهو
ظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن من جاز إقراره بغير جزية فيما دون
السنة، جاز فيما زاد كالمرأة، وقال أبو الخطاب: عندي لا يجوز أن يقيموا سنة
فصاعدا بغير جزية، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ
يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
فصل:
ويحصل الأمان بما يدل عليه من قول وغيره، فالقول مثل: أمنتك، أو أنت آمن،
أو أجرتك، أو أنت مجار، أو في جواري، أو في ذمتي، أو في أماني، أو في
خفارتي، أو لا بأس عليك، أو لا خوف عليك، أو لا تخف، أو مترس بالفارسية،
ونحو ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الفتح:
«من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن» . وقال لأم هانئ: «قد أجرنا من أجرت،
وأمنا من أمنت» . وقال أنس لعمر في قصة الهرمزان: ليس لك إلى قتله سبيل، قد
قلت: تكلم لا بأس عليك، فأمسك عمر. وروى
(4/162)
زر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله
يعلم كل لسان، فمن أتى منكم أعجميا، فقال له: مترس، فقد أمنه، وإن أشار
إليه بالأمان، فهو أمان، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه
قال: لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك، فنزل إليه، فقتله،
لقتلته به، فإن قال المسلم: لم أرد به الأمان، فالقول قوله؛ لأنه أعلم
بنيته، ويرد المشرك إلى مأمنه؛ لأنه نزل على أنه آمن. وإن قال له: قف، أو
قم، أو ألق سلاحك، فقال أصحابنا: هو أمان؛ لأن الكافر يعتقده أمانا، فأشبه
قوله: لا تخف. ويحتمل أن يرجع فيه إلى النية، فإن نوى به الأمان، كان أمانا
لأنه يحتمله. وإن لم ينو، لم يكن أمانا؛ لأنه يستعمل للإرهاب والتخويف
والتهديد، فلم ينصرف إلى الأمان بغير نية، وإذا اختلفا في نيته، فالقول قول
المسلم، لما ذكرنا، وإن قال الكافر: أنت آمن، فرد الأمان، لم ينعقد؛ لأنه
إيجاب حق بعقده، فلم يصح مع الرد، كالبيع. وإن قبله ثم رده انتقض؛ لأنه حق
له، فسقط بإسقاطه، كالرق.
وأما الفعل، فإذا دخل الحربي دار الإسلام، رسولا أو تاجرا، وقد جرت العادة
بدخول تجارهم إلينا، كان أمانا له، ولم يجز التعرض له؛ «لأن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرسولي مسيلمة: لولا أن الرسل لا
تقتل لقتلتكما» رواه أبو داود والنسائي بمعناه؛ ولأنهم دخلوا يعتقدون
الأمان، فأشبه ما لو دخلوا بإشارة المسلم.
وإن دخل مسلم دار الحرب رسولا، أو تاجرا وقد جرت العادة بدخول تجارنا
إليهم، صار في أمانهم، وصاروا في أمان منه؛ لأن الأمان إذا انعقد من أحد
الطرفين، انعقد من الآخر، فلا تحل خيانتهم في أموالهم، ولا معاملتهم
بالربا؛ لأن من حرم ماله عليك، ومالك عليه، حرمت معاملته بالربا، كالمسلم
في دار الإسلام. وإذا أخذ المسلمون حربيا، فادعى أنه جاء مستأمنا نظرنا،
فإن كان بغير سلاح، قبل قوله؛ لأن تركه السلاح دليل على قصد الأمان. وإن
كان معه سلاح، لم يقبل منه، نص عليه أحمد؛ لأن حمله لآلة الحرب دليل على
أنه محارب. وقال أحمد: إذا لقي الرجل العلج، فطلب منه الأمان، لم يعطه. وإن
كان المسلمون جماعة أعطوه الأمان؛ لأن الواحد لا يأمن غدر العلج عند خلوته
به، والجماعة يأمنون ذلك.
فصل:
ومن جاء بحربي، فادعى الحربي أنه أمنه، فأنكر المسلم، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: القول قول المسلم؛ لأن الأصل معه. وهو إباحة دم الحربي، وعدم
الأمان.
(4/163)
والثانية: القول قول الأسير؛ لأنه يدعي حقن
دمه، فيكون ذلك شبهة في درء القتل.
والثالثة: القول قول من يدل ظاهر الحال على صدقه، فمتى كان أقوى من المسلم
ومعه سلاحه، فالقول قوله: لأن الظاهر معه، وإن كان ضعيفا مأخوذا سلاحه،
فالقول قول المسلم؛ لأن الظاهر معه.
فصل:
وإذا دخل حربي دار الإسلام بأمان، ثبت الأمان لنفسه وماله الذي معه؛ لأن
الأمان يقتضي ترك التعرض له بما يضره، وأخذ ماله يضره، فإن أودع ماله، أو
أقرضه مسلما، أو ذميا، ثم عاد إلى دار الحرب رسولا، أو تاجرا، أو متنزها
ليعود إلى دار الإسلام، فهو على أمانه. وإن دخل مستوطنا، أو محاربا، انتقض
الأمان في نفسه؛ لأنه تركه وبقي في ماله؛ لأنه بطل في نفسه بعوده، ولم يوجد
ذلك في المال؛ ولأن الأمان ثبت للمال بأخذ المودع والمقترض له، فأشبه ما لو
استودعه في دار الحرب، ودخل به دار الإسلام. فإن طلبه صاحبه، بعث به إليه،
وإن مات، بعث إلى وارثه، وكذلك إن مات المستأمن في دار الإسلام، بعث ماله
إلى وارثه؛ لأن الأمان حق لازم تعلق بالمال. فإذا انتقل إلى الوارث، انتقل
بحقه، كسائر ماله، وإن لم يكن له وارث، فهو فيء؛ لأنه مال انتقل عن الكافر
ولا مستحق له، فأشبه مال الذمي الذي يموت ولا وارث له، وإن سبي مالكه، كان
موقوفا، فإن عتق، رد إليه، وإن مات في الرق، أو قتل، فماله فيء؛ لأنه لا
يورث، فأشبه مال من لا وارث له.
فصل:
وإن أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالا، مضاربة، أو وديعة، ودخل به
دار الإسلام، فهو في أمان، حكمه مثل ما ذكرنا، وإن أخذه ببيع في الذمة، أو
اقتراض، فالثمن في ذمته، عليه أداؤه إليه. وإن اقترض حربي من حربي مالا، ثم
دخل إلينا فأسلم، فعليه رد البدل؛ لأنه أخذه على سبيل المعاوضة، فأشبه ما
لو تزوج حربية، ثم أسلم، فإنه يلزمه مهرها.
فصل:
وإن حصر المسلمون حصنا، فطلب رجل منهم الأمان، ليفتح لهم الحصن، جاز
إعطاؤه. وكذلك إن طلبه لجماعة معينين، جاز، لما روي أن المهاجر بن أبي أمية
لما حصر النجير، بعث إليه الأشعث بن قيس: تعطيني الأمان لعشرة وأفتح لك
الحصن؟ ففعل. فإن فتح الحصن، فادعى الأمان منهم جماعة، كل واحد يقول أنا
المعطى،
(4/164)
وأشكل، لم يجز قتل واحد منهم؛ لأنه اشتبه
المباح بالمحرم، فوجب تغليب التحريم، كما لو اختلطت أخته بأجنبيات، وفي
استرقاقهم وجهان:
أحدهما: لا يسترق واحد منهم كذلك، قال القاضي: هذا المنصوص عليه.
والثاني: يقرع بينهم، فيخرج صاحب الأمان بالقرعة، ويسترق الباقون، اختارها
أبو بكر؛ لأنه اشتبه الحر بالرقيق، فوجب أن يخرج بالقرعة، كما لو أعتق عبدا
من عبيده وأشكل، وإن أسلم واحد في الحصن قبل فتحه، ثم فتح، فادعى كل واحد
منهم أنه المسلم، خرج فيها ما في التي قبلها؛ لأنها في معناها.
فصل:
وإذا أسر الكفار أسيرا، فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة، كانوا في أمان
منه، ولم يكن له أن يهرب منهم، ولا أن يخونهم في أموالهم؛ لأنهم على هذا
أطلقوه. وإن أطلقوه ولم يشرطوا عليه شيئا، فله أن يقتل، ويسرق، ويهرب؛ لأنه
لم يصدر منه ما يثبت به الأمان. وكذلك إن أطلقوه على أن يكون رقيقا لهم،
وملكا؛ لأنه حر لا يثبت عليه الملك، ولم يصدر منه أمان. فإن أطلقوه وأمنوه،
ولم يشرطوا عليه شيئا، كان له الهرب؛ لأنه ليس بمال لهم، ولم يكن له
خيانتهم في أموالهم وأنفسهم؛ لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه، وإن شرطوا
عليه الإقامة عندهم، فالتزمه، لزمه الوفاء لهم. نص عليه، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] .
وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المؤمنون عند شروطهم» . وإن شرطوا عليه أن
يبعث إليهم فداءه من دار الإسلام، لزمه ذلك، لما ذكرنا؛ ولأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل الحديبية على رد من جاء،
وَفَّى لهم، وقال: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» ، فإن عجز عن الفداء، كان
في ذمته، يبعثه إليهم متى قدر، كثمن المبيع.
وإن شرطوا عليه أنه إن لم يقدر على الفداء، رجع عليهم، فلم يقدر عليه، وكان
رجلا لزمه الوفاء في إحدى الروايتين، لما ذكرناه.
والثانية: لا يعود إليهم؛ لأن العود إليهم معصية، فلم يلزم بالشرط. وإن
كانت امرأة، لم ترجع إليهم رواية واحدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل الحديبية على رد من جاءه، منعه الله
تعالى رد النساء؛ ولأن في ردها تسليطا على وطئها حراما، فلم يجز. وإن كان
الأسير شرط لهم ذلك مكروها بضرب وتعذيب، لم يلزمه الوفاء لهم بشرط مما
شرطه. وإن اشترى الأسير منهم شيئا مختارا، أو اقترضه، لزمه الوفاء لهم؛
لأنه عقد
(4/165)
معارضة، فأشبه غير الأسير. وإن كان مكروها
لم يصح، فإن أكرهوه على قبضه، لم يلزمه ضمانه وإن تلف، وعليه رده إن كان
باقيا؛ لأنهم دفعوه إليه بحكم عقد فاسد، وإن قبضه باختياره، فعليه ضمانه
كذلك، والله أعلم.
[باب الهدنة]
ومعناها: موادعة أهل الحرب، ولا يجوز ذلك إلا على وجه النظر للمسلمين،
وتحصيل المصلحة لهم، لقول الله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] ؛ ولأن هدنتهم من غير حاجة،
ترك للجهاد الواجب لغير فائدة، فإن رأى الإمام المصلحة فيها، جازت، لقول
الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ،
وقَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ
لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، وروى
مروان ومسور بن مخرمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
صالح سهيل بن عمرو بالحديبية، على وضع القتال عشر سنين» ، ووادع النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبائل من المشركين، وقريظة، والنضير؛
ولأنه قد تكون المصلحة في الهدنة لضعف المسلمين عن قتالهم، أو طمع في
إسلامهم، أو التزامهم الجزية، أو غير ذلك. ولا يجوز عقدها إلا من الإمام،
أو نائبه؛ لأنه عقد يقتضي الأمان لجميع المشركين، فلم يجز لغيرهما، كعقد
الذمة.
فصل:
ولا يجوز عقد الهدنة مطلقا غير مقدرة بمدة؛ لأن إطلاقها يقتضي التأبيد،
فيفضي إلى ترك الجهاد أبدا. ويرجع في تقديرها إلى رأي الإمام على ما يراه
من المصلحة في قليل وكثير. وقال القاضي: وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز أكثر
من عشر سنين. وهو اختيار أبي بكر؛ لأن الأمر بالجهاد يشمل الأوقات كلها، خص
منه مدة العشر بصلح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل
الحديبية على عشر، ففيما زاد يبقى على العموم.
ووجه الأول: أنه عقد يجوز في العشر، فجاز فيما زاد عليها، كالإجارة. فإن
هادنهم أكثر من قدر الحاجة، بطل في الزائد، وهل يبطل في قدر الحاجة على
(4/166)
وجهين، بناء على تفريق الصفقة. وكذلك إذا
هادنهم أكثر من عشر على الرواية الأخرى بطل في الزيادة، وفي مدة العشر
وجهان. فإن قال هادنتكم ما شئتم، لم يصح؛ لأنه جعل الكفار متحكمين على
المسلمين، وإن قال: هادنتكم ما شئنا، أو ما شاء فلان، أو شرط أن له نقضها
متى شاء، لم يصح؛ لأنه ينافي مقتضى العقد؛ ولأنه عقد مؤقت، فلم يجز تعليقه
على مشيئة أحدهما، كالإجارة. وقال القاضي: يصح لأنه جعل التحكم إليه. وإن
قال: إلى أن يشاء الله، أو نقركم ما أقركم الله، لم يجز؛ لأنه لا طريق إلى
معرفة ما عند الله.
فصل:
وتجوز الهدنة على غير مال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- صالح أهل الحديبية، وغيرهم بغير مال. وتجوز على مال يأخذه منهم؛ لأنه إذا
جازت بغير مال، فعلى مال أولى، فأما مصالحتهم على مال يدفعه إليهم، فقد
أطلق أحمد المنع منه؛ لأن فيه صغارا على المسلمين. وهذا محمول على غير حال
الضرورة. فأما عند الحاجة، مثل أن يخاف على المسلمين قتلا، أو أسرا، أو
تعذيب من عندهم من الأسارى، فيجوز، لما روى الزهري قال: «أرسل النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عيينة بن حصن وهو مع أبي سفيان:
أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار، أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين
الأحزاب فأرسل إليه عيينة: إن جعلت لي الشطر، فعلت.» فلولا أنه جائز، لما
جعله له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأن الضرر المخوف
أعظم من الضرر ببذل المال. فجاز دفع أعلاهما بأدناهما.
فصل:
ويجوز في عقد الصلح شرط رد من جاء من أهل الحرب من الرجال؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرط ذلك في صلح الحديبية. ولا يجوز
شرط رد النساء المسلمات، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . ولما عقد النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلح في الحديبية، جاءت أم كلثوم بنت
عقبة بن أبي معيط، فجاء أخواها يطلبانها، فأنزل الله تعالى: {فَلا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، فقال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله منع الصلح في النساء» ؛ ولأنه لا
يؤمن أن تتزوج بمشرك، فيصيبها، أو تفتن في دينها.
ولا يجوز رد الصبيان العقلاء؛ لأنهم بمنزلة المرأة في ضعف قلوبهم، وقلة
معرفتهم، فلا يؤمن أن يفتتنوا عن دينهم. وإن شرط رد الرجال بها، لزم الوفاء
لهم،
(4/167)
بمعنى أنهم إن جاءوا في طلب من جاء منهم،
لم يمنعوا من أخذه ولا يجبره الإمام على الرجوع معهم وله أن يأمره سرا
بالفرار منهم وقتالهم؛ لأن أبا بصير جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلح الحديبية، فجاء الكفار في طلبه، فقال له النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر، وقد
علمت ما عاهدناهم عليه، ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا» ، فرجع معهم،
فقتل أحدهم، ورجع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم
يلمه، ولم ينكر عليه.
وإن جاءت امرأة مسلمة، لم يجز ردها، ولا يجب رد مهرها؛ لأن بضعها لا يدخل
في الأمان. وإنما رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المهر؛
لأنه شرط رد النساء، فكان شرطا صحيحا، فلما نسخ ذلك، وجب رد البدل، لصحة
الشرط، بخلاف حكم من بعده.
فصل:
وإن شرط في الهدنة شرطا فاسدا، كرد المرأة أو مهرها، أو السلاح، أو إدخالهم
الحرم، أو شرط لهم مالا، فهل يبطل عقد الهدنة؟ على وجهين؛ بناء على الشروط
الفاسدة. ومتى وقع العقد باطلا، فدخل بعض الكفار دار الإسلام معتقدا
للأمان، كان آمنا؛ لأنه دخل بناء على العقد. ويرد إلى دار الحرب. ولا يقر
في دار الإسلام؛ لأن الأمان لم يصح.
فصل:
وإن عقدت الهدنة على مدة، وجب الوفاء بها، لما ذكرنا في أول الباب؛ ولأننا
لو نقضنا عهدهم عند قدرتنا عليهم، لنقضوا عهدنا عند قدرتهم علينا، فيذهب
معنى الصلح. وإن مات الإمام أو عزل وولي غيره، لزمه إمضاؤه؛ لأنه عقد لازم،
فلم يجز نقضه بموت عاقده، كعقد الذمة. وعلى الإمام منع من يقصدهم من أهل
دار الإسلام من المسلمين، وأهل ذمتهم؛ لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم. ولا
يجب منعهم ممن يقصدهم من أهل الحرب، ولا منع بعضهم من بعض؛ لأن الهدنة لم
تعقد على ذلك. فإن سباهم قوم، لم يكن للمسلمين شراؤهم؛ لأنهم في عهدهم، فلم
يملكوهم، كأهل الذمة. وإن أتلف عليهم المسلمون شيئا، لزمهم ضمانه؛ لأنهم في
عهد، فأشبه أهل الذمة. وإن جاءنا منهم عبد أو أمة، مسلما، لم يرد إليهم؛
لأنه صار حرا بقهره سيده، وإزالة يده بدخوله دار الإسلام.
فصل:
ومن أتلف منهم شيئا على مسلم، لزمه ضمانه، وإن قتله، فعليه القصاص. وإن
قذفه فعليه الحد؛ لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم، وأمانهم من
المسلمين، في النفس، والمال، والعرض، فلزمهم ما يجب في ذلك. ومن شرب منهم
خمرا أو زنى،
(4/168)
لم يحد لأنه حق الله تعالى ولم يلتزموه
بالهدنة. وإن سرق مال مسلم، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقطع؛ لأنه حق خالص لله تعالى، أشبه حد الزنا.
والثاني: يقطع؛ لأنه يجب لصيانة حق الآدمي، فأشبه حد القذف.
فصل:
وإن نقض أهل الذمة العهد بقتال، أو مظاهرة عدو، أو قتل مسلم، أو أخذ مال،
انتقض عهدهم؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ
عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}
[التوبة: 12] ... الآية، والتي بعدها، وقَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ
يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، وقوله سبحانه: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] ؛
ولأن الهدنة تقتضي الكف، فانتقضت بتركه، ولا يحتاج في نقضها إلى حكم
الإمام؛ لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل، وفعلهم لا يحتمل غير نقض
العهد. وإن نقض بعضهم، وسكت سائرهم، انتقضت الهدنة في الجميع؛ لأن ناقة
صالح عقرها واحد، فلم ينكر عليه قومه، فعذبهم الله سبحانه جميعا. ولما هادن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشا، دخلت خزاعة مع النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبنو بكر مع قريش، فعدت بنو بكر على
خزاعة، وأعانهم نفر من قريش، وأمسك سائر قريش، فكان ذلك نقض عهدهم، فسار
إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى فتح مكة. فإن
أنكر الممسك على الناقض، أو اعتزلهم، أو راسل الإمام به، لم ينتقض عهده؛
لأنه لم ينقض، ولا رضي بالنقض. ويؤمر بتسليم الناقض، أو التميز عنه. فإن لم
يفعل مع القدرة عليه، انتقضت هدنته أيضا؛ لأنه صار مظاهرا للناقض. وإن لم
يقدر على ذلك، فحكمه حكم الأسير. فإذا أسر الإمام منهم قوما، فادعوا أنهم
ممن لم ينقض، وأشكل، قبل قولهم؛ لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم.
فصل:
وإن خاف الإمام نقض العهد منهم، جاز أن ينبذ إليهم عهدهم، لقول الله تعالى:
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى
سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] ، يعني: أعلمهم بنقض العهد، حتى تصير أنت وهم على
سواء في العلم، ولا يكفي بمجرد الخوف حتى تظهر أمارة النقض. ولا يفعل ذلك
إلا الإمام؛ لأن نقضها لخوف الخيانة، يحتاج إلى نظر واجتهاد
(4/169)
فافتقر إلى الحكم، وإن خاف خيانة أهل
الذمة، لم ينبذ إليهم عهدهم؛ لأن النظر في عقدها إليهم. وكذلك إذا طلبوا
الذمة، لزمته إجابتهم إليه. والنظر في الهدنة إلى الإمام، فكان النظر إليه
عند الخوف. ومتى نقضها في دارنا منهم أحد، وجب ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا
بأمان، فوجب ردهم إلى مأمنهم، كما لو أفردهم بالأمان، وإن كان عليهم حق،
استوفي منهم.
[باب عقد الذمة]
ولا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام، أو نائبه؛ لأنه عقد مؤيد تتعلق به
المصالح العامة، فلم يصح من غير الإمام ونائبه. ويجوز عقدها لأهل الكتاب،
والمجوس، لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
[التوبة: 29] ، ولما روى عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المجوس: سنوا بهم سنة
أهل الكتاب» ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ
الجزية من مجوس هجر. وسواء كانوا عربا أو عجما؛ «لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل
حالم دينارا، أو عدله معافر» . رواه أبو داود. وكانوا عربا.
وأهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، ومن وافقهم في أصل دينهم، وآمن بنبيهم
وكتابهم، كالسامرة الموافقة لليهود في موسى والتوراة، والفرنج يوافقون
النصارى في عيسى والإنجيل. وليس المجوس بأهل كتاب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ، ولا المتمسك بدين
إبراهيم وشيث وداود بكتابي، ولا تعقد له ذمة، لقول الله سبحانه: {أَنْ
تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ
قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ، ولا يجوز عقد الذمة لغير أهل الكتاب والمجوس،
كعبدة الأوثان، ومن عبد ما استحسن، والدهرية، ونحوهم، لقول الله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . ثم خص أهل الكتاب بإعطاء
الجزية، وألحق بهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المجوس، فبقي من
عداهم على مقتضى العموم؛ ولأنهم تغلظ كفرهم، لكفرهم بجميع أنبياء الله
تعالى وكتبه. وروى الحسن بن ثواب عن أحمد: أن الجزية تقبل من جميع الكفار،
إلا من عبدة الأوثان من العرب؛ لأنه تغلظ كفرهم
(4/170)
بدينهم وجنسهم، لكونهم رهط النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغيرهم لم يتغلظ كفرهم من الجهتين، فقبلت
الجزية منهم، كالمجوس.
وأما الصابئون، فينظر فيهم. فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين، في نبيهم
وكتابهم، فهم فرقة منهم. وإن لم يوافقوا واحدا منهم، فهم غير أهل الكتاب،
حكمهم حكم عبدة الأوثان.
فصل:
ومن دخل في دين أهل الكتاب، أو المجوس من سائر الكفار، صار منهم، وحكمه
حكمهم. سواء دخل قبل بعث نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو
بعده، لعموم النصوص فيهم. قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد. وقال أبو
الخطاب: من دخل بعد بعث نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو
قبل بعثه، وبعد تبديل كتابهم، لم تعقد له الذمة؛ لأنه دخل في دين باطل. ومن
كان أحد أبويه ممن تعقد له الذمة، والآخر ممن لا تعقد له، عقدت له الذمة،
لما ذكرنا؛ ولأنه تبع لمن يؤخذ منه الجزية؛ لأنه تبعه في الدين، فتبعه في
الجزية، وقال أبو الخطاب: فيه وجهان.
وإن ظهر المسلمون على قوم لا يعرف دينهم، فادعوا أنهم أهل كتاب، قبل منهم؛
لأنهم لا يعرف دينهم إلا من جهتهم. فإن أسلم منهم اثنان، وشهدا أنهم من غير
أهل الكتاب، وكانا عدلين نبذ إليهم عهدهم؛ لأنه بان بطلانهم دعواهم.
فصل:
ومن عقدت له الذمة، أخذت منه الجزية. وفي قدرها ثلاث روايات.
إحداهن: يرجع إلى ما فرضه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليهم، على الموسر
ثمانية وأربعون درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهما، وعلى الفقير
المعتمل اثنا عشر درهما، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه؛ لأن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - فرضها كذلك بمحضر من الصحابة، وتابعه سائر الخلفاء بعده،
فكان إجماعا.
والثانية: يرجع إلى اجتهاد الإمام، في الزيادة على ذلك والنقصان منه، على
ما يراه من المصلحة بعد أن لا يكلفهم فوق طاقتهم؛ «لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: خذ من كل
حالم دينارا» رواه أبو داود. وعمر زاد عليهم، فدل على جواز الزيادة
والنقصان.
(4/171)
والثالثة: يجوز الزيادة، ولا يجوز النقصان؛
لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زاد على ما فرض رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم ينقص. فإذا قلنا: لا تجوز الزيادة، فمتى
بذلوا القدر الواجب، لزم قبوله، وحرم قتالهم، لقول الله تعالى: {حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . فمد قتالهم إلى إعطائها، أي: بذلها.
وإن قلنا له الزيادة، فله أن يزيد بقدر ما يراه. ولا يحرم قتالهم، إلا أن
يبذلوا ما طلب منهم.
فصل:
ويؤخذ من نصارى بني تغلب، مكان الجزية الزكاة، مثلي ما يؤخذ من المسلمين،
من جميع أموالهم الزكاتية، لما روى: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
دعاهم إلى بذل الجزية، فأبوا، وأنفوا، وقالوا: نحن عرب، خذ منا كما يأخذ
بعضكم من بعض باسم الصدقة، فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم
بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إن القوم لهم بأس وشدة،
وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليك عدوك بهم، خذ منهم الجزية باسم
الصدقة، فبعث عمر في طلبهم، فردهم وضعف عليهم من كل خمس من الإبل شاتين،
ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين، ومن كل عشرين دينارا دينارا، ومن كل مائتي درهم
عشرة دراهم، ومما سقت السماء الخمس، وفيما سقي بنضح، أو غرب، أو دولاب،
العشر. فاستقر ذلك من قول عمر، ولم يخالفه غيره من الصحابة فكان إجماعا.
قال أصحابنا: حكم المأخوذ منهم حكم الزكاة، في أنه يؤخذ من مال كل من تؤخذ
منه الزكاة لو كان مسلما. فعلى هذا يؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم،
وزمناهم، ومكافيفهم، وشيوخهم؛ لأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم
من بعض، فأجابهم؛ ولأنهم صينوا عن السبي بهذا الصلح، فجاز أن يدخلوا في
الواجب به، كالرجال. ولا يؤخذ من مال لم يبلغ نصابا، ولا من مال غير زكاتي
كذلك. ومن كان المأخوذ منه أقل من دينار، أجزأ عنه. ومن ليس له نصاب زكاتي،
فلا شيء عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صالحهم على هذا. واختلف
أصحابنا في مصرفه، فقال القاضي: مصرفه مصرف الفيء؛ لأنه جزية باسم الزكاة.
ومعنى الشيء أخص به من اسمه؛ ولأنه مال مشرك أخذ بغير قتال، فكان فيئا
كالجزية.
وقال أبو الخطاب: مصرفه مصرف الصدقة؛ لأنه سلك به مسلكها في قدر المأخوذ،
والمأخوذ منه: فكذلك في المصرف. فإن بذل تغلبي الجزية، مكان المفروض عليهم،
وكان حربيا، قبل منه؛ لأنه كتابي لم يصالح على غير الجزية، فحقن دمه بها
كغيره. وإن كان ممن عقد الذمة، لم يقبل منه؛ لأن الصلح وقع على غير ذلك،
فلم يجز تغييره.
(4/172)
فصل:
فأما سائر أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، فلا يقبل منهم إلا الجزية، ولا
يؤخذون بما يؤخذ به بنو تغلب. نص عليه أحمد، للآية والأخبار. والعرب وغيرهم
في هذا سواء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا
إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، وهم عرب. وإنما خص بنو تغلب
بالصدقة، لصلحهم، فبقي من عداهم على مقتضى النصوص. وذكر القاضي: أن تنوخ
وبهرا، كبني تغلب، وأن عمر صالحهم. وقال أبو الخطاب: وكذلك الحكم فيمن تنصر
من تنوخ وبهرا، أو تهود من كنانة، وحمير، أو تمجس من تميم؛ لأنهم عرب،
فأشبهوا بني تغلب. والصحيح الأول. ولم يصح عن عمر ولا غيره مصالحة غير بني
تغلب على غير الجزية.
فصل:
ولا جزية على صبي، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمعاذ: «خذ من كل حالم
دينارا» ، وروى أسلم أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أمراء
الأجناد: لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من
جرت عليه المواسي. رواه سعيد؛ ولأنها تجب لحقن الدم، وهو محقون بدونها، ولا
على امرأة كذلك، ولا على خنثى مشكل؛ لأنه لا يعلم كونه رجلا، فلم تجب عليه
مع الشك، ولا على مجنون؛ لأنه في معنى الصبي، فنقيسه عليه، ولا على زمن،
ولا أعمى، ولا شيخ فان، ولا راهب؛ لأن دماءهم محقونة، فأشبهوا الصبي
والمرأة، ولا على فقير عاجز عن أدائها، لقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
فأما المعتمل الذي يقدر على كسب ما يقوم بكفايته، فعليه الجزية؛ لأنه في
حكم الأغنياء، ولا تجب على مملوك، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- أنه قال: لا جزية على مملوك؛ ولأنه لا يقتل بالكفر، أشبه الصبي. وعن
أحمد: أن على الذمي أداء الجزية عن مملوكه. وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه ذكر
مكلف قوي مكتسب، أشبه الحر. ومن كان بعضه حرا، فعليه من الجزية بقدر ما فيه
من الحرية؛ لأن حكمه يتبعض، فقسم على قدر ما فيه من الحرية والرق،
كالميراث.
فصل:
ومن بلغ من صبيانهم، أو أفاق من مجانينهم، أو عتق من عبيدهم، فهو من أهلها
بالعقد الأول؛ لأنه تبع من عليه الجزية في الأمان، فيتبعه في الذمة، وتعتبر
جزيته بحاله
(4/173)
لا بحال غيره؛ لأنه حكم يختلف باختلاف
الحال، فاعتبر بحاله، كالزكاة. فإن كان في أثناء الحول، أخذ في آخر الحول
بقدر ما أدرك منه، لئلا تختلف أحوالهم، فيشق ضبطها. ومن كان يجن ويفيق
إفاقة مضبوطة، كيوم ويوم، أو نصف الحول ونصفه، ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر بالأغلب منهما؛ لأن الاعتبار في الأصول بالأغلب.
والثاني: تلفق إفاقته، فإذا بلغ حولا، أخذت الجزية، فإن كان سواء، ففيه
وجهان:
أحدهما: يؤخذ في كل حول نصف جزية؛ لأن الجزية تؤخذ في كل حول، فيؤخذ منه
بقدر ما عليه.
والثاني: تلفق إفاقته، فإذا بلغت حولا، أخذت منه؛ لأن حوله لا يكمل إلا
حينئذ.
فصل:
وإذا كان في الحصن نساء أو من لا جزية عليه، فطلبوا عقد الذمة بغير جزية،
أجيبوا إليها؛ لأنهم محقونون بدونها. وإن بذلوا جزية، أخبروا أنه لا جزية
عليهم، فإن تبرعوا بها، كانت هبة، متى امتنعوا منهم، لم يحوجوا إليها.
فصل:
وتجب الجزية في آخر كل حول؛ لأنه مال يتكرر بتكرر كل الحول، فوجب في آخره،
كالزكاة، والدية. فإن جن قبل انقضائه جنونا مطبقا، أو مات أو أسلم، فلا
جزية عليه؛ لأنه خرج عن أهلية الوجوب قبل الوجوب فلم يجب عليه، كما لو مات
بعض العاقلة قبل الحول، وإن جن أو مات بعد الحول، لم تسقط عنه؛ لأنه دين
وجب عليه في حياته، فأشبه العقل ودين الآدمي. وإن أسلم بعد الحول، سقطت
عنه، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «ليس على المسلم جزية» رواه الخلال. وقال أحمد: قد روي عن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن أخذها في كفه، ثم أسلم، ردها. وروى
أبو عبيد: أن يهوديا أسلم، فطولب بالجزية، وقيل: إنما أسلمت تعوذا، قال: إن
في الإسلام معاذا، فرفع إلى عمر، فقال: إن في الإسلام معاذا، فكتب أن لا
تؤخذ منه الجزية؛ ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر، فيسقطها الإسلام،
كالقتل. وإن اجتمعت على الذمي جزية سنين، أخذت منه، ولم تتداخل؛ لأن الحق
مالي يجب في آخر كل حول، فلم تتداخل، كالدية والزكاة.
(4/174)
فصل:
ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين، لما روى
الأحنف بن قيس: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط على أهل الذمة ضيافة
يوم وليلة، وأن يصلحوا القناطر، وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم، فعليهم
ديته، رواه الإمام أحمد؛ ولأن فيه مصلحة، فإنه ربما تعذر الشراء على
المسلمين، ولا يلزمنهم ذلك إلا برضاهم؛ لأنه أداء مال فلم يلزمهم بغير
رضاهم، كالجزية، وإن امتنعوا من قبول الشرط، لم تعقد لهم الذمة؛ لأنه شرط
سائغ، فإذا امتنعوا منه، لم تعقد لهم، كالجزية. فإن لم تشترط عليهم
الضيافة، لم تجب؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
لمعاذ: خذ من كل حالم دينارا» ولم يذكر الضيافة. ومن أصحابنا من قال: تجب
بغير شرط، كما تجب على المسلمين. وتقسم الضيافة عليهم على قدر جزيتهم،
والأولى أن يبين عدد أيام الضيافة من السنة، وعدد من يضاف من الرجال
والفرسان، وقدر الطعام والإدام والعلوفة؛ لأنه أبعد من اللبس. فإن أطلق
ذلك، جاز. ولا يجب عليهم في الضيافة أكثر من يوم وليلة؛ لأن ذلك الواجب على
المسلم، ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم، لما روى أسلم أن أهل الجزية من
أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا: إن
المسلمين إذا مروا بنا، كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال:
أطعموهم مما تأكلون، ولا تزيدوهم على ذلك. ولا تزاد الضيافة على ثلاثة
أيام، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضيافة ثلاثة
أيام» . وذكر القاضي: أن تقدير أيام الضيافة، وعدد من يضاف، والطعام،
والإدام، والعلوفة شرط؛ لأنه من الجزية، فاعتبر العلم به، كالنقود. والأول
أولى؛ لأن عمر لم يقدره، ولما شكوا إليه اعتداء الأضياف، قال: أطعموهم مما
تأكلون. وللمسلمين النزول في الكنائس، والبيع؛ لأن عمر صالح أهل الشام على
أن يوسعوا أبواب كنائسهم، وبيعهم لمن يجتاز بهم من المسلمين، ليدخلها
المسلمون ركبانا. فإن لم يجدوا مكانا، فلهم النزول في الأفنية، وفضول
المنازل من غير أن يحولوا ذا منزل عن منزله. فإن لم يسعهم، فالسابق أحق،
فإن تساووا، وتشاحوا، أقرع بينهم. فإن امتنع أهل الذمة مما شرط عليهم،
أجبروا عليه، فإن لم يمكن إلا بالمقاتلة، قوتلوا، فإن قاتلوا، انتفض عهدهم.
فصل:
ويثبت الإمام عدد أهل الذمة، وأسماءهم، وأنسابهم، ودينهم، وحلاهم التي لا
تتغير بالأيام، كالطول، والقصر، والبياض، والسواد، والسمرة، فيكتب أدعج
العينين،
(4/175)
أقنى الأنف، مقرون الحاجبين. ويثبت ما يأخذ
منهم، ويجعل لكل طائفة عريفا، يجمعهم عند أداء الجزية، ويعرف من يبلغ من
غلمانهم، ويفيق من مجانينهم، ويقدم من غائبهم، ومن يموت أو يسلم؛ لأنه أمكن
لاستيفاء الجزية وأحوط. وتؤخذ الجزية مما تيسر من أموالهم، لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا، أو
عدله معافر» .
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذ من أهل نجران ألفي
حلة، وكان علي يأخذ من كل ذي صناعة من صناعته التي عنده، ومن قبضت جزيته،
كتب له براءة، لتكون له حجة إذا احتاج إليها، ويمتهنون عند أخذ الجزية
منهم، ويطال قيامهم، وتجر أيديهم عند أخذها. ومن بعثها منهم، لم تقبل حتى
يحضر فيؤديها، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
فصل:
إذا مات الإمام، أو عزل وولي غيره، لم يحتج إلى تجديد عقد؛ لأن الخلفاء لم
يجددوا لمن كان في زمنهم عقدا؛ ولأنه عقد لازم، فأشبه الإجارة، فإن عرف
الثاني مبلغ المشروط عليهم، أقرهم عليه، وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فيما
يسوغ جعله جزية؛ لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم. فإن ثبت بعد ذلك أنهم
نقصوا من الشروط التي عليهم شيئا، رجع عليهم فيما نقص. وإن قال بعضهم: كنا
نؤدي دينارا، وقال بعضهم: كنا نؤدي دينارين، أخذ كل واحد منهم بإقراره، ولم
يقبل قول بعضهم على بعض؛ لأن أقوالهم غير مقبولة.
[باب المأخوذ من أحكام أهل الذمة]
لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين، بذل الجزية، والتزام أحكام الملة من حقوق
الآدميين في العقود والمعاملات، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات. فإن عقد
على غير هذين الشرطين، لم يصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . قيل: الصغار:
جريان أحكام المسلمين عليهم. ومن ادعى منهم كتابا من عمر أو علي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - بالبراءة من الجزية، لم يصدق؛ لأنه لا أصل له، ولم
يذكره علماء الإسلام، وأخبار أهل الذمة لا تقبل.
(4/176)
فصل:
ويلزمهم التميز عن المسلمين في أربعة أشياء: لباسهم، وشعورهم، وركوبهم،
وكناهم؛ لما روى إسماعيل بن عياش، عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل
الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه
بالمسلمين في لبس قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في
مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، وأن لا نتكنى بكناهم، وأن نجز مقادم رءوسنا،
ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير في أوساطنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية
ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف.
وذكر سائره. رواه الخلال بإسناده.
وذكر في آخره: فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه
عمر: أن أمض لهم ما سألوا. فيجعلون فيما يظهر من ثيابهم ثوبا يخالف لونه
لون سائر ثيابهم، كالعسلي والأدكن، والأزرق، والأصفر. ويشدون الزنانير في
أوساطهم فوق ثيابهم، وإن لبسوا العمائم، أو القلانس، جعلوا فيها خرقة تخالف
لونها، ويختم في رقاب رجالهم ونسائهم خواتيم من رصاص، أو حديد، ليتميزوا في
الحمام عن المسلمين. وتأخذ نساؤهم بالغيار والزنار تحت ثيابهن، لئلا تنكشف
رءوسهن إن شددنه فوق ثيابهن، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه
كتب إلى أهل الآفاق: مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن. وإن لبسن
الخفاف، جعلن الخفين من لونين، ليتميزن عن نساء المسلمين. فإن شرط عليهم
الجمع بين الزنار والغيار، أخذوا به. وإن شرط أحدهما، اكتفي به، ولا يمنعون
من لبس فاخر الثياب، والطيلسان؛ لأن التمييز حصل بما ذكرناه. وأما التميز
في الشعور، فبأن يحذفوا مقاديم رءوسهم، ولا يفرقون شعورهم؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق شعره.
وأما التميز في الركوب، فلا يركبون الخيل؛ لأن ركوبها عز، ولهم ركوب ما
سواها على غير السروج، وروي عن ابن عمر: أن عمر أمر أن يركبوا عرضا على
الأكف بالعرض، ولا يتكنون بكنى المسلمين، كأبي القاسم، وأبي بكر، وأبي عبد
الله، ونحوها، ولا يمنعون من الكنى بالكلية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسقف نجران: «أسلم أبا الحارث» ، وقال عمر
لنصراني: يا أبا حسان، أسلم تسلم. ذكرهما أحمد.
فصل:
ولا يتصدرون في المجالس عند المسلمين؛ لأن في كتابهم لعبد الرحمن بن غنم:
وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشد الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إذا
أرادوا
(4/177)
المجالس، ولا نطلع عليهم في منازلهم. ولا
يبدءون بالسلام، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا لقيتم اليهود في الطريق فاضطرهم إلى أضيقها،
ولا تبدءوهم بالسلام» .
وإن سلموا عليه، قال: وعليكم، لما روى أبو بصرة قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا غادون، فلا تبدءوهم بالسلام،
وإن سلموا عليكم، فقولوا: وعليكم» . قيل لأحمد: فإنا نأتيهم في منازلهم
وعندهم قوم مسلمون، أفنسلم عليهم؟ قال: نعم، ننوي السلام على المسلمين.
فصل:
ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم المسلمين، لقولهم في شروطهم: ولا
نطلع عليهم في منازلهم، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «الإسلام يعلو ولا يعلى» ، وفي مساواتهم وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه لا يفضي إلى علو الكفر.
والثاني: لا يجوز؛ لأن القصد علو الإسلام، ولا يحصل مع المساواة. فإن لم
يكن لهم جار مسلم، لم يمنعوا من تعلية بنيانهم؛ لأنه لا يضر المسلمين. وإن
ملكوا دارا عالية من مسلم، لم يؤمروا بنقضها؛ لأنهم ملكوها على هذه الصفة.
فصل:
ويمنعون من إظهار المنكر، كالخمر، والخنزير، وضرب الناقوس، ورفع أصواتهم
بكتابهم، وإظهار أعيادهم، وصلبهم، لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم:
إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا،
ولا نظهر عليها صليبا، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا القراءة في صلاتنا
فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين، وأن لا
نخرج باعوثا، ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران
معهم في أسواق المسلمين، ولا نجاورهم بالخنازير، ولا نظهر شركا، ولا نرغب
في ديننا، ولا ندعو إليه أحدا.
والباعوث: عيد يجتمعون له، كما يخرج المسلمون يوم الفطر والأضحى.
فصل:
ويمنعون من إحداث البيع، والكنائس والصوامع في بلاد المسلمين، لما روي في
(4/178)
شروطهم لعبد الرحمن بن غنم: إن شرطنا لك
على أنفسنا، أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا، ولا قلاية،
ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط
المسلمين. وما كان فيها قبل الفتح في بلد فتح صلحا، أقر؛ لأن الصحابة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أقروهم على كنائسهم، وبيعهم، وما فتح عنوة
فكذلك؛ لأن الكنائس والبيع، موجودة في جميع بلاد المسلمين من غير نكير، ولم
تهدمها الصحابة في بلد فتحوه. وفيه وجه آخر، أنها تهدم لأنها بلاد مملوكة
للمسلمين، فلم يجز أن يكون فيها بيعة، كالتي مصرها المسلمون، ويجوز رم ما
تشعث من بيعهم وكنائسهم رواية واحدة؛ لأنه أبقى لها فأشبه تطيين سطوحها.
وأما تجديد ما خرب منها فلا يجوز؛ لقولهم: ولا نجدد ما خرب من كنائسنا؛
ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام، فمنع منه كابتداء بنائها. وعنه: يجوز؛
لأنه أبقى لها، أشبه لَمْ مَا تشعث. وإن عقدت لهم الذمة في بلد ينفردون به،
لم يمنعوا من شيء مما ذكرناه، ولم يأخذوا بغيار، ولا زنار؛ لأنهم في
بلدانهم، فلم يمنعوا من إظهار دينهم.
فصل:
وينعون من سكنى الحجاز؛ لما روى أبو عبيدة بن الجراح: أن «آخر ما تكلم به
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أخرجوا اليهود من
الحجاز» ، رواه أحمد وأبو داود. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه
سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لأخرجن اليهود
والنصارى من جزيرة العرب» رواه مسلم. والمراد الحجاز، بدليل أن أحدا من
الخلفاء لم يخرج أحدا من اليمن، ولا أهل تيماء، فدل على أن المراد به
الحجاز، وهو مكة، والمدينة، واليمامة، وخيبر، وفدك، وما والاها - سمي
حجازا؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد - وليس نجران من الحجاز، وإنما أجلاهم عمر
منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالحهم على ألا
ياكلوا الربا فأكلوه، ونقضوا العهد، فأمر بإجلائهم، فأجلاهم عمر. ويجوز
تمكينهم من دخول الحجاز لغير إقامة؛ لأنهم كانوا يدخلونه في زمن عمر،
وعثمان، والخلفاء بعدهم. ولا يجوز لهم الدخول، إلا بإذن الإمام؛ لأن دخولهم
إنما أجيز لحاجة المسلمين، فوقف على رأي الإمام، كدخول الحربي دار الإسلام،
فمن استأذن منهم في الدخول فيما للمسلمين فيه نفع، كتجارة، ورسالة، ونحوها،
أذن له لما فيه من المصلحة، فإذا دخل، لم يقم في موضع أكثر من ثلاثة أيام؛
لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذن لمن دخل
(4/179)
منهم تاجرا، في إقامة ثلاثة أيام. فإذا
انتقل إلى موضع آخر، فله أن يقيم فيه ثلاثة أخر؛ لأنه لا يصير مقيما في
موضع، فأشبه المسافر، وإن مرض فعجز عن الخروج، أقام حتى يبرأ؛ لأنه موضع
ضرورة، وإن مات دفن فيه؛ لأنه موضع حاجة.
فصل:
ويمنعون من دخول الحرم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:
28] . والمسجد الحرام: الحرم، بدليل قوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]
وأراد مكة؛ لأنه أسري به من بيت أم هانئ. فإن جاء رسولا، خرج إليه من يسمع
منه، فإن لم يكن له بد من لقاء الإمام، خرج إليه، ولم يأذن له، فإن دخله
عالما بالمنع، عزر، وإن كان جاهلا، أخرج ونهي وهدد، وإن كان مريضا، أو
ميتا، أخرج ولم يدفن فيه، فإن دفن نبش وأخرج إلا أن يكون قد بلي؛ لأنه إذا
لم يجز دخوله في حياته، فدفن جيفته فيه أولى.
وحد الحرم: من طريق المدينة، على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على سبعة
أميال، ومن طريق الجعرانة تسعة أميال، ومن طريق عرفة سبعة أميال، ومن طريق
جدة عشرة أميال، فإن صالحهم على دخوله لم يجز، وإن كان بعوض لم يجز. فإن
دخلوا إلى الموضع الذي صالحهم عليه، أخذ منهم العوض؛ لأنهم استوفوا المعوض،
فلزمهم العوض. فإن دخلوا إلى بعضه، أخذ منهم بقدره.
فصل:
وليس لهم دخول مساجد الحل، بغير إذن مسلم. فإن دخل عزر، لما روت أم غراب
قالت: رأيت عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المنبر وبصر بمجوسي، فنزل،
فضربه، وأخرجه من أبواب كندة.
فإن أذن له مسلم في الدخول، جاز في الصحيح من المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم عليه وفد الطائف، فأنزلهم المسجد قبل
إسلامهم.
وعنه: لا يجوز؛ لما روى عياض الأشعري: أن أبا موسى قدم على عمر ومعه
نصراني، فأعجب عمر خطه، وقال: قل لكاتبك هذا يقرأ علينا كتابه، قال: إنه لا
يدخل المسجد. قال: لم؟ أجنب هو؟ قال: هو نصراني، فانتهره عمر؛ ولأن الجنب
يمنع المسجد، فالمشرك أولى.
(4/180)
فصل:
وعلى الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع من يقصدهم بأذى، من المسلمين والكفار،
واستنقاذ من أسر منهم، بعد استنقاذ أسارى المسلمين، واسترجاع ما أخذ منهم؛
لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم، وحفظ أموالهم، وإن أخذ منهم خمر، أو خنزير، لم
يجب استرجاعه؛ لأنه محرم، لا يحل اقتناؤه. وإن أخذ منهم أهل الحرب مالا، ثم
قدر عليه المسلمون، رد إليهم إذا علم به قبل القسمة، كمال المسلم. وحكم
أموالهم في الضمان حكم أموال المسلمين.
فصل:
وإذا تحاكم مسلم وذمي إلى الحاكم، لزمه الحكم بينهما؛ لأن إنصاف المسلم
والإنصاف منه واجب. وإن تحاكم ذميان إليه، ففيه روايتان:
إحداهما: يلزمه الحكم بينهما، لقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ؛ ولأن دفع الظلم عنهم واجب، والحكم
طريق له، فوجب كالحكم بين المسلمين.
والثانية: لا يجب، بل يخير بين الحكم بينهم وبين تركهم، لقول الله تعالى:
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:
42] ؛ ولأنهما كافران، فلم يجب الحكم بينهما كالمستأمنين، ولا يحكم بينهما
إلا بحكم الإسلام، لقول الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] ، وإن دعي أحدهما إلى الحكم، لزمته الإجابة،
وإن تحاكم إليه مستأمنان، خير بين الحكم بينهما وبين تركهما، للآية. وإن
دعاهما إلى الحكم أو أحدهما، لم يلزمهما الحضور؛ لأن قَوْله تَعَالَى:
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:
42] نزلت في المعاهدين قبل الولاية.
فصل:
ومن أتى محرما من أهل الذمة، مما يعتقد تحريمه في دينه، كالقتل، والزنا،
والسرقة، والقذف، وجب عليه ما يجب على المسلم؛ لما روى أنس: «أن يهوديا،
قتل جارية على أوضاح لها، فقتله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بين حجرين» . متفق عليه.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى
بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما، فرجمهما» ؛ ولأنه محرم في دينه، وقد التزم
حكم الإسلام، فثبت في حقه حكمه، كالمسلم.
(4/181)
فأما ما لا يعتقد تحريمه، كشرب الخمر،
ونحوه، فلا حد عليه فيه؛ لأنه يعتقد حله، فلم يجب عليه عقوبة، كالكفر، ولا
يمكن من التظاهر به؛ لأنه منكر، فلا يمكن من إظهاره، فإن أظهره عزر.
[باب العشور]
من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده ثم عاد، أخذ منه نصف عشر ما معه من
المال، لما روى أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك إلى العشور، فقلت:
تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ فقال: ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عمر
بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر،
ومن أهل الذمة نصف العشر. رواه الإمام أحمد.
والذكر والأنثى سواء في هذا؛ للخبر؛ ولأنه حق مال التجارة، فوجب على الأنثى
كالزكاة، وقال القاضي: لا يجب على النساء؛ لأنه لا جزية عليهن، فعلى قوله
لا تؤخذ إلا ممن تجب عليه الجزية من أهل الذمة، والأول أصح. وسواء كان
تغلبيا، أو غيره، لعموم هذا الخبر؛ ولأن الواجب على التغلبي ضعف ما على
المسلم، وذلك نصف العشر. وعن أحمد: أن الواجب عليه العشر، لما روى زياد بن
حدير، قال: بعثني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مصدقا، فأمرني أن آخذ من
نصارى بني تغلب العشر، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر. رواه أحمد أيضا.
وإن دخل إلينا تاجر حربي، أخذ منه العشر، لما روى لاحق بن حميد، قال: قالوا
لعمر: كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم؟
قالوا: العشر. قال: فكذلك خذوا منهم.
وإن رأى الإمام التخفيف عليهم، أو الترك لمصلحة، فعل ذلك؛ لأنه فيء، فملك
تخفيفه كالخراج. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يأخذ من
النبط من القطنية العشر، ومن الحنطة والزبيب نصف العشر، ليكثر الحمل إلى
المدينة. وذكر القاضي: أنهم إذا دخلوا بميرة، لم يؤخذ منهم شيء؛ لأنهم لنفع
المسلمين. وظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يؤخذ من الكل، وحديث
عمر دليل عليه؛ لأنه أخذ من الحنطة والزبيب. فإن كانت تجارته في الخمر
وخنزير، ففيه روايتان:
إحداهما: يؤخذ من ثمنها حقها. قال أحمد في حديث سويد بن غفلة في قول عمر:
ولوهم بيع الخمر والخنزير لعشرها. هذا إسناد جيد، ولا يكون ذلك إلا على
الآخذ منها.
والثانية: لا يؤخذ منها شيء، لما روى أبو عبيد بإسناده: أن عتبة بن فرقد
بعث
(4/182)
إلى عمر بأربعين ألف درهم صدقة الخمر، فكتب
إليه عمر: بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين، فأخبر بذلك
الناس، وقال: والله لا استعملتك على شيء بعدها، فنزعه، وقول عمر: ولوهم
بيعها وخذوا من ثمنها في الخراج؛ لأن بلالا قال لعمر: إن عمالك يأخذون
الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوها منهم وخذوا أنتم من الثمن.
فصل:
ولا يؤخذ في السنة إلا مرة، نص عليه أحمد، وقال ابن حامد: يؤخذ من الحربي
كلما دخل إلينا؛ لأننا لو لم نأخذ منه كل مرة، لم نأمن أن لا يدخل إذا جاء
وقت السنة فيتعذر الأخذ، والأول أصح، لما روي أن نصرانيا جاء إلى عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: إن عاملك عشرني مرتين. قال عمر:
ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ النصراني. قال عمر: وأنا الشيخ الحنيف، ثم كتب إلى
عامله أن لا تعشر في السنة إلا مرة، رواه الإمام أحمد.
ولأنه حق مال التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة، كالزكاة. وما ذكره ابن
حامد لا يلزم؛ لأنه يوجد منه أول مرة، ثم لا يؤخذ منه شيء حتى يحول عليه
الحول. وينبغي أن يكتب له كتابا بما أخذ منه، ووقت الأخذ، وقدر المال؛
ليكون حجة له حتى لا يؤخذ منه عشر ما أدى عشره قبل انقضاء الحول.
فصل:
ولا يجب في أقل من عشرة دنانير. نص عليه. وهل يجب العشر في العشرة، أو في
العشرين؟ على روايتين:
إحداهما: تجب في العشرة؛ لأنها مال يبلغ واجبه نصف مثقال، فوجب فيه
كالعشرين للمسلم.
والثانية: لا يجب إلا في عشرين؛ لأنه لا يجب في أقل منها زكاة على مسلم،
ولا تغلبي، فلم يجب فيه على ذمي شيء، كاليسير. وقال ابن حامد: يجب في
القليل والكثير؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خذ من كل عشرين
درهما درهما.
فصل:
وإن مر على العاشر منتقل بماله، لم يؤخذ منه لأنه لغير التجارة، وإن كانت
معه تجارة، وعليه دين، فظاهر كلام أحمد أنه يمنع الأخذ منه؛ لأنه حق مال
يتعلق بالتجارة، فمنع الدين وجوبه كالزكاة. ولا تقبل دعوى الدين إلا ببينة؛
لأن الأصل براءة
(4/183)
ذمته منه وإن كانت معه جارية، فادعى أنها
ابنته، ففيه روايتان:
إحداهما: يقبل؛ لأن الأصل عدم الملك فيها.
والثانية: لا يقبل؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليها.
[باب ما ينتقض به عهد الذمة]
باب ما ينتقض به العهد ينتقض عهد الذمي بأحد ثلاثة أشياء: الامتناع من بذل
الجزية، والامتناع من التزام أحكام الإسلام، وقتال المسلمين، سواء شرط
عليهم أو لم يشرط؛ لأن الله أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية، ويلتزموا أحكام
الملة، فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم. فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد؛ لأن
العقد يقتضي الأمان من الجانبين، والقتال ينافيه، فانتقض العهد به. فأما ما
سوى ذلك فقسمان:
أحدهما: ما فيه ضرر بالمسلمين، وهو ثمانية أشياء: قتل مسلم، أو فتنه عن
دينه، أو قطع الطريق عليه، أو الزنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح، أو إيواء
جاسوس، أو دلالة على عورات المسلمين، أو ذكر الله تعالى أو رسوله أو كتابه
بسوء، ففيه روايتان:
إحداهما: ينتقض العهد به، سواء شرط أو لم يشرط، لما روي عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: أنه رفع إليه رجل أراد استكراه مسلمة على الزنا، فقال:
ما على هذا صالحناكم، وأمر به، فصلب في بيت المقدس. وقيل لابن عمر: إن
راهبا يشتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو
سمعته لقتلته، إنا لم نعط الأمان على هذا. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أنه أمر عبد الرحمن بن غنم: أن يُلْحِق في كتاب صلح الجزيرة: ومن
ضرب مسلما فقد خلع عهده؛ ولأنه لم يف بمقتضى الذمة، وهو الأمن من جانبه،
فانتقض عهده، كما لو قاتل المسلمين.
والثانية: لا ينتقض العهد به، ويقام عليه حد ذلك؛ لأن ما يقتضيه العهد من
التزام أداء الجزية، وأحكام المسلمين، والكف عن قتالهم - باق، فوجب بقاء
العهد، فأما سائر الخصال، كالتميز عن المسلمين، وترك إظهار المنكر، ونحوه،
فإن لم يشترط عليهم، لم ينتقض عهدهم به؛ لأن العقد لا يقتضيها، ولا ضرر على
المسلمين فيها، وإن شرطت عليهم، فظاهر كلام الخرقي أن عهدهم ينتقض
بمخالفتها، لقوله: ومن نقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه، حل دمه
وماله. ووجهه: أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم، بعد استيفاء
الشروط: وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان
عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل من أهل
(4/184)
المعاندة والشقاق؛ ولأنه عقد بشرط، فزال
بزوال شرطه، كما لو امتنع من بذل الجزية. وقال غيره من أصحابنا: لا ينتقض
العهد به؛ لأنه لا ضرر على المسلمين فيه، ولا ينافي عقد الذمة، ولكنه يعزر،
ويلزم ما تركه.
فصل:
ومن نقض العهد، خير الإمام فيه بين أربعة أشياء، كالأسير الحربي؛ لأن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلب الذي أراد استكراه المرأة؛ ولأنه كافر لا أمان
له، فأشبه الحربي. ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه؛ لأن النقض وجد منه
دونهم، فاختص حكمه به، ولو هرب بأهله وذريته إلى دار الحرب، لم ينتقض عهد
ذريته، ولم يجز سبيهم لذلك، فأما المرأة فإن هربت طائعة انتقض عهدها؛ لأن
النقض وجد منها، وإن لم تكن طائعة لم ينتقض عهدها؛ لأنه لم يوجد منها. ومن
ولد له بعد دخوله دار الحرب، فلا عهد له. والله تعالى أعلم.
تم، والحمد لله على تمامه، والله المسئول الزيادة من إنعامه، فرغ من تصنيفه
عشية يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة بمدينة
دمشق المحروسة، والله المحمود المشكور.
(4/185)
|