المبدع
شرح المقنع ط العلمية [الْكَلَامُ عَلَى الْحَمْدِ لِلَّهِ]
قَالَ الْمُؤَلِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الْحَمْدُ) افْتَتَحَ كِتَابَهُ
بَعْدَ التَّبَرُّكِ بِالْبَسْمَلَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ أَدَاءً لِحَقٍّ
مُنْبِئٍ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ شُكْرِ نَعْمَائِهِ الَّتِي
تَأْلِيفُ هَذَا الْمُخْتَصَرِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا، وَلِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا
يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمَعْنَى " ذِي بَالٍ " أَيْ: حَالٍ يُهْتَمُّ
بِهِ، وَالْأَجْذَمُ، بِالْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ
الْأَقْطَعُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَقْطُوعُ الْبَرَكَةِ.
وَالْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ،
سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِالنِّعْمَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَالشُّكْرُ يُنْبِئُ
عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ، لِكَوْنِهِ مُنْعِمًا، سَوَاءٌ كَانَ
بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالْجَنَانِ، أَوْ بِالْأَرْكَانِ، فَمَوْرِدُ
الْحَمْدِ هُوَ اللِّسَانُ وَحْدَهُ، وَمُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةُ
وَغَيْرُهَا، وَالشُّكْرُ يَعُمُّ اللِّسَانَ وَغَيْرَهُ، وَمُتَعَلِّقُهُ
النِّعْمَةُ فَقَطْ، فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ بِاعْتِبَارِ
الْمُتَعَلِّقِ، وَأَخَصُّ بِاعْتِبَارِ الْمَوْرِدِ، وَعَكْسُهُ
الشُّكْرُ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّهُمَا
يَجْتَمِعَانِ فِي مَادَّةٍ، وَهُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ فِي
مُقَابَلَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي صِدْقِ الْحَمْدِ فَقَطْ،
عَلَى الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ، وَصِدْقِ الشُّكْرِ فَقَطْ،
عَلَى الثَّنَاءِ بِالْجَنَانِ أَوِ الْأَرْكَانِ فِي مُقَابَلَةِ
الْإِحْسَانِ. وَقِيلَ: الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ، وَقِيلَ: هُمَا
سَوَاءٌ. وَنَقِيضُ الْحَمْدِ: الذَّمُّ، وَنَقِيضُ الشُّكْرِ: الْكُفْرُ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعُمُومِ، أَيْ: يَسْتَحِقُّ الْمَحَامِدَ
كُلَّهَا، وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ، فَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ:
هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ " الْحَمَدَةِ " وَهِيَ شِدَّةُ لَهَبِ النَّارِ،
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هُوَ مَقْلُوبٌ مِنَ " الْمَدْحِ "
كَقَوْلِهِمْ: مَا أَطْيَبَهُ وَأَيْطَبَهُ.
(لِلَّهِ) اسْمٌ لِلذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ، الْمُسْتَحِقِّ
لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلِ: الْحَمْدُ لِلْخَالِقِ،
أَوْ لِلرَّزَّاقِ مِمَّا يُوهِمُ بِاخْتِصَاصِ اسْتِحْقَاقِهِ الْحَمْدَ
بِوَصْفٍ دُونَ وَصْفٍ. وَنَقَلَ الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، لِأَنَّهُ فِي سَائِرِ
تَصَارِيفِهِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ. وَذَهَبَ الْخَلِيلُ
بْنُ أَحْمَدَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ، وَذَهَبَ
آخَرُونَ وَحَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ إِلَى خِلَافِهِ، فَقِيلَ:
هُوَ مِنْ أَلَهَ بِالْفَتْحِ " إِلَاهَةً "، أَيْ: عَبَدَ عِبَادَةً،
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةَ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَلَهْتُ إِلَى فُلَانٍ أَيْ:
سَكَنْتُ إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ: إِلَهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ
الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَصَارَ " الْإِلَهُ "، ثُمَّ أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ
الْهَمْزَةِ عَلَى لَامِ التَّعْرِيفِ، ثُمَّ سُكِّنَتْ، وَأُدْغِمَتْ فِي
اللَّامِ الثَّانِيَةِ، فَصَارَ " اللَّهَ " بِالتَّرْقِيقِ، ثُمَّ فُخِّمَ
إِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا، فَقِيلَ: " اللَّهُ " كَذَا قَرَّرَهُ أَبُو
الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ.
وَهُوَ عَرَبِيٌّ خِلَافًا لِلْبَلْخِيِّ فِي تَعْرِيبِهِ مِنَ
السُّرْيَانِيَّةِ.
(الْمَحْمُودِ) هُوَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْأَوْلَى جَرُّهُ،
وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنَ الصِّفَاتِ. (عَلَى
(1/14)
عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ، الْعَالِمِ بِعَدَدِ
الْقَطْرِ، وَأَمْوَاجِ الْبِحَارِ، وَذَرَّاتِ الرِّمَالِ، لَا يَعْزُبُ
عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا
تَحْتَ أَطْبَاقِ الْجِبَالِ، عَالِمِ الْغَيْبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
كُلِّ حَالٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَأَى مَا يُعْجِبُهُ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ،
قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» . (الدَّائِمِ) قَالَ
تَعَالَى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] أَيْ: مُسْتَمِرٌّ، وَلَمَّا
كَانَ أَحَقُّ الْأَشْيَاءِ بِالدَّوَامِ هُوَ اللَّهُ، كَانَ الدَّائِمُ
هُوَ اللَّهَ تَعَالَى. (الْبَاقِي) قَالَ تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ} [الرحمن: 27] وَالدَّوَامُ أَعَمُّ مِنَ الْبَقَاءِ، لِأَنَّهُ
يُسْتَعْمَلُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَيُسَمَّى أَزَلِيًّا، وَفِي
الْمُسْتَقْبَلِ وَيُسَمَّى أَبَدِيًّا. (بِلَا زَوَالٍ) ، أَيْ: بِلَا
انْفِصَالٍ، (الْمُوجِدِ) هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَوْجَدَ، (خَلْقَهُ) ،
أَيْ: مَخْلُوقَاتِهِ، إِذِ الْمَصْدَرُ يَرِدُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ،
كَقَوْلِهِمُ: الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ مَضْرُوبُهُ. (عَلَى
غَيْرِ مِثَالٍ) سَبَقَ، لِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا مِنَ الْعَدَمِ، لِكَمَالِ
قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ.
(الْعَالِمِ) هُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَوْصَافِهِ الذَّاتِيَّةِ، لِأَنَّهُ
يُوصَفُ بِهِ، وَلَا يُوصَفُ بِنَقِيضِهِ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِلْمٍ، وَعِلْمُهُ قَدِيمٌ،
لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، وَلَا نَظَرِيٍّ، وِفَاقًا. (بِعَدَدِ) يُقَالُ:
عَدَدْتُ الشَّيْءَ عَدًّا: أَحْصَيْتُهُ، وَالِاسْمُ: الْعَدَدُ،
وَالْعَدِيدُ، يُقَالُ: هُمْ عَدِيدُ الْحَصَى وَالثَّرَى، أَيْ: فِي
الْكَثْرَةِ. (الْقَطْرِ) جَمْعُ قَطْرَةٍ، وَهُوَ الْمَطَرُ، وَقَدْ
قَطَرَ الْمَاءُ، يَقْطُرُ قَطْرًا، وَقَطَرْتُهُ أَنَا، يَتَعَدَّى، وَلَا
يَتَعَدَّى. (وَأَمْوَاجِ) يُقَالُ: مَاجَ الْبَحْرُ، يَمُوجُ مَوْجًا:
إِذَا اضْطَرَبَ وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَمُوجُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(الْبَحْرِ) هُوَ خِلَافُ الْبَرِّ، يُقَالُ: يُسَمَّى بِهِ لِعُمْقِهِ
وَاتِّسَاعِهِ، وَالْجَمْعُ أَبْحُرٌ، وَبِحَارٌ، وَبُحُورٌ، وَكُلُّ
نَهْرٍ عَظِيمٍ بَحْرٌ، وَيُسَمَّى الْفَرَسُ الْوَاسِعُ الْجَرْيِ
بَحْرًا، وَمَاءٌ بَحْرٌ، أَيْ: مِلْحٌ، وَتَبَحَّرَ فِي الْعِلْمِ
وَغَيْرِهِ.، أَيْ: تَعَمَّقَ فِيهِ وَتَوَسَّعَ. (وَذَرَّاتِ الرِّمَالِ)
الذَّرَّاتُ: وَاحِدُهَا ذَرَّةٌ، وَهِيَ صُغْرَى النَّمْلِ، ثُمَّ
اسْتُعْمِلَ فِي الرَّمْلِ تَشْبِيهًا.
(لَا يَعْزُبُ) هُوَ بِضَمِّ الزَّايِ وَكَسْرِهَا، أَيْ: لَا يَبْعُدُ
وَلَا يَغِيبُ (عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) أَيْ: زِنَةُ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ
(فِي الْأَرْضِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -:
خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ عَلَى قَرْنِ ثَوْرٍ، وَالثَّوْرُ وَاقِفٌ عَلَى
ظَهْرِ نُونٍ، وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ صَفَا،
وَالصَّفَا عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ،
وَالصَّخْرَةُ عَلَى الرِّيحِ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا
لُقْمَانُ لَيْسَتْ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) . قَالَ
الْحُكَمَاءُ: الْأَرْضُ جِسْمٌ بَسِيطٌ كُرِّيٌّ بَارِدٌ يَابِسٌ،
يَتَحَرَّكُ إِلَى الْوَسَطِ، وَلَوْلَا بُرُودَتُهَا وَيُبْسُهَا مَا
أَمْكَنَ قَرَارُ الْحَيَوَانِ عَلَى ظَهْرِهَا، وَمَدَرَتِ الْمَعَادِنُ
وَالنَّبَاتُ فِي بَطْنِهَا، وَخُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ فِي قَوْلٍ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] وَهِيَ سَبْعٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ
الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«مَنِ اقْتَطَعَ مِنَ الْأَرْضِ شِبْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ، طُوِّقَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» {وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]
قَالَ قَتَادَةُ: خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27]
(1/15)
وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ،
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى وَآلِهِ خَيْرِ
آلٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
إِلَى قَوْلِهِ: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]
وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}
[الأنعام: 1] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهُ تَعَالَى أَيْبَسَ الْمَاءَ
الَّذِي كَانَ عَرْشُهُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَهُ أَرْضًا، وَثَارَ مِنْهُ
دُخَانٌ، فَارْتَفَعَ فَجَعَلَهُ سَمَاءً، فَصَارَ خَلْقُ الْأَرْضِ قَبْلَ
السَّمَاءِ، ثُمَّ قَصَدَ أَمْرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ إِذَا
خَلَقَهَا غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ. (وَلَا تَحْتَ أَطْبَاقِ الْجِبَالِ) :
وَاحِدُهَا جَبَلٌ، وَأَعْظَمُهَا خَلْقًا جَبَلُ قَافٍ، قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ جَبَلٌ أَخْضَرُ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ،
وَمِنْهَا خُضْرَةُ السَّمَاءِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِالدُّنْيَا إِحَاطَةَ
بَيَاضِ الْعَيْنِ بِسَوَادِهَا، وَمِنْ وَرَائِهِ خَلَائِقُ لَا
يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَخَلَقَهَا اللَّهُ لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ
الْحُوتَ لَمَّا اضْطَرَبَ تَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهَا
الْجِبَالَ، فَقَرَّتْ، فَالْجِبَالُ تَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ
تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ}
[الأنبياء: 31] قَالَ بَعْضُ الْمُهَنْدِسِينَ: لَوْ لَمْ تَكُنِ
الْجِبَالُ لَكَانَ وَجْهُ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرًا أَمْلَسَ، وَلَوْ كَانَ
كَذَلِكَ، لَغَطَّى الْمَاءُ جَمِيعَ جِهَاتِهَا وَأَحَاطَ بِهَا.
(عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا غَابَ
عَنِ الْعُيُونِ، مِمَّا لَمْ يُعَايَنْ وَلَمْ يُشَاهَدْ، وَقِيلَ: هُمَا
السِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ. وَالْإِشَارَةُ بِهِ أَنَّ الْعِلْمَ
يَنْقَسِمُ إِلَى شَهَادَةٍ وَغَيْبٍ، فَالشَّهَادَةُ: مَا حَصَلَتْ
مَعْرِفَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الشُّهُودِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ غَيْبٌ
بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ. (الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ) الْمُنَزَّهُ عَنْ
صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أُنْكِرَ عَلَى الْمُؤَلِّفِ فِي إِسْقَاطِ
التَّشَهُّدِ مِنَ الْخُطْبَةِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ
خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ» ،
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَا سَبَقَ، فَهُوَ كَافٍ.
(وَصَلَّى اللَّهُ) وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى، قَرَنَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قَالَ: لَا أُذْكَرُ
إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي. وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ: الرَّحْمَةُ، وَمِنَ
الْمَلَائِكَةِ: اسْتِغْفَارٌ، وَمِنَ الْآدَمِيِّ تَضَرُّعٌ وَدُعَاءٌ،
قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاةُ اللَّهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ
الْمَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ: الدُّعَاءُ. (عَلَى سَيِّدِنَا)
السَّيِّدُ: هُوَ الَّذِي يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي الْخَيْرِ، قَالَهُ
الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: التَّقِيُّ، وَقِيلَ: الْحَلِيمُ، وَقِيلَ: الَّذِي
لَا يَغْلِبُهُ غَضَبُهُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ مُنْحَصِرٌ فِيهِ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -. (مُحَمَّدٍ) لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ كَثْرَةَ خِصَالِهِ
الْمَحْمُودَةِ، أَلْهَمَ أَهْلَهُ أَنْ يُسَمُّوهُ مُحَمَّدًا، وَهُوَ
عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنَ التَّحْمِيدِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمِيدِ، وَهُوَ
مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ
بِقَوْلِهِ:
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ
وَهَذَا مُحَمَّدُ
(الْمُصْطَفَى) هُوَ الْخَالِصُ مِنَ الْخَلْقِ، وَهُوَ خَيْرُ
الْخَلَائِقِ كَافَّةً. (وَآلِهِ) . جُمْهُورُ
(1/16)
صَلَاةً دَائِمَةً بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ، أَمَّا بَعْدُ، فَهَذَا كِتَابٌ فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ
الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ
الشَّيْبَانِيِّ اجْتَهَدْتُ فِي جَمْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ " آلِ " إِلَى الْمُضْمَرِ كَمَا
اسْتَعْمَلَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ، وَالنَّحَّاسُ،
وَالزُّبَيْدِيُّ: لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى الْمُظْهَرِ لِتَوَغُّلِهِ فِي
الْإِبْهَامِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ. (خَيْرِ آلٍ) أَصْلُ
خَيْرٍ: أَخْيَرُ، فَحَذَفُوا الْهَمْزَةَ، وَبَعْدَهَا سَاكِنٌ لَا
يُمْكِنُ النُّطْقُ بِهِ، فَنَقَلُوا حَرَكَةَ مَا قَبْلَ الْآخِرِ
إِلَيْهِ، فَبَقِيَ " خَيْرٌ " كُلُّ ذَلِكَ تَخْفِيفًا. (صَلَاةً
دَائِمَةً) أَيْ مُسْتَمِرَّةً مُتَّصِلَةً، لَا تَنْقَطِعُ. اقْتَصَرَ
عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَمُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " وَهُوَ مَكْرُوهٌ،
نَقَلَهُ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " فَقَالَ: يُكْرَهُ إِفْرَادُ الصَّلَاةِ
مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِمَا جَمِيعًا،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:
56] مَعَ تَأْكِيدِ التَّسْلِيمِ بِالْمَصْدَرِ، فَدَلَّ عَلَى
الِاهْتِمَامِ بِهِ. (بِالْغُدُوِّ) جَمْعُ غُدْوَةٍ، وَهُوَ نَفْسُ
الْفِعْلِ، تَقُولُ: غَدَا يَغْدُو غُدُوًّا، عَبَّرَ بِالْفِعْلِ عَنِ
الْوَقْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْغَدَوَاتِ، كَمَا تَقُولُ: آتِيكَ طُلُوعَ
الشَّمْسِ، أَيْ: وَقْتَ طُلُوعِهَا. (وَالْآصَالِ) جَمْعُ أُصُلٍ، وَهُوَ
جَمْعُ أَصِيلٍ، وَقِيلَ: الْآصَالُ: جَمْعُ أَصِيلٍ، وَالْآصَالُ:
الْعَشِيَّاتُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، هِيَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى
غُرُوبِ الشَّمْسِ.
(أَمَّا بَعْدُ) أَيْ: بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى، وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ يَأْتِي
بِهَا الْمُتَكَلِّمُ إِذَا كَانَ فِي كَلَامٍ، وَأَرَادَ الِانْتِقَالَ
إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُؤْتَى بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَكَانَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتِي بِهَا فِي خُطَبِهِ
وَكُتُبِهِ، رَوَاهُ عَنْهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ صَحَابِيًّا. فَأَمَّا "
أَمَّا ". فَهِيَ كَلِمَةٌ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ:
قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ: أَمَّا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، مَعْنَاهُ: مَهْمَا
يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَصْلُهَا "
مَامَا "، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ، ثُمَّ أُدْغِمَ بِشَرْطِهِ،
وَالِابْتِدَاءُ بِالسَّاكِنِ مُتَعَذِّرٌ، فَأُلْحِقَتِ الْهَمْزَةُ
مَفْتُوحَةً، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ. " بَعْدُ " ظَرْفُ زَمَانٍ،
وَالْأَعْرَفُ فِيهَا هُنَا الْبِنَاءُ عَلَى الضَّمِّ، لِكَوْنِهَا
قُطِعَتْ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَفِيهَا وُجُوهٌ أُخَرُ، وَهِيَ فَصْلُ
الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُدُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]
وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَهُ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ،
وَقِيلَ: كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَقِيلَ: يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ، وَقِيلَ:
غَيْرُ ذَلِكَ. (فَهَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى الْكِتَابِ الْمُؤَلَّفِ
الْمُسَمَّى بِـ: " الْمُقْنِعِ " فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَتِ
الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَبْلَ تَأْلِيفِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ
الْإِشَارَةَ كَانَتْ إِلَى كِتَابٍ مُصَوَّرٍ فِي الذِّهْنِ، لِأَنَّ مَنْ
عَزَمَ عَلَى تَأْلِيفِ كِتَابٍ صَوَّرَهُ فِي ذِهْنِهِ، أَوْ إِنْ عَمِلَ
خُطْبَةً كَانَتْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تَأْلِيفِ الْكِتَابِ. (كِتَابٌ)
هُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ السَّيَّالَةِ، أَيْ: يُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا،
يُقَالُ: كَتَبَ كِتَابًا وَكِتَابَةً، وَسُمِّيَ الْمَكْتُوبُ بِهِ
مَجَازًا، وَمَعْنَاهُ جَمَعَ جُمْلَةً مِنَ الْعِلْمِ. (فِي الْفِقْهِ)
هُوَ فِي اللُّغَةِ الْفَهْمُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعِلْمُ
بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا
التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ. (عَلَى مَذْهَبِ) هُوَ الطَّرِيقُ،
يُقَالُ: ذَهَبَ مَذْهَبًا حَقًّا وَذَهَابًا وَذُهُوبًا، وَجَمْعُهُ
مَذَاهِبُ. (الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيِّ) وَالصِّدِّيقُ الثَّانِي إِمَامُ الْأَئِمَّةِ،
وَنَاصِرُ السُّنَّةِ، وُلِدَ بِبَغْدَادَ بَعْدَ
(1/17)
وَإِيجَازِهِ، وَتَقْرِيبِهِ وَسَطًا
بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ، وَجَامِعًا لِأَكْثَرِ الْأَحْكَامِ
عُرْيَةً عَنِ الدَّلِيلِ، وَالتَّعْلِيلِ، لِيَكْثُرَ عِلْمُهُ وَيَقِلَّ
حَجْمُهُ، وَيَسْهُلَ حِفْظُهُ وَفَهْمُهُ، وَيَكُونَ مُقْنِعًا
لِحَافِظِيهِ نَافِعًا لِلنَّاظِرِ فِيهِ، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ
يُبَلِّغَنَا أَمَلَنَا، وَيُصْلِحَ قَوْلَنَا وَعَمَلَنَا، وَيَجْعَلَ
سَعْيَنَا مُقَرِّبًا إِلَيْهِ وَنَافِعًا لَدَيْهِ وَهُوَ حَسْبُنَا
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
حَمْلِ أُمِّهِ بِهِ بِمَرْوَ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. رَوَى ابْنُ ثَابِتٍ
الْخَطِيبِ بِإِسْنَادِهِ: قَالَ الْوَرْكَانِيُّ جَارُ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ: أَسْلَمَ يَوْمَ مَاتَ أَحْمَدُ عِشْرُونَ أَلْفًا مِنَ
الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسِ،. وَمَنَاقِبُهُ مَشْهُورَةٌ.
(اجْتَهَدْتُ) الِاجْتِهَادُ: هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ فِيمَا فِيهِ كَلَفَةٌ
وَمَشَقَّةٌ. (فِي جَمْعِهِ) مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ.
(وَتَرْتِيبِهِ) أَيْ: تَرْتِيبِ أَبْوَابِهِ وَمَسَائِلِهِ.
(وَإِيجَازِهِ) أَيْ: تَقْصِيرِهِ، يُقَالُ: أَوْجَزَ فِي الْكَلَامِ،
فَهُوَ كَلَامٌ مُوجَزٌ وَمُوجِزٌ وَوَجْزٌ وَوَجِيزٌ، قَالَهُ
الْجَوْهَرِيُّ. (وَتَقْرِيبِهِ) إِلَى الْأَفْهَامِ بِعِبَارَةٍ سَهْلَةٍ
مِنْ غَيْرِ تَعْقِيدٍ، وَلَقَدْ بَالَغَ فِي ذَلِكَ، وَحَرَصَ عَلَيْهِ
طَاقَتَهُ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَثَابَهُ الْجَنَّةَ. (وَسَطًا
بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطَّوِيلِ) أَيْ: مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا، لَيْسَ
هُوَ بِالْقَصِيرِ الْمُخِلِّ، وَلَا بِالطَّوِيلِ الْمُمِلِّ، وَخِيَارُ
الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، إِذِ الْوَسَطُ الْعَدْلُ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ، بِـ"
جَمْعِهِ " عَلَى الْحَالِ، أَيِ: اجْتَهَدْتُ فِي جَمْعِهِ وَسَطًا،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاصِبُهُ فِعْلًا مُقَدَّرًا، أَيْ: جَعَلْتُهُ
وَسَطًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طَرَفَيِ
الشَّيْءِ، فَأَمَّا اللَّفْظُ بِهِ، فَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَا كَانَ
اسْمًا، فَهُوَ مُحَرَّكُ السِّينِ، كَقَوْلِكَ: وَسَطُ رَأْسِهِ صُلْبٌ،
وَمَا كَانَ ظَرْفًا، فَهُوَ مُسَكَّنٌ، كَقَوْلِكَ: وَسْطَ رَأْسِهِ
دَهَنَ، أَيْ: فِي وَسَطِهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَا صَلَحَ فِيهِ "
بَيْنَ "، فَهُوَ بِالسُّكُونِ، وَمَا لَمْ يَصْلُحْ فِيهِ " بَيْنَ "
فَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ، وَرُبَّمَا سُكِّنَ، وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: قَالَ يُونُسُ: سَمِعْتُ وَسَطَ وَوَسْطَ بِمَعْنًى.
(وَجَامِعًا) مَعْطُوفٌ عَلَى (وَسَطًا) ، (لِأَكْثَرِ الْأَحْكَامِ)
جَمْعُ حُكْمٍ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ
بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، أَوِ
الْوَضْعِ) ، (عُرْيَةً عَنِ الدَّلِيلِ) أَيْ: مُجَرَّدًا عَنْ ذِكْرِ
الدَّلِيلِ غَالِبًا وَهُوَ لُغَةً: عِبَارَةٌ عَنِ الْمُرْشِدِ،
وَاصْطِلَاحًا: مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى
مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدَّلِيلُ التَّفْصِيلِيُّ
فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ. (وَالتَّعْلِيلِ) أَيْ: مُجَرَّدًا عَنِ الْعِلَّةِ
أَيْضًا، وَهِيَ حِكْمَةُ الْحُكْمِ، أَيْ: مَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ
لِأَجْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الدَّلِيلِ، إِذْ كُلُّ
تَعْلِيلٍ دَلِيلٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ
إِجْمَاعًا. (لِيَكْثُرَ عِلْمُهُ) أَىْ جَرَّدَهُ عَنِ الدَّلِيلِ
وَالتَّعْلِيلِ غَالِبًا مَعَ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: اجْتَهَدْتُ إِلَى
آخِرِهِ، لِأَجْلِ تَكْثِيرِ أَحْكَامِهِ. (وَيَقِلَّ حَجْمُهُ) فِي
النَّظَرِ فَلَا تَنْفِرُ النَّفْسُ مِنْهُ، (وَيَسْهُلُ حِفْظُهُ
وَفَهْمُهُ) أَيْ: يَسْهُلُ حِفْظُ مَبَانِيهِ وَفَهْمُ مَعَانِيهِ، إِذِ
الْفَهْمُ: إِدْرَاكُ مَعْنَى الْكَلَامِ، قِيلَ: بِسُرْعَةٍ، وَالْأَصَحُّ
أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. (وَيَكُونَ مُقْنِعًا لِحَافِظِيهِ) أَيْ:
يَقْنَعَ بِهِ حَافِظُهُ عَنْ غَيْرِهِ. (نَافِعًا لِلنَّاظِرِ فِيهِ)
أَيْ: بِمُطَالَعَتِهِ. (وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُبَلِّغَنَا
أَمَلَنَا، وَيُصْلِحَ قَوْلَنَا وَعَمَلَنَا، وَيَجْعَلَ سَعْيَنَا
مُقَرِّبًا إِلَيْهِ وَنَافِعًا لَدَيْهِ)
(1/18)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
سَأَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَهُ أَمَلَهُ، وَيُصْلِحَ
قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، وَقَدْ عَمَّ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ
«أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى
عَلِيٍّ وَهُوَ يَدْعُو وَيَخُصُّ نَفْسَهُ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، عُمَّ
فَإِنَّ فَضْلَ الْعُمُومِ عَلَى الْخُصُوصِ كَفَضْلِ السَّمَاءِ عَلَى
الْأَرْضِ» . (وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) الْحَسِيبُ:
الْكَافِي. وَالْوَكِيلُ: الْحَافِظُ، وَقِيلَ: الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ
تَدْبِيرُ خَلْقِهِ، وَالْقَائِمُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَيَكُونُ " وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ " عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ " وَهُوَ حَسْبُنَا "، وَالْخُصُوصُ
مَحْذُوفٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى " حَسْبُنَا " أَيْ:
وَهُوَ نِعْمَ الْوَكِيلُ، وَالْمَخْصُوصُ: هُوَ الضَّمِيرُ الْمُتَقَدِّمُ
عَلَى مَا قَالُوهُ فِي: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ
فَقَدْ عُطِفَ الْإِنْشَاءُ عَلَى الْإِخْبَارِ.
(1/19)
|