المبدع
شرح المقنع ط العلمية [بَابُ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ]
[صَلَاةُ الْمَرِيضِ]
بَابُ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ الْأَعْذَارُ: جَمْعُ عُذْرٍ،
كَأَقْفَالٍ جَمْعُ قُفْلٍ، (وَيُصَلِّي الْمَرِيضُ كَمَا «قَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِعِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ
تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» خ) كَذَا وُجِدَ بِخَطِّ الْمُؤَلِّفِ بِخَاءٍ
مُعْجَمَةٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ، وَكَذَا
رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، زَادَ النَّسَائِيُّ: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ
فَمُسْتَلْقِيًا» ، وَعَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «يُصَلِّي الْمَرِيضُ
قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
أَنْ يَسْجُدَ أَوْمَأَ، وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ
الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى
مُسْتَلْقِيًا، رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ» رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ لَزِمَهُ إِجْمَاعًا
(2/107)
صَلَاتُهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ،
وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَلَوْ مُعْتَمِدًا إِلَى حَائِطٍ أَوْ نَحْوَهُ أَوْ عَلَى إِحْدَى
رِجْلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يَلْزَمُهُ اكْتِرَاءُ مَنْ
يُقِيمُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ، أَوْ يَلْحَقُهُ
بِالْقِيَامِ ضَرَرٌ مِنْ زِيَادَةِ مَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ تَأَخُّرِ
بُرْءٍ، صَلَّى قَاعِدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] مُتَرَبِّعًا نَدْبًا. وَقِيلَ:
وُجُوبًا، وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ فِي رُكُوعٍ وَسُجُودٍ كَمُتَنَفِّلٍ،
وَفِي " النِّهَايَةِ " وَ " الرِّعَايَةِ " إِنْ قَدَرَ أَنْ يَرْتَفِعَ
إِلَى حَدِّ الرُّكُوعِ لَزِمَهُ، وَإِلَّا رَكَعَ جَالِسًا، وَعَنْهُ:
إِنْ أَطَالَ الْقِرَاءَةَ تَرَبَّعَ، وَإِلَّا افْتَرَشَ، وَلَا
يَفْتَرِشُ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ: لَا يَقْعُدُ إِلَّا إِنْ عَجَزَ عَنْ
قِيَامِهِ لِدُنْيَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ،
وَأَسْقَطَهُ الْقَاضِي بِضَرَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَأَنَّهُ لَوْ تَحَمَّلَ
الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ حَتَّى ازْدَادَ مَرَضُهُ أَثِمَ، ثُمَّ إِنَّ
الْإِمَامَ وَالْأَصْحَابَ اعْتَبَرُوا الْخَوْفَ؛ وَهُوَ ضِدُّ الْأَمْنِ
فَقَالُوا: يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ إِذَا لَمْ يُؤْمَنْ هُجُومُ
الْعَدُوِّ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُصَلِّي كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ
كَانَ بِتَعَدِّيهِ بِضَرْبِ سَاقِهِ، كَتَعَدِّيهَا بِضَرْبِ بَطْنِهَا
فَنَفِسَتْ، فَإِنْ عَجَزَ فَعَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ أَفْضَلُ، فَإِنْ
صَلَّى عَلَى الْأَيْسَرِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ جَوَازُهُ،
لِظَاهِرِ خَبَرِ عِمْرَانَ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِقْبَالُ
الْقِبْلَةِ؛ وَهُوَ حَاصِلٌ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: يُكْرَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَيْمَنِ (فَإِنْ)
تَرَكَهُ قَادِرٌ، وَ (صَلَّى عَلَى ظَهْرِهِ، وَرِجْلَاهُ إِلَى
الْقِبْلَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ) ذَكَرَهُ فِي "
التَّلْخِيصِ "، وَ " الْمُذْهَبِ "، وَ " الْمُحَرَّرِ "، وَجَزَمَ بِهِ
فِي " الْوَجِيزِ "، وَقَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " مَعَ الْكَرَاهَةِ؛
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِقْبَالٍ،
وَلِهَذَا يُوَجَّهُ الْمَيِّتُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالثَّانِي:
لَا يَصِحُّ، قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَهُوَ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ
نَقَلَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الصَلَاةِ عَلَى جَنْبٍ، فَدَلَّ
(2/108)
مِنْ رُكُوعِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ
أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ، وَإِنْ قَدَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ ولِأَنَّهُ تَرَكَ
الِاسْتِقْبَالَ بِوَجْهِهِ وَجُمْلَتِهِ، وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ: يُصَلِّي
كَيْفَ شَاءَ، كِلَاهُمَا جَائِزٌ، فَظَاهِرُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا،
أَمَّا إِذَا عَجَزَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنْبٍ، تَعَيَّنَ أَنْ
يُصَلِّيَ مُسْتَلْقِيًا وَجْهًا وَاحِدًا.
(وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
«وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
وَاعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ مَا أَمْكَنَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو
الْمَعَالِي: وَأَقَلُّ رُكُوعِهِ مُقَابَلَةُ وَجْهِهِ مَا وَرَاءَ
رُكْبَتَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ أَدْنَى مُقَابَلَةٍ، وَتَتِمَّتُهَا
الْكَمَالُ (وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ) لِلْخَبَرِ،
وَلِيَتَمَيَّزَ أحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَإِنْ سَجَدَ مَا أَمْكَنَهُ
عَلَى شَيْءٍ رَفَعَهُ، كُرِهَ، وَأَجْزَأَهُ، نَصَّ عَلَيْهِمَا؛
لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُمَكِّنُهُ مِنَ الِانْحِطَاطِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ
أَوْمَأَ، وَعَنْهُ: يُخَيَّرُ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةً بِالْمَنْعِ كَيَدِهِ، وَلَا بَأْسَ
بِسُجُودِهِ عَلَى وِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا، وَعَنْهُ: هُوَ أَوْلَى مِنَ
الْإِيمَاءِ، وَاحْتَجَّ بِفِعْلِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ،
وَغَيْرِهِمَا، قَالَ: وَنَهَى عَنْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ
(فَإِنْ عَجَزَ) هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي
الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْأَشْهَرِ (عَنْ ذَلِكَ أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ) أَيْ:
بِعَيْنِهِ، لِمَا رَوَى زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ
بِطَرْفِهِ» وَظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ: لَا يَلْزَمُهُ، وَصَوَّبَهُ فِي
" الْفُرُوعِ " لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ، وَفِي " الْمُسْتَوْعِبِ " يُومِئُ
بِطَرْفِهِ أَوْ قَلْبِهِ، وَفِي " الْفُرُوعِ " يُومِئُ بِطَرْفِهِ
نَاوِيًا مُسْتَحْضِرَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، إِنْ عَجَزَ عَنْهُ
بِقَلْبِهِ، كَأَسِيرٍ عَاجِزٍ لِخَوْفِهِ، وَفِي
(2/109)
عَلَى الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ فِي
أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَأَتَمَّهَا، وَمَنْ قَدَرَ
عَلَى الْقِيَامِ وَعَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَأَ
بِالرُّكُوعِ قَائِمًا. وَبِالسُّجُودِ قَاعِدًا، وَإِذَا قَالَ ثِقَاتٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
" الْخِلَافِ " زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا: أَوْ حَاجِبَيْهِ، وَقَاسَهُ عَلَى
الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ بِيَدَيْهِ؛
لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَلْزَمَهُ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ:
يُصَلِّي مُضْطَجِعًا وَيُومِئُ، فَأَطْلَقَ وُجُوبَ الْإِيمَاءِ، وَلَمْ
يَخُصَّهُ بِبَعْضِ الْأَعْضَاءِ.
(وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ) مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا، ذَكَرَهُ
وَنَصَرَهُ جَمَاعَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ، أَشْبَهَ
الْقَادِرَ عَلَى الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ، وَعَنْهُ: تَسْقُطُ، اخْتَارَهَا
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، لِظَاهِرِ خَبَرِ عِمْرَانَ، وَرُوِيَ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ (وَإِنْ) صَلَّى قَاعِدًا ثُمَّ (قَدَرَ عَلَى
الْقِيَامِ أَوْ) صَلَّى عَلَى جَنْبٍ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى (الْقُعُودِ فِي
أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَأَتَمَّهَا) لِأَنَّ
الْمُبِيحَ الْعَجْزُ، وَقَدْ زَالَ، وَلِأَنَّ مَا صَلَّى كَانَ الْعُذْرُ
مَوْجُودًا، وَمَا بَقِيَ قَدْ أَتَى بِالْوَاجِبِ فِيهِ، وَلَا يَقْرَأُ
حَالَ نُهُوضِهِ إِلَى الْقِيَامِ، لَكِنْ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ
قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بَعْدَ قِيَامِهِ،
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، قَامَ فَرَكَعَ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ،
وَعَكْسُهُ لَوْ مَرِضَ فِي أَثْنَائِهَا جَلَسَ، وَلَهُ الْقِرَاءَةُ فِي
هُوِيِّهِ، وَيَأْتِي بِهَا عَلَى حَسَبِ حَالِهِ (وَمَنْ قَدَرَ عَلَى
الْقِيَامِ) لَزِمَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
[البقرة: 238] وَلِخَبَرِ عِمْرَانَ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ،
فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَجْزِ عَنْ غَيْرِهِ كَالْقِرَاءَةِ (وَعَجَزَ عَنِ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَأَ بِالرُّكُوعِ قَائِمًا) لِأَنَّ
الرَّاكِعَ كَالْقَائِمِ فِي نَصْبِ رِجْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُومِئَ بِهِ
فِي قِيَامِهِ.
(وَ) أَوْمَأَ (بِالسُّجُودِ قَاعِدًا) لِأَنَّ السَّاجِدَ كَالْجَالِسِ
فِي جَمْعِ رِجْلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُومِئَ فِي جُلُوسِهِ لِيَحْصُلَ
الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِيمَاءَيْنِ.
مَسَائِلُ: مِنْهَا إِذَا كَانَ فِي بَيْتٍ سَقْفُهُ قَصِيرٌ يَتَعَذَّرُ
خُرُوجُهُ مِنْهُ، أَوْ فِي سَفِينَةٍ يَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ فِيهَا
وَالْخُرُوجِ مِنْهَا، صَلَّى جَالِسًا، نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: بَلْ
يَقُومُ مَا أَمْكَنَهُ كَالْأَحْدَبِ.
وَمِنْهَا: إِذَا قَدَرَ قَائِمًا مُنْفَرِدًا، وَجَالِسًا جَمَاعَةً،
خُيِّرَ بَيْنَهُمَا، قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": لِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِي
كُلٍّ مِنْهُمَا وَاجِبًا، وَيَتْرُكُ وَاجِبًا، وَقِيلَ: جَمَاعَةً
(2/110)
مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ لِلْمَرِيضِ:
إِنْ صَلَّيْتَ مُسْتَلْقِيًا أَمْكَنَ مُدَاوَاتُكَ فَلَهُ ذَلِكَ.
وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي السَّفِينَةِ قَاعِدًا لِقَادِرٍ عَلَى
الْقِيَامِ.
وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْفَرْضِ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
أَوْلَى، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ قَائِمًا مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ
بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ.
وَمِنْهَا لَوْ تَقَوَّسَ ظَهْرُهُ فَصَارَ كَالرَّاكِعِ، فَمَتَى رَكَعَ
زَادَ فِي انْحِنَائِهِ قَلِيلًا لِيَقَعَ الْفَرْقُ، وَإِنْ لَمْ
يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْنِيَ ظَهْرَهُ حَنَى رَقَبَتَهُ، وَإِذَا سَجَدَ
قَرَّبَ وَجْهَهُ مِنَ الْأَرْضِ مَا أَمْكَنَهُ، وَإِنْ قَدَرَ أَنْ
يَسْجُدَ عَلَى صَدْغَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَعْضَاءِ السُّجُودِ.
(وَإِذَا قَالَ ثِقَاتٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالطِّبِّ) وَمَعْنَاهُ فِي "
الْمُحَرَّرِ " (لِلْمَرِيضِ) أَوْ لِمَنْ بِهِ رَمَدٌ وَنَحْوُهُ (إِنْ
صَلَّيْتَ مُسْتَلْقِيًا أَمْكَنَ مُدَاوَاتُكَ فَلَهُ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلَّى جَالِسًا حِينَ جُحِشَ شِقُّهُ» ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ، بَلْ
فَعَلَهُ، إِمَّا لِلْمَشَقَّةِ، أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ، أَشْبَهَ
الْمَرَضَ، وَذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى عَافِيَتِهِ؛ وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ
شَرْعًا، وَيُشْتَرَطُ إِسْلَامُهُمْ وَثِقَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ
دِينِيٌّ، فَاشْتُرِطَ لَهُ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ، وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ لَا
يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ.
قَالَ ابْنُ الْمُنَجَّا: وَلَيْسَ بِمُرَادٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الِاثْنَيْنِ
كَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْمُؤَلِّفُ وَغَيْرُهُ، وَحَكَاهُ فِي " الْفُرُوعِ
" قَوْلًا. وَقِيلَ: عَنْ يَقِينٍ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ
مُسْلِمٍ ثِقَةٍ، وَنَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ يُفْطِرُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ:
إِنَّ الصَّوْمَ مِمَّا يُمَكِّنُ الْعِلَّةَ.
[الصَّلَاةُ فِي السَّفِينَةِ قَاعِدًا]
(وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي السَّفِينَةِ قَاعِدًا لِقَادِرٍ عَلَى
الْقِيَامِ) لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى رُكْنِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ
تَرْكُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا، وَظَاهِرُهُ الْجَوَازُ إِذَا
عَجَزَ، وَقَدْ سَبَقَ، فَلَوْ قَدَرَ فِيهَا عَلَى انْتِصَابٍ يَخْرُجُ
بِهِ مِنْ حَدِّ الرَّاكِعِ فَظَاهِرُهُ اللُّزُومُ، وَإِنْ كَانَ لَا
يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا صَلَّى حَسَبَ حَالِهِ فِيهَا، وَأَتَى
بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ التَّيَامُنِ وَغَيْرِهِ، وَكُلَّمَا دَارَتِ
انْحَرَفَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي الْفَرْضِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ
كَالنَّفْلِ فِي الْأَصَحِّ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَا يُمْكِنُ
كُلُّ مَنْ فِيهَا الصَّلَاةَ قَائِمًا فِي حَالَةٍ، صَلَّوْا فُرَادَى مَا
لَمْ يَضِقِ الْوَقْتُ، وَإِنْ أَمْكَنَ الْإِتْيَانُ فِيهَا بِجَمِيعِ
وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْخُرُوجُ، حَاضِرًا كَانَ أَوْ
مُسَافِرًا، وَاقِفَةً كَانَتْ أَوْ مُسَافِرَةً، فَرْضًا كَانَتِ
الصَّلَاةُ أَوْ نَفْلًا، قَدَّمَهُ جَمَاعَةٌ، وَصَحَّحَهُ فِي "
الشَّرْحِ " كَالصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَعَنْهُ: يَلْزَمُهُ،
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَالَ اسْتِقْرَارٍ.
(2/111)
الرَّاحِلَةِ خَشْيَةَ التَّأَذِّي
بِالْوَحَلِ. وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَالَ جَمَاعَةٌ: مَتَى كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى أَصْحَابِهِ، لَمْ
يَجِبْ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ: أَنَّ النَّفْلَ فِيهَا يَصِحُّ
مُطْلَقًا.
مَسْأَلَةٌ: تُقَامُ الْجَمَاعَةُ فِي السَّفِينَةِ، وَعَنْهُ: إِذَا
صَلَّوْا جُلُوسًا، نَصَّ عَلَيْهِ، وَصَلَّى جَمَاعَةٌ فِيهَا قِيَامًا
جَمَاعَةً، وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْخُرُوجِ، مِنْهُمْ أَبُو
هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ. رَوَاهُ سَعِيدٌ وَالْبَيْهَقِيُّ.
[صَلَاةُ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ]
(وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ) وَاقِفَةً وَسَائِرَةً،
وَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ، وَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ (خَشْيَةَ
التَّأَذِّي بِالْوَحَلِ) نَصَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَقَدَّمَهُ جَمَاعَةٌ،
وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ "، وَصَحَّحَهُ فِي " الْفُرُوعِ " لِمَا
رَوَى يَعْلَى بْنُ مُرَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - انْتَهَى إِلَى مَضِيقٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ؛ وَهُوَ عَلَى
رَاحِلَتِهِ، وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبَلَّةُ مِنْ أَسْفَلَ
مِنْهُمْ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ،
وَأَقَامَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إِيمَاءً،
يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ،
وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ: العَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، وَفَعَلَهُ أَنَسٌ،
ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ.
فَإِنْ قَدَرَ عَلَى النُّزُولِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ،
وَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ كَغَيْرِ حَالَةِ الْمَطَرِ، وَيُومِئُ
بِالسُّجُودِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَعَنْهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ
«لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ، وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ
أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ
وَالسُّجُودَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَطَرِ
كَبَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْجَمْعَ، فَأَثَّرَ فِي أَفْعَالِ
الصَّلَاةِ، كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى
الْيَسِيرِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَسْجِدِهِ فِي
الْمَدِينَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُلَوِّثُ
الثِّيَابَ وَالْبَدَنَ (وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ؟ عَلَى
رِوَايَتَيْنِ) إِحْدَاهُمَا: يَجُوزُ، قَدَّمَهَا فِي " الْمُحَرَّرِ "،
وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَجَزَمَ بِهَا فِي " الْوَجِيزِ "؛ لِأَنَّ
مَشَقَّةَ النُّزُولِ فِي
(2/112)
فَصْلٌ
فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ وَمَنْ سَافَرَ سَفَرًا مُبَاحًا، يَبْلُغُ سِتَّةَ
عَشَرَ فَرْسَخًا، فَلَهُ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ خَاصَّةً إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الْمَرَضِ أَكْثَرُ مِنْ مَشَقَّةِ النُّزُولِ بِالْمَطَرِ، لَكِنْ
قَيَّدَهَا فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ النُّزُولَ،
وَلَمْ يُصَرِّحْ أَحْمَدُ بِخِلَافِهِ، وَالثَّانِيَةُ: الْمَنْعُ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": نَقَلَهُ وَاخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ؛ لِأَنَّ
ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُنْزِلُ مَرْضَاهُ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ عَلَى الْأَرْضِ أَسْكَنُ لَهُ، وَأَمْكَنُ، بِخِلَافِ صَاحِبِ
الطِّينِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ النُّزُولُ مَعَ
مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ أَوْ زِيَادَةِ ضَرَرٍ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي "
الشَّرْحِ "، وَظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ: أَنَّ فِيهِ الرِّوَايَتَيْنِ.
أَمَّا إِذَا خَافَ انْقِطَاعًا عَنِ الرُّفْقَةِ، أَوِ الْعَجْزَ عَنِ
الرُّكُوبِ، فَيُصَلِّي كَخَائِفٍ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدُوٍّ.
فَرْعٌ: مَنْ أَتَى بِكُلِّ فَرْضٍ أَوْ شَرْطٍ لِلصَّلَاةِ، وَصَلَّى
عَلَيْهَا بِلَا عُذْرٍ، أَوْ فِي سَفِينَةٍ وَنَحْوِهَا - مَنْ أَمْكَنَهُ
الْخُرُوجُ وَاقِفَةً، أَوْ سَائِرَةً، صَحَّتْ. وَمَنْ كَانَ فِي مَاءٍ
وَطِينٍ أَوْمَأَ، كَمَصْلُوبٍ وَمَرْبُوطٍ، وَالْغَرِيقُ يَسْجُدُ عَلَى
مَتْنِ الْمَاءِ.
[فَصْلٌ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ]
[السَّفَرُ الْمُبِيحُ لِلْقَصْرِ وَالْجَمْعِ وَالْإِفْطَارِ]
فَصْلٌ
فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ أَجْمَعُوا عَلَى قَصْرِهَا بِشَرْطِهِ، وَسَنَدُهُ
قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]
عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى غَالِبِ
أَسْفَارِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَكْثَرُهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ
عَدُوٍّ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الْقَصْرَ قِسْمَانِ:
مُطْلَقٌ؛ وَهُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ قَصْرُ الْأَفْعَالِ، وَالْعُذْرُ،
كَصَلَاةِ الْخَوْفِ حَيْثُ كَانَ مُسَافِرًا، فَإِنَّهُ يَرْتَكِبُ فِيهَا
مَا لَا يَجُوزُ فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ، وَالْآيَةُ وَرَدَتْ عَلَى هَذَا.
وَمُقَيَّدٌ؛ وَهُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ قَصْرُ الْعَدَدِ فَقَطْ
كَالْمُسَافِرِ، أَوْ قَصْرُ الْعَمَلِ فَقَطْ، كَالْخَائِفِ؛ وَهُوَ
حَسَنٌ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ «قَوْلُ يَعْلَى لِعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ: مَا لَنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَدَقَةٌ
تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» رَوَاهُ
مُسْلِمٌ
(2/113)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
فَظَاهِرُ مَا فَهِمْنَاهُ تَقْيِيدُ قَصْرِ الْعَدَدِ بِالْخَوْفِ،
وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمَا عَلَى
ذَلِكَ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ (إِنْ خِفْتُمْ) كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مَعْنَاهُ:
وَإِنْ خِفْتُمْ.
«وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ،
وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ كَذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَمَنْ سَافَرَ سَفَرًا مُبَاحًا) ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ،
وَحَكَاهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
كَانَ يَتَرَخَّصُ فِي الْعَوْدِ مِنَ السَّفَرِ؛ وَهُوَ مُبَاحٌ،
وَكَالْغَزْوِ، وَفِي " الْوَجِيزِ " سَفَرًا جَائِزًا؛ وَهُوَ أَعَمُّ،
وَالْمُرَادُ مَنِ ابْتَدَأَ سَفَرًا مُبَاحًا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي "
الْفُرُوعِ "، وَالْأَصَحُّ: أَوْ هُوَ أَكْثَرُ قَصْدِهِ، وَعَنْهُ: لَا
يَتَرَخَّصُ فِي سَفَرِ النُّزْهَةِ وَالتَّفَرُّجِ، اخْتَارَهُ أَبُو
الْمَعَالِي؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ إِعَانَةً عَلَى تَحْصِيلِ
الْمَصْلَحَةِ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِي هَذَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ
حَامِدٍ اخْتِصَاصُهُ بِسَفَرِ الطَّاعَةِ.
وَقَالَ فِي " الْمُبْهِجِ ": إِذَا سَافَرَ لِتِجَارَةٍ مُكَاثِرًا فِي
الدُّنْيَا فَهُوَ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ وَهُوَ
شَامِلٌ إِذَا غَرَبَتِ الْمَرْأَةُ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فَلَهُ
التَّرَخَّصُ، وَكَذَا الزَّانِي، وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ، وَفِيهِمَا
وَجْهٌ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ مِنْ بَابِ
التَّنْبِيهِ، وَلَا قَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَبَاحَ فِي "
التَّلْخِيصِ " تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَوْ عَصَى فِي
سَفَرِهِ الْمُبَاحِ لَمْ يُمْنَعِ التَّرَخُّصَ، كَارْتِكَابِهَا فِي
الْحَضَرِ لَا يَمْنَعُهُ، وَمَنْ نَقَلَ سَفَرَهُ الْمُبَاحَ إِلَى
مَعْصِيَةٍ لَمْ يَتَرَخَّصْ فِي الْأَصَحِّ لِزَوَالِ سَبَبِهِ، وَإِنْ
نَقَلَ سَفَرَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى مُبَاحٍ، وَقَدْ بَقِيَ مَسَافَةُ
قَصْرٍ، قَصَرَ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ وُجُودَ مَا مَضَى مِنْ سَفَرِهِ
كَعَدَمِهِ.
مَسْأَلَةٌ: إِذَا سَافَرَ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ، فَقَالَ
ابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ " التَّلْخِيصِ ": لَا يُبَاحُ لَهُ التَّرَخُّصُ؛
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
(2/114)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
السَّلَامُ «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ»
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: الصَّحِيحُ جَوَازُهُ،
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ، وَقَالَ ابْنُ
الْمُنَجَّا: السَّفَرُ الْمَكْرُوهُ كَزِيَارَةِ الْقُبُورِ
وَالْمَشَاهِدِ مُلْحَقٌ بِالسَّفَرِ الْمُحَرَّمِ، وَفِيهِ نَظَرٌ،
وَاخْتَلَفَ كَلَامُ الْحُلْوَانِيِّ هَلِ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَاجِبٌ، أَوْ طَاعَةٌ كَزِيَارَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
لَكِنْ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: يَحْرُمُ الشَّدُّ إِلَى
غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ، وَذَكَرَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَجِبُ السَّفَرُ الْمَنْذُورُ إِلَى
الْمَشَاهِدِ. (يَبْلُغُ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا) الْفَرْسَخُ وَاحِدُ
الْفَرَاسِخِ؛ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ هَاشِمِيَّةٍ، وَبِأَمْيَالِ
بَنِي أُمَيَّةَ مِيلَانِ وَنِصْفٌ، وَالْمِيلُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ
قَدَمٍ، سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، وَالذِّرَاعُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ
أُصْبُعًا مُعْتَرِضَةً مُعْتَدِلَةً، كُلُّ أُصْبُعٍ سِتُّ حَبَّاتِ
شَعِيرٍ، بُطُونُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، عَرْضُ كُلِّ شُعَيْرَةٍ سِتُّ
شَعَرَاتِ بِرْذَوْنٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ
قَاصِدَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ،
لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا
تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى
عَسَفَانَ» ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى، مَعَ أَنَّ أَحْمَدَ احْتَجَّ
بِهِ مَعَ تَضْعِيفِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ: أَنَّ هَذَا تَقْرِيبٌ.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: تَحْدِيدٌ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ سَوَاءٌ،
فَلَوْ قَطَعَهُ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ فِي الْبَحْرِ قَصَرَ، كَمَا لَوْ
قَطَعَهَا فِي الْبَرِّ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمَيْنِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ
الْمَسَالِكِ أَنَّ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الْقَطِيفَةِ أَرْبَعَةً
وَعِشْرِينَ مِيلًا، وَمِنْ دِمَشْقَ إِلَى الْكُسْوَةِ اثْنَيْ عَشَرَ
مِيلًا، وَعَنِ ابْنِ
(2/115)
رَكْعَتَيْنِ، إِذَا فَارَقَ بُيُوتَ
قَرْيَتِهِ أَوْ خِيَامَ قَوْمِهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ،
وَإِنْ أَتَمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ: يَقْصُرُ فِي يَوْمٍ، وَقَالَهُ
الْأَوْزَاعِيُّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ دَحْيَةَ أَفْطَرَ فِي
ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَأَفْطَرَ مَعَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ، وَقِيلَ:
تُقْصَرُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى،
لِأَنَّهُ مَسَافَةٌ تَجْمَعُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ مِنَ الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ، فَجَازَ الْقَصْرُ فِيهِ كَغَيْرِهِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ أَبَاحَ الْقَصْرَ لِكُلِّ
مُسَافِرٍ إِلَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى خِلَافِهِ.
(فَلَهُ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ خَاصَّةً إِلَى رَكْعَتَيْنِ) وَلَا قَصْرَ
فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ إِجْمَاعًا، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛
لِأَنَّ الْفَجْرَ لَوْ قُصِرَتْ صَارَتْ رَكْعَةً، وَلَا نَظِيرَ لِذَلِكَ
فِي الْفَرْضِ، وَالْمَغْرِبُ وَتْرُ النَّهَارِ، فَلَوْ قَصَرَ مِنْهَا
رَكْعَةً لَمْ يَبْقَ وَتْرًا، وَرَكْعَتَانِ كَانَ إِجْحَافًا بِهَا،
وَإِسْقَاطًا لِأَكْثَرِهَا، وَلَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْفَرْضِ (إِذَا
فَارَقَ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ أَوْ خِيَامَ قَوْمِهِ) لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى جَوَّزَ الْقَصْرَ لِمَنْ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ، وَقَبْلَ
مُفَارَقَةِ مَا ذُكِرَ لَا يَكُونُ ضَارِبًا وَلَا مُسَافِرًا، وَلِأَنَّ
ذَلِكَ أَحَدُ طَرَفَيِ السَّفَرِ، أَشْبَهَ حَالَةَ الِانْتِهَاءِ،
وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَانَ يَقْصُرُ إِذَا ارْتَحَلَ» ،
فَعَلَى هَذَا يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ الْعَامِرَةِ،
بِشَرْطِ أَنْ لَا يَرْجِعَ، أَوْ لَا يَنْوِيَ الرُّجُوعَ قَرِيبًا،
فَإِنْ فَعَلَ، لَمْ يَتَرَخَّصْ حَتَّى يَرْجِعَ وَيُفَارِقَهُ، وَلَوْ
لَمْ يَنْوِ الرُّجُوعَ، لَكِنْ بَدَا لَهُ لِحَاجَةٍ، لَمْ يَتَرَخَّصْ
بَعْدَ نِيَّةِ عَوْدِهِ حَتَّى يُفَارِقَهُ ثَانِيًا، وَقِيلَ:
وَالْخَرَابُ، كَمَا لَوْ وَلِيَهُ عَامِرٌ، وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي:
أَوْ جَعَلَ مَزَارِعَ، وَبَسَاتِينَ يَسْكُنُهُ أَهْلُهُ، وَلَوْ فِي
فَصْلِ النُّزْهَةِ، وَقِيلَ: يَقْصُرُ بِمُفَارَقَةِ سُورِ بَلَدِهِ،
وَظَاهِرُهُ: وَلَوِ اتَّصَلَ بِهِ بَلَدٌ، وَاعْتَبَرَ أَبُو الْمَعَالِي
انْفِصَالَهُ وَلَوْ بِذِرَاعٍ، وَيُعْتَبَرُ فِي سَاكِنِ الْقُصُورِ
وَالْبَسَاتِينِ مُفَارَقَةُ مَا نُسِبُوا إِلَيْهِ عُرْفًا (وَهُوَ
أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ) نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - دَاوَمَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الْإِتْمَامُ،
وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَرَوَى أَحْمَدُ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى
رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» وَفِيهِ وَجْهُ أَنَّ
الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَعَدَدًا؛ وَهُوَ
الْأَصْلُ، أَشْبَهَ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ (وَإِنْ أَتَمَّ جَازَ) فِي
الْمَشْهُورِ لِلْآيَةِ، وَلِحَدِيثِ يَعْلَى،
(2/116)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَالَتْ عَائِشَةُ: «أَتَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَقَصَرَ» قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَبَيَّنَ سَلْمَانُ أَنَّ الْقَصْرَ
رُخْصَةٌ بِمَحْضَرِ اثْنَيْ عَشَرَ صَحَابِيًّا، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، «وَلَمَّا أَتَمَّتْ عَائِشَةُ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحْسَنْتِ» . رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: إِسْنَادٌ حَسَنٌ،
وَقِيلَ: يَجِبُ الْقَصْرُ؛ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ، وَعَنْهُ: الْوَقْفُ،
وَقَالَ مَرَّةً: لَا يُعْجِبُنِي الْإِتْمَامُ، وَكَرِهَهُ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَهُوَ أَظْهَرُ.
1 -
مَسَائِلُ: الْأُولَى: يُعْتَبَرُ تَحْقِيقُ الْمَسَافَةِ، فَلَوْ شَكَّ
فِي قَدْرِ السَّفَرِ لَمْ يَقْصُرْ، وَإِنْ بَانَ بَعْدَهُ أَنَّهُ
طَوِيلٌ، كَمَا لَوْ صَلَّى شَاكًّا فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، وَقَالَ ابْنُ
أَبِي مُوسَى، وَابْنُ عَقِيلٍ: مَتَى بَلَغَ الْمَسَافَةَ قَصَرَ،
وَعَنْهُ: إِنْ بَلَغَ عِشْرِينَ فَرْسَخًا.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ جِهَةً مُعَيَّنَةً، فَلَوْ
سَافَرَ وَلَمْ يَقْصِدْهَا لَمْ يَقْصُرْ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ
الْجَزْمِ بِبُلُوغِ الْمَسَافَةِ، فَلَوْ عَلِمَ صَاحِبَهُ فِي بَلَدٍ
بَعِيدٍ، وَنَوَى إِنْ وَجَدَهُ قَبْلَهُ لَمْ يَقْصُرْ، وَقِيلَ: إِنْ
بَلَغَ مَسَافَةَ قَصْرٍ قَصَرَ، وَكَذَا سَائِحٌ وَتَائِهٌ.
الثَّالِثَةُ: إِذَا سَافَرَ لِيَتَرَخَّصَ، فَقَدْ ذَكَرُوا لَوْ سَافَرَ
لِيُفْطِرَ حَرُمَ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَمِثْلُهُ مَنْ لَا خُفَّ فِي
رِجْلِهِ، فَلَبِسَهُ لِغَرَضِ الْمَسْحِ خَاصَّةً، لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ،
كَمَا لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ لِغَرَضِ التَّرَخُّصِ،
وَيَأْتِي مَنْ سَافَرَ يَقْصِدُ حَلَّ يَمِينِهِ.
الرَّابِعَةُ: يَقْصُرُ، وَيَتَرَخَّصُ مُسَافِرٌ مُكْرَهًا، كَأَسِيرٍ
عَلَى الْأَصَحِّ، كَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ تَبَعًا لِزَوْجٍ وَسَيِّدٍ فِي
نِيَّتِهِ وَسَفَرِهِ، وَفِيهِمَا وَجْهٌ: لَا قَصْرَ.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَالْجَيْشُ مَعَ الْأَمِيرِ، وَالْجُنْدِيُّ
مَعَ أَمِيرِهِ إِنْ كَانَ رِزْقُهُمْ فِي مَالِ
(2/117)
جَازَ.
فَإِنْ أَحْرَمَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ، وَفِي السَّفَرِ ثُمَّ
أَقَامَ، أَوْ ذَكَرَ صَلَاةَ حَضَرٍ فِي سَفَرٍ، أَوْ صَلَاةَ سَفَرٍ فِي
حَضَرٍ، أَوِ ائْتَمَّ مُسَافِرٌ بِمُقِيمٍ. أَوْ بِمَنْ يَشُكُّ فِيهِ،
أَوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
أَنْفُسِهِمْ، فَفِي أَيِّهِمَا يَعْتَبِرُ نِيَّتَهُ؛ فِيهِ وَجْهَانِ،
وَإِلَّا فَكَالْأَجِيرِ وَالْعَبْدِ لِشَرِيكَيْنِ تُرَجَّحُ نِيَّةُ
إِقَامَةِ أَحَدِهِمَا، وَالْأَسِيرُ إِذَا صَارَ بِبَلَدِهِمْ، فَإِنَّهُ
يُتِمُّ فِي الْمَنْصُوصِ، تَبَعًا لِإِقَامَتِهِمْ، كَسَفَرِهِمْ.
الْخَامِسَةُ: يُوتِرُ، وَيَرْكَعُ سُنَّةَ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ،
وَيُخَيَّرُ فِي غَيْرِهِمَا، وَعِنْدَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ:
يُسَنُّ تَرْكُ غَيْرِهِمَا، وَأَطْلَقَ أَبُو الْمَعَالِي التَّخْيِيرَ
فِي النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ، وَنَقَلَ ابْنُ هَانِي: يَتَطَوَّعُ
أَفْضَلُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْفُصُولِ "، وَ " الْمُسْتَوْعِبِ "،
وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي غَيْرِ الرَّوَاتِبِ،
وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ إِجْمَاعًا.
[هَلْ يَحْتَاجُ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ إِلَى نِيَّةٍ]
(فَإِنْ أَحْرَمَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ، وَفِي السَّفَرِ ثُمَّ
أَقَامَ) أَتَمَّ، نَصَّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ اجْتَمَعَ
لَهَا حُكْمُ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَضَرِ
كَالْمَسْحِ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَجْهٌ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ أَدَائِهَا،
كَصَلَاةِ صِحَّةٍ فِي مَرَضٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي رَاكِبِ
السَّفِينَةِ، فَلَوْ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، لَمْ يَجُزِ
الْقَصْرُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ فِعْلُهَا
أَرْبَعًا، فَلَمْ يَجُزِ النُّقْصَانُ مِنْهَا، كَالْمَنْذُورَةِ،
وَعَنْهُ: يَجُوزُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهَا
مُؤَدَّاةٌ فِي السَّفَرِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَ وَقْتُهَا فِيهِ،
وَقِيلَ: إِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ، لَمْ يَقْصُرْ وَجْهًا وَاحِدًا (أَوْ
ذَكَرَ صَلَاةَ حَضَرٍ فِي سَفَرٍ) أَتَمَّهَا إِجْمَاعًا، حَكَاهَا
أَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ
الْحَسَنِ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ؛ وَهُوَ أَرْبَعٌ
(أَوْ) ذَكَرَ (صَلَاةَ سَفَرٍ فِي حَضَرٍ) أَتَمَّ، نَصَّ عَلَيْهِ،
وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ،
فَبَطَلَ بِزَوَالِهِ كَالْمَسْحِ ثَلَاثًا، وَكَذَا لَوْ أَخَّرَهَا
مُسَافِرٌ عَمْدًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا، أَوْ ضَاقَ عَنْهَا، قَالَهُ
فِي " الْمُحَرَّرِ " وَغَيْرِهِ، لِأَنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ
كَالدَّيْنِ، وَالْأَصْلُ الْإِتْمَامُ، وَقِيلَ: يَقْصُرُ فِيهِمَا، إِذَا
ذَكَرَ صَلَاةَ حَضَرٍ فِي سَفَرٍ (أَوِ ائْتَمَّ مُسَافِرٌ بِمُقِيمٍ)
أَتَمَّ، نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تِلْكَ السُّنَّةُ.
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ، فَلَا
يُصَلِّيهَا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْأَرْبَعَ كَالْجُمُعَةِ، وَسَوَاءٌ
أَدْرَكَ مَعَهُ جَمِيعَ الصَّلَاةِ، أَوْ بَعْضَهَا،
(2/118)
أَحْرَمَ بِصَلَاةٍ يَلْزَمُهُ
إِتْمَامُهَا، فَفَسَدَتْ وَأَعَادَهَا، أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ،
لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَحْتَاجُ الْجَمْعُ
وَالْقَصْرُ إِلَى نِيَّةٍ.
وَمَنْ لَهُ طَرِيقَانِ بَعِيدٌ وَقَرِيبٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
اعْتَقَدَهُ مُسَافِرًا أَوْ لَا، وَعَنْهُ: فِي رَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ،
فَعَلَى الْأَوَّلِ: إِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ تَشَهُّدَ الْجُمُعَةِ؛ أَتَمَّ،
نَصَّ عَلَيْهِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ: يَقْصُرُ، وَيَتَوَجَّهُ تَخْرِيجٌ
مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ: يَقْصُرُ مُسَافِرٌ مُطْلَقًا، كَمَا خَرَّجَ
بَعْضُهُمْ إِيقَاعًا مَرَّتَيْنِ عَلَى صِحَّةِ مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ،
وَشَمِلَ مَا إِذَا أَحْرَمَ الْمُسَافِرُونَ خَلْفَ مُسَافِرٍ،
فَأَحْدَثَ، وَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا، فَيَلْزَمُهُمُ الْإِتْمَامُ دُونَ
إِمَامِهِمُ الْمُحْدِثِ (أَوْ بِمَنْ يَشُكُّ فِيهِ) أَيْ: فِي
إِقَامَتِهِ وَسَفَرِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، وَإِنْ بَانَ أَنَّ
الْإِمَامَ مُسَافِرٌ لِعَدَمِ نِيَّتِهِ، لَكِنْ إِذَا عَلِمَ أَوْ غَلَبَ
عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْإِمَامَ مُسَافِرٌ بِأَمَارَةٍ وَعَلَامَةٍ،
كَهَيْئَةِ لِبَاسٍ إِلَّا أَنَّ إِمَامَهُ نَوَى الْقَصْرَ، فَلَهُ أَنْ
يَنْوِيَهُ عَمَلًا بِالظَّنِّ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ قَصَرَ قَصَرْتُ،
وَإِنْ أَتَمَّ أَتْمَمْتُ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ سَبَقَ إِمَامَهُ
الْحَدَثُ، فَخَرَجَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ، عَمَلًا
بِالظَّاهِرِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ
(أَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةٍ، يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهَا) كَمَا لَوِ اقْتَدَى
بِمُقِيمٍ، أَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ (فَفَسَدَتْ) بِالْحَدَثِ، وَنَحْوِهِ
(وَأَعَادَهَا) أَتَمَّ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ، بِتَلَبُّسِهِ
بِهَا، وَقِيلَ: إِنْ بَانَ أَنَّ الْإِمَامَ مُحْدِثٌ قَبْلَ السَّلَامِ،
فَفِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ وَجْهَانِ (أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ) عِنْدَ
الْإِحْرَامِ (لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ) ذَكَرَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ؛
لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَإِطْلَاقُ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، كَمَا
لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا، انْصَرَفَ إِلَى الِانْفِرَادِ الَّذِي
هُوَ الْأَصْلُ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ شَكَّ فِي النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ
أَتَمَّ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ نَوَى الْقَصْرَ لَمْ يَقْصُرْ،
ذَكَرَهُ فِي " الْمُذْهَبِ "، وَ " الشَّرْحِ "؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ
الْإِتْمَامُ فَلَمْ يَزُلْ.
(وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) وَجَمَاعَةٌ: (لَا يَحْتَاجُ الْجَمْعُ،
وَالْقَصْرُ إِلَى نِيَّةٍ) لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي
الصَّلَاةِ فَكَذَا بَعْدَهُ، وَالْقَصْرُ هُوَ الْأَصْلُ، لِخَبَرِ عُمَرَ
وَعَائِشَةَ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ حَالٌ يُبِيحُ الْقَصْرَ، فَإِذَا
تَلَبَّسَ الْمُسَافِرُ بِهَا فِيهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، جَازَ لَهُ
الْقَصْرُ، لِقِيَامِ السَّفَرِ مَقَامَ نِيَّتِهِ، كَالْإِتْمَامِ فِي
الْحَضَرِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ، ثُمَّ أَرَادَ
الْقَصْرَ قَصَرَ؛ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَقِيلَ: لَا؛ لِأَنَّ مَا يُوجِبُ
الْأَرْبَعَ قَدْ وُجِدَ.
1 -
(2/119)
فَسَلَكَ الْبَعِيدَ، أَوْ ذَكَرَ صَلَاةَ
سَفَرٍ فِي آخَرَ، فَلَهُ الْقَصْرُ
وَإِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
مَسَائِلُ: مِنْهَا إِذَا صَلَّى مُسَافِرٌ وَمُقِيمٌ خَلْفَ مُسَافِرٌ،
أَتَمَّ الْمُقِيمُ إِذَا سَلَّمَ إِمَامُهُ إِجْمَاعًا.
وَمِنْهَا: إِذَا أَمَّ مُسَافِرٌ مُقِيمِينَ فَأَتَمَّ بِهِمُ الصَّلَاةَ،
صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بِنِيَّةٍ، وَعَنْهُ:
تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ.
قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ نَفْلٌ فِي
حَقِّ الْإِمَامِ، فَلَا يُؤَمُّ بِهِمَا مُفْتَرِضٌ.
وَمِنْهَا: إِذَا انْتَقَلَ مُسَافِرٌ مِنَ الْقَصْرِ إِلَى الْإِتْمَامِ
جَازَ، وَفَرْضُهُ الْأُولَيَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ،
وَإِنْ فَعَلَهُ عَمْدًا مَعَ بَقَاءِ نِيَّةِ الْقَصْرِ، فَهَلْ تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ نِيَّةُ الْقَصْرِ،
وَصَلَّى أَرْبَعًا، سَجَدَ لِلسَّهْوِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَجِبُ
ذَلِكَ عَلَى الْأَشْهَرِ، فَإِنْ كَانَ إِمَامًا، وَعَلِمَ الْمَأْمُومُ
أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْإِتْمَامَ سَبَّحُوا بِهِ، وَلَمْ يُتَابِعُوهُ؛
لِأَنَّهُ سَهْوٌ، فَإِنْ تَابَعُوهُ، فَوَجْهَانِ.
وَمِنْهَا: إِذَا شَكَّ هَلْ نَوَى إِمَامُهُ الْإِتْمَامَ، أَوْ قَامَ
سَهْوًا، لَزِمَ مُتَابَعَتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إِنْ قَامَ إِلَى
ثَالِثَةٍ عَمْدًا أَتَمَّ، فَإِنْ سَلَّمَ مِنْهَا عَمْدًا بَطَلَتْ،
وَإِنْ قَامَ سَهْوًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ، فَإِنْ شَاءَ سَجَدَ،
وَجَلَسَ، وَإِنْ شَاءَ أَتَمَّ.
وَمِنْهَا: إِذَا نَوَى مُسَافِرٌ الْقَصْرَ خَلْفَ مُقِيمٍ عَالِمًا
بِذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ، وَقِيلَ: بَلَى، وَيُتِمُّهَا، وَقِيلَ:
وَيَقْصُرُهَا، وَفِي وُجُوبِ نِيَّةِ سَفَرِ الْقَصْرِ فِي أَوَّلِهِ
وَجْهَانِ.
وَإِذَا نَوَى الظُّهْرَ تَامَّةً مُسَافِرٌ أَوْ عَبْدٌ خَلْفَ إِمَامِ
جُمُعَةٍ، لَمْ يَصِحَّ، نَصَّ عَلَيْهِ.
[لَهُ طَرِيقَانِ بَعِيدٌ وَقَرِيبٌ فَسَلَكَ الْبَعِيدَ هَلْ لَهُ
الْقَصْرُ]
(وَمَنْ لَهُ طَرِيقَانِ بَعِيدٌ وَقَرِيبٌ، فَسَلَكَ الْبَعِيدَ) قَصَرَ،
كَذَا فِي " الْوَجِيزِ " وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ بَعِيدَةٌ،
أَشْبَهَ الْمُنْفَرِدَ، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْآخَرُ مَخُوفًا أَوْ
مُشِقًّا.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إِنْ سَلَكَهُ لِرَفْعِ أَذِيَّةٍ، وَاجْتِلَابِ
نَفْعٍ، قَصَرَ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ لَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ،
خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي سَفَرِ النُّزْهَةِ.
(2/120)
أَكْثَرَ مِنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ
صَلَاةً، أَتَمَّ، وَإِلَّا قَصَرَ.
وَإِنْ أَقَامَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ. أَوْ حُبِسَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: وَمِثْلُهُ بَقِيَّةُ رُخَصِ السَّفَرِ (أَوْ
ذَكَرَ صَلَاةَ سَفَرٍ فِي) سَفَرٍ (آخَرَ، فَلَهُ الْقَصْرُ) لِأَنَّ
وُجُوبَهَا وَفِعْلَهَا وُجِدَا فِي السَّفَرِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ
أَدَّاهَا، وَقِيلَ: يُتِمُّهَا لِذِكْرِهِ لَهَا فِي إِقَامَةٍ
مُتَخَلِّلَةٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَهَا فِيهِ أَنَّهُ
يَقْصُرُ وِفَاقًا، وَفِيهِ وَجْهٌ: يُتِمُّهَا؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ
بِالْأَدَاءِ كَالْجُمُعَةِ.
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ وَغَيْرُهُ: وَقَضَاءُ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ
كَقَضَاءِ جَمِيعِهَا.
[نَوَى الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ
صَلَاةً]
(وَإِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ
صَلَاةً) أَيِ: اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ صَلَاةً (أَتَمَّ، وَإِلَّا
قَصَرَ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَفِي " الْكَافِي "
أَنَّهُ " الْمَذْهَبُ " وَاخْتَارَهُ الْخِرَقِيُّ وَالْأَكْثَرُ، لِمَا
احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَمَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ
جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
فَأَقَامَ بِهَا الرَّابِعَ، وَالْخَامِسَ، وَالسَّادِسَ، وَالسَّابِعَ،
وَصَلَّى الصُّبْحَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِنًى،
وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَقَدْ أَجْمَعَ
عَلَى إِقَامَتِهَا» .
وَقَالَ أَنَسٌ: «أَقَمْنَا بِمَكَّةَ عَشْرًا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ» .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَذْكُرُ حَدِيثَ
أَنَسٍ، وَيَقُولُ: هُوَ كَلَامٌ لَيْسَ يَفْقَهُهُ كُلُّ أَحَدٍ،
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حَسَبَ مُقَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ وَمِنًى، وَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ غَيْرُ هَذَا،
وَعَنْهُ: إِنْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
أَتَمَّ، وَإِلَّا قَصَرَ، قَدَّمَهُ السَّامِرِيُّ، وَصَاحِبُ "
التَّلْخِيصِ "، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ "، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي،
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ: أَنَّهُ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَحَقَّقَ
أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَوَاهُ إِقَامَةُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ؛
لِأَنَّهُ كَانَ حَاجًّا، وَالْحَاجُّ لَا يَخْرُجُ قَبْلَ يَوْمِ
التَّرْوِيَةِ،
(2/121)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَعَنْهُ: إِنْ نَوَى إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ، وَإِلَّا
قَصَرَ، قَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ "؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ
نُسُكِهِ ثَلَاثًا» وَبِأَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ وَضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا ثَلَاثًا، وَفِي " النَّصِيحَةِ "
فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، بَلْ فِي
رُسْتَاقٍ يَنْتَقِلُ فِيهِ، نَصَّ عَلَيْهِ، كَقَصْرِهِ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بِمَكَّةَ وَمِنًى وَعَرَفَةَ عَشْرًا، وَيُحْتَسَبُ يَوْمُ
الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَلَا فَرْقَ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، وَفِي "
التَّلْخِيصِ " إِنَّ إِقَامَةَ الْجَيْشِ لِلْغَزْوِ لَا يَمْنَعُ
التَّرَخُّصَ، وَإِنْ طَالَ، لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بِمَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ
فِيهِ الْإِقَامَةُ كَالْبَرِّيَّةِ لَا يَقْصُرُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى
الْإِقَامَةَ، وَالْمَذْهَبُ بَلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ
بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَلَغَتْ، وَبَقِيَ حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ
مُسْتَدَامًا، فَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ إِقَامَةً مُطْلَقَةً، وَقِيلَ:
بِمَوْضِعٍ تُقَامُ فِيهِ: إِنَّهُ يُتْمٌ، وَمَنْ نَوَى إِقَامَةً
تَمْنَعُ الْقَصْرَ، ثُمَّ نَوَى السَّفَرَ قَبْلَ فَرَاغِهَا، فَقِيلَ:
تَقْصُرُ، وَقِيلَ: إِذَا سَافَرَ.
[أَقَامَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ حُبِسَ ظُلْمًا أَوْ لَمْ يَنْوِ
الْإِقَامَةَ]
(وَإِنْ أَقَامَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ) قَصَرَ؛ «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ»
إِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ،
وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ مَعْمَرٌ بِرِوَايَتِهِ مُسْنَدًا،
وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ مُرْسَلًا، «وَلَمَّا فَتَحَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ أَقَامَ فِيهَا
تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ
أَنَسٌ: أَقَامَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بِرَامَهُرْمُزَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ. رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا أَنَّ الْمُسَافِرَ يَقْصُرُ مَا لَمْ
يَجْمَعْ إِقَامَةً وَلَوْ أَتَى عَلَيْهِ
(2/122)
ظُلْمًا، أَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ،
قَصَرَ أَبَدًا.
وَالْمَلَّاحُ الَّذِي مَعَهُ أَهْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ
بِبَلَدٍ، لَيْسَ لَهُ التَّرَخُّصُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
سُنُونَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ كَثْرَةُ ذَلِكَ
أَوْ قِلَّتُهُ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي " الْكَافِي "، وَابْنُ تَمِيمٍ،
وَقِيلَ: إِنْ ظَنَّ قَضَاءَ حَاجَتِهِ مِنِ اسْتِوَاءِ رِيحٍ أَوْ خُرُوجِ
قَافِلَةٍ لَمْ يَقْصُرْ، كَمَا لَوْ عَلِمَ (أَوْ حُبِسَ ظُلْمًا) قَصَرَ،
لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ
سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَقَدْ حَالَ الثَّلْجُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الدُّخُولِ، وَفِي مَعْنَاهُ إِذَا حَبَسَهُ مَرَضٌ أَوْ مَطَرٌ،
فَإِنْ حُبِسَ بِحَقٍّ لَمْ يَقْصُرْ (أَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ،
قَصَرَ أَبَدًا) لِمَا تَقَدَّمَ، وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: يَقْصُرُ الَّذِي
يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ، أَخْرُجُ غَدًا، شَهْرًا، وَعَنْ سَعْدٍ
أَنَّهُ أَقَامَ فِي بَعْضِ قُرَى الشَّامِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ
الصَّلَاةَ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَلَا فَرْقَ إِذَا لَمْ يَنْوِ
الْإِقَامَةَ، أَوْ نَوَاهَا مُدَّةً لَا تَمْنَعُ الْقَصْرَ بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ الْبَلَدُ مُنْتَهَى قَصْدِهِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ، عَلَى
الْمَنْصُوصِ؛ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامٍ الْخِرَقِيِّ، وَالْأَكْثَرِ؛
لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «قَصَرَ فِي حَجِّهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ
بِمَكَّةَ» ، وَكَانَ مُنْتَهَى قَصْدِهِ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ مِنْ
بَعْدِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِذَا كَانَ مُنْتَهَى قَصْدِهِ لَمْ
يَقْصُرْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ لِانْتِهَاءِ سَفَرِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَوْجُهُ، أَوْ تَزَوَّجَ، فَإِنَّهُ يُتِمُّ
عَلَى الْأَشْهُرِ، وَعَنْهُ: أَوْ أَهْلٌ أَوْ مَاشِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: أَوْ مَالٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بِهِ
وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ دَارٌ، قَصَرَ، وَفِي أَهْلٍ غَيْرِهِمَا وَمَالٍ
وَجْهَانِ.
1 -
فَرْعَانِ: الْأَوَّلُ إِذَا مَرَّ الْمُسَافِرُ بِوَطَنِهِ، أَتَمَّ،
وَعَنْهُ: لَا، وَلَا حَاجَةَ فِيهِ، وَإِلَّا قَصَرَ.
الثَّانِي: إِذَا نَسِيَ حَاجَةً فِي بَلَدِهِ فَرَجَعَ لِأَخْذِهَا عَنْ
قُرْبٍ، قَصَرَ فِي رُجُوعِهِ، اخْتَارَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَفِي وَجْهٍ:
لَا، اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَفِي رُجُوعِهِ
إِلَى غَيْرِ وَطَنِهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِهِ مَا
يَمْنَعُ الْقَصْرَ، لَمْ يَقْصُرْ فِي رُجُوعِهِ، وَقِيلَ: إِنْ قَصَدَ
بَلَدًا بِعَيْنِهِ، وَنَوَى الرُّجُوعَ قَرِيبًا، قَصَرَ فِي رُجُوعِهِ،
نَصَّ عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ: إِذَا سَافَرَ مَنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ سَفَرًا طَوِيلًا،
ثُمَّ كُلِّفَ بِالصَّلَاةِ فِي أَثْنَائِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ مُطْلَقًا
فِيمَا بَقِيَ.
[الْمَلَّاحُ الَّذِي مَعَهُ أَهْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ
بِبَلَدٍ]
(وَالْمَلَّاحُ) صَاحِبُ السَّفِينَةِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ (الَّذِي
مَعَهُ أَهْلُهُ، وَلَيْسَ لَهُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ بِبَلَدٍ، لَيْسَ
لَهُ التَّرَخُّصُ) أَيْ: يُعْتَبَرُ لِلسَّفَرِ الْمُبِيحِ كَوْنُهُ
مُنْقَطِعًا، فَإِنْ كَانَ
(2/123)
فَصْلٌ
فِي الْجَمْعِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
وَالْعِشَاءَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: السَّفَرِ
الطَّوِيلِ، وَالْمَرَضِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِتَرْكِ الْجَمْعِ فِيهِ
مَشَقَّةٌ وَضَعْفٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
دَائِمًا كَمَا مَثَّلَهُ، لَمْ يَتَرَخَّصْ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ
قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَاعِنٍ عَنْ وَطَنِهِ
وَأَهْلِهِ، أَشْبَهَ الْمُقِيمَ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَتَرَخَّصُ بِفِطْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِيهِ
فِي السَّفَرِ، وَكَمَا تَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ مَكَانَهَا كَمُقِيمٍ،
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَوِ
انْتَفَى أَحَدُهُمَا لَمْ يُمْنَعِ التَّرَخُّصُ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ
الْقَاضِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَهْلُهُ؛ وَهُوَ خِلَافُ نُصُوصِهِ؛
لِأَنَّ الشَّبَهَ لَا يَحْصُلُ حَقِيقَةً إِلَّا بِمَجْمُوعِ
الْأَمْرَيْنِ، وَمِثْلُهُ مُكَارٍ، وَسَاعٍ، وَبَرِيدٌ، وَرَاعٍ،
وَنَحْوُهُمْ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ عَنْهُ: يَتَرَخَّصُ، اخْتَارَهُ
الْمُؤَلِّفُ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ أَهْلُهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَشَقُّ.
[فَصْلٌ فِي الْجَمْعِ]
[سَبَبُ الْجَمْعِ وَكَيْفِيَّتُهُ]
فَصْلٌ
فِي الْجَمْعِ (يَجُوزُ الْجَمْعُ) وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ، وَعَنْهُ:
فَعَلَهُ، اخْتَارَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ وَغَيْرُهُ، كَجَمْعَيْ
عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَعَنْهُ: التَّوَقُّفُ (بَيْنَ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا) فَهَذِهِ
الْأَرْبَعُ هِيَ الَّتِي تُجْمَعُ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، الظُّهْرُ
وَالْعَصْرُ، وَالْمَغْرِبُ، وَالْعَشَاءُ (لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: السَّفَرِ
الطَّوِيلِ) نَصَّ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ، لِمَا رَوَى
مُعَاذٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ
فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أَخَّرَ
الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إِلَى
(2/124)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الْعَصْرِ يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ رَفْعِ
الشَّمْسِ، صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ سَارَ، وَكَانَ
يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ» رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَعَنْ أَنَسٍ
مَعْنَاهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ نَازِلًا أَوْ سَائِرًا فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ أَوِ
التَّأْخِيرِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ إِلَّا لِسَائِرٍ، وَعَنْهُ: لِسَائِرٍ
وَقْتَ الْأُولَى فَيُؤَخِّرُ إِلَى الثَّانِيَةِ، اخْتَارَهُ الْخِرَقِيُّ
لِمَا «رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ
يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَشَاءِ.
قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ صِفَةَ
الْجَمْعِ فِعْلُ الْأُولَى آخِرَ وَقْتِهَا، وَالثَّانِيَةِ أَوَّلَ
وَقْتِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْقَصْرِ عَلَى "
الْمَذْهَبِ "، وَفِيهِ وَجْهٌ.
(وَالْمَرَضِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِتَرْكِ الْجَمْعِ فِيهِ مَشَقَّةٌ
وَضَعْفٌ) نَصَّ عَلَيْهِ، وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ، وَجَزَمَ بِهِ فِي "
الْمُحَرَّرِ "، وَغَيْرِهِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ» وَفِي
رِوَايَةٍ: «مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَا عُذْرَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الْمَرَضُ،
وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمْعِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ؛ وَهِيَ نَوْعُ مَرَضٍ،
وَفِي " الْوَجِيزِ " يَجُوزُ بِكُلِّ عُذْرٍ يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ
وَالْجَمَاعَةِ، عَدَا النُّعَاسِ وَنَحْوِهِ، انْتَهَى، وَاحْتَجَّ
أَحْمَدُ بِأَنَّ الْمَرَضَ أَشَدُّ مِنَ السَّفَرِ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ:
إِنْ جَازَ لَهُ تَرْكُ الْقِيَامِ، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بَعْدَ
الْغُرُوبِ، ثُمَّ تَعَشَّى، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَعَنْهُ: لَا
يَجُوزُ، لِمَا سَبَقَ.
(2/125)
وَالْمَطَرِ الَّذِي يَبُلُّ الثِّيَابَ.
إِلَّا أَنَّ جَمْعَ الْمَطَرِ يَخْتَصُّ الْعِشَاءَيْنِ فِي أَصَحِّ
الْوَجْهَيْنِ، وَهَلْ يَجُوزُ لِأَجْلِ الْوَحَلِ أَوِ الرِّيحِ
الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ، أَوْ لِمَنْ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ، أَوْ فِي
مَسْجِدِ طَرِيقِهِ تَحْتَ سَابَاطٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَيَفْعَلُ
الْأَرْفَقَ بِهِ مِنْ تَأْخِيرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
تَنْبِيهٌ: يَجُوزُ لِمُرْضِعٍ، نَصَّ عَلَيْهِ، لِلْمَشَقَّةِ بِكَثْرَةِ
النَّجَاسَةِ، وَفِي " الْوَسِيلَةِ " رِوَايَةٌ: لَا.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: كَمَرِيضٍ، وَكَمَنْ لَهُ سَلَسُ الْبَوْلِ،
ذَكَرَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ "، وَلِكُلِّ مَنْ يَعْجِزُ عَنِ الطَّهَارَةِ
وَالتَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ، كَأَعْمَى
وَنَحْوِهِ، أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ، وَمَنْ لَهُ شَغْلٌ أَوْ عُذْرٌ
يُبِيحُ تَرْكَ جُمُعَةٍ وَجَمَاعَةٍ، قَالَهُ ابْنُ حَمْدَانَ، وَغَيْرُهُ
(وَالْمَطَرِ الَّذِي يَبُلُّ الثِّيَابَ) نَصَّ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ قَوْلُ
الْأَكْثَرِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفَعَلَهُ
ابْنُ عُمَرَ، رَوَاهُ مَالِكٌ.
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا كَانَ يَوْمُ مَطَرٍ أَنْ
يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ، وَرَوَى
النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ فِي لَيْلَةٍ
مَطِيرَةٍ، وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ» وَحُكْمُ
الثَّلْجِ كَذَلِكَ فِي الْمَنْصُوصِ، وَفِيهِمَا وَجْهٌ: لَا يَجُوزُ.
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَظَاهِرُهُ:
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِطَلٍّ، وَلَا لِمَطَرٍ خَفِيفٍ لَا يَبُلُّ
الثِّيَابَ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ.
(إِلَّا أَنَّ جَمْعَ الْمَطَرِ يَخْتَصُّ الْعِشَاءَيْنِ فِي أَصَحِّ
الْوَجْهَيْنِ) نَصَّ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَهُوَ الْأَشْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ
إِلَّا فِي الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، وَمَشَقَّتُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ
حَيْثُ إِنَّهُمَا يُفْعَلَانِ فِي الظُّلْمَةِ، وَمَشَقَّةُ السَّفَرِ
لِأَجْلِ السَّيْرِ وَفَوَاتِ الرُّفْقَةِ؛ وَهُوَ مَعْدُومٌ هُنَا،
وَالثَّانِي: يَجُوزُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ كَالْعِشَاءَيْنِ؛
وَهُوَ رِوَايَةٌ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَصَحَّحَهُ
فِي " الْمُذْهَبِ "؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى أَبَاحَ الْجَمْعَ، فَأَبَاحَهُ
بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ كَالسَّفَرِ (وَهَلْ يَجُوزُ لِأَجَلِ
الْوَحَلِ، أَوِ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، أَوْ لِمَنْ يُصَلِّي فِي
بَيْتِهِ، أَوْ فِي مَسْجِدِ طَرِيقِهِ تَحْتَ سَابَاطٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ)
وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: يَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْوَحَلِ فِي
الْأَصَحِّ.
(2/126)
الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، أَوْ
تَقْدِيمِ الثَّانِيَةِ إِلَيْهَا.
وَلِلْجَمْعِ فِي وَقْتِ الْأُولَى ثَلَاثَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ عُذْرٌ يُبِيحُ الْجَمْعَ
بِمُجَرَّدِهِ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْمَشَقَّةُ كَالْمَطَرِ، وَالثَّانِي:
لَا يُبِيحُهُ، ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ دُونَ
مَشَقَّةِ الْمَطَرِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَذَّى بِهِ فِي نَفْسِهِ وَثِيَابِهِ، وَذَلِكَ
أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنَ الْبَلَلِ، وَظَاهِرُهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَيَّدَهُ الشَّرِيفُ،
وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " بِاللَّيْلِ، وَظَاهِرُ
كَلَامٍ ابْنِ أَبِي مُوسَى اعْتِبَارُ الظُّلْمَةِ لَيْلًا.
الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ فِي الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ صَحَّحَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ تَمِيمٍ.
قَالَ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ
يَجْمَعُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ، زَادَ غَيْرُ وَاحِدٍ: لَيْلًا،
وَزَادَ فِي " الْمُذْهَبِ "، وَ " الْكَافِي "، وَ " الْمُسْتَوْعِبِ "
مَعَ ظُلْمَةٍ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَقَدْ عُلِمَا.
الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ لِمَنْ يُصَلِّي وَحْدَهُ، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ فِي
بَيْتِهِ، أَوْ مَسْجِدِ طَرِيقِهِ تَحْتَ سَابَاطٍ، أَوْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ خُطُوَاتٌ يَسِيرَةٌ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، قَالَهُ
الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ الْعَامَّةَ يَسْتَوِي فِيهَا حَالُ
وُجُودِ الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِهَا، كَالسَّفَرِ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ،
اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَصَحَّحَهُ فِي " الْمَذْهَبِ " لِعَدَمِ
الْمَشَقَّةِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ جَمَاعَةً فِي
وَقْتِهَا لَمْ يَجْمَعْ، وَإِلَّا جَمَعَ (وَيَفْعَلُ الْأَرْفَقَ بِهِ
مِنْ تَأْخِيرِ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، أَوْ تَقْدِيمِ
الثَّانِيَةِ إِلَيْهَا) كَذَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، وَمِنْهُمْ صَاحِبُ "
الْوَجِيزِ "، وَصَحَّحَهُ فِي " الشَّرْحِ " لِحَدِيثِ مُعَاذٍ
السَّابِقِ، تَفَرَّدَ بِهِ قُتَيْبَةُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قُلْتُ لَهُ:
مَعَ مَنْ كَتَبْتَ هَذَا عَنِ اللَّيْثِ؛ قَالَ: مَعَ خَالِدٍ
الْمَدَائِنِيِّ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَخَالِدٌ هَذَا كَانَ يُدْخِلُ الْأَحَادِيثَ عَلَى
الشُّيُوخِ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ،
وَأَحْمَدُ، «وَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الصَّلَاةَ يَوْمًا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ خَرَجَ
(2/127)
شُرُوطٍ: نِيَّةُ الْجَمْعِ عِنْدَ
إِحْرَامِهَا، وَيُحْتَمَلُ تَجْزِئَةُ النِّيَّةُ قَبْلَ سَلَامِهَا،
وَأَنْ لَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ
فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا» رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتُ الْإِسْنَادِ،
وَلِأَنَّ الْجَمْعَ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِحَالِهِ
كَسَائِرِ رُخَصِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ السَّيْرِ
فِي رِوَايَةٍ، وَحُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ:
أَنَّ الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ أَفْضَلُ، وَذَكَرَهُ الْمَجْدُ،
وَقَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَفِيهِ خُرُوجٌ مِنَ
الْخِلَافِ، وَعَمَلٌ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: فِي جَمْعِ
السَّفَرِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيمُ، وَجَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي
جَمْعِ الْمَطَرِ، وَنَقَلَهُ الْأَثْرَمُ، وَأَنَّ فِي جَمْعِ السَّفَرِ
تُؤَخَّرُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ هُنَا هُوَ قَوْلٌ فِي "
الْمَذْهَبِ " وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَذَكَرَهُ
ظَاهِرَ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ؛ وَهُوَ يَعُمُّ
أَقْسَامَهُ.
لَكِنْ قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْأُولَى
عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا شَيْئًا.
قَالَ أَحْمَدُ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِذَا اخْتَلَطَ الظَّلَامُ أَوْ
غَابَ الشَّفَقُ، فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ.
[شُرُوطُ الْجَمْعِ]
(وَلِلْجَمْعِ فِي وَقْتِ الْأُولَى ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ) :
الْأَوَّلُ: (نِيَّةُ الْجَمْعِ) فِي الْأَشْهَرِ، قَالَ الْقَاضِي
وَغَيْرُهُ: هُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ عُمِلَ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ
قَوْلِهِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (عِنْدَ إِحْرَامِهَا)
عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اشْتُرِطَتْ فِيهَا النِّيَّةُ
اعْتُبِرَتْ فِي أَوَّلِهَا، كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ. (وَيُحْتَمَلُ أَنْ
تُجْزِئَهُ النِّيَّةُ قَبْلَ سَلَامِهَا) هَذَا قَوْلٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْجَمْعِ مِنَ الْأُولَى إِلَى الشُّرُوعِ
فِي الثَّانِيَةِ، فَإِذَا لَمْ تَتَأَخَّرِ النِّيَّةُ عَنْهُ أَجْزَأَهُ،
وَقِيلَ: تُجْزِئُهُ بَعْدَ سَلَامِ الْأُولَى قَبْلَ إِحْرَامِ
الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: مَحَلُّ النِّيَّةِ عِنْدَ إِحْرَامِ الثَّانِيَةِ
لَا قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ، وَعَلَى الْأُولَى: لَا تَجِبُ فِي
الثَّانِيَةِ؛ وَهُوَ الْأَشْهَرُ.
(2/128)
يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِقَدْرِ
الْإِقَامَةِ وَالْوُضُوءِ. فَإِنْ صَلَّى السُّنَّةَ بَيْنَهُمَا، بَطَلَ
الْجَمْعُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَأَنْ يَكُونَ الْعُذْرُ
مَوْجُودًا عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاتَيْنِ، وَسَلَامِ الْأُولَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
(وَ) الثَّانِي: الْمُوَالَاةُ؛ وَهُوَ (أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا)
فُرْقَةً طَوِيلَةً؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُتَابِعَةُ
وَالْمُقَارِنَةُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ التَّفْرِيقِ الطَّوِيلِ،
وَظَاهِرُهُ اشْتِرَاطُ تَقْدِيمِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ؛ وَهُوَ
كَذَلِكَ لِتَكُونَ الثَّانِيَةُ تَابِعَةً؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ
وَقْتُهَا، وَسَوَاءٌ جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ عَلَى
الْأَشْهَرِ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ، قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ؛
لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا هُنَا تَبَعٌ لِاسْتِقْرَارِهَا، كَالْفَوَائِتِ
(إِلَّا بِقَدْرِ الْإِقَامَةِ وَالْوُضُوءِ) كَذَا فِي " الْمُحَرَّرِ "،
وَ " الْفُرُوعِ "؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ؛ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ،
وَهُمَا مِنْ مَصَالِحِ الصَّلَاةِ، وَظَاهِرُهُ تَقْدِيرُ الْيَسِيرِ
بِذَلِكَ، وَصَحَّحَ فِي " الْمُغْنِي "، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ "
أَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ وَالْحِرْزِ، وَيُشْتَرَطُ
فِي الْوُضُوءُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا، فَإِنْ طَالَ، بَطَلَ الْجَمْعُ،
وَاسْتَثْنَى مَعَهُمَا جَمَاعَةَ الذِّكْرِ الْيَسِيرِ، كَتَكْبِيرِ
عِيدٍ.
فَإِنْ صَلَّى السُّنَّةَ بَيْنَهُمَا، بَطَلَ الْجَمْعُ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ) قَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ "، وَجَزَمَ بِهِ فِي "
الْوَجِيزِ "؛ وَهُوَ ظَاهِرُ " الْفُرُوعِ "؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ
بَيْنَهُمَا بِصَلَاةٍ، فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ قَضَى فَائِتَةً،
وَالثَّانِيَةُ: لَا تَبْطُلُ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلصَّلَاةِ، فَلَمْ
يَقَعِ الْفَصْلُ بِأَجْنَبِيٍّ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ، وَفِي "
الِانْتِصَارِ " يَجُوزُ تَنَفُّلُهُ بَيْنَهُمَا، وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ:
لَا بَأْسَ أَنْ يَطَّوَّعَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُطِلِ
الصَّلَاةَ، فَإِنْ أَطَالَهَا، بَطَلَ الجَمْعُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً،
فَإِنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ، جَازَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي
أَنَّ الْجَمْعَ يَبْطُلُ بِالتَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ، وَاعْتَبَرَ فِي "
الْفُصُولِ " الْمُوَالَاةَ. قَالَ: وَمَعْنَاهَا أَنْ لَا يَفْصِلَ
بَيْنَهُمَا بِصَلَاةٍ وَلَا كَلَامٍ، لِئَلَّا يَزُولَ مَعْنَى الِاسْمِ؛
وَهُوَ الْجَمْعُ.
وَقَالَ: إِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الثَّانِيَةِ، وَقُلْنَا: تَبْطُلُ
بِهِ فَتَوَضَّأَ، أَوِ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَطُلْ، فَفِي بُطْلَانِ جَمْعِهِ
احْتِمَالَانِ.
(وَ) الثَّالِثُ (أَنْ يَكُونَ) الْمُبِيحُ (مَوْجُودًا عِنْدَ افْتِتَاحِ
الصَّلَاتَيْنِ، وَسَلَامِ الْأُولَى)
(2/129)
وَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ،
كَفَاهُ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، مَا لَمْ يَضِقْ عَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
كَذَا ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُ، مِنْهُمْ فِي " الْمُحَرَّرِ "، وَ "
الْوَجِيزِ " لِأَنَّ افْتِتَاحَ الْأُولَى مَوْضِعُ النِّيَّةِ
وَفَرَاغُهَا، وَافْتِتَاحُ الثَّانِيَةِ مَوْضِعُ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: لَا
يُشْتَرَطُ عِنْدَ سَلَامِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَ ثُمَّ
عَادَ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ صَحَّ الْجَمْعُ.
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ وَغَيْرُهُ: سَوَاءٌ قُلْنَا بِاعْتِبَارِ نِيَّةِ
الْجَمْعِ أَوْ لَا، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ دَوَامُهُ فِي الْأُولَى،
وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ الْمَطَرُ فِي الْأُولَى وَلَمْ
يَعُدْ، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْجَمْعُ، لَكِنْ إِنْ حَصَلَ وَحَلٌ وَقُلْنَا
بِجَوَازِهِ لَهُ، لَمْ يَبْطُلْ، وَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُ الْعُذْرِ
إِلَى فَرَاغِ الثَّانِيَةِ فِي جَمْعِ الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ
غَيْرِهِ، وَإِنِ انْقَطَعَ السَّفَرُ فِي الْأُولَى، بَطَلَ الْجَمْعُ
مُطْلَقًا، وَيَصِحُّ وَيُتِمُّهَا، وَإِنِ انْقَطَعَ فِي الثَّانِيَةِ
كَمَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِيهَا، أَوْ دَخَلَتِ السَّفِينَةُ الْبَلَدَ،
بَطَلَ الْجَمْعُ، كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا كَالْقَصْرِ
وَالْمَسْحِ. فَعَلَى هَذَا تَنْقَلِبُ نَفْلًا، وَقِيلَ: تَبْطُلُ،
وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ الْجَمْعُ كَانْقِطَاعِ الْمَطَرِ فِي الْأَشْهَرِ،
وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ انْقِطَاعُ الْمَطَرِ، لِاحْتِمَالِ
عَوْدِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَيَخْلُفُهُ الْوَحَلُ؛ وَهُوَ عُذْرٌ
مُبِيحٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، وَمَرِيضٌ كَمُسَافِرٍ، وَظَاهِرُ مَا
سَبَقَ أَنَّهُ إِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ، أَوْ أَقَامَ، أَوْ عُوفِيَ
الْمَرِيضُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ، صَحَّ الْجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ
بَاقِيًا، كَمَا لَوْ قَدِمَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ.
(وَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَفَاهُ) أَيْ: أَجْزَأَهُ
(نِيَّةُ الْجَمْعِ فِي وَقْتِ الْأَوْلَى) لِأَنَّهُ مَتَى أَخَّرَهَا
عَنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، صَارَتْ قَضَاءً لَا جَمْعًا (مَا لَمْ
يَضِقْ عَنْ فِعْلِهَا) كَذَا جَزَمَ بِهِ الْأَكْثَرُ؛ لِأَنَّ
تَأْخِيرَهَا عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي يَضِيقُ عَنْ فِعْلِهَا حَرَامٌ،
وَذَكَرَ الْمَجْدُ وَغَيْرُهُ: أَنْ يَنْوِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْقَى مِنْ
وَقْتِ الْأُولَى بِقَدْرِهَا، لِفَوْتِ فَائِدَةِ الْجَمْعِ؛ وَهِيَ
التَّخْفِيفُ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: أَوْ قَدْرُ
تَكْبِيرَةٍ أَوْ رَكْعَةٍ، وَذَكَرَهُ فِي " الْمُغْنِي " احْتِمَالًا؛
لِأَنَّهُ يُدْرِكُهَا بِهِ، وَحَمَلَ الْأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ
الْأَوْلَى، وَقِيلَ: يَنْوِيهِ مِنَ الزَّوَالِ وَالْغُرُوبِ (وَ)
يُشْتَرَطُ (اسْتِمْرَارُ الْعُذْرِ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ)
لِأَنَّ الْمُجَوِّزَ لِلْجَمْعِ الْعُذْرُ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَمِرَّ،
وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ، لِزَوَالِ الْمُقْتَضِي، كَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ،
وَالْمُسَافِرِ يَقْدِمُ، وَالْمَطَرِ يَنْقَطِعُ، وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ
لَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْعُذْرِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُمَا
صَارَتَا وَاجِبَتَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ
(2/130)
فِعْلِهَا، وَاسْتِمْرَارُ الْعُذْرِ إِلَى
دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
فِعْلِهِمَا، وَيُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ فِي الْجَمْعَيْنِ، لَكِنْ إِنْ
جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْهُمَا، قَالَ فِي "
الرِّعَايَةِ ": أَوْ ضَاقَ وَقْتُ الْأُولَى عَنْ إِحْدَاهُمَا، فَفِي
سُقُوطِ التَّرْتِيبِ لِضِيقِهِ وَجْهَانِ (وَلَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ
ذَلِكَ) أَيْ: مِمَّا تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُهُ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ مِنْ
نِيَّةِ الْجَمْعِ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ، وَوُجُودِ الْعُذْرِ عِنْدَ
إِحْرَامِهِمَا، وَسَلَامِ الْأُولَى، وَالْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ
الثَّانِيَةَ مَفْعُولَةٌ فِي وَقْتِهَا، فَهِيَ أَدَاءٌ بِكُلِّ حَالٍ،
وَالْأُولَى مَعَهَا كَصَلَاةٍ فَائِتَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ،
وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى
الشَّيْءِ، وَلَا يَحْصُلُ مَعَ التَّفْرِيقِ، فَعَلَى هَذَا: إِنْ تَرَكَ
الْمُوَالَاةَ أَثِمَ، وَصَحَّتْ، كَمَا لَوْ صَلَّى الْأُولَى مَعَ
وَقْتِهَا مَعَ نِيَّةِ الْجَمْعِ ثُمَّ تَرَكَهُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا
بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ بَيْنَهُمَا، نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَلَّى
الْأُولَى وَحْدَهُ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، أَوْ
صَلَّى إِمَامٌ الْأُولَى، وَإِمَامٌ الثَّانِيَةَ، أَوْ صَلَّى مَعَهُ
مَأْمُومٌ الْأُولَى، وَأُخِّرَ الثَّانِيَةَ، أَوْ نَوَى الْجَمْعَ خَلْفَ
مَنْ لَا يَجْمَعُ، أَوْ بِمَنْ لَا يَجْمَعُ، صَحَّ.
مَسَائِلُ: الْأُولَى إِذَا بَانَ فَسَادُ أُولَاهُمَا بَعْدَ الْجَمْعِ
بِنِسْيَانِ رُكْنٍ أَوْ غَيْرِهِ بَطَلَتْ، وَكَذَا الثَّانِيَةُ، فَلَا
جَمْعَ، وَلَا تَبْطُلُ الْأَوْلَى بِبُطْلَانِ الثَّانِيَةِ، وَلَا
الْجَمْعُ إِنْ صَلَّاهَا قَرِيبًا، وَإِنْ تَرَكَ رُكْنًا، وَلَمْ يَدْرِ
مِنْ أَيِّهِمَا تَرَكَهُ، أَعَادَهُمَا إِنْ بَقِيَ الْوَقْتُ، وَإِلَّا
قَضَاهُمَا.
الثَّانِيَةُ: السُّنَّةُ تَتْبَعُ الْفَرْضَ تَقَدُّمًا وَتَأَخُّرًا،
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ فِعْلُ سُنَّةِ الظُّهْرِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ جَمْعًا، وَقِيلَ: إِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ،
لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ، لِبَقَاءِ الْوَقْتِ إِذَنْ.
الثَّالِثَةُ: صَلَاةُ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ كَغَيْرِهِمَا، نَصَّ
عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ، وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ،
وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْجَمْعَ وَالْقَصْرَ مُطْلَقًا،
وَالْأَشْهَرُ عَنْ أَحْمَدَ: الْجَمْعُ فَقَطْ، اخْتَارَهُ الْمُؤَلِّفُ.
وَلِامْتِنَاعِ الْقَصْرِ لِلْمَكِّيِّ.
قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى أَحَدٌ مِنْهُمُ
الْمَوْسِمَ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كَانَ يَقْدِمُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - مِنَ الْمَدِينَةِ» ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ
لَا يُوَلَّى أَحَدٌ مِنْهُمْ.
(2/131)
فَصْلٌ
فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -: صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَوْ سِتَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ
لِمَنْ فَعَلَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ مِنْ جِهَةِ
الْقِبْلَةِ، صَفَّ الْإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ،
فَصَلَّى بِهِمْ جَمِيعًا إِلَى أَنْ يَسْجُدَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ] [أَنْوَاعُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]
فَصْلٌ
فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا
كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الْآيَةَ،
وَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثَبَتَ
فِي حَقِّ أُمَّتِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْخِطَابِ لَا
يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَبِالسُّنَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ
وَصَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّاهَا، وَأَجْمَعَ
الصَّحَابَةُ عَلَى فِعْلِهَا، وَصَلَّاهَا عَلِيٌّ، وَأَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ، وَحُذَيْفَةُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَالنَّبِيُّ لَمْ يُصَلِّهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ؟
وَجَوَابُهُ: بِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِهَا.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
نَسِيَهَا يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ قِتَالٌ يَمْنَعُهُ
مِنْهَا.
(قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
حَنْبَلٍ: (صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
صَلَاةُ الْخَوْفِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ، أَوْ سِتَّةٍ) وَقَالَ فِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى: سِتَّةِ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٍ (كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ
لِمَنْ فَعَلَهُ) قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ:
تَقُولُ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا أَوْ تَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْهَا؟ قَالَ:
أَنَا أَقُولُ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهَا كُلِّهَا فَحَسَنٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ
سَهْلٍ فَأَنَا أَخْتَارُهُ.
وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ مُبَاحَ الْقِتَالِ، سَفَرًا كَانَ
أَوْ حَضَرًا، مَعَ خَوْفِ هُجُومِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِهِ
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]
(فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، صَفَّ
الْإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ) قَالَ جَمَاعَةٌ: أَوْ
أَكْثَرَ (فَصَلَّى بِهِمْ جَمِيعًا) مِنَ الْإِحْرَامِ، وَالْقِيَامِ،
وَالرُّكُوعِ، وَالرَّفْعِ مِنْهُ (إِلَى أَنْ يَسْجُدَ فَيَسْجُدَ
(2/132)
فَيَسْجُدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي
يَلِيهِ، وَيَحْرُسُ الْآخَرُ حَتَّى يَقُومَ الْإِمَامُ إِلَى
الثَّانِيَةِ، فَيَسْجُدَ وَيَلْحَقَهُ، فَإِذَا سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ،
سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي حَرَسَ، وَحَرَسَ الْآخَرُ حَتَّى يَجْلِسَ
الْإِمَامُ فِي التَّشَهُّدِ، فَيَسْجُدَ وَيَلْحَقَهُ، فَيَتَشَهَّدَ
وَيُسَلِّمَ بِهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَيَحْرُسُ الْآخَرُ حَتَّى يَقُومَ
الْإِمَامُ إِلَى الثَّانِيَةِ فَيَسْجُدَ وَيَلْحَقَهُ، فَإِذَا سَجَدَ
فِي الثَّانِيَةِ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي حَرَسَ، وَحَرَسَ
الْآخَرُ حَتَّى يَجْلِسَ فِي التَّشَهُّدِ فَيَسْجُدَ، وَيَلْحَقَهُ
فَيَتَشَهَّدَ، وَيُسَلِّمَ بِهِمْ) جَمِيعًا. هَذِهِ الصِّفَةُ رَوَاهَا
جَابِرٌ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ،
وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ
وَرَكَعْنَا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا،
ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ
الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، وَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي
يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، وَقَامُوا، ثُمَّ
تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ،
ثُمَّ رَكَعَ، وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ،
وَالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ
الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا
قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ،
وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ
بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى
الْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ، وَرَوَى هَذِهِ الصِّفَةَ أَحْمَدُ، وَأَبُو
دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَّقِيِّ، قَالَ: «فَصَلَّاهَا
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً
بِعَسَفَانَ، وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ» ، وَلَمْ يَذْكُرِ
الْمُؤَلِّفُ هُنَا تَأَخُّرَ الْمُتَقَدِّمِ، وَتَقَدُّمَ الْمُؤَخَّرِ؛
وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْخَبَرِ كَمَا تَرَى، وَجَزَمَ بِهِ فِي "
الْوَجِيزِ " فَقِيلَ: هُوَ أَوْلَى لِلتَّسَاوِي فِي فَضِيلَةِ
الْمَوْقِفِ، وَلِقُرْبِ مُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ، وَقِيلَ: تَجُوزُ فِي
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَحْرُسُ السَّاجِدُ مَعَهُ أَوَّلًا، وَذَكَرَ
الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي " الْمُحَرَّرِ " أَنَّ
الصَّفَّ الْأَوَّلَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ لَا يَسْجُدُونَ مَعَ
الْإِمَامِ، بَلْ يَقِفُونَ حَرَسًا؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَإِنْ حَرَسَ
بَعْضُ الصَّفِّ، أَوْ جَعَلَهُمْ صَفًّا وَاحِدًا، جَازَ، لِحُصُولِ
الْمَقْصُودِ، وَفِعْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْلَى، وَظَاهِرُ مَا
ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ
الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ
ذَلِكَ أَنْ لَا يَخْفَى بَعْضُهُمْ
(2/133)
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ فِي
غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، جَعَلَ طَائِفَةً حِذَاءَ الْعَدُوِّ،
وَطَائِفَةً تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَةً، فَإِذَا قَامُوا إِلَى
الثَّانِيَةِ، ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى.
وَسَلَّمَتْ وَمَضَتْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الْأُخْرَى، فَصَلَّتْ
مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، أَتَمَّتْ
لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى، وَتَشَهَّدَتْ، وَسَلَّمَ بِهِمْ. فَإِنْ كَانَتِ
الصَّلَاةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ لَا يَخَافُوا كَمِينًا. زَادَ أَبُو
الْخَطَّابِ وَتَبِعَهُ فِي " التَّلْخِيصِ ": أَوْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ
فِيهِمْ كَثْرَةٌ بِأَنْ يَحْرُسَ بَعْضُهُمْ، وَيُصَلِّيَ بَعْضٌ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةَ
الْقِبْلَةِ، جَعَلَ طَائِفَةً حَذْوَ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةً تُصَلِّي
مَعَهُ رَكْعَةً، فَإِذَا قَامُوا إِلَى الثَّانِيَةِ، ثَبَتَ قَائِمًا،
وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى، وَسَلَّمَتْ، وَمَضَتْ إِلَى
الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الْأُخْرَى فَصَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ
الثَّانِيَةَ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ أَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا
أُخْرَى، وَتَشَهَّدَتْ، وَسَلَّمَ بِهِمْ) وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ خَوَاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ
صَلَاةَ الْخَوْفِ: «أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةً وُجَاهَ
الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا،
وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَصَفُّوا وُجَاهَ
الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ
الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا،
وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ» وَصَحَّ عَنْ صَالِحِ
بْنِ خَوَاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ مَرْفُوعًا، وَهَذَا هُوَ
الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ أَنَكَى لِلْعَدُوِّ، وَأَقَلُّ
فِي الْأَفْعَالِ؛ وَهُوَ أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحْوَطُ
لِلصَّلَاةِ وَالْحَرْبِ، وَإِنْ صَلَّى كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛
وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، جَازَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
لِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ
الْقِبْلَةِ؛ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ كَذَلِكَ،
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهَا تُفْعَلُ، وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ
فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ.
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: قَالَ شَيْخُنَا: نَصُّ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا
إِذَا لَمْ تُمْكِنْ صَلَاةُ عَسَفَانَ، لِانْتِشَارِ الْعَدُوِّ، وَقَوْلُ
الْقَاضِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَمْكَنَتْ.
(2/134)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَوْلُهُ: (جَعَلَ طَائِفَةً حَذْوَ الْعَدُوِّ) ، شَرَطَ أَبُو
الْخَطَّابِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي " التَّلْخِيصِ " أَنْ يَكُونَ
الْمُصَلُّونَ يُمْكِنُ تَفْرِيقُهُمْ طَائِفَتَيْنِ، كُلُّ طَائِفَةٍ
ثَلَاثَةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا} [النساء: 102]
وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَذَهَبَ الْمُؤَلِّفُ وَجَمْعٌ إِلَى
عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ يَصِحُّ بِهِ
الْجَمَاعَةُ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةٌ كَالثَّلَاثَةِ، بَلْ
تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ.
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: وَإِنْ كَانَ كُلُّ طَائِفَةٍ أَقَلَّ مِنْ
ثَلَاثَةٍ، كُرِهَ، وَصَحَّ، وَظَاهِرُهُ لَا يَجِبُ التَّسْوِيَةُ
بَيْنَهُمَا، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ
الْعَدُوِّ تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِكِفَايَتِهَا، وَحِرَاسَتِهَا، زَادَ
أَبُو الْمَعَالِي: بِحَيْثُ يَحْرُمُ فِرَارُهَا، فَإِنْ فَرَّطَ
الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ أَثِمَ؛ وَهُوَ صَغِيرَةٌ، الْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَا
يَقْدَحُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَخْتَصُّ بِشَرْطِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ:
يَفْسُقُ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، كَالْمُوَدِّعِ، وَمَتَى خَشِيَ
اخْتِلَالَ حَالِهِمْ، وَاحْتِيجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ بِالطَّائِفَةِ
الْأُخْرَى، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْهَزَ إِلَيْهِمْ بِمَنْ مَعَهُ،
وَثَبَتُوا عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ، فَإِنْ أَتَى الطَّائِفَةَ
الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَدَدٌ، اسْتَغْنَتْ بِهِ عَنِ الْحِرَاسَةِ،
فَهَلْ تَتْرُكُ الْحِرَاسَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَتُصَلِّي؟
فِيهِ وَجْهَانِ، وَعَلَيْهِمَا مَتَى صَلَّتْ، فَصَلَاتُهَا صَحِيحَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَطَائِفَةٌ تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَةً) ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ
يُخَفِّفَ لَهُمُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عَلَى التَّخْفِيفِ،
وَكَذَا الطَّائِفَةُ الَّتِي تُفَارِقُهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَا
تُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَقِلَّ قَائِمًا؛ لِأَنَّ النُّهُوضَ
يَشْتَرِكُونَ فِيهِ جَمْعًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مُفَارَقَتِهِمْ لَهُ
قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَازَتْ لِلْعُذْرِ، وَتَنْوِي
الْمُفَارَقَةَ؛ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْمُتَابَعَةَ، وَلَمْ يَنْوِ
الْمُفَارَقَةَ، بَطَلَتْ، وَتَسْجُدُ لِسَهْوِ إِمَامِهَا قَبْلَ
الْمُفَارَقَةِ عِنْدَ فَرَاغِهَا؛ وَهِيَ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ
مُنْفَرِدَةٌ، وَقِيلَ: مَنْوِيَّةٌ، وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ
مَنْوِيَّةٌ فِي كُلِّ صَلَاتِهِ، يَسْجُدُونَ لِسَهْوِهِ لَا
لِسَهْوِهِمْ.
(2/135)
مَغْرِبًا صَلَّى بِالْأُولَى
رَكْعَتَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً. وَإِنْ كَانَتْ رُبَاعِيَّةً
غَيْرَ مَقْصُورَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَوْلُهُ: (ثَبَتَ قَائِمًا) أَيْ: يَقْرَأُ حَالَ انْتِظَارِهِ
وَيُطِيلُهَا، ذَكَرَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ " وَغَيْرِهِ، وَلَمْ
يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ حَالُ سُكُوتٍ،
وَالْقِيَامُ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهَا كَمَا
فِي التَّشَهُّدِ إِذَا انْتَظَرَهُمْ، وَقَالَ الْقَاضِي: إِذَا قَرَأَ
فِي انْتِظَارِهِمْ، قَرَأَ بَعْدَ مَجِيئِهِمْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ،
وَسُورَةٍ خَفِيفَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي انْتِظَارِهِمْ قَرَأَ
إِذَا جَاءُوا بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِحْبَابِ، فَلَوْ قَرَأَ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ، ثُمَّ رَكَعَ عِنْدَ
مَجِيئِهِمْ، أَوْ قَبْلَهُ، فَأَدْرَكُوهُ رَاكِعًا، رَكَعُوا مَعَهُ،
وَصَحَّتْ لَهُمُ الرَّكْعَةُ مَعَ تَرْكِ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، أَيْ: يَتَشَهَّدُ وَيُطِيلُهُ،
وَيُطِيلُ الدُّعَاءَ فِيهِ حَتَّى يُدْرِكَهُ فَيَتَشَهَّدُوا،
وَيُسَلِّمَ بِهِمْ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ قَبْلَهُمْ بَعْدَ أَنْ
صَلَّوْا مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلُّوا وَحْدَهُمْ رَكْعَةً أُخْرَى
وَيُسَلِّمُوا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ الْخَبَرِ،
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا
فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُمْ
كُلَّهَا مَعَهُ، وَلِتَحْصُلَ الْمُعَادَلَةُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ
الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ، وَالثَّانِيَةَ
السَّلَامَ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ،
كَصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَالرُّبَاعِيَّةِ الْمَقْصُورَةِ لِلْمُسَافِرِ،
فَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَتُصَلَّى فِي الْخَوْفِ حَضَرًا بِشَرْطِ كَوْنِ
الطَّائِفَةِ أَنْ تُعِينَ، فَيُصَلِّي بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً بَعْدَ
حُضُورِهَا الْخُطْبَةَ، فَإِنْ أَحْرَمْ بِالَّتِي لَمْ يَحْضُرْهَا، لَمْ
يَصِحَّ، وَتَقْضِي كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً بِلَا جَهْرٍ، وَتُصَلِّي
الِاسْتِسْقَاءَ ضَرُورَةً كَالْمَكْتُوبَةِ، وَالْكُسُوفُ وَالْعِيدُ
آكَدُ مِنْهُ.
(فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ،
وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً) ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ
يَكُنْ بُدٌّ مِنَ التَّفْضِيلِ، فَالْأُولَى أَحَقُّ بِهِ، وَمَا فَاتَ
الثَّانِيَةَ يَنْجَبِرُ بِإِدْرَاكِهَا السَّلَامَ مَعَ الْإِمَامِ،
وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عُكِسَ، صَحَّتْ، وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ؛ لِأَنَّ الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ الثَّانِيَةَ فِي الرَّكَعَاتِ لِيَحْصُلَ
الْجَبْرُ بِهِ، قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَكَيْفَ فَعَلَ جَازَ،
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُصَلِّي جَمِيعَ صَلَاتِهَا فِي حُكْمِ
الْإِتْمَامِ، وَالْأُولَى تَفْعَلُ صَلَاتَهَا فِي حِكَمِ الِانْفِرَادِ.
(2/136)
صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ،
وَأَتَمَّتِ الْأُولَى بِـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فِي كُلِّ رَكْعَةٍ،
وَالْأُخْرَى تُتِمُّ بِـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَسُورَةٍ، وَهَلْ
تُفَارِقُهُ الْأُولَى فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ؛ عَلَى
وَجْهَيْنِ. وَإِنْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعًا، فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ
رَكْعَةً، صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُولَيَيْنِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَخَرَّجُ: يَفْسَدُ مِنْ فَسَادِهَا
بِتَفْرِيقِهِمْ أَرْبَعَ طَوَائِفَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِذَا صَلَّى
بِالثَّانِيَةِ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ، وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامَتْ،
وَلَا تَتَشَهَّدُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِتَشَهُّدِهَا،
بِخِلَافِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ: تَتَشَهَّدُ مَعَهُ إِذَا
قُلْنَا: إِنَّهَا تَقْضِي رَكْعَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، لِئَلَّا
يُفْضِيَ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِتَشَهُّدٍ وَاحِدٍ،
وَلَا نَظِيرَ لَهُ (وَإِنْ كَانَتْ رُبَاعِيَّةً غَيْرَ مَقْصُورَةٍ
صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَأَتَمَّتِ الْأُولَى) بَعْدَ
مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ (بِالْحَمْدُ لِلَّهِ) وَحْدَهَا (فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ) لِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاتِهَا (وَ) تَقُومُ (الْأُخْرَى) إِذَا
تَشَهَّدَتْ مَعَهُ الْأَوَّلَ (تُتِمُّ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُورَةٍ)
لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاتِهَا، وَتَسْتَفْتِحُ إِذَا قَامَتْ لِلْقَضَاءِ،
وَيُسَلِّمُ بِهِمْ، وَإِنْ قُلْنَا: مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ آخِرَ
صَلَاتِهِ، فَلَا اسْتِفْتَاحَ، وَلَا يَقْرَأُ السُّورَةَ (وَهَلْ
تُفَارِقُهُ الْأُولَى فِي التَّشَهُّدِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، عَلَى
وَجْهَيْنِ) إِحْدَاهُمَا: تُفَارِقُهُ إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ،
قَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ "، وَ " الْفُرُوعِ "، وَجَزَمَ بِهِ فِي "
الْوَجِيزِ "، وَغَيْرِهِ، وَيَنْتَظِرُ الثَّانِيَةَ جَالِسًا
يُكَرِّرُهُ، فَإِذَا أَتَتْ، قَامَ لِيُدْرِكَ جَمِيعَ الرَّكْعَةِ
الثَّالِثَةِ، وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ أَخَفُّ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ
مَتَى انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا احْتَاجَ إِلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ، وَفِي
الثَّالِثَةِ خِلَافُ السُّنَّةِ.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: تُحْرِمُ مَعَهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ بِهِمْ،
وَالثَّانِي: يُفَارِقُونَهُ حِينَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّالِثَةِ؛
لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّطْوِيلِ مِنْ أَجْلِ الِانْتِظَارِ،
وَالتَّشَهُّدُ يُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُهُ، وَلِأَنَّ ثَوَابَ الْقَائِمِ
أَكْثَرُ.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، وَيَصِحُّ بِطَائِفَةٍ
رَكْعَةً، وَبِأُخْرَى ثَلَاثًا، وَيَكُونُ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ، قَالَهُ
ابْنُ تَمِيمٍ.
(وَإِنْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعًا فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً) أَوْ
فَرَّقَهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَصَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ،
وَبِالْبَاقِيَتَيْنِ رَكْعَةً رَكْعَةً، أَوْ صَلَّى بِكُلِّ فِرْقَةٍ
رَكْعَةً فِي الْمَغْرِبِ (صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُولَيَيْنِ) فَقَطْ،
ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ، وَصَاحِبُ " التَّلْخِيصِ "، وَ " الْوَجِيزِ "،
وَقَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ "
(2/137)
وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ
وَالْأُخْرَيَيْنِ إِنْ عَلِمَتَا بُطْلَانَ صَلَاتِهِ. الْوَجْهُ
الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، ثُمَّ تَمْضِي
إِلَى الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الْأُخْرَى، فَيُصَلِّي بِهَا رَكْعَةً
وَيُسَلِّمُ وَحْدَهُ، وَتَمْضِي هِيَ إِلَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي
الْأُولَى فَتُتِمُّ صَلَاتَهَا، ثُمَّ تَأْتِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
لِأَنَّهُمَا ائْتَمَّا بِمَنْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَلِمُفَارَقَتِهَا
قَبْلَ الِانْتِظَارِ الثَّالِثِ؛ وَهُوَ الْمُبْطِلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَرِدْ (وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ) لِأَنَّهُ زَادَ انْتِظَارًا
ثَالِثًا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ، فَوَجَبَ بُطْلَانُهَا، أَشْبَهَ مَا
لَوْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا التَّفْرِيقُ
لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُمْ
صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ (وَالْأُخْرَيَيْنِ إِنْ عَلِمَتَا بُطْلَانَ
صَلَاتِهِ) لِأَنَّهُمَا ائْتَمَّا بِمَنْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، أَشْبَهَ
مَا لَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً مِنْ أَوَّلِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا إِذَا
جَهِلَتَا بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، أَنَّهَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ
مِمَّا يَخْفَى، وَكَمَا لَوِ ائْتَمَّ بِمُحْدِثٍ لَا يَعْلَمُ حَدَثَهُ،
وَيَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا، قَالَهُ فِي " الشَّرْحِ "،
وَ " الْوَجِيزِ "، وَفِيهِ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ
مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ يَعْلَمَانِ وُجُودَ
الْمُبْطِلِ، وَإِنَّمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ، فَلَمْ يَمْنَعْ
ذَلِكَ الْبُطْلَانَ، كَمَا لَوْ عُلِمَ حَدَثُ الْإِمَامِ، وَلَمْ
يُعْلَمْ كَوْنُهُ مُبْطِلًا، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ صَحَّتْ
صَلَاةُ الْجَمِيعِ.
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَهُوَ أَقْيَسُ، فَعَلَى هَذَا تُفَارِقُهُ
الْأُولَتَانِ بَعْدَ الْقِيَامِ، وَتُفَارِقُهُ الثَّالِثَةُ، وَتَقُومُ
الرَّابِعَةُ عَقِبَ رَفْعِهِ مِنَ السُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ
حَاجَةٍ، صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُولَى فَقَطْ، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ
وَبَاقِي الطَّوَائِفِ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْكُلِّ لِنِيَّتِهِ
صَلَاةً مُحَرَّمَةً ابْتِدَاءً، وَقِيلَ: تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ
فَقَطْ، جَزَمَ بِهِ فِي الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ
إِنَّمَا فَسَدَتْ لِانْصِرَافِهِمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الِانْصِرَافِ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ: تَبْطُلُ صَلَاةُ
الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ لِانْصِرَافِهِمَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً ثُمَّ
تَمْضِيَ إِلَى الْعَدُوِّ، وَتَأْتِيَ الْأُخْرَى فَيُصَلِّيَ بِهَا
رَكْعَةً وَيُسَلِّمَ وَحْدَهُ، وَتَمْضِيَ هِيَ إِلَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ
تَأْتِيَ الْأُولَى فَتُتِمَّ صَلَاتَهَا، ثُمَّ تَأْتِيَ الْأُخْرَى
فَتُتِمَّ صَلَاتَهَا) لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى
مُوَاجَهَةُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَقَامُوا فِي مَقَامِ
(2/138)
الْأُخْرَى فَتُتِمُّ صَلَاتَهَا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً
وَيُسَلِّمَ بِهَا. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُصَلِّيَ الرُّبَاعِيَّةَ
الْمَقْصُورَةَ تَامَّةً، وَتُصَلِّيَ مَعَهُ كُلُّ طَائِفَةٍ
رَكْعَتَيْنِ، وَلَا تَقْضِي شَيْئًا، فَتَكُونَ لَهُ تَامَّةً، وَلَهُمْ
مَقْصُورَةً. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْمِلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى
بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً ثُمَّ
سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ، وَعَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي
تَقْضِيهَا، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا
مُؤْتَمَّةٌ بِهِ حُكْمًا، فَلَا يَقْرَأُ فِيمَا يَقْضِيهِ، كَمَنْ زُحِمَ
أَوْ نَامَ حَتَّى سَلَّمَ إِمَامُهُ، وَالْمَنْصُوصُ خِلَافُهُ، وَإِذَا
قَضَتِ الثَّانِيَةُ رَكْعَتَهَا حِينَ تُفَارِقُ الْإِمَامَ ثُمَّ
تَمْضِي، وَتَأْتِي الْأُولَى فَتُتِمُّ صَلَاتَهَا، جَازَ.
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَهُوَ أَحْسَنُ؛ لِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً،
وَيُسَلِّمَ بِهَا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ
عَنْ أَبِي بَكَرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا،
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ حَسَنَةٌ قَلِيلَةُ الْكُلْفَةِ
لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ، وَلَا إِلَى تَعْرِيفِ
كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَبَنَاهُ الْقَاضِي عَلَى اقْتِدَاءِ
الْمُفْتَرِضِ بِالْمُنْتَفِلِ، وَنَصُّهُ التَّفْرِقَةُ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُصَلِّيَ الرُّبَاعِيَّةَ الْمَقْصُورَةَ
تَامَّةً، وَتُصَلِّيَ مَعَهُ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا تَقْضِي
شَيْئًا، فَتَكُونَ لَهُ تَامَّةً، وَلَهُمْ مَقْصُورَةً) لِمَا رَوَى
جَابِرٌ قَالَ: «أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ قَالَ: فَنُودِيَ
بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا،
وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَكَانَتْ
لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُ
رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(2/139)
مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ مَا يَدْفَعُ بِهِ
عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُثْقِلُهُ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ، وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى
بِهِمْ كَصَلَاةِ الْحَضَرِ، وَأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ قَضَتْ رَكْعَتَيْنِ؛
وَهُوَ تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ لِمُخَالَفَةِ صِفَةِ الرِّوَايَةِ، وَقَوْلِ
أَحْمَدَ، وَمَنَعَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ " لِاحْتِمَالِ سَلَامِهِ،
فَتَكُونُ الصِّفَةُ قَبْلَهَا.
تَتْمِيمٌ: وَهُوَ الْوَجْهُ السَّادِسُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ
هُنَا؛ وَهُوَ لَوْ قَصَرَهَا، وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً بِلَا
قَضَاءٍ، كَصَلَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَحُذَيْفَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، صَحَّ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ،
وَاخْتَارَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَقَدَّمَهُ فِي " الرِّعَايَةِ "، وَ "
الْفُرُوعِ "، وَ " مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ "، وَغَيْرِهِمْ، وَالْمَذْهَبُ
خِلَافُهُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": الَّذِينَ قَالُوا: رَكْعَةً، إِنَّمَا هُوَ
عِنْدَ شِدَّةِ الْقِتَالِ، وَالَّذِينَ رَوَيْنَا عَنْهُمْ صَلَاةَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُهُمْ لَمْ
يَنْقُصُوا مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ
لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ مَنْ حَضَرَهَا وَصَلَّاهَا
مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى.
زِيَادَةٌ: إِذَا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ نَجْدٍ، عَلَى مَا خَرَّجَهُ أَحْمَدُ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ وَهِيَ أَنْ تَقُومَ مَعَهُ طَائِفَةٌ،
وَأُخْرَى تُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ
يُحْرِمُ وَيُحْرِمُ مَعَهُ الطَّائِفَتَانِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً هُوَ
وَالَّتِي مَعَهُ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الثَّانِيَةِ وَيَذْهَبُ الَّذِينَ
مَعَهُ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الْأُخْرَى فَتَرْكَعُ
وَتَسْجُدُ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالثَّانِيَةِ وَيَجْلِسُ، وَتَأْتِي الَّتِي
تُجَاهَ الْعَدُوِّ فَتَرْكَعُ وَتَسْجُدُ وَيُسَلِّمُ بِالْجَمِيعِ،
جَازَ.
(وَيُسْتَحِبُّ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ مَا يَدْفَعُ بِهِ
عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُثْقِلُهُ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ) ذَكَرَهُ
مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وَقَوْلِهِ {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ
كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فَدَلَّ عَلَى الْجُنَاحِ عِنْدَ عَدَمِ
ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ شَرْطًا كَالسُّتْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ مُنَجَّا: وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ حَمْلَهُ
يُرَادُ لِحِرَاسَةٍ أَوْ قِتَالٍ، وَالْمُصَلِّي لَا يَتَّصِفُ
بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالْأَمْرُ بِهِ لِلرِّفْقِ بِهِمْ وَالصِّيَانَةِ
لَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِيجَابِ، كَمَا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ
الْوِصَالِ لَمَّا كَانَ لِلرِّفْقِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ، وَذَكَرَهُ
الشَّرِيفُ، وَابْنُ عَقِيلٍ بِأَنَّ حَمْلَهُ
(2/140)
فَصْلٌ وَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ،
صَلَّوْا رِجَالًا وَرُكْبَانًا إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا،
وَيُومِئُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَحْظُورٌ، فَالْأَمْرُ بِهِ هُنَا أَمْرٌ بَعْدَ
حَظْرٍ؛ وَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ مَعَ قَوْلِهِمْ: يُسْتَحَبُّ، وَظَاهِرُهُ
أَنَّهُ يُكْرَهُ حَمْلُ مَا يُثْقِلُهُ كَالْجَوْشَنِ وَمَا يَمْنَعُ مِنْ
إِكْمَالِهَا كَالْمِغْفَرِ، وَمَا يَضُرُّ غَيْرَهُ كَالرُّمْحِ، هَذَا
إِذَا كَانَ مُتَوَسِّطًا، فَإِنْ كَانَ فِي حَاشِيَةٍ لَمْ يُكْرَهْ،
قَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ
(وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ) أَيْ: حَمْلُ الْخِفِّ مِنْ سِلَاحٍ
يَقِيهِ، وَاخْتَارَهُ، وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَالَهُ دَاوُدُ، وَفِي "
الشَّرْحِ "؛ وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَلَيْسَ
بِشَرْطٍ وِفَاقًا.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ، لَكِنْ إِنْ كَانَ
بِهِمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ مَرَضٍ، فَلَا يَجِبُ بِغَيْرِ خِلَافٍ.
فَرْعٌ: يَجُوزُ حَمْلُ سِلَاحٍ نَجِسٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِلْحَاجَةِ
بِلَا إِعَادَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.
[فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ]
فَصْلٌ (وَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ) الْمُرَادُ بِهِ حَالَ
الْمُسَايَفَةِ؛ وَهُوَ أَنْ يَتَوَاصَلَ الطَّعْنُ وَالْكَرُّ وَالْفَرُّ،
وَلَمْ يُمْكِنْ تَفْرِيقُ الْقَوْمِ، وَلَا صَلَاتُهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ
(صَلَّوْا) أَيْ: يَلْزَمُهُمْ فِعْلُ الصَّلَاةِ (رِجَالًا وَرُكْبَانًا
إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «فَإِنْ
كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى
أَقْدَامِهِمْ، وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، وَغَيْرَ
مُسْتَقْبِلِيهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زَادَ الْبُخَارِيُّ قَالَ
نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا،
(2/141)
إِيمَاءً عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ. فَإِنْ
أَمْكَنَهُمُ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَهَلْ
يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ؛ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَمَنْ هَرَبَ مِنْ عَدُوٍّ
هَرَبًا مُبَاحًا أَوْ مِنْ سَيْلٍ أَوْ سَبُعٍ وَنَحْوِهِ، فَلَهُ أَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي غَيْرِ
شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَشْيِ إِلَى وُجَاهِ الْعَدُوِّ،
وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِقَضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ
صَلَاتِهِمْ؛ وَهُوَ مَشْيٌ كَثِيرٌ، وَعَمَلٌ طَوِيلٌ، وَاسْتِدْبَارُ
الْقِبْلَةِ، فَمَعَ شِدَّتِهِ أَوْلَى.
(وَيُومِئُونَ إِيمَاءً عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ) لِأَنَّهُمْ لَوْ
تَمَّمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَكَانُوا هَدَفًا لِأَسْلِحَةِ
الْكُفَّارِ، مُعَرِّضِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْهَلَاكِ، وَيُومِئُ
بِالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى
ظَهْرِ دَابَّتِهِ، وَلَهُ الْكَرُّ وَالْفَرُّ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّهُ
مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لَجَازَ إِخْلَاءُ
الْوَقْتِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ تَصِحُّ
طَهَارَتُهُمْ، كَالْمَرِيضِ، بِخِلَافِ الصِّيَاحِ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ
بِهِمْ إِلَيْهِ، وَلَا يَزُولُ الْخَوْفُ إِلَّا بِانْهِزَامِ الْكُلِّ،
وَظَاهِرُهُ أَنَّ لَهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ وُجِدَ قَبْلَ الصَّلَاةِ
أَوْ فِيهَا، وَتَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ حِينَئِذٍ، نَصَّ عَلَيْهِ
لِلنُّصُوصِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا تَجِبُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا احْتَجُّوا
بِهِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ، وَعِنْدَ ابْنِ حَامِدٍ، وَالْمُؤَلِّفِ: لَا
يَنْعَقِدُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: يُعْفَى عَنْ تَقْدِيمِ الْإِمَامِ،
كَعَمَلٍ كَثِيرٍ، لَكِنْ يُعْتَبَرُ إِمْكَانُ الْمُتَابَعَةِ، وَأَنَّ
الصَّلَاةَ لَا تُؤَخَّرُ عَنْ وَقْتِهَا؛ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ،
وَعَنْهُ: يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا حَالَ شِدَّةِ الْحَرْبِ وَالْتِحَامِ
الْقِتَالِ وَالْمُطَارَدَةِ، ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَلَا يَجِبُ.
وَعَنْهُ: مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهَا، قَالَ فِي " التَّلْخِيصِ
": وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَتَأْخِيرُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ، قَالَ أَبُو
سَعِيدٍ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، رَوَاهُ
أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ.
(فَإِنْ أَمْكَنَهُمُ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَهَلْ
يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ) " الْمَذْهَبُ "، وَقَدَّمَهُ
فِي " الْمُحَرَّرِ "، وَ " الْفُرُوعِ " لَا يَلْزَمُهُ كَبَقِيَّةِ
أَجْزَائِهَا، وَالثَّانِيَةُ: بَلَى؛ وَهِيَ ظَاهِرُ الْخِرَقِيِّ،
وَجَزَمَ بِهَا فِي " الْوَجِيزِ " كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ فِي
رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ، وَظَاهِرُهُ: لَا تَجِبُ مَعَ الْعَجْزِ، حَكَاهُ
بَعْضُهُمْ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ ذَكَرَ
(2/142)
يُصَلِّيَ كَذَلِكَ. وَهَلْ لِطَالِبِ
الْعَدُوِّ الْخَائِفِ فَوَاتَهُ الصَّلَاةُ كَذَلِكَ؟ عَلَى
رِوَايَتَيْنِ، وَمَنْ أَمِنَ فِي الصَّلَاةِ أَتَمَّ صَلَاةَ آمِنٍ،
وَمَنِ ابْتَدَأَهَا آمِنًا فَخَافَ، أَتَمَّ صَلَاةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
أَبُو بَكْرٍ فِي " الشَّافِي "، وَابْنُ عَقِيلٍ: أَنَّهُ يَجِبُ مَعَ
الْقُدْرَةِ، وَمَعَ الْعَجْزِ رِوَايَتَانِ.
(وَمَنْ هَرَبَ مِنْ عَدُوٍّ هَرَبًا مُبَاحًا) كَخَوْفِ قَتْلٍ مُحَرَّمٍ
أَوْ أَسْرٍ (أَوْ مِنْ سَيْلٍ أَوْ سَبُعٍ) وَهُوَ الْحَيَوَانُ
الْمَعْرُوفُ - بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا -، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى
كُلِّ حَيَوَانٍ مُفْتَرِسٍ (أَوْ نَحْوِهِ) كَنَارٍ (فَلَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ كَذَلِكَ) أَيْ: كَمَا تَقَدَّمَ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، سَوَاءٌ
خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ ذَبَّهُ عَنْهُ،
وَعَلَى الْأَصَحِّ: أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ صَلَاةُ أَمْنٍ
كَدُخُولِهِ حِصْنًا، أَوْ صُعُودِهِ رَبْوَةً، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
لَا ضَرُورَةَ لِذَلِكَ، وَفِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِمُحْرِمٍ خَوْفَ
فَوْتِ الْحَجِّ خِلَافٌ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعَاصِيَ بِهَرَبِهِ لَيْسَ
لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ، فَلَا
تَثْبُتُ بِالْمَعْصِيَةِ كَرُخَصِ السَّفَرِ (وَهَلْ لِطَالِبِ الْعَدُوِّ
الْخَائِفِ فَوَاتَهُ الصَّلَاةُ كَذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ)
إِحْدَاهُمَا، وَاخْتَارَهَا الْأَكْثَرُ: أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، رُوِيَ عَنْ
شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ، وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ؛ لِقَوْلِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ «بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: اذْهَبْ
فَاقْتُلْهُ، فَرَأَيْتُهُ وَقَدْ حَضَرَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَقُلْتُ:
إِنِّي لَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا يُؤَخِّرُ
الصَّلَاةَ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إِيمَاءً نَحْوَهُ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ كَانَ قَدْ عَلِمَ
جَوَازَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مُخْطِئًا،
وَلِأَنَّ فَوَاتَ الْكُفَّارِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، فَأُبِيحَتْ صَلَاةُ
الْخَوْفِ عِنْدَ فَوْتِهِ، كَالْحَالَةِ الْأُخْرَى، وَالثَّانِيَةُ: لَا
يُصَلِّي إِلَّا صَلَاةَ أَمْنٍ، صَحَّحَهَا ابْنُ عَقِيلٍ، وَقَالَهُ
أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهَا مَشْرُوطَةٌ بِالْخَوْفِ؛ وَهُوَ
مَعْدُومٌ هُنَا، وَكَذَا التَّيَمُّمُ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى:
إِنْ خَافَ الطَّالِبُ رُجُوعَ الْعَدُوِّ صَلَّى صَلَاةَ خَائِفٍ؛ وَهُوَ
الَّذِي فِي " الشَّرْحِ ".
(وَمَنْ أَمِنَ فِي الصَّلَاةِ أَتَمَّ صَلَاةَ آمِنٍ، وَإِنِ ابْتَدَأَهَا
آمِنًا فَخَافَ، أَتَمَّ صَلَاةَ خَائِفٍ) عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ
يَبْنِي عَلَى صَلَاةٍ صَحِيحَةٍ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى قَائِمًا ثُمَّ
عَجَزَ، أَوْ
(2/143)
خَائِفٍ، وَمَنْ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ لِسَوَادٍ ظَنَّهُ عَدُوًّا،
فَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدُوٍّ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا
يَمْنَعُهُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
مُكَلَّفٍ ذَكَرٍ حُرٍّ مُسْتَوْطِنٍ بِبِنَاءٍ. لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
عَاجِزًا ثُمَّ قَدَرَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوِ انْتَهَى السَّيْلُ أَوِ
الْحَرِيقُ إِلَيْهِ؛ وَهُوَ يُصَلِّي أَنَّهُ يُصَلِّي صَلَاةَ خَائِفٍ،
وَكَذَا مَنْ خَافَ كَمِينًا أَوْ مَكِيدَةً أَوْ مَكْرُوهًا، وَإِنْ لَمْ
يَكُنِ الْعَدُوُّ بِإِزَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ
عَلَى الْأَشْهَرِ (وَمَنْ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ لِسَوَادٍ ظَنَّهُ
عَدُوًّا، فَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدُوٍّ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا
يَمْنَعُهُ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) كَذَا ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ، أَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ الطَّهَارَةَ،
ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ.
وَسَوَاءٌ اسْتَنَدَ ظَنُّهُ إِلَى خَبَرِ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ:
لَا إِعَادَةَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ رِوَايَةً، وَكَذَا إِنْ
كَانَ، وَثَمَّ مَانِعٌ، وَقِيلَ: إِنْ خَفِيَ الْمَانِعُ، وَإِلَّا
أَعَادَ، فَإِنْ بَانَ عَدُوًّا يَقْصِدُ غَيْرَهُ، لَمْ يُعِدْ فِي
الْأَصَحِّ، لِوُجُودِ سَبَبِ الْخَوْفِ بِوُجُودِ عَدُوٍّ يَخَافُ
هَجْمَهُ، كَمَا لَا يُعِيدُ مَنْ خَافَ عَدُوًّا فِي تَخَلُّفِهِ عَنْ
رُفْقَتِهِ فَصَلَّاهَا، ثُمَّ بَانَ أَمْنُ الطَّرِيقِ.
وَقَالَ فِي " التَّبْصِرَةِ ": إِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ
خَنْدَقٌ أَوْ سُورٌ، فَخَافُوا طَمَّهُ أَوْ هَدْمَهُ إِنِ اشْتَغَلُوا،
صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَقَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ
ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، صَلَّوْا صَلَاةَ
آمِنٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. |