المبدع
شرح المقنع ط العلمية فَصْلٌ فِي الْكَفَالَةِ وَهِيَ الْتِزَامُ
إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِهِ وَتَصِحُّ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ
وَبِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ، وَلَا تَصِحُّ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ
حَدٌّ أَوْ قِصَاصٌ، وَلَا بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَأَحَدِ هَذَيْنِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
[بَابُ الْكَفَالَةِ] [حُكْمُ الكفالة]
فصل
فِي الْكَفَالَةِ
وَهِيَ صَحِيحَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ
حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ
يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى
الِاسْتِيثَاقِ بِضَمَانِ الْمَالِ، أَوِ الْبَدَنِ، وَضَمَانُ الْمَالِ
يَمْتَنِعُ مِنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَوْ لَمْ تَجُزِ الْكَفَالَةُ
بِالنَّفْسِ لَأَدَّى إِلَى الْحَرَجِ وَعَدَمِ الْمُعَامَلَاتِ
الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا.
(وَهِيَ الْتِزَامُ) الرَّشِيدِ (إِحْضَارَ الْمَكْفُولِ بِهِ) ، لِأَنَّ
الْعَقْدَ فِي الْكَفَالَةِ وَاقِعٌ عَلَى بَدَنِ الْمَكْفُولِ بِهِ
فَكَانَ إِحْضَارُهُ هُوَ الْمُلْتَزَمَ بِهِ كَالضَّمَانِ وَيُعْتَبَرُ
رِضَا الْكَفِيلِ وَتَعْيِينُ الْمَكْفُولِ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ
حَقٌّ، وَلَا يُعْتَبَرُ إِذْنُهُ وَتَنْعَقِدُ بِأَلْفَاظِ ضَمَانٍ.
(وَتَصِحُّ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ) ، لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقٌّ
مَالِيٌّ، فَصَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالضَّمَانِ سَوَاءٌ كَانَ
الدَّيْنُ مَعْلُومًا، أَوْ مَجْهُولًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَصِحُّ
الْكَفَالَةُ بِبَدَنِ كُلِّ مَنْ يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ فِي مَجْلِسِ
الْحُكْمِ بِدَيْنٍ لَازِمٍ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالصَّبِيِّ،
وَالْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُ إِحْضَارُهُمَا مَجْلِسَ
الْحُكْمِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا بِالْإِتْلَافِ وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ
دَيْنُ الْكِتَابَةِ وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْكَفِيلِ، فَإِنْ بَرِئَ
الْأَوَّلُ بَرِئَ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ (وَبِالْأَعْيَانِ
الْمَضْمُونَةِ) لِصِحَّةِ ضَمَانِهَا فَيَرُدُّ أَعْيَانَهَا، أَوْ
قِيمَتَهَا إِنْ تَلَفَتْ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ
بِالْأَمَانَاتِ.
لَكِنْ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَإِحْضَارُ وَدِيعَةٍ وَكَفَالَةٍ
بِزَكَاةٍ وَأَمَانَةٍ لِنَصِّهِ فِيمَنْ قَالَ: ادْفَعْ ثَوْبَكَ إِلَى
هَذَا الرَّفَّاءِ، فَأَنَا ضَامِنُهُ لَا يَضْمَنُ حَتَّى يُثْبِتَ
أَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ (وَلَا تَصِحُّ بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ)
لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا كَفَالَةَ
فِي حَدٍّ "، وَلِأَنَّهَا اسْتِيثَاقٌ يُلْزِمُ الْكَفِيلَ مَا عَلَى
الْمَكْفُولِ بِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إِحْضَارِهِ، وَالْحَدُّ
(4/245)
وَإِنْ كَفَلَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ
إِنْسَانٍ، أَوْ عُضْوٍ، أَوْ كَفَلَ بِإِنْسَانٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَاءَ
بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَفِيلٌ بِآخَرَ، أَوْ ضَامِنٌ مَا عَلَيْهِ، صَحَّ
فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِرِضَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
مَبْنَاهُ عَلَى الْإِسْقَاطِ، وَالدَّرْءِ بِالشُّبْهَةِ، فَلَا يَدْخُلُ
فِيهِ الِاسْتِيثَاقُ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ
الْجَانِي، وَظَاهِرُهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِلَّهِ
كَحَدِّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، أَوْ لِآدَمِيٍّ كَحَدِّ الْقَذْفِ (أَوْ
قِصَاصٍ) ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ.
قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ ": إِلَّا لِأَخْذِ مَالٍ كَالدِّيَةِ وَغَرِمَ
مَالِيَّةَ السَّرِقَةِ فَتَصِحُّ (وَلَا بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَأَحَدِ
هَذَيْنِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الْمَآلِ،
وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ، وَفِيهِ
وَجْهٌ، وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالزَّوْجَةِ، أَوِ الشَّاهِدِ.
(وَإِنْ كَفَلَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ عُضْوٍ، أَوْ كَفَلَ
بِإِنْسَانٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَاءَ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ كَفِيلٌ
بِآخَرَ، أَوْ ضَامِنٌ مَا عَلَيْهِ، صَحَّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ) ،
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: إِذَا كَفَلَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ إِنْسَانٍ كَثُلُثِهِ، أَوْ
رُبُعِهُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
إِحْضَارُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِحْضَارِ الْكُلِّ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا كَفَلَ عُضْوًا مُعَيَّنًا مِنْهُ كَيَدِهِ، أَوْ
رِجْلِهِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِحْضَارُهُ عَلَى
صِفَتِهِ إِلَّا بِإِحْضَارِ الْكُلِّ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ فِيهِمَا،
لِأَنَّ تَسْلِيمَ ذَلِكَ وَحْدَهُ مُتَعَذِّرٌ، وَالسِّرَايَةُ
مُمْتَنِعَةٌ.
قَالَ الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَعْضِ الْبَدَنِ بِحَالٍ،
لِأَنَّ مَا لَا يُشْرَى لَا يَصِحُّ إِذَا خَصَّ بِهِ عُضْوًا
كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، ذَكَرَهُ فِي " الْمُغْنِي "، وَ " الشَّرْحِ
" قَالَ ابْنُ الْمُنَجَّا: وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ لَا يَدُلُّ
عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ، لِأَنَّ بَيْعَ ذَلِكَ
وَإِجَارَتَهُ جَائِزَةٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُمَا خَصَّاهُ
بِالْعُضْوِ، وَظَاهِرُهُ لَا فَرْقَ فِي الْعُضْوِ بَيْنَ الْوَجْهِ،
وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَا يَبْقَى الْبَدَنُ بِدُونِهِ
كَالرَّأْسِ أَوْ لَا كَالْيَدِ، وَجَزَمَ فِي " الْكَافِي "، وَ "
الشَّرْحِ " أَنَّهَا تَصِحُّ بِالْوَجْهِ، لِأَنَّهُ يُكَنَّى بِهِ عَنِ
الْكُلِّ، فَصَحَّ كَبَدَنِهِ، وَجَزَمَ فِي " الْوَجِيزِ " بِأَنَّهَا
تَصِحُّ فِيمَا تَبْقَى الْحَيَاةُ بِدُونِهِ لَا الْعَكْسِ.
(4/246)
الْكَفِيلِ، وَفِي رِضَى الْمَكْفُولِ بِهِ
وَجْهَانِ، وَمَتَى أَحْضَرَ الْمَكْفُولَ بِهِ وَسَلَّمَهُ بَرِئَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الثَّالِثَةُ: إِذَا كَفَلَ بِإِنْسَانٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَاءَ بِهِ،
وَإِلَّا فَهُوَ كَفِيلٌ بِآخَرَ، أَوْ ضَامِنٌ مَا عَلَيْهِ، صَحَّ.
قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَقَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ "، وَجَزَمَ
بِهِ فِي " الْوَجِيزِ "، لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ، أَوْ ضَمَانٌ، فَصَحَّ
تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَضَمَانِ الْعُهْدَةِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ عَقْدٍ عَلَى آخَرَ،
فَلَمْ يَصِحَّ، وَهَذَا الْخِلَافُ جَارٍ فِيمَا إِذَا عَلَّقَهُ بِغَيْرِ
سَبَبِ الْحَقِّ، وَالْخِلَافُ فِي الْمُؤَقَّتِ كَالْمُعَلَّقِ
بِشَرْطِهِ، فَلَوْ كَفَلَهُ شَهْرًا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْقَاضِي،
لِأَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَلَمْ يَجُزْ تَوْقِيتُهُ كَالْهِبَةِ، وَفِي
" التَّنْبِيهِ " إِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يَحْضُرْهُ لَزِمَهُ مَا
عَلَيْهِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بَعْدَ مُضِيِّ
الْمُدَّةِ إِذَا لَمْ يُطَالِبْهُ بِإِحْضَارِهِ فِيهَا.
فَرْعٌ: إِذَا قَالَ: كَفَلْتُ بَدَنَ فُلَانٍ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ
الْكَفِيلُ لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا لَا
يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ فَيَفْسُدُ عَقْدُ الْكَفَالَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ،
وَقِيلَ: يَصِحُّ الشَّرْطُ، لِأَنَّهُ شَرَطَ تَحْوِيلَ الْوَثِيقَةِ
فَعَلَيْهِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَالَةُ إِلَّا أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ
مِنْهَا.
[عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ إِلَّا بِرِضَا الْكَفِيلِ]
(وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِرِضَا الْكَفِيلِ) ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ
الْحَقُّ ابْتِدَاءً إِلَّا بِرِضَاهُ (وَفِي رِضَا الْمَكْفُولِ بِهِ
وَجْهَانِ) أَشْهَرُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ كَالضَّمَانِ،
وَالثَّانِي: بَلَى، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ "، لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ إِحْضَارُهُ، فَإِذَا كُفِلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ
يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ مَعَهُ بِخِلَافِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الضَّامِنَ
يَقْضِي الْحَقَّ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَظَاهِرُهُ
أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَا الْمَكْفُولِ لَهُ، لِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ لَا
قَبْضَ فِيهَا، فَصَحَّتْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ كَالشَّهَادَةِ (وَمَتَى
أَحْضَرَ الْمَكْفُولَ بِهِ) مَكَانَ الْعَقْدِ بَعْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ
(وَسَلَّمَهُ بَرِئَ) مُطْلَقًا إِذَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ حَائِلَةٌ
ظَالِمَةٌ. قَالَهُ فِي " الْمُغْنِي "، وَ " الْمُسْتَوْعِبِ "، وَ "
الشَّرْحِ "، وَعَنْهُ: لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَقُولَ: قَدْ بَرِئْتُ لَكَ
مِنْهُ، أَوْ قَدْ سَلَّمْتُهُ إِلَيْكَ، وَقَالَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ،
(4/247)
إِلَّا أَنْ يُحْضِرَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ،
وَفِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ وَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ، أَوْ تَلَفَتِ
الْعَيْنُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ سَلَّمَ نَفْسَهُ بَرِئَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَمَلٍ فَبَرِئَ مِنْهُ بِالْعَمَلِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ كَالْإِجَارَةِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ حَيْثُ لَا
ضَرَرَ بَرِئَ كَالْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَقِيلَ: إِنِ امْتَنَعَ أَشْهَدَ
عَلَى امْتِنَاعِهِ رَجُلَيْنِ وَبَرِئَ، وَقَالَ الْقَاضِي: يَرْفَعُهُ
إِلَى الْحَاكِمِ فَيُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَشْهَدَ
(إِلَّا أَنْ يُحْضِرَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَفِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ) مِثْلَ
أَنْ تَكُونَ حُجَّةُ الْغَرِيمِ غَائِبَةً، أَوْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ
مَجْلِسِ الْحُكْمِ، أَوِ الدَّيْنُ مُؤَجَّلٌ، أَوْ هُنَاكَ ظَالِمٌ
يَمْنَعُهُ مِنْهُ، فَلَا يَلْزَمُ قَبُولُهُ كَالْمُسَلَّمِ فِيهِ،
وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ مُؤَجَّلَةً، لَكِنْ
يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَلَوْ جَعَلَهُ إِلَى أَجَلٍ
مَجْهُولٍ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ جَعَلَهُ إِلَى الْحَصَادِ وَنَحْوِهِ
خَرَجَ عَلَى الْخِلَافِ.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَالْأَوْلَى صِحَّتُهُ هُنَا، لِأَنَّهُ
تَبَرُّعُ عِوَضٍ، فَصَحَّ كَالنَّذْرِ، ثُمَّ إِنْ عَيَّنَ مَكَانًا
لِتَسْلِيمِهِ تَعَيَّنَ، وَلَمْ يَبْرَأْ بِإِحْضَارِهِ فِي غَيْرِهِ،
وَإِنْ أَطْلَقَ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْعَقْدِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَبْرَأُ بِإِحْضَارِهِ بِمَكَانٍ آخَرَ مِنَ
الْبَلَدِ، وَعَنْهُ: وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ سُلْطَانٌ، اخْتَارَهُ
جَمَاعَةٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي إِحْضَارِهِ بِمَكَانٍ
آخَرَ لَمْ يَبْرَأْ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إِنْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ فِي
حَبْسِ الشَّرْعِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ فِيهِ بَرِئَ، وَلَا يَلْزَمُهُ
إِحْضَارُهُ مِنْهُ إِلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
وَيُمَكِّنُهُ الْحَاكِمُ من إخراجه لِيُحَاكِمَ غَرِيمَهُ، ثُمَّ
يَرُدُّهُ، وَإِنْ ضَمِنَ مَعْرِفَتَهُ أَخَذَ بِهِ، نَقَلَهُ أَبُو
طَالِبٍ، وَالشَّيْخَانِ كَالْكَفِيلِ.
(وَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ، أَوْ تَلَفَتِ الْعَيْنُ بِفِعْلِ
اللَّهِ تَعَالَى) قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ (أَوْ سَلَّمَ نَفْسَهُ بَرِئَ
الْكَفِيلُ) ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: إِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ
وَتَسْقُطُ الْكَفَالَةُ فِي الْمَنْصُوصِ، لِأَنَّ الْحُضُورَ سَقَطَ
عَنْهُ فَبَرِئَ كَفِيلُهُ، كَمَا لَوْ أُبْرِئَ مِنَ الدَّيْنِ، وَقِيلَ:
لَا تَسْقُطُ وَيُطَالَبُ بِمَا عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُشْرَطْ فِيهَا عَدَمُ
ضَمَانِهِ، لِأَنَّ الْكَفِيلَ وَثِيقَةٌ، فَإِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ
(4/248)
الْكَفِيلُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ
مَعَ بَقَائِهِ لَزِمَ الْكَفِيلَ الدَّيْنُ، أَوْ عَوَّضَ الْعَيْنَ
وَإِنْ غَابَ أُمْهِلَ الْكَفِيلُ بِقَدْرِ مَا يَمْضِي فَيُحْضِرُهُ،
فَإِنْ تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ ضَمِنَ مَا عَلَيْهِ وَإِذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الْحَقُّ اسْتُوْفِيَ مِنَ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ، وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ،
لِأَنَّ الرَّهْنَ تَعَلَّقَ بِهِ الْمَالُ فَاسْتُوْفِيَ مِنْهُ،
وَظَاهِرُهُ بَقَاؤُهَا بِمَوْتِ الْكَفِيلِ فَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ
مَا كُفِّلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا فَوَثِقَ وَرَثَتُهُ،
وَإِلَّا حَلَّ فِي الْأَقْيَسِ، أَوِ الْمَكْفُولُ لَهُ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَإِنَّهُ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ، لِأَنَّ تَلَفَهَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ
الْمَكْفُولِ بِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا إِذَا تَلِفَتْ بِفِعْلِ
آدَمِيٍّ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ وَيَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ بَدَلُهَا.
الثَّالِثَةُ: إِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ بِشَرْطِهِ بَرِئَ
كَفِيلُهُ، كَمَا لَوْ قَضَى الْمَدْيُونُ عَنْهُ الدَّيْنَ.
تَنْبِيهٌ: إِذَا كَفَلَ إِنْسَانًا، أَوْ ضَمِنَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ
يَكُنْ عَلَيْهِ حَقٌّ قَدَّمَ قَوْلَ خَصْمِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ
الْكَفَالَةِ، أَوْ بَقَاءُ الدَّيْنِ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَإِنْ
نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ وَإِذَا قَالَ: بَرِئْتُ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي
كَفَلْتُهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِقَبْضِ الْحَقِّ وَيَبْرَأُ
الْكَفِيلُ وَحْدَهُ وَإِذَا مَاتَ الْمَدْيُونُ فَأَبْرَأَهُ رَبُّ
الدَّيْنِ، فَلَمْ تَقْبَلْ وَرَثَتُهُ بَرِئَ مَعَ كَفِيلِهِ.
(وَإِنْ تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ مَعَ بَقَائِهِ لَزِمَ الْكَفِيلَ
الدَّيْنُ، أَوْ عَوَّضَ الْعَيْنَ) لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» . وَلِأَنَّهَا أَحَدُ نَوْعَيِ
الْكَفَالَةِ، فَوَجَبَ الْغُرْمُ بِهَا كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَكَفِيلُ الْوَجْهِ ضَامِنٌ لِلْمَالِ فِي
أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أَنْ يَشْرِطَ لَا مَالَ عَلَيْهِ، فَلَا
يَلْزَمُهُ قَوْلًا. وَالثَّانِي: فَسَادُهَا لِإِضَافَتِهَا إِلَى عُضْوٍ.
قَالَهُ الْمَجْدُ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ لَا يَلْزَمُهُ إِنِ امْتَنَعَ
بِسُلْطَانٍ، وَأُلْحِقَّ بِهِ مُعْسِرٌ وَمَحْبُوسٌ وَنَحْوُهُمَا
لِاسْتِوَاءِ الْمَعْنَى (وَإِنْ غَابَ) فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ (أُمْهِلَ
الْكَفِيلُ) ، وَلَمْ يُطَالِبْهُ (بِقَدْرِ مَا يَمْضِي فَيُحْضِرُهُ)
لَهُ لِيَتَحَقَّقَ إِمْكَانَ التَّسْلِيمِ وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمَسَافَةُ
(4/249)
طَالَبَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ بِهِ
بِالْحُضُورِ مَعَهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ
بِإِذْنِهِ، أَوْ طَالَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ بِإِحْضَارِهِ، وَإِلَّا
فَلَا وَإِذَا كُفِلَ اثْنَانِ بِرَجُلٍ فَسَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَرِيبَةً، أَوْ بَعِيدَةً، فَلَوِ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ
لَمْ يُؤْخَذِ الْكَفِيلُ بِالْحَقِّ حَتَّى يَمْضِيَ زَمَنٌ يُمْكِنُهُ
رَدُّهُ (فَإِنْ تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ) ، أَوْ كَانَتِ الْغَيْبَةُ
مُنْقَطِعَةً، وَلَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ (ضَمِنَ مَا عَلَيْهِ) وَأُخِذَ
بِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَمْدَانَ أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ وَجُهِلَ
مَحَلُّهُ لَزِمَهُ مَا عَلَيْهِ انْتَهَى، فَلَوْ أَدَّى مَا لَزِمَهُ،
ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ فِي
رُجُوعِهِ عَلَيْهِ كَضَامِنٍ، وَأَنَّهُ لَا يُسَلِّمُهُ إِلَى
الْمَكْفُولِ لَهُ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّ مَا أَدَّاهُ بِخِلَافِ مَغْصُوبٍ
تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ مَعَ بَقَائِهِ لِامْتِنَاعِ بَيْعِهِ (وَإِذَا
طَالَبَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ بِهِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ) لِيُسَلِّمَهُ
إِلَى الْمَكْفُولِ لَهُ (لَزِمَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ
بِإِذْنِهِ) ، لِأَنَّهُ شَغَلَ ذِمَّتَهُ مِنْ أَجْلِهِ بِإِذْنِهِ
فَلَزِمَهُ تَخْلِيصُهَا، كَمَا لَوِ اسْتَعَارَ عَبْدَهُ فَرَهَنَهُ
بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ تَخْلِيصَهُ إِذَا طَلَبَهُ سَيِّدُهُ (أَوْ
طَالَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ بِإِحْضَارِهِ) أَيْ: لَزِمَهُ الْحُضُورُ،
وَظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّ حُضُورَهُ حَقٌّ
لِلْمَكْفُولِ لَهُ، وَقَدِ اسْتَنَابَ الْكَفِيلَ فِي ذَلِكَ، أَشْبَهَ
مَا لَوْ صَرَّحَ لَهُ بِالْوَكَالَةِ (وَإِلَّا فَلَا) أَيْ: لَا
يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ لَمْ يُطَالِبْ
بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ، لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ لَمْ يَشْغَلْ
ذِمَّتَهُ، وَإِنَّمَا شَغَلَهَا الْكَفِيلُ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَمْ
يُوَكِّلْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ.
فَرْعٌ: لَوْ قَالَ لِآخَرَ: اضْمَنْ عَنْ فُلَانٍ، أَوِ اكْفُلْ بِفُلَانٍ
فَفَعَلَ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لِمُبَاشِرِ لَا الْآمِرِ فَلَوْ قَالَ:
أَعْطِ فُلَانًا كَذَا فَفَعَلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ
إِلَّا أَنْ يَقُولَ: أَعْطِهِ عَنِّي.
(وَإِذَا كُفِلَ اثْنَانِ بِرَجُلٍ فَسَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا: لَمْ يَبْرَأِ
الْآخَرُ) ، لِأَنَّ إِحْدَى الْوَثِيقَتَيْنِ انْحَلَّتِ من غير
اسْتِيفَاءً، فَلَمْ تَنْحَلَّ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ أَبْرَأَ
أَحَدُهُمَا، أَوِ انْفَكَّ أَحَدُ الرَّهْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ
بِخِلَافِ الْمَكْفُولِ بِهِ إِذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ
فَيَبْرَآنِ بِبَرَاءَتِهِ، لِأَنَّهُمَا فَرْعَاهُ، وَقِيلَ: يَبْرَأُ،
اخْتَارَهُ صَاحِبُ " النِّهَايَةِ "، كَمَا لَوْ قَضَى الدَّيْنَ أَحَدُ
الضَّامِنَيْنِ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ الْآخَرُ. أَجَابَ فِي " الْفُصُولِ "
بِأَنَّ الْوَثِيقَةَ بَرِئَتْ بِقَبْضِ مَا فِيهَا فَلِهَذَا بَرِئَتِ
الْأُخْرَى بِخِلَافِ هَذَا، وَقِيلَ: إِنْ كَفَلَاهُ مَعًا، أَوْ وَكَّلَ
مِنْهُمَا الْآخَرَ فِي تَسْلِيمِهِ بَرِئَ، وَإِلَّا فَلَا.
(4/250)
يَبْرَأِ الْآخَرُ، وَإِنْ كُفِلَ وَاحِدٌ لِاثْنَيْنِ فَأَبْرَأَهُ
أَحَدُهُمَا لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الْآخَرِ. |