المبدع
شرح المقنع ط العلمية بَابُ الوديعة وَهِيَ أَمَانَةٌ وَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّى، وَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ
بَيْنِ مَالِهِ لَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
[بَابُ الْوَدِيعَةِ] [ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ] [الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ]
ِ الْوَدِيعَةُ وَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ وَدَعَ الشَّيْءَ إِذَا تَرَكَهُ،
أَيْ هِيَ مَتْرُوكَةٌ عِنْدَ الْمُودَعِ، وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ
الدَّعَةِ، فَكَأَنَّهَا عِنْدَ الْمُودَعِ غَيْرُ مُبْتَذَلَةٍ
لِلِانْتِفَاعِ، وَقِيلَ: مِنْ وَدَعَ الشَّيْءُ يَدَعُ إِذَا سَكَنَ،
فَكَأَنَّهَا سَاكِنَةٌ عِنْدَ الْمُودَعِ، وَهِيَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ
لِعَيْنٍ تُوضَعُ عِنْدَ آخَرَ لِيَحْفَظَهَا، فَهِيَ وَكَالَةٌ فِي
الْحِفْظِ، فَيُعْتَبَرُ أَرْكَانُهَا، وَالْأَحْسَنُ أَنَّهَا تَوْكِيلٌ
فِي حِفْظِ مَمْلُوكٍ، أَوْ مُحْتَرَمٍ مُخْتَصٍّ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ،
وَالْإِجْمَاعُ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى جَوَازِهَا، وَسَنَدُهُ قَوْله
تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا} [النساء: 58] مَعَ السُّنَّةِ الشَّهِيرَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا
تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ
وَحَسَّنَهُ، وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا؛
لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ حِفْظُ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ
بِأَنْفُسِهِمْ.
وَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا لِمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ ثِقَةٌ قَادِرٌ عَلَى
حِفْظِهَا، وَتُكْرَهُ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِرِضَى رَبِّهِ، وَتَنْفَسِخُ
بِمَوْتٍ، وَجُنُونٍ، وَعَزْلٍ مَعَ عِلْمِهِ، فَإِنْ بَطَلَتْ بَقِيَ
الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً يُؤَدِّيهِ إِلَى مَالِكِهِ، فَإِنْ تَلِفَ
قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَهَدَرٌ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ فَوَجْهَانِ، وَلَا
يَصِحُّ الْإِيدَاعُ وَالِاسْتِيدَاعُ إِلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ
فِي مَالِهِ وَتَبَرُّعِهِ بِهِ.
(وَهِيَ أَمَانَةٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] (وَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا) لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ» ، رَوَاهُ ابْنُ،
وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْدِعَ يَحْفَظُهَا لِمَالِكِهَا، فَلَوْ ضُمِنَتْ
لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَذَلِكَ مُضِرٌّ لِمَا
فِيهِ مِنْ
(5/85)
يَضْمَنْ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ
وَيَلْزَمُهُ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، وَإِنْ عَيَّنَ صَاحِبُهَا
حِرْزًا فَجَعَلَهَا فِي دُونِهِ ضَمِنَ، وَإِنْ أَحْرَزَهَا بِمِثْلِهِ
أَوْ فَوْقِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَقِيلَ: يَضْمَنُ إِلَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا (إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّى) فَيَضْمَنَهَا
بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ،
فَضَمِنَهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيدَاعٍ (وَإِنْ
تَلِفَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ لَمْ يَضْمَنْ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ)
وَهِيَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ
الْمُسْتَوْدَعَ مُؤْتَمَنٌ فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ مِنْ غَيْرِ
تَعَدِّيهِ وَلَا تَفْرِيطِهِ، وَسَوَاءٌ ذَهَبَ مَعَهَا مِنْ مَالِهِ
شَيْءٌ أَوْ لَا. وَالثَّانِيَةُ: يَضْمَنُ إِذَا تَلِفَتْ مِنْ بَيْنِ
مَالِهِ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَنَا حُمَيْدٌ
الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَمَّنَهُ
وَدِيعَةً ذَهَبَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ، وَالْأُولَى أَصَحُّ، قَالَهُ
الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يُنَافِي الْأَمَانَةَ، وَحَدِيثُ عُمَرَ
مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْرِيطِ مِنْ أَنَسٍ فِي حِفْظِهَا فَلَا مُنَافَاةَ.
[حِفْظُ الْوَدِيعَةِ فِي حِرْزِ مِثْلِهَا]
(وَيَلْزَمُهُ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا) عُرْفًا كَسَرِقَةٍ،
وَكَمَا يَحْفَظُ مَالَهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِأَدَائِهَا،
وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحِفْظِ، وَفِي " الرِّعَايَةِ ": مَنِ
اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ فِي حِرْزِ مِثْلِهِ عَاجِلًا مَعَ
الْقُدْرَةِ، وَإِلَّا ضَمِنَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْفَظْهَا
فِي حِرْزِ مِثْلِهَا أَنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ، وَإِنْ
وَضَعَهَا فِي حِرْزٍ، ثُمَّ نَقَلَهَا عَنْهُ إِلَى حِرْزِ مِثْلِهَا لَمْ
يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا رَدَّ حِفْظَهَا إِلَى اجْتِهَادِهِ،
فَلَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي بَيْتِ مَالِكِهَا، فَقَالَ الْآخَرُ:
احْفَظْهَا فِي مَوْضِعِهَا، فَنَقَلَهَا عَنْهُ لِغَيْرِ خَوْفٍ ضَمِنَ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُودِعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ فِي حِفْظِهَا فِي
مَوْضِعِهَا.
(وَإِنْ عَيَّنَ صَاحِبُهَا حِرْزًا فَجَعَلَهَا فِي دُونِهِ ضَمِنَ)
سَوَاءٌ رَدَّهَا إِلَيْهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ فِي حِفْظِ
مَالِهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا حَفِظَهَا فِيمَا عَيَّنَهُ وَلَمْ
يَخْشَ عَلَيْهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ
مُمْتَثِلٌ غَيْرُ مُفَرِّطٍ (وَإِنْ أَحْرَزَهَا بِمِثْلِهِ أَوْ
فَوْقِهِ) بِلَا حَاجَةٍ كَلُبْسِ خَاتَمٍ فِي خِنْصَرٍ، فَلَبِسَهُ فِي
بِنْصَرٍ لَا عَكْسِهِ (لَمْ يَضْمَنْ) عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ
تَقْيِيدَهُ بِهَذَا الْحِرْزِ يَقْتَضِي مَا هُوَ مِثْلُهُ، كَمَنِ
اكْتَرَى لِزَرْعٍ حِنْطَةً، فَلَهُ زَرْعُهَا وَزَرْعُ مِثْلِهَا فِي
الضَّرَرِ، فَمَا فَوْقَهُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى (وَقِيلَ: يَضْمَنُ) وَهُوَ
ظَاهِرُ الْخِرَقِيِّ.
وَحَكَاهُ فِي " التَّبْصِرَةِ " رِوَايَةً. قَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ:
إِذَا خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ
صَاحِبِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ نَهَاهُ (إِلَّا أَنْ
يَفْعَلَهُ لِحَاجَةٍ) كَمَا لَوْ خَافَ عَلَيْهَا مِنْ سَيْلٍ أَوْ
(5/86)
أَنْ يَفْعَلَهُ لِحَاجَةٍ، فَإِنْ نَهَاهُ
عَنْ إِخْرَاجِهَا فَأَخْرَجَهَا لِغَشَيَانِ شَيْءٍ الْغَالِبُ مِنْهُ
التَّوَى لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ تَرَكَهَا فَتَلِفَتْ ضَمِنَ وَإِنْ
أَخْرَجَهَا لِغَيْرِ خَوْفٍ ضَمِنَ، فَإِنْ قَالَ: لَا تُخْرِجْهَا وَإِنْ
خِفْتَ عَلَيْهَا، فَأَخْرَجَهَا عِنْدَ الْخَوْفِ أَوْ تَرَكَهَا لَمْ
يَضْمَنْ
وَإِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
حَرِيقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُفَرِّطًا، وَالْأَوْلَى إِنْ نَقَلَهَا
إِلَى الْأَعْلَى لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا، لَا إِنْ
نَقَلَهَا إِلَى الْمُسَاوِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.
قَالَ فِي " التَّلْخِيصِ ": أَصْحَابُنَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
تَلَفِهَا بِسَبَبِ النَّقْلِ وَبَيْنَ تَلَفِهَا بِغَيْرِهِ، قَالَ:
وَعِنْدِي أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبِ النَّقْلِ كَانْهِدَامِ
الْبَيْتِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ ضَمِنَ (فَإِنْ نَهَاهُ عَنْ إِخْرَاجِهَا
فَأَخْرَجَهَا لِغَشَيَانِ شَيْءٍ الْغَالِبُ مِنْهُ التَّوَى) أَيْ:
الْهَلَاكُ (لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّ حِفْظَهَا نَقْلُهَا، وَتَرْكَهَا
تَضْيِيعٌ لَهَا، وَهَذَا إِذَا وَضَعَهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا أَوْ
فَوْقِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وَأَحْرَزَهَا فِي دُونِهِ فَلَا ضَمَانَ،
ذَكَرَهُ فِي " الْمُغْنِي "، وَ " الشَّرْحِ "، وَالْحَارِثِيُّ،
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا عِنْدَ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ
النَّهْيَ لِلِاحْتِيَاطِ عَلَيْهَا، وَهُوَ إِذْنُ نَقْلِهَا (وَإِنْ
تَرَكَهَا فَتَلِفَتْ ضَمِنَ) سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِالْأَمْرِ الْمُخَوِّفِ
أَوْ بَغِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ، وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ
لِامْتِثَالِهِ أَمْرَ صَاحِبِهَا (وَإِنْ أَخْرَجَهَا لِغَيْرِ خَوْفٍ
ضَمِنَ) لِأَنَّهُ خَالَفَ نَصَّ صَاحِبِهَا لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلَوْ
أَخْرَجَهَا إِلَى مِثْلِهِ أَوْ فَوْقِهِ، صَرَّحَ بِهِ فِي " الشَّرْحِ "
وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ لَهُ حِرْزًا
(فَإِنْ قَالَ: لَا تُخْرِجْهَا وَإِنْ خِفْتَ عَلَيْهَا، فَأَخْرَجَهَا
عِنْدَ الْخَوْفِ أَوْ تَرَكَهَا لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّهُ إِذَا
أَخْرَجَهَا فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا بِحِفْظِهَا إِذِ الْمَقْصُودُ
الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
لِأَنَّ صَاحِبَهَا صَرَّحَ لَهُ بِتَرْكِهَا مَعَ الْخَوْفِ، فَكَأَنَّهُ
رَضِيَ بِإِتْلَافِهَا، وَقِيلَ: إِنْ وَافَقَهُ أَوْ خَالَفَهُ ضَمِنَ
كَإِخْرَاجِهَا لِغَيْرِ خَوْفٍ، وَهَذَا جَارٍ فِيمَا إِذَا قَالَ: لَا
تَقْفِلْ عَلَيْهَا قُفْلَيْنِ، أَوْ لَا تَنَمْ فَوْقَهُ، صَرَّحَ بِهِ
فِي " الرِّعَايَةِ ".
فَرْعٌ: إِذَا أَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْ إِخْرَاجِهَا
فَتَلِفَتْ، فَادَّعَى أَنَّهُ أَخْرَجَهَا لِغَشَيَانِ شَيْءٍ الْغَالِبُ
مِنْهُ الْهَلَاكُ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُهَا وَجُودَهُ، فَعَلَى
الْمُسْتَوْدَعِ الْبَيِّنَةُ إِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ
الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ
مَعَ يَمِينِهِ.
[أَوْدَعَهُ بَهِيمَةً فَلَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى مَاتَتْ]
(وَإِنْ أَوْدَعَهُ بَهِيمَةً فَلَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى مَاتَتْ ضَمِنَ)
لِأَنَّ الْعَلَفَ مِنْ كَمَالِ الْحِفْظِ،
(5/87)
أَوْدَعَهُ بَهِيمَةً فَلَمْ يَعْلِفْهَا
حَتَّى مَاتَتْ ضَمِنَ إِلَّا أَنْ يَنْهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ عَلَفِهَا.
فَإِنْ قَالَ: اتْرُكِ الْوَدِيعَةَ فِي جَيْبِكَ فَتَرَكَهَا فِي كُمِّهِ
ضَمِنَ، وَإِنْ قَالَ: اتْرُكْهَا فِي كُمِّكَ فَتَرَكَهَا فِي جَيْبِهِ
لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ.
وَإِنْ دَفَعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
بَلْ هُوَ الْحِفْظُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي عَلْفَهَا
وَسَقْيَهَا، فَكَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ عُرِفًا، وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ
كَغَيْرِ الْوَدِيعَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ عَلْفُهَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ
الْمَشْهُورُ (إِلَّا أَنْ يَنْهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ عَلْفِهَا) لِأَنَّ
مَالِكَهَا أَذِنَ فِي إِتْلَافِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَمَرَهُ
بِقَتْلِهَا، لَكِنْ إِذَا نَهَاهُ عَنْ عَلْفِهَا فَتَرَكَهُ، أَثِمَ
لِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِهِ لَزِمَهُ، وَقِيلَ:
يَلْزَمُهُ بِقَبُولِهِ، وَيُعْتَبَرُ حَاكِمٌ، وَفِي " الْمُنْتَخَبِ "
لَا.
فَرْعٌ: إِذَا عَلَفَ الدَّابَّةَ، أَوْ سَقَاهَا فِي دَارِهِ أَوْ
غَيْرِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ غُلَامِهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا، وَالْحُكْمُ
فِي النَّفَقَةِ وَالرُّجُوعِ كَالْحُكْمِ فِي نَفَقَةِ الْبَهِيمَةِ
الْمَرْهُونَةِ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ مِثْلُهَا.
[قَالَ اتْرُكِ الْوَدِيعَةَ فِي جَيْبِكَ فَتَرَكَهَا فِي كُمِّهِ
فَهَلَكَتْ]
(فَإِنْ قَالَ: اتْرُكِ الْوَدِيعَةَ فِي جَيْبِكَ، فَتَرَكَهَا فِي
كُمِّهِ) أَوْ يَدِهِ (ضَمِنَ) لِأَنَّ الْجَيْبَ أَحْرَزُ، وَرُبَّمَا
نَسِيَ فَسَقَطَ مِنْهُ (وَإِنْ قَالَ: اتْرُكْهَا فِي كُمِّكَ) أَوْ
يَدِكَ (فَتَرَكَهَا فِي جَيْبِهِ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّهُ أَحْرَزُ
(وَإِنْ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ) كَذَا فِي "
الْفُرُوعِ " أَظْهَرُهُمَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ يَسْقُطُ مِنْهَا
الشَّيْءُ بِالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ الْكُمِّ، وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُ؛
لِأَنَّ الْيَدَ أَحْرَزُ مِنَ الْكُمِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ
الْبَطُّ، وَكَذَا الْخِلَافُ إِذَا عَيَّنَ يَدَهُ، فَتَرَكَهَا فِي
كُمِّهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: الْيَدُ أَحْرَزُ عِنْدَ الْمُغَالَبَةِ، وَالْكُمُّ
أَحْرَزُ عِنْدَ غَيْرِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ عِنْدَ
الْمُغَالَبَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا،
وَإِلَّا ضَمِنَهَا لِنَقْلِهَا إِلَى أَدْنَى مِمَّا أُمِرَ بِهِ، فَإِنْ
أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا مُطْلَقًا فَتَرَكَهَا فِي جَيْبِهِ، أَوْ يَدِهِ،
أَوْ شَدَّهَا فِي كُمِّهِ، أَوْ عَضُدِهِ، وَقِيلَ: مِنْ جَانِبِ
الْجَيْبِ، أَوْ تَرَكَ فِي كُمَّهِ ثَقِيلًا بِغَيْرِ شَدٍّ، أَوْ
تَرَكَهَا فِي وَسَطِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَفِي " الْفُصُولِ " إِنْ
تَرَكَهَا فِي رَأْسِهِ، أَوْ غَرَزَهَا فِي عِمَامَتِهِ، أَوْ تَحْتَ
قَلَنْسُوَتِهِ احْتُمِلَ أَنَّهُ أَحْرَزُ.
(5/88)
الْوَدِيعَةَ إِلَى مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ
كَزَوْجَتِهِ وَعَبْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى
أَجْنَبِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ ضَمِنَ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ
الْأَجْنَبِيِّ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ سَفَرًا
أَوْ خَافَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ رَدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ لَمْ
يَجِدْهُ حَمَلَهَا مَعَهُ إِنْ كَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
تَنْبِيهٌ: إِذَا قَالَ: اتْرُكْهَا فِي بَيْتِكَ فَشَدَّهَا فِي ثِيَابِهِ
وَأَخْرَجَهَا مَعَهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ أَحْرَزُ، وَإِنْ قَالَ:
لَا يُدْخِلُ بَيْتَ الْوَدِيعَةِ أَحَدًا فَخَالَفَهُ، وَسَرَقَهَا
الدَّاخِلُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا شَاهَدَهَا فِي دُخُولِ الْبَيْتِ،
وَإِنْ سَرَقَهَا غَيْرُ الدَّاخِلِ فَلَا فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ
فِعْلَهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِإِتْلَافِهَا، وَقِيلَ: بَلَى، جُزِمَ بِهِ
فِي " الْكَافِي " وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَلَّ السَّارِقُ
عَلَيْهَا (وَإِنْ دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إِلَى مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ) أَوْ
مَالَ رَبِّهَا عَادَةً (كَزَوْجَتِهِ وَعَبْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ) نَصَّ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُودِعٌ، فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ
جَرَتِ الْعَادَةُ بِحِفْظِ مَالِهِ، وَكَوَكِيلِ رَبِّهَا، وَأَلْحَقَ
بِهِمَا فِي " الرَّوْضَةِ " الْوَلَدَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَمَا لَوْ
دَفَعَ الْمَاشِيَةَ إِلَى الرَّاعِي، أَوِ الْبَهِيمَةَ إِلَى غُلَامِهِ
لِيَسْقِيَهَا، وَقِيلَ: يَضْمَنُ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ،
وَعَلَى الْأَوَّلِ يَصْدُقُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ، أَوِ التَّلَفِ
كَالْمُودِعِ.
[دَفْعُ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ فَهَلَكَتْ]
(وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ) لِعُذْرٍ لَمْ
يَضْمَنْ، وَإِلَّا (ضَمِنَ) لِأَنَّهُ مُوَدِعٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُودِعَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَعَلَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي الْحَاكِمِ
(وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ) إِذَا تَلِفَتْ (مُطَالَبَةُ الْأَجْنَبِيِّ)
لِأَنَّ الْمُودِعَ ضَمِنَ بِنَفْسِ الدَّفْعِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ
الْحِفْظِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ دَفْعًا وَاحِدًا لَا
يُوجِبُ ضَمَانَيْنِ بِخِلَافِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ
ضَامِنَةٌ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ (وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ
ذَلِكَ) وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَا لَيْسَ
لَهُ قَبْضُهُ، أَشْبَهَ الْمُودِعَ مِنَ الْغَاصِبِ، وَكَمَا لَوْ
دَفَعَهَا إِلَى إِنْسَانٍ هِبَةً، وَعَلَيْهِ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ
مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي إِنْ
عَلِمَ، وَإِلَّا فَعَلَى الْأَوَّلِ، وَجَزَمَ فِي " الْوَجِيزِ "
أَنَّهُمَا لَا يُطَالِبَانِ إِنْ جَهِلَا، وَيَتَخَرَّجُ مِنْ رِوَايَةِ
تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ لَهُ الْإِيدَاعُ بِلَا عُذْرٍ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ
بِمَا إِذَا لَمْ يَنْهَهُ.
(وَإِنْ أَرَادَ سَفَرًا أَوْ خَافَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ رَدَّهَا إِلَى
مَالِكِهَا) أَوْ وَكِيلِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ
(5/89)
أَحْفَظَ لَهَا، وَإِلَّا دَفَعَهَا إِلَى
الْحَاكِمِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أَوْدَعَهَا ثِقَةً، أَوْ دَفَنَهَا
وَأَعْلَمَ بِهَا ثِقَةً يَسْكُنُ تِلْكَ الدَّارَ، فَإِنْ دَفَنَهَا
وَلَمْ يُعْلِمْ بِهَا أَحَدًا أَوْ أَعْلَمَ بِهَا مَنْ لَا يَسْكُنُ
الدَّارَ ضَمِنَهَا.
وَإِنْ تَعَدَّى فِيهَا فَرَكِبَ الدَّابَّةَ لِغَيْرِ نَفْعِهَا، وَلَبِسَ
الثَّوْبَ، وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ لِيُنْفِقَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا أَوْ
جَحَدَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا، أَوْ كَسَرَ خَتْمَ كَيْسِهَا، أَوْ
خَلَطَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
تَخْلِيصًا لَهُ مِنْ دَرْكِهَا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا دَفَعَهَا
إِلَى الْحَاكِمِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى
الْحَاضِرِ، وَتَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ، وَفِي مُؤْنَةِ رَدٍّ مِنْ
بَعْدِ خِلَافٍ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ حَمَلَهَا مَعَهُ) فِي السَّفَرِ،
نَصَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ لِضَرُورَةٍ، أَوْ لِغَيْرِهَا (إِنْ كَانَ
أَحْفَظَ لَهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحِفْظُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا
وَزِيَادَةٌ، وَشَرْطُهُ إِذَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَلَا خَوْفَ، وَفِي "
الْمُبْهِجِ "، وَ " الْمُوجَزِ " وَالْغَالِبُ السَّلَامَةُ، زَادَ فِي "
عُيُونِ الْمَسَائِلِ "، وَ " الِانْتِصَارِ " كَأَبٍ وَوَصِيٍّ، وَلَهُ
مَا أَنْفَقَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَيَتَوَجَّهُ
كَنَظَائِرِهِ، وَقِيلَ: مَعَ غَيْبَةِ رَبِّهَا، أَوْ وَكِيلِهِ إِنْ
كَانَ أَحْرَزَ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فَوَجْهَانِ (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ أَحْفَظَ لَهَا، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ (دَفَعَهَا إِلَى
الْحَاكِمِ) لِأَنَّ فِي السَّفَرِ بِهَا غَرَرًا؛ لِأَنَّهُ بِعَرْضِيَّةِ
النَّهْبِ وَغَيْرِهِ، إِذِ الْحَاكِمُ يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهَا عِنْدَ
غَيْبَتِهِ، وَفِي لُزُومِهِ قَبُولُهَا وَجْهَانِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ
إِذَا أَوْدَعَهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَاكِمِ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا؛
لِأَنَّهَا لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَقِيلَ: لَا يَضْمَنُ إِذَا أَوْدَعَهَا
ثِقَةً، وَذَكَرَهُ الْحُلْوَانِيُّ رِوَايَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ
أَحْفَظَ لَهَا وَأَحَبَّ إِلَى مَالِكِهَا، وَكَتَعَذُّرِ حَاكِمٍ فِي
الْأَصَحِّ (فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ) أَيْ: لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
الْحَاكِمِ (أَوْدَعَهَا ثِقَةً) لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ أَوْدَعَ الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ
عِنْدَهُ لِأُمِّ أَيْمَنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَلِأَنَّهُ
مَوْضِعُ حَاجَةٍ، وَأَطْلَقَ أَحْمَدُ الْإِيدَاعَ عِنْدَ غَيْرِهِ
لِخَوْفِهِ عَلَيْهَا، وَحَمَلَهَا الْقَاضِي عَلَى الْمُقِيمِ لَا
الْمُسَافِرِ.
فَرْعٌ: حُكْمُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ حُكْمُ مَنْ أَرَادَ سَفَرًا فِي
دَفْعِهَا إِلَى حَاكِمٍ أَوْ ثِقَةٍ.
(أَوْ دَفَنَهَا وَأَعْلَمَ بِهَا ثِقَةً يَسْكُنُ تِلْكَ الدَّارَ)
لِأَنَّ الْحِفْظَ يَحْصُلُ بِهِ (فَإِنْ دَفَنَهَا وَلَمْ يُعْلِمْ بِهَا
أَحَدًا) ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي الْحِفْظِ، فَإِنْهُ قَدْ يَمُوتُ
فِي سَفَرِهِ فَلَا تَصِلُ إِلَى صَاحِبِهَا، وَرُبَّمَا نَسِيَ
مَوْضِعَهَا، أَوْ أَصَابَهَا آفَةٌ، وَكَذَا إِنْ أَعْلَمَ بِهَا غَيْرَ
ثِقَةٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَخَذَهَا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الْمُؤَلِّفُ
اكْتِفَاءً بِمَفْهُومِ الْأَوَّلِ (أَوْ أَعْلَمَ بِهَا مَنْ لَا يَسْكُنُ
الدَّارَ) أَيْ: مَنْ لَا يَدُلُّهُ عَلَى الْمَكَانِ (ضَمِنَهَا)
لِأَنَّهُ لَمْ يُودِعْهَا إِيَّاهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِفَاظِ
بِهَا
[تَعَدَّى فِي الْوَدِيعَةِ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا]
(وَإِنْ تَعَدَّى فِيهَا فَرَكِبَ الدَّابَّةَ لِغَيْرِ نَفْعِهَا،
وَلَبِسَ الثَّوْبَ، وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ لِيُنْفِقَهَا ثُمَّ
(5/90)
بِمَا لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ ضَمِنَهَا،
وَإِنْ خَلَطَهَا بِمُتَمَيِّزٍ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَسْقِيَهَا،
وَإِنْ أَخَذَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
رَدَّهَا) بِنِيَّةِ الْأَمَانَةِ ضَمِنَهَا لِتَصَرُّفِهِ فِي مَالِ
غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُ مُمْسِكٌ لَهَا
بِإِذْنِ مَالِكِهَا، أَشْبَهَ مَا قَبِلَ التَّعَدِّي، وَجَوَابُهُ
أَنَّهُ ضَمِنَهَا بِعُدْوَانٍ، فَبَطَلَ الِاسْتِئْمَانُ، كَمَا لَوْ
جَحَدَهَا ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا
لِنَفْعِهَا كَلُبْسِ صُوفٍ وَنَحْوِهِ، خَوْفًا مِنْ عَثٍّ وَنَحْوِهِ
(أَوْ جَحَدَهَا ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا) لِأَنَّهُ بِجَحْدِهَا خَرَجَ عَنِ
الِاسْتِئْمَانِ عَنْهَا، فَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالْإِقْرَارِ
بِهَا؛ لِأَنَّ يَدَهُ صَارَتْ يَدَ عُدْوَانٍ (أَوْ كَسَرَ خَتْمَ
كِيسِهَا) أَوْ كَانَتْ مَشْدُودَةً فَأَزَالَ الشَّدَّ، أَوْ مَقْفُولَةً
فَأَزَالَهُ، وَسَوَاءٌ أَخَرَجَ مِنْهَا شَيْئًا أَوْ لَا لِهَتْكِهِ
الْحِرْزَ بِفِعْلٍ تَعَدَّى فِيهِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ: لَا يَضْمَنُ،
فَإِنْ خَرَقَ الْكِيسَ فَوْقَ الشَّدِّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا خَرَقَ
فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتِكِ الْحِرْزَ (أَوْ خَلَطَهَا بِمَا لَا
تَتَمَيَّزُ مِنْهُ) كَزَيْتٍ بِزَيْتٍ، وَدَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ
(ضَمِنَهَا) لِأَنَّهُ صَيَّرَهَا فِي حُكْمِ التَّالِفِ وَفَوَّتَ عَلَى
نَفْسِهِ رَدَّهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَلْقَاهَا فِي لُجَّةِ بَحْرٍ،
وَسَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ بِمِثْلِهَا، أَوْ
دُونِهَا، أَوْ أَجْوَدَ، وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْبَغَوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ أَعْطَى آخَرَ دِرْهَمًا يَشْتَرِي
لَهُ بِهِ شَيْئًا، فَخَلَطَهُ مَعَ دَرَاهِمِهِ، فَضَاعَا، قَالَ: لَيْسَ
عَلَيْهِ شَيْءٌ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَلَمْ يَتَأَوَّلْهُ فِي "
النَّوَادِرِ " وَذَكَرَهُ الْحُلْوَانِيُّ، ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.
وَجُزِمَ بِهِ فِي " الْمَنْثُورِ " عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: لِأَنَّهُ
خَلَطَهُ بِمَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيُّهُمَا ضَاعَ ضَمِنَ، نَقَلَهُ
الْبَغَوِيُّ، وَفِي " الرِّعَايَةِ " إِذَا خَلَطَ إِحْدَى وَدِيعَتَيْ
زَيْدٍ بِالْأُخْرَى بِلَا إِذْنٍ وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ، فَوَجْهَانِ.
فَرْعٌ: إِذَا نَوَى التَّعَدِّيَ فِيهَا وَلَمْ يَتَعَدَّ لَمْ يَضْمَنْ،
وَحَكَى الْقَاضِي قَوْلًا: بَلَى، كَمُلْتَقِطٍ فِي وَجْهٍ.
(وَإِنْ خَلَطَهَا بِمُتَمَيِّزٍ) كَدَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ لَمْ يَضْمَنْ
عَلَى الْأَصَحِّ، وَحَكَاهُ فِي " الشَّرْحِ " بِغَيْرِ خِلَافٍ
نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْجَزُ بِذَلِكَ عَنْ رَدِّهَا أَشْبَهَ مَا
لَوْ تَرَكَهَا فِي صُنْدُوقٍ فِيهِ أَكْيَاسٌ لَهُ. وَالثَّانِيَةُ:
يَضْمَنُ لِلتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَكَذَا الْخِلَافُ إِنْ خَلَطَ بِيضًا
بِسُودٍ، وَصِحَاحًا بِمُكَسَّرَةٍ. وَالثَّالِثَةُ: يَضْمَنُ إِنْ خَلَطَ
بِيضًا بِسُودٍ، وَحَمَلَهُ فِي " الْمُغْنِي "، وَ " الشَّرْحِ " عَلَى
أَنَّهَا تَكْتَسِبُ مِنْهَا سَوَادًا، وَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهَا (أَوْ
رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَسْقِيَهَا) أَوْ لِيَعْلِفَهَا لَمْ
(5/91)
دِرْهَمًا ثُمَّ رَدَّهُ فَضَاعَ الْكُلُّ
ضَمِنَهُ وَحْدَهُ، وَعَنْهُ: يَضْمَنُ الْجَمِيعَ، وَإِنْ رَدَّ بَدَلَهُ
مُتَمَيِّزًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ ضَمِنَ
الْجَمِيعَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ غَيْرَهُ.
وَإِنْ أَوْدَعَهُ صَبِيٌّ وَدِيعَةً ضَمِنَهَا، وَلَمْ يَبْرَأْ إِلَّا
بِالتَّسْلِيمِ إِلَى وَلِيِّهِ، وَإِنْ أَوْدَعَ الصَّبِيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا، وَعُرْفًا، وَلِهَذَا
يَضْمَنُ إِذَا تَلِفَتْ بِتَرْكِهِ (وَإِنْ أَخَذَ دِرْهَمًا ثُمَّ
رَدَّهُ فَضَاعَ الْكُلُّ ضَمِنَهُ وَحْدَهُ) فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ
الضَّمَانَ تَعَلَّقَ بِالْأَخْذِ فَلَمْ يَضْمَنْ غَيْرَ مَا أَخَذَهُ،
بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ رَدِّهِ (وَعَنْهُ: يَضْمَنُ
الْجَمِيعَ) حَكَاهَا فِي " التَّلْخِيصِ " وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا
وَدِيعَةٌ قَدْ تَعَدَّى فِيهَا فَضَمِنَهَا، كَمَا لَوْ أَخَذَ الْجَمِيعَ
(وَإِنْ رَدَّ بَدَلَهَ مُتَمَيِّزًا فَكَذَلِكَ) أَيْ: يَجْرِي فِيهِ
الْخِلَافُ السَّابِقُ (وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ ضَمِنَ
الْجَمِيعَ) عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَالَهُ الْقَاضِي لِخَلْطِهِ
الْوَدِيعَةَ بِمَا لَا تَتَمَيَّزُ (وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ
غَيْرَهُ) وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي
فِي " التَّعْلِيقِ ".
وَحُكِيَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ أَنَّهُ أَنْكَرَ الْقَوْلَ
بِتَضْمِينِ الْجَمِيعِ، قَالَ: وَإِنَّهُ قَوْلُ سُوءٍ؛ لِأَنَّ
الضَّمَانَ مَنُوطٌ بِالتَّعَدِّي، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَأْخُوذِ،
وَكَذَا إِنْ أَذِنَ فِي أَخْذِهِ مِنْهَا، فَرَدَّ بَدَلَهُ بِلَا
إِذْنِهِ، وَشَرْطُهَا كَمَا جُزِمَ بِهِ فِي " الْمُغْنِي "، وَ "
الشَّرْحِ " إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَخْتُومَةٍ، وَلَا مَشْدُودَةٍ، فَإِنْ
كَانَتْ كَذَلِكَ ضَمِنَ الْجَمِيعَ لِهَتْكِ الْحِرْزِ، وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقِيَاسُ قَوْلِ الْأَصْحَابِ.
فَرْعٌ: إِذَا مَنَعَهَا بَعْدَ طَلَبِ طَالِبِهَا شَرْعًا وَالتَّمَكُّنِ،
وَلَوْ كَانَ مُسْتَأْجِرًا لَهَا ضَمِنَ، فَإِنْ ضَمِنَهَا فَجَدَّدَ لَهُ
صَاحِبُهَا اسْتِئْمَانًا، أَوْ أَبْرَأَهُ بَرِئَ فِي الْأَصَحِّ
كَرَدِّهِ إِلَيْهِ، أَوْ إِنْ جِئْتَ ثُمَّ تَرَكْتَ، فَأَنْتَ أَمِينِي،
ذَكَرَهُ فِي " الِانْتِصَارِ "، فَإِنْ رَدَّهَا فَهُوَ ابْتِدَاءُ
اسْتِئْمَانٍ.
[أَوْدَعَ الصَّبِيَّ وَدِيعَةً فَتَلِفَتْ]
(وَإِنْ أَوْدَعَهُ صَبِيٌّ وَدِيعَةً ضَمِنَهَا) لِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ
غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ، أَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَهُ مَا لَمْ
يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّصَرُّفِ (وَلَمْ يَبْرَأْ إِلَّا
بِالتَّسْلِيمِ إِلَى وَلِيِّهِ) أَيِ النَّاظِرِ فِي مَالِهِ، كَمَا لَوْ
كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ
عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهَا إِلَى الْمُودِعِ، لَكِنْ إِنْ خَافَ
عَلَيْهَا التَّلَفَ إِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ
قَصَدَ تَخْلِيصَهَا مِنَ الْهَلَاكِ، جُزِمَ بِهِ فِي " الشَّرْحِ "، وَ "
الْوَجِيزِ " (وَإِنْ أَوْدَعَ الصَّبِيَّ) أَوِ الْمَعْتُوهَ، أَوِ
السَّفِيهَ (وَدِيعَةً فَتَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّ
مَالِكَهَا قَدْ فَرَّطَ فِي تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ أَتْلَفَهَا
لَمْ يَضْمَنْ سَوَاءٌ أَتْلَفَهَا بِأَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ
سَلَّطَهُ عَلَى إِتْلَافِهَا بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ (وَقَالَ الْقَاضِي:
يَضْمَنُ) نَصَرَهُ فِي " الشَّرْحِ " وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا ضُمِنَ
بِالْإِتْلَافِ قَبْلَ الْإِيدَاعِ ضُمِنَ بِهِ بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُمْ:
إِنَّهُ سَلَّطَهُ
(5/92)
وَدِيعَةً فَتَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ لَمْ
يَضْمَنْ، وَقَالَ الْقَاضِي: يَضْمَنُ، وَإِنْ أَوْدَعَ عَبْدًا
وَدِيعَةً؛ فَأَتْلَفَهَا، ضَمِنَهَا فِي رَقَبَتِهِ.
فَصْلٌ وَالْمُودَعُ أَمِينٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ
رَدٍّ وَتَلَفٍ وَإِذْنِ دَفْعِهَا إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
عَلَيْهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَحْفَظَهُ إِيَّاهَا (وَإِنْ
أَوْدَعَ عَبْدًا وَدِيعَةً فَأَتْلَفَهَا ضَمِنَهَا فِي رَقَبَتِهِ)
لِأَنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ اسْتِحْفَاظُهُ، وَبِهِ تَحْصُلُ
التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيِّ، وَكَوْنُهَا فِي رَقَبَتِهِ؛
لِأَنَّ إِتْلَافَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَحُكِيَ فِي " النِّهَايَةِ "
أَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ: فِيهِ وَجْهَانِ كَوَدِيعَةِ الصَّبِيِّ إِذَا
أَتْلَفَهَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَضْمَنُ الصَّبِيُّ كَانَ فِي
ذِمَّتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَضْمَنُ كَانَتْ فِي رَقَبَتِهِ. ثُمَّ قَالَ
صَاحِبُ " النِّهَايَةِ " وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ.
[فَصْلُ وَالْمُودَعُ أَمِينٌ]
ٌ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا أَمَانَةً بِقَوْلِهِ: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
[النساء: 58] (وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ رَدٍّ) مَعَ
يَمِينِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي
قَبْضِهَا، فَقُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَعَنْهُ: يُقْبَلُ
قَوْلُهُ إِنْ كَانَ دَفَعَهَا إِلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَإِلَّا
وَجَبَ عَلَيْهِ إِقَامَتُهَا، وَعَلَى الْقَبُولِ وَلَوْ عَلَى يَدِ
عَبْدِهِ، أَوْ زَوْجَتِهِ، أَوْ خَازِنِهِ (وَتَلَفٍ) . قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ
إِذَا أَحْرَزَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا ضَاعَتْ، قُبِلَ
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، قَالَهُ الْأَكْثَرُ، وَعَنْهُ: يُصَدَّقُ فِي
تَلَفِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَالْمَذْهَبُ إِنِ ادَّعَاهُ بِأَمْرٍ
خَفِيٍّ صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَحَرِيقٍ،
فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِوُجُودِ السَّبَبِ وَلَوْ
بِاسْتِفَاضَةٍ.
كُلُّ مَالٍ تَلِفَ فِي يَدِ أَمِينٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَا ضَمَانَ
فِيهِ، إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا اسْتَسْلَفَ
السُّلْطَانُ لِلْمَسَاكِينِ زَكَاةً قَبْلَ حَوْلِهَا فَتَلِفَتَ فِي
يَدِهِ ضَمِنَهَا لِلْمَسَاكِينِ، نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ
الشَّافِعِيُّ.
(5/93)
إِنْسَانٍ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ تُودِعْنِي،
ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا، أَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ فَادَّعَى الرَّدَّ أَوِ
التَّلَفَ لَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
(وَإِذْنٍ فِي دَفْعِهَا إِلَى إِنْسَانٍ) بِأَنْ قَالَ: دَفَعْتُهَا إِلَى
فُلَانٍ بِأَمْرِكَ، فَأَنْكَرَ مَالِكُهَا الْإِذْنَ فِي دَفْعِهَا قَبْلَ
قَوْلِ الْمُودِعِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ،
أَشْبَهَ مَا لَوِ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا، وَلَوِ اعْتَرَفَ
بِالْإِذْنِ وَأَنْكَرَ الدَّفْعَ قُبِلَ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ فِي
الْمَنْصُوصِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ إِنْ أَقَرَّ
بِالْقَبْضِ، وَكَانَ الدَّفْعُ فِي دَيْنٍ بَرِئَ الْكُلُّ، فَإِنْ
أَنْكَرَ قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ
الدَّافِعَ يَضْمَنُ لِكَوْنِهِ قَضَى الدَّيْنَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَلَا
تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُفَرِّطٌ
لِكَوْنِهِ أَذِنَ لَهُ فِي قَضَاءٍ يُبَرِّئُهُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَمْ
يَبْرَأْ بِدَفْعِهِ، فَكَانَ ضَامِنًا سَوَاءٌ صَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ،
وَذَكَرَ الْأَزَجِّيُّ أَنَّ الرَّدَّ إِلَى رَسُولٍ مُوَكَّلٍ وَمُودَعٍ،
فَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ضَمِنَ لِتَعَلُّقِ الدَّفْعِ بِثَالِثٍ،
وَيُحْتَمَلُ: لَا، وَإِنْ أَقَرَّ. وَقَالَ: قَصَّرْتُ لِتَرْكِ
الْإِشْهَادِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ.
تَنْبِيهٌ: إِذَا أَخَّرَ رَدَّهَا بَعْدَ طَلَبِهَا بِلَا عُذْرٍ ضَمِنَ،
وَيُمْهَلُ لِأَكْلٍ وَنَوْمٍ وَهَضْمِ طَعَامٍ بِقَدْرِهِ، وَفِي "
التَّرْغِيبِ " إِنْ أَخَّرَ لِكَوْنِهِ فِي حَمَّامٍ، أَوْ عَلَى طَعَامٍ
إِلَى قَضَاءِ غَرَضٍ ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ عَلَى وَجْهٍ،
وَاخْتَارَهُ الْأَزَجِّيُّ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إِلَى وَكِيلِهِ
فَتَمَكَّنَ وَأَبِي ضَمِنَ، وَالْأَصَحُّ وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْهَا
وَكِيلُهُ.
(وَإِنْ قَالَ: لَمْ تُودِعْنِي، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا أَوْ ثَبَتَ
بِبَيِّنَةٍ فَادَّعَى الرَّدَّ أَوِ التَّلَفَ لَمْ يُقْبَلْ) فِي قَوْلِ
أَكْثَرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا بِالْجُحُودِ، وَمُعْتَرِفًا عَلَى
نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ الْمُنَافِي لِلْأَمَانَةِ (وَإِنْ أَقَامَ بِهِ
بَيِّنَةً) لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهَا (وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُقْبَلَ
بَيِّنَتُهُ) لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ
الضَّمَانُ، وَلِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَالْكَذِبُ الصَّادِرُ مِنْهُ لَا
يَمْنَعُ مِنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِذَا أَقَامَ
بَيِّنَةً بِهِمَا، مُتَقَدِّمًا جُحُودُهُ، لَمْ تُسْمَعْ فِي
الْمَنْصُوصِ، وَبَعْدَهُ تُسْمَعُ بِرَدٍّ؛ لِأَنَّ قُصَارَاهُ أَنْ
يَكُونَ عَاصِيًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّدِّ، وَالْأَصَحُّ
وَبِتَلَفٍ، فَلَوْ شَهِدَتْ بِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ وَقْتًا لَمْ يَسْقُطِ
الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُهُ فَلَا يَنْبَغِي بِأَمْرِ
مُتَرَدِّدٍ (وَإِنْ قَالَ: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ قُبِلَ قَوْلُهُ) مَعَ
يَمِينِهِ (فِي الرَّدِّ وَالتَّلَفِ) لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُنَافِي مَا
شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَلَا يُكَذِّبُهَا، فَإِنَّ مَنْ تَلِفَتِ
الْوَدِيعَةُ مِنْ حِرْزِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ أَوْ رَدَّهَا لَا شَيْءَ
لِمَالِكِهَا عِنْدَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَوْ قَالَ:
لَكَ وَدِيعَةٌ ثُمَّ ادَّعَى ظَنَّ الْبَقَاءِ ثُمَّ عُلِمَ تَلَفُهَا،
فَوَجْهَانِ.
(5/94)
يُقْبَلْ، وَإِنْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ قَالَ: مَا لَكَ عِنْدِي
شَيْءٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ وَالتَّلَفِ، وَإِنْ مَاتَ
الْمُودَعُ فَادَّعَى وَارِثُهُ الرَّدَّ لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا
بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ قَبْلَ إِمْكَانِ رَدِّهَا لَمْ
يَضْمَنْهَا، وَبَعْدَهَ يَضْمَنُهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
(وَإِنْ مَاتَ الْمُودَعُ) فَهِيَ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ،
وَفِي " الْمُغْنِي " أَنَّهُ الْمَذْهَبُ اعْتِمَادًا عَلَى أَصْلِ
وُجُوبِ الرَّدِّ مَا لَمْ يُعْلَمْ مَا يُزِيلُهُ. وَالثَّانِيَةُ: لَا
ضَمَانَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إِتْلَافِهَا وَالتَّعَذُّرُ فِيهَا،
فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا فَرْقَ أَنْ يُوجَدَ
جِنْسُ الْوَدِيعَةِ فِي مَالِهِ أَوْ لَا (فَادَّعَى وَارِثُهُ الرَّدَّ
لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَأْمَنْهُ
عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْمُودِعِ فَإِنْهُ ائْتَمَنَهُ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ
بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى الرَّدَّ إِلَى الْوَرَثَةِ،
فَإِنِ ادَّعَى الرَّدَّ إِلَى رَبِّهَا، فَأَنْكَرَهُ وَرَثَتُهُ،
فَوَجْهَانِ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا
بِإِقْرَارٍ مِنَ الْمَيِّتِ أَوْ وَرَثَتِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، فَلَوْ
وُجِدَ عَلَيْهَا مَكْتُوبًا: وَدِيعَةٌ، لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْوِعَاءُ كَانَتْ فِيهِ وَدِيعَةٌ قَبْلَ هَذِهِ،
وَكَذَا لَوْ وَجَدَ فِي بَرْنَامَجِ أَبِيهِ: لِفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةٌ
لَمْ يَلْزَمْهُ، ذَكَرَهُ فِي " الْمُغْنِي "، وَ " الشَّرْحِ "،
وَصَحَّحَهُ فِي " الْفُرُوعِ "، وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنَّهُ
يَعْمَلُ بِخَطِّ أَبِيهِ عَلَى كِيسٍ لِفُلَانٍ كَخَطِّهِ بِدَيْنٍ لَهُ،
فَيَحْلِفُ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ، وَفِي رَدِّهِ عَلْيِهِ وَجْهَانِ،
وَإِسْنَادُ الدَّارِ وَالْكَاتِبِ وَدَفْتَرِهِ وَنَحْوِهِمَا، وُكَلَاءُ
كَالْأَمِيرِ فِي هَذَا.
غَرِيبَةٌ: لَوْ أَوْدَعَ كِيسًا مَخْتُومًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ
اسْتَرَدَّهُ وَادَّعَى أَنَّهُ فُضَّ خَتْمُهُ، وَأَنَّهُ خَانَ صُدِّقَ
الْمُودِعُ، فَلَوْ فُتِحَ فَوُجِدَ فِيهِ دَرَاهِمُ مِنْ ضَرْبِ خَمْسِ
سِنِينَ فَكَذَلِكَ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ فِي " فَتَاوِيهِ ".
فَائِدَةٌ: إِذَا اسْتَعْمَلَ كَاتِبًا خَائِنًا، أَوْ عَاجِزًا أَثِمَ
بِمَا أَذْهَبَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ لِتَفْرِيطِهِ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ.
(وَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ الْوَارِثِ (قَبْلَ إِمْكَانِ
رَدِّهَا لَمْ يَضْمَنْهَا) لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَلَا تَفْرِيطَ مِنْهُ
(وَبَعْدَهُ يَضْمَنُهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ) جُزِمَ بِهِ فِي "
الْوَجِيزِ " وَغَيْرِهِ لِتَأَخُّرِ رَدِّهَا مَعَ إِمْكَانِهِ
لِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إِيدَاعٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَطَارَتِ
الرِّيحُ ثَوْبًا إِلَى سَطْحٍ آخَرَ، وَأَمْكَنَهُ
(5/95)
ادَّعَى الْوَدِيعَةَ اثْنَانِ فَأَقَرَّ
بِهَا لِأَحَدِهِمَا فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَحْلِفُ الْمُودِعُ
أَيْضًا، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا فَهِيَ لَهُمَا وَيَحْلِفُ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ صَاحِبَهَا حَلَفَ أَنَّهُ
لَا يَعْلَمُ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ حَلَفَ
وَأَخَذَهَا، وَإِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
رَدُّهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَالثَّانِي لَا يَضْمَنُهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ
مُتَعَدٍّ فِي إِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهَا، لِكَوْنِهَا حَصَلَتْ فِي
يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَفِي ثَالِثٍ إِنْ جَهِلَهَا رَبُّهَا ضَمِنَ،
قُطِعَ بِهِ فِي " الْمُحَرَّرِ " لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ (وَإِنِ
ادَّعَى الْوَدِيعَةَ اثْنَانِ) أَيِ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ
الَّذِي أَوْدَعَهَا وَلَا بَيِّنَةَ (فَأَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا
فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْمُودَعِ وَقَدْ
نَقَلَهَا إِلَى الْمُدَّعِي فَصَارَتِ الْيَدُ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ
الْيَدُ لَهُ قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ (وَيَحْلِفُ الْمُودِعُ
أَيْضًا) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِحَقِّهِ، وَيَكُونُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ،
فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ
قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ
بِهَا لِلْأَوَّلِ، فَإِنْهَا تُسَلَّمُ لِلْأَوَّلِ، وَيُغَرَّمُ
قِيمَتُهَا لِلثَّانِي، نَصَّ عَلَيْهِ (وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا
فَهِيَ لَهُمَا) أَيْ: بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمَا،
وَتَدَاعَيَا مَعًا (وَيُحْلَفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) فِي نِصْفِهَا،
فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ عِوَضُهَا، يَقْتَسِمَانِهِ أَيْضًا (فَإِنْ قَالَ:
لَا أَعْرِفُ صَاحِبَهَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ) يَمِينًا وَاحِدَةً
إِذَا أَكْذَبَاهُ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَقِيلَ: لَا يَحْلِفُ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ مُتَّهَمًا. قَالَ الْحَارِثِيُّ: هَذَا الْمَذْهَبُ (وَيُقْرَعُ
بَيْنَهُمَا) وُجُوبًا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْحَقِّ فِيمَا لَيْسَ
بِأَيْدِيهِمَا كَالْعِتْقِ وَالسَّفَرِ بِإِحْدَى نِسَائِهِ (فَمَنْ
قَرَعَ صَاحِبَهُ حَلَفَ) لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ
(وَأَخَذَهَا) لِأَنَّ ذَلِكَ فَائِدَةُ الْقُرْعَةِ، فَإِنْ قَالَ:
لَيْسَتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقْرَعُ
بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا قَالَ: هِيَ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ،
أَوْ لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا
يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَتُقَرُّ بِيَدِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْ
يَظْهَرَ صَاحِبُهَا، ذَكَرَهُ فِي " الْوَاضِحِ ".
(وَإِنْ أَوْدَعَهُ اثْنَانِ مَكِيلًا، أَوْ مَوْزُونًا) يَنْقَسِمُ،
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ لَا يَنْقُصُ بِتَفْرِقَتِهِ (فَطَلَبَ
أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ) اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ،
وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ "، وَقَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ "؛
لِأَنَّ قِسْمَتَهُ مُمْكِنَةٌ بِغَيْرِ غَبْنٍ، وَلَا ضَرَرٍ، وَقَيَّدَهُ
فِي " الْمُحَرَّرِ " بِمَا إِذَا كَانَ الشَّرِيكُ غَائِبًا. وَقَالَ
الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ إِذْنِ حَاكِمٍ،
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْمِثْلِيِّ
(5/96)
أَوْدَعَهُ اثْنَانِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا
نَصِيبَهُ؛ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ غُصِبَتِ الْوَدِيعَةُ، فَهَلْ
لِلْمُودِعِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَهِيَ الْأَرْضُ الدَّاثِرَةُ الَّتِي لَا
يُعْلَمُ أَنَّهَا مُلِكَتْ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا آثَارُ الْمِلْكِ، أَوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
صُرِّحَ بِهِ فِي " النِّهَايَةِ " وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ غَيْرِ
ذَلِكَ بَيْعٌ، وَلَيْسَ لِلْمُودِعِ أَنْ يَبِيعَ عَلَى الْمُودَعِ؛
لِأَنَّ قِسْمَةَ ذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا الْحَيْفُ؛ لِأَنَّهُ
يَفْتَقِرُ إِلَى التَّقْوِيمِ، وَذَلِكَ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ.
(وَإِنْ غُصِبَتِ الْوَدِيعَةُ، فَهَلْ لِلْمُودِعِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا؟
عَلَى وَجْهَيْنِ) أَحَدُهُمَا، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ "،
وَقَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ
مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا وَذَلِكَ مِنْهُ، وَعَبَّرَ فِي " الْفُرُوعِ "
بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ
لِكَوْنِهِ لَيْسَ وَكِيلًا لِلْمَالِكِ، وَمِثْلُهُ مُرْتَهِنٌ،
وَمُسْتَأْجِرٌ، وَمُضَارِبٌ، وَذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ مَعَ حُضُورِ
الْمَالِكِ لَا يَلْزَمُهُ. وَعَلَى الثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ
سَوَاءٌ أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَسْلِيمِهَا؛
لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عُذْرٌ يُبِيحُ دَفْعَهَا، فَلَمْ يَضْمَنْهَا كَمَا
لَوْ أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا، وَإِنْ صَادَرَهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَضْمَنْ،
قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَضَمَّنَهُ أَبُو الْوَفَاءِ إِنَّ فَرَّطَ،
وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ قَهْرًا لَمْ يَضْمَنْ، عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ،
وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءُ: إِنْ ظُنَّ أَخْذُهَا مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ،
كَانَ دَالًّا وَيَضْمَنُ.
1 -
أَحْكَامٌ: إِذَا اسْتُودِعَ فِضَّةً وَأُمِرَ بِصَرْفِهَا بِذَهَبٍ
فَفَعَلَ وَتَلِفَ الذَّهَبُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ قَالَ: اصْرِفْ
مَالِي عَلَيْكَ مِنْ قَرْضٍ، فَفَعَلَ وَتَلِفَ ضَمِنَهُ وَلَمْ يَبْرَأْ
مِنَ الْقَرْضِ، وَإِنِ اسْتُودِعَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ أَمْسَكَ
وَلَدَهَا، وَقِيلَ: بِإِذْنِ رَبِّهَا وَهُوَ أَمَانَةٌ، فَلَوْ سَأَلَهُ
عَنِ الْوَدِيعَةِ ظَالِمٌ وَرَّى عَنْهَا، فَإِنْ ضَاقَ النُّطْقُ عَنْهَا
جَحَدَهَا وَتَأَوَّلَ، وَكَذَا إِنْ أُحْلِفَ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَوَى
جَحْدَهَا، أَوْ إِمْسَاكَهَا لِنَفْسِهِ، أَوِ التَّعَدِّي فِيهَا لَمْ
يَضْمَنْ، قَالَهُ فِي " الرِّعَايَةِ ". |