المبدع شرح المقنع ط العلمية

بَابُ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ وَهِيَ تَمْلِيكٌ فِي حَيَاتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ

وَإِنْ شَرَطَ فِيهَا عِوَضًا مَعْلُومًا صَارَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
إِعَارَةٍ، أَوْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، فَلَيْسَ لَهُ دَعْوَى الْبِنَاءِ بِلَا حُجَّةٍ، وَيَدُ أَهْلِ الْعَرْصَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا فِيهَا بِحُكْمِ الِاشْتِرَاكِ، إِلَّا مَعَ بَيِّنَةٍ بِاخْتِصَاصِهِ بِبِنَاءٍ وَنَحْوِهِ.

[بَابُ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ]
[تَعْرِيفُ الْهِبَةِ]
بَابُ الْهِبَةِ وَالْعَطِيَّةِ أَصْلُهَا مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ أَيْ مُرُورِهِ، يُقَالُ: وَهَبْتُ لَهُ شَيْئًا وَهْبًا - بِإِسْكَانِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا - وَهِبَةً، وَالِاسْمُ الْمَوْهِبُ، وَالْمَوْهِبَةُ، بِكَسْرِ الْهَاءِ فِيهِمَا، وَالِاتِّهَابِ: قَبُولُ الْهِبَةِ، وَالِاسْتِيهَابُ سُؤَالُ الْهِبَةِ، وَتَوَاهَبَ الْقَوْمُ أَيْ وَهَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَوَهَبْتُهُ كَذَا، لُغَةٌ قَلِيلَةٌ. وَالْعَطِيَّةُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ الشَّيْءُ الْمُعْطَى، وَالْجَمْعُ الْعَطَايَا، وَالْعَطِيَّةُ هُنَا الْهِبَةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، فَذَكَرَ الْهِبَةَ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَأَحْكَامَهَا، قَالَهُ فِي " الْمَطْلَعِ ".
(وَهِيَ تَمْلِيكٌ فِي حَيَاتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) ، فَخَرَجَ بِالْأَوَّلِ مَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ كَالْعَرِيَّةِ، فَإِنَّهَا إِبَاحَةٌ، وَبِالثَّانِي الْوَصِيَّةُ، وَبِالثَّالِثِ عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا لَهُ الْمَعْلُومُ الْمَوْجُودُ، صَرَّحَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ " بِمَا يُعَدُّ هِبَةً عُرْفًا، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ (وَإِنْ شَرَطَ فِيهَا عِوَضًا مَعْلُومًا) صَحَّ، نَصَّ عَلَيْهِ (وَصَارَتْ بَيْعًا) ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ أَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ وَالشُّفْعَةُ، وَحُكِيَ فِي " الْفُرُوعِ " قَوْلًا أَنَّهَا تَصِحُّ بِقِيمَتِهَا، فَعَلَيْهِ يَلْغُو الثَّوَابُ الْمَشْرُوطُ، وَيَرْجِعُ إِلَى قِيمَتِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ إِذَا جَعَلَ الثَّوَابَ مَجْهُولًا، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ فِي " الْفَائِقِ "، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا وَلِنَفْيِ الثَّمَنِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ، فَصَحَّ كَغَيْرِهِ (وَعَنْهُ: يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ) ، ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ لَفْظَهَا الصَّرِيحَ، فَكَانَ الْمُغَلَّبُ فِيهَا الْهِبَةَ كَمَا لَوْ لَمْ يَشْرُطْ عِوَضًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْهِبَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَقْتَضِي عِوَضًا سَوَاءٌ كَانَتْ لِمَثَلِهِ أَوْ دُونَهُ أَوْ أَعَلَا مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: هِيَ مِنَ الْأَدْنَى تَقْتَضِي عِوَضًا هُوَ الْقِيمَةُ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ: مَنْ وَهَبَ

(5/190)


بَيْعًا، وَعَنْهُ: يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ، وَإِنْ شَرَطَ ثَوَابًا مَجْهُولًا لَمْ تَصِحَّ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُرْضِيهِ بِشَيْءٍ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَرْضَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا أَوْ فِي عِوَضِهَا إِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
هِبَةً أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إِذَا لَمْ يَرْضَ مِنْهَا، وَجَوَابُهُ بِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ، فَلَمْ يَقْتَضِ ثَوَابًا كَهِبَةِ الْمِثْلِ وَالْوَصِيَّةِ، أَوْ قَوْلِ عُمَرَ خَالَفَهُ ابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: يَقْتَضِي عِوَضًا مَعَ عُرْفٍ، فَلَوْ أَعْطَاهُ لِيُعَاوِضَهُ، أَوْ لِيَقْضِيَ لَهُ حَاجَةً فَلَمْ يَفِ فَكَالشَّرْطِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ لَوْ عَوَّضَهُ عَنِ الْهِبَةِ كَانَتْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لَا عِوَضًا، أَيُّهُمَا أَصَابَ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ خَرَجَتْ مُسْتَحِقَّةٌ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يَرْجِعِ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِبَدَلِهَا.

[شَرَطَ عِوَضًا مَجْهُولًا فِي الْهِبَةِ]
(وَإِنْ شَرَطَ ثَوَابًا) أَيْ عِوَضًا (مَجْهُولًا لَمْ تَصِحَّ) الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مَجْهُولٌ فِي مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ، وَحِينَئِذٍ حُكْمُهَا حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَيَرُدُّهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِزِيَادَتِهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً رَدَّ قِيمَتَهَا (وَعَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: يُرْضِيهِ بِشَيْءٍ) ، أَيْ هُوَ صَحِيحٌ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ، فَإِذَا أَعْطَاهُ عَنْهَا عِوَضًا رَضِيَهُ لَزِمَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلِأَنْ تَصِحَّ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: هَذَا لَكَ عَلَى أَنْ تُثِيبَنِي فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِذَا لَمْ يُثِبْهُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ، وَنَصَّ عَلَى مَعْنَاهُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنَّ يُكَافِئَهُ بِالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ، نَصَّ عَلَيْهِ (فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَرْضَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا أَوْ فِي عِوَضِهَا إِنْ كَانَتْ تَالِفَةً) ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَاسِدٌ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْعَيْنِ إِذَا تَلِفَتْ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَقِيلَ: يُعْطِيهِ قَدْرَ قِيمَتِهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ فَيُعْتَبَرُ التَّرَاضِي، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا مُطْلَقًا، لَكِنْ إِنْ تَغَيَّرَتْ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَلَمْ يُثِبْهُ مِنْهَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَرَى عَلَيْهِ نُقْصَانَ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ إِذَا رَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا لَبِسَهُ، أَوْ جَارِيَةً اسْتَخْدَمَهَا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ إِذَا نَقَصَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَالرَّهْنِ.
فَرْعٌ: إِذَا ادَّعَى رَبُّهَا شَرْطَ الْعِوَضِ، أَوْ قَالَ: رَهَنْتَنِي مَا بِيَدِي، فَقَالَ: بَلْ بِعْتُكَهُ،

(5/191)


كَانَتْ تَالِفَةً

وَتَحْصُلُ الْهِبَةُ بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ هِبَةً مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْمُعَاطَاةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَتَلْزَمُ بِالْقَبْضِ، وَعَنْهُ: تَلْزَمُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
فَأَيُّهُمَا يُصَدَّقُ إِذَا حَلَفَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَجَزَمَ فِي " الْكَافِي " فِي الْأُولَى أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.

[مَا تَحْصُلُ بِهِ الْهِبَةُ]
(وَتَحْصُلُ الْهِبَةُ بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ هِبَةً مِنَ الْإِيجَابِ) بِأَنْ يَقُولَ: وَهَبْتُكَ، وَأَهْدَيْتُ إِلَيْكَ، وَأَعْطَيْتُكَ، وَنَحْوَهُ كَهَذَا لَكَ، (وَالْقَبُولُ) بِأَنْ يَقُولَ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، (وَالْمُعَاطَاةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا) ، اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُهْدِي وَيُهْدَى إِلَيْهِ، وَيُعْطِي وَيُعْطَى، وَيُفَرِّقُ الصَّدَقَاتِ، وَيَأْمُرُ سُعَاتَهُ بِأَخْذِهَا وَتَفْرِيقِهَا، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ إِيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَنُقِلَ عَنْهُمْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا أَوْ مُشْتَهِرًا، وَكَالْبَيْعِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَا تَصِحُّ بِدُونِهِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ قَبْضٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ، فَافْتَقَرَ إِلَى ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ، وَفِي " الْمُسْتَوْعِبِ " وَ " الْمُغْنِي " أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَالْعَفْوِ، وَالتَّمْلِيكِ، وَفِي " الرِّعَايَةِ " فِي عَفْوٍ وَجْهَانِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ دَالٌّ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَعَدَمِ الْعُرْفِ؛ وَلِأَنَّهُ يَكْتَفِي بِهَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ، فَالْهِبَةُ أَوْلَى، وَالنِّكَاحُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَقَعُ إِلَّا قَلِيلًا، فَلَا يَشُقُّ فِيهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ، (وَتَلْزَمُ بِالْقَبْضِ) بِإِذْنِ وَاهِبٍ بِلَا شُبْهَةٍ؛ لِمَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نَحَلَهَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ، فَلَمَّا مَرِضَ قَالَ: يَا بُنَيَّةُ كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا؛ وَلِأَنَّهَا هِبَةٌ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ، فَلَمْ تَلْزَمْ كَالطَّعَامِ الْمَأْذُونِ فِي أَكْلِهِ (وَعَنْهُ: تَلْزَمُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ) وَالْمَعْدُودِ وَالْمَزْرُوعِ (بِمُجَرَّدِ الْهِبَةِ) ، أَيْ إِذَا كَانَ مُتَمَيِّزًا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هِيَ الْمَذْهَبُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ

(5/192)


بِمُجَرَّدِ الْهِبَةِ، وَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ إِلَّا بِإِذْنِ الْوَاهِبِ إِلَّا مَا كَانَ فِي يَدِ الْمُتَّهَبِ فَيَكْفِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» وَلِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ كَالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ يَنْقُلُ الْمِلْكَ، فَلَمْ يَقِفْ لُزُومُهُ عَلَى الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ عِشْرِينَ وَسْقًا مَجْدُودَةً، فَيَكُونُ مَكِيلًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَا تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهِ قَبْلَ تَعْيِينِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَعَدْتُكَ بِالنِّحْلَةِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَجَابُوا عَنِ الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقِ بِالْفَرْقِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ إِخْرَاجُ مِلْكٍ لِلَّهِ تَعَالَى، فَخَالَفَ التَّمْلِيكَاتِ، وَالْوَصِيَّةُ تَلْزَمُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ، وَالْعِتْقُ إِسْقَاطُ حَقٍّ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَإِذَا قُلْنَا: الْهِبَةُ تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ بِمُجْرَدِهِ فَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ انْقَطَعَ عَنْهَا بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِ مِلْكِهِ، وَلَيْسَتْ فِي ضَمَانِهِ، وَلَا مَحْذُورَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا بِوَجْهٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْهِبَةَ حَيْثُ افْتَقَرَتْ إِلَى الْقَبْضِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِالْعَقْدِ، وَاخْتَارَ الْخِرَقِيُّ وَجَمْعٌ عَكْسَهُ.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيُّ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا مَقْبُوضَةً، وَالْأَشْهَرُ الْأَوَّلُ، وَهَلْ يَمْلِكُهَا بِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَعَلَيْهِمَا يَخْرُجُ النَّمَاءُ، قَالَ جَمَاعَةٌ: إِنِ اتَّصَلَ الْقَبْضُ.
(وَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ) إِذَا قِيلَ يُلْزَمُ بِهِ (إِلَّا بِإِذْنِ الْوَاهِبِ) ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَأَصْلِ الْعَقْدِ وَكَالرَّهْنِ (إِلَّا مَا كَانَ فِي يَدِ الْمُتَّهَبِ) كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ (فَيَكْفِي مُضِيُّ زَمَنٍ يَتَأَتَّى قَبْضُهُ فِيهِ) ، هَذَا رِوَايَةٌ، وَاخْتَارَهَا الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ، فَلَا مَعْنَى لِتَجْدِيدِ الْإِذْنِ فِيهِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمُنَجَّا إِنَّهُ الْمَذْهَبُ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ أَنَّهَا تَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى فِيهَا الْقَبْضُ، قَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ " وَ " الْفُرُوعِ "، وَصَحَّحَهُ فِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ "؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ مُسْتَدَامٌ فَأَغْنَى عَنْ الِابْتِدَاءِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً، وَيُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ الرُّجُوعُ وَالنَّمَاءُ، وَفِي " الرِّعَايَةِ ": الزِّيَادَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِلْمُتَّهَبِ إِذَا قُبِضَ مَا يُعْتَبَرُ قَبْضُهُ، وَقِيلَ: لِلْوَاهِبِ، وَهُوَ أَقْيَسُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ فِي الْقَبْضِ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الْإِذْنِ أَوْ فِي الْهِبَةِ صَحَّ رُجُوعُهُ (وَعَنْهُ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَأْذَنَ فِي الْقَبْضِ) كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ.

(5/193)


مُضِيُّ زَمَنٍ يَتَأَتَّى قَبْضُهُ فِيهِ، وَعَنْهُ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَأْذَنَ فِي الْقَبْضِ، وَإِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْإِذْنِ وَالرُّجُوعِ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْغَرِيمُ غَرِيمَهُ مِنْ دَيْنِهِ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ، أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَإِنَّ رَدَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلْهُ

وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمُشَاعِ وَهِبَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
(وَإِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْإِذْنِ وَالرُّجُوعِ) فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَآلُهُ إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكَمَا لَوْ مَاتَ الْمُتَّهَبُ بَعْدَ الْقَبُولِ.
وَقَالَ الْقَاضِي وَقَدَّمَهُ فِي " الشَّرْحِ " إِنَّهَا تَبْطُلُ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَبَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَالْوِكَالَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ وَرَثَةَ الْمُتَّهَبِ لَا تَقُومُ مَقَامَهُ بَلْ تَبْطُلُ الْهِبَةُ بِمَوْتِهِ فِي الْأَصَحِّ.
فَرْعٌ: يَقْبِضُ أَبٌ لِطِفْلٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَالْأَصَحُّ لَا يَحْتَاجُ قَبُولًا وَيُقْبَلُ وَيَقْبِضُ لِلطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ وَلِيُّهُمَا، وَقِيلَ: وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِمَا إِذَا عُدِمَ، وَأَمِينُ الْحَاكِمِ كَهُوَ.
أَصْلٌ: يَصِحُّ قَبْضُ الْمُمَيِّزِ وَقَبُولُهُ بِلَا إِذْنِ وَلَيِّهِ، وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ قَبْضِهِ فَقَطْ عَلَى إِذْنِهِ، وَلَا يَصِحُّ هِبَةٌ مِنْ صَغِيرٍ وَسَفِيهٍ وَلَوْ بِإِذْنِ وَلِيِّهِمَا، وَتَصِحُّ الْهِبَةُ مِنَ الْعَبْدِ، وَقِيلَ: بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَمَا اتَّهَبَهُ عَبْدٌ غَيْرُ مُكَاتَبٍ وَقَبِلَهُ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، وَيَصِحُّ قَبُولُهُ بِلَا إِذْنِ سَيِّدِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا يَقْبَلُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ قَبِلَهُ وَقُلْنَا: يَمْلِكُهُ، فَهُوَ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ، وَإِلَّا فَلَا، ذَكَرَهُ فِي " الرِّعَايَةِ ".
(وَإِنْ أَبْرَأَ الْغَرِيمُ غَرِيمَهُ مِنْ دَيْنِهِ) وَلَوِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَلَوْ قَبْلَ حُلُولِهِ خِلَافًا لِلْحُلْوَانِيِّ وَغَيْرِهِ (أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ مِنْهُ) أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ، أَوْ تَرَكَهُ، أَوْ مَلَّكَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ عَفَا عَنْهُ - (بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلْهُ) فِي الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْقَبُولِ كَالْعِتْقِ، وَالطَّلَاقِ، وَالشُّفْعَةِ، وَبِهَذَا فَارَقَ هِبَةَ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَفِي " الْمُغْنِي " فِي إِبْرَائِهَا لَهُ مِنَ الْمَهْرِ هَلْ هُوَ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ؟ فَيَتَوَجَّهُ مِنْهُ احْتِمَالٌ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ صَحَّ اعْتُبِرَ قَبُولُهُ، وَفِي " الْمُوجَزِ " وَ " الْإِيضَاحِ " لَا تَصِحُّ هِبَةٌ إِلَّا فِي مُعَيَّنٍ، وَفِي " الْمُغْنِي " وَإِنْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ فَأَبْرَأَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ، وَعَلَى النَّصِّ يَصِحُّ، وَلَوْ كَانَ الْمُبْرَأُ مِنْهُ مَجْهُولًا، وَفِيهِ خِلَافٌ، لَكِنْ لَوْ جَهِلَهُ رَبُّهُ وَكَتَمَهُ الْمَدِينُ خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ لَمْ يُبْرِهِ لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ، وَمِنْ صُوَرِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمَجْهُولِ لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا، وَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ، وَالْمَذْهَبُ: لَا يَصِحُّ مَعَ إِبْهَامِ الْمَحَلِّ كَأَبْرَأْتُ أَحَدَ غَرِيمَيِّ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ مِائَةٍ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ وَكَانَتْ عَلَيْهِ، فَفِي

(5/194)


كُلِّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.

وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ

وَلَا يَجُوزُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَجْهَانِ، أَصْلُهُمَا مَا لَوْ بَاعَ مَالًا كَانَ لِمُوَرِّثِهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَاقٍ لِمُوَرِّثِهِ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ وَانْتَقَلَ إِلَيْهِ.

[هِبَةُ الْمُشَاعِ]
(وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمُشَاعِ) ، جَزَمَ بِهِ الْأَكْثَرُ؛ لِمَا فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا يَطْلُبُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا غَنِمَ مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ» ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ أَوْ لَا، لَكِنْ يُعْتَبَرُ لِقَبْضِهِ إِذْنُ الشَّرِيكِ، قَالَهُ فِي " الْمُجَرَّدِ "، فَيَكُونُ نِصْفُهُ مَقْبُوضًا تَمَلُّكًا، وَنِصْفُ الشَّرِيكِ أَمَانَةً، وَقَالَ فِي " الْفُنُونِ " بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ، وَفِي " الرِّعَايَةِ " مَنِ اتُّهِبَ مُبْهَمًا أَوْ مُشَاعًا مِنْ مَنْقُولٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَذِنَ لَهُ شَرِيكُهُ فِي الْقَبْضِ - كَانَ سَهْمُهُ أَمَانَةً مَعَ الْمُتَّهَبِ، أَوْ يُوَكِّلُ الْمُتَّهَبُ شَرِيكَهُ فِي قَبْضِ سَهْمِهِ مِنْهُ، وَيَكُونُ بِيَدِهِ أَمَانَةً، وَإِنْ تَنَازَعَا قَبَضَ لَهُمَا وَكِيلُهُمَا أَوْ أَمِينُ الْحَاكِمِ، وَالْأَشْهَرُ إِنْ أُذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ مَجَّانًا فَكَعَارِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِأُجْرَةٍ فَكَمَأْجُورٍ (وَ) تَصِحُّ (هِبَةُ كُلِّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ) ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ فَصَحَّ كَالْبَيْعِ، وَظَاهِرُهُ أَنْ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ، وَفِي أُمِّ الْوَلَدِ أَوْجُهٌ، وَفِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ وَجْهَانِ، وَفِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ " وَ " الْوَجِيزِ " تَصِحُّ هِبَتُهُ، وَنَجَاسَةٌ يُبَاحُ نَفْعُهَا كَالْوَصِيَّةِ، نَقَلَ حَنْبَلٌ فِيمَنْ أَهْدَى إِلَى رَجُلٍ كَلْبَ صَيْدٍ تُرَى لَهُ أَنْ يُثِيبَ عَلَيْهِ؛ قَالَ: هَذَا خِلَافُ الثَّمَنِ، هَذَا عِوَضٌ مِنْ شَيْءٍ، فَأَمَّا الثَّمَنُ فَلَا.

[هِبَةُ الْمَجْهُولِ]
(وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولِ) كَالْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَحَرْبٍ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي الْمَجْهُولِ، كَالْبَيْعِ وَشَرْطِهِ، إِلَّا مَا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ كَالصُّلْحِ، صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ إِنْ كَانَ مِنَ الْوَاهِبِ دُونَ الْمُتَّهَبِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْمَعْدُومِ، كَالَّتِي تَحْمِلُ أَمَتُهُ أَوْ شَجَرَتُهُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. (وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ) كَالْآبِقِ، وَالشَّارِدِ، وَالْمَغْصُوبِ لِغَيْرِ غَاصِبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبْضِ أَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا وَهَبَهُ لِغَاصِبِهِ أَوْ لِمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ صَحَّ؛ لِإِمْكَانِ قَبْضِهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ الْقَبْضُ إِلَّا بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، فَإِنْ وَكَّلَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ فِي تَقْبِيضِهِ صَحَّ، وَإِنْ وَكَّلَ الْمُتَّهَبُ الْغَاصِبَ فِي الْقَبْضِ لَهُ، فَقَبِلَ، وَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ

(5/195)


تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ، وَشَرْطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا نَجِدُ أَنْ لَا يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا، وَلَا تَوْقِيتُهَا كَقَوْلِهِ: وَهَبْتُكَ هَذَا سَنَةً إِلَّا فِي الْعُمْرَى، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَبْضُهُ فِيهِ صَارَ مَقْبُوضًا، وَمَلَكَهُ الْمُتَّهَبُ، وَبَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِهِ، ذَكَرَهُ فِي " الشَّرْحِ "، وَقِيلَ: تَصِحُّ هِبَةُ غَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ كَالْوَصِيَّةِ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَوَجَّهُ مِنْهُ هِبَةُ مَعْدُومٍ غَيْرِهِ.

[تَعْلِيقُ الْهِبَةِ عَلَى شَرْطٍ]
(وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ) ، جَزَمَ بِهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِمُعَيَّنٍ فِي الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ كَالْبَيْعِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنْ رَجَعَتْ هَدِيَّتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ فَهِيَ لَكَ» ، وَعْدٌ لَا هِبَةٌ، وَاسْتَثْنَى فِي " الْفُرُوعِ " وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ ابْنُ شِهَابٍ وَالْقَاضِي غَيْرَ الْمَوْتِ، أَيْ مَوْتِ الْمُبْرِئِ.
تَنْبِيهٌ: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ بِشَرْطٍ، نَصَّ عَلَيْهِ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ مُتُّ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَمْلِيكًا فَكَتَعْلِيقِ الْهِبَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ: هُوَ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ، وَالتَّعْلِيقُ مَشْرُوعٌ فِي الْإِسْقَاطِ الْمَحْضِ فَقَطْ، فَإِنْ ضَمَّ التَّاءَ فَوَصِيَّةٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ جَعَلَ رَجُلًا فِي حِلٍّ مِنْ عَيْبِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعُودَ، قَالَ: مَا أَحْسَنَ الشَّرْطَ، فَيَتَوَجَّهُ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ، وَذَكَرَ الْحُلْوَانِيُّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ بِشَرْطٍ، وَاحْتَجَّ بِنَصِّهِ الْمَذْكُورِ.
(وَلَا شَرْطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا نَحْوُ أَنْ لَا يَبِيعَهَا وَلَا يَهَبَهَا) ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهَا، أَوْ يَهَبَهَا، أَوْ يَهَبَ فُلَانًا شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَكَذَا الْهِبَةُ، وَفِيهَا وَجْهُ بِنَاءٍ عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ وَهَبَ أَمَةً، وَاسْتَثْنَى حَمْلَهَا صَحَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الْعِتْقِ، وَفِيهِ تَخْرِيجٌ (وَلَا تَوْقِيتُهَا) خِلَافًا لِلْحَارِثِ (كَقَوْلِهِ: وَهَبْتُكَ هَذَا سَنَةً) ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِانْتِهَاءِ الْهِبَةِ، وَقِيلَ: يَلْغُو تَوْقِيتُهُ. وَتَصِحُّ الْهِبَةُ مُطْلَقًا (إِلَّا فِي الْعُمْرَى) وَالرُّقْبَى، فَإِنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنَ الْهِبَةِ، وَيَصِحُّ تَوْقِيتُهُمَا، سُمِّيَتْ عُمْرَى لِتَقْيِيدِهَا بِالْعُمْرِ، وَسُمِّيَتْ رُقْبَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ (وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ) أَوْ أَعْطَيْتُكَ (أَوْ أَرْقَبْتُكَهَا) قَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: أَرْقَبْتُكَ أَوْ أَعْطَيْتُكَ، وَهِيَ هِبَةٌ تَرْجِعُ إِلَى الْمِرْقِبِ إِنْ مَاتَ

(5/196)


أَرْقَبْتُكَهَا، أَوْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَتَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الْمِرْقَبُ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ، وَالْفَاعِلُ مِنْهُمَا مُعْمَرٌ، وَمِرْقِبٌ - بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْقَافِ - وَالْمَفْعُولُ بِفَتْحِهِمَا، وَقَالَ أَبُو السَّعَادَاتِ: يُقَالُ: أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ أَيْ جَعَلْتُهَا لَهُ يَسْكُنُهَا مُدَّةَ عُمْرِهِ فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إِلَيَّ، كَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَبْطَلَ ذَلِكَ الشَّرْعُ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ (أَوْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ) أَوْ عُمْرِي (أَوْ حَيَاتَكَ) أَوْ مَا بَقِيتُ (فَإِنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ وَهُوَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى (يَصِحُّ) فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ ضِدُّهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا» ، هَذَا نَهْيٌ وَهُوَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَجَوَابُهُ مَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّهْيُ وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْإِعْلَامِ لَهُمْ أَنَّكُمْ إِنْ أَعْمَرْتُمْ أَوْ أَرْقَبْتُمْ نَفَذَ لِلْمُعْمَرِ وَالْمِرْقِبِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِمَنْ أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةً لَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ كَطَلَاقِ الْحَائِضِ، وَصِحَّةُ الْعُمْرَى ضَرَرٌ عَلَى الْمُعْمَرِ، فَإِنْ مِلْكَهُ يَزُولُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، قَالَهُ فِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ "، (وَتَكُونُ لِلْمُعْمَرِ) - بِفْتَحِ الْمِيمِ - مِلْكًا فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ ". (وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ) ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ» ؛ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ الْمُسْتَقِرَّةَ كُلَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِحَيَاةِ الْمَالِكِ، وَتَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ، فَلَمْ يَكُنْ تَقْدِيرُهُ بِحَيَاتِهِ مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْأَمْلَاكِ، فَإِنْ عُدِمُوا فَلِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ رَبِّهَا، نَصَّ عَلَيْهِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا أَضَافَهَا إِلَى عُمْرِ غَيْرِهِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، وَعَنْهُ: يَرْجِعُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعْمَرِ إِلَى

(5/197)


بَعْدِهِ، وَإِنْ شَرَطَ رُجُوعَهَا إِلَى الْمُعْمَرِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ قَالَ: هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا - صَحَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الْمُعْمِرِ، وَقَالَهُ اللَّيْثُ، لِقَوْلِ جَابِرٍ: إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، أَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، مَعَ أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ، وَجَوَابُهُ بِأَنَّهُ قَضَى بِهَا طَارِقٌ بِالْمَدِينَةِ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ، لَا يَضُرُّ إِذَا نَقَلَهَا الشَّارِعُ إِلَى تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ كَالْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ وَلِعَقِبِكَ فَلَا خِلَافَ عِنْدِنَا فِي الصِّحَّةِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ فِي " الْكَافِي " وَذِكْرُ الْعَقِبِ تَأْكِيدٌ.
تَنْبِيهٌ: لَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالْعَقَارِ، بَلْ يَجْرِي فِيهِ وَفِي الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ، نَقَلَ يَعْقُوبُ وَابْنُ هَانِئٍ مَنْ يُعْمَرُ الْجَارِيَةَ أَيْضًا؟ قَالَ: لَا أَرَاهُ، وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى الْوَرَعِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهَا تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ، وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا أُعْمِرَ فَرَسًا حَيَاتَهُ، فَخَاصَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ مَلَكَ شَيْئًا حَيَاتَهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ» ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَمْلِكُ الشَّيْءَ عُمْرَهُ، فَقَدْ وَقَّتَهُ بِمَا هُوَ مُؤَقَّتٌ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ فَصَارَ كَالْمُطْلَقِ.
(وَإِنْ شَرَطَ رُجُوعَهَا إِلَى الْمُعْمَرِ عِنْدَ مَوْتِهِ) إِنْ مَاتَ قَبْلَهُ، أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَتُسَمَّى الرُّقْبَى، أَوْ رُجُوعُهَا مُطْلَقًا إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ (أَوْ قَالَ: هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا، صَحَّ الشَّرْطُ) كَالْعَقْدِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» . قَالَ الْقَاسِمُ: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يُعْمَلُ بِالشَّرْطِ (وَعَنْهُ: لَا يَصِحُّ) الشَّرْطُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَفِي " الْمُغْنِي " هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ " وَ " الْفُرُوعِ "؛ لِمَا رَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ مَرْفُوعًا، قَالَ: «لَا عُمْرَى وَلَا رُقْبَى، فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ» ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الرُّقْبَى يُشْتَرَطُ فِيهَا

(5/198)


الشَّرْطُ، وَعَنْهُ: لَا يَصِحُّ، وَتَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدُ.

فَصْلٌ وَالْمَشْرُوعُ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ، فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
عُودُهَا إِلَى الْمَرْقَبِ إِنْ مَاتَ الْآخَرُ قَبْلَهُ (وَتَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ مَلَكَ شَيْئًا حَيَاتَهُ فَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ» ، وَعَنْهُ: بُطْلَانُهُمَا كَالْبَيْعِ.
فَرْعٌ: إِذَا قَالَ: سَكَّنَّاهُ لَكَ عُمْرَكَ، أَوْ غَلَّتُهُ، أَوْ خِدْمَتُهُ لَكَ، أَوْ مَنَحْتُكَهُ - فَهُوَ عَارِيَةٌ، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ هِبَةُ الْمَنَافِعِ، وَالْمَنَافِعُ إِنَّمَا تُسْتَوْفَى بِمُضِيِّ الزَّمَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا.
تَنْبِيهٌ: إِذَا وَهَبَ أَوْ بَاعَ فَاسِدًا ثُمَّ تَصَرَّفَ فِي الْعَيْنِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ مَعَ عِلْمِهِ بِفَسَادِ الْأَوَّلِ صَحَّ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ عَالِمًا بِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَإِنِ اعْتَقَدَ صِحَّةَ الْأَوَّلِ فَفِي الثَّانِي وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي عَيْنٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لِأَبِيهِ فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَمَلَكَهَا. قَالَ الْقَاضِي: أَصْلُهُمَا: مَنْ بَاشَرَ بِالطَّلَاقِ امْرَأَةً يَعْتَقِدُهَا أَجْنَبِيَّةً فَبَانَتِ امْرَأَتُهُ، أَوْ بَاشَرَ بِالْعِتْقِ مَنْ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً فَبَانَتْ أَمَتُهُ، فَفِي وُقُوعِهِمَا رِوَايَتَانِ.

[فَصْلٌ: الْمَشْرُوعُ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ: الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ]
فَصْلٌ (وَالْمَشْرُوعُ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ) أَيْ يَجِبُ التَّعْدِيلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اقْتِدَاءً بِقِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيَاسًا لِحَالِ الْحَيَاةِ عَلَى حَالِ الْمَوْتِ، قَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانُوا يَقْتَسِمُونَ إِلَّا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَهُ عَطَاءٌ، وَشُرَيْحٌ، وَإِسْحَاقُ، وَقِيلَ: لِصُلْبِهِ، وَذَكَرَهُ الْحَارِثِيُّ، لَا وَلَدَ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ لِلْحَقِيقَةِ، وَعَنْهُ: يُسْتَحَبُّ ذَكَرٌ كَأُنْثَى، وَقَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ: «سَوِّ بَيْنَهُمْ» ، وَكَالنَّفَقَةِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الذَّكَرَ أَحْوَجُ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّدَاقَ وَالنَّفَقَةَ عَلَيْهِ بِخِلَافِهَا، وَحَدِيثُ بَشِيرٍ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، وَحِكَايَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا إِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا فِي مِثْلِهَا، وَلَا يُعْلَمُ حَالُ أَوْلَادِ بَشِيرٍ هَلْ كَانَ فِيهِمْ أُنْثَى أَوْ لَا، ثُمَّ تُحْمَلُ التَّسْوِيَةُ عَلَى الْقِسْمَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ

(5/199)


أَوْ فَضَّلَهُ فَعَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِالرُّجُوعِ أَوْ إِعْطَاءِ الْآخَرِ حَتَّى يَسْتَوُوا، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
تَعَالَى، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّسْوِيَةَ فِي أَصْلِ الْعَطَاءِ، وَعَنْهُ: لَا يَجِبُ التَّعْدِيلُ فِي النَّفَقَةِ كَشَيْءٍ تَافِهٍ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ: كَشَيْءٍ يَسِيرٍ، وَعَنْهُ: بَلَى، مَعَ تَسَاوِي فَقْرٍ أَوْ غِنًى، نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدًا مِنْ وَلَدِهِ فِي طَعَامٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ حَتَّى فِي الْقُبَلِ، فَدَخَلَ فِيهِ نَظَرُ وَقْفٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّعْدِيلُ بَيْنَ غَيْرِهِمْ، بَلْ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْأَوْلَادِ فَقَطْ، جَزَمَ بِهِ الْمُؤَلِّفُ فِي كُتُبِهِ، وَزَعَمَ الْحَارِثِيُّ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَأَنَّ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " وَهُوَ سَهْوٌ؛ إِذِ الْأَصْلُ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ، خَرَجَ مِنْهُ الْأَوْلَادُ لِلْخَبَرِ، مَعَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَسْأَلْ بَشِيرًا هَلْ لَكَ وَارِثٌ غَيْرُ وَلَدِكَ أَمْ لَا؟ وَاخْتَارَ الْأَكْثَرُ أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَقَارِبِ كَالْأَوْلَادِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ خَوْفُ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالتَّبَاغُضِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَقَارِبِ، وَالْأُمُّ كَالْأَبِ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ أَشْبَهَتِ الْأَبَ، وَلِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ (فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ أَوْ فَضَّلَهُ فَعَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِالرُّجُوعِ أَوْ إِعْطَاءِ الْآخَرِ حَتَّى يَسْتَوُوا) ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْأَصْحَابُ؛ لِمَا «رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: تَصَدَّقَ عَلِيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُشْهِدَهُ، فَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَ مِثْلَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، قَالَ: فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، وَفِي لَفْظٍ: فَارْدُدْهُ، وَفِي لَفْظٍ: فَأَرْجِعُهُ، وَفِي لَفْظٍ: لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ، وَفِي لَفْظٍ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي، وَفِي لَفْظٍ: سَوِّ بَيْنَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ جَوْرًا أَوْ أَمَرَ بَرَدِّهِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوْرَ حَرَامٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَهُوَ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ، وَالْبَغْضَاءَ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فَمَنَعَ مِنْهُ، كَتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ تَفْضِيلُ أَحَدِهِمْ، وَاخْتِصَاصُهُ لِمَعْنًى فِيهِ، وَيُكْرَهُ إِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأَثَرَةِ، اخْتَارَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَنَصَرَهُ فِي " الشَّرْحِ "، وَقَالَ اللَّيْثُ وَالثَّلَاثَةُ: يَجُوزُ ذَلِكَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ نَحَلَ عَائِشَةَ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي، فَأَمَرَهُ بِتَأْكِيدِهَا دُونَ الرُّجُوعِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَطِيَّةٌ تَلْزَمُ بِمَوْتِ الْمُعْطِي كَالتَّسْوِيَةِ، وَجَوَابُهُ بِأَنَّ فِعْلَ أَبِي بَكْرٍ لَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ، وَبِأَنَّهُ نَحَلَهَا لِمَعْنًى فِيهَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَوْلَادِهِ، أَوْ كَانَ

(5/200)


ذَلِكَ ثَبَتَ لِلْمُعْطَى، وَعَنْهُ: لَا يَثْبُتُ، وَلِلْبَاقِينَ الرُّجُوعُ، اخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَاصِدًا بِأَنْ يَنْحَلَّ غَيْرَهَا فَأَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: أَشْهِدْ، إِلَى آخِرِهِ لَيْسَ بِأَمْرٍ؛ لِأَنَّ أَدْنَى أَحْوَالِهِ الِاسْتِحْبَابُ، وَلَا خِلَافَ فِي كَرَاهَتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا لَبَادَرَ إِلَى امْتِثَالِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَهْدِيدٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا خَصَّ بَعْضَهُمْ بِإِذْنِ الْبَاقِي، أَوْ كَانَ لِمَعْنًى كَزَمَانَةٍ، أَوْ عَمًى، أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ - جَازَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَعَنْهُ: لَا يُنَفَّذُ فِي مَرَضِهِ، وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ مَعْنَاهُ.
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ (فَإِنْ مَاتَ) الْوَاهِبُ (قَبْلَ ذَلِكَ ثَبَتَ لِلْمُعْطِي) وَلَزِمَ، وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ الرُّجُوعُ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ وَالْخِرَقِيُّ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ؛ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لِعَائِشَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَدِدْتُ أَنَّكِ حُزْتِيهِ، فَدَلَّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَازَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِوَلَدِهِ، فَلَزِمَتْ بِالْمَوْتِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ فَقَدْ خَالَفَ، وَيَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ الْعَطِيَّةُ فِي الْمَرَضِ لِيُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ، وَالْأَشْهَرُ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِفِعْلِ الْوَاجِبِ، (وَعَنْهُ: لَا يَثْبُتُ وَلِلْبَاقِينَ الرُّجُوعُ، اخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ) وَأَبُو حَفْصٍ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
قَالَ أَحْمَدُ: عُرْوَةُ قَدْ رَوَى حَدِيثَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَتَرَكَهَا، وَذَهَبَ إِلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُرَدُّ فِي حَيَاةِ الرَّجُلِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ» ، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمَّى ذَلِكَ جَوْرًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ» ، وَغَيْرُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ، وَالْجَوْرُ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَلَا يَطِيبُ أَكْلُهُ، وَيَتَعَيَّنُ رَدُّهُ، وَعَنْهُ: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَاخْتَارَهَا الْحَارِثِيُّ وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ: قَوْلُهُمْ لَوْ حَرُمَ لَفَسَدَ، وَالتَّحْرِيمُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي رِوَايَةٍ لَا فِي أُخْرَى، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي دَارِ غَصْبٍ، فَدَلَّ عَلَى الْخِلَافِ.
أَصْلٌ: لَا يُكْرَهُ لِلْحَيِّ قَسْمُ مَالِهِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، نَقَلَهُ الْأَكْثَرُ، وَعَنْهُ: بَلَى، وَنَقَلَ ابْنُ الْحَكَمِ: لَا يُعْجِبُنِي، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ وَارِثٌ سَوَّى نَدْبًا، قَدَّمَهُ جَمَاعَةٌ، وَقِيلَ: وُجُوبًا،

(5/201)


وَإِنْ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْوَقْفِ أَوْ وَقَفَ ثُلُثَهُ فِي مَرَضِهِ عَلَى بَعْضِهِمْ جَازَ، نَصَّ عَلَيْهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَالَ أَحْمَدُ: أَعْجَبُ إِلَيَّ يُسَوِّيَ، اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي " الْمُغْنِي ".
(وَإِنْ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْوَقْفِ) ذَكَرٌ كَأُنْثَى، جَازَ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَقَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ "؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْقُرْبَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَقَدِ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ، نَقَلَ ابْنُ الْحَكَمِ: لَا بَأْسَ، قِيلَ: فَإِنْ فَضَّلَ، قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي عَلَى وَجْهِ الْأَثَرَةِ إِلَّا لِعَيَّالٍ بِقَدْرِهِمْ أَوْ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ خَصَّ الْمَرْدُودَةَ مِنْ بَنَاتِهِ دُونَ الْمُسْتَغْنِيَةِ مِنْهُنَّ بِصَدَقَتِهِ، وَاخْتَارَ الْمُؤَلَّفُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ كَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ إِيصَالُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ، فَيَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ، وَذَكَرَ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي لَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ مُلْغًى بِالْعَطِيَّةِ وَالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَنْقُلُ الرَّقَبَةَ، أَوْ يَنْقُلُهَا عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْقُصُورِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ (أَوْ وَقَفَ ثُلُثَهُ فِي مَرَضِهِ) أَوْ وَصَّى بِوَقْفِهِ (عَلَى بَعْضِهِمْ - جَازَ، نَصَّ عَلَيْهِ) اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَالْأَكْثَرُ، وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ بِأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ أَمْرَ وَقْفِهِ إِلَى حَفْصَةَ تَأْكُلُ مِنْهُ وَتَشْتَرِي رَقِيقًا، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَالِ فَهُوَ كَعِتْقِ الْوَارِثِ وَكَالْوَقْفِ عَلَى الْأَجَانِبِ، وَعَلَّلَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ بِأَنَّ الْوَقْفَ غَيْرُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ يَنْتَفِعُونَ بِغَلَّتِهَا (وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ: لَا يَجُوزُ) ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا نَقْلَ فِيهَا عَنِ الْإِمَامِ، لَكِنْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَنْ وَصَّى لِأَوْلَادِ بِنْتِهِ بِأَرْضٍ تُوقَفُ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ يَرِثُوهُ فَجَائِزٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى وَارِثٍ فِي الْمَرَضِ، اخْتَارَهَا أَبُو حَفْصٍ وَابْنُ عَقِيلٍ، ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ، وَرَجَّحَهَا فِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ "؛ لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ، فَمَنَعَ مِنْهُ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِلْحَاقًا لَهُ بِالْهِبَةِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَيْهَا، وَكَوْنُهُ انْتِفَاعًا بِالْغَلَّةِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّخْصِيصِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ، وَحَمَلَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى الْوَرَثَةِ، فَعَنْهُ: كَهِبَةٍ، فَتَصِحُّ بِالْإِجَازَةِ، وَعَنْهُ: لَا إِنْ قِيلَ هِبَةٌ، وَعَنْهُ: يَلْزَمُ فِي ثُلُثِهِ، وَهِيَ أَشْهَرُ.
تَنْبِيهٌ: إِذَا وَقَفَ دَارَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ عَلَى ابْنِهِ وَبِنْتِهِ نِصْفَيْنِ جَازَ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَلَزِمَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ تَخْصِيصُ الْبِنْتِ بِهَا فَبِنِصْفِهَا أَوْلَى، وَعَلَى

(5/202)


وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ لَا يَجُوزُ

وَلَا يَجُوزُ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إِلَّا الْأَبُ إلا أن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الْمَنْصُورِ فِي " الْمُغْنِي " وَغَيْرِهِ إِنْ أَجَازَ الِابْنُ جَازَ، وَإِنَّ رَدَّهُ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيمَا زَادَ عَلَى نَصِيبِ الِابْنِ وَهُوَ السُّدْسُ، وَيَرْجِعُ إِلَى الِابْنِ مِلْكًا فَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا وَالسُّدْسُ مِلْكًا، وَالثُّلُثُ لِلْبِنْتِ جَمِيعُهُ وَقْفًا، وَقِيلَ: يَبْطُلُ الْوَقْفُ فِي نِصْفِ مَا وُقِفَ عَلَى الْبِنْتِ وَهُوَ الرُّبُعُ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا وَقْفًا، نِصْفُهَا لِلِابْنِ وَرُبُعُهَا لِلْبِنْتِ، وَالرُّبُعُ الَّذِي بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِلِابْنِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَقْفٌ وَسَهْمَانِ مِلْكٌ، وَلِلْبِنْتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَقْفٌ وَسَهْمٌ مِلْكٌ، وَلَوْ كَانَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا وَقُلْنَا: يَلْزَمُ فِي الثُّلُثِ فَرْدًا، فَثُلُثُهَا وَقْفٌ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَثُلُثَاهَا مِيرَاثًا، وَإِنْ رَدَّ ابْنَهُ فَلَهُ ثُلُثَا الثُّلُثَيْنِ إِرْثًا وَلِبِنْتِهِ ثُلُثُهَا وَقْفًا، وَإِنْ رَدَّتْ فَلَهَا ثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ إِرْثًا، وَلِابْنِهِ نِصْفُهَا وَقْفًا وَسُدُسُهَا إِرْثًا كَرَدِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
فَرْعٌ: لَا يَصِحُّ وَقْفٌ زَائِدٌ عَلَى الثُّلُثِ عَلَى أَجْنَبِيِّ، جَزَمَ بِهِ الْمُؤَلِّفُ وَجَمَاعَةٌ، وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ وَجْهَيْنِ، وَكَذَا عَلَى وَارِثٍ وَلَوْ حِيلَةً؛ كَوَقْفِ مَرِيضٍ وَنَحْوِهِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ.

[الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ]
(وَلَا يَجُوزُ) أَيْ لَا يَحِلُّ (لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ) اللَّازِمَةِ، كَذَا فِي " الرِّعَايَةِ " وَ " الْوَجِيزِ "؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيئُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ قَالَ قَتَادَةُ: وَلَا أَعْلَمُ الْقَيْءَ إِلَّا حَرَامًا، وَكَالْقِيمَةِ، وَظَاهِرُهُ وَإِنْ لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا، صَرَّحَ بِهِ فِي " الْمُحَرَّرِ "، وَكَذَا حُكْمُ الْهَدِيَّةِ (إِلَّا الْأَبُ) ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَمْدَانَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ؛ لِمَا رَوَى عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» ،

(5/203)


يعفون؛ وَعَنْهُ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَعَنْهُ: لَهُ الرُّجُوعُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ أَوْ رَغْبَةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِرُجُوعِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ أَوْ لَا، وَظَاهِرُهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ، وَفِي " الِاخْتِيَارَاتِ " مَنْعُ الْأَبِ الْكَافِرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا أَعْطَى وَلَدَهُ الْكَافِرَ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ إِسْلَامِ الْوَلَدِ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْأُمَّ لَا رُجُوعَ لَهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: لَيْسَتْ هِيَ عِنْدِي كَالرَّجُلِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِخِلَافِ الْأُمِّ؛ وَلِوِلَايَتِهِ وَحِيَازَتِهِ جَمِيعُ الْمَالِ، وَقِيلَ: بَلَى، وَهُوَ ظَاهِرُ الْخِرَقِيِّ، وَصَحَّحَهُ فِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ "؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ فِيمَا تَهَبُ زَوْجَهَا، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] الْآيَةَ، وَعَنْهُ: لَهَا الرُّجُوعُ مُطْلَقًا، نَقَلَهَا الْأَثْرَمُ، وَحَكَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنِ الْقُضَاةِ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي " الْمُحَرَّرِ " وَ " الْفُرُوعِ: " وَقَيَّدَاهُ بِمَسْأَلَتِهِ، وَسَيَأْتِي. (وَعَنْهُ: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ) كَالْجَدِّ لِعُمُومِ مَا سَبَقَ، وَفِيهِ وَجْهٌ ذَكَرَهُ ابْنُ رَزِينٍ، وَجَوَابُهُ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِبَشِيرٍ " فَأَرْجِعْهُ " وَفِي رِوَايَةٍ " فَارْدُدْهُ "، رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنِ النُّعْمَانِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الْجَوَازُ، (وَعَنْهُ: لَهُ الرُّجُوعُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ أَوْ رَغْبَةٌ) لِغَيْرِ الْوَلَدِ مِثْلُ أَنْ يَهَبَ ابْنَهُ شَيْئًا فَيَرْغَبُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَتِهِ فَيُدَايِنُوهُ، أَوْ فِي مُنَاكَحَتِهِ فَيُزَوِّجُوهُ، أَوْ يَهَبَ ابْنَتَهُ شَيْئًا فَتَتَزَوَّجُ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْوَلَدُ أَوْ يُفْلِسَ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ غَيْرِ الِابْنِ، فَفِي الرُّجُوعِ إِبْطَالُ حَقِّهِ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا إِضْرَارَ» ، وَالرُّجُوعُ ضَرَرٌ، وَفِيهِ تَحَيُّلٌ عَلَى إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، زَادَ فِي " الْفُرُوعِ " تَبَعًا لِـ " الرِّعَايَةِ " وَ " الْوَجِيزِ ": أَوْ مَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُتَّهَبِ مُؤَبَّدًا أَوْ مُؤَقَّتًا، كَالرَّهْنِ وَنَحْوِهِ فَلَا رُجُوعَ.
فَرْعٌ: إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ الرُّجُوعِ فَاحْتِمَالَانِ فِي " الِانْتِصَارِ "، وَإِنْ عَلَّقَ الرُّجُوعَ بِشَرْطٍ لَمْ يَصِحَّ.
تَنْبِيهٌ: يَحْصُلُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، عَلِمَ الْوَلَدُ أَوْ لَا، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ فِي الْأَصَحِّ، فَإِنْ أَخَذَ مَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، وَنَوَى بِهِ الرُّجُوعَ - كَانَ رُجُوعًا، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّتِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ نَوَى الرُّجُوعَ وَلَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ لَمْ

(5/204)


مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْوَلَدُ أَوْ يُفْلِسَ، وَإِنْ نَقَصَتِ الْعَيْنُ أَوْ زَادَتْ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً لَمْ تَمْنَعِ الرُّجُوعُ، وَالزِّيَادَةُ لِلِابْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لِلْأَبِ، وَهَلْ تُمْنَعُ الْمُتَّصِلَةُ الرُّجُوعَ؟ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
يُحْكَمْ بِأَنَّهُ رُجُوعٌ، وَإِنْ حَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى الرُّجُوعِ فَوَجْهَانِ، وَفِي " الْمُغْنِي " يَنْبَنِي هَذَا عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْإِيجَابَ فِي الْقَبُولِ فَلَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَإِلَّا فَهُوَ رُجُوعٌ، فَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ لَمْ يَحْصُلِ الرُّجُوعُ وَجْهًا وَاحِدًا.
(وَإِنْ نَقَصَتِ الْعَيْنُ) أَوْ تَلِفَ بَعْضُهَا لَمْ يُمْنَعِ الرُّجُوعُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَلَدِ فِيمَا تَلِفَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ عَلَى مِلْكِهِ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِفِعْلِهِ أَوْ لَا، وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ، فَهُوَ كَنُقْصَانِهِ بِذَهَابِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ، فَإِنْ رَجَعَ الْأَبُ فِيهِ ضَمِنَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْعَبْدِ فَرَجَعَ الْأَبُ فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِلِابْنِ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، (أَوْ زَادَتْ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً) كَالْوَلَدِ، وَالثَّمَرَةِ، وَكَسْبِ الْعَبْدِ (لَمْ تَمْنَعِ الرُّجُوعَ) بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، قَالَهُ فِي " الشَّرْحِ "؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْأَصْلِ دُونَ النَّمَاءِ مُمْكِنٌ، وَفِيهِ فِي " الْمُوجَزِ " رِوَايَةٌ، (وَالزِّيَادَةُ لِلِابْنِ) ؛ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ فِي مِلْكِهِ، وَلَا يَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ، وَكَذَا هُنَا، وَكَوَلَدِ الْأَمَةِ مِنْهُ (وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لِلْأَبِ) ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ؛ وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَوْهُوبِ، فَمَلَكَهَا الْأَبُ كَالْمُتَّصِلَةِ، لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ وَلَدَ أَمَةٍ لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا مُنِعَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: الْمُنْفَصِلَةُ لِلْأَبِ، فَيَرْجِعُ فِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يَرْجِعُ فِي الْأُمِّ وَيَتَمَلَّكُ الْوَلَدُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، قَالَهُ فِي " الشَّرْحِ "، وَفِيهِ شَيْءٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي حُدُوثِ زِيَادَةٍ فَفِي أَيِّهِمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ وَجْهَانِ، (وَهَلْ تَمْنَعُ) الزِّيَادَةُ (الْمُتَّصِلَةُ) كَالسَّمْنِ فِي الْعَيْنِ، وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ فِي الْمَعَانِي (الرُّجُوعَ) إِذَا زَادَتْ بِهَا الْقِيمَةُ، قَالَهُ فِي " الشَّرْحِ " (عَلَى رِوَايَتَيْنِ) ، كَذَا فِي " الْكَافِي " وَ " الْمُحَرَّرِ " إِحْدَاهُمَا: لَا تَمْنَعُ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَوْهُوبِ، فَلَمْ يُمْنَعِ الرُّجُوعَ، كَالزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ أَشْهَرُ، وَرَجَّحَهَا فِي

(5/205)


رِوَايَتَيْنِ، وَإِنْ بَاعَهُ الْمُتَّهَبُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ، وَإِنْ وَهَبَهُ الْمُتَّهَبُ لِابْنِهِ لَمْ يَمْلِكْ أَبُوهُ الرُّجُوعَ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ هُوَ، وَإِنْ كَاتَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ لَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ إِلَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
" الشَّرْحِ " يُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ لِكَوْنِهَا نَمَاءَ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ، فَلَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي الْأَصْلِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ وَضَرَرِ التَّشْقِيصِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِرْجَاعٌ لِلْمَالِ بِفَسْخِ عَقْدٍ لِغَيْرِ عَيْبٍ فِي عِوَضِهِ، فَمَنْعُهُ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ كَاسْتِرْجَاعِ الصَّدَاقِ بِفَسْخِ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّدَّ مِنَ الْمُشْتَرِي وَقَدْ رَضِيَ بِبَذْلِ الزِّيَادَةِ، وَعَلَى الْمَنْعِ فَلِلْأَبِ أَخْذُهَا بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ بِشَرْطِهِ، وَقَصْرُ الْعَيْنِ وَتَفْصِيلُهَا زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ يَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ.
فَرْعٌ: إِذَا وَهَبَ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ فَوَلَدَتْ فِي يَدِهِ فَهِبَةٌ مُتَّصِلَةٌ، وَقِيلَ: مُنْفَصِلَةٌ، إِنْ قُلْنَا: لَا حُكْمَ لِلْحَمْلِ، وَإِنْ رَجَعَ فِيهَا حَامِلًا جَازَ وَإِنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهَا فَمُتَّصِلَةٌ، وَلَوْ وَهَبَهُ نَخْلَةً فَحَمَلَتْ فَهِيَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ وَبَعْدَهُ مُنْفَصِلَةٌ، (وَإِنْ بَاعَهُ الْمُتَّهَبُ) أَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَمْلِكِ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ، قَوْلًا وَاحِدًا، (ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ) أَوْ فَلَسِ الْمُشْتَرِي (فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ) ، كَذَا أَطْلَقَهُمَا فِي " الْمُحَرَّرِ " وَ " الْفُرُوعِ " وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْفَسْخِ فَقَطْ، وَهُوَ مُغْنٍ، أَحَدُهُمَا - وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ ": لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ مَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ عَادَةً، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِالْهِبَةِ، أَمَّا لَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوِ الشَّرْطِ فَلَهُ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُزِيلَ ارْتَفَعَ، وَعَادَ الْمِلْكُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ، أَشْبَهَ فَسْخَ الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ (وَإِنْ رَجَعَ إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ وُهِبَهُ، لَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ) ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ لَمْ يَسْتَفِدْهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ فَسْخَهُ وَإِزَالَتَهُ، كَالَّذِي لَمْ يَكُنْ مَوْهُوبًا.
(وَإِنْ وَهَبَهُ الْمُتَّهَبُ لِابْنِهِ لَمْ يَمْلِكْ أَبُوهُ الرُّجُوعَ) ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ لِغَيْرِ ابْنِهِ، وَلِأَنَّ فِي رُجُوعِهِ إِبْطَالًا لِمِلْكِ غَيْرِ ابْنِهِ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعِ ابْنُهُ (إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ هُوَ) ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الرُّجُوعِ زَوَالُ مِلْكِ الِابْنِ وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُ ابْنُ الِابْنِ لِأَبِيهِ (وَإِنْ كَاتَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ لَمْ يَمْلِكِ الرُّجُوعَ) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهَنِ وَالْمُكَاتَبِ تَعَلَّقَ بِهِ، وَالرُّجُوعُ يُبْطِلُهُ، فَلَمْ يَجُزْ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى بَيْعَ الْمُكَاتَبِ، وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ، فَأَمَّا مَنْ أَجَازَ بَيْعَهُ

(5/206)


أَنْ يَنْفَكَّ الرَّهْنُ أَوْ تَنْفَسِخَ الْكِتَابَةُ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَرْأَةِ تَهَبُ زَوْجَهَا مَهْرَهَا إِنْ كَانَ سَأَلَهَا ذَلِكَ، رَدَّهُ إِلَيْهَا رَضِيَتْ أَوْ كَرِهَتْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَهَبُ لَهُ إِلَّا مَخَافَةَ غَضَبِهِ أَوْ إِضْرَارًا بِهَا بِأَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا.

فَصْلٌ وَلِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ وَيَتَمَلَّكُهُ مَعَ حَاجَتِهِ وَعَدَمِهَا فِي صِغَرِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
فَحُكْمُهُ عِنْدَهُ كَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ (إِلَّا أَنْ يَنْفَكَّ الرَّهْنُ أَوْ تَنْفَسِخَ الْكِتَابَةُ) لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَالتَّزْوِيجُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ كَذَلِكَ، وَإِذَا رَجَعَ وَكَانَ التَّصَرُّفُ لَازِمًا كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ فَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا كَالْوَصِيَّةِ بَطَلَ، وَالصَّحِيحُ فِي التَّدْبِيرِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.
فَرْعٌ: إِذَا قَالَ أَبُوهُ: وَهَبْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ وَهُوَ سَمِينٌ أَوْ كَبِيرٌ فَلِيَ الرُّجُوعُ، فَقَالَ ابْنُهُ: وَهُوَ مَهْزُولٌ فَسَمِنَ أَوْ صَغِيرٌ فَكَبِرَ فَلَا رُجُوعَ لَكَ - فَوَجْهَانِ، فَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ هَذَا الذَّهَبَ مَصُوغًا، فَقَالَ ابْنُهُ: أَنَا صُغْتُهُ صَدَقَ الْوَاهِبُ (وَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَرْأَةِ تَهَبُ زَوْجَهَا مَهْرَهَا إِنْ كَانَ سَأَلَهَا ذَلِكَ: رَدَّهُ إِلَيْهَا، رَضِيَتْ أَوْ كَرِهَتْ) . نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ، فَقَالَ: (لِأَنَّهَا لَا تَهَبُ لَهُ إِلَّا مَخَافَةَ غَضَبِهِ، أَوْ إِضْرَارًا بِهَا بِأَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا) ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَطِبْ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَبَاحَهُ عِنْدَ طِيبِ نَفْسِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وَظَاهِرُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَأَلَهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ إِنْ وَهَبَتْهُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ فَلَمْ يَنْدَفِعْ، أَوْ عِوَضٍ أَوْ شَرْطٍ فَلَمْ يَحْصُلْ، وَعَنْهُ: يَرُدُّ عَلَيْهَا الصَّدَاقَ مُطْلَقًا، وَلَوْ قَالَ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ تُبْرِئْنِي فَأَبْرَأَتْهُ صَحَّ، وَهَلْ تَرْجِعُ؟ ثَالِثُهَا: تَرْجِعُ إِنْ طَلَّقَهَا، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُ.

[فَصْلٌ وَلِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ]
ِ) ، قَالَ فِي " الْمُسْتَوْعِبِ " لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَالَ الْوَلَدِ مِلْكٌ لَهُ دُونَ أَبِيهِ (مَا شَاءَ) مِنْ مَالِهِ (وَيَتَمَلَّكُهُ) ؛ لِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ، بِدَلِيلِ الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ وَلَدِهِ رِبًا، وَقَالَ: لَا يَمْنَعُ الِابْنُ الْأَبَ مَا أَرَادَ مِنْ مَالِهِ، فَهُوَ لَهُ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ سُرِّيَّتُهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ أُمَّ وَلَدٍ (مَعَ حَاجَتِهِ) - أَيِ الْوَالِدِ - (وَعَدِمِهَا فِي صِغَرِهِ) - أَيِ الْوَلَدِ - (وَكِبَرِهِ) ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ

(5/207)


وَكِبَرِهِ إِذَا لَمْ تَتَعَلَّقْ حَاجَةُ الِابْنِ بِهِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَحَسَّنَهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ " عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ أَبِي احْتَاجَ مَالِي، فَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ؛ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ مَوْهُوبٌ لِأَبِيهِ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ، وَمَا كَانَ مَوْهُوبًا لَهُ كَانَ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ كَعَبْدِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] الْآيَةَ ذَكَرَ الْأَقَارِبَ دُونَ الْأَوْلَادِ لِدُخُولِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] لِأَنَّ بُيُوتَ أَوْلَادِهِمْ كَبُيُوتِهِمْ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ يَلِي مَالَ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ، فَكَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ كَمَالِ نَفْسِهِ، وَشَرْطُهُ (إِذَا لَمْ تَتَعَلَّقْ حَاجَةُ الِابْنِ بِهِ) وَمَا لَا يَضُرُّهُ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَجَزَمَ بِهَا فِي " الْوَجِيزِ "؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى دَيْنِهِ، فَلِأَنْ تُقَدَّمَ عَلَى أَبِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَشَرَطَ فِي " الْكَافِي " وَ " الشَّرْحِ " وَ " الْوَجِيزِ " مَا لَمْ يُعْطِهِ وَلَدًا آخَرَ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَفْضِيلَ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَمَعَ تَخْصِيصِ الْآخَرِ بِالْأَخْذِ مِنْهُ أَوْلَى.
وَعَنْهُ: لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَا لَا يُجْحِفُ بِهِ، جَزَمَ بِهِ فِي " الْكَافِي " وَذَكَرَ فِي " الشَّرْحِ " أَنْ لَا يُجْحِفَ بِالِابْنِ وَلَا يَضُرَّ بِهِ، وَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ، وَعَنْهُ: لَهُ كَتَمَلُّكِهِ كُلِّهِ، وَيُرْوَى أَنَّ مَسْرُوقًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِصَدَاقِ عَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَخَذَهَا فَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ لِلزَّوْجِ: جَهِّزِ امْرَأَتَكَ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَقِيلٍ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْوَلَدِ تَامٌّ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ كَالَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَتُهُ، وَجَوَابُهُ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا سَبَقَ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَظَاهِرُهُ لَا فَرْقَ فِي الْوَلَدِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَأَنَّ الْجَدَّ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ مِنْ وِلَايَتِهِ وَإِجْبَارِهِ أَنَّهُ كَالْأَبِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا لَمْ يُخَالِفِ الْإِجْمَاعَ كَالْعُمَرِيَّتَيْنِ، وَفِي الْأُمِّ قَوْلٌ (وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ إِبْرَاءٍ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ) عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ

(5/208)


إِبْرَاءٍ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ.

وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَحْبَلَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ لَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَلَا مَهْرَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَفِي التَّعْزِيرِ وَجْهَانِ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
مِلْكَ الْوَلَدِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ تَامٌّ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ لِلْغَيْرِ أَوْ مُشْتَرَكًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَيُقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِ لِأَجْلِ الْأَذَى سِيَّمَا بِالْحَبْسِ، وَعَنْهُ: لَهُ أَنْ يُبْرِئَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، وَيَتَسَرَّى مِنْهُ، وَمَا فَعَلَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِمَا لَا حَظَّ فِيهِ خُصُوصًا مَعَ صِغَرِ الْوَلَدِ، إِذْ لَيْسَ مِنَ الْحَظِّ إِسْقَاطُ دَيْنِهِ، وَعِتْقُ عَبْدِهِ، وَهِبَةُ مَالِهِ.
تَنْبِيهٌ: يَحْصُلُ التَّمَلُّكُ بِقَبْضِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ، مَعَ قَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَوَجَّهُ: أَوْ قَرِينَةٍ. وَفِي " الْمُبْهِجِ " فِي تَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ رِوَايَتَانِ بِنَاءً عَلَى حُصُولِ مِلْكِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَيَصِحُّ بَعْدَهُ، وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَهُ مَعَ غِنَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْبَى عَلَيْهِ، نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَجَبَرْتُهُ عَلَى دَفْعِهِ إِلَيْهِ عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - 32 «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» .

[وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ قَبْلَ تَمَلُّكِهَا]
(وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ) أَيْ قَبْلَ تَمَلُّكِهَا، فَقَدْ وَطِئَهَا وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ، وَهُوَ حَرَامٌ، (فَأَحْبَلَهَا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) ؛ لِأَنَّ إِحْبَالَ الْأَبِ لَهَا يُوجِبُ نَقْلَ الْمِلْكِ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْوَطْءُ مُصَادِفًا لِلْمِلْكِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهَا أُمَّ وَلَدٍ ضَرُورَةَ مُصَادَفَةِ الْوَطْءِ الْمِلْكَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَحْبَلْ مِنْهُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَلَدِ (وَوَلَدُهُ حُرٌّ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ (لَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَلَا مَهْرَ) وَلَا قِيمَتُهَا؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْأَبِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِلشُّبْهَةِ. (وَفِي التَّعْزِيرِ وَجْهَانِ) : أَشْهَرُهُمَا التَّعْزِيرُ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ وَطْأً مُحَرَّمًا كَوَطْءِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَالثَّانِي لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ، فَلَا يُعَزَّرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّعْزِيرَ هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: فَيُضْرَبُ مِائَةً إِلَّا سَوْطًا.
فَرْعٌ: إِذَا تَمَلَّكَهَا فَلَيْسَ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، فَإِنْ كَانَ الِابْنُ وَطِئَهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِحَالٍ، فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ وَطْءِ الِابْنِ فَرِوَايَتَانِ كَوَطْءِ ذَاتِ مَحْرَمٍ بِمِلْكِ يَمِينٍ، وَلَا يَنْتَقِلُ

(5/209)


مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنٍ، وَلَا قِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَلَا أَرْشِ جِنَايَةٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ

وَالْهَدِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ نَوْعَانِ مِنَ الْهِبَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الْمِلْكُ فِيهَا إِنْ كَانَ الِابْنُ اسْتَوْلَدَهَا، فَإِنْ وَطِئَهَا الْأَبُ وَالِابْنُ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ، وَيُحَدُّ الِابْنُ لِوَطْئِهِ جَارِيَةَ أَبِيهِ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ، وَيَكُونُ مِلْكًا لِأَبِيهِ، وَقَدْ أَوْجَبَ أَحْمَدُ أَنْ يُعْتِقَهُ الْأَبُ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنِ ابْنِهِ (وَلَيْسَ لِلِابْنِ مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنٍ، وَلَا قِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَلَا أَرْشِ جِنَايَةٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ) ، قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِيهِ يَقْتَضِيهِ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ، رَوَاهُ الْخَلَّالُ، وَلِأَنَّ الْمَالَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْحُقُوقِ، فَلَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَةَ أَبِيهِ بِهِ كَحُقُوقِ الْأَبْدَانِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ بِنَفَقَتِهِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهَا، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ " وَغَيْرِهِ، وَعَيَّنَ بِمَالٍ لَهُ فِي يَدِهِ.
قَالَهُ فِي " الرِّعَايَةِ "، وَقِيلَ: لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَغِنَى وَالِدِهِ عَنْهُ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مُطْلَقًا، فَعَلَى هَذَا فَفِي مِلْكِهِ إِبْرَاءَ نَفْسِهِ نَظَرٌ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَذَكَرَ غَيْرُهُ: لَا يَمْلِكُهُ كَإِبْرَائِهِ لِغَرِيمِهِ، وَلَا طَلَبَ لَهُ فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ، فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ فَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ الْأَبِ فِي الْأَشْهَرِ كَمُوَرِّثِهِمْ، وَإِنْ مَاتَ الْأَبُ بَطَلَ دَيْنُ الِابْنِ، قَالَهُ أَحْمَدُ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ فِي تَرِكَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْأَبِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ.
مَسْأَلَةٌ: إِذَا مَاتَ فَوَجَدَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِعَيْنِهِ - قَالَ فِي " الْمُبْهِجِ ": أَوْ بَعْضَهُ - وَلَمْ يَنْقُدْ ثَمَنَهُ، أَوْ وَجَدَ مَا أَقْرَضَهُ، فَهَلْ يَأْخُذُهُ أَوْ يَكُونُ إِرْثًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَمَا قَضَاهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ وَصَّى بِقَضَائِهِ فَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَأَنْكَرَ رَجَعَ عَلَى غَرِيمِهِ وَهُوَ عَلَى الْأَبِ، نَقَلَهُ مُهَنَّا، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِنْ أَقَرَّ الِابْنُ.

[الْهَدِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ نَوْعَانِ مِنَ الْهِبَةِ]
(وَالْهَدِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ نَوْعَانِ مِنَ الْهِبَةِ) أَيْ هُمَا نَوْعَا الْجِنْسِ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ مَعَ الْحَيَوَانِ، وَحَاصِلُهُ إِنْ قَصَدَ بِإِعْطَائِهِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ فَصَدَقَةٌ، وَإِنْ قَصَدَ إِكْرَامًا وَتَوَدُّدًا وَنَحْوَهُ فَهَدِيَّةٌ وَإِلَّا فَهِبَةٌ وَعَطِيَّةٌ وَنِحْلَةٌ، وَهُمَا كَهِبَةٍ فِيمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ وَحَنْبَلٌ: لَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ، وَفِي " عُيُونِ الْمَسَائِلِ " وَ " الْمُسْتَوْعِبِ " لَا يُعْتَبَرُ فِي الْهَدِيَّةِ قَبُولٌ لِلْعُرْفِ، وَمَنْ أَهْدَى إِلَيْهِ لِيُهْدَى لَهُ أَكْثَرُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نَقَلَهُ أَحْمَدُ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ فِيمَنْ سَأَلَ الْحَاجَةَ فَسَعَا مَعَهُ فِيهَا فَيُهْدَى إِلَيْهِ إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا أَنْ يُكَافِئَهُ، وَنَقَلَ يَعْقُوبُ: لَا يَنْبَغِي لِلْخَاطِبِ إِذَا خَطَبَ لِقَوْمٍ أَنْ

(5/210)


فَصْلٌ
فِي عَطِيَّةِ الْمَرِيضِ أَمَّا الْمَرِيضُ غَيْرَ مَرَضِ الْمَوْتِ، أَوْ مَرَضًا غَيْرَ مَخُوفٍ كَالرَّمَدِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
يَقْبَلَ لَهُمْ هَدِيَّةً، فَهَاتَانِ رِوَايَتَانِ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ التَّحْرِيمَ، وَنَقَلَهُ عَنِ السَّلَفِ، وَرَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ.
فَرْعٌ: وِعَاءُ هَدِيَّةٍ كَهِيَ مَعَ عُرْفٍ.

[فَصْلٌ فِي عَطِيَّةِ الْمَرِيضِ]
فَصْلٌ
فِي عَطِيَّةِ الْمَرِيضِ (أَمَّا الْمَرِيضُ غَيْرَ مَرَضِ الْمَوْتِ، أَوْ مَرَضًا غَيْرَ مَخُوفٍ كَالرَّمَدِ) ، وَهُوَ وَرَمٌ حَارٌّ فِي الْمُلْتَحِمِ عَنْ مَادَّةٍ فِي الْعَيْنِ، وَيُعْرَفُ بِتَقَدُّمِ الصُّدَاعِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْحِجَابِ الدَّاخِلِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْخَارِجِ (وَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَالصُّدَاعِ) الْيَسِيرِ وَهُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ (وَنَحْوِهِ) كَحُمَّى يَوْمٍ. قَالَهُ فِي " الرِّعَايَةِ "، وَقِيلَ: سَاعَةٍ، قَالَهُ فِي " الشَّرْحِ "، وَإِسْهَالٍ يَسِيرٍ مِنْ غَيْرِ دَمٍ (فَعَطَايَاهُ كَعَطَايَا الصَّحِيحِ سَوَاءٌ) ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ لِكَوْنِهِ لَا يُخَافُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ (يَصِحُّ فِي جَمِيعِ مَالِهِ) وَلَوِ اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ؛ لِلْأَدِلَّةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مَرِيضًا فَبَرَأَ (وَإِنْ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ) الْقَاطِعَ بِصَاحِبِهِ (الْمَخُوفَ) - أَيْ مَرَضًا مَخُوفًا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ (كَالْبِرْسَامِ) ، وَهُوَ بُخَارٌ يَرْتَقِي إِلَى الرَّأْسِ وَيُؤَثِّرُ فِي الدِّمَاغِ فَيُحِيلُ عَقْلَ صَاحِبِهِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ وَرَمٌ فِي الدِّمَاغِ يَتَغَيَّرُ مِنْهُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ وَيَهْذِي، وَيُقَالُ فِيهِ: سِرْسَامٌ، (وَذَاتِ الْجَنْبِ) ، وَهُوَ قَرْحٌ بِبَاطِنِ الْجَنْبِ، وَوَجَعُ الْقَلْبِ وَالرِّئَةِ، وَلَا تَسْكُنُ حَرَكَتُهَا، وَقِيلَ: هُوَ دُمَّلٌ كَبِيرَةٌ تَخْرُجُ بِبَاطِنِ الْجَنْبِ وَتُفْتَحُ إِلَى دَاخِلٍ (وَالرُّعَافِ الدَّائِمِ) ، فَإِنَّهُ يُصَفِّي الدَّمَ فَيُذْهِبُ الْقُوَّةَ (وَالْقِيَامِ الْمُتَدَارِكِ) ، هُوَ الْمَبْطُونُ الَّذِي أَصَابَهُ الْإِسْهَالُ وَلَا يُمْكِنُهُ إِمْسَاكُهُ، فَإِنْ كَانَ يَجْرِي تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَضْلَةِ الطَّعَامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ زَحِيرٌ وَتَقْطِيعٌ، فَيَكُونُ مَخُوفًا؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الْبَدَنَ، (وَالْفَالِجِ فِي ابْتِدَائِهِ) ، وَهُوَ دَاءٌ مَعْرُوفٌ يُرْخِي بَعْضَ الْبَدَنِ، قَالَ ابْنُ

(5/211)


وَالصُّدَاعِ وَنَحْوِهِ، فَعَطَايَاهُ كَعَطَايَا الصَّحِيحِ سَوَاءٌ، يَصِحُّ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفَ؛ كَالْبِرْسَامِ، وَذَاتِ الْجَنْبِ وَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، وَالْقِيَامِ الْمُتَدَارَكِ، وَالْفَالِجِ فِي ابْتِدَائِهِ، وَالسِّلِّ فِي انْتِهَائِهِ، وَمَا قَالَ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّهُ مَخُوفٌ فَعَطَايَاهُ كَالْوَصِيَّةِ فِي أَنَّهَا لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ وَلَا لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْمُحَابَاةِ، فَأَمَّا الْأَمْرَاضُ الْمُمْتَدَّةُ كَالسِّلِّ، وَالْجُذَامِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الْقَطَّاعِ: فَلَجَ فَالِجًا بَطَلَ نِصْفُهُ أَوْ عُضْوٌ مِنْهُ، (وَالسِّلُّ فِي انْتِهَائِهِ) ، هُوَ - بِكَسْرِ السِّينِ - دَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ سَلَّ وَأَسَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مَسْلُولٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَمِثْلُهُ الْقُولَنْجُ، وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ الطَّعَامُ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يَنْزِلَ عَنْهُ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَخُوفَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا حُمَّى، وَهِيَ مَعَ الْحُمَّى أَشَدُّ خَوْفًا، وَإِنْ بَادَرَهُ الدَّمُ وَاجْتَمَعَ فِي عُضْوٍ كَانَ مَخُوفًا؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَرَارَةِ الْمُفْرِطَةِ، وَإِنْ هَاجَتْ بِهِ الصَّفْرَاءُ فَهِيَ مَخُوفَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُورِثُ يُبُوسَةً، وَكَذَلِكَ الْبَلْغَمُ إِذَا هَاجَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ الْبُرُودَةِ، وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى الْحَرَارَةِ الْغَزِيرَةِ فَيُطْفِئُهَا، ذَكَرَهُ فِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ " (وَمَا قَالَ عَدْلَانِ) - أَيْ مُسْلِمَانِ - (مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ) أَيْ عِنْدِ الشَّكِّ فِيهِ (أَنَّهُ مَخُوفٌ) فَيُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، كَذَا جَزَمَ بِهِ الْأَصْحَابُ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَارِثِ وَالْعَطَايَا، وَقِيلَ: يُقْبَلُ لِعَدَمٍ، وَذَكَرَ ابْنُ رَزِينٍ الْمَخُوفَ عُرْفًا، أَوْ يَقُولُ عَدْلَيْنِ (فَعَطَايَاهُ) صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ أَوْصَى حِينَ جُرِحَ وَسُقِيَ لَبَنًا وَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى نُفُوذِ عَهْدِهِ (كَالْوَصِيَّةِ فِي أَنَّهَا لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ وَلَا لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَالْهِبَةِ) الْمَقْبُوضَةِ (وَالْعِتْقِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالْمُحَابَاةِ) ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، فَمَفْهُومُهُ لَيْسَ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ الثُّلُثِ، يُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَاسْتَدْعَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَإِذَا لَمْ يُنَفَّذِ الْعِتْقُ مَعَ سَرَايَتِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَ

(5/212)


وَالْفَالِجِ فِي دَوَامِهِ، فَإِنْ صَارَ صَاحِبُهَا صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهِيَ مَخُوفَةٌ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ عَطِيَّتَهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، أَوْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ، أَوْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدِهِ، أَوْ قَدِمَ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الظَّاهِرُ مِنْهَا الْمَوْتُ فَكَانَتْ عَطِيَّتُهُ فِيهَا فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ لَا تَتَجَاوَزُ الثُّلُثَ كَالْوَصِيَّةِ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْعَطَايَا إِذَا وُجِدَتْ فِي الصِّحَّةِ فَهِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.
تَنْبِيهٌ: حُكْمُ الْعَطِيَّةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا:
أَنَّهُ يَقِفُ نُفُوذُهَا عَلَى خُرُوجِهَا مِنَ الثُّلُثِ أَوْ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ فَضِيلَتَهَا نَاقِصَةٌ عَنْ فَضِيلَةِ الصَّدَقَةِ فِي الصِّحَّةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُزَاحِمُ فِي الثُّلُثِ إِذَا وَقَعَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَتَزَاحُمِ الْوَصَايَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ خُرُوجَهَا مِنَ الثُّلُثِ يُعْتَبَرُ حَالَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
(فَأَمَّا الْأَمْرَاضُ الْمُمْتَدَّةُ كَالسِّلِّ، وَالْجُذَامِ، وَالْفَالِجِ فِي دَوَامِهِ) ، وَحُمَّى الرِّبْعِ (فَإِنْ صَارَ صَاحِبُهَا صَاحِبَ فِرَاشٍ) ، أَيْ لَزِمَ الْفِرَاشَ (فَهِيَ مَخُوفَةٌ) أَيْ عَطِيَّتُهُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مَرِيضٌ صَاحِبُ فِرَاشٍ يُخْشَى مِنْهُ التَّلَفُ، أَشْبَهَ الْحُمَّى الْمُطْبِقَةَ (وَإِلَّا فَلَا) ، أَيْ إِنْ لَمْ يَصِرْ صَاحِبُهَا صَاحِبَ فِرَاشٍ فَلَيْسَتْ مَخُوفَةً، وَعَطِيَّتُهُ حِينَئِذٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
قَالَ الْقَاضِي: إِذَا كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَعَطَايَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، هَذَا تَحْقِيقُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ تَعْجِيلُ الْمَوْتِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ فَهُوَ كَالْهَرِمِ (وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ عَطِيَّتَهُ مِنَ الثُّلُثِ) مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهَا مَخُوفَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَوَجَبَ إِلْحَاقُهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ نَقَلَ حَرْبٌ فِي وَصِيَّةِ الْمَجْذُومِ وَالْمَفْلُوجِ مِنَ الثُّلُثِ، فَالْمَجْدُ أَثْبَتَهَا وَجَعَلَهَا ثَابِتَةً، وَصَاحِبُ " الشَّرْحِ " حَمَلَهَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ وَجْهًا آخَرَ: أَنَّ عَطَايَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمُنَجَّا: إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّنَاقُضُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، فَغَايَتُهُ أَنَّهُ حَكَى وَجْهَيْنِ (وَمَنْ كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ) بِأَنِ اخْتَلَطَتِ الطَّائِفَتَانِ لِلْقِتَالِ، وَكَانَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُكَافِئَةً لِلْأُخْرَى أَوْ مَقْهُورَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمَا مُتَّفِقَيْنِ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ تَوَقُّعَ التَّلَفِ هُنَا كَتَوَقُّعِ الْمَرِيضِ أَوْ أَكْثَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ، فَأَمَّا الْقَاهِرَةُ بَعْدَ ظُهُورِهَا فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ. (أَوْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ)

(5/213)


وَالْحَامِلُ عِنْدَ الْمَخَاضِ - فَهُوَ كَالْمَرِيضِ. وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ إِذَا صَارَ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَطَايَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ، وَإِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
أَيْ إِذَا اضْطَرَبَ وَهَبَّتِ الرِّيحُ الْعَاصِفُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] الْآيَةَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا رَكِبَهُ وَهُوَ سَاكِنٌ فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ (أَوْ وَقَعَ الطَّاعُونُ) قَالَ أَبُو السَّعَادَاتِ: هُوَ الْمَرَضُ الْعَامُّ وَالْوَبَاءُ الَّذِي يَفْسُدُ لَهُ الْهَوَاءُ، فَتَفْسُدُ بِهِ الْأَمْزِجَةُ وَالْأَبْدَانُ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْمَغَابِنِ وَغَيْرِهَا لَا يَلْبَثُ صَاحِبُهَا وَيُغَمُّ إِذَا ظَهَرَتْ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَمَّا الطَّاعُونُ فَوَبَاءٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ بَثْرٌ وَوَرَمٌ مُؤْلِمٌ جِدًّا يَخْرُجُ مَعَ لَهَبٍ وَيَسْوَدُّ مَا حَوْلَهُ وَيَخْضَرُّ وَيَحْمَرُّ حُمْرَةً بَنَفْسَجِيَّةً، وَيَحْصُلُ مَعَهُ خَفَقَانٌ لِلْقَلْبِ (بِبَلْدَهِ) ؛ لِأَنَّهُ مَخُوفٌ إِذَا كَانَ فِيهِ، (أَوْ قَدِمَ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حُكِمَ لِلْمَرِيضِ وَحَاضِرِ الْحَرْبِ بِالْخَوْفِ مَعَ ظُهُورِ السَّلَامِ، فَمَعَ ظُهُورِ التَّلَفِ وَقُرْبِهِ أَوْلَى، وَلَا عِبْرَةَ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ، وَلَوْ عَبَّرَ بِالْقَتْلِ كَغَيْرِهِ لَعَمَّ، سَوَاءٌ كَانَ قِصَاصًا أَوْ غَيْرَهُ كَالرَّجْمِ، وَكَذَا إِذَا حُبِسَ لِلْقَتْلِ، ذَكَرَهُ فِي " الْكَافِي " وَ " الْفُرُوعِ "، وَأَسِيرٌ عِنْدَ مَنْ عَادَتُهُمُ الْقَتْلُ.
مَسْأَلَةٌ: إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ يَتَحَقَّقُ تَعْجِيلَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدِ اخْتَلَّ كَمَنْ ذُبِحَ أَوْ أُبِينَتْ حِشْوَتُهُ فَلَا حُكْمَ لِعَطِيَّتِهِ وَلَا كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتَ الْعَقْلِ كَمَنْ خُرِقَتْ حِشْوَتُهُ أَوِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عقله صَحَّ تَصَرُّفُهُ، وَذَكَرَ فِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ ": وَكَمَنَ جُرِحَ جُرْحًا مُوحِيًا مَعَ ثَبَاتِ عَقْلِهِ، وَفِي " التَّرْغِيبِ ": مَنْ قُطِعَ بِمَوْتِهِ كَقَطْعِ حِشْوَتِهِ، وَغَرِيقٍ، وَمُعَايَنٍ كَمَيِّتٍ (وَالْحَامِلُ عِنْدَ الْمَخَاضِ) أَيْ عِنْدِ الطَّلْقِ، كَذَا ذَكَرَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ، (فَهُوَ كَالْمَرِيضِ) مَرَضًا مَخُوفًا؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهَا أَلَمٌ شَدِيدٌ يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ (وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ إِذَا صَارَ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ) ، هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَيْ عَطِيَّتُهَا مِنَ الثُّلُثِ كَمَرِيضٍ حَتَّى تَنْجُوَ مِنْ نِفَاسِهَا؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ تُمْكِنُ الْوِلَادَةُ فِيهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ، وَالْأَشْهَرُ مَعَ أَلَمٍ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا ثَقُلَتْ لَا يَجُوزُ لَهَا إِلَّا الثُّلُثَ، وَلَمْ يَحِدَّ حَدًّا، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ (وَقِيلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَطَايَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ) ،

(5/214)


عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ التَّبَرُّعَاتِ الْمُنْجَزَةِ بُدِئَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ مِنْهَا، وَإِنْ تَسَاوَتْ قُسِمَ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِالْحِصَصِ، وَعَنْهُ: يُقَدَّمُ الْعِتْقُ، وَأَمَّا مُعَاوَضَةُ الْمَرِيضِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَرَضَ بِهِمْ، فَهُمْ كَالصَّحِيحِ.
تَنْبِيهٌ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ فَإِنْ بَقِيَتِ الْمَشِيمَةُ مَعَهَا أَوْ مَاتَ مَعَهَا فَهُوَ مَخُوفٌ، فَإِنْ خَرَجَا فَحَصَلَ ثَمَّ وَرَمٌ أَوْ ضُرْبَانٌ شَدِيدٌ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي النُّفَسَاءِ إِذَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ فَعَطِيَّتُهَا مِنَ الثُّلُثِ، وَالسَّقْطُ كَالْوَلَدِ التَّامِّ لَا مُضْغَةٌ أَوْ عَلَقَةٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَلَمٌ، قَالَهُ فِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ ".
(وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ التَّبَرُّعَاتِ الْمُنْجَزَةِ) يُحْتَرَزُ بِهِ عَنِ الْوَصِيَّةِ، فَالتَّبَرُّعُ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ مِلْكِهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ. (بُدِئَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ مِنْهَا) ؛ لِأَنَّ السَّابِقَ اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَا بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّابِقُ عِتْقًا أَوْ غَيْرَهُ، وَعَنْهُ: يُقْسَمُ بَيْنَ الْكُلِّ بِالْحِصَصِ، وَعَنْهُ: يُقَدَّمُ الْعِتْقُ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ إِذَا كَانَتْ عَطَايَا وَوَصَايَا تُقَدَّمُ الْعَطَايَا؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ، (وَإِنْ تَسَاوَتْ) أَيْ وَقَعَتْ دُفْعَةً بِأَنْ وَكَّلَ جَمَاعَةً فِيهَا فَأَوْقَعُوهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً (قُسِمَ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِالْحِصَصِ) عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ كَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ (وَعَنْهُ: يُقَدَّمُ الْعِتْقُ) ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى السِّرَايَةِ وَالتَّغْلِيبِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا عِتْقًا أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمْ، فَيَكْمُلُ الْعِتْقُ فِي بَعْضِهِمْ.
أَصْلٌ: إِذَا قَضَى الْمَرِيضُ بَعْضَ غُرَمَائِهِ وَوَفَّتْ تَرِكَتُهُ بِالْكُلِّ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَفِ فَوَجْهَانِ، أَشْهَرُهُمَا - وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ - أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى وَاجِبًا عَلَيْهِ كَأَدَاءِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالثَّانِي عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ، فَمُنِعَ تَصَرُّفَهُ فِيهِ كَالتَّبَرُّعِ، وَمَا لَزِمَهُ فِي مَرَضِهِ مِنْ حَقٍّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ وَإِسْقَاطُهُ فَهُوَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَلَوْ تَبَرَّعَ أَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَبْطُلْ تَبَرُّعُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ بِالتَّبَرُّعِ فِي الظَّاهِرِ.
(وَأَمَّا مُعَاوَضَةُ الْمَرِيضِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَيَصِحُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ) ، ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ التَّبَرُّعُ، وَلَيْسَ هَذَا تَبَرُّعًا (وَإِنْ كَانَتْ مَعَ وَارِثٍ) ؛ لِأَنَّهُ لَا تَبَرُّعَ فِيهَا

(5/215)


فَيَصِحُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَ وَارِثٍ، وَيَحْتَمِلُ أَلَا يَصِحَّ لِوَارِثٍ. وَإِنْ حَابَا وَارِثَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَبْطُلُ فِي قَدْرِ مَا حَابَاهُ، وَتَصِحُّ فِيمَا عَدَاهُ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ فَلَهُ أَخْذُهُ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي.

وَإِنْ بَاعَ الْمَرِيضُ أَجْنَبِيًّا وَحَابَاهُ وَكَانَ شَفِيعُهُ وَارِثًا فَلَهُ الْأَخْذُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَلَا تُهْمَةَ فَصَحَّتْ كَالْأَجْنَبِيِّ (وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ لِوَارِثٍ) ، هَذِهِ رِوَايَةٌ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِعَيْنِ الْمَالِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ حَابَاهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَهُ إِلَّا بِإِجَازَةٍ، اخْتَارَهُ فِي " الِانْتِصَارِ "؛ لِفَوَاتِ حَقِّهِ فِي الْمُعَيَّنِ، (وَإِنْ حَابَا وَارِثَهُ فَقَالَ الْقَاضِي: يَبْطُلُ فِي قَدْرِ مَا حَابَاهُ) ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ كَالْوَصِيَّةِ، وَهِيَ لِوَارِثٍ بَاطِلَةٌ فَكَذَا الْمُحَابَاةُ، (وَتَصِحُّ فِيمَا عَدَاهُ) ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ الْمُحَابَاةُ، وَهِيَ هُنَا مَفْقُودَةٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِنِصْفِ ثَمَنِهِ فَلَهُ نِصْفُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، فَبَطَلَ التَّصَرُّفُ فِيمَا تَبَرَّعَ بِهِ، وَعَنْهُ: يَبْطُلُ بَيْعُ الْكُلِّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ مَحَلُّهُ بِدُونِ إِجَازَةِ الْوَارِثِ، وَتَعْتَبَرُ إِجَازَةُ الْمَجْنُونِ فِي مَرَضِهِ مِنْ ثُلُثِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: إِنْ جُعِلَتْ عَطِيَّةً، وَإِلَّا فَمِنْ كُلِّهِ (وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ فِي حَقِّهِ) ، فَشُرِعَ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، فَإِنْ فَسَخَ وَطَلَبَ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ، أَوْ طَلَبَ الْإِمْضَاءِ فِي الْكُلِّ وَتَكْمِيلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَعَنْهُ: يَصِحُّ فِي الْعَيْنِ كُلِّهَا وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْوَارِثَ تَمَامَ قِيمَتِهَا أَوْ يَفْسَخُ، (فَإِنْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ فَلَهُ أَخْذُهُ) ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَقَدْ وُجِدَ، (فَإِنْ أَخَذَهُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي) ؛ لِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَسَخَ الْمَبِيعَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّمَنُ مِنَ الشَّفِيعِ.
فَرْعٌ: إِذَا آجَرَ نَفْسَهُ وَحَابَا الْمُسْتَأْجِرَ صَحَّ مَجَّانًا.

[بَاعَ الْمَرِيضُ أَجْنَبِيًّا وَحَابَاهُ]
(وَإِنْ بَاعَ الْمَرِيضُ أَجْنَبِيًّا وَحَابَاهُ) لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، فَصَحَّ، كَغَيْرِ الْمَرِيضِ، فَعَلَيْهِ لَوْ بَاعَ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ بِعَشْرَةٍ فَقَدْ حَابَا الْمُشْتَرِي بِثُلُثَيْ مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْمُحَابَاةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ رَدُّوا فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي فَسْخَ الْبَيْعِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَارَ إِمْضَاءَهُ فَعَنْ أَحْمَدَ: يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَبِيعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يُسْقِطَ الثَّمَنَ - وَهُوَ عَشْرَةٌ - مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ ثَلَاثُونَ، ثُمَّ يَأْخُذُ ثُلُثَ الْمَبِيعِ وَهُوَ عَشْرَةٌ فَيَنْسُبُهُ مِنَ الْبَاقِي وَهُوَ عِشْرُونَ، فَمَا خَرَجَ بِالنِّسْبَةِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي مِقْدَارِ تِلْكَ النِّسْبَةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْمَبِيعِ بِنِصْفِ

(5/216)


بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ لِغَيْرِهِ، وَيُعْتَبَرُ الثُّلُثُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَلَكَ مَالًا يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ عُتِقَ كُلُّهُ، وَإِنْ صَارَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهُ لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الثَّمَنِ، وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي يَنْسُبُ الثَّمَنَ وَثُلُثَ الْمَبِيعِ مِنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ فَيَصِحُّ فِي مِقْدَارِ تِلْكَ النِّسْبَةِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَلَوْ بَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْهِ بِثُلُثَيِ الثَّمَنِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي لِلْمُشْتَرِي خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ (وَكَانَ شَفِيعُهُ وَارِثًا فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ) فِي الْأَصَحِّ؛ (لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ لِغَيْرِهِ) ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِغَرِيمِ وَارِثِهِ وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حِيلَةً؛ وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَ مِنْهَا فِي حَقِّ الْوَارِثِ لِمَا فِيهَا مِنَ التُّهْمَةِ مِنْ إِيصَالِ الْمَالِ إِلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِيمَا إِذَا أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُحَابَاةُ، وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُ الْوَارِثُ الشُّفْعَةَ لِإِفْضَائِهِ إِلَى إِثْبَاتِ حَقِّ وَارِثِهِ.
فَرْعٌ: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ عَطِيَّةٍ مُنْجَزَةٍ وَنَحْوِهَا فِي مَرَضٍ مَخُوفٍ عَلَى شَرْطٍ إِلَّا فِي الْعِتْقِ، فَلَوْ عَلَّقَ صَحِيحَ عِتْقِ عَبْدِهِ فَوَجَدَ شَرْطَهُ فِي مَرَضِهِ فَمِنْ ثُلُثِهِ فِي الْأَصَحِّ، (وَيُعْتَبَرُ الثُّلُثُ عِنْدِ الْمَوْتِ) ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ لُزُومِ الْوَصَايَا وَاسْتِحْقَاقِهَا، وَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، فَإِنْ ضَاقَ ثُلُثُهُ عَنِ الْعَطِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ قُدِّمَتِ الْعَطِيَّةُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ، فَقُدِّمَتْ عَلَى الْوَصِيَّةِ كَعَطِيَّةِ الصِّحَّةِ، وَعَنْهُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُنْجَزِ وَقَبُولُهُ حِينَ نَجْزِهِ، وَنَمَاؤُهُ مِنْ حِينِهِ إِلَى الْمَوْتِ تَبَعٌ لَهُ، فَمَنْ جَعَلَ عَطِيَّتَهُ مِنْ ثُلُثِهِ فَحَمَلَ مَا نَجَزَهُ، فَكَسْبُهُ لَهُ، وَإِلَّا فَلَهُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا خَرَجَ مِنْ أَصْلِهِ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَيْسَ بِشَرِكَةٍ، قَالَهُ فِي " الرِّعَايَةِ " (فَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَلَكَ مَالًا يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ عُتِقَ كُلُّهُ) ؛ لِخُرُوجِهِ مِنَ الثُّلُثِ عِنْدِ الْمَوْتِ، (وَإِنْ صَارَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهُ لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ) نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عَلِيٍّ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» ، وَعَنْهُ: يُعْتَقُ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ مِنَ الثُّلُثِ كَتَصَرُّفِ الصَّحِيحِ فِي الْجَمِيعِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ سَيِّدِهِ مَاتَ حُرًّا، وَقِيلَ: بَلْ ثُلُثُهُ.
فَرْعٌ: هِبَتُهُ كَعِتْقِهِ.
فَائِدَةٌ: لِلْمَرِيضِ لُبْسُ نَاعِمٍ، وَأَكْلُ طَيِّبٍ لِحَاجَتِهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ لِتَفْوِيتِ حَقِّ الْوَرَثَةِ

(5/217)


فَصْلٌ وَتُفَارِقُ الْعَطِيَّةُ الْوَصِيَّةَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ مِنْهَا، وَالْوَصَايَا يُسَوَّى بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي الْعَطِيَّةِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ لِلْعَطِيَّةِ عِنْدَ وُجُودِهَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، وَالرَّابِعِ: أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الْعَطِيَّةِ مِنْ حِينِهَا وَيَكُونُ مُرَاعًى، فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ حِينِهِ، فَلَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا أَوْ وَهَبَهُ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ كَسَبَ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ شَيْئًا ثُمَّ مَاتَ سَيِّدُهُ فَخَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ كَانَ كَسْبُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
مُنِعَ، قَالَهُ فِي " الِانْتِصَارِ "، وَفِيهِ: يَمْنَعُهُ إِلَّا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَعَادَتِهِ وَسَلَمِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَدْرَكُ كَإِتْلَافِهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْحُلْوَانِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَارِثِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ مَالِهِ.

[فَصْلٌ تُفَارُقُ الْعَطِيَّةُ الْوَصِيَّةَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ]
فَصْلٌ (وَتُفَارِقُ الْعَطِيَّةُ الْوَصِيَّةَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ مِنْهَا) ؛ لِوُقُوعِهَا لَازِمَةً، (وَالْوَصَايَا يُسَوَّى بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا) ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَوُجِدَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، (وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي الْعَطِيَّةِ) ؛ لِأَنَّهَا تَقَعُ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْمُعْطِي يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُعْطَى فِي الْحَيَاةِ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ وَلَوْ كَثُرَتْ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، (بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ) ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ فِيهَا مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ، فَقَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يُوجَدْ، فَهِيَ كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبُولِ (وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ لِلْعَطِيَّةِ عِنْدَ وُجُودِهَا) ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَالِ (بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ) ، فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَاعْتُبِرَ عِنْدَ وُجُودِهِ، (وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الْعَطِيَّةِ مِنْ حِينِهَا) بِشُرُوطِهَا؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ هِبَةً فَمُقْتَضَاهَا تَمْلِيكُهُ الْمَوْهُوبَ فِي الْحَالِ، فَيُعْتَبَرُ قَبُولُهَا فِي الْمَجْلِسِ كَعَطِيَّةِ الصِّحَّةِ وَكَذَا إِنْ كَانَتْ مُحَابَاةً أَوْ إِعْتَاقًا (وَيَكُونُ مُرَاعًى) ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ هَلْ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ أَوْ لَا، وَلَا نَعْلَمُ هَلْ يَسْتَفِيدُ مَالًا أَوْ يَتْلَفُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ، فَتَوَقَّفْنَا لِنَعْلَمَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ لِيُعْمَلَ بِهَا، فَإِذَا انْكَشَفَ الْحَالُ عَلِمْنَا حِينَئِذٍ مَا ثَبَّتَ حَالَ الْعَقْدِ كَإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، (فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ حِينِهِ) أَيْ مِنْ حِينِ الْعَطِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ثُبُوتِهِ كَوْنُهُ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ خِلَافُهُ، (فَلَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا أَوْ وَهَبَهُ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ كَسَبَ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ

(5/218)


لَهُ إِنْ كَانَ مُعْتَقًا، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ إِنْ كَانَ مَوْهُوبًا، وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ فَلَهُمَا مِنْ كَسْبِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَكَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ وَلِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ شَيْئَانِ، فَصَارَ الْعَبْدُ وَكَسْبُهُ نِصْفَيْنِ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ نِصْفُهُ، وَلَهُ نِصْفُ كَسْبِهِ وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفُهُمَا، وَإِنْ كَسَبَ مِثْلَيْ قِيمَتِهِ صَارَ لَهُ شَيْئَانِ وَعُتِقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، فَيُعْتَقُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ كَسْبِهِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهِ عُتِقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَهُ نِصْفُ شَيْءٍ مِنْ كَسْبِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
شَيْئًا ثُمَّ مَاتَ سَيِّدُهُ فَخَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ - كَانَ كَسْبُهُ لَهُ إِنْ كَانَ مُعْتَقًا) ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ تَابِعٌ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ (وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ إِنْ كَانَ مَوْهُوبًا) لِمَا ذَكَرْنَا، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْعِتْقَ وَالْهِبَةَ نَافِذَانِ فِيهِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ، فَتَعَيَّنَ كَوْنُ الْكَسْبِ لِلْمُعْتِقِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ لِلتَّبَعِيَّةِ، (وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ) مِنَ الثُّلُثِ (فَلَهُمَا) - أَيْ لِلْمُعْتِقِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ - (مِنْ كَسْبِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ) ، أَيْ بِمِقْدَارِ نِسْبَةِ ذَلِكَ الْبَعْضِ إِلَيْهِ.
(فَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، فَكَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ) ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ يَتْبَعُ مَا تَنْفُذُ فِيهِ الْعَطِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ مِنْ كَسْبِهِ بِقَدْرِ مَا عُتِقَ، وَبَاقِيهِ لِسَيِّدِهِ، فَيَزْدَادُ بِهِ مَالُ السَّيِّدِ، وَتَزْدَادُ الْحُرِّيَّةُ كَذَلِكَ، وَيَزْدَادُ حَقُّهُ مِنْ كَسْبِهِ فَيَنْقُصُ بِهِ حَقُّ السَّيِّدِ مِنْ كَسْبِهِ، وَيَنْقُصُ بِذَلِكَ قَدْرُ الْمُعْتِقِ مِنْهُ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ شَيْئَانِ، فَصَارَ الْعَبْدُ وَكَسْبُهُ نِصْفَيْنِ) ، أَيْ صَارَ مَقْسُومًا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا اسْتَحَقَّ بِعِتْقِهِ شَيْئًا وَبِكَسْبِهِ شَيْئًا كَانَ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ شَيْئَانِ وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ (فَيُعْتَقُ مِنْهُ نِصْفُهُ وَلَهُ نِصْفُ كَسْبِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ نِصْفُهُمَا) ، أَيْ نِصْفُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْكَسْبِ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قِيمَتُهُ مِائَةٌ مَثَلًا وَكَسَبَ مِائَةً قَسَمْتَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، فَيَكُونُ الشَّيْءُ خَمْسِينَ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ ضَمِّ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ يُقْسَمُ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ بِالْأَوَّلِ تَبَيَّنَ مِقْدَارُ الشَّيْءِ، فَيُعْلَمُ مِقْدَارُ الْعِتْقِ بِخِلَافِ الْقِسْمَةِ نِصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ لِتَبَيُّنِ مِقْدَارِ الْعِتْقِ، (وَإِنْ كَسَبَ مِثْلَيْ قِيمَتِهِ صَارَ لَهُ شَيْئَانِ وَعُتِقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، فَيُعْتَقُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ كَسْبِهِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ) ، فَفِي مَسْأَلَتِنَا إِذَا كَسَبَ مِائَتَيْنِ قَسَمْتَ الْمَجْمُوعَ وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةٍ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: ثَلَاثَةٌ لِلْعَبْدِ، وَشَيْئَانِ لِلْوَرَثَةِ - وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْعَبْدِ (وَإِنْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهِ عُتِقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَهُ نِصْفٌ مِنْ كَسْبِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ) ، فَالْجَمِيعُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ وَنِصْفُ شَيْءٍ، فَابْسُطْهَا تَصِرْ

(5/219)


كَسْبِهِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا لِإِنْسَانٍ فَلَهُ مِنَ الْعَبْدِ بِقَدْرِ مَا عُتِقَ مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
سَبْعَةً، لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا، (فَيُعْتَقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ كَسْبِهِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ) فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُمْ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: عُتِقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلِلْوَرَثَةِ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ وَهُوَ شَيْئَانِ، وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ إِنْ كَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ، وَشَيْئَانِ إِنْ كَسَبَ مِثْلَا قِيمَتِهِ، وَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ إِنْ كَسَبَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ قِيمَتِهِ، وَنِصْفُ شَيْءٍ إِنْ كَسَبَ مِثْلَ نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَعَلَى هَذَا أَبَدًا، ثُمَّ تُجْمَعُ الْأَشْيَاءُ فَتُقْسَمُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَكَسْبُهُ عَلَيْهَا، فَمَا خَرَجَ فَهُوَ الشَّيْءُ، فَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَكَسَبَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالَ قِيمَتِهِ - فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ شَيْئَانِ، وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، فَتُجْمَعُ الْأَشْيَاءُ فَتَصِيرُ سِتَّةً، فَاقْسِمْ عَلَيْهَا قِيمَةَ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةٍ، يَخْرُجُ الشَّيْءُ سِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ ثُلُثَا قِيمَتِهِ، وَلِوَرَثَةِ سَيِّدِهِ شَيْئَانِ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ، وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ مِائَتَانِ وَهِيَ ثُلُثَا كَسْبِهِ.
فَرْعٌ: أَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ ثُمَّ آخَرُ قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، فَكَسَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْرَ قِيمَتِهِ فَكَمُلَتِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَهُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، فَتَقْسِمُ الْعَبْدَيْنِ وَكَسْبَهُمَا عَلَى الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَيَخْرُجُ لِكُلِّ شَيْءٍ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ بَدَأَ بِعِتْقِ الْأَدْنَى عُتِقَ كُلُّهُ، وَأُخِذَ كَسْبُهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْوَرَثَةُ مِنَ الْعَبْدِ الْآخَرِ وَكَسْبِهِ مِثْلَيِ الْعَبْدِ الَّذِي عُتِقَ، وَهُوَ نِصْفُهُ وَنِصْفُ كَسْبِهِ، وَيَبْقَى نِصْفُهُ وَنِصْفُ كَسْبِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَيُعْتَقُ رُبُعُهُ وَلَهُ رُبُعُ كَسْبِهِ، وَيَرِقُّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَيَتْبَعُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ قُرْعَةُ الْحُرِّيَّةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ بَدَأَ بِإِعْتَاقِهِ، فَلَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيِ الْقِيمَةِ فَأَعْتَقَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فِي حَيَاتِهِ - أُقْرِعَ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَيِّتِ فَالْحَيُّ رَقِيقٌ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَيِّتَ نِصْفُهُ حُرٌّ؛ لِأَنَّ مَعَ الْوَرَثَةِ مِثْلَ نِصْفِهِ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْحَيِّ عَتَقَ ثُلُثَيْهِ وَلَا يُحْسَبُ الْمَيِّتُ عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ (وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا لِإِنْسَانٍ فَلَهُ) أَيْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ (بِقَدْرِ مَا عُتِقَ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْهُوبَ يَعْدِلُ الْقَدْرَ الْمُعْتَقِ (وَبِقَدْرِهِ مِنْ كَسْبِهِ) ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ يَتْبَعُ الْمِلْكَ، يَلَزَمُ أَنْ يَمْلِكَ مِنَ الْكَسْبِ بِقَدْرِ مَا مَلَكَ مِنَ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةً فَكَسَبَ تِسْعَةً، فَاجْعَلْ لَهُ كُلَّ دِينَارٍ شَيْئًا، فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ مِائَةٌ، وَلَهٍ مِنْ كَسْبِهِ تِسْعَةُ أَشْيَاءَ، وَلَهُمْ مِائَتَا

(5/220)


وَبِقَدْرِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ وَطِئَهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهَا يُعْتِقُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهَا، وَلَوْ وَهَبَهَا مَرِيضًا آخَرَ لَا مَالَ لَهُ أَيْضًا فَوَهَبَهَا الثَّانِي لِلْأَوَّلِ صَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي شَيْءٍ، وَعَادَ إِلَيْهِ بِالْهِبَةِ الثَّانِيَةِ ثلثه، بقي لورثة الآخر ثلثا شيء وللأول شيئان فلهم ثلاثة أرباعها، ولورثة الثاني ربعها، وإن باع مريض قفيزا لا يملك غيره يساوي ثلاثين بقفيز يساوي عشرة، فأسقط قيمة الرديء من قيمة الجيد، ثم أنسب الثلث إلى ما بقي وهو عشرة من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
شَيْءٍ، فَيُعْتَقُ مِنْهُ مِائَةُ جُزْءٍ. وَتِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ، لَهُ مِنْ كَسْبِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَهُمْ مَا تَنَاجَزَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِائَتَا جُزْءٍ مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ كَسْبِهِ صُرِفَا فِي الدَّيْنِ وَلَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّبَرُّعِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ كَسْبِهِ صُرِفَ مِنَ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ مَا يُقْضَى مِنْهُ الدَّيْنُ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُمَا يُقْسَمُ عَلَى مَا يُعْمَلُ فِي الْعَبْدِ الْكَامِلِ وَكَسْبِهِ.
(وَإِنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً) لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا (ثُمَّ وَطِئَهَا - وَمَهْرُ مِثْلِهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا - فَهُوَ كَمَا لَوْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهَا، يُعْتَقُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا) ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَسَبَتْ نِصْفَ قِيمَتِهَا لَعَتَقَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهَا، سُبْعٌ بِمِلْكِهَا لَهُ مِنْ نَفْسِهَا بِحَقِّهَا مِنْ مَهْرِهَا، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ، وَسُبْعَانٌ بِإِعْتَاقِ الْمَيِّتِ، لَكِنْ فِي التَّشْبِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكَسْبَ يَزِيدُ بِهِ مِلْكُ السَّيِّدِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِي الْعِتْقِ، وَالْمَهْرُ يَنْقُصُهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نُقْصَانَ الْعِتْقِ، (وَلَوْ وَهَبَهَا مَرِيضًا آخَرَ لَا مَالَ لَهُ أَيْضًا فَوَهَبَهَا الثَّانِي لِلْأَوَّلِ) وَمَاتَا جَمِيعًا (صَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ فِي شَيْءٍ، وَعَادَ إِلَيْهِ بِالْهِبَةِ الثَّانِيَةِ ثُلُثُهُ، بَقِيَ لِوَرَثَةِ الْآخَرِ ثُلُثَا شَيْءٍ، وَلِلْأَوَّلِ) أَيْ لِوَرَثَةِ الْأَوَّلِ (شَيْئَانِ) ، فَاضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ لِيَزُولَ الْكَسْرُ تَكُنْ ثَمَانِيَةُ أَشْيَاءَ تَعْدِلُ الْأَمَةَ الْمَوْهُوبَةَ، (فَلَهُمْ) أَيْ لِوَرَثَةِ الْأَوَّلِ (ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا) سِتَّةٌ (وَلِوَرَثَةِ الثَّانِي رُبُعُهَا) شَيْئَانِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ صَحَّتْ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، وَهِبَةُ الثَّانِي صَحَّتْ فِي ثُلُثِ الثُّلُثِ، فَتَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، اضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ تَكُنْ تِسْعَةً، أَسْقِطِ السَّهْمَ الَّذِي صَحَّتْ فِيهِ الْهِبَةُ الثَّانِيَةُ، بَقِيَتِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، (وَإِنْ بَاعَ مَرِيضٌ قَفِيزًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِقَفِيزٍ يُسَاوِي عَشْرَةً) ، وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَيُحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحِ الْبَيْعِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ مَعَ التَّخَلُّصِ مِنَ الرِّبَا؛ لِكَوْنِهِ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا، فَأَشَارَ إِلَى الطَّرِيقَةِ فَقَالَ: (فَأَسْقِطْ قِيمَةَ

(5/221)


عشرين تجده نصفها فيصح البيع في نصف الجيد بنصف الرديء وَيَبْطُلُ فِيمَا بَقِيَ. وَإِنْ أَصْدَقَ امْرَأَةً عَشْرَةً لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا، وَصَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسَةٌ، فَمَاتَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ مَاتَ - لَهَا خمسة بِالصَّدَاقِ وَشَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ، رَجَعَ إِلَيْهِ نِصْفُ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا، صَارَ لَهُ سَبْعَةٌ وَنِصْفُ إِلَّا نِصْفُ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ، أجْبُرْهَا بِنِصْفِ شَيْءٍ، وَقَابِلْ يَخْرُجِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
الرَّدِيءِ مِنْ قِيمَةِ الْجَيِّدِ، ثُمَّ انْسُبِ الثُّلُثَ إِلَى مَا بَقِيَ وَهُوَ عَشْرَةٌ مِنْ عِشْرِينَ تَجِدْهُ نِصْفَهَا، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْجَيِّدِ بِنِصْفِ الرَّدِيءِ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُقَابِلُهُ بَعْضُ الْمَبِيعِ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِ جَمِيعِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَشْبَهَ مَا لَوِ اشْتَرَى سِلْعَتَيْنِ بِثَمَنٍ، فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، (وَيَبْطُلُ فِيمَا بَقِيَ) ؛ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلصِّحَّةِ، لَا يُقَالُ: فَلَا يَصِحُّ فِي الْجَيِّدِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الرَّدِيءِ وَيَبْطُلُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الرِّبَا لِكَوْنِهِ عَقْدًا يَصِحُّ فِي ثُلُثِ الْجَيِّدِ بِكُلِّ الرَّدِيءِ، وَذَلِكَ رِبًا؛ وَلِأَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ وَصِيَّةٌ، وَفِيمَا ذُكِرَ إِبْطَالُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهَا شَيْءٌ، وَطَرِيقُ الْجَبْرِ أَنْ يُقَالَ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَرْفَعِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَدْنَى وَقِيمَةِ ثُلُثِ شَيْءٍ، فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثَيْ شَيْءٍ، أَلْقِهَا مِنَ الْأَرْفَعِ يَبْقَى قَفِيزًا إِلَّا ثُلُثَيْ شَيْءٍ يَعْدِلُ ثُلُثَيِ الْمُحَابَاةِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ وَثُلُثُ شَيْءٍ، فَإِذَا جَبَرْتَهُ عَدَلَ شَيْئَيْنِ، فَالشَّيْءُ نِصْفُ الْقَفِيزِ، وَإِنْ كَانَ الْأَدْنَى يُسَاوِي عِشْرِينَ صَحَّتْ فِي جَمِيعِ الْجَيِّدِ بِجَمِيعِ الرَّدِيءِ، وَإِنْ كَانَ الْأَدْنَى يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ فَاعْمَلْ بِالطَّرِيقَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَلَكَ طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ تَضْرِبَ مَا حَابَاهُ بِهِ فِي ثَلَاثَةٍ، تَبْلُغُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، انْسُبْ قِيمَةَ الْجَيِّدِ إِلَيْهَا بِثُلُثِهَا، فَيَصِحُّ بَيْعُ ثُلُثَيِ الْجَيِّدِ بِثُلُثَيِ الرَّدِيءِ، وَبَطَلَ فِيمَا عَدَاهُ.
فَرْعٌ: لَوْ حَابَا فِي إِقَالَةٍ فِي سَلَمٍ كَمَنْ أَسْلَفَ عَشْرَةً فِي كَرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ أَقَالَهُ فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ - تَعَيَّنَ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ ذَكَرَهُ لِإِمْضَاءِ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ بِزِيَادَةٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
(وَإِنْ أَصْدَقَ امْرَأَةً عَشَرَةً لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، وَصَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسَةٌ، فَمَاتَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ مَاتَ) - فَيَدْخُلُهَا الدَّوْرُ، فَنَقُولُ: (لَهَا خَمْسَةٌ بِالصَّدَاقِ) ؛ لِأَنَّهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، (وَشَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ) ؛ لِأَنَّهَا كَالْوَصِيَّةِ، وَيَبْقَى لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ خَمْسَةُ الْأَشْيَاءِ، (رَجَعَ إِلَيْهِ نِصْفُ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا) ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَرِثُ نِصْفَ مَا لِامْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ (صَارَ لَهُ سَبْعَةٌ وَنِصْفُ إِلَّا نِصْفَ شَيْءٍ) ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ خَمْسَةُ الْأَشْيَاءِ وَوَرِثَ اثْنَيْنِ وَنِصْفَ شَيْءٍ (يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُ مِثْلَا مَا اسْتَحَقَّتْهُ الْمَرْأَةُ بِالْمُحَابَاةِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ، (اجْبُرْهَا بِنِصْفِ شَيْءٍ) لِتَعْلَمَ، (وَقَابِلْ) أَيْ يُزَادُ عَلَى الشَّيْئَيْنِ نِصْفُ شَيْءٍ، فَلْيُقَابِلْ ذَلِكَ النِّصْفُ الْمُرَادُ، أَيْ يَبْقَى سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ تَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفًا،

(5/222)


الشَّيْءُ ثَلَاثَةً، فَلِوَرَثَتِهِ سِتَّةٌ وَلِوَرَثَتِهَا أَرْبَعَةٌ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهَا وَرِثَتْهُ وَسَقَطَتِ الْمُحَابَاةُ، وَعَنْهُ: تَعْتَبَرُ الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ رُجِعَ عَنْهُ.

فَصْلٌ وَلَوْ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ - عُتِقَ وَلَمْ يَرِثْهُ، ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَهُ كَانَ إِقْرَارُهُ لِوَارِثٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِهِ لَوِ اشْتَرَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
(يَخْرُجُ الشَّيْءُ ثَلَاثَةً، فَلِوَرَثَتِهِ سِتَّةٌ) ؛ لِأَنَّ لَهُمْ شَيْئَيْنِ، (وَلِوَرَثَتِهَا أَرْبَعَةٌ) ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهَا خَمْسَةٌ وَشَيْءٌ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ، رَجَعَ إِلَى وَرَثَتِهِ نِصْفُهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، وَالطَّرِيقَةُ فِي هَذَا أَنْ نَنْظُرَ مَا بَقِيَ فِي يَدِ وَرَثَةِ الزَّوْجِ، فَخُمُسَاهُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْجَبْرِ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ وَنِصْفًا، وَالشَّيْءُ هُوَ خُمُسَاهَا، وَإِنْ شِئْتَ أَسْقَطْتَ خُمُسَهُ، وَأَخَذْتَ نِصْفَ مَا بَقِيَ (وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهَا وَرِثَتْهُ) ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ، (وَسَقَطَتِ الْمُحَابَاةُ) ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا فِي الْمَرَضِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ فِي أَنَّهَا لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ، فَعَلَيْهِ لَوْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ كَالْكَافِرَةِ لَمْ تَسْقُطِ الْمُحَابَاةُ؛ لِعَدَمِ الْإِرْثِ، وَحِينَئِذٍ فَلَهَا مَهْرُهَا وَثُلُثُ مَا حَابَاهَا بِهِ، (وَعَنْهُ: تُعْتَبَرُ الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ) ؛ لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ لِمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهَا الصَّدَقَةُ، فَاعْتُبِرَتْ مِنَ الثُّلُثِ كَمُحَابَاةِ الْأَجْنَبِيِّ، (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ رَجَعَ عَنْهُ) ، وَقِيلَ: تَسْقُطُ الْمُحَابَاةُ إِنْ لَمْ يُجِزْهَا بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ الْمُسَمَّى وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقِيلَ: مَهْرُهَا وَرُبُعُ الْبَاقِي، وَقِيلَ: بَلْ ثُلُثُ الْمُحَابَاةِ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ مَنْ يَرِثُهُ فِي مَرَضِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ مَرِيضَةً بِدُونِ مَهْرِهَا فَهَلْ لَهَا مَا نَقَصَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

[فَصْلٌ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ]
فَصْلٌ (وَلَوْ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ، فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ عُتِقَ) مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِذَلِكَ كَالصَّحِيحِ، (وَلَمْ يَرِثْهُ، ذِكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ) وَفِي " الرِّعَايَةِ " أَنَّهُ أَقْيَسُ؛ (لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَهُ كَانَ إِقْرَارُهُ لِوَارِثٍ) ، فَيَبْطُلُ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ لِوَارِثٍ، وَعَلَّلَهُ الْخَبَرِيُّ بِأَنَّ عِتْقَهُمْ وَصِيَّةٌ، فَلَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا وَرِثُوا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بَطَلَ الْعِتْقُ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهُمْ إِلَى إِسْقَاطِ تَوْرِيثِهِمْ، وَقِيلَ: يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْإِقْرَارِ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، فَوَجَبَ أَنْ يَرِثَ كَمَا لَوْ لَمْ يَصِرْ

(5/223)


ذَا رَحِمِهِ الْمُحَرَّمِ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ وَارِثُهُ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِهِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ، فَقَبِلَهُ فِي مَرَضِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي: يُعْتَقُ وَيَرِثُ، وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَتَزَوَّجَهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ تَرِثْهُ عَلَى قِيَاسِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْقَاضِي: تَرِثُهُ وَلَوْ أَعْتَقَهَا وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَأَصْدَقَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَارِثًا، (وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِهِ لَوِ اشْتَرَى ذَا رَحِمِهِ الْمُحَرَّمِ) - أَيْ مَنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ (فِي مَرَضِهِ، وَهُوَ وَارِثُهُ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِهِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ فَقَبِلَهُ فِي مَرَضِهِ) ، أَيْ يُعْتَقْ وَلَا يَرْثِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، (وَقَالَ الْقَاضِي: يُعْتَقُ وَيَرِثُ) وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَقَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ " وَ " الْفُرُوعِ "، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَ ابْنَ عَمِّهِ عتقا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَوَرِثَا؛ لِأَنَّهُ حِينَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ لَيْسَ بِقَاتِلٍ وَلَا مُخَالِفٍ لِدِينِهِ، وَلَا يَكُونُ عِتْقُهُمْ وَصِيَّةً، وَقِيلَ: يُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَإِلَّا عُتِقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، فَلَوْ دَبَّرَ ابْنَ عَمِّهِ عُتِقَ وَلَمْ يَرِثْ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ فِي آخِرِ حَيَاتِي عُتِقَ، وَالْأَشْهُرُ: يَرِثُ، وَلَيْسَ عِتْقُهُ وَصِيَّةً، وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِ قَرِيبِهِ لَمْ يَرِثْهُ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَوَجَّهُ الْخِلَافُ.
مَسْأَلَةٌ: إِذَا اشْتَرَى مَرِيضٌ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى وَارِثِهِ صَحَّ، وَعُتِقَ عَلَى الْوَارِثِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ وَصَّى بِعِتْقِ بَعْضِ عَبْدٍ، أَوْ أَعْتَقَهُ، أَوْ دَبَّرَهُ وَبَقِيَّتُهُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَثُلُثُهِ يُحْمَلُ كُلُّهُ - كَمُلَ عِتْقُهُ وَأَخَذَ الشَّرِيكُ حَقَّهُ، وَعَنْهُ: لَا سِرَايَةَ فِيهِنَّ، وَهُوَ أَوْلَى، وَفِي اسْتِسْعَائِهِ لِلشَّرِيكِ رِوَايَتَانِ، وَعَنْهُ: السِّرَايَةُ فِي الْمُنْجَزِ فَقَطْ، قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: وَإِنِ اشْتَرَى الْمَدْيُونُ ذَا رَحِمِهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يَصِحَّ، وَقِيلَ: بَلَى وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، وَلَوِ اتُّهِبَ عَبْدُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَقُلْنَا: يَصِحُّ قَبُولُهُ بِدُونِ إِذْنِهِ عُتِقَ عَلَى سَيِّدِهِ (وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَتَزَوَّجَهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ تَرِثْهُ عَلَى قِيَاسِ الْأَوَّلِ) ؛ لِأَنَّ إِرْثَهَا يُفْضِي إِلَى بُطْلَانِ عِتْقِهَا؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ، وَإِبْطَالُ عِتْقِهَا يُبْطِلُ تَوْرِيثَهَا، (وَقَالَ الْقَاضِي: يَرِثُهُ) نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَصِيَّةٌ بِمَا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ لِلْوَارِثِ كَالْعَفْوِ عَنِ الْعَمْدِ فِي مَرَضِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ مِيرَاثُهُ، وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ ابْنَ عَمِّهِ أَوِ اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَرِثُ، وَلَوْ أَعْتَقَهَا فِي صِحَّتِهِ وَتَزَوَّجَهَا فِي مَرَضِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَتَرِثُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ، (وَلَوْ أَعْتَقَهَا وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَأَصْدَقَهَا مِائَتَيْنِ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا ثُمَّ مَاتَ - صَحَّ الْعِتْقُ)

(5/224)


مِائَتَيْنِ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا، وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا، ثُمَّ مَاتَ - صَحَّ الْعِتْقُ وَلَمْ يُسْتَحَقَّ الصَّدَاقُ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى بُطْلَانِ عِتْقِهَا ثُمَّ يَبْطُلُ صَدَاقُهَا، وَقَالَ الْقَاضِي: تَسْتَحِقُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَالنِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، (وَلَمْ يُسْتَحَقَّ الصَّدَاقُ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى بُطْلَانِ عِتْقِهَا ثُمَّ يَبْطُلُ صَدَاقُهَا) وَوَجْهُهُ أَنَّهَا إِذَا اسْتَحَقَّتِ الصَّدَاقَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ سِوَى قِيمَةِ الْأَمَةِ الْمُقَدَّرِ بَقَاؤُهَا، فَلَا يُنَفَّذُ الْعِتْقُ فِي كُلِّهَا؛ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَرَضِهِ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ فِي الْبَعْضِ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ بَطَلَ الصَّدَاقُ، (وَقَالَ الْقَاضِي: تَسْتَحِقُّ الْمِائَتَيْنِ) وَتُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَصِيَّةٌ لَهَا، وَهِيَ غَيْرُ وَارِثِهِ، وَالصَّدَاقُ اسْتَحَقَّتْهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهِيَ تُنَفَّذُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أَجْنَبِيَّةً وَأَصْدَقَهَا الْمِائَتَيْنِ، وَفِي إِرْثِهَا الْخِلَافُ.
قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": وَالْأَوَّلُ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْعِتْقِ وَاسْتِحْقَاقِ الصَّدَاقِ جَمِيعًا؛ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْعِتْقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَا خِلَافَ فِي فَسَادِ ذَلِكَ، فَلَوْ أَصْدَقَ الْمِائَتَيْنِ أَجْنَبِيَّةٌ صَحَّ وَبَطَلَ الْعِتْقُ فِي ثُلُثَيِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الثُّلُثِ مُعْتَبَرٌ بِحَالَةِ الْمَوْتِ، وَحَالَةَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ، وَكَذَا لَوْ تَلِفَتِ الْمِائَتَانِ قَبْلَ مَوْتِهِ عُتِقَ مِنْهَا الثُّلُثَ فَقَطْ.
فَرْعٌ: لَوْ أَعْتَقَ أَمَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا آخَرَ تَبَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ وَيَسْقُطُ مَهْرُهَا إِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا وَمَهْرُهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا عُتِقَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا وَيُرَقُّ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهَا، وَحِسَابُهَا أَنْ نَقُولَ: عُتِقَ مِنْهَا شَيْءٌ وَلَهَا بِصَدَاقِهَا نِصْفُ شَيْءٍ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ، فَتَجْمَعُهُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفًا، تَبْسُطُهَا تَكُنْ سَبْعَةً.
مَسْأَلَةٌ: مَرِيضَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ، وَتَزَوَّجَهَا بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ مِائَةً، فَمُقْتَضَى قَوْلِ الْأَصْحَابِ أَنْ تَضُمَّ الْعَشَرَةَ إِلَى الْمِائَةِ، فَتَكُونَ التَّرِكَةُ وَيَرِثُ نِصْفَ ذَلِكَ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُحْسَبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَيْضًا، وَيُضَمُّ إِلَى التَّرِكَةِ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ سِتُّونَ؛ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَرِثُ شَيْئًا وَعَلَيْهِ أَدَاءُ الْعَشَرَةِ الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ إِعْتَاقُهُ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ.

(5/225)


الْمِائَتَيْنِ.

وَإِنْ تَبَرَّعَ بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الثُّلُثَيْنِ فَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَلَا يُعْتَقُ، فَإِذَا مَاتَ عُتِقَ عَلَى الْوَارِثِ إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ فِي حَيَاتِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المبدع في شرح المقنع]
فَائِدَةٌ: وَهَبَ أَمَةً حُرِّمَ عَلَى الْمُتَّهَبِ وَطْؤُهَا حَتَّى تَبْرَأَ أَوْ تَمُوتَ، وَفِي " الْخِلَافِ ": لَهُ التَّصَرُّفُ، وَفِي " الِانْتِصَارِ ": وَالْوَطْءُ.

[تَبَرَّعَ بِثُلُثِ مَالِهِ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الثُّلُثَيْنِ]
(وَإِنْ تَبَرَّعَ بِثُلُثِ مَالِهِ) فِي مَرَضِهِ (ثُمَّ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الثُّلُثَيْنِ) وَلَهُ ابْنٌ (فَقَالَ الْقَاضِي) وَمُتَابِعُوهُ (يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَلَا يُعْتَقُ) الْأَبُ فِي الْحَالِ إِذَا اعْتَبَرْنَا عِتْقَهُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِكَوْنِهِ اشْتَرَاهُ بِمَالٍ هُوَ مُسْتَحَقٌّ لِلْوَرَثَةِ بِتَقْدِيرِ مَوْتِهِ؛ وَلِأَنَّ تَبَرُّعَ الْمَرِيضِ إِنَّمَا يُنَفَّذُ مِنَ الثُّلُثِ، وَيُقَدَّمُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَإِذَا قُدِّمَ التَّبَرُّعُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثُّلُثِ شَيْءٌ، وَلَوِ اشْتَرَى أَبَاهُ بِمَالِهِ وَهُوَ تِسْعَةُ دَنَانِيرَ وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ، فَقَالَ الْمَجْدُ: عِنْدِي تُنَفَّذُ الْمُحَابَاةُ؛ لِسَبْقِهَا الْعِتْقَ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ كَالَّتِي قَبْلَهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَحَاصَّانِ هُنَا، فَيُنَفَّذُ ثُلُثُ الثُّلُثِ لِلْبَائِعِ مُحَابَاةً، وَثُلُثَاهُ لِلْمُشْتَرِي عِتْقًا، فَيُعْتَقُ بِهِ ثُلُثُ رَقَبَتِهِ، وَيَرُدُّ الْبَائِعُ دِينَارَيْنِ، وَيَكُونُ ثُلُثَا الْمُشْتَرِي مَعَ الدِّينَارَيْنِ مِيرَاثًا (فَإِذَا مَاتَ) الْمُشْتَرِي (عُتِقَ عَلَى الْوَارِثِ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ (إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمْ) كَالْأَوْلَادِ مَثَلًا؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يُعْتَقُ عَلَى أَوْلَادِ ابْنِهِ (وَلَا يَرِثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ فِي حَيَاتِهِ) ؛ إِذْ شَرْطُ الْإِرْثِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِ الْقَاضِي وَهُوَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الشِّرَاءَ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ، يُعْتَقُ الْأَبُ وَيُنَفَّذُ مِنَ التَّبَرُّعِ قَدْرَ ثُلُثِ الْمَالِ حَالَ الْمَوْتِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ سُدُسُهُ وَبَاقِيهِ لِلْوَارِثِ.
فَرْعٌ: مَنْ وَهَبَ لَهُ أَبُوهُ اسْتُحِبَّ لَهُ قَبُولُهُ، وَقِيلَ: يَجِبُ، فَإِنْ قَبِلَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَوَرِثَ، وَإِنْ وَهَبَ لِمُكَاتَبِهِ أَبُوهُ فَلَهُ قَبُولُهُ وَيُعْتَقُ بِعِتْقِهِ.

(5/226)