المغني
لابن قدامة [بَاب صَلَاة الِاسْتِسْقَاء]
ِ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، ثَابِتَةٌ بِسُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ، -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (1474) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِم، -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِذَا أَجْدَبَتْ الْأَرْضُ، وَاحْتَبَسَ
الْقَطْرُ، خَرَجُوا مَعَ الْإِمَامِ، فَكَانُوا فِي خُرُوجِهِمْ، كَمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ
كَانَ إذَا خَرَجَ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ، خَرَجَ مُتَوَاضِعًا،
مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَذَلِّلًا، مُتَضَرِّعًا» ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ
عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، مُتَوَاضِعًا لِلَّهِ تَعَالَى،
مُتَبَذِّلًا، أَيْ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ، أَيْ لَا يَلْبَسُ ثِيَابَ
الزِّينَةِ، وَلَا يَتَطَيَّبُ، لِأَنَّهُ مِنْ كَمَالِ الزِّينَةِ،
وَهَذَا يَوْمُ تَوَاضُعٍ وَاسْتِكَانَةٍ، وَيَكُونُ مُتَخَشَّعًا فِي
مَشْيِهِ وَجُلُوسِهِ، فِي خُضُوعٍ، مُتَضَرِّعًا لِلَّهِ تَعَالَى،
مُتَذَلِّلًا لَهُ، رَاغِبًا إلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلِاسْتِسْقَاءِ
مُتَبَذِّلًا، مُتَوَاضِعًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَضَرِّعًا، حَتَّى أَتَى
الْمُصَلَّى، فَلَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ
فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ
كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَيُسْتَحَبُّ التَّنْظِيفُ بِالْمَاءِ، وَاسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ وَمَا
يَقْطَعُ الرَّائِحَةَ، وَيُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ لِكَافَّةِ النَّاسِ،
وَخُرُوجُ مَنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَسِتْرٍ وَصَلَاحٍ، وَالشُّيُوخُ أَشَدُّ
اسْتِحْبَابًا، لِأَنَّهُ أَسْرَعُ لِلْإِجَابَةِ. فَأَمَّا النِّسَاءُ
فَلَا بَأْسَ بِخُرُوجِ الْعَجَائِزِ، وَمَنْ لَا هَيْئَةَ لَهَا، فَأَمَّا
الشَّوَابُّ وَذَوَاتُ الْهَيْئَةِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الْخُرُوجُ،
لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي خُرُوجِهِنَّ أَكْثَرُ مِنْ النَّفْعِ. وَلَا
يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ.
وَإِذَا عَزَمَ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَعِدَ
النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، وَيَأْمُرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْ
الْمَعَاصِي، وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَالصِّيَامِ،
وَالصَّدَقَةِ، وَتَرْكِ التَّشَاحُنِ؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ
لَإِجَابَتِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ الْجَدْبِ، وَالطَّاعَةُ
تَكُونُ سَبَبًا لِلْبَرَكَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ
أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ
مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] .
[مَسْأَلَةٌ صِفَة صَلَاة الِاسْتِسْقَاء]
(1475) مَسْأَلَةٌ؛ (قَالَ: فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ) لَا نَعْلَمُ
بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ خِلَافًا فِي أَنَّهَا
رَكْعَتَانِ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي صِفَتِهَا، فَرُوِيَ أَنَّهُ
يُكَبِّرُ فِيهِمَا كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا
فِي الثَّانِيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، وَدَاوُد، وَالشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛
وَذَلِكَ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ: وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ،
كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ.
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ «، أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَانُوا
يُصَلُّونَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ، يُكَبِّرُونَ فِيهَا سَبْعًا
وَخَمْسًا» . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ،
(2/319)
وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ،
وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: اسْتَسْقَى
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ،
وَقَلَبَ رِدَاءَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ التَّكْبِيرَ،
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ
الْخِرَقِيِّ، وَكَيْفَمَا فَعَلَ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا تُسَنُّ الصَّلَاةُ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَلَا الْخُرُوجُ
لَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«اسْتَسْقَى عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ لَهَا»
، وَاسْتَسْقَى عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يُصَلِّ.
وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ خَرَجَ
وَصَلَّى، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يُعَارِضُ مَا رَوَوْهُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ
الدُّعَاءُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَمْنَعُ فِعْلَ مَا
ذَكَرْنَاهُ، بَلْ قَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الْأَمْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ
الِاسْتِسْقَاءِ، وَخَطَبَ. وَبِهِ قَالَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا
أَبَا حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ،
فَوَافَقَا سَائِرَ الْعُلَمَاءِ، وَالسُّنَّةُ يُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ
كُلِّ قَوْلٍ.
وَيُسَنُّ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
زَيْدٍ، قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ،
ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ» . مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ. وَإِنْ قَرَأَ فِيهِمَا ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}
[الأعلى: 1] ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]
فَحَسَنٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ
يُصَلِّي فِي الْعِيدِ.
وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ، فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ
أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ
لِلِاسْتِسْقَاءِ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، يَجْهَرُ
فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ
وَالِاسْتِسْقَاءِ، فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، و "
سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» .
[فَصْلٌ لَيْسَ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاء أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ]
(1476) فَصْلٌ: وَلَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ. وَلَا
نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ «خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا
يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ،
ثُمَّ خَطَبَنَا، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ نَحْوَ
الْقِبْلَةِ، رَافِعًا يَدَيْهِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، فَجَعَلَ الْأَيْمَنَ
عَلَى الْأَيْسَرِ، وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ.» رَوَاهُ
الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ، فَلَمْ يُؤَذَّنْ لَهَا
كَسَائِرِ النَّوَافِلِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُنَادَى لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. كَقَوْلِهِمْ
فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ. .
(2/320)
[فَصْلٌ لَيْسَ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاء
وَقْت]
(1477) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ،
إلَّا أَنَّهَا لَا تُفْعَلُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛
لِأَنَّ وَقْتَهَا مُتَّسِعٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى فِعْلِهَا فِي وَقْتِ
النَّهْيِ، وَالْأَوْلَى فِعْلُهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ؛ لِمَا رَوَتْ
عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهَا
تُشْبِهُهَا فِي الْمَوْضِعِ وَالصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ،
لِأَنَّ وَقْتَهَا لَا يَفُوتُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ، لِأَنَّهَا لَيْسَ
لَهَا يَوْمٌ مُعَيَّنٌ، فَلَا يَكُونُ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ. وَقَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْخُرُوجُ إلَيْهَا عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ،
عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَبَا بَكْرِ بْنَ حَزْمٍ.
وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ، لَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِعْلُهَا
فِيهِ.
[مَسْأَلَةٌ فِي صَلَاة الِاسْتِسْقَاء خُطْبَة]
(1478) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (ثُمَّ يَخْطُبُ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ)
اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْخُطْبَةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَفِي
وَقْتِهَا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فِيهَا خُطْبَةً بَعْدَ الصَّلَاةِ. قَالَ
أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقُوا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ فِي صَلَاةِ
الِاسْتِسْقَاءِ خُطْبَةً، وَصُعُودًا عَلَى الْمِنْبَرِ. وَالصَّحِيحُ
أَنَّهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ
أَبِي هُرَيْرَةَ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَطَبَنَا. وَلِقَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: صَنَعَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، كَمَا صَنَعَ فِي الْعِيدَيْنِ.
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ تَكْبِيرٍ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْعِيدِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ يُخْطَبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ. رُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ،
وَهِشَامُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ.
وَذَهَبَ إلَيْهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِمَا رَوَى
أَنَسٌ وَعَائِشَةُ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خَطَبَ وَصَلَّى» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ:
«رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ
يَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ ظَهْرَهُ إلَى النَّاسِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ
يَدْعُو، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ
فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، قَالَ:
أَدْرَكْت أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، وَهِشَامَ بْنَ إسْمَاعِيلَ، وَعُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، كَانُوا إذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْتَسْقُوا، خَرَجُوا لِلْبَرَازِ،
فَكَانُوا يَخْطُبُونَ، ثُمَّ يَدْعُونَ اللَّهَ، وَيُحَوِّلُونَ
وُجُوهَهُمْ إلَى الْقِبْلَةِ حِينَ يَدْعُونَ، ثُمَّ يُحَوِّلُ أَحَدُهُمْ
رِدَاءَهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَمَا عَلَى
الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَيْمَنِ، وَيَنْزِلُ أَحَدُهُمْ فَيَقْرَأُ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ، يَجْهَرُ بِهِمْ.
الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ، هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْخُطْبَةِ قَبْلَ
الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا؛ لِوُرُودِ الْأَخْبَارِ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ،
وَدَلَالَتِهَا عَلَى كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ.
وَالرَّابِعَةُ، أَنَّهُ لَا يَخْطُبُ، وَإِنَّمَا يَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ؛
لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، لَكِنْ
لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ
(2/321)
وَالتَّضَرُّعِ. وَأَيًّا مَا فَعَلَ مِنْ
ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، عَلَى
الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَةً وَاحِدَةً؛
لِتَكُونَ كَالْعِيدِ، وَلِيَكُونُوا قَدْ فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ
أُجِيبَ دُعَاؤُهُمْ فَأُغِيثُوا، فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى الصَّلَاةِ فِي
الْمَطَرِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ.
نَفْيٌ لِلصِّفَةِ لَا لِأَصْلِ الْخُطْبَةِ، أَيْ لَمْ يَخْطُبْ
كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، إنَّمَا كَانَ جُلُّ خُطْبَتِهِ الدُّعَاءَ
وَالتَّضَرُّعَ وَالتَّكْبِيرَ
[مَسْأَلَةٌ لِلْخَطِيبِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَة فِي أَثْنَاء الْخُطْبَة
لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاء]
(1479) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيُحَوِّلُ
رِدَاءَهُ، فَيَجْعَلُ الْيَمِينَ يَسَارًا، وَالْيَسَارَ يَمِينًا،
وَيَفْعَلُ النَّاسُ كَذَلِكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
لِلْخَطِيبِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ
يَدْعُو.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي لَفْظٍ: «فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ
ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو» .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ سِرًّا حَالَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ،
فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّك أَمَرْتَنَا بِدُعَائِك، وَوَعَدْتَنَا
إجَابَتَك، فَقَدْ دَعَوْنَاك كَمَا أَمَرْتنَا، فَاسْتَجِبْ لَنَا كَمَا
وَعَدْتنَا، اللَّهُمَّ فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِنَا،
وَإِجَابَتِنَا فِي سُقْيَانَا، وَسَعَةِ أَرْزَاقِنَا. ثُمَّ يَدْعُو
بِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرِ دِينٍ وَدُنْيَا. وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ
الْإِسْرَارُ؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ مِنْ الْإِخْلَاصِ، وَأَبْلَغَ فِي
الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّضَرُّعِ، وَأَسْرَعَ فِي الْإِجَابَةِ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}
[الأعراف: 55] .
وَاسْتُحِبَّ الْجَهْرُ بِبَعْضِهِ؛ لِيَسْمَعَ النَّاسُ، فَيُؤَمِّنُونَ
عَلَى دُعَائِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَوِّلَ رِدَاءَهُ فِي حَالِ
اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَوْمَ
خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا
لَفْظٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «فَحَوَّلَ
رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» . وَفِي لَفْظٍ: «وَقَلَبَ
رِدَاءَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الرِّدَاءِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فِي
قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسَنُّ؛
لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، فَلَا يُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الرِّدَاءِ فِيهِ،
كَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ. وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، أَنَّ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ
مُخْتَصٌّ بِالْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ.
وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ،
لِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
دُونَ أَصْحَابِهِ. وَلَنَا، أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ
عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ دَلِيلٌ، كَيْفَ وَقَدْ عُقِلَ الْمَعْنَى فِي
ذَلِكَ، وَهُوَ التَّفَاؤُلُ بِقَلْبِ الرِّدَاءِ، لِيَقْلِبَ اللَّهُ مَا
بِهِمْ مِنْ الْجَدْبِ إلَى الْخِصْبِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ
(2/322)
فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ. وَصِفَةُ تَقْلِيبِ
الرِّدَاءِ أَنْ يَجْعَلَ مَا عَلَى الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ، وَمَا
عَلَى الْيَسَارِ عَلَى الْيَمِينِ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَهِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَمَالِكٍ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُول بِهِ،
ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَجْعَلُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ؛ «لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ
خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ أَسْفَلَهَا أَعْلَاهَا،
فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ جَعَلَ الْعِطَافَ الَّذِي عَلَى الْأَيْسَرِ
عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، وَاَلَّذِي عَلَى الْأَيْمَنِ عَلَى
عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ زَيْدٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ
الْأَيْسَرِ، وَجَعَلَ عِطَافَهُ الْأَيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ»
. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَالزِّيَادَةُ الَّتِي
نَقَلُوهَا، إنْ ثَبَتَتْ، فَهِيَ ظَنُّ الرَّاوِي، لَا يُتْرَكُ لَهَا
فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَقَلَ
تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ جَمَاعَةٌ، لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ
جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ
لِثِقَلِ الرِّدَاءِ.
[فَصْلٌ رَفَعَ الْأَيْدِي فِي دُعَاء الِاسْتِسْقَاء]
(1480) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْأَيْدِي فِي دُعَاءِ
الِاسْتِسْقَاءِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ
فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ، إلَّا الِاسْتِسْقَاءَ، وَأَنَّهُ يَرْفَعُ
حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ.» وَفِي حَدِيثٍ أَيْضًا لَأَنَسٍ:
«فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَفَعَ
النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ» .
[مَسْأَلَةٌ يَدْعُو وَيَدْعُونَ وَيُكْثِرُونَ فِي دُعَائِهِمْ
الِاسْتِغْفَار فِي صَلَاة الِاسْتِسْقَاء]
(1481) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَدْعُو، وَيَدْعُونَ، وَيُكْثِرُونَ فِي
دُعَائِهِمْ الِاسْتِغْفَارَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَعِدَ
الْمِنْبَرَ جَلَسَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْلِسْ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ لَمْ
يُنْقَلْ، وَلَا هَاهُنَا أَذَانٌ لِيَجْلِسَ فِي وَقْتِهِ، ثُمَّ يَخْطُبُ
خُطْبَةً وَاحِدَةً، يَفْتَتِحُهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَبِهَذَا قَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَخْطُبُ
خُطْبَتَيْنِ كَخُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَنَعَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَنَعَ فِي
الْعِيدِ. وَلِأَنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي التَّكْبِيرِ، وَفِي صِفَةِ
الصَّلَاةِ، فَتُشْبِهُهَا فِي الْخُطْبَتَيْنِ.
وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ،
وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا فَصَلَ بَيْنَ ذَلِكَ بِسُكُوتٍ وَلَا
جُلُوسٍ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَقَلَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَنْقُلْ
خُطْبَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ دُعَاءُ اللَّهِ
تَعَالَى لِيُغِيثَهُمْ، وَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهَا خُطْبَتَيْنِ فِي
ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ. وَلَوْ كَانَ النَّقْلُ
كَمَا ذَكَرُوهُ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ أَوَّلِ
الْحَدِيثِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَفْتِحَ الْخُطْبَةَ بِالتَّكْبِيرِ، كَخُطْبَةِ
الْعِيدِ، وَيُكْثِرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقْرَأَ كَثِيرًا:
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ
السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] وَسَائِرَ الْآيَاتِ الَّتِي
فِيهَا الْأَمْرُ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِإِرْسَالِ
الْغَيْثِ إذَا اسْتَغْفَرُوهُ.
(2/323)
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى
الِاسْتِغْفَارِ، وَقَالَ: لَقَدْ اسْتَسْقَيْت بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى مَيْمُونِ بْنِ
مِهْرَانَ يَقُولُ: قَدْ كَتَبْت إلَى الْبُلْدَانِ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى
الِاسْتِسْقَاءِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَرْتُهُمْ
بِالصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] .
وَأَمَرْتهمْ أَنْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ أَبُوهُمْ آدَم: {رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وَيَقُولُوا كَمَا قَالَ
نُوحٌ: {وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
[هود: 47] . وَيَقُولُوا كَمَا قَالَ يُونُسُ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ
أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
[الأنبياء: 87] . وَيَقُولُوا كَمَا قَالَ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
[القصص: 16] .
وَلِأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ انْقِطَاعِ الْغَيْثِ، وَالِاسْتِغْفَارُ
وَالتَّوْبَةُ تَمْحُو الْمَعَاصِيَ الْمَانِعَةَ مِنْ الْغَيْثِ،
فَيَأْتِي اللَّهُ بِهِ.
وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَيَدْعُو بِدُعَائِهِ، فَرَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا
مَرِيئًا مَرِيعًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَرِيعًا يُرْوَى عَلَى
وَجْهَيْنِ بِالْيَاءِ وَالْبَاءِ، فَمَنْ رَوَاهُ بِالْيَاءِ جَعَلَهُ
مِنْ الْمُرَاعَةِ، يُقَال: أَمْرَعَ الْمَكَانُ: إذَا أَخْصَبَ، وَمَنْ
رَوَاهُ مُرْبِعًا، كَانَ مَعْنَاهُ مُنْبِتًا لِلرَّبِيعِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ
فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ
فِيهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ،
وَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ،
وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ
أَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
[الفاتحة: 4] لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ
أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ،
أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْت لَنَا قُوَّةً
وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي
الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ
ظَهْرَهُ وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرو: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَسْقَى، قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَك
وَبَهَائِمَك، وَانْشُرْ رَحْمَتَك، وَأَحْيِ بَلَدَك الْمَيِّتَ» .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد.
(2/324)
رَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ، بِإِسْنَادِهِ فِي
" غَرِيبِ الْحَدِيثِ "، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، فَصَلَّى بِهِمْ
رَكْعَتَيْنِ، يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي
الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ، و " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى "، وَفِي الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ
"، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ، وَقَلَبَ
رِدَاءَهُ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً قَبْلَ أَنْ
يَسْتَسْقِيَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا وَأَغِثْنَا، اللَّهُمَّ
اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، وَحَيًّا رَبِيعًا، وَجَدًّا طَبَقًا غَدَقًا
مُغْدِقًا مُونِقًا، هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا مَرْبَعًا مَرْتَعًا،
سَائِلًا مُسْبِلًا مُجَلِّلًا، دِيَمًا دَرُورًا، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ،
عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ؛ اللَّهُمَّ تُحْيِي بِهِ الْبِلَادَ، وَتُغِيثُ
بِهِ الْعِبَادَ، وَتَجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ مِنَّا وَالْبَادِ،
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ فِي أَرْضِنَا زِينَتَهَا، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا فِي
أَرْضِنَا سَكَنَهَا، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً
طَهُورًا، فَأَحْيِي بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا، وَأَسْقِهِ مِمَّا خَلَقْت
أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا.»
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُغِيثُ: الْمُحْيِي بِإِذْنِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَالْحَيَا: الَّذِي تَحْيَا بِهِ الْأَرْضُ وَالْمَالُ.
وَالْجَدَّا: الْمَطَرُ الْعَامُّ، وَمِنْهُ أُخِذَ جَدَّا الْعَطِيَّةِ،
وَالْجَدْوَى مَقْصُورٌ. وَالطَّبَقُ: الَّذِي يُطْبِقُ الْأَرْضَ.
وَالْغَدَقُ وَالْمُغْدِقُ: الْكَثِيرُ الْقَطْرِ. وَالْمُونِقُ:
الْمُعْجِبُ. وَالْمَرِيعُ: ذُو الْمَرَاعَةِ وَالْخِصْبِ. وَالْمَرْبَعُ
مِنْ قَوْلِك: رَبَعْت مَكَانَ كَذَا: إذَا أَقَمْت بِهِ. وَارْبَعْ عَلَى
نَفْسِك: اُرْفُقْ.
وَالْمَرْتَعُ: مِنْ رَتَعَتْ الْإِبِلُ، إذَا أَرْعَتْ. وَالسَّابِلُ:
مِنْ السَّبْلِ، وَهُوَ الْمَطَرُ. يُقَال سَبَلٌ سَابِلٌ، كَمَا يُقَال:
مَطَرٌ مَاطِرٌ. وَالرَّائِثُ: الْبَطِيءُ. وَالسَّكَنُ: الْقُوَّة،
لِأَنَّ الْأَرْضَ تَسْكُنُ بِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا اسْتَسْقَى، قَالَ: «اللَّهُمَّ
اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئًا مَرِيعًا، غَدَقًا مُجَلِّلًا،
طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ، وَلَا
تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إنَّ بِالْعِبَادِ
وَالْبِلَادِ مِنْ اللَّأْوَاءِ وَالضَّنْكِ وَالْجَهْدِ مَا لَا نَشْكُوهُ
إلَّا إلَيْك، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا
الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا
مِنْ بَرَكَاتِكَ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ
وَالْعُرْيَ، وَاكْشِفْ عَنَّا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ
غَيْرُك، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُك إنَّك كُنْت غَفَّارًا،
فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا»
(2/325)
[فَصْلٌ شَرْط صَلَاة الِاسْتِسْقَاء]
(1482) فَصْلٌ: وَهَلْ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الصَّلَاةِ إذْنُ الْإِمَامِ؟
عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُسْتَحَبُّ إلَّا بِخُرُوجِ
الْإِمَامِ، أَوْ رَجُلٍ مِنْ قِبَلِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِذَا
خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ دَعَوْا، وَانْصَرَفُوا بِلَا صَلَاةٍ
وَلَا خُطْبَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَعَنْهُ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ
لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَخْطُبُ بِهِمْ أَحَدُهُمْ. فَعَلَى هَذِهِ
الرِّوَايَةِ يَكُونُ الِاسْتِسْقَاءُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ؛
مُقِيمٍ، وَمُسَافِرٍ، وَأَهْلِ الْقُرَى، وَالْأَعْرَابِ؛ لِأَنَّهَا
صَلَاةُ نَافِلَةٍ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْكُسُوفِ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ بِهَا، وَإِنَّمَا فَعَلَهَا عَلَى
صِفَةٍ، فَلَا يَتَعَدَّى تِلْكَ الصِّفَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّاهَا
بِأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَا تُشْرَعُ
إلَّا فِي مِثْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ.
[فَصْلٌ يَسْتَسْقِي بِمِنْ ظُهْر صَلَاحه]
(1483) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَسْقَى بِمَنْ ظَهَرَ صَلَاحُهُ؛
لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى إجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: اسْتَسْقَى عُمَرُ
عَامَ الرَّمَادَةِ بِالْعَبَّاسِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا عَمُّ
نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَتَوَجَّهُ إلَيْك بِهِ
فَاسْقِنَا. فَمَا بَرِحُوا حَتَّى سَقَاهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَلَمَّا جَلَسَ عَلَى
الْمِنْبَرِ، قَالَ: أَيْنَ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ؟
فَقَامَ يَزِيدُ، فَدَعَاهُ مُعَاوِيَةُ، فَأَجْلَسَهُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَشْفِعُ إلَيْك بِخَيْرِنَا
وَأَفْضَلِنَا يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ، يَا يَزِيدُ، ارْفَعْ يَدَيْكَ.
فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَثَارَتْ فِي الْغَرْبِ
سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، وَهَبَّ لَهَا رِيحٌ، فَسُقُوا حَتَّى كَادُوا
لَا يَبْلُغُونَ مَنَازِلَهُمْ. وَاسْتَسْقَى بِهِ الضَّحَّاكُ مَرَّةً
أُخْرَى.
[مَسْأَلَةٌ كم مَرَّةً يَخْرُجُونَ لِلِاسْتِسْقَاءِ]
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ سُقُوا، وَإِلَّا عَادُوا فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي وَالثَّالِثِ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا يَخْرُجُونَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخْرُجْ إلَّا
مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ، فَإِذَا
فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ ذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَوْا، وَيَدْعُو
الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيُؤَمِّنُ النَّاسُ.
وَلَنَا، أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَقَدْ
جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» .
وَأَمَّا النَّبِيُّ فَلَمْ يَخْرُجْ ثَانِيًا؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ
الْخُرُوجِ بِإِجَابَتِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَالْخُرُوجُ فِي الْمَرَّةِ
الْأُولَى آكَدُ مِمَّا بَعْدَهَا؛ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِهِ.
(2/326)
[فَصْلٌ الدُّعَاء عِنْد نُزُول الْغَيْث]
(1485) فَصْلٌ: وَإِنْ تَأَهَّبُوا لِلْخُرُوجِ، فَسُقُوا قَبْلَ
خُرُوجِهِمْ، لَمْ يَخْرُجُوا، وَشَكَرُوا اللَّهَ عَلَى نِعْمَتِهِ،
وَسَأَلُوهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِنْ خَرَجُوا فَسُقُوا قَبْلَ
أَنْ يُصَلُّوا، صَلَّوْا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَمِدُوهُ
وَدَعَوْهُ. وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ؛ لِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
«اُطْلُبُوا اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ ثَلَاثٍ: عِنْدَ الْتِقَاءِ
الْجُيُوشِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَنُزُولِ الْغَيْثِ» . وَعَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَأَى الْمَطَرَ، قَالَ: صَيِّبًا
نَافِعًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبّ أَنْ يَقِف فِي أَوَّل الْمَطَر وَيَخْرُج رَحْله
لِيُصِيبَهُ الْمَطَر]
(1486) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ فِي أَوَّلِ الْمَطَرِ،
وَيُخْرِجَ رَحْلَهُ؛ لِيُصِيبَهُ الْمَطَرُ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ «، أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْزِلْ عَنْ
مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْنَا الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَنْ لِحْيَتِهِ.»
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ إذَا
أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ قَالَ لِغُلَامِهِ. أَخْرِجْ رَحْلِي وَفِرَاشِي
يُصِبْهُ الْمَطَرُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ إذَا سَالَ
السَّيْلُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ إذَا سَالَ السَّيْلُ يَقُول: اُخْرُجُوا بِنَا
إلَى هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ طَهُورًا، فَنَتَطَهَّرَ» .
[فَصْلٌ يُسْتَحَبّ أَنْ يَسْتَسْقُوا عَقِيب صَلَوَاتهمْ]
(1487) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَسْقُوا عَقِيبَ صَلَوَاتِهِمْ،
وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ يَدْعُو الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيُؤَمِّنُ
النَّاسُ. قَالَ الْقَاضِي: الِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ،
أَكْمَلُهَا الْخُرُوجُ وَالصَّلَاةُ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَيَلِيهِ
اسْتِسْقَاءُ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ لِمَا
رُوِيَ، «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمًا، ثُمَّ
قَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ
السُّبُلُ فَادْعُ اللَّه يُغِثْنَا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا،
اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» .
«قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاَللَّهِ مَا يُرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ
وَلَا قَزَعَةٍ وَلَا شَيْءٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ
وَلَا دَارٍ، فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ،
فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ، انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلَا
وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ ذَلِكَ
الْبَابِ رَجُلٌ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا،
وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتْ
السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا. قَالَ فَرَفَعَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا،
(2/327)
اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَالْآكَامِ
وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. قَالَ: فَانْقَطَعَتْ،
وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى عَقِيبَ صَلَوَاتِهِمْ، وَفِي
خَلَوَاتِهِمْ.
[فَصْلٌ كُثْر الْمَطَر بَعْد طَلَب الِاسْتِسْقَاء]
(1488) فَصْلٌ: وَإِذَا كَثُرَ الْمَطَرُ بِحَيْثُ يَضُرُّهُمْ أَوْ
مِيَاهُ الْعُيُونِ، دَعَوْا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخَفِّفَهُ،
وَيَصْرِفَ عَنْهُمْ مَضَرَّتَهُ، وَيَجْعَلَهُ فِي أَمَاكِنَ تَنْفَعُ
وَلَا تَضُرُّ، كَدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ بِزِيَادَةِ
الْمَطَرِ أَحَدُ الضَّرَرَيْنِ، فَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِإِزَالَتِهِ
كَانْقِطَاعِهِ.
[مَسْأَلَةٌ خَرَجَ أَهْل الذِّمَّة لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاء مَعَ
الْمُسْلِمِينَ]
(1489) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِنْ خَرَجَ مَعَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَمْ
يُمْنَعُوا وَأُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا مُنْفَرِدِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ)
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛
لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَبَدَّلُوا
نِعْمَتَهُ كُفْرًا، فَهُمْ بَعِيدُونَ مِنْ الْإِجَابَةِ، وَإِنْ أُغِيثَ
الْمُسْلِمُونَ فَرُبَّمَا قَالُوا: هَذَا حَصَلَ بِدُعَائِنَا
وَإِجَابَتِنَا.
وَإِنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ
مِنْ رَبِّهِمْ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ
يُجِيبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فِي
الدُّنْيَا، كَمَا ضَمِنَ أَرْزَاقَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمَرُوا
بِالِانْفِرَادِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ، فَيَعُمَّ مَنْ حَضَرَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَ عَادٍ
اسْتَسْقَوْا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا،
فَأَهْلَكَتْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعُوا الْخُرُوجَ
يَوْمَ يَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ
السُّقْيَا بِدُعَائِهِمْ.
قُلْنَا: وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَّفِقَ نُزُولُ الْغَيْثِ يَوْمَ
يَخْرُجُونَ وَحْدَهُمْ، فَيَكُونُ أَعْظَمَ لِفِتْنَتِهِمْ، وَرُبَّمَا
افْتَتَنَ غَيْرُهُمْ بِهِمْ.
(2/328)
|