المغني
لابن قدامة [بَاب مَا يَتَوَقَّى الْمُحْرِم وَمَا
أُبِيحَ لَهُ] [مَسْأَلَةٌ يَتَوَقَّى فِي إحْرَامِهِ مَا نَهَاهُ اللَّهُ
عَنْهُ]
ُ (2318) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِم: (وَيَتَوَقَّى فِي إحْرَامِهِ
مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْ الرَّفَثِ وَهُوَ الْجِمَاعُ،
وَالْفُسُوقِ، وَهُوَ السِّبَابُ، وَالْجِدَالِ، وَهُوَ الْمِرَاءُ)
يَعْنِي بِقَوْلِهِ (مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ) قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . وَهَذَا
صِيغَتُهُ صِيغَةُ النَّفْيِ أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ، كَقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .
وَالرَّفَثُ: هُوَ الْجِمَاعُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ
عُمَرَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ،
وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: الرَّفَثُ: غَشَيَانُ
النِّسَاءِ، وَالتَّقْبِيلُ، وَالْغَمْزُ، وَأَنْ يَعْرِضَ لَهَا
بِالْفُحْشِ مِنْ الْكَلَامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّفَثُ لَغَا
الْكَلَامِ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْعَجَّاجِ: عَنْ اللَّغَا وَرَفَثِ
التَّكَلُّمِ وَقِيلَ: الرَّفَثُ؛ هُوَ مَا يُكَنَّى عَنْهُ مِنْ ذِكْرِ
الْجِمَاعِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَنْشَدَ بَيْتًا فِيهِ
التَّصْرِيحُ بِمَا يُكَنَّى عَنْهُ مِنْ الْجِمَاعِ وَهُوَ مُحْرِمٌ،
فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّمَا الرَّفَثُ مَا رُوجِعَ بِهِ
النِّسَاءُ. وَفِي لَفْظٍ: مَا قِيلَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ النِّسَاءِ.
وَكُلُّ مَا فُسِّرَ بِهِ الرَّفَثُ يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ
يَجْتَنِبَهُ، إلَّا أَنَّهُ فِي الْجِمَاعِ أَظْهَرُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا
مِنْ تَفْسِيرِ الْأَئِمَّةِ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي
الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فَأَمَّا الْفُسُوقُ: فَهُوَ السِّبَابُ؛
لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سِبَابُ
الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْفُسُوقُ
الْمَعَاصِي. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ،
وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَالُوا أَيْضًا: الْجِدَالُ الْمِرَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ تُمَارِيَ صَاحِبَك حَتَّى تُغْضِبَهُ.
وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ
يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ، كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا
جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . أَيْ: لَا مُجَادَلَةَ، وَلَا شَكَّ
فِي الْحَجِّ أَنَّهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى.
[مَسْأَلَة يُسْتَحَبّ لِلْمُحْرِمِ قِلَّة الْكَلَام إلَّا فِيمَا
يَنْفَع]
(2319) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ قِلَّةُ الْكَلَامِ، إلَّا
فِيمَا يَنْفَعُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ كَانَ إذَا
أَحْرَمَ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ صَمَّاءُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ قِلَّةَ
الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ، صِيَانَةً
لِنَفْسِهِ عَنْ اللَّغْوِ، وَالْوُقُوعِ فِي الْكَذِبِ، وَمَا لَا
يَحِلُّ، فَإِنَّ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَفِي
الْحَدِيثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . قَالَ
(3/277)
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ «حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ،
تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِيَ فِي (الْمُسْنَدِ) ،
عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: أُصُولُ السُّنَنِ أَرْبَعَةُ
أَحَادِيثَ، هَذَا أَحَدُهَا.
وَهَذَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا؛ لِأَنَّهُ حَالُ
عِبَادَةٍ وَاسْتِشْعَارٍ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُشْبِهُ
الِاعْتِكَافَ، وَقَدْ احْتَجَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنَّ شُرَيْحًا،
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، كَانَ إذَا أَحْرَمَ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ صَمَّاءُ.
فَيُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَذِكْرِ
اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ،
أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَعْلِيمٍ لِجَاهِلٍ، أَوْ يَأْمُرَ
بِحَاجَتِهِ، أَوْ يَسْكُتَ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ،
أَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا لَا يَقْبُحُ، فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلَا يُكْثِرُ،
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ عَلَى
نَاقَةٍ لَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ:
كَأَنَّ رَاكِبَهَا غُصْنٌ بِمِرْوَحَةٍ ... إذَا تَدَلَّتْ بِهِ أَوْ
شَارِبٌ ثَمِلُ
اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ،
وَالْفَضِيلَةُ الْأَوَّلُ.
[مَسْأَلَة لَا يَتَفَلَّى الْمُحْرِم وَلَا يَقْتُل الْقَمْل وَيْحك
رَأْسَهُ وَجَسَده حَكَّا رَفِيقًا]
(2320) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَفَلَّى الْمُحْرِمُ، وَلَا يَقْتُلُ
الْقَمْلَ، وَيَحُكُّ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ حَكًّا رَفِيقًا) اخْتَلَفَتْ
الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي إبَاحَةِ قَتْلِ
الْقَمْلِ؛ فَعَنْهُ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْثَرِ الْهَوَامِّ
أَذًى، فَأُبِيحَ قَتْلُهُ، كَالْبَرَاغِيثِ وَسَائِرِ مَا يُؤْذِي،
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ
فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» . يَدُلُّ بِمَعْنَاهُ
عَلَى إبَاحَةِ قَتْلِ كُلِّ مَا يُؤْذِي بَنِي آدَمَ فِي أَنْفُسِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ. وَعَنْهُ أَنَّ قَتْلَهُ مُحَرَّمٌ. وَهُوَ ظَاهِرُ
كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَفَّهُ بِإِزَالَتِهِ عَنْهُ،
فَحُرِّمَ كَقَطْعِ الشَّعْرِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ
عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: احْلِقْ رَأْسَك» . فَلَوْ كَانَ قَتْلُ
الْقَمْلِ أَوْ إزَالَتُهُ مُبَاحًا، لَمْ يَكُنْ كَعْبٌ لِيَتْرُكهُ
حَتَّى يَصِيرَ كَذَلِكَ، أَوْ لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِإِزَالَتِهِ خَاصَّةً.
وَالصِّئْبَانُ كَالْقَمْلِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَتْلِ
الْقَمْلِ، أَوْ إزَالَتِهِ بِإِلْقَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ قَتْلِهِ
بِالزِّئْبَقِ، فَإِنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَحْرُمْ لِحُرْمَتِهِ، لَكِنْ لِمَا
فِيهِ مِنْ التَّرَفُّهِ، فَعَمَّ الْمَنْعُ إزَالَتَهُ كَيْفَمَا كَانَتْ.
وَلَا يَتَفَلَّى، فَإِنَّ التَّفَلِّيَ عِبَارَةٌ عَنْ إزَالَةِ
الْقَمْلِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَيَجُوزُ لَهُ حَكُّ رَأْسِهِ،
وَيَرْفُقُ فِي الْحَكِّ، كَيْ لَا يَقْطَعَ شَعْرًا، أَوْ يَقْتُلَ
قَمْلَةً، فَإِنْ حَكَّ فَرَأَى فِي يَده شَعْرًا، أَحْبَبْنَا أَنْ
يَفْدِيَهُ احْتِيَاطًا، وَلَا يَجِبُ
(3/278)
عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ
قَلَعَهُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ
فِي الْقَمْلِ الَّذِي فِي شَعْرِهِ، فَأَمَّا مَا أَلْقَاهُ مِنْ ظَاهِرِ
بَدَنِهِ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ. (2321)
فَصْلٌ: فَإِنْ خَالَفَ وَتَفَلَّى، أَوْ قَتَلَ قَمْلًا، فَلَا فِدْيَةَ
فِيهِ؛ فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ، قَدْ أَذْهَبَ
قَمْلًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا
وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِحَلْقِ الشَّعْرِ، وَلِأَنَّ الْقَمْلَ لَا قِيمَةَ
لَهُ، فَأَشْبَهَ الْبَعُوضَ وَالْبَرَاغِيثَ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ
بِصَيْدٍ، وَلَا هُوَ مَأْكُولٌ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: هِيَ
أَهْوَنُ مَقْتُولٍ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ مُحْرِمٍ أَلْقَى
قَمْلَةً، ثُمَّ طَلَبَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا. فَقَالَ: تِلْكَ ضَالَّةٌ لَا
تُبْتَغَى. وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ،
وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ قَتَلَ قَمْلَةً، قَالَ: يُطْعِمُ شَيْئًا.
فَعَلَى هَذَا أَيُّ شَيْءٍ تَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَاهُ، سَوَاءٌ قَتَلَ
كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ
إِسْحَاقُ: تَمْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: حَفْنَةٌ مِنْ
طَعَامٍ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: قَبْضَةٌ مِنْ
طَعَامٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى مَا قُلْنَاهُ،
فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ التَّقْدِيرَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى
التَّقْرِيبِ لِأَقَلِّ مَا يُتَصَدَّقُ بِهِ.
[فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَبَدَنَهُ
بِرِفْقٍ]
فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَبَدَنَهُ
بِرِفْقٍ، فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَابْنُهُ، وَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ،
وَجَابِرٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ،
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَكَرِهَ مَالِكٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْطِسَ فِي
الْمَاءِ، وَيُغَيِّبَ فِيهِ رَأْسَهُ. وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ
ذَلِكَ سِتْرٌ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ
ذَلِكَ بِسِتْرٍ، وَلِهَذَا لَا يَقُومُ مَقَامَ السُّتْرَةِ فِي
الصَّلَاةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رُبَّمَا قَالَ لِي
عُمَرُ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ بِالْجُحْفَةِ: تَعَالَ أُبَاقِيك أَيُّنَا
أَطْوَلُ نَفَسًا فِي الْمَاءِ. وَقَالَ: رُبَّمَا قَامَسْت عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ بِالْجُحْفَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِسِتْرٍ مُعْتَادٍ، أَشْبَهَ صَبَّ الْمَاءِ عَلَيْهِ،
أَوْ وَضْعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، قَالَ: «أَرْسَلَنِي ابْنُ
عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، فَأَتَيْته وَهُوَ
يَغْتَسِلُ، فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: أَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ أَرْسَلَنِي إلَيْك عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ يَسْأَلُك: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ
(3/279)
أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ،
فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ
عَلَيْهِ الْمَاءَ: صُبَّ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّك رَأْسَهُ
بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ» .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ
يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ.
[فَصْلٌ يَكْرَه لِلْمُحْرِمِ غَسَلَ رَأْسَهُ بِالسِّدْرِ وَالْخَطْمَيْ
وَنَحْوهمَا]
(2323) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ لَهُ غَسْلُ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ
وَالْخِطْمِيِّ وَنَحْوِهِمَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الشُّعْثِ،
وَالتَّعَرُّضِ لِقَلْعِ الشَّعْرِ. وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. فَإِنْ فَعَلَ
فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ،
وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْخِطْمِيَّ
تُسْتَلَذُّ رَائِحَتُهُ، وَتُزِيلُ الشُّعْثَ، وَتَقْتُلُ الْهَوَامَّ،
فَوَجَبَتْ بِهِ الْفِدْيَةُ كَالْوَرْسِ.
وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ،
فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَّهُ بَعِيرُهُ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ
وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا
تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»
. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَرَ بِغَسْلِهِ بِالسِّدْرِ، مَعَ إثْبَاتِ
حُكْمِ الْإِحْرَامِ فِي حَقِّهِ، وَالْخِطْمِيُّ كَالسِّدْرِ. وَلِأَنَّهُ
لَيْسَ بِطِيبٍ، فَلَمْ تَجِبْ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ كَالتُّرَابِ.
وَقَوْلُهُمْ: تُسْتَلَذُّ رَائِحَتُهُ. مَمْنُوعٌ، ثُمَّ يَبْطُلُ
بِالْفَاكِهَةِ وَبَعْضِ التُّرَابِ. وَإِزَالَةُ الشُّعْثِ تَحْصُلُ
بِذَلِكَ أَيْضًا، وَقَتْلُ الْهَوَامِّ لَا يُعْلَمُ حُصُولُهُ، وَلَا
يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْوَرْسِ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ، وَلِذَلِكَ لَوْ
اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ الْغَسْلِ، أَوْ فِي ثَوْبٍ لَمُنِعَ مِنْهُ،
بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
[مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْقُمَّص وَالْعَمَائِمِ
وَالسَّرَاوِيلَات وَالْخِفَافِ وَالْبَرَانِسِ]
(2324) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَلْبَسُ الْقُمَّصَ، وَلَا
السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْبُرْنُسَ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ
أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ
الْقُمَّصِ، وَالْعَمَائِمِ، وَالسَّرَاوِيلَاتِ، وَالْخِفَافِ،
وَالْبَرَانِسِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، «أَنَّ
رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَلْبَسُ الْقُمَّصَ، وَلَا
الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا
الْخِفَافَ، إلَّا أَحَدًا لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ
الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا
(3/280)
أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا
يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا
الْوَرْسُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
نَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ، وَأَلْحَقَ بِهَا أَهْلُ الْعِلْمِ مَا فِي مَعْنَاهَا،
مِثْلَ الْجُبَّةِ، وَالدُّرَّاعَةِ، وَالثِّيَابِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ سَتْرُ بَدَنِهِ بِمَا عُمِلَ عَلَى قَدْرِهِ، وَلَا
سَتْرُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِمَا عُمِلَ عَلَى قَدْرِهِ، كَالْقَمِيصِ
لِلْبَدَنِ، وَالسَّرَاوِيلِ لِبَعْضِ الْبَدَنِ، وَالْقُفَّازَيْنِ
لِلْيَدَيْنِ، وَالْخُفَّيْنِ لِلرِّجْلَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ
فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلَافٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ
لِبَاسُ شَيْءٍ مِنْ الْمَخِيطِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ،
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذُّكُورُ دُونَ النِّسَاءِ.
[مَسْأَلَة لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِم إزَارًا]
(2325) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا، لَبِسَ
السَّرَاوِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدَ نَعْلَيْنِ، لَبِسَ الْخُفَّيْنِ، وَلَا
يَقْطَعْهُمَا، وَلَا فِدَاءَ عَلَيْهِ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ
أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ السَّرَاوِيلَ،
إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، وَالْخُفَّيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ.
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَغَيْرُهُمْ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: «سَمِعْت النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ، يَقُولُ: مَنْ
لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ
إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى جَابِرٌ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مِثْلَ ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي
لُبْسِهِمَا عِنْدَ ذَلِكَ، فِي قَوْلِ مَنْ سَمَّيْنَا، إلَّا مَالِكًا
وَأَبَا حَنِيفَةَ قَالَا: عَلَى كُلِّ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ
الْفِدْيَةُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَلِأَنَّ مَا
وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ مَعَ وُجُودِ الْإِزَارِ، وَجَبَتْ مَعَ
عَدَمِهِ، كَالْقَمِيصِ.
وَلَنَا، خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِبَاحَةِ، ظَاهِرٌ
فِي إسْقَاطِ الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِلُبْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ
فِدْيَةً، وَلِأَنَّهُ يَخْتَصُّ لُبْسُهُ بِحَالَةِ عَدَمِ غَيْرِهِ،
فَلَمْ تَجِبْ بِهِ فِدْيَةٌ، كَالْخُفَّيْنِ الْمَقْطُوعَيْنِ. وَحَدِيثُ
ابْنِ عُمَرَ مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ. فَأَمَّا
الْقَمِيصُ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ،
وَيَسْتَتِرَ، بِخِلَافِ السَّرَاوِيلِ.
[فَصْلٌ إذَا لَبِسَ الْمُحْرِم الْخُفَّيْنِ]
(2326) فَصْلٌ: وَإِذَا لَبِسَ الْخُفَّيْنِ، لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ، لَمْ
يَلْزَمْهُ قَطْعُهُمَا، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ، وَيُرْوَى ذَلِكَ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ
عَطَاءٌ. وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ.
وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَقْطَعُهُمَا، حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ
الْكَعْبَيْنِ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، افْتَدَى. وَهَذَا
قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ
الرَّأْيِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ
(3/281)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ
الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا، حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ
الْكَعْبَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِزِيَادَةٍ
عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ
مَقْبُولَةٌ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعَجَبُ مِنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا، فَإِنَّهُ لَا
يَكَادُ يُخَالِفُ سُنَّةً تَبْلُغُهُ، وَقَلَّتْ سُنَّةٌ لَمْ تَبْلُغْهُ.
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ: (مَنْ لَمْ
يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ) . مَعَ قَوْلِ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَطْعُ الْخُفَّيْنِ فَسَادٌ، يَلْبَسُهُمَا
كَمَا هُمَا. مَعَ مُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ مَلْبُوسٌ أُبِيحَ
لِعَدَمِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ السَّرَاوِيلَ، وَقَطْعُهُ لَا يُخْرِجُهُ
عَنْ حَالَةِ الْحَظْرِ، فَإِنَّ لُبْسَ الْمَقْطُوعِ مُحَرَّمٌ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ، كَلُبْسِ الصَّحِيحِ، وَفِيهِ إتْلَافُ
مَالِهِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَنْ إضَاعَتِهِ. فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَقَدْ قِيلَ إنَّ
قَوْلَهُ: (وَلْيَقْطَعْهُمَا) مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ. كَذَلِكَ رَوَيْنَاهُ
فِي (أَمَالِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ بَشْرَانَ) ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ،
أَنَّ نَافِعًا قَالَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِلْحَدِيثِ: وَلْيَقْطَعْ
الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ
الْخُفَّيْنِ، وَلَا يَقْطَعَهُمَا» ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْتِي
بِقَطْعِهِمَا، قَالَتْ صَفِيَّةُ: فَلَمَّا أَخْبَرْته بِهَذَا رَجَعَ.
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ، فِي (شَرْحِهِ) بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، «أَنَّهُ طَافَ وَعَلَيْهِ خُفَّانِ، فَقَالَ
لَهُ عُمَرُ: وَالْخُفَّانِ مَعَ الْقَبَاءِ، فَقَالَ: قَدْ لَبِسْتُهُمَا
مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك. يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقَطْعِهِمَا
مَنْسُوخًا؛ فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَوَى الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا،
وَقَالَ: اُنْظُرُوا أَيَّهُمَا كَانَ قَبْلُ؛ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ. حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَبْلُ؛
لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، قَالَ: «نَادَى رَجُلٌ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي
الْمَسْجِدِ، يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ
الْإِحْرَامِ» .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ، يَقُولُ: مَنْ لَمْ
يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» . فَيَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِهِ
عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
الْقَطْعُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ، إذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ
الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ إطْلَاقِ
لُبْسِهِمَا لُبْسُهُمَا عَلَى حَالِهِمَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ.
وَالْأَوْلَى قَطْعُهُمَا، عَمَلًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَخُرُوجًا
مِنْ الْخِلَافِ، وَأَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ.
[فَصْلٌ لَبِسَ الْمُحْرِم الْمَقْطُوع مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ]
(2327) فَصْلٌ: فَإِنْ لَبِسَ الْمَقْطُوعَ، مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ،
فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَيْسَ لَهُ لُبْسُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
لُبْسُهُ مُحَرَّمًا، وَفِيهِ فِدْيَةٌ، لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَطْعِهِمَا، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ،
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ.
(3/282)
وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ فِي إبَاحَةِ لُبْسِهِمَا عَدَمَ
النَّعْلَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِمَا،
وَلِأَنَّهُ مَخِيطٌ لِعُضْوٍ عَلَى قَدْرِهِ، فَوَجَبَتْ عَلَى
الْمُحْرِمِ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِهِ، كَالْقُفَّازَيْنِ.
[فَصْلٌ لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِم النَّعْلَ الَّتِي لَهَا قَيْدٌ]
(2328) فَصْلٌ: فَأَمَّا اللَّالَكَةُ، وَالْجُمْجُمُ، وَنَحْوُهُمَا،
فَقِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ:
لَا يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَهَا قَيْدٌ. وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ
النَّعْلِ الَّتِي لَهَا قَيْدٌ.
وَقَدْ قَالَ فِي رَأْسِ الْخُفِّ الصَّغِيرِ: لَا يَلْبَسُهُ. وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْقَدَمَ، وَقَدْ عُمِلَ لَهَا عَلَى قَدْرِهَا،
فَأَشْبَهَ الْخُفَّ فَإِنْ عَدِمَ النَّعْلَيْنِ، كَانَ لَهُ لُبْسُ
ذَلِكَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ لُبْسَ الْخُفِّ عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا دُونَ
الْخُفِّ أَوْلَى.
[فَصْلٌ النَّعْل يُبَاح لَبِسَهَا لِلْمُحْرِمِ كَيْفَمَا كَانَتْ]
(2329) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّعْلُ، فَيُبَاحُ لُبْسُهَا كَيْفَمَا
كَانَتْ، وَلَا يَجِبُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ إبَاحَتَهَا
وَرَدَتْ مُطْلَقًا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْقَيْدِ فِي النَّعْلِ:
يَفْتَدِي؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْرِفُ النِّعَالَ هَكَذَا.
وَقَالَ: إذَا أَحْرَمْت فَاقْطَعْ الْمَحْمَلَ الَّذِي عَلَى النِّعَالِ،
وَالْعَقِبَ الَّذِي يُجْعَلُ لِلنَّعْلِ، فَقَدْ كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ:
فِيهِ دَمٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي (الْإِرْشَادِ) : فِي
الْقَيْدِ وَالْعَقِبِ الْفِدْيَةُ، وَالْقَيْدُ: هُوَ السَّيْرُ
الْمُعْتَرِضُ عَلَى الزِّمَامِ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كَرِهَهُمَا
إذَا كَانَا عَرِيضَيْنِ.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ قَطْعُ الْخُفَّيْنِ
السَّاتِرَيْنِ لِلْقَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ فَقَطْعُ سَيْرِ النَّعْلِ
أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ مُعْتَادٌ فِي النَّعْلِ،
فَلَمْ تَجِبْ إزَالَتُهُ، كَسَائِرِ سُيُورِهَا، وَلِأَنَّ قَطْعَ
الْقَيْدِ وَالْعَقِبِ رُبَّمَا تَعَذَّرَ مَعَهُ الْمَشْيُ فِي
النَّعْلَيْنِ؛ لِسُقُوطِهِمَا بِزَوَالِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَجِبْ، كَقَطْعِ
الْقُبَالِ.
[فَصْلٌ وَجَدَ الْمُحْرِم نَعْلًا لَمْ يُمَكِّنهُ لَبِسَهَا]
(2330) فَصْلٌ: وَإِنْ وَجَدَ نَعْلًا لَمْ يُمْكِنْهُ لُبْسُهَا، فَلَهُ
لُبْسُ الْخُفِّ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ
اسْتِعْمَالُهُ كَالْمَعْدُومِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ النَّعْلُ لِغَيْرِهِ،
أَوْ صَغِيرَةً، وَكَالْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ، وَالرَّقَبَةِ الَّتِي لَا
يُمْكِنُهُ عِتْقُهَا، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ لُبْسِهَا قَامَ مَقَامَ
الْعَدَمِ، فِي إبَاحَةِ لُبْسِ الْخُفِّ، فَكَذَلِكَ فِي إسْقَاطِ
الْفِدْيَةِ. وَالْمَنْصُوصُ أَنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةِ؛ لِقَوْلِهِ:
(مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ) . وَهَذَا
وَاجِدٌ.
[فَصْلٌ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِد عَلَيْهِ الرِّدَاء وَلَا غَيْره
إلَّا الْإِزَار وَالْهِمْيَان]
(2331) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الرِّدَاءَ،
وَلَا غَيْرَهُ، إلَّا الْإِزَارَ وَالْهِمْيَانَ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَجْعَلَ
(3/283)
لِذَلِكَ زِرًّا وَعُرْوَةً، وَلَا
يُخْلِلْهُ بِشَوْكَةٍ وَلَا إبْرَةٍ وَلَا خَيْطٍ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ
الْمَخِيطِ. رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ ابْنِ
عُمَرَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ وَأَنَا مَعَهُ، أُخَالِفُ بَيْنَ
طَرَفَيْ ثَوْبِي مِنْ وَرَائِي، ثُمَّ أَعْقِدُهُ؟ وَهُوَ مُحْرِمٌ،
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَعْقِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا. وَعَنْ أَبِي
مَعْبَدٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: يَا
أَبَا مَعْبَدٍ، زِرَّ عَلَيَّ طَيْلَسَانِي. وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ
لَهُ: كُنْت تَكْرَهُ هَذَا. قَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَفْتَدِيَ. وَلَا
بَأْسَ أَنْ يَتَّشِحَ بِالْقَمِيصِ، وَيَرْتَدِيَ بِهِ، وَيَرْتَدِيَ
بِرِدَاءِ مُوَصَّلٍ، وَلَا يَعْقِدُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ
الْمَخِيطُ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ.
[فَصْلٌ يَجُوز لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِد إزَاره عَلَيْهِ]
(2332) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ
يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فَيُبَاحُ، كَاللِّبَاسِ
لِلْمَرْأَةِ. وَإِنْ شَدَّ وَسَطَهُ بِالْمِنْدِيلِ، أَوْ بِحَبْلٍ، أَوْ
سَرَاوِيلَ، جَازَ إذَا لَمْ يَعْقِدْهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مُحْرِمٍ
حَزَمَ عِمَامَةً عَلَى وَسَطِهِ: لَا تَعْقِدْهَا. وَيُدْخِلُ بَعْضَهَا
فِي بَعْضٍ. قَالَ طَاوُسٌ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ،
وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَدْ شَدَّهَا عَلَى وَسَطِهِ، فَأَدْخَلَهَا
هَكَذَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشُقَّ أَسْفَلَ إزَارِهِ نِصْفَيْنِ،
وَيَعْقِدَ كُلَّ نِصْفٍ عَلَى سَاقٍ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السَّرَاوِيلَ.
وَلَا يَلْبَسُ الرَّانَّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ مَعْمُولٌ
عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ الْمَلْبُوسِ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْخُفَّ.
[مَسْأَلَة لِبْسُ الْهِمْيَانِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ]
(2333) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ، وَيُدْخِلُ
السُّيُورَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَلَا يَعْقِدُهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ
أَنَّ لُبْسَ الْهِمْيَانِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ
أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ،
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ، وَطَاوُسٍ،
وَالْقَاسِمِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي
ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجَازَ ذَلِكَ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ
الْأَمْصَارِ، مُتَقَدِّمُوهُمْ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ. وَمَتَى أَمْكَنَهُ
أَنْ يُدْخِلَ السُّيُورَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، وَيَثْبُتَ بِذَلِكَ، لَمْ
يَعْقِدْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى عَقْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ
إلَّا بِعَقْدِهِ عَقَدَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ
إِسْحَاقَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا يُرَخِّصُونَ فِي عَقْدِ
الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ، وَلَا يُرَخِّصُونَ فِي عَقْدِ غَيْرِهِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَوْثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك.
وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي (الشَّرْحِ) ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:
«رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِلْمُحْرِمِ فِي الْهِمْيَانِ أَنْ يَرْبِطَهُ، إذَا كَانَتْ فِيهِ
نَفَقَتُهُ.» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْثِقُوا عَلَيْكُمْ
نَفَقَاتِكُمْ. وَرَخَّصَ فِي الْخَاتَمِ وَالْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحْرِمِ
يَشُدُّ الْهِمْيَانَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إذَا كَانَتْ
فِيهِ نَفَقَتُهُ،
(3/284)
يَسْتَوْثِقُ مِنْ نَفَقَتِهِ. وَلِأَنَّهُ
مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى شَدِّهِ، فَجَازَ، كَعِقْدِ الْإِزَارِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْهِمْيَانِ نَفَقَةٌ، لَمْ يَجُزْ عَقْدُهُ،
لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْهِمْيَانَ
وَالْمِنْطَقَةَ لِلْمُحْرِمِ، وَكَرِهَهُ نَافِعٌ مَوْلَاهُ. وَهُوَ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَيْسَ فِيهِ نَفَقَةٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
الرُّخْصَةِ فِيمَا فِيهِ النَّفَقَةُ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمُحْرِمِ
يَلْبَسُ الْمِنْطَقَةَ مِنْ وَجَعِ الظَّهْرِ، أَوْ حَاجَةٍ إلَيْهَا.
قَالَ: يَفْتَدِي. فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَا تَكُونُ مِثْلَ الْهِمْيَانِ؟
قَالَ: لَا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمِنْطَقَةَ لِلْمُحْرِمِ، وَأَنَّهُ
أَبَاحَ شَدَّ الْهِمْيَانِ، إذَا كَانَتْ فِيهِ النَّفَقَةُ، وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهِمْيَانَ تَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ،
وَالْمِنْطَقَةُ لَا نَفَقَةَ فِيهَا، فَأُبِيحَ شَدُّ مَا فِيهِ
النَّفَقَةُ، لِلْحَاجَةِ إلَى حِفْظِهَا، وَلَمْ يُبَحْ شَدُّ مَا سِوَى
ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ فِيهِمَا نَفَقَةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا
نَفَقَةٌ، فَهُمَا سَوَاءٌ.
وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ: أُوثِقْ عَلَيْك
نَفَقَتَك. فَرَخَّصَتْ فِيهَا إذَا كَانَتْ فِيهَا النَّفَقَةُ. وَلَمْ
يُبِحْ أَحْمَدُ شَدَّ الْمِنْطَقَةِ لِوَجَعِ الظَّهْرِ، إلَّا أَنْ
يَفْتَدِيَ؛ لِأَنَّ الْمِنْطَقَةَ لَيْسَتْ مُعَدَّةً لِذَلِكَ،
وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ فِي الْإِحْرَامِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ
نَفْسِهِ، أَشْبَهَ مَنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ لِدَفْعِ الْبَرْدِ، أَوْ
حَلَقَ رَأْسَهُ لِإِزَالَةِ أَذَى الْقَمْلِ، أَوْ تَطَيَّبَ لِأَجْلِ
الْمَرَضِ.
[مَسْأَلَة لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْتَجِم وَلَا يَقْطَع شَعْرًا]
(2334) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ، وَلَا يَقْطَعَ
شَعْرًا) أَمَّا الْحِجَامَةُ إذَا لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا فَمُبَاحَةٌ مِنْ
غَيْرِ فِدْيَةٍ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُ تَدَاوٍ بِإِخْرَاجِ
دَمٍ، فَأَشْبَهَ الْفَصْدَ، وَبَطَّ الْجُرْحِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحْتَجِمُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ
يَرَى فِي الْحِجَامَةِ دَمًا. وَلَنَا، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى «أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ
مُحْرِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِدْيَةً، وَلِأَنَّهُ
لَا يَتَرَفَّهُ بِذَلِكَ، فَأَشْبَهَ شُرْبَ الْأَدْوِيَةِ. وَكَذَلِكَ
الْحُكْمُ فِي قَطْعِ الْعُضْوِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْخِتَانِ كُلُّ
ذَلِكَ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ. فَإِنْ احْتَاجَ فِي الْحِجَامَةِ
إلَى قَطْعِ شَعْرٍ، فَلَهُ قَطْعُهُ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
بُحَيْنَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ، فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَسَطَ
رَأْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ قَطْعُ
الشَّعْرِ. وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ حَلْقُ الشَّعْرِ لِإِزَالَةِ أَذَى
الْقَمْلِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَبِهَذَا قَالَ
مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ
الْمُنْذِرِ.
وَقَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. وَلَنَا، قَوْله
تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] . الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ حَلْقُ شَعْرٍ
لِإِزَالَةِ ضَرَرِ غَيْرِهِ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ
حَلَقَهُ لِإِزَالَةِ قَمْلِهِ. فَأَمَّا إنْ قَطَعَ عُضْوًا عَلَيْهِ
شَعْرٌ، أَوْ جِلْدَةً عَلَيْهَا شَعْرٌ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ،
لِأَنَّهُ زَالَ تَبَعًا لِمَا لَا فِدْيَةَ فِيهِ.
(3/285)
[مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ إذَا احْتَاجَ إلَى
تَقَلُّدِ السَّيْفِ فَلَهُ ذَلِكَ]
(2335) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَتَقَلَّدُ بِالسَّيْفِ عِنْدَ
الضَّرُورَةِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا احْتَاجَ إلَى
تَقَلُّدِ السَّيْفِ، فَلَهُ ذَلِكَ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَأَبَاحَ
عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ تَقَلُّدَهُ. وَكَرِهَهُ
الْحَسَنُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ
عَنْ الْبَرَاءِ، قَالَ: «لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لَا
يَدْخُلُوهَا إلَّا بِجُلْبَانِ السِّلَاحِ» . - الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ -
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إبَاحَةِ حَمْلِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُمْ
لَمْ يَكُونُوا يَأْمَنُونَ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ،
وَيَخْفِرُوا الذِّمَّةَ، وَاشْتَرَطُوا حَمْلَ السِّلَاحِ فِي قِرَابِهِ.
فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا، إلَّا مِنْ
ضَرُورَةٍ.
وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: لَا يَحْمِلُ
الْمُحْرِمُ السِّلَاحَ فِي الْحَرَمِ. وَالْقِيَاسُ إبَاحَتُهُ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَلْبُوسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى
تَحْرِيمِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَمَلَ قِرْبَةً فِي عُنُقِهِ، لَا يَحْرُمُ
عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ
الْمُحْرِمِ يُلْقِي جِرَابَهُ فِي رَقَبَتِهِ، كَهَيْئَةِ الْقِرْبَةِ.
قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ.
[مَسْأَلَة إبَاحَةُ لُبْسِ الْقَبَاءِ لِلْمُحْرِمِ مَا لَمْ يُدْخِلْ
يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ]
(2336) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِنْ طَرَحَ عَلَى كَتِفَيْهِ الْقَبَاءَ
وَالدُّوَاجَ، فَلَا يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ) ظَاهِرُ هَذَا
اللَّفْظِ إبَاحَةُ لُبْسِ الْقَبَاءِ، مَا لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي
كُمَّيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَبِهِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: إذَا أَدْخَلَ كَتِفَيْهِ فِي
الْقَبَاءِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي
كُمَّيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَخِيطٌ
لَبِسَهُ الْمُحْرِمُ عَلَى الْعَادَةِ فِي لُبْسِهِ، فَلَزِمَتْهُ
الْفِدْيَةُ إذَا كَانَ عَامِدًا، كَالْقَمِيصِ. وَرَوَى ابْنُ
الْمُنْذِرِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نَهَى عَنْ لُبْسِ الْأَقْبِيَةِ» . وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، مَا
تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فِي مَسْأَلَةِ
إنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ
نَعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ. وَلِأَنَّ الْقَبَاءَ لَا يُحِيطُ
بِالْبَدَنِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ بِوَضْعِهِ عَلَى كَتِفَيْهِ،
إذَا لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ، كَالْقَمِيصِ يَتَّشِحُ بِهِ،
وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِالرِّدَاءِ الْمُوَصَّلِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ
عَلَى لُبْسِهِ مَعَ إدْخَالِ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ.
[مَسْأَلَة كَرَاهَة الِاسْتِظْلَالَ فِي الْمَحْمِلِ لِلْمُحْرِمِ
خَاصَّةً وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ]
(2337) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُظَلِّلُ عَلَى رَأْسِهِ فِي
الْمَحْمِلِ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ دَمٌ) كَرِهَ أَحْمَدُ
الِاسْتِظْلَالَ فِي الْمَحْمِلِ خَاصَّةً، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ،
كَالْهَوْدَجِ وَالْعَمَّارِيَّة وَالْكَبِيسَة وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى
الْبَعِيرِ. وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ
يَقُولُ: لَا يَسْتَظِلُّ أَلْبَتَّةَ. وَرَخَّصَ فِيهِ رَبِيعَةُ،
وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَطَاءٍ؛ لِمَا رَوَتْ أُمُّ
الْحُصَيْنِ، قَالَتْ: «حَجَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ،
(3/286)
فَرَأَيْت أُسَامَةَ وَبِلَالًا،
وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ
الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُ. وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّظَلُّلُ فِي الْبَيْتِ
وَالْخِبَاءِ، فَجَازَ فِي حَالِ الرُّكُوبِ، كَالْحَلَالِ، وَلِأَنَّ مَا
حَلَّ لِلْحَلَالِ حَلَّ لِلْمُحْرِمِ، إلَّا مَا قَامَ عَلَى تَحْرِيمِهِ
دَلِيلٌ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بُقُولِ ابْنِ عُمَرَ، رَوَى عَطَاءٌ قَالَ:
رَأَى ابْنُ عُمَرَ عَلَى رَحْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
رَبِيعَةَ عُودًا يَسْتُرُهُ مِنْ الشَّمْسِ، فَنَهَاهُ. وَعَنْ نَافِعٍ،
عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مُحْرِمًا عَلَى رَحْلٍ، قَدْ
رَفَعَ ثَوْبًا عَلَى عُودٍ يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْ الشَّمْسِ، فَقَالَ:
اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ. أَيْ اُبْرُزْ لِلشَّمْسِ. رَوَاهُمَا
الْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّهُ سَتَرَ بِمَا يَقْصِدُ بِهِ التَّرَفُّهَ،
أَشْبَهَ مَا لَوْ غَطَّاهُ. وَالْحَدِيثُ ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ، فَلَمْ
يَكْرَهْ أَنْ يَسْتَتِرَ بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا
يُقْصَدُ لِلِاسْتِدَامَةِ، وَالْهَوْدَجُ بِخِلَافِهِ، وَالْخَيْمَةُ
وَالْبَيْتُ يُرَادَانِ لِجَمْعِ الرَّحْلِ وَحِفْظِهِ، لَا لِلتَّرَفُّهِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ
تَنْزِيهٍ، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ
يَرَ ذَلِكَ حَرَامًا، وَلَا مُوجِبًا لِفِدْيَةٍ. قَالَ الْأَثْرَمُ:
سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُحْرِمِ يَسْتَظِلُّ عَلَى
الْمَحْمِلِ؟ قَالَ: لَا.
وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ. قِيلَ لَهُ:
فَإِنْ فَعَلَ يُهْرِيقُ دَمًا؟ قَالَ: أَمَّا الدَّمُ فَلَا. قِيلَ:
فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: عَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ: نَعَمْ،
أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَغْلَطُونَ فِيهِ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ؛
لِأَنَّهُ سَتَرَ رَأْسَهُ بِمَا يُسْتَدَامُ وَيُلَازِمُهُ غَالِبًا،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَتَرَهُ بِشَيْءٍ يُلَاقِيهِ. وَيُرْوَى عَنْ
الرِّيَاشِيِّ قَالَ: رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ الْمُعَذَّلِ فِي الْمَوْقِفِ،
فِي يَوْمٍ حُرّ شَدِيد، وَقَدْ ضُحَى لِلشَّمْسِ، فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا
الْفَضْلِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَلَوْ أَخَذْت
بِالتَّوَسُّعَةِ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
ضَحَّيْت لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ ... إذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي
الْقِيَامَةِ قَالِصَا
فَوَا أَسَفَا إنْ كَانَ سَعْيُك بَاطِلًا ... وَيَا حَسْرَتَا إنْ كَانَ
حَجُّك نَاقِصَا
"
[فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالسَّقْفِ وَالْحَائِطِ
وَالشَّجَرَةِ وَالْخِبَاءِ]
(2338) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالسَّقْفِ وَالْحَائِطِ
وَالشَّجَرَةِ وَالْخِبَاءِ، وَإِنْ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَا بَأْسَ
أَنْ يَطْرَحَ عَلَيْهَا ثَوْبًا يَسْتَظِلُّ بِهِ، عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ
الْعِلْمِ.
وَقَدْ صَحَّ بِهِ النَّقْلُ، فَإِنَّ جَابِرًا قَالَ فِي حَدِيثِ حَجَّةِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ
مِنْ شَعَرٍ، فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَأَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ
الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إذَا
زَاغَتْ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمَا.
وَلَا بَأْسَ أَيْضًا أَنْ يَنْصِبَ حِيَالَهُ ثَوْبًا يَقِيهِ الشَّمْسَ
وَالْبَرْدَ، إمَّا أَنْ يُمْسِكَهُ إنْسَانٌ، أَوْ يَرْفَعَهُ عَلَى
عُودٍ،
(3/287)
عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أُمِّ
الْحُصَيْنِ، «أَنَّ بِلَالًا أَوْ أُسَامَةَ كَانَ رَافِعًا ثَوْبًا
يَسْتُرُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ
الْحَرِّ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ، فَلَمْ
يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، كَالِاسْتِظْلَالِ بِحَائِطٍ.
[مَسْأَلَة تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَاصْطِيَادِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ]
(2339) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَلَا يَصِيدُهُ،
وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، حَلَالًا وَلَا حَرَامًا)
لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ
وَاصْطِيَادِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ
حُرُمًا} [المائدة: 96] . وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ إلَى
الصَّيْدِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ
«لَمَّا صَادَ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ، وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ، قَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: هَلْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ
إلَيْهَا؟» . وَفِي لَفْظٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ: «فَأَبْصَرُوا حِمَارًا
وَحْشِيًّا، وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي،
وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْته» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ
اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَسُؤَالُ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ: (هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ
أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟) يَدُلُّ عَلَى
تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ لَوْ وُجِدَ مِنْهُمْ. وَلِأَنَّهُ
تَسَبَّبَ إلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، فَحُرِّمَ، كَنَصْبِهِ الْأُحْبُولَةَ.
[فَصْلٌ لَا يَحِلّ لِلْمُحْرِمِ الْإِعَانَة عَلَى الصَّيْد]
(2340) فَصْلٌ: وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى الصَّيْدِ بِشَيْءٍ،
فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «ثُمَّ
رَكِبْت، وَنَسِيت السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقُلْت لَهُمْ: نَاوِلُونِي
السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، قَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاسْتَعَنْتهمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي» . وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الْإِعَانَةِ، وَالنَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَلِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى مُحَرَّمٍ، فَحُرِّمَ، كَالْإِعَانَةِ عَلَى
قَتْلِ الْآدَمِيِّ.
[فَصْلٌ دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى الصَّيْدِ فَأَتْلَفَهُ]
(2341) فَصْلٌ: وَيَضْمَنُ الصَّيْدَ بِالدَّلَالَةِ، فَإِذَا دَلَّ
الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى الصَّيْدِ فَأَتْلَفَهُ، فَالْجَزَاءُ كُلُّهُ
عَلَى الْمُحْرِمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ
وَمُجَاهِدٍ وَبَكْرٍ الْمُزَنِيّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ؛ لِأَنَّهُ
يَضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ، فَلَا يَضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ، كَالْآدَمِيِّ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ
يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟» وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ
يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إتْلَافِ الصَّيْدِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ،
كَمَا لَوْ نَصَبَ أُحْبُولَةً، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ
عَبَّاسٍ. وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ.
(3/288)
[فَصْلٌ دَلَّ الْمُحْرِم مُحْرِمًا عَلَى
الصَّيْد فَقَتَلَهُ]
(2342) فَصْلٌ: فَإِنْ دَلَّ مُحْرِمًا عَلَى الصَّيْدِ، فَقَتَلَهُ
فَالْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَارِثُ
الْعُكْلِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ؛
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ يَسْتَقِلُّ بِجَزَاءٍ كَامِلٍ
إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا. فَكَذَلِكَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَى الدَّالِ. وَلَنَا،
أَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءُ الْمُتْلَفِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ
الْجَزَاءُ وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مَا سَبَقَ،
وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَدْلُولِ ظَاهِرًا أَوْ
خَفِيًّا لَا يَرَاهُ إلَّا بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا عَلَى صَيْدٍ، ثُمَّ دَلَّ الْآخَرُ
آخَرَ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى عَشَرَةٍ، فَقَتَلَهُ الْعَاشِرُ، كَانَ
الْجَزَاءُ عَلَى جَمِيعِهِمْ. وَإِنْ قَتَلَهُ الْأَوَّلُ، لَمْ يَضْمَنْ
غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَلَا يُشَارِكُهُ
فِي ضَمَانِهِ أَحَدٌ.
وَلَوْ كَانَ الْمَدْلُولُ رَأَى الصَّيْدَ قَبْلَ الدَّلَالَةِ
وَالْإِشَارَةِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ وَالْمُشِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي تَلَفِهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ دَلَالَةً
عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ مِنْ الْمُحْرِمِ حَدَثٌ عِنْدَ
رُؤْيَةِ الصَّيْدِ، مِنْ ضَحِكٍ، أَوْ اسْتِشْرَافٍ إلَى الصَّيْدِ،
فَفَطِنَ لَهُ غَيْرُهُ فَصَادَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ؛
بِدَلِيلِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كُنَّا
بِالْقَاحَّةِ، وَمِنَّا الْمُحْرِمُ، وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ، إذْ
بَصُرْت بِأَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرْت، فَإِذَا حِمَارُ
وَحْشٍ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِي يَضْحَكُ
بَعْضُهُمْ، إذْ نَظَرْت، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ» . وَفِي لَفْظٍ:
«فَلَمَّا كُنَّا بِالصِّفَاحِ فَإِذَا هُمْ يَتَرَاءَوْنَ. فَقُلْت: أَيَّ
شَيْءٍ تَنْظُرُونَ؟ فَلَمْ يُخْبِرُونِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[فَصْل أَعَارَ الْمُحْرِم قَاتَلَ الصَّيْد سِلَاحًا]
(2343) فَصْلٌ: فَإِنْ أَعَارَ قَاتِلَ الصَّيْدِ سِلَاحًا، فَقَتَلَهُ
بِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ دَلَّهُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ
مِمَّا لَا يَتِمُّ قَتْلُهُ إلَّا بِهِ، أَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا هُوَ
مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، مِثْلَ أَنْ يُعِيرَهُ رُمْحًا وَمَعَهُ رُمْحٌ،
وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَانَهُ عَلَيْهِ بِمُنَاوَلَتِهِ سَوْطَهُ أَوْ
رُمْحَهُ، أَوْ أَمَرَهُ بِاصْطِيَادِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ
أَبِي قَتَادَةَ، وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ
بِشَيْءٍ. وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ
إلَيْهَا؟» . وَكَذَلِكَ إنْ أَعَارَهُ سِكِّينًا، فَذَبَحَهُ بِهَا.
فَإِنْ أَعَارَهُ آلَةً لِيَسْتَعْمِلهَا فِي غَيْرِ الصَّيْدِ،
فَاسْتَعْمَلَهَا فِي الصَّيْدِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ
مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَحِكَ عِنْدَ رُؤْيَةِ
الصَّيْدِ، فَفَطِنَ لَهُ إنْسَانٌ، فَصَادَهُ.
[فَصْلٌ دَلَّ الْحَلَّال مُحْرِمًا عَلَى الصَّيْد فَقَتَلَهُ]
(2344) فَصْلٌ: وَإِنْ دَلَّ الْحَلَالُ مُحْرِمًا عَلَى الصَّيْدِ،
فَقَتَلَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ
الصَّيْدَ بِالْإِتْلَافِ،
(3/289)
فَبِالدَّلَالَةِ أَوْلَى، إلَّا أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ، فَيُشَارِكَهُ فِي الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ
صَيْدَ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. نَصَّ عَلَيْهِ
أَحْمَدُ.
[فَصْلٌ صَادَ الْمُحْرِم صَيْدًا لَمْ يَمْلِكهُ]
(2345) فَصْلٌ: وَإِنْ صَادَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَمْ يَمْلِكْهُ، فَإِنْ
تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ حَتَّى حَلَّ،
لَزِمَهُ إرْسَالُهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذَبَحَهُ، فَإِنْ فَعَلَ، أَوْ تَلِفَ
الصَّيْدُ، ضَمِنَهُ، وَحَرُمَ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ ضَمِنَهُ
بِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ، كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ
حَالَ إحْرَامِهِ، وَلِأَنَّهَا ذَكَاةٌ مُنِعَ مِنْهَا بِسَبَبِ
الْإِحْرَامِ، فَأَشْبَهَتْ مَا لَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بَاقِيًا.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ لَهُ أَكْلَهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانَهُ؛
لِأَنَّهُ ذَبَحَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ ذَبْحِ الصَّيْدِ، فَأَشْبَهَ مَا
لَوْ صَادَهُ بَعْدَ الْحِلِّ. وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا
يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَاَلَّذِي صَادَهُ بَعْدَ الْحِلِّ لَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ فِيهِ.
[مَسْأَلَة تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا صَادَهُ أَوْ
ذَبَحَهُ]
(2346) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَأْكُلُهُ إذَا صَادَهُ الْحَلَالُ
لِأَجْلِهِ) لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا
صَادَهُ أَوْ ذَبَحَهُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ
عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] .
وَإِنْ صَادَهُ حَلَالٌ وَذَبَحَهُ، وَكَانَ مِنْ الْمُحْرِمِ إعَانَةٌ
فِيهِ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ إشَارَةٌ إلَيْهِ، لَمْ يُبَحْ
أَيْضًا. وَإِنْ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ، لَمْ يُبَحْ لَهُ أَيْضًا أَكْلُهُ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَكْلُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «هَلْ مِنْكُمْ
أَحَدٌ أَمَرَهُ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ:
فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِشَارَةِ وَالْأَمْرِ
وَالْإِعَانَةِ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ مُذَكًّى، لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ وَلَا
فِي سَبَبِهِ صُنْعٌ مِنْهُ، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ أَكْلُهُ، كَمَا
لَوْ لَمْ يُصَدْ لَهُ. وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ،
وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ لَحْمَ الصَّيْدِ يَحْرُمُ عَلَى
الْمُحْرِمِ بِكُلِّ حَالٍ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ. وَكَرِهَهُ
الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِعُمُومِ
قَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}
[المائدة: 96] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ
جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ «أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ
أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فِي وَجْهِهِ، قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ
عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ:
«أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِجْلَ حِمَارٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: عَجُزَ حِمَارٍ.»
وَفِي رِوَايَةٍ: شِقَّ حِمَارٍ. رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى
أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ خَلِيفَةَ عُثْمَانَ عَلَى الطَّائِفِ،
فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، وَصَنَعَ فِيهِ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ
(3/290)
وَلَحْمِ الْوَحْشِ، فَبَعَثَ إلَى عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ: أَطْعِمُوهُ قَوْمًا حَلَالًا،
فَأَنَا حُرُمٌ. ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ كَانَ
هَاهُنَا مِنْ أَشْجَعَ، أَتَعْلَمُونَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى إلَيْهِ رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ،
فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ. وَلِأَنَّهُ لَحْمُ صَيْدٍ
فَحَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ، كَمَا لَوْ دَلَّ عَلَيْهِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ
مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد،
وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي
الْبَابِ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحُكْمِ،؛ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ
الْأَحَادِيثِ، وَبَيَانُ الْمُخْتَلِفِ مِنْهَا، فَإِنَّ تَرْكَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَكْلِ مِمَّا
أُهْدِيَ إلَيْهِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ
أَجْلِهِ أَوْ ظَنِّهِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ، لِمَا
قَدَّمْت مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِأَكْلِ الْحِمَارِ الَّذِي
صَادَهُ. وَعَنْ طَلْحَةَ، «أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهُ طَيْرٌ، وَهُوَ رَاقِدٌ،
فَأَكَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَتَوَرَّعَ بَعْضٌ،
فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ، وَقَالَ:
أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي (الْمُوَطَّأِ) ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، حَتَّى إذَا كَانَ
بِالرَّوْحَاءِ، إذَا حِمَارُ وَحْشٍ عَقِيرٌ، فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ وَهُوَ
صَاحِبُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا
بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَأَحَادِيثُهُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْرٌ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ
أَجْلِهِمْ، فَتَعَيَّنَ ضَمُّ هَذَا الْقَيْدِ إلَيْهَا لِحَدِيثِنَا،
وَجَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَدَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ عَنْهَا،
وَلِأَنَّهُ صِيدَ لِلْمُحْرِمِ، فَحُرِّمَ، كَمَا لَوْ أَمَرَ أَوْ
أَعَانَ.
[فَصْلٌ مَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ مِنْ الصَّيْد لَمْ يَحْرُمْ عَلَى
الْحَلَالِ]
(2347) فَصْلٌ: وَمَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ، لِكَوْنِهِ صِيدَ مِنْ
أَجْلِهِ، أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ، أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، لَمْ يَحْرُمْ
عَلَى الْحَلَالِ أَكْلُهُ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ، أَطْعِمُوهُ حَلَالًا.
وَقَدْ بَيَّنَّا حَمْلَهُ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِمْ، وَحَدِيثِ
الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، حِينَ رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّيْدَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ أَكْلِهِ.
وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ حَلَالٌ، فَأُبِيحَ لِلْحَلَالِ أَكْلُهُ، كَمَا لَوْ
صِيدَ لَهُمْ. وَهَلْ يُبَاحُ أَكْلُهُ لِمُحْرِمٍ آخَرَ؟ ظَاهِرُ
الْحَدِيثِ إبَاحَتُهُ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ،
مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» . وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ أُهْدِيَ
إلَيْهِ صَيْدٌ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَلَمْ
يَأْكُلْ هُوَ، وَقَالَ: إنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي. وَلِأَنَّهُ لَمْ
يُصَدْ مِنْ أَجْلِهِ، فَحَلَّ لَهُ كَمَا لَوْ صَادَهُ الْحَلَالُ
لِنَفْسِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ
(3/291)
قَوْلِ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-؛ لِقَوْلِهِ: أَطْعِمُوهُ حَلَالًا، فَأَنَا حُرُمٌ. وَلِقَوْلِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي
قَتَادَةَ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ
أَشَارَ إلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوهُ» . فَمَفْهُومُهُ أَنَّ
إشَارَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُحَرِّمُهُ عَلَيْهِمْ.
[فَصْلٌ قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ثُمَّ أَكَلَهُ]
(2348) فَصْلٌ: إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ، ثُمَّ أَكَلَهُ،
ضَمِنَهُ لِلْقَتْلِ دُونَ الْأَكْلِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُهُ
لِلْأَكْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ،
فَيَضْمَنُهُ، كَمَا لَوْ أَكَلَ مِمَّا صِيدَ لِأَجْلِهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ، فَلَمْ يَضْمَن ثَانِيًا،
كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَكَصَيْدِ الْحَرَمِ إذَا
قَتَلَهُ الْحَلَالُ وَأَكَلَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ،
ثُمَّ أَكَلَ هَذَا مِنْهُ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِمَا
ذَكَرْنَا. وَلِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً، وَالْمَيْتَةُ لَا
تُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ. وَكَذَلِكَ إنْ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ
لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ، لَمْ
يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ مَضْمُونٌ بِالْجَزَاءِ مَرَّةً، فَلَا يَجِبُ
بِهِ جَزَاءٌ ثَانٍ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ.
وَإِنْ أَكَلَ مِمَّا صِيدَ لِأَجْلِهِ، ضَمِنَهُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا
جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ لِلصَّيْدِ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ
الْجَزَاءُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ثُمَّ أَكَلَهُ.
وَلَنَا، إنَّهُ إتْلَافٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ،
فَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ، كَالْقَتْلِ. أَمَّا إذَا قَتَلَهُ، ثُمَّ
أَكَلَهُ، لَا يُحَرَّمُ لِلْإِتْلَافِ، إنَّمَا حُرِّمَ لِكَوْنِهِ
مَيْتَةً. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ مِنْ
اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ مِنْ النَّعَمِ،
فَكَذَلِكَ أَبْعَاضُهُ تُضْمَنُ بِمِثْلِهَا، بِخِلَافِ حَيَوَانِ
الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ، فَكَذَلِكَ أَبْعَاضُهُ.
[فَصْل إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِم الصَّيْد صَارَ مَيِّتَة]
(2349) فَصْلٌ: وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً،
يَحْرُمُ أَكْلُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ،
وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ،
وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ الْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا بَأْسَ
بِأَكْلِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ذَبِيحَةِ
السَّارِقِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ:
يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ،
أَنَّهُ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَبَاحَتْ
ذَكَاتُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَبَاحَتْ الصَّيْدَ، كَالْحَلَالِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ حَيَوَانٌ حُرِّمَ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ لِحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى، فَلَمْ يَحِلَّ بِذَبْحِهِ كَالْمَجُوسِيِّ، وَبِهَذَا فَارَقَ
سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ، وَفَارَقَ غَيْرَ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ لَا
يُحَرَّمُ ذَبْحُهُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا
ذَبَحَهُ الْحَلَالُ.
(3/292)
[فَصْل اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ فَوَجَدَ
صَيْدًا وَمَيْتَةً]
(2350) فَصْلٌ: إذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ، فَوَجَدَ صَيْدًا وَمَيْتَةً،
أَكَلَ الْمَيْتَةَ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالثَّوْرِيُّ،
وَمَالِكٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَأْكُلُ
الصَّيْدَ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا ذُبِحَ
الصَّيْدُ كَانَ مَيْتَةً، فَيُسَاوِي الْمَيْتَةَ فِي التَّحْرِيمِ،
وَيَمْتَازُ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ هَتْكِ
حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَوْلَى،
إلَّا أَنْ لَا تَطِيبَ نَفْسُهُ بِأَكْلِهَا، فَيَأْكُلَ الصَّيْدَ، كَمَا
لَوْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ.
[مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ الطِّيبِ]
(2351) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَطَيَّبُ الْمُحْرِمُ) أَجْمَعَ
أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ الطِّيبِ. وَقَدْ
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُحْرِمِ
الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ: «لَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ» . رَوَاهُ
مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: (لَا تُحَنِّطُوهُ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا مُنِعَ الْمَيِّتُ مِنْ الطِّيبِ لِإِحْرَامِهِ، فَالْحَيُّ
أَوْلَى. وَمَتَى تَطَيَّبَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ
اسْتَعْمَلَ مَا حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ،
كَاللِّبَاسِ. وَمَعْنَى الطِّيبِ: مَا تَطِيبُ رَائِحَتُهُ، وَيُتَّخَذُ
لِلشَّمِّ، كَالْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ، وَالْكَافُورِ، وَالْغَالِيَةِ،
وَالزَّعْفَرَانِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَالْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ،
كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ وَنَحْوِهِ.
(2352) فَصْلٌ: وَالنَّبَاتُ الَّذِي تُسْتَطَابُ رَائِحَتُهُ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، مَا لَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ، وَلَا
يُتَّخَذُ مِنْهُ، كَنَبَاتِ الصَّحْرَاءِ، مِنْ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ
وَالْخَزَامَى، وَالْفَوَاكِهِ كُلِّهَا مِنْ الْأُتْرُجِّ وَالتُّفَّاحِ
وَالسَّفَرْجَلِ وَغَيْرِهِ، وَمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِغَيْرِ
قَصْدِ الطِّيبِ، كَالْحِنَّاءِ وَالْعُصْفُرِ، فَمُبَاحٌ شَمُّهُ، وَلَا
فِدْيَةَ فِيهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشَمَّ شَيْئًا
مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، مِنْ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَغَيْرِهِمَا.
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَا
يُقْصَدُ لِلطِّيبِ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، أَشْبَهَ سَائِرَ
نَبَاتِ الْأَرْضِ. قَدْ رُوِيَ «أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ» .
الثَّانِي، مَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِلطِّيبِ، وَلَا يُتَّخَذُ
مِنْهُ طِيبٌ، كَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ، وَالْمَرْزَجُوشِ
(3/293)
وَالنَّرْجِسِ، وَالْبَرَمِ، فَفِيهِ
وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُبَاحُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ.
قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ،
وَمُجَاهِدٌ، وَإِسْحَاقُ. وَالْآخَرُ، يَحْرُمُ شَمُّهُ، فَإِنْ فَعَلَ
فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ،
فَأَشْبَهَ الْوَرْدَ. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَمْ
يُوجِبُوا فِيهِ شَيْئًا. وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لَهَا؛
فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرَّيْحَانِ: لَيْسَ مِنْ آلَةِ الْمُحْرِمِ. وَلَمْ
يَذْكُرْ فِدْيَتَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ،
فَأَشْبَهَ الْعُصْفُرَ. الثَّالِثُ، مَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ، وَيُتَّخَذُ
مِنْهُ طِيبٌ، كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْيَاسَمِينِ
وَالْخَيْرِيِّ، فَهَذَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ وَشَمَّهُ، فَفِيهِ
الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ،
فَكَذَلِكَ فِي أَصْلِهِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْوَرْدِ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ
فِي شَمِّهِ؛ لِأَنَّهُ زَهْرٌ شَمَّهُ عَلَى جِهَتِهِ، أَشْبَهَ زَهْرَ
سَائِرِ الشَّجَرِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا وَاَلَّذِي
قَبْلَهُ رِوَايَتَيْنِ. وَالْأَوْلَى تَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ
لِلطِّيبِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ، أَشْبَهَ الزَّعْفَرَانَ وَالْعَنْبَرَ.
قَالَ الْقَاضِي: يُقَالُ إنَّ الْعَنْبَرَ ثَمَرُ شَجَرٍ، وَكَذَلِكَ
الْكَافُورُ.
(2353) فَصْلٌ: وَإِنْ مَسَّ مِنْ الطِّيبِ مَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ،
كَالْغَالِيَةِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَالْمِسْكِ الْمَسْحُوقِ الَّذِي
يَعْلَقُ بِأَصَابِعِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ
لِلطِّيبِ. وَإِنْ مَسَّ مَا لَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ، كَالْمِسْكِ غَيْرِ
الْمَسْحُوقِ، وَقِطَعِ الْكَافُورِ، وَالْعَنْبَرِ، فَلَا فِدْيَةَ؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِلطِّيبِ. فَإِنْ شَمَّهُ، فَعَلَيْهِ
الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ هَكَذَا. وَإِنْ شَمَّ الْعُودَ،
فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَطَيَّبُ بِهِ هَكَذَا.
[مَسْأَلَة لَا يَلْبَس الْمُحْرِم ثَوْبًا مَسَّهُ وَرَسّ وَلَا
زَعْفَرَانُ وَلَا طِيبٌ]
(2354) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا
زَعْفَرَانٌ وَلَا طِيبٌ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا
فِي هَذَا. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي. قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَلْبَسُوا مِنْ
الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ» . مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ. فَكُلُّ مَا صُبِغَ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ، أَوْ غُمِسَ فِي
مَاءِ وَرْدٍ، أَوْ بُخِّرَ بِعُودٍ، فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسُهُ،
وَلَا الْجُلُوسُ عَلَيْهِ، وَلَا النَّوْمُ عَلَيْهِ. نَصَّ أَحْمَدُ
عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ، فَأَشْبَهَ لُبْسَهُ. وَمَتَى
لَبِسَهُ، أَوْ اسْتَعْمَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَبِذَلِكَ قَالَ
الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ رَطْبًا يَلِي
بَدَنَهُ، أَوْ يَابِسًا يُنْفَضُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا
فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَطَيِّبٍ.
وَلَنَا، أَنَّهُ مَنْهِيُّ عَنْهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ فَلَزِمَتْهُ
الْفِدْيَةُ بِهِ، كَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ. وَلِأَنَّهُ
مُحْرِمٌ اسْتَعْمَلَ ثَوْبًا مُطَيَّبًا، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِهِ
كَالرَّطْبِ. فَإِنْ غَسَلَهُ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا
بَأْسَ بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ.
(3/294)
[فَصْل إنْ انْقَطَعَتْ رَائِحَةُ ثَوْبِ
الْمُحْرِمِ]
(2355) فَصْلٌ: وَإِنْ انْقَطَعَتْ رَائِحَةُ الثَّوْبِ، لِطُولِ الزَّمَنِ
عَلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ صُبِغَ بِغَيْرِهِ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ
لَا يَفُوحُ لَهُ رَائِحَةٌ إذَا رُشَّ فِيهِ الْمَاءُ، فَلَا بَأْسَ
بِاسْتِعْمَالِهِ، لِزَوَالِ الطِّيبِ مِنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو
ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ.
وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ، إلَّا أَنْ يُغْسَلَ وَيَذْهَبَ لَوْنُهُ؛
لِأَنَّ عَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ فِيهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ رَائِحَتِهِ، وَقَدْ
ذَهَبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَائِحَةٌ فِي
الْحَالِ، لَكِنَّ كَانَ بِحَيْثُ إذَا رُشَّ فِيهِ مَاءٌ فَاحَ رِيحُهُ،
فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَيِّبٌ، بِطِيبٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ
رَائِحَتَهُ تَظْهَرُ عِنْدَ رَشِّ الْمَاءِ فِيهِ، وَالْمَاءُ لَا
رَائِحَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الصِّبْغِ الَّذِي فِيهِ. فَأَمَّا
إنْ فَرَشَ فَوْقَ الثَّوْبِ ثَوْبًا صَفِيقًا يَمْنَعُ الرَّائِحَةَ
وَالْمُبَاشَرَةَ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ
عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ بَيْنَهُمَا ثِيَابَ بَدَنِهِ، فَفِيهِ
الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي الثَّوْبِ
الَّذِي عَلَيْهِ، كَمَنْعِهِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي بَدَنِهِ.
[مَسْأَلَة الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ
وَشَمِّهِ وَلَا بِمَا صُبِغَ بِهِ لِلْمُحْرِمِ]
(2356) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِمَا صُبِغَ بِالْعُصْفُرِ)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَلَا بَأْسَ
بِاسْتِعْمَالِهِ وَشَمِّهِ، وَلَا بِمَا صُبِغَ بِهِ.
وَهَذَا قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ،
وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ
عَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ، وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُنَّ كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ. وَكَرِهَهُ
مَالِكٌ إذَا كَانَ يَنْتَفِضُ فِي بَدَنِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ
فِدْيَةً. وَمَنَعَ مِنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ، وَشَبَّهُوهُ بِالْمُوَرَّسِ وَالْمُزَعْفَرِ؛ لِأَنَّهُ
صِبْغٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ،
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ،
وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنْ الثِّيَابِ» وَلْتَلْبَسْ
بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، مِنْ مُعَصْفَرٍ،
أَوْ خَزٍّ، أَوْ حُلِيٍّ، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ قَمِيصٍ، أَوْ خُفٍّ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي الْمَنَاسِكِ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ
عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، قَالَتْ: «كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُحْرِمُ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ» .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ
لَهُمْ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، فَلَمْ يُكْرَهْ مَا
صُبِغَ بِهِ، كَالسَّوَادِ، وَالْمَصْبُوغِ بِالْمَغْرَةِ، وَأَمَّا
الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ فَإِنَّهُ طِيبٌ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
[فَصْلٌ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُمَشَّقِ لِلْمُحْرِمِ]
(2357) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِالْمُمَشَّقِ، وَهُوَ الْمَصْبُوغُ
بِالْمَغْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِطِينٍ لَا بِطِيبٍ، وَكَذَلِكَ
الْمَصْبُوغُ بِسَائِرِ
(3/295)
الْأَصْبَاغِ، سِوَى مَا ذَكَرْنَا؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ
بِتَحْرِيمِهِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَصْبُوغُ بِالرَّيَاحِينِ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى
الرَّيَاحِينِ فِي نَفْسِهَا، فَمَا مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنْ
اسْتِعْمَالِهِ، مُنِعَ لُبْسَ الْمَصْبُوغِ بِهِ، إذَا ظَهَرَتْ
رَائِحَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا.
[مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ شَعْره إلَّا مِنْ عُذْرٍ]
(2358) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَقْطَعُ شَعْرًا مِنْ رَأْسِهِ، وَلَا
جَسَدِهِ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ
مِنْ أَخْذِ شَعْرِهِ، إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . وَرَوَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «لَعَلَّك
يُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْلِقْ رَأْسَك،
وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ
اُنْسُكْ شَاةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا،
وَشَعْرُ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
(2359) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ وَقَعَ فِي
رَأْسِهِ قَمْلٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِإِبْقَاءِ
الشَّعْرِ، فَلَهُ إزَالَتُهُ، لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 196] . أَيْ
بِرَأْسِهِ قُرُوحٌ، {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] . أَيْ
قَمْلٌ. ثُمَّ يَنْظُرُ؛ فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِهِ مِنْ
نَفْسِ الشَّعْرِ، مِثْلَ أَنْ يَنْبُتَ فِي عَيْنِهِ، أَوْ طَالَ
حَاجِبَاهُ فَغَطَّيَا عَيْنَيْهِ، فَلَهُ قَلْعُ مَا فِي الْعَيْنِ،
وَقَطْعُ مَا اسْتَرْسَلَ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّ الشَّعْرَ آذَاهُ، فَكَانَ لَهُ دَفْعُ أَذِيَّتِهِ بِغَيْرِ
فِدْيَةٍ، كَالصَّيْدِ إذَا صَالَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَذَى مِنْ
غَيْرِ الشَّعْرِ، لَكِنَّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْأَذَى إلَّا
بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ، كَالْقَمْلِ وَالْقُرُوحِ بِرَأْسِهِ، أَوْ صُدَاعٍ
بِرَأْسِهِ، أَوْ شِدَّةِ الْحَرِّ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ شَعْرِهِ،
فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ الشَّعْرَ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ
غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ أَكْلَ الصَّيْدِ لِلْمَخْمَصَةِ. فَإِنْ قِيلَ:
فَالْقَمْلُ مِنْ ضَرَرِ الشَّعْرِ، وَالْحَرُّ سَبَبُهُ كَثْرَةُ
الشَّعْرِ. قُلْنَا: لَيْسَ الْقَمْلُ مِنْ الشَّعْرِ، وَإِنَّمَا لَا
يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُقَامِ فِي الرَّأْسِ إلَّا بِهِ، فَهُوَ مَحَلٌّ
لَهُ، لَا سَبَبٌ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْحَرُّ مِنْ الزَّمَانِ، بِدَلِيلِ
أَنَّ الشَّعْرَ يُوجَدُ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ، فَلَا يَتَأَذَّى بِهِ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَلَم أَظْفَارِهِ إلَّا مِنْ
عُذْرٍ]
(2360) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَقْطَعُ ظُفْرًا إلَّا أَنْ يَنْكَسِرَ)
أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَلْمِ
أَظْفَارِهِ، إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأَظْفَارِ إزَالَةُ
جُزْءٍ يَتَرَفَّهُ بِهِ، فَحُرِّمَ، كَإِزَالَةِ الشَّعْرِ. فَإِنْ
انْكَسَرَ، فَلَهُ إزَالَتُهُ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ تَلْزَمُهُ. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ، أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُزِيلَ ظُفْرَهُ بِنَفْسِهِ إذَا
انْكَسَرَ، وَلِأَنَّ مَا انْكَسَرَ يُؤْذِيهِ وَيُؤْلِمُهُ،
(3/296)
فَأَشْبَهَ الشَّعْرَ النَّابِتَ فِي
عَيْنِهِ، وَالصَّيْدَ الصَّائِلَ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَصَّ أَكْثَرَ مِمَّا
انْكَسَرَ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِذَلِكَ الزَّائِدِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ
مِنْ الشَّعْرِ أَكْثَرِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ.
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى مُدَوَّاةِ قُرْحَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا
بِقَصِّ أَظْفَارِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ، صَاحِبُ مَالِكٍ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ
أَزَالَ مَا مُنِعَ إزَالَتُهُ لِضَرَرِ فِي غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ حَلْقَ
رَأْسِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ قَمْلِهِ. وَإِنْ وَقَعَ فِي أَظْفَاره مَرَضٌ،
فَأَزَالَهَا لِذَلِكَ الْمَرَضِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ
أَزَالَهَا لِإِزَالَةِ مَرَضِهَا، فَأَشْبَهَ قَصَّهَا لِكَسْرِهَا.
[مَسْأَلَة لَا يَنْظُرُ الْمُحْرِم فِي الْمِرْآةِ لِإِصْلَاحِ شَيْءٍ]
(2361) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ لِإِصْلَاحِ
شَيْءٍ) يَعْنِي لَا يَنْظُرُ فِيهَا لِإِزَالَةِ شُعْثٍ، أَوْ تَسْوِيَةِ
شَعْرٍ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الزِّينَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا بَأْسَ أَنْ
يَنْظُرَ فِي الْمِرْآةِ، وَلَا يُصْلِحُ شُعْثًا، وَلَا يَنْفُضُ عَنْهُ
غُبَارًا.
وَقَالَ أَيْضًا: إذَا كَانَ يُرِيدُ بِهِ زِينَةً فَلَا. قِيلَ: فَكَيْفَ
يُرِيدُ زِينَةً؟ قَالَ: يَرَى شَعْرَةً فَيُسَوِّيهَا. وَرُوِيَ نَحْوُ
ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ. وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي
حَدِيثٍ: «إنَّ الْمُحْرِمَ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ» .
وَفِي آخَرَ: «إنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلَائِكَتَهُ،
فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي، اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي، قَدْ أَتَوْنِي
شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ» . أَوْ كَمَا جَاءَ لَفْظُ الْحَدِيثِ. فَإِنْ
نَظَرَ فِيهَا لِحَاجَةٍ، كَمُدَاوَاةِ جُرْحٍ، أَوْ إزَالَةِ شَعْرٍ
يَنْبُتُ فِي عَيْنِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَ الشَّرْعُ لَهُ
فِعْلَهُ، فَلَا بَأْسَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ فِي
الْمِرْآةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَدَبٌ لَا شَيْءَ عَلَى
تَارِكِهِ. لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُمَا
كَانَا يَنْظُرَانِ فِي الْمِرْآةِ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ.
[مَسْأَلَة الزَّعْفَرَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الطِّيب إذَا جُعِلَ فِي
مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ لَمْ يُبَحْ لِلْمُحْرِمِ تَنَاوُلُهُ]
(2362) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الزَّعْفَرَانِ مَا يَجِدُ
رِيحَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّعْفَرَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ
الطِّيبِ، إذَا جُعِلَ فِي مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، فَلَمْ تَذْهَبْ
رَائِحَتُهُ، لَمْ يُبَحْ لِلْمُحْرِمِ تَنَاوُلُهُ، نِيئًا كَانَ أَوْ
قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَكَانَ مَالِكٌ
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا يَرَوْنَ بِمَا مَسَّتْ النَّارُ مِنْ
الطَّعَامِ بَأْسًا، سَوَاءٌ ذَهَبَ لَوْنُهُ وَرِيحُهُ وَطَعْمُهُ، أَوْ
بَقِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ بِالطَّبْخِ. اسْتَحَالَ عَنْ كَوْنِهِ
طِيبًا.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ بِأَكْلِ
الخشكنانج الْأَصْفَرِ بَأْسًا، وَكَرِهَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَلَنَا، أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ،
وَالتَّرَفُّهَ بِهِ، حَاصِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمُبَاشَرَةُ، فَأَشْبَهَ مَا
لَوْ كَانَ نِيئًا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ،
وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَقَوْلُ مَنْ أَبَاحَ الخشكنانج الْأَصْفَرَ مَحْمُولٌ
عَلَى مَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ رَائِحَةٌ، فَإِنَّ مَا ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ
وَطَعْمُهُ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا اللَّوْنُ مِمَّا مَسَّتْهُ
النَّارُ، لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، سِوَى
أَنَّ
(3/297)
الْقَاسِمَ وَجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ،
كَرِهَا الخشكنانج الْأَصْفَرَ. وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا بَقِيَتْ
رَائِحَتُهُ؛ لِيَزُولَ الْخِلَافُ. فَإِنْ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ،
لَكِنْ ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ وَطَعْمُهُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَكَرِهَ مَالِكٌ، وَالْحُمَيْدِيُّ،
وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، الْمِلْحَ الْأَصْفَرَ، وَفَرَّقُوا
بَيْنَ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَمَا لَمْ تَمَسَّهُ.
وَلَنَا، أَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّائِحَةُ، فَإِنَّ الطِّيبَ إنَّمَا كَانَ
طِيبًا لِرَائِحَتِهِ، لَا لِلَوْنِهِ، فَوَجَبَ دَوَرَانُ الْحُكْمِ
مَعَهَا دُونَهُ.
(2363) فَصْلٌ: فَإِنْ ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ، وَبَقِيَ لَوْنُهُ
وَطَعْمُهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ إبَاحَتُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا
مِنْ أَنَّهَا الْمَقْصُودُ، فَيَزُولُ الْمَنْعُ بِزَوَالِهَا. وَظَاهِرُ
كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ، صَالِحٍ تَحْرِيمُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْقَاضِي: مُحَالٌ أَنْ تَنْفَكَّ الرَّائِحَةُ عَنْ
الطَّعْمِ، فَمَتَى بَقِيَ الطَّعْمُ دَلَّ عَلَى بَقَائِهَا، فَلِذَلِكَ
وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ.
[مَسْأَلَة لَا يَدهنَّ الْمُحْرِم بِمَا فِيهِ طِيبٌ وَمَا لَا طِيبَ
فِيهِ]
(2364) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَدَّهِنُ بِمَا فِيهِ طِيبٌ، وَمَا لَا
طِيبَ فِيهِ) أَمَّا الْمُطَيِّبُ مِنْ الْأَدْهَانِ، كَدُهْنِ الْوَرْدِ
وَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَالْخَيْرِيِّ وَاللِّينُوفَرِ، فَلِيس فِي
تَحْرِيمِ الِادِّهَانِ بِهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ
الْأَوْزَاعِيِّ. وَكَرِهَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ، الِادِّهَانَ بِدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِطِيبٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ يُتَّخَذُ
لِلطِّيبِ، وَتُقْصَدُ رَائِحَتُهُ، فَكَانَ طِيبًا، كَمَاءِ الْوَرْدِ.
فَأَمَّا مَا لَا طِيبَ فِيهِ، كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ
وَالشَّحْمِ وَدُهْنِ الْبَانِ السَّاذَجِ، فَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، قَالَ:
سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُحْرِمِ يَدَّهِنُ
بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، يَدَّهِنُ بِهِ إذَا احْتَاجَ
إلَيْهِ. وَيَتَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا يَأْكُلُ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ
لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَدْهُنَ بَدَنَهُ بِالشَّحْمِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ.
وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي ذَرٍّ،
وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَعَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: الزَّيْتُ الَّذِي
يُؤْكَلُ لَا يَدْهُنُ الْمُحْرِمُ بِهِ رَأْسَهُ. فَظَاهِرُ هَذَا،
أَنَّهُ لَا يَدْهُنُ رَأْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَدْهَانِ. وَهُوَ قَوْلُ
عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ
الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الشُّعْثَ، وَيُسَكِّنُ الشَّعْرَ.
فَأَمَّا دَهْنُ سَائِرِ الْبَدَنِ، فَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ
مَنْعًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا إجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَتِهِ فِي
الْيَدَيْنِ، وَإِنَّمَا الْكَرَاهَةُ فِي الرَّأْسِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ
مَحَلُّ الشَّعْرِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: فِي إبَاحَتِهِ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ رِوَايَتَانِ؛
فَإِنْ فَعَلَهُ فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ،
سَوَاءٌ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُطَيِّبًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صُدِعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ،
فَقَالُوا: أَلَا نَدْهُنُك بِالسَّمْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: أَلَيْسَ
تَأْكُلُهُ؟ قَالَ: لَيْسَ أَكْلُهُ كَالِادِّهَانِ بِهِ. وَعَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: إنْ تَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ الَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ دَهْنِ الرَّأْسِ: فِيهِ الْفِدْيَةُ؛
لِأَنَّهُ مُزِيلٌ لِلشُّعْثِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ مُطَيِّبًا.
(3/298)
وَلَنَا، أَنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ
يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ،
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الطِّيبِ، فَإِنَّ الطِّيبَ يُوجِبُ
الْفِدْيَةَ، وَإِنْ لَمْ يُزِلْ شُعْثًا، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّأْسُ
وَغَيْرُهُ، وَالدُّهْنُ بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا تَجِبُ
الْفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَدَيْنِ، فَلَمْ تَجِبْ
بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الرَّأْسِ، كَالْمَاءِ.
[مَسْأَلَة لَا يَتَعَمَّدُ الْمُحْرِم لِشَمِّ الطِّيبِ]
(2365) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَعَمَّدُ لِشَمِّ الطِّيبِ) أَيْ لَا
يَقْصِدُ شَمَّهُ مِنْ غَيْرِهِ بِفِعْلٍ مِنْهُ، نَحْوِ أَنْ يَجْلِسَ
عِنْدَ الْعَطَّارِينَ لِذَلِكَ، أَوْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ حَالَ
تَجْمِيرِهَا، لِيَشُمَّ طِيبَهَا، أَوْ يَحْمِلَ مَعَهُ عُقْدَةً فِيهَا
مِسْكٌ لِيَجِدَ رِيحَهَا. قَالَ أَحْمَدُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ
يَجُوزُ هَذَا؟ وَأَبَاحَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ، إلَّا الْعُقْدَةَ تَكُونُ
مَعَهُ يَشُمُّهَا، فَإِنَّ أَصْحَابَهُ اخْتَلَفُوا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ
يَشُمُّ الطِّيبَ مِنْ غَيْرِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ.
وَلَنَا، أَنَّهُ شَمَّ الطِّيبَ قَاصِدًا مُبْتَدِئًا بِهِ فِي
الْإِحْرَامِ، فَحُرِّمَ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ
الْقَصْدَ شَمُّهُ لَا مُبَاشَرَتُهُ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَسَّ الْيَابِسَ
الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَوْ
رَفَعَهُ بِخِرْقَةٍ وَشَمَّهُ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَلَوْ
لَمْ يُبَاشِرْهُ، فَأَمَّا شَمُّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَالْجَالِسِ
عِنْدَ الْعَطَّارِ لِحَاجَتِهِ، وَدَاخِلِ السُّوقِ، أَوْ دَاخِلِ
الْكَعْبَةِ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، وَمَنْ يَشْتَرِي طِيبًا لِنَفْسِهِ
وَلِلتِّجَارَةِ وَلَا يَمَسُّهُ، فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ
لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْ هَذَا، فَعُفِيَ عَنْهُ، بِخِلَافِ
الْأَوَّلِ.
[مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ]
(2366) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُغَطِّي شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ،
وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ «نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ وَالْبَرَانِسِ» . وَقَوْلُهُ فِي
الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ،
فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . عَلَّلَ مَنْعَ
تَخْمِيرِ رَأْسِهِ بِبَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ
الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ:
إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ. . وَذَكَرَ الْقَاضِي، فِي (الشَّرْحِ)
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إحْرَامُ
الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» .
وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى أَنْ يَشُدَّ الْمُحْرِمُ
رَأْسَهُ بِالسَّيْرِ.
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: (وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ) . فَائِدَتُهُ
تَحْرِيمُ تَغْطِيَتِهِمَا. وَأَبَاحَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:
«الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّهَارَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ
يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ بَعْضِ رَأْسِهِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ تَغْطِيَةِ
جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» . وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَحْرُمُ
فِعْلُ بَعْضِهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا
رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] . حَرُمَ حَلْقُ بَعْضِهِ. وَسَوَاءٌ غَطَّاهُ
بِالْمَلْبُوسِ الْمُعْتَادِ أَوْ بِغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ عَصَبَهُ
بِعِصَابَةٍ،
(3/299)
أَوْ شَدَّهُ بِسَيْرٍ، أَوْ جَعَلَ
عَلَيْهِ قِرْطَاسًا فِيهِ دَوَاءٌ أَوْ لَا دَوَاءَ فِيهِ، أَوْ خَضَّبَهُ
بِحِنَّاءَ، أَوْ طَلَاهُ بِطِينٍ أَوْ نُورَةٍ، أَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ
دَوَاءً، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ سِتْرٌ لَهُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ.
وَسَوَاء كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْعُذْرَ لَا
يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] .
وَقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَكَانَ عَطَاءٌ يُرَخِّصُ فِي الْعِصَابَةِ مِنْ الضَّرُورَةِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ الْفِدْيَةُ عَنْهُ بِالْعُذْرِ، كَمَا
لَوْ لَبِسَ قَلَنْسُوَةً مِنْ أَجْلِ الْبَرْدِ.
[فَصْل حَمَلَ الْمُحْرِم عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا أَوْ طَبَقًا أَوْ
نَحْوَهُ]
(2367) فَصْلٌ: فَإِنْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا أَوْ طَبَقًا أَوْ
نَحْوَهُ؛ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ سَتَرَهُ.
وَلَنَا، أَنَّ هَذَا لَا يُقْصَدُ بِهِ السَّتْرُ غَالِبًا، فَلَمْ تَجِبْ
بِهِ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. وَسَوَاءٌ قَصَدَ
بِهِ السِّتْرَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ؛ لِأَنَّ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ
لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ، فَكَذَلِكَ مَا لَا تَجِبُ بِهِ
الْفِدْيَةُ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيل وُجُوبَ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ إذَا
قَصَدَ بِهِ السَّتْرَ؛ لِأَنَّ الْحِيَلَ لَا تُحِيلُ الْحُقُوقَ.
وَإِنْ سَتَرَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِمَا
ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ السَّتْرَ بِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ لَا يَثْبُتُ
لَهُ حُكْمُ السَّتْرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَرْجِهِ،
لَمْ تُجْزِئْهُ فِي السَّتْرِ، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَأْمُورٌ بِمَسْحِ
رَأْسِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِوَضْعِ يَدَيْهِ أَوْ إحْدَاهُمَا عَلَيْهِ.
وَإِنْ طَلَى رَأْسَهُ بِعَسَلٍ أَوْ صَمْغٍ؛ لِيَجْتَمِعَ الشَّعْرُ
وَيَتَلَبَّدَ، فَلَا يَتَخَلَّلُهُ الْغُبَارُ، وَلَا يُصِيبُهُ
الشُّعْثُ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ الدَّبِيبُ، جَازَ. وَهُوَ التَّلْبِيدُ
الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهِلُّ مُلَبِّدًا» . رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ حَفْصَةَ، «أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا شَأْنُ النَّاسِ، حَلُّوا وَلَمْ
تَحْلُلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك؟ قَالَ: إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي،
وَقَلَّدْت هَدْيِي، فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِمَا.
وَإِنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ طِيبٌ مِمَّا جَعَلَهُ فِيهِ قَبْلَ
الْإِحْرَامِ، فَلَا بَأْسَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
«كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ عَلَى رَأْسِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِثْلُ الرُّبِّ مِنْ الْغَالِيَةِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ.»
[فَصْلٌ تَغْطِيَة الْمُحْرِم وَجْهه]
(2368) فَصْلٌ: وَفِي تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ رِوَايَتَانِ:
(3/300)
إحْدَاهُمَا، يُبَاحُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَزَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرٍ،
وَالْقَاسِمِ، وَطَاوُسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِيَةُ، لَا يُبَاحُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ؛
لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ،، «أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ عَنْ
رَاحِلَتِهِ، فَأَقْعَصَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي
ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ
يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي» . وَلِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى
الْمَرْأَةِ، فَحُرِّمَ عَلَى الرَّجُلِ، كَالطِّيبِ.
وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ
مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ
فِي وَجْهِهَا» . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورُ فِيهِ: (وَلَا
تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ) هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا
تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ) . فَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِيهِ أَبُو بِشْرٍ.
ثُمَّ سَأَلْته عَنْهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، فَجَاءَ بِالْحَدِيثِ كَمَا
كَانَ يُحَدِّثُ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ «وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ
وَرَأْسَهُ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ضَعَّفَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: (خَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلَا
تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ) فَتَتَعَارَضُ الرِّوَايَتَانِ. . وَمَا ذَكَرُوهُ
يَبْطُلُ بِلُبْسِ الْقُفَّازَيْنِ.
[مَسْأَلَة الْمَرْأَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا فِي
إحْرَامِهَا]
(2369) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ إحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا،
فَإِنْ احْتَاجَتْ سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ
الْمَرْأَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا فِي إحْرَامِهَا،
كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ. لَا نَعْلَمُ فِي
هَذَا خِلَافًا، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا كَانَتْ
تُغَطِّي وَجْهَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ
تُغَطِّيهِ بِالسَّدْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَا يَكُونُ اخْتِلَافًا.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَرَاهِيَةُ الْبُرْقُعِ ثَابِتَةٌ عَنْ سَعْدٍ
وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا
خَالَفَ فِيهِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ،
وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» . فَأَمَّا إذَا احْتَاجَتْ إلَى سَتْرِ
وَجْهِهَا، لِمُرُورِ الرِّجَالِ قَرِيبًا مِنْهَا، فَإِنَّهَا تَسْدُلُ
الثَّوْبَ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا،
وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَاذَوْنَا، سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ
رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ» . رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ. وَلِأَنَّ بِالْمَرْأَةِ حَاجَةً إلَى سَتْرِ
وَجْهِهَا، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا سَتْرُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ،
كَالْعَوْرَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الثَّوْبَ يَكُونُ مُتَجَافِيًا
عَنْ وَجْهِهَا، بِحَيْثُ لَا يُصِيبُ الْبَشَرَةَ، فَإِنْ أَصَابَهَا،
ثُمَّ زَالَ أَوْ أَزَالَتْهُ بِسُرْعَةٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، كَمَا
لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ الثَّوْبَ عَنْ عَوْرَةِ الْمُصَلِّي، ثُمَّ عَادَ
بِسُرْعَةٍ، لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ. وَإِنْ لَمْ تَرْفَعْهُ مَعَ
الْقُدْرَةِ؛ افْتَدَتْ؛ لِأَنَّهَا اسْتَدَامَتْ السِّتْرَ.
وَلَمْ أَرَ هَذَا الشَّرْطَ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا هُوَ
(3/301)
فِي الْخَبَرِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ
خِلَافُهُ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الْمَسْدُولَ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ
إصَابَةِ الْبَشَرَةِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَبُيِّنَ، وَإِنَّمَا
مُنِعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْبُرْقُعِ وَالنِّقَابِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا
يُعَدَّ لِسَتْرِ الْوَجْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا لَهَا أَنَّ تَسْدُلَ
عَلَى وَجْهِهَا مِنْ فَوْق، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْفَعَ الثَّوْبَ مِنْ
أَسْفَلَ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ النِّقَابَ مِنْ أَسْفَلَ عَلَى
وَجْهِهَا.
[فَصْلٌ يَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمَةِ وُجُوبُ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ
وَتَحْرِيمُ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ]
(2370) فَصْلٌ: وَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمَةِ وُجُوبُ تَغْطِيَةِ
الرَّأْسِ، وَتَحْرِيمُ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ. وَلَا يُمْكِنُ تَغْطِيَةُ
جَمِيعِ الرَّأْسِ إلَّا بِجُزْءٍ مِنْ الْوَجْهِ، وَلَا كَشْفُ جَمِيعِ
الْوَجْهِ إلَّا بِكَشْفِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَتْرُ
الرَّأْسِ كُلِّهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ آكَدُ، إذْ هُوَ عَوْرَةٌ، لَا
يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ حَالَةَ الْإِحْرَامِ، وَكَشْفُ الْوَجْهِ
بِخِلَافِهِ، وَقَدْ أَبَحْنَا سَتْرَ جُمْلَتِهِ لِلْحَاجَةِ
الْعَارِضَةِ، فَسَتْرُ جُزْءٍ مِنْهُ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوْلَى.
[فَصْلٌ لَا بَأْسَ أَنْ تَطُوفَ الْمَرْأَةُ مُنْتَقِبَة إذَا كَانَتْ
غَيْرَ مُحْرِمَةٍ]
(2371) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ تَطُوفَ الْمَرْأَةُ مُنْتَقِبَةً، إذَا
كَانَتْ غَيْرَ مُحْرِمَةٍ، وَطَافَتْ عَائِشَةُ وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ.
وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ حَدِيثَ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّ عَطَاءً كَانَ يَكْرَهُ لِغَيْرِ
الْمُحْرِمَةِ أَنْ تَطُوفَ مُنْتَقِبَةً، حَتَّى حَدَّثْته عَنْ الْحَسَنِ
بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ طَافَتْ
وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ، فَأَخَذَ بِهِ.
[مَسْأَلَة الْكُحْلُ بِالْإِثْمِدِ فِي الْإِحْرَامِ مَكْرُوهِ
لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ]
(2372) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا تَكْتَحِلُ بِكُحْلٍ أَسْوَدَ) الْكُحْلُ
بِالْإِثْمِدِ فِي الْإِحْرَامِ مَكْرُوهٌ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ،
وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الزِّينَةِ،
وَهُوَ فِي حَقِّهَا أَكْثَرُ مِنْ الرَّجُلِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ
عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ زِينَةٌ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِكُلِّ
كُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ. قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَحِلَ
الْمُحْرِمُ مِنْ حَرٍّ يَجِدُهُ فِي عَيْنَيْهِ بِالْإِثْمِدِ وَغَيْرِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ، مَا لَمْ
يُرِدْ بِهِ الزِّينَةَ. قِيلَ لَهُ: الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ؟ قَالَ:
نَعَمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ
عَلِيًّا قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمَّنْ حَلَّ،
فَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا، وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ
عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدَقَتْ، صَدَقَتْ» . رَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَامْرَأَةٍ: اكْتَحِلِي بِأَيِّ كُحْلٍ
شِئْت،
(3/302)
غَيْرِ الْإِثْمِدِ أَوْ الْأَسْوَدِ. إذَا
ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْكُحْلَ بِالْإِثْمِدِ مَكْرُوهٌ، وَلَا فِدْيَةَ
فِيهِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَرَوَتْ شُمَيْسَةُ، عَنْ
عَائِشَةَ، قَالَتْ: اشْتَكَيْت عَيْنِي وَأَنَا مُحْرِمَةٌ، فَسَأَلْت
عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: اكْتَحِلِي بِأَيِّ كَحِلِّ شِئْت غَيْرِ
الْإِثْمِدِ، أَمَّا إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ،
فَنَحْنُ نَكْرَهُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ فَعَلَا فَلَا أَعْلَمُ
عَلَيْهِمَا فِيهِ فِدْيَةً بِشَيْءٍ.
[فَصْل الْكُحْلُ بِغَيْرِ الْإِثْمِدِ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِلْمُحْرِمِ]
(2373) فَصْلٌ: فَأَمَّا الْكُحْلُ بِغَيْرِ الْإِثْمِدِ، فَلَا كَرَاهَةَ
فِيهِ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ نُبَيْهِ
بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، حَتَّى إذَا
كُنَّا بملل، اشْتَكَى عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَيْنَيْهِ،
فَأَرْسَلَ إلَى أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، لِيَسْأَلَهُ، فَأَرْسَلَ
إلَيْهِ: أَنْ اضْمِدْهَا بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ حَدَّثَ «عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلِ إذَا
اشْتَكَى عَيْنَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ضَمَّدَهَا بِالصَّبْرِ» . فَفِي
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ مَا فِي مَعْنَاهُ، مِمَّا لَيْسَ فِيهِ
زِينَةٌ وَلَا طِيبٌ. وَكَانَ إبْرَاهِيمُ لَا يَرَى بِالذَّرُورِ
الْأَحْمَرِ بَأْسًا.
[مَسْأَلَة الْمَرْأَةَ الْمُحْرِمَة مَمْنُوعَةٌ مِمَّا مُنِعَ مِنْهُ
الرِّجَالُ إلَّا بَعْضَ اللِّبَاسِ]
(2374) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتَجْتَنِبُ كُلَّ مَا يَجْتَنِبُهُ
الرَّجُلُ، إلَّا فِي اللِّبَاسِ، وَتَظْلِيلِ الْمَحْمِلِ) قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ،
عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْنُوعَةٌ مِمَّا مُنِعَ مِنْهُ الرِّجَالُ،
إلَّا بَعْضَ اللِّبَاسِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ
لِلْمُحْرِمَةِ لُبْسَ الْقُمُصِ وَالدُّرُوعِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ
وَالْخُمُرِ وَالْخِفَافِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ أَمْرَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحْرِمَ
بِأَمْرٍ، وَحُكْمَهُ عَلَيْهِ، يَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ،
وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مِنْهُ اللِّبَاسَ لِلْحَاجَةِ إلَى سَتْرِ
الْمَرْأَةِ، لِكَوْنِهَا عَوْرَةً، إلَّا وَجْهَهَا، فَتَجَرُّدُهَا
يُفْضِي إلَى انْكِشَافِهَا، فَأُبِيحَ لَهَا اللِّبَاسُ لِلسَّتْرِ، كَمَا
أُبِيحَ لِلرَّجُلِ عَقْدُ الْإِزَارِ، كَيْلًا يَسْقُطَ، فَتَنْكَشِفَ
الْعَوْرَةُ، وَلَمْ يُبَحْ عَقْدُ الرِّدَاءِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ
الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ
مِنْ الثِّيَابِ، وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ
الثِّيَابِ، مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ
قَمِيصٍ أَوْ خُفٍّ» .
وَهَذَا صَرِيحٌ، وَالْمُرَادُ بِاللِّبَاسِ هَاهُنَا الْمَخِيطُ مِنْ
الْقَمِيصِ وَالدُّرُوعِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَالْخِفَافِ، وَمَا يَسْتُرُ
الرَّأْسَ، وَنَحْوَهُ.
[فَصْل يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَة مَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ]
فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ مَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ؛ مِنْ
الْغُسْلِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالتَّطَيُّبِ، وَالتَّنَظُّفِ؛ لِمَا
ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنَّا نَخْرُجُ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُضَمِّدُ
جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا
عَرِقَتْ إحْدَانَا، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهَا النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنْكِرُهُ
(3/303)
عَلَيْهَا» . وَالشَّابَّةُ وَالْكَبِيرَةُ
فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَفْعَلُهُ فِي عَهْدِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ شَابَّةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ كُرِهَ ذَلِكَ فِي الْجُمُعَةِ؟ قُلْنَا:
لِأَنَّهَا فِي الْجُمُعَةِ تَقْرَبُ مِنْ الرِّجَالِ، فَيُخَافُ
الِافْتِتَانُ بِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَلِهَذَا يَلْزَمُ
الْحَجُّ النِّسَاءَ، وَلَا تَلْزَمُهُنَّ الْجُمُعَةُ. وَكَذَلِكَ
يُسْتَحَبُّ لَهَا قِلَّةُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ، وَالْإِكْثَارُ
مِنْ التَّلْبِيَةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
[مَسْأَلَة لَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَة الْقُفَّازَيْنِ وَلَا الْخَلْخَالَ]
(2376) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ، وَلَا
الْخَلْخَالَ، وَمَا أَشْبَهَهُ) الْقُفَّازَانِ: شَيْءٌ يُعْمَلُ
لِلْيَدَيْنِ، تُدَخِّلهُمَا فِيهِمَا مِنْ خَرْقٍ، تَسْتُرُهُمَا مِنْ
الْحَرِّ، مِثْلُ مَا يُعْمَلُ لِلْبَرْدِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ
لُبْسُهُ فِي يَدَيْهَا فِي حَالِ إحْرَامِهَا.
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ،
وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ يُلْبِسُ بَنَاتِهِ الْقُفَّازَيْنِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ.
وَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ، وَعَائِشَةُ، وَعَطَاءٌ. وَبِهِ قَالَ
الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَلِلشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» .
وَأَنَّهُ عُضْوٌ يَجُوزُ سَتْرُهُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ، فَجَازَ سَتْرُهُ
بِهِ كَالرِّجْلَيْنِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ
الْحَرَامُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالْخَلْخَالِ»
. وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ، تَعَلَّقَ
حُكْمُ إحْرَامِهِ بِغَيْرِهِ، فَمُنِعَ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فِي
سَائِرِ بَدَنِهِ، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمَّا لَزِمَهَا كَشْفُ
وَجْهِهَا، يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ
ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَهُوَ الْيَدَانِ. وَحَدِيثُهُمْ الْمُرَادُ بِهِ
الْكَشْفُ. فَأَمَّا السَّتْرُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ،
وَلَا يَجُوزُ بِالْمَخِيطِ. فَأَمَّا الْخَلْخَالُ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ
الْحُلِيِّ، مِثْلِ السُّوَارِ وَالدُّمْلُوجِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ
الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ.
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: الْمُحْرِمَةُ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا،
يَتْرُكَانِ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ، وَلَهُمَا مَا سِوَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ
عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمَةِ الْحَرِيرَ
وَالْحُلِيَّ. وَكَرِهَهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ
قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا، أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ
الْخَاتَمَ وَالْقُرْطَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَكَرِهَ السِّوَارَيْنِ
وَالدُّمْلُجَيْنِ وَالْخَلْخَالَيْنِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ
الرُّخْصَةُ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ
(3/304)
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَ أَحْمَدُ،
فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ الْحُلِيَّ
وَالْمُعَصْفَرَ.
وَقَالَ عَنْ نَافِعٍ: كَانَ نِسَاءُ ابْنِ عُمَرَ وَبَنَاتُهُ يَلْبَسْنَ
الْحُلِيَّ وَالْمُعَصْفَرَ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ
عَبْدُ اللَّهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي (الْمَنَاسِكِ) ، عَنْ عَائِشَةَ،
أَنَّهَا قَالَتْ: تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ مَا تَلْبَسُ وَهِيَ حَلَالٌ،
مِنْ خَزِّهَا وَقَزِّهَا وَحُلِيِّهَا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ
مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ، مِنْ مُعَصْفَرٍ أَوْ خَزٍّ،
أَوْ حُلِيٍّ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْهُ
بِغَيْرِ حُجَّةٍ. وَيُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيَّ فِي
الْمَنْعِ عَلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّينَةِ، وَشِبْهِهِ
بِالْكُحْلِ بِالْإِثْمِدِ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، كَمَا لَا فِدْيَةَ فِي
الْكُحْلِ.
وَأَمَّا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ، فَفِيهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهَا
لَبِسَتْ مَا نُهِيَتْ عَنْ لُبْسِهِ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَزِمَتْهَا
الْفِدْيَةُ، كَالنِّقَابِ.
[فَصْلٌ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمَة شَدُّ يَدَيْهَا بِخِرْقَةِ]
فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: يَحْرُمُ عَلَيْهَا شَدُّ يَدَيْهَا بِخِرْقَةٍ؛
لِأَنَّهُ سَتْرٌ لِبَدَنِهَا بِمَا يَخْتَصُّ بِهَا، أَشْبَهَ
الْقُفَّازَيْنِ، وَكَمَا لَوْ شَدَّ الرَّجُلُ عَلَى جَسَدِهِ شَيْئًا.
وَإِنْ لَفَّتْ يَدَيْهَا مِنْ غَيْرِ شَدٍّ، فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّ
الْمُحَرَّمَ هُوَ اللُّبْسُ، لَا تَغْطِيَتُهُمَا، كَبَدَنِ الرَّجُلِ.
[مَسْأَلَة السُّنَّةَ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا
بِالتَّلْبِيَةِ]
(2378) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا
بِالتَّلْبِيَةِ، إلَّا بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا) قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي
الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ
تُسْمِعَ نَفْسَهَا. وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ،
وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ
الْمَرْأَةَ لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْإِهْلَالِ. وَإِنَّمَا كُرِهَ
لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ بِهَا، وَلِهَذَا لَا
يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، وَالْمَسْنُونُ لَهَا فِي
التَّنْبِيهِ فِي الصَّلَاةِ التَّصْفِيقُ دُونَ التَّسْبِيحِ.
[فَصْل يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ عِنْدَ
الْإِحْرَامِ]
(2379) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ
عِنْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ
السُّنَّةِ أَنْ تَدْلُكَ الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا فِي حِنَّاءٍ. وَلِأَنَّ
هَذَا مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ، فَاسْتُحِبَّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ،
كَالطِّيبِ. وَلَا بَأْسَ بِالْخِضَابِ فِي حَالِ إحْرَامِهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي: يُكْرَهُ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ الزِّينَةِ، فَأَشْبَهَ
الْكُحْلَ بِالْإِثْمِدِ. فَإِنْ فَعَلَتْهُ، وَلَمْ تَشُدَّ يَدَيْهَا
بِالْخِرَقِ، فَلَا فِدْيَةَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ
الْمُنْذِرِ. وَكَانَ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، يَكْرَهَانِ
الْخِضَابَ لِلْمُحْرِمَةِ، وَأَلْزَمَاهَا الْفِدْيَةَ.
وَلَنَا، مَا رَوَى عِكْرِمَةُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ،
وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ، وَهُنَّ حُرُمٌ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ
الْإِبَاحَةُ، وَلَيْسَ هَاهُنَا دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْ نَصٍّ وَلَا
إجْمَاعٍ، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.
(3/305)
[فَصْلٌ إذَا أَحْرَمَ الْخُنْثَى
الْمُشْكِلُ لَمْ يَلْزَمْهُ اجْتِنَابُ الْمَخِيطِ]
(2380) فَصْلٌ: إذَا أَحْرَمَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ، لَمْ يَلْزَمْهُ
اجْتِنَابُ الْمَخِيطِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَتَيَقَّنُ الذُّكُورِيَّةَ
الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يُغَطِّي رَأْسَهُ
وَيُكَفِّرُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ
الْأَصْلَ عَدَمُهَا، فَلَا نُوجِبُهَا بِالشَّكِّ.
وَإِنْ غَطَّى وَجْهَهُ وَحْدَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِدْيَةٌ لِذَلِكَ.
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ بِنِقَابٍ أَوْ بُرْقُعٍ،
وَبَيْنَ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ عَلَى بَدَنِهِ
لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوْ
امْرَأَةً.
[فَصْلٌ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الطَّوَافُ لَيْلًا]
(2381) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الطَّوَافُ لَيْلًا؛ لِأَنَّهُ
أُسْتَرُ لَهَا، وَأَقَلُّ لِلزِّحَامِ، فَيُمْكِنُهَا أَنْ تَدْنُوَ مِنْ
الْبَيْتِ، وَتَسْتَلِمَ الْحَجَرَ. وَقَدْ رَوَى حَنْبَلٌ، فِي
(الْمَنَاسِكِ) بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ
كَانَتْ تَطُوفُ بَعْدَ الْعِشَاءَ أُسْبُوعًا أَوْ أُسْبُوعَيْنِ،
وَتُرْسِلُ إلَى أَهْلِ الْمَجَالِسِ فِي الْمَسْجِدِ: ارْتَفِعُوا إلَى
أَهْلَيْكُمْ، فَإِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ بَرَكَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ
عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إلَى أَصْحَابِ الْمَصَابِيحِ، أَنْ
يُطْفِئُوهَا، فَأَطْفَئُوهَا، فَطُفْت مَعَهَا فِي سِتْرٍ أَوْ حِجَابٍ،
فَكَانَتْ كُلَّمَا فَرَغَتْ مِنْ أُسْبُوعٍ اسْتَلَمَتْ الرُّكْنَ
الْأَسْوَدَ، وَتَعَوَّذَتْ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، حَتَّى إذَا
فَرَغَتْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ، ذَهَبَتْ إلَى دُبُرِ سِقَايَةِ
زَمْزَمِ، مِمَّا يَلِي النَّاسَ، فَصَلَّتْ سِتَّ رَكَعَاتٍ، كُلَّمَا
رَكَعَتْ رَكْعَتَيْنِ انْحَرَفَتْ إلَى النِّسَاءِ، فَكَلَّمَتْهُنَّ،
تَفْصِلُ بِذَلِكَ صَلَاتَهَا، حَتَّى فَرَغَتْ.
[مَسْأَلَة لَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُزَوِّجُ]
(2382) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ، وَلَا
يُزَوِّجُ، فَإِنْ فَعَلَ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ) قَوْلُهُ: (لَا
يَتَزَوَّج) أَيْ لَا يَقْبَلُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ، (وَلَا يُزَوِّجُ)
أَيْ لَا يَكُونُ وَلِيَّا فِي النِّكَاحِ وَلَا وَكِيلًا فِيهِ. وَلَا
يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُحْرِمَةِ أَيْضًا.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ
بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ. وَأَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ»
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ،
فَلَا يُحَرِّمُهُ الْإِحْرَامُ، كَشِرَاءِ الْإِمَاءِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا
يَخْطُبُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ يُحَرِّمُ الطِّيبَ،
فَيُحَرِّمُ
(3/306)
النِّكَاحَ، كَالْعِدَّةِ. فَأَمَّا
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، «عَنْ
مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَبَنَى بِهَا حَلَالًا، وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ، فِي
الظُّلَّةِ الَّتِي بَنَى بِهَا فِيهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد،
وَالْأَثْرَمُ.
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ
حَلَالٌ، وَكُنْت أَنَا الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ:
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمَيْمُونَةُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهَا، وَأَبُو
رَافِعٍ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، وَهُوَ السَّفِيرُ فِيهَا، فَهُمَا أَعْلَمُ
بِذَلِكَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لَوْ كَانَ ابْنُ
عَبَّاسٍ كَبِيرًا، فَكَيْفَ وَقَدْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ
الْأُمُورِ، وَلَا يَقِفُ عَلَيْهَا، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ هَذَا
الْقَوْلُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: وَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَا
تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا
حَلَالًا. فَكَيْفَ يُعْمَلُ بِحَدِيثٍ هَذَا حَالُهُ؟ وَيُمْكِنُ حَمْلُ
قَوْلِهِ: (وَهُوَ مُحْرِمٌ) . أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي
الْبَلَدِ الْحَرَامِ، كَمَا قِيلَ: قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانِ الْخَلِيفَةَ
مُحْرِمًا وَقِيلَ: تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَأَظْهَر أَمْرُ تَزْوِيجِهَا
وَهُوَ مُحْرِمٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثَانِ، كَانَ تَقْدِيمُ
حَدِيثِنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ فِعْلُهُ، وَالْقَوْلُ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَا فَعَلَهُ. وَعَقْدُ النِّكَاحِ
يُخَالِفُ شِرَاءَ الْأَمَةِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِالْعِدَّةِ
وَالرِّدَّةِ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَكَوْنِ الْمَنْكُوحَةِ أُخْتًا لَهُ
مِنْ الرَّضَاعِ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي
الشِّرَاءِ.
[فَصْلٌ تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ أَوْ زَوَّجَ أَوْ زُوِّجَتْ مُحْرِمَةٌ]
(2383) فَصْلٌ: وَمَتَى تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ، أَوْ زَوَّجَ، أَوْ
زُوِّجَتْ مُحْرِمَةٌ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْكُلُّ
مُحْرِمِينَ أَوْ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلَمْ يَصِحَّ،
كَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا.
وَعَنْ أَحْمَدَ: إنْ زَوَّجَ الْمُحْرِمُ لَمْ أَفْسَخْ النِّكَاحَ. قَالَ
بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ
بِمُفْرَدِهِ أَوْ الْوَكِيلُ مُحْرِمًا، لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ.
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَفْسَخُهُ لِكَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا بِطَلْقَةٍ. وَهَكَذَا كُلُّ نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ.
قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ
وَلِيٍّ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجهَا مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى
يُطَلِّقَ. وَلِأَنَّ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ يُفْضِي إلَى أَنْ
يَجْتَمِعَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ
حِلَّهَا.
(3/307)
[فَصْلٌ تُكْرَهُ الْخِطْبَةُ لِلْمُحْرِمِ
وَخِطْبَةُ الْمُحْرِمَةِ وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطُب
لِلْمَحِلَّيْنِ]
(2384) فَصْلٌ: وَتُكْرَهُ الْخِطْبَةُ لِلْمُحْرِمِ، وَخِطْبَةُ
الْمُحْرِمَةِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطُبَ لِلْمُحِلَّيْنِ؛
لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عُثْمَانَ: «لَا
يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» . رَوَاهُ
مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ إلَى الْحَرَامِ، فَأَشْبَهَ الْإِشَارَةَ
إلَى الصَّيْدِ. وَالْإِحْرَامُ الْفَاسِدُ كَالصَّحِيحِ فِي مَنْعِ
النِّكَاح، وَسَائِرِ الْمَحْظُورَات؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بَاقٍ فِي وُجُوبِ
مَا يَجِبُ فِي الْإِحْرَامِ، فَكَذَلِكَ مَا يَحْرُمُ بِهِ.
[فَصْل لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْمُحْرِمِينَ]
(2385) فَصْلٌ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ
مُعَاوَنَةٌ عَلَى النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الْخِطْبَةَ. وَإِنْ شَهِدَ أَوْ
خَطَبَ، لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِشَهَادَةِ الْمُحْرِمِينَ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: (وَلَا
يَشْهَدُ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلشَّاهِدِ فِي الْعَقْدِ،
فَأَشْبَهَ الْخَطِيبَ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ، فَلَمْ
يَثْبُتْ بِهَا حُكْمٌ. وَمَتَى تَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ، أَوْ زَوَّجَ، أَوْ
زَوَّجَتْ مُحْرِمَةٌ، لَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ
فَسَدَ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ فِدْيَةٌ، كَشِرَاءِ
الصَّيْدِ.
[مَسْأَلَة الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ فِي حَالِ
الْإِحْرَامِ إلَّا الْجِمَاعَ]
(2386) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ وَطِئَ الْمُحْرِمُ فِي الْفَرْجِ
فَأَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُمَا، وَعَلَيْهِ
بَدَنَةٌ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، فَعَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ) أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ
فِي الْفَرْجِ، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ
شَيْءٍ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْجِمَاعَ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ
مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، فَقَالَ: إنِّي
وَقَعْت بِامْرَأَتِي، وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ. فَقَالَ: أَفْسَدْت حَجَّك،
انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُك مَعَ النَّاسِ، فَاقْضُوا مَا يَقْضُونَ،
وَحِلَّ إذَا حَلُّوا، فَإِذَا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَاحْجُجْ
أَنْتَ وَامْرَأَتُك، وَاهْدِيَا هَدْيًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدَا، فَصُومَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعْتُمْ. وَكَذَلِكَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو. لَمْ نَعْلَمْ
لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفًا.
رَوَى حَدِيثَهُمْ الْأَثْرَمُ فِي (سُنَنِهِ) ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: (وَيَتَفَرَّقَانِ) مِنْ حَيْثُ يُحْرِمَانِ، حَتَّى يَقْضِيَا
حَجَّهُمَا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَعْلَى
شَيْءٍ رُوِيَ فِي مَنْ وَطِئَ فِي حَجِّهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ،
وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو
ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ
وَبَعْدَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ حَجُّهُ،
وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَهُ لَمْ يَفْسُدْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» . وَلِأَنَّهُ مَعْنًى
يَأْمَنُ بِهِ الْفَوَاتَ، فَأَمِنَ بِهِ الْفَسَادَ، كَالتَّحَلُّلِ.
وَلَنَا، أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَيْنَا قَوْلَهُمْ،
مُطْلَقٌ فِي مَنْ وَاقَعَ مُحْرِمًا، وَلِأَنَّهُ جِمَاعٌ صَادَفَ
إحْرَامًا
(3/308)
تَامًّا، فَأَفْسَدَهُ، كَمَا قَبْلَ
الْوُقُوفِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ»
يَعْنِي: مُعْظَمُهُ. أَوْ أَنَّهُ رُكْنٌ مُتَأَكِّدٌ فِيهِ. وَلَا
يَلْزَمُ مِنْ أَمْنِ الْفَوَاتِ أَمْنُ الْفَسَادِ، بِدَلِيلِ
الْعُمْرَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُجَامِعِ
بَدَنَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ،
وَمُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
فَشَاةٌ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ
فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ
بَدَنَةٌ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْوُقُوف مَعْنًى يُوجِبُ
الْقَضَاءَ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ بَدَنَةٌ، كَالْفَوَاتِ. وَلَنَا، أَنَّهُ
جِمَاعٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا، فَوَجَبَتْ بِهِ الْبَدَنَةُ، كَبَعْدِ
الْوُقُوفِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ.
وَأَمَّا الْفَوَاتُ فَهُوَ مُفَارِقٌ لِلْجِمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ،
وَلِذَلِكَ لَا يُوجِبُونَ فِيهِ الشَّاةَ، بِخِلَافِ الْجِمَاعِ. وَإِذَا
كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُكْرَهَةً عَلَى الْجِمَاعِ، فَلَا هَدْيَ عَلَيْهَا،
وَلَا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُهْدِيَ عَنْهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛
لِأَنَّهُ جِمَاعٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَلَمْ تَجِبْ بِهِ حَالَ
الْإِكْرَاهِ أَكْثَرُ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا فِي الصِّيَامِ.
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ
أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ عَنْهَا.
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّ إفْسَادَ الْحَجَّ وُجِدَ
مِنْهُ فِي حَقِّهِمَا، فَكَانَ عَلَيْهِ لِإِفْسَادِهِ حَجَّهَا هَدْيٌ،
قِيَاسًا عَلَى حَجِّهِ، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ
عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْحَجَّ ثَبَتَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا،
فَكَانَ الْهَدْيُ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ طَاوَعَتْ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْهَدْيَ عَلَيْهَا، يَتَحَمَّلُهُ
الزَّوْجُ عَنْهَا، فَلَا يَكُونُ رِوَايَةً ثَالِثَةً. فَأَمَّا حَالَ
الْمُطَاوَعَةِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ. هَذَا قَوْلُ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيِّ،
وَالضَّحَّاكِ، وَمَالِكٍ، وَالْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ؛ لِأَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ قَالَ: اهْدِ نَاقَةً، وَلْتُهْدِ نَاقَةً. لِأَنَّهَا أَحَدُ
الْمُتَجَامِعَيْنِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ، فَلَزِمَتْهَا بَدَنَةٌ
كَالرَّجُلِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُمَا هَدْيٌ
وَاحِدٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛
لِأَنَّهُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يُوجِبْ أَكْثَرَ مِنْ بَدَنَةٍ،
كَحَالَةِ الْإِكْرَاهِ، وَالنَّائِمَةُ كَالْمُكْرَهَةِ فِي هَذَا.
وَأَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ، فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ حَالِ الْإِكْرَاهِ
وَالْمُطَاوَعَةِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
[فَصْل لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ مِنْ آدَمِي
أَوْ بَهِيمَةٍ فِي الْحَجِّ]
(2387) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ،
مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو
ثَوْرٍ. وَيَتَخَرَّجُ فِي وَطْءِ الْبَهِيمَةِ أَنَّ الْحَجَّ لَا
يَفْسُدُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُوجِبُ الْحَدَّ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ دُونَ الْفَرْجِ. وَحَكَى أَبُو
ثَوْرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللِّوَاطَ وَالْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ
لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ
(3/309)
بِهِ الْإِحْصَانُ، فَلَمْ يُفْسِدْ
الْحَجَّ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ، فَأَفْسَدَ
الْحَجَّ، كَوَطْءِ الْآدَمِيَّةِ فِي الْقُبُلِ. وَيُفَارِقُ الْوَطْءَ
دُونَ الْفَرْجِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي
الْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَا يُوجِبُ مَهْرًا، وَلَا عِدَّةً، وَلَا حَدًّا،
وَلَا غُسْلًا إلَّا أَنْ يُنْزِلَ، فَيَكُونَ كَمَسْأَلَتِنَا، فِي
رِوَايَةٍ.
[فَصْل تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ فِي الْحَجّ]
(2388) فَصْلٌ: إذَا تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ
الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، كَالْأَوَّلِ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَعَنْهُ أَنَّ لِكُلِّ وَطْءٍ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ
لِلْكَفَّارَةِ، فَأَوْجَبَهَا كَالْأَوَّلِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛
لِأَنَّهُ جِمَاعٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ، فَإِذَا تَكَرَّرَ قَبْلَ
التَّكْفِيرِ عَنْ الْأَوَّلِ، لَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً ثَانِيَةً، كَمَا
فِي الصِّيَامِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ لِلْوَطْءِ الثَّانِي شَاةٌ، سَوَاءٌ
كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ، إلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ
الْوَطْءُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ لِلْإِحْرَامِ؛
لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا نَاقِصَ الْحُرْمَةِ، فَأَوْجَبَ
شَاةً، كَالْوَطْءِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ بِالثَّانِي شَيْءٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عَطَاءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ، فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ،
كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ،
كَقَوْلِنَا، وَقَرِيبًا مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ الْبَدَنَةِ إذَا كَفَّرَ، أَنَّهُ وَطِئَ فِي
إحْرَامٍ، وَلَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ، وَلَا أَمْكَنَ تَدَاخُلُ
كَفَّارَتِهِ فِي غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ الْأَوَّلَ. وَلِأَنَّ
الْإِحْرَامَ الْفَاسِدَ كَالصَّحِيحِ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ،
فَكَذَلِكَ فِي الْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ
الْأَوَّلِ، فَتَتَدَاخَلُ كَفَّارَاتُهُ، كَمَا يَتَدَاخَلُ حُكْمُ
الْمَهْرِ وَالْحَدِّ، وَالتَّحْدِيدُ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ أَوْلَى مِنْ
التَّحْدِيدِ بِالْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَهْرِ
وَالْحَدِّ وَالتَّكْفِيرِ فِي الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِهِمَا.
[مَسْأَلَة وَطِئَ الْمُحْرِم دُونَ الْفَرْجِ فَلَمْ يُنْزِلْ]
(2389) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ، فَلَمْ
يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَقَدْ
فَسَدَ حَجُّهُ) أَمَّا إذَا لَمْ يُنْزِلْ، فَإِنَّ حَجَّهُ لَا يَفْسُدُ
بِذَلِكَ. لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِفَسَادِ حَجِّهِ؛ لِأَنَّهَا
مُبَاشَرَةٌ دُونَ الْفَرْجِ عَرِيَتْ عَنْ الْإِنْزَالِ، فَلَمْ يَفْسُدْ
بِهَا الْحَجُّ، كَاللَّمْسِ، أَوْ مُبَاشَرَةٌ لَا تُوجِبُ الِاغْتِسَالَ،
أَشْبَهَتْ اللَّمْسَ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي مَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَرْجِ جَارِيَتِهِ:
عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إذَا نَالَ مِنْهَا مَا
دُونَ الْجِمَاعَ، ذَبَحَ بَقَرَةً.
وَلَنَا، أَنَّهَا مُلَامَسَةٌ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ، فَأَشْبَهَتْ لَمْسَ
غَيْرِ الْفَرْجِ. فَأَمَّا إنْ أَنْزَلَ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَبِذَلِكَ
قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو
ثَوْرٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ:
عَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ دُونَ الْفَرْجِ، فَأَشْبَهَ مَا
لَوْ لَمْ يُنْزِلْ.
(3/310)
وَلَنَا، أَنَّهُ جِمَاعٌ أَوْجَبَ
الْغُسْلَ، فَأَوْجَبَ بَدَنَةً، كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ.
وَفِي فَسَادِ حَجِّهِ بِذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يَفْسُدُ.
اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ، وَأَبُو بَكْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ،
وَالْحَسَنِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ؛
لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْوَطْءُ، فَأَفْسَدَهَا الْإِنْزَالُ
عَنْ مُبَاشَرَةٍ، كَالصِّيَامِ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ،
وَهِيَ الصَّحِيحَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يَجِبُ
بِنَوْعِهِ الْحَدُّ، فَلَمْ يُفْسِدْ الْحَجَّ.
كَمَا لَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ
وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي
الْفَرْجِ يَجِبُ بِنَوْعِهِ الْحَدُّ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ اثْنَا عَشَرِ
حُكْمًا، وَلَا يَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَالُ بَيْنَ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ،
وَالصِّيَامُ يُخَالِفُ الْحَجَّ فِي الْمُفْسِدَاتِ، وَلِذَلِكَ يَفْسُدُ
بِتَكْرَارِ النَّظَرِ مَعَ الْإِنْزَالِ وَالْمَذْيِ وَسَائِرِ
مَحْظُورَاتِهِ، وَالْحَجُّ لَا يَفْسُدُ بِشَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ
غَيْرِ الْجِمَاعِ، فَافْتَرَقَا. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي هَذَا،
إذَا كَانَتْ ذَاتَ شَهْوَةٍ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا،
كَالرَّجُلِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهْوَةٌ.
[مَسْأَلَة إنْ الْمُحْرِم قَبَّلَ فَلَمْ يُنْزِلْ]
(2390) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ قَبَّلَ فَلَمْ يُنْزِلْ، فَعَلَيْهِ
دَمٌ، وَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: إنْ أَنْزَلَ فَسَدَ حَجُّهُ)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْقُبْلَةِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ دُونَ
الْفَرْجِ، سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّ الْخِرَقِيِّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِنْزَالِ،
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي إفْسَادِ الْحَجِّ فِي الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ
إلَّا رِوَايَةً وَاحِدَةً،
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا أَيْضًا رِوَايَتَيْنِ، وَذَكَرْنَا
الْخِلَافَ فِيهِ، لَكِنْ نُشِيرُ إلَى الْفَرْقِ تَوْجِيهًا لِقَوْلِ
الْخِرَقِيِّ فَنَقُولُ: إنْزَالٌ بِغَيْرِ وَطْءٍ فَلَمْ يَفْسُدْ بِهِ
الْحَجُّ، كَالنَّظَرِ، وَلِأَنَّ اللَّذَّةَ بِالْوَطْءِ فَوْقَ
اللَّذَّةِ بِالْقُبْلَةِ، فَكَانَتْ فَوْقَهَا فِي الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ
مَرَاتِبَ أَحْكَامِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى وَفْقِ مَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ
اللَّذَّةِ، فَالْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ أَبْلَغُ الِاسْتِمْتَاعِ،
فَأَفْسَدَ الْحَجَّ مَعَ الْإِنْزَالِ وَعَدَمِهِ، وَالْوَطْءُ دُونَ
الْفَرْجِ دُونَهُ، فَأَوْجَبَ الْبَدَنَةَ وَأَفْسَدَ الْحَجَّ عِنْدَ
الْإِنْزَالِ، وَالدَّمَ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْقُبْلَةُ دُونَهُمَا،
فَتَكُونُ دُونَهُمَا فِيمَا يَجِبُ بِهَا، فَيَجِبُ بِهَا بَدَنَةٌ عِنْدَ
الْإِنْزَالِ مِنْ غَيْرِ إفْسَادٍ، وَتَكْرَارُ النَّظَرِ دُونَ
الْجَمِيعِ، فَيَجِبُ بِهِ الدَّمُ عِنْدَ الْإِنْزَالِ، وَلَا يَجِبُ
عِنْدَ عَدَمِهِ شَيْءٌ.
وَمِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ وَالْقُبْلَةِ، قَالَ:
كِلَاهُمَا مُبَاشَرَةٌ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْوَاجِبِ بِهِمَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ قَبَّلَ
زَوْجَتَهُ: أَفْسَدْت حَجَّتَك. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَيْهِ دَمٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ الشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَرَوَى الْأَثْرَمُ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ
عُبَيْدِ اللَّهِ قَبَّلَ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ مُحْرِمًا، فَسَأَلَ،
فَأُجْمِعَ لَهُ عَلَى أَنْ يُهْرِيقَ دَمًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ أَنْزَلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ. وَسَوَاءٌ أَمْذَى أَوْ لَمْ
يُمْذِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنْ قَبَّلَ فَمَذَى أَوْ لَمْ يُمْذِ،
فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَسَائِرُ اللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ كَالْقُبْلَةِ فِيمَا
(3/311)
ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ
يَلْتَذُّ بِهِ، فَهُوَ كَالْقُبْلَةِ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ قَبَضَ
عَلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ: فَإِنَّهُ يُهْرِيقُ دَمَ
شَاةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إذَا قَبَّلَ الْمُحْرِمُ، أَوْ لَمَسَ،
فَلْيُهْرِقْ دَمًا.
[مَسْأَلَة الْحَجَّ لَا يُفْسِد بِتَكْرَارِ النَّظَرِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ
يُنْزِلْ]
(2391) مَسْأَلَة: قَالَ: (وَإِنْ نَظَرَ، فَصَرَفَ بَصَرَهُ، فَأَمْنَى،
فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ حَتَّى أَمْنَى، فَعَلَيْهِ
بَدَنَةٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِتَكْرَارِ
النَّظَرِ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ
الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، فِي مَنْ رَدَّدَ النَّظَرَ حَتَّى
أَمْنَى: عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٍ؛ لِأَنَّهُ أَنْزَلَ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ،
أَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْمُبَاشَرَةِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ إنْزَالٌ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، فَأَشْبَهَ
الْإِنْزَالَ بِالْفِكْرِ وَالِاحْتِلَامِ، وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا
عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ. ثُمَّ إنَّ الْمُبَاشَرَةَ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ،
وَآكَدُ فِي اسْتِدْعَاءِ الشَّهْوَةِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا إنْ نَظَرَ وَلَمْ يُكَرِّرْ، فَأَمْنَى، فَعَلَيْهِ شَاةٌ.
وَإِنْ كَرَّرَهُ، فَأَنْزَلَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا،
عَلَيْهِ بَدَنَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِيَةُ،
عَلَيْهِ شَاةٌ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقَ
وَرِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ، أَشْبَهَ
الْفِكْرَ. وَلَنَا، أَنَّهُ إنْزَالٌ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ، فَأَوْجَبَ
الْفِدْيَة، كَاللَّمْسِ.
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ
رَجُلٌ: فَعَلَ اللَّهُ بِهَذِهِ وَفَعَلَ، إنَّهَا تَطَيَّبَتْ لِي،
فَكَلَّمَتْنِي، وَحَدَّثَتْنِي، حَتَّى سَبَقَتْنِي الشَّهْوَةُ. فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتْمِمْ حَجَّك، وَأَهْرِقْ دَمًا. وَرَوَى حَنْبَلٌ. فِي
(الْمَنَاسِكِ) ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ مُحْرِمًا نَظَرَ إلَى امْرَأَتِهِ
حَتَّى أَمْذَى، فَجَعَلَ يَشْتُمُهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْرِقْ
دَمًا، وَلَا تَشْتُمْهَا.
[فَصْل كَرَّرَ الْمُحْرِم النَّظَر حَتَّى أَمَذَى]
(2392) فَصْلٌ: فَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ حَتَّى أَمْذَى: فَقَالَ أَبُو
الْخَطَّابِ: عَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ.
قَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَنِيِّ، وَلِأَنَّهُ حَصَلَ
بِهِ الْتِذَاذٌ، فَهُوَ كَاللَّمْسِ. وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالنَّظَرِ
مَنِيٌّ أَوْ مَذْيٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَرَّرَ النَّظَرَ
أَوْ لَمْ يُكَرِّرْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ جَرَّدَ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ
مِنْهُ غَيْرُ التَّجْرِيدِ، أَنَّ عَلَيْهِ شَاةً، وَهَذَا مَحْمُولٌ
عَلَى أَنَّهُ لَمْسٌ، فَإِنَّ التَّجْرِيدَ لَا يُعَرَّى عَنْ اللَّمْسِ
ظَاهِرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَمْنَى أَوْ أَمْذَى، أَمَّا مُجَرَّدُ،
النَّظَرِ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إلَى نِسَائِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَكَذَلِكَ
أَصْحَابُهُ.
[فَصْل فَكَّرَ الْمُحْرِمُ فَأَنْزَلَ]
(2393) فَصْلٌ: فَإِنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ
الْفِكْرَ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ إرَادَةٍ وَلَا اخْتِيَارٍ،
فَلَمْ
(3/312)
يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ، كَمَا فِي
الصِّيَامِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا،
مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ، أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[فَصْل الْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ فِي الْوَطْءِ لِلْمُحْرِمِ سَوَاءٌ]
(2394) فَصْلٌ: وَالْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ فِي الْوَطْءِ سَوَاءٌ. نَصَّ
عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: إذَا جَامَعَ أَهْلَهُ بَطَلَ حَجُّهُ؛
لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَالشَّعْرُ إذَا حَلَقَهُ،
فَقَدْ ذَهَبَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَالصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ،
فَقَدْ ذَهَبَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ
الْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ فِيهَا سَوَاءٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ
النِّسْيَانَ هَاهُنَا، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ فِي الصِّيَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّ
الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ أَوْ دُونَ الْفَرْجِ مَعَ الْإِنْزَالِ يَسْتَوِي
عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ
وَالْمَذْيِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ،
فَهَاهُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا
يَكَادُ يَتَطَرَّقُ النِّسْيَانُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ
الْجِمَاعَ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ دُونَ غَيْرِهِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ
وَسَهْوُهُ، كَالْفَوَاتِ، بِخِلَافِ مَا دُونَهُ.
وَالْجَاهِلُ بِالتَّحْرِيمِ وَالْمُكْرَهُ فِي حُكْمِ النَّاسِي؛
لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّ عَمْدَ الْوَطْءِ
وَنِسْيَانَهُ سَوَاءٌ. أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي
قَدِيمِ قَوْلَيْهِ.
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَجِبُ
بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَافْتَرَقَ فِيهَا وَطْءُ الْعَامِدِ
وَالنَّاسِي، كَالصَّوْمِ.
وَلَنَا أَنَّهُ سَبَبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فِي الْحَجِّ،
فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ، كَالْفَوَاتِ، وَالصَّوْمُ مَمْنُوعٌ.
ثُمَّ إنَّ الصَّوْمَ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهِ بِالْإِفْسَادِ؛
بِدَلِيلِ أَنَّ إفْسَادَهُ بِكُلِّ مَا عَدَا الْجِمَاعَ لَا يُوجِبُ
كَفَّارَةً، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِخُصُوصِ الْجِمَاعِ فَافْتَرَقَا.
[مَسْأَلَة لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَّجِرَ وَيَصْنَعَ الصَّنَائِعَ
وَيَرْتَجِعَ زَوْجَتَهُ]
(2395) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَّجِرَ، وَيَصْنَعَ
الصَّنَائِعَ، وَيَرْتَجِعَ زَوْجَتَهُ) وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الِارْتِجَاعِ، أَنْ لَا
يَفْعَلَ. أَمَّا التِّجَارَةُ وَالصِّنَاعَةُ فَلَا نَعْلَمُ فِي
إبَاحَتِهِمَا اخْتِلَافًا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ
مَتْجَر النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ
كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ، حَتَّى نَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . فِي مَوَاسِمِ
الْحَجِّ. فَأَمَّا الرَّجْعَةُ، فَالْمَشْهُورُ إبَاحَتُهَا. وَهُوَ
قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهَا
لَا تُبَاحُ؛ لِأَنَّهَا اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ مَقْصُودٍ بِعَقْدٍ، فَلَا
تُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ، كَالنِّكَاحِ.
(3/313)
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، أَنَّ
الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ، وَالرَّجْعَةُ إمْسَاكٌ، بِدَلِيلِ قَوْله
تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] . فَأُبِيحَ
ذَلِكَ كَالْإِمْسَاكِ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ
الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةٌ، فَإِنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُبَاحَةٌ، وَإِنْ
سَلَّمْنَا أَنَّهَا اسْتِبَاحَةٌ، فَتَبْطُلُ بُشْرَى الْأَمَةِ
لِلشِّرَاءِ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إبَاحَةُ الزَّوْجَةِ مُبَاحٌ
فِي النِّكَاحِ، كَالتَّكْفِيرِ فِي الظِّهَارِ.
وَأَمَّا شِرَاءُ الْإِمَاءِ فَمُبَاحٌ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ الشِّرَاء
أَوْ لَمْ يَقْصِدْ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ
بِمَوْضُوعِ الِاسْتِبَاحَةِ فِي الْبِضْعِ، فَأَشْبَهَ شِرَاءَ الْعَبِيدِ
وَالْبَهَائِمِ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَ شِرَاءُ مَنْ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا،
فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ فِي حَالَةٍ يُحْرِم فِيهَا الْوَطْءُ.
[مَسْأَلَة لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُل الْحَدَأَة وَالْغُرَاب وَالْفَأْرَة
وَالْعَقْرَب وَالْكَلْب الْعَقُور]
(2396) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْحِدَأَةَ،
وَالْغُرَابَ، وَالْفَأْرَةَ، وَالْعَقْرَبَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ،
وَكُلَّ مَا عَدَا عَلَيْهِ، أَوْ آذَاهُ، وَلَا فِدَاءَ عَلَيْهِ) هَذَا
قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَحُكِيَ عَنْ
النَّخَعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ قَتْلَ الْفَأْرَةِ. وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي
حِلِّ قَتْلِهَا، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا خَالَفَهُ. وَالْمُرَادُ
بِالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ غُرَابُ الْبَيْنِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُبَاحُ مِنْ الْغِرْبَانِ إلَّا الْأَبْقَعُ
خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي
الْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ،
وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحِدَأَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا
يُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ
عَلَى الْعُمُومِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُبَاحَ مِنْ الْغِرْبَانِ لَا
يَحِلُّ قَتْلُهُ.
وَلَنَا، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ؛ قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ
وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةِ، وَالْغُرَابِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْعَقْرَبِ،
وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ،
لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ جُنَاحٌ فِي قَتْلِهِنَّ» . وَذَكَرَ مِثْلَ
حَدِيثِ عَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «خَمْسٌ لَا جُنَاحَ
عَلَى مَنْ قَتْلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ» . وَهَذَا عَامٌّ
فِي الْغُرَابِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَلِأَنَّ
غُرَابَ الْبَيْنِ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ،
(3/314)
يَعْدُو عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، فَلَا
وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْعُمُومِ. وَفَارَقَ مَا أُبِيحَ أَكْلُهُ،
فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ، فَلَا
يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِهِ تَخْصِيصُ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ. وَقَوْلُ
الْخِرَقِيِّ: (وَكُلَّ مَا عَدَا عَلَيْهِ أَوْ آذَاهُ) .
يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَبْدَأُ الْمُحْرِمَ، فَيَعْدُو عَلَيْهِ
فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، فَهَذَا لَا جُنَاحَ عَلَى قَاتِلِهِ، سَوَاء
كَانَ مِنْ جِنْسٍ طَبْعُهُ الْأَذَى، أَوْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ،
عَلَى أَنَّ السَّبُعَ إذَا بَدَأَ الْمُحْرِمَ، فَقَتَلَهُ، لَا شَيْءَ
عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا كَانَ طَبْعُهُ الْأَذَى
وَالْعُدْوَانَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَذًى فِي الْحَالِ. قَالَ
مَالِكٌ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ، مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ،
مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ. فَعَلَى هَذَا
يُبَاحُ قَتْلُ كُلِّ مَا فِيهِ أَذًى لِلنَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي
أَمْوَالِهِمْ، مِثْلُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كُلِّهَا، الْمُحَرَّمِ
أَكْلُهَا، وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ، كَالْبَازِي، وَالْعُقَابِ،
وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهَيْنِ، وَنَحْوِهَا، وَالْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ،
وَالزُّنْبُورِ، وَالْبَقِّ، وَالْبَعُوضِ، وَالْبَرَاغِيثِ، وَالذُّبَابِ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَقْتُلُ مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ،
وَالذِّئْبَ، قِيَاسًا عَلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْخَبَرَ نَصَّ مِنْ
كُلِّ جِنْسٍ عَلَى صُورَةٍ مِنْ أَدْنَاهُ، تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُوَ
أَعْلَى مِنْهَا، وَدَلَالَةً عَلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، فَنَصُّهُ
عَلَى الْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْبَازِي وَنَحْوِهِ،
وَعَلَى الْفَأْرَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَشَرَاتِ، وَعَلَى الْعَقْرَبِ
تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَيَّةِ، وَعَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ تَنْبِيهٌ عَلَى
السِّبَاعِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مِنْهُ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ
بِمِثْلِهِ، وَلَا بِقِيمَتِهِ، لَا يُضْمَنُ، كَالْحَشَرَاتِ.
[فَصْل مَا لَا يُؤْذِي بِطَبْعِهِ وَلَا يُؤْكَلُ كَالرَّخَمِ
وَالدِّيدَانِ فَلَا أَثَر لِلْحَرَمِ وَلَا لِلْإِحْرَامِ فِيهِ]
(2397) فَصْلٌ: وَمَا لَا يُؤْذِي بِطَبْعِهِ، وَلَا يُؤْكَلُ كَالرَّخَمِ،
وَالدِّيدَانِ، فَلَا أَثَرَ لِلْحَرَمِ وَلَا لِلْإِحْرَامِ فِيهِ، وَلَا
جَزَاءَ فِيهِ إنْ قَتَلَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ
مَالِكٌ: يَحْرُمُ قَتْلُهَا، وَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ
سَبُعٍ لَا يَعْدُو عَلَى النَّاسِ. وَإِذَا وَطِئَ الذُّبَابَ وَالنَّمْلَ
أَوْ الذَّرَّ، أَوْ قَتَلَ الزُّنْبُورَ، تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ
الطَّعَامِ.
وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي
الصَّيْدِ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَيْدٍ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ:
الصَّيْدُ مَا جَمَعَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، فَيَكُونُ مُبَاحًا وَحْشِيًّا
مُمْتَنِعًا. وَلِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ، وَالضَّمَانُ
إنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ،
أَنَّهُ قَرَدَ بَعِيرَهُ بِالسُّقْيَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَمَعْنَاهُ
أَنَّهُ نَزَعَ الْقُرَادَ عَنْهُ، وَرَمَاهُ.
وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ قَالَ لِعِكْرِمَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ: قُرِدَ الْبَعِيرُ. فَكَرِهَ
ذَلِكَ. فَقَالَ: قُمْ فَانْحَرْهُ. فَنَحَرَهُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَا أُمَّ لَك، كَمْ قَتَلْت فِيهَا مِنْ قُرَادٍ وَحَلَمَةٍ
وَحَمْنَانَة؟ يَعْنِي كِبَارَ الْقُرَادِ. رَوَاهُ كُلَّهُ سَعِيدٌ.
(3/315)
[فَصْل لَا تَأْثِيرَ لِلْإِحْرَامِ وَلَا
لِلْحَرَمِ فِي تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ]
(2398) فَصْلٌ: وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِحْرَامِ وَلَا لِلْحَرَمِ فِي
تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ، كَبَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ
اللَّهُ تَعَالَى الصَّيْدَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْبَحُ الْبُدْنَ فِي إحْرَامِهِ فِي الْحَرَمِ،
يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: «أَفْضَلُ
الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» . يَعْنِي إسَالَةَ الدِّمَاءِ بِالذَّبْحِ
وَالنَّحْرِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ.
[فَصْل صَيْدَ الْبَحْرِ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ]
(2399) فَصْلٌ: وَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ صَيْدُ الْبَحْرِ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ:
طَعَامُهُ مَا أَلْقَاهُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مِلْحُهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: طَعَامُهُ الْمِلْحُ، وَصَيْدُهُ
مَا اصْطَدْنَا. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ
مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ وَأَكْلُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ.
وَصَيْدُ الْبَحْرِ: الْحَيَوَانُ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، وَيَبِيضُ
فِيهِ، وَيُفْرِخُ فِيهِ، كَالسَّمَكِ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ فِيمَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ،
مِثْلَ السُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ، فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ يَبِيضُ فِي الْمَاءِ، وَيُفْرِخُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ
السَّمَكَ. فَأَمَّا طَيْرُ الْمَاءِ، كَالْبَطِّ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ مِنْ
صَيْدِ الْبَرِّ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِيهِ
الْجَزَاءُ. وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: حَيْثُ يَكُونُ
أَكْثَرَ، فَهُوَ صَيْدُهُ. وَقَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْلَى؛
لِأَنَّهُ يَبِيضُ فِي الْبَرِّ، وَيُفْرِخُ فِيهِ، فَكَانَ مِنْ صَيْدِ
الْبَرِّ، كَسَائِرِ طَيْرِهِ، وَإِنَّمَا إقَامَتُهُ فِي الْبَحْرِ
لِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَالْمَعِيشَةِ مِنْهُ، كَالصَّيَّادِ. فَإِنْ كَانَ
جِنْسٌ مِنْ الْحَيَوَانِ، نَوْعٌ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ وَنَوْعٌ فِي
الْبَرِّ، كَالسُّلَحْفَاةِ، فَلِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمُ نَفْسِهِ،
كَالْبَقَرِ، مِنْهَا الْوَحْشِيُّ مُحَرَّمٌ، وَالْأَهْلِيُّ مُبَاحٌ.
[مَسْأَلَة صَيْدُ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ]
(2400) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَصَيْدُ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ
وَالْمُحْرِمِ) الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ النَّصُّ
وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا النَّصُّ، فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ
فَتْحِ مَكَّةَ: «إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لَأَحَدٍ قَبْلِي،
وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ
اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ
شَوْكُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا،
إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَّا
الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ
(3/316)
وَبُيُوتِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا الْإِذْخِرَ.» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ
عَلَى الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ.
[فَصْل جَزَاءُ مِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَم]
(2401) فَصْلٌ: وَفِيهِ الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ يَقْتُلُهُ، وَيُجْزَى
بِمِثْلِ مَا يُجْزَى بِهِ الصَّيْدُ فِي الْإِحْرَامِ. وَحُكِيَ عَنْ
دَاوُد، أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ
الذِّمَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ فَيَبْقَى بِحَالِهِ.
وَلَنَا، أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قَضَوْا فِي
حَمَامِ الْحَرَمِ بِشَاةٍ شَاةً. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ
خِلَافُهُمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ
لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَشْبَهَ الصَّيْدَ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ.
[فَصْل مَا يُحَرَّمُ وَيَضْمَن فِي الْإِحْرَامِ يُحَرَّمُ وَيَضْمَن فِي
الْحَرَمِ]
(2402) فَصْلٌ: وَمَا يُحَرَّمُ وَيُضْمَنُ فِي الْإِحْرَامِ يُحَرَّمُ
وَيُضْمَنُ فِي الْحَرَمِ، وَمَا لَا فَلَا، إلَّا شَيْئَيْنِ؛
أَحَدُهُمَا، الْقَمْلُ. مُخْتَلَفٌ فِي قَتْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ
مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ بِلَا اخْتِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ حُرِّمَ فِي
الْإِحْرَامِ لِلتَّرَفُّهِ بِقَتْلِهِ وَإِزَالَتِهِ، لَا لِحُرْمَتِهِ،
وَلَا يُحَرَّمُ التَّرَفُّهُ فِي الْحِلِّ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ قَصَّ
الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الظُّفْرِ. الثَّانِي، صَيْدُ الْبَحْرِ. مُبَاحٌ
فِي الْإِحْرَام بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ مِنْ آبَارِ
الْحَرَمِ وَعُيُونِهِ.
وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا.» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ
لِلصَّيْدِ، كَحُرْمَةِ الْمَكَانِ، وَهُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ صَيْدٍ،
وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ غَيْرُ مُؤْذٍ، فَأَشْبَهَ الظِّبَاءَ. وَعَنْ
أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا
يُحَرِّمُهُ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ وَالْحَيَوَانَ الْأَهْلِيَّ.
[فَصْل ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ]
(2403) فَصْلٌ: وَيُضْمَنُ صَيْدُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ
وَالْكَافِرِ، وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ
الْحُرْمَةَ تَعَلَّقَتْ بِمَحَلِّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ،
فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَالْآدَمِيِّ.
[فَصْل مَلَكَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَأُدَخِّلهُ الْحَرَم]
(2404) فَصْلٌ: وَمَنْ مَلَكَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، فَأَدْخَلَهُ
الْحَرَمَ، لَزِمَهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهُ وَإِرْسَالُهُ، فَإِنْ تَلِفَ
فِي يَدِهِ، أَوْ أَتْلَفَهُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَصَيْدِ الْحِلِّ فِي
حَقِّ الْمُحْرِمِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إنْ ذَبَحَهُ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَمِمَّنْ كَرِهَ إدْخَالَ الصَّيْدِ الْحَرَمَ، ابْنُ
عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ،
وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرَخَّصَ فِيهِ جَابِرُ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، وَرُوِيَتْ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ لَهُ. أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ.
وَقَالَ هِشَامُ
(3/317)
بْنُ عُرْوَةَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
تِسْعَ سِنِينَ يَرَاهَا فِي الْأَقْفَاصِ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا. وَرَخَّصَ
فِيهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ خَارِجًا،
وَحَلَّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَجَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ،
كَصَيْدِ الْمَدِينَةِ إذَا أَدْخَلَهُ حَرَمَهَا.
وَلَنَا، أَنَّ الْحَرَمَ سَبَبٌ مُحَرِّمٌ لِلصَّيْدِ، وَيُوجِبُ
ضَمَانَهُ فَحَرَّمَ اسْتِدَامَةَ إمْسَاكِهِ كَالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ
صَيْدٌ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ، فَلَزِمَهُ جَزَاؤُهُ، كَمَا لَوْ صَادَهُ
مِنْهُ، وَصَيْدُ الْمَدِينَةِ لَا جَزَاءَ فِيهِ، بِخِلَافِ صَيْدِ
الْحَرَمِ.
[فَصْل يَضْمَن صَيْدُ الْحَرَمِ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ]
(2405) فَصْلٌ: وَيُضْمَنُ صَيْدُ الْحَرَمِ بِالدَّلَالَةِ
وَالْإِشَارَةِ، كَصَيْدِ الْإِحْرَامِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا جَزَاءٌ
وَاحِدٌ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ
بَيْنَ كَوْنِ الدَّالِ فِي الْحِلِّ أَوْ الْحَرَمِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: لَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِ إذَا كَانَ فِي الْحِلِّ،
وَالْجَزَاءُ عَلَى الْمَدْلُولِ وَحْدَهُ، كَالْحَلَالِ إذَا دَلَّ
مُحْرِمًا عَلَى صَيْدِهِ. وَلَنَا، أَنَّ قَتْل الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ
حَرَامٌ عَلَى الدَّالِّ، فَيَضْمَنُهُ بِالدَّلَالَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ
فِي الْحَرَمِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ
أَحَدٍ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» .
وَفِي لَفْظٍ: «لَا يُصَادُ صَيْدُهَا» . وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ
وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مَعْصُومٌ بِمَحَلِّهِ، فَحُرِّمَ
قَتْلُهُ عَلَيْهِمَا كَالْمُلْتَجِئِ إلَى الْحَرَمِ. وَإِذَا ثَبَتَ
تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمَا فَيُضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ مِمَّنْ يَحْرُمُ
عَلَيْهِ قَتْلُهُ، كَمَا يُضْمَنُ بِدَلَالَةِ الْمُحْرِمِ عَلَيْهِ.
[فَصْل رَمْي الْحَلَالُ مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ]
(2406) فَصْلٌ: وَإِذَا رَمَى الْحَلَالُ مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي
الْحَرَمِ، فَقَتَلَهُ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ، أَوْ
قَتَلَ صَيْدًا عَلَى فَرْعٍ فِي الْحَرَمِ أَصِلُهُ فِي الْحِلِّ،
ضَمِنَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ،
وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ
عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى، لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ حَلَالٌ فِي الْحِلِّ.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ
مَنْ هُوَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَهَذَا مِنْ صَيْدِهِ، وَلِأَنَّ صَيْدَ
الْحَرَمِ مَعْصُومٌ بِمَحَلِّهِ بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَلَا يَخْتَصُّ
تَحْرِيمُهُ بِمَنْ فِي الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ أَمْسَكَ
طَائِرًا فِي الْحِلِّ، فَهَلَكَ فِرَاخُهُ فِي الْحَرَمِ، ضَمِنَ
الْفِرَاخَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَضْمَنُ الْأُمَّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ
صَيْدِ الْحِلِّ، وَهُوَ حَلَالٌ. وَإِنْ انْعَكَسَتْ الْحَالُ، فَرَمَى
مِنْ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَيْهِ،
أَوْ قَتَلَ صَيْدًا عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ،
أَوْ أَمْسَكَ حَمَامَةً فِي الْحَرَمِ، فَهَلَكَ فِرَاخُهَا فِي الْحِلِّ،
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْحِلِّ.
قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ فِي الْحَرَمِ، فَصَادَ فِي
الْحِلِّ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ عَنْهُ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، فِي
جَمِيعِ الصُّوَرِ: يَضْمَنُ.
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ،
وَالشَّافِعِيُّ؛ وَأَبُو ثَوْرِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، فِي مَنْ قَتَلَ
طَائِرًا عَلَى غُصْنٍ فِي الْحِلِّ، أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ: لَا جَزَاءَ
عَلَيْهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَإِسْحَاقُ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ
الْغُصْنَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ، وَهُوَ فِي الْحَرَمِ.
(3/318)
وَلَنَا، أَنَّ الْأَصْلَ حِلُّ الصَّيْدِ،
فَحَرَّمَ صَيْدُ الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا
يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» . وَبِالْإِجْمَاعِ، فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى
الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ صَيْدُ حِلٍّ صَادَهُ حَلَالٌ، فَلَمْ يُحَرَّمْ،
كَمَا لَوْ كَانَا فِي الْحِلِّ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا يَجِبُ فِي
صَيْدِ الْحَرَمِ، أَوْ صَيْدِ الْمُحْرِمِ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا.
(2407) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ وَالصَّائِدُ فِي الْحِلِّ، فَرَمَى
الصَّيْدَ بِسَهْمِهِ، أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ، فَدَخَلَ
الْحَرَمَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ، فَلَا جَزَاءَ
فِيهِ. وَبِهَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ
الْمُنْذِرِ. وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ
الْجَزَاءَ.
وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَزِيدُ سَهْمُهُ عَلَى
نَفْسِهِ، وَلَوْ عَدَا بِنَفْسِهِ، فَسَلَكَ الْحَرَمَ فِي طَرِيقِهِ،
ثُمَّ قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ،
فَسَهْمُهُ أَوْلَى.
[فَصْل رَمَى مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَقَتَلَ صَيْدًا فِي
الْحَرَمِ]
(2408) فَصْلٌ: وَإِنْ رَمَى مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، فَقَتَلَ
صَيْدًا فِي الْحَرَمِ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَبِهَذَا قَالَ
الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛
لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا حَرَمِيًّا، فَلَزِمَهُ جَزَاؤُهُ، كَمَا لَوْ
رَمَى حَجَرًا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَ صَيْدًا، يُحَقِّقُهُ أَنَّ
الْخَطَأَ كَالْعَمْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، وَهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ
كَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا. فَأَمَّا إنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ
فِي الْحِلِّ، فَدَخَلَ الْكَلْبُ الْحَرَمَ، فَقَتَلَ صَيْدًا آخَرَ، لَمْ
يَضْمَنْهُ.
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ،
وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ الْكَلْبَ
عَلَى ذَلِكَ الصَّيْدِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ، فَهُوَ
كَمَا لَوْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إرْسَالٍ. وَإِنْ
أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ، فَدَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ، وَدَخَلَ
الْكَلْبُ خَلْفَهُ، فَقَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ، فَكَذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ
أَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ
الْمُنْذِرِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛
لِأَنَّهُ قَتَلَ صَيْدًا حَرَمِيًّا، بِإِرْسَالِ كَلْبِهِ عَلَيْهِ،
فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِسَهْمِهِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ
عَبْدُ الْعَزِيزِ. وَحَكَى صَالِحٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ
كَانَ الصَّيْدُ قَرِيبًا مِنْ الْحَرَمِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ
بِإِرْسَالِهِ فِي مَوْضِعٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْحَرَمَ، وَإِنْ
كَانَ بَعِيدًا، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَرْسَلَ الْكَلْبَ عَلَى صَيْدٍ
مُبَاحٍ، فَلَمْ يَضْمَنْ. كَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا سِوَاهُ، وَفَارَقَ
السَّهْمَ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَهُ قَصْدٌ وَاخْتِيَارٌ، وَلِهَذَا
يَسْتَرْسِلُ بِنَفْسِهِ، وَيُرْسِلُهُ إلَى جِهَةٍ فَيَمْضِي إلَى
غَيْرِهَا، وَالسَّهْمُ بِخِلَافِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا
يَأْكُلُ الصَّيْدَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، ضَمِنَهُ أَوْ لَمْ
يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ حَرَمِيٌّ، قُتِلَ فِي الْحَرَمِ، فَحُرِّمَ،
كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ، وَلِأَنَّنَا إذَا قَطَعْنَا فِعْلَ الْآدَمِيِّ،
صَارَ كَأَنَّ الْكَلْبَ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ، فَقَتَلَهُ.
وَلَكِنْ لَوْ رَمَى الْحَلَالُ مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحِلِّ،
فَجَرَحَهُ، وَتَحَامَلَ الصَّيْدُ فَدَخَلَ الْحَرَمَ، فَمَاتَ فِيهِ،
حَلَّ أَكْلُهُ، وَلَا جَزَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ حَصَلَتْ فِي
الْحِلِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَ صَيْدًا، ثُمَّ أَحْرَمَ، فَمَاتَ
(3/319)
الصَّيْدُ بَعْدَ إحْرَامِهِ. وَيُكْرَهُ
أَكْلُهُ؛ لِمَوْتِهِ فِي الْحَرَمِ.
[فَصْل وَقَفَ صَيْدٌ بَعْضُ قَوَائِمه فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي
الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ قَاتِلٌ]
(2409) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ صَيْدٌ، بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ،
وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ، فَقَتَلَهُ قَاتِلٌ، ضَمِنَهُ تَغْلِيبًا
لِلْحَرَمِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَإِنْ
نَفَّرَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فِي حَالِ نُفُورِهِ،
ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ
تَلِفَ بِشَرَكِهِ أَوْ شَبَكَتِهِ. وَإِنْ سَكَنَ مِنْ نُفُورِهِ، ثُمَّ
أَصَابَهُ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ نَفَّرَهُ. نَصَّ عَلَيْهِ
أَحْمَدُ.
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِإِتْلَافِهِ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ وَقَعَتْ عَلَى رِدَائِهِ حَمَامَةٌ،
فَأَطَارَهَا، فَوَقَعَتْ عَلَى وَاقِفٍ فَانْتَهَزَتْهَا حَيَّةٌ،
فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُثْمَانَ وَنَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِث
فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِشَاةٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا
عَلَيْهِ الضَّمَانَ بَعْدَ سُكُوتِهِ. لَكِنْ لَوْ انْتَقَلَ عَنْ
الْمَكَانِ الثَّانِي، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي طَرْد إلَيْهِ، وَقَوْلُ
الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ سُفْيَان
قَالَ: إذَا طَرَدْت فِي الْحَرَمِ شَيْئًا، فَأَصَابَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ
يَقَعَ، أَوْ حِينَ وَقَعَ، ضَمِنْت، وَإِنْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ
إلَى مَكَان آخَرَ، فَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ. فَقَالَ أَحْمَدُ: جَيِّدٌ.
[مَسْأَلَة قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ]
(2410) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ شَجَرُهُ وَنَبَاتُهُ، إلَّا
الْإِذْخِرَ، وَمَا زَرَعَهُ الْإِنْسَانُ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ
عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَإِبَاحَةِ أَخْذِ الْإِذْخِر،
وَمَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ مِنْ الْبُقُولِ وَالزُّرُوعِ
وَالرَّيَاحِينِ. حَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا
رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ، وَأَبُو
هُرَيْرَةَ نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلُّهَا مُتَّفَقٌ
عَلَيْهَا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ
حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» . وَفِي
حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ، قَالَ: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا
اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا
يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً» . وَرَوَى الْأَثْرَمُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةِ،
فِي (سُنَنِهِ) ، وَفِيهِ: «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُحْتَشُّ
حَشِيشُهَا، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا» . فَأَمَّا مَا أَنْبَتَهُ
الْآدَمِيُّ مِنْ الشَّجَرِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَقِيلٍ:
لَهُ قَلْعُهُ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، كَالزَّرْعِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: مَا نَبَتَ فِي الْحِلِّ، ثُمَّ غُرِسَ فِي الْحَرَمِ،
فَلَا جَزَاءَ فِيهِ، وَمَا نَبَتَ أَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ. فَفِيهِ
الْجَزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي شَجَرِ الْحَرَمِ
الْجَزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ، أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّونَ، أَوْ نَبَتَ
بِنَفْسِهِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُعْضَدُ
شَجَرُهَا» . وَلِأَنَّهَا شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ فِي الْحَرَمِ، أَشْبَهَ مَا
لَمْ يُنْبِتْهُ الْآدَمِيُّونَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا جَزَاءَ فِيمَا يُنْبِتُ الْآدَمِيُّونَ
جِنْسَهُ، كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالنَّخْلِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَجِبُ
فِيمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّ مِنْ غَيْرِهِ، كَالدَّوْحِ وَالسَّلَم
وَالْعِضَاهِ؛ لِأَنَّ الْحَرَمِ يَخْتَصُّ تَحْرِيمُهُ مَا كَانَ
وَحْشِيًّا مِنْ الصَّيْدِ، كَذَلِكَ الشَّجَرُ. وَقَوْلُ
(3/320)
الْخِرَقِيِّ: (وَمَا زَرَعَهُ
الْإِنْسَانُ) يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَهُ بِالزَّرْعِ دُونَ الشَّجَرِ،
فَيَكُونُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ مَا يُزْرَعُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ
الشَّجَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَا يُنْبِتُ الْآدَمِيُّونَ
جِنْسَهُ. وَالْأَوْلَى الْأَخْذُ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ
الشَّجَرِ كُلِّهِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُعْضَدُ
شَجَرُهَا.» إلَّا مَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ مِنْ جِنْسِ شَجَرِهِمْ،
بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا أَنْبَتُوهُ مِنْ الزَّرْعِ، وَالْأَهْلِيِّ مِنْ
الْحَيَوَانِ، فَإِنَّنَا إنَّمَا أَخْرَجْنَا مِنْ الصَّيْدِ مَا كَانَ
أَصْلُهُ إنْسِيًّا، دُونَ مَا تَأَنَّسَ مِنْ الْوَحْشِيِّ، كَذَا
هَاهُنَا.
[فَصْل يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِم قَطْعُ الشَّوْكِ وَالْعَوْسَجِ]
(2411) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ قَطْعُ الشَّوْكِ، وَالْعَوْسَجِ. وَقَالَ
الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَحْرُمُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛
لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِطَبْعِهِ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ مِنْ الْحَيَوَانِ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا
يُعْضَدُ شَجَرُهَا» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَا يُخْتَلَى
شَوْكُهَا» . وَهَذَا صَرِيحٌ. وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ
الشَّوْكُ، فَلَمَّا حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَطْعَ شَجَرِهَا، وَالشَّوْكُ غَالِبُهُ، كَانَ ظَاهِرًا فِي
تَحْرِيمِهِ.
[فَصْل لَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ بِقَطْعِ الْيَابِسِ مِنْ الشَّجَرِ
وَالْحَشِيشِ]
(2412) فَصْلٌ: وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ الْيَابِسِ مِنْ الشَّجَرِ
وَالْحَشِيشِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ. وَلَا بِقَطْعِ مَا
انْكَسَرَ وَلَمْ يَبِنْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
الظُّفْرِ الْمُنْكَسِرِ. وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا انْكَسَرَ
مِنْ الْأَغْصَانِ، وَانْقَلَعَ مِنْ الشَّجَرِ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ.
وَلَا مَا سَقَطَ مِنْ الْوَرَقِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا نَعْلَمُ
فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْقَطْعِ، وَهَذَا
لَمْ يُقْطَعْ. فَأَمَّا إنْ قَطَعَهُ آدَمِيٌّ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَمْ
أَسْمَعْ، إذَا قُطِعَ يُنْتَفَعُ بِهِ.
وَقَالَ فِي الدَّوْحَةِ تُقْلَعُ: مَنْ شَبَّهَهُ بِالصَّيْدِ، لَمْ
يَنْتَفِعْ بِحَطَبِهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إتْلَافِهِ؛
لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَإِذَا قَطَعَهُ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَطْعُهُ،
لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ، كَالصَّيْدِ يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ. وَيَحْتَمِلُ
أَنْ يُبَاحَ لِغَيْرِ الْقَاطِعِ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ
بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَأُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَمَا لَوْ
قَطَعَهُ حَيَوَانٌ بَهِيمِيٌّ، وَيُفَارِقُ الصَّيْدَ الَّذِي ذَبَحَهُ،
لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُعْتَبَرُ لَهَا الْأَهْلِيَّةُ، وَلِهَذَا لَا
يَحْصُلُ بِفِعْلِ بَهِيمَةٍ، بِخِلَافِ هَذَا.
[فَصْل لَا يَأْخُذ الْمُحْرِم وَرَقِ الشَّجَرِ]
(2413) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ وَرَقِ الشَّجَرِ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِهِ. وَكَانَ
عَطَاءٌ يُرَخِّصُ فِي أَخْذِ وَرَقِ السَّنَى، يَسْتَمْشِي بِهِ، وَلَا
يُنْزَعُ مِنْ أَصْلِهِ. وَرَخَّصَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.
(3/321)
وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا، وَلَا
يُعْضَدُ شَجَرُهَا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ أَخْذُهُ
حُرِّمَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، كَرِيشِ الطَّائِرِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا
يَضُرُّ بِهِ. لَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ يُضْعِفُهَا، وَرُبَّمَا آلَ إلَى
تَلَفِهَا.
[فَصْل قَطْعُ حَشِيشِ الْحَرَمِ]
(2414) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ قَطْعُ حَشِيشِ الْحَرَمِ، إلَّا مَا
اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْ الْإِذْخِرِ، وَمَا أَنْبَتَهُ
الْآدَمِيُّونَ، وَالْيَابِسَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا
يُخْتَلَى خَلَاهَا» .
وَفِي لَفْظٍ: «لَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا.» وَفِي اسْتِثْنَاءِ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِذْخِرَ دَلِيلٌ عَلَى
تَحْرِيمِ مَا عَدَاهُ، وَفِي جَوَازِ رَعْيِهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا،
لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَا حَرُمَ
إتْلَافُهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْسَلَ عَلَيْهِ مَا يُتْلِفُهُ،
كَالصَّيْدِ. وَالثَّانِي، يَجُوزُ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ،
وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ تَدْخُلُ الْحَرَمَ،
فَتَكْثُرُ فِيهِ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا،
وَلِأَنَّ بِهِمْ حَاجَةً إلَى ذَلِكَ، أَشْبَهَ قَطْعَ الْإِذْخِرِ.
[فَصْل أَخْذُ الْكَمْأَةِ مِنْ الْحَرَمِ]
(2415) فَصْلٌ: وَيُبَاحُ أَخْذُ الْكَمْأَةِ مِنْ الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ
الْفَقْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، فَأَشْبَهَ الثَّمَرَةَ. وَرَوَى
حَنْبَلٌ، قَالَ: يُؤْكَلُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ الضَّغَابِيسُ، والعشرق،
وَمَا سَقَطَ مِنْ الشَّجَرِ، وَمَا أَنْبَتَ النَّاسُ.
[فَصْل الضَّمَان عَلَى مِنْ أَتْلَفَ الشَّجَر وَالْحَشِيش فِي الْحَرَم]
(2416) فَصْلٌ: وَيَجِبُ فِي إتْلَافِ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ الضَّمَانُ.
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا
يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَضْمَنُهُ فِي الْحِلِّ، فَلَا
يَضْمَنُ فِي الْحَرَمِ، كَالزَّرْعِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا
أَجِدُ دَلِيلًا أُوجِبُ بِهِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ، فَرْضًا مِنْ كِتَابٍ،
وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَأَقُولُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ:
نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُشَيْمَةَ،
قَالَ: رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَمَرَ بِشَجَرٍ كَانَ فِي
الْمَسْجِدِ يَضُرُّ بِأَهْلِ الطَّوَافِ، فَقُطِعَ، وَفَدَى. قَالَ:
وَذَكَرَ الْبَقَرَةَ. رَوَاهُ حَنْبَلٌ فِي (الْمَنَاسِكِ) . وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ، وَفِي الْجَزْلَةِ
شَاةٌ. وَالدَّوْحَةُ: الشَّجَرَةُ الْعَظِيمَةُ. وَالْجَزْلَةُ:
الصَّغِيرَةُ. وَعَنْ عَطَاءٍ
(3/322)
نَحْوُهُ. وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ
إتْلَافِهِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَكَانَ مَضْمُونًا كَالصَّيْدِ،
وَيُخَالِفُ الْمُحْرِمَ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ قَطْعِ شَجَرِ
الْحِلِّ، وَلَا زَرْعِ الْحَرَمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ
الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَة بِبَقَرَةٍ، وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ، وَالْحَشِيشَ
بِقِيمَتِهِ، وَالْغُصْنَ بِمَا نَقَصَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَضْمَنُ الْكُلَّ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ
لَا مُقَدَّرَ فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْحَشِيشَ. وَلَنَا، قَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَحْرُمُ إتْلَافُهُ،
فَكَانَ فِيهِ مَا يُضْمَنُ بِمُقَدَّرٍ كَالصَّيْدِ. فَإِنْ قَطَعَ
غُصْنًا أَوْ حَشِيشًا، فَاسْتَخْلَفَ، احْتَمَلَ سُقُوطُ ضَمَانِهِ، كَمَا
إذَا جَرَحَ صَيْدًا فَانْدَمَلَ، أَوْ قَطَعَ شَعْرَ آدَمِيٍّ فَنَبَتَ،
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَهُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ.
[فَصْل قَلَعَ شَجَرَةً مِنْ الْحَرَمِ فَغَرَسَهَا فِي مَكَان آخَر
فَيَبِسَتْ]
(2417) فَصْلٌ: مَنْ قَلَعَ شَجَرَةً مِنْ الْحَرَمِ، فَغَرَسَهَا فِي
مَكَان آخَرَ، فَيَبِسَتْ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا. وَإِنْ
غَرَسَهَا فِي مَكَان مِنْ الْحَرَمِ، فَنَبَتَتْ، لَمْ يَضْمَنْهَا؛
لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْهَا، وَلَمْ يُزِلْ حُرْمَتَهَا. وَإِنْ غَرَسَهَا
فِي الْحِلِّ، فَنَبَتَتْ، فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ
حُرْمَتَهَا. فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا، أَوْ رَدَّهَا فَيَبِسَتْ،
ضَمِنَهَا. وَإِنْ قَلَعَهَا غَيْرُهُ مِنْ الْحِلِّ، فَقَالَ الْقَاضِي:
الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ الْمُتْلِفُ لَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَمْ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُخْرِجِ، كَالصَّيْدِ إذَا
نَفَّرَهُ مِنْ الْحَرَمِ، فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي الْحِلَّ، فَإِنَّ
الضَّمَانَ عَلَى الْمُنَفِّرِ؟ قُلْنَا: الشَّجَرُ لَا يَنْتَقِلُ
بِنَفْسِهِ، وَلَا تَزُولُ حُرْمَتُهُ بِإِخْرَاجِهِ، وَلِهَذَا وَجَبَ
عَلَى قَالِعِهِ رَدُّهُ، وَالصَّيْدُ يَكُونُ فِي الْحَرَمِ تَارَةً وَفِي
الْحِلِّ أُخْرَى، فَمَنْ نَفَّرَهُ فَقَدْ فَوَّتَ حُرْمَتَهُ، فَلَزِمَهُ
جَزَاؤُهُ، وَهَذَا لَمْ يُفَوِّتْ حُرْمَتَهُ بِالْإِخْرَاجِ، فَكَانَ
الْجَزَاءُ عَلَى مُتْلِفِهِ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ شَجَرًا حَرَمِيًّا
مُحَرَّمًا إتْلَافُهُ.
[فَصْل إذَا كَانَتْ شَجَرَةٌ فِي الْحَرَمِ وَغُصْنُهَا فِي الْحِلِّ
فَعَلَى قَاطِعِهِ الضَّمَانُ]
(2418) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ شَجَرَةٌ فِي الْحَرَمِ، وَغُصْنُهَا فِي
الْحِلِّ، فَعَلَى قَاطِعِهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَصْلِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحِلِّ، وَغُصْنُهَا فِي الْحَرَمِ، فَقَطَعَهُ،
فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ
الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَصْلِهِ، كَاَلَّتِي
قَبْلَهَا. وَالثَّانِي، يَضْمَنُهُ. اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى؛
لِأَنَّهُ فِي الْحَرَمِ. فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَصْلِ فِي الْحِلِّ
وَبَعْضُهُ فِي الْحَرَمِ، ضَمِنَ الْغُصْنَ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ
فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ، تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، كَمَا
لَوْ وَقَفَ صَيْدٌ بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا فِي
الْحَرَمِ.
[فَصْل حُكْمُ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَشَجَرِهَا وَحَشِيشِهَا]
(2419) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ صَيْدُ الْمَدِينَةِ وَشَجَرُهَا وَحَشِيشُهَا.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
(3/323)
لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
مُحَرَّمًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بَيَانًا عَامًّا، وَلَوَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ، كَصَيْدِ الْحَرَمِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ، مَا
بَيْنَ ثَوْرٍ إلَى عِيرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى تَحْرِيمَ
الْمَدِينَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَرَافِعٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ.
مُتَّفَقٌ عَلَى أَحَادِيثِهِمْ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سَعْدٍ،
وَجَابِرٍ، وَأَنَسٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ الْبَيَانِ،
وَلَيْسَ هُوَ فِي الدَّرَجَةِ دُونَ أَخْبَارِ تَحْرِيمِ الْحَرَمِ،
وَقَدْ قَبِلُوهُ وَأَثْبَتُوا أَحْكَامَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يُبَيِّنَهُ بَيَانًا خَاصًّا، أَوْ يُبَيِّنَهُ
بَيَانًا عَامًّا، فَيُنْقَلُ نَقْلًا خَاصًّا، كَصِفَةِ الْأَذَانِ
وَالْوِتْرِ وَالْإِقَامَةِ.
[فَصْل حَرَمُ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا]
(2420) فَصْلٌ: وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا؛ لِمَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ. وَكَانَ أَبُو
هُرَيْرَةَ يَقُول: لَوْ رَأَيْت الظِّبَاءَ تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ مَا
ذَعَرْتهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّابَةُ: الْحَرَّةُ، وَهِيَ
أَرْضٌ فِيهَا حِجَارَةٌ سُودٌ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا
حَرَامٌ. بَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ، كَذَا فَسَّرَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ اثْنَا عَشَرِ مِيلًا
حِمًى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: «مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إلَى عِيرٍ» . فَقَالَ أَهْلُ
الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ: لَا نَعْرِفُ بِهَا ثَوْرًا وَلَا عِيرًا.
وَإِنَّمَا هُمَا جَبَلَانِ بِمَكَّةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ قَدْرَ مَا بَيْنَ ثَوْرٍ
وَعِيرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ جَبَلَيْنِ بِالْمَدِينَةِ،
وَسَمَّاهُمَا ثَوْرًا وَعِيرًا، تَجَوُّزًا.
[فَصْل فَعَلَ الْمُحْرِم شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ]
(2421) فَصْلٌ: فَمَنْ فَعَلَ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا جَزَاءَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ
أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ؛
لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَلَمْ يَجِبْ
فِيهِ جَزَاءٌ، كَصَيْدِ وَجِّ.
(3/324)
وَالثَّانِيَةُ، يَجِبْ فِيهِ الْجَزَاءُ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي
الْقَدِيمِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ،
مِثْلَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ» . وَنَهَى أَنْ يُعْضَدَ
شَجَرُهَا، وَيُؤْخَذَ طَيْرُهَا، فَوَجَبَ فِي هَذَا الْحَرَمِ
الْجَزَاءُ، كَمَا وَجَبَ فِي ذَلِكَ، إذْ لَمْ يَظْهَرْ بَيْنَهُمَا
فَرْقٌ، وَجَزَاؤُهُ إبَاحَةُ سَلَبَ الْقَاتِلِ لِمَنْ أَخَذَهُ؛ لِمَا
رَوَى مُسْلِمٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ سَعْدًا
رَكِبَ إلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا،
أَوْ يَخْبِطُهُ، فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَ أَهْلُ
الْعَبْدِ، فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ، أَوْ عَلَيْهِمْ،
فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ
عَلَيْهِمْ. وَعَنْ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فِيهِ،
فَلْيَسْلُبْهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَعَلَى هَذَا يُبَاحُ لِمَنْ
وَجَدَ آخِذَ الصَّيْدِ أَوْ قَاتِلَهُ، أَوْ قَاطِعَ الشَّجَرِ سَلَبُهُ،
وَهُوَ أَخْذُ ثِيَابِهِ حَتَّى سَرَاوِيلِهِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ
لَمْ يَمْلِكْ أَخْذَهَا؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَيْسَتْ مِنْ السَّلَبِ،
وَإِنَّمَا أَخَذَهَا قَاتِلُ الْكَافِرِ فِي الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ
يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْحَرْبِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَإِنْ لَمْ
يَسْلُبْهُ أَحَدٌ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، سِوَى الِاسْتِغْفَارِ
وَالتَّوْبَةِ.
[فَصْل يُفَارِقُ حَرَمُ الْمَدِينَة حَرَمَ مَكَّةَ فِي شَيْئَيْنِ]
(2422) فَصْل: وَيُفَارِقُ حَرَمُ الْمَدِينَةِ حَرَمَ مَكَّةَ فِي
شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ شَجَرِ
حَرَمِ الْمَدِينَةِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، لِلْمَسَانِدِ
وَالْوَسَائِدِ وَالرَّحْلِ، وَمِنْ حَشِيشِهَا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ
إلَيْهِ لِلْعَلْفِ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَمَّا حَرَّمَ الْمَدِينَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا
أَصْحَابُ عَمَلٍ، وَأَصْحَابُ نَضْحٍ، وَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَرْضًا
غَيْرَ أَرْضِنَا، فَرَخِّصْ لَنَا، فَقَالَ: الْقَائِمَتَانِ،
وَالْوِسَادَةُ، وَالْعَارِضَةُ، وَالْمِسْنَدُ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ
فَلَا يُعْضَدُ، وَلَا يُخْبَطُ مِنْهَا شَيْءٌ» . قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ
أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ خَارِجَةُ: الْمِسْنَدُ مِرْوَدُ الْبَكَرَةِ.
فَاسْتَثْنَى ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ مُبَاحًا، كَاسْتِثْنَاءِ الْإِذْخِرَ
بِمَكَّةَ
وَعَنْ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «الْمَدِينَةُ حَرَامٌ، مَا بَيْنَ عَائِرٍ إلَى ثَوْرٍ، لَا
يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ
يُقْطَعَ مِنْهَا شَجَرَةٌ، إلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ» وَعَنْ
جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «لَا يُخْبَطُ وَلَا يُعْضَدُ حِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ يُهَشُّ هَشًّا رَفِيقًا» .
رَوَاهُمَا
(3/325)
أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ الْمَدِينَةَ
يَقْرُبُ مِنْهَا شَجَرٌ وَزَرْعٌ، فَلَوْ مَنَعْنَا مِنْ احْتِشَاشِهَا،
مَعَ الْحَاجَةِ، أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ، بِخِلَافِ مَكَّةَ، الثَّانِي،
أَنَّ مَنْ صَادَ صَيْدًا خَارِجَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ
إلَيْهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ إرْسَالُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُول: «يَا
أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» . وَهُوَ طَائِرٌ صَغِيرٌ.
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَبَاحَ إمْسَاكَهُ بِالْمَدِينَةِ، إذْ لَمْ
يُنْكِرْ ذَلِكَ، وَحُرْمَةُ مَكَّةَ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَدِينَةِ،
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مُحْرِمٌ.
[فَصْل صَيْدُ وَجٍّ وَشَجَرُهُ مُبَاحٌ وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ]
(2423) فَصْلٌ: صَيْدُ وَجٍّ وَشَجَرُهُ مُبَاحٌ؛ وَهُوَ وَادٍ
بِالطَّائِفِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هُوَ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَيْدُ وَجٍّ
وَعِضَاهُهَا مُحَرَّمٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، فِي (الْمُسْنَدِ) . وَلَنَا،
أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ.
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، فِي كِتَابِ (الْعِلَلِ) .
[مَسْأَلَة الْمُحْرِمَ إذَا حَصَرَهُ عَدُوٌّ فَمَنَعَهُ الْوُصُولَ إلَى
الْبَيْتِ]
(2424) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ حُصِرَ بِعَدُوٍّ، نَحَرَ مَا مَعَهُ
مِنْ الْهَدْيِ، وَحَلَّ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ
الْمُحْرِمَ إذَا حَصَرَهُ عَدُوٌّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ غَيْرِهِمْ،
فَمَنَعُوهُ الْوُصُولَ إلَى الْبَيْتِ، وَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آمِنًا،
فَلَهُ التَّحَلُّلُ. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ
أَصْحَابَهُ يَوْمَ حُصِرُوا فِي الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَنْحَرُوا،
وَيَحْلِقُوا، وَيَحِلُّوا.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، أَوْ بِهِمَا، فِي
قَوْلِ إمَامِنَا، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ لَا يَتَحَلَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ
الْفَوَاتَ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي
حَصْرِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ، فَحَلُّوا جَمِيعًا.
وَعَلَى مَنْ تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ الْهَدْيُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ
أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، لَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ؛
لِأَنَّهُ تَحَلُّلٌ أُبِيحَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، أَشْبَهَ مَنْ
أَتَمَّ حَجَّهُ.
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . قَالَ الشَّافِعِيُّ:
لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ
فِي حَصْرِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ
إتْمَامِ نُسُكِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ، كَاَلَّذِي فَاتَهُ
الْحَجُّ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَنْ أَتَمَّ حَجَّهُ.
[فَصْل لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَصْرِ الْعَامِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ كُلّه
وَبَيْنَ الْخَاصِّ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ]
(2425) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَصْرِ الْعَامِّ فِي حَقِّ
الْحَاجِّ كُلِّهِ، وَبَيْنَ الْخَاصِّ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، مِثْلُ
أَنْ يُحْبَسَ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ أَخَذَتْهُ اللُّصُوصُ وَحْدَهُ؛
لِعُمُومِ النَّصِّ، وَوُجُودِ الْمَعْنَى فِي الْكُلِّ. فَأَمَّا مَنْ
حُبِسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ، يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ
التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي الْحَبْسِ. وَإِنْ كَانَ
مُعْسِرًا بِهِ عَاجِزًا
(3/326)
عَنْ أَدَائِهِ، فَحَبَسَهُ بِغَيْرِ
حَقٍّ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ، كَمَنْ ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ
دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، يَحِلُّ قَبْلَ قُدُومِ الْحَاجِّ، فَمَنَعَهُ صَاحِبُهُ
مِنْ الْحَجِّ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ.
وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ الْمَرْأَةُ
لِلتَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، فَلَهُمَا مَنْعُهَا،
وَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ. (2426) فَصْل: إنْ أَمْكَنَ الْمُحْصَرَ
الْوُصُولُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، لَمْ يُبَحْ لَهُ التَّحَلُّلُ،
وَلَزِمَهُ سُلُوكُهَا، بَعُدَتْ أَوْ قَرُبَتْ، خَشِيَ الْفَوَاتَ أَوْ
لَمْ يَخْشَهُ، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ لَمْ يَفُتْ، وَإِنْ
كَانَ بِحَجٍّ فَفَاتَهُ، تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ. وَكَذَا لَوْ لَمْ
يَتَحَلَّلْ الْمُحْصَرُ حَتَّى خُلِّيَ عَنْهُ، لَزِمَهُ السَّعْيُ،
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَجِّ، لِيَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ
هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا، يَلْزَمُهُ، كَمَنَ فَاتَهُ بِخَطَأِ الطَّرِيقِ.
وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفَوَاتِ الْحَصْرُ،
أَشْبَهَ مِنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا أُخْرَى، بِخِلَافِ الْمُخْطِئِ.
[فَصْل أُحْصِرَ فَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا أُخْرَى فَتَحَلَّلَ]
(2427) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا أُخْرَى، فَتَحَلَّلَ،
فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا يَفْعَلُهُ
بِالْوُجُوبِ السَّابِقِ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ. وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لَمَّا تَحَلَّلَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَضَى مِنْ قَابِلٍ،
وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ
قَبْلَ إتْمَامِهِ، فَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ.
وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ تَطَوُّعٌ جَازَ التَّحَلُّلُ مِنْهُ، مَعَ
صَلَاحِ الْوَقْتِ لَهُ، فَلَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي
الصَّوْمِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَكُنْ، فَأَمَّا الْخَبَرُ،
فَإِنَّ الَّذِينَ صُدُّوا كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ،
وَاَلَّذِينَ اعْتَمَرُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانُوا نَفَرًا يَسِيرًا، وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا
بِالْقَضَاءِ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، فَإِنَّمَا
يَعْنِي بِهَا الْقَضِيَّةَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، وَاتَّفَقُوا
عَلَيْهَا، وَلَوْ أَرَادُوا غَيْرَ ذَلِكَ لَقَالُوا: عُمْرَةَ
الْقَضَاءِ. وَيُفَارِقُ الْفَوَاتَ، فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ، بِخِلَافِ
مَسْأَلَتِنَا.
[فَصْل وَإِذَا قَدَرَ الْمُحْصَرُ عَلَى الْهَدْيِ فَلَيْسَ لَهُ الْحِلُّ
قَبْلَ ذَبْحِهِ]
(2428) فَصْلٌ: وَإِذَا قَدَرَ الْمُحْصَرُ عَلَى الْهَدْيِ، فَلَيْسَ لَهُ
الْحِلُّ قَبْلَ ذَبْحِهِ. فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ قَدْ سَاقَهُ
أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ إنْ أَمْكَنَهُ،
وَيُجْزِئُهُ أَدْنَى الْهَدْيِ، وَهُوَ شَاةٌ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
وَلَهُ نَحْرُهُ فِي مَوْضِعِ حَصْرِهِ، مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ. نَصَّ
عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنْ
يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَطْرَافِ الْحَرَمِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا، يَلْزَمُهُ نَحْرُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ
مَنْحَرٌ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي، يَنْحَرُهُ فِي
مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نَحَرَ هَدْيَهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ: لَيْسَ
(3/327)
لِلْمُحْصَرِ نَحْرُ هَدْيِهِ إلَّا فِي
الْحَرَمِ، فَيَبْعَثُهُ، وَيُوَاطِئُ رَجُلًا عَلَى نَحْرِهِ فِي وَقْتٍ
يَتَحَلَّلُ فِيهِ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي مَنْ لُدِغَ
فِي الطَّرِيقِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَالنَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ.
وَهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فِي مَنْ كَانَ حَصْرُهُ خَاصًّا، وَأَمَّا
الْحَصْرُ الْعَامُّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعَذُّرِ الْحِلِّ، لِتَعَذُّرِ وُصُولِ الْهَدْيِ
إلَى مَحِلِّهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وَأَصْحَابَهُ نَحَرُوا هَدَايَاهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ مِنْ
الْحِلِّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: إنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ حَلَقُوا، وَحَلُّوا
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَبْلَ الطَّوَافِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ
إلَى الْبَيْتِ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا، وَلَا أَنْ
يَعُودُوا لَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ
هَدْيَهُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهَا بَيْعَةُ
الرِّضْوَانِ. وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيرَةِ
وَالنَّقْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] . وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ حِلِّهِ، فَكَانَ
مَوْضِعَ نَحْرِهِ، كَالْحَرَمِ، وَسَائِرُ الْهَدَايَا يَجُوزُ
لِلْمُحْصَرِ نَحْرُهَا فِي مَوْضِعِ تَحَلُّلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] .
وَقَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] .
وَلِأَنَّهُ ذَبْحٌ يَتَعَلَّقُ بِالْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَجُزْ فِي غَيْرِ
الْحَرَمِ، كَدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ. قُلْنَا: الْآيَةُ فِي حَقِّ
غَيْرِ الْمُحْصَرِ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُ الْمُحْصَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ
تَحَلُّلَ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ، وَتَحَلُّلَ غَيْرِهِ فِي الْحَرَمِ،
فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْحَرُ فِي مَوْضِعِ تَحَلُّلِهِ. وَقِيلَ فِي
قَوْلِهِ: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . أَيْ
حَتَّى يُذْبَحَ، وَذَبْحُهُ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فِي مَوْضِعِ حِلِّهِ،
اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[فَصْل مَتَى كَانَ الْمُحْصَرُ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ فَلَهُ التَّحَلُّلُ
وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ]
(2429) فَصْلٌ: وَمَتَى كَانَ الْمُحْصَرُ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، فَلَهُ
التَّحَلُّلُ وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ زَمَنَ
الْحُدَيْبِيَةِ، حَلُّوا وَنَحَرُوا هَدَايَاهُمْ بِهَا قَبْلَ يَوْمِ
النَّحْرِ. وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، فَكَذَلِكَ فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ، فَجَازَ
الْحِلُّ مِنْهُ وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ، كَالْعُمْرَةِ،
وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَفُوتُ، وَجَمِيعُ الزَّمَانِ وَقْتٌ لَهَا،
فَإِذَا جَازَ الْحِلُّ مِنْهَا وَنَحْرُ هَدْيِهَا مِنْ غَيْرِ خَشْيَةِ
فَوَاتِهَا، فَالْحَجُّ الَّذِي يُخْشَى فَوَاتُهُ أَوْلَى.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَحِلُّ، وَلَا يَنْحَرُ هَدْيَهُ إلَى
يَوْمِ النَّحْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَحَنْبَلٍ؛
لِأَنَّ لِلْهَدْيِ مَحِلَّ زَمَانٍ وَمَحِلَّ مَكَان. فَإِنْ عَجَزَ
مَحِلُّ الْمَكَانِ فَسَقَطَ، بَقِيَ مَحِلُّ الزَّمَانِ وَاجِبًا
لِإِمْكَانِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ نَحْرُ الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ
النَّحْرِ، لَمْ يَجُزْ التَّحَلُّلُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلا
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:
196] .
(3/328)
وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ التَّحَلُّلِ
قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ مَعَ ذَلِكَ الْإِقَامَةُ
مَعَ إحْرَامِهِ، رَجَاءَ زَوَالِ الْحَصْرِ، فَمَتَى زَالَ قَبْلَ
تَحَلُّلِهِ، فَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ لِإِتْمَامِ نُسُكِهِ، بِغَيْرِ
خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ: إنَّ مَنْ يَئِسِ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ، فَجَازَ لَهُ
أَنْ يَحِلَّ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ، إنَّ عَلَيْهِ
أَنْ يَقْضِيَ مَنَاسِكَهُ، وَإِنْ زَالَ الْحَصْرُ بَعْدَ فَوَاتِ
الْحَجِّ، تَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَإِنْ فَاتَ الْحَجُّ قَبْلَ
زَوَالِ الْحَصْرِ، تَحَلَّلَ بِهَدْيٍ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ هَاهُنَا
هَدَيَانِ؛ هَدْيٌ لِلْفَوَاتِ، وَهَدْيٌ لِلْإِحْصَارِ. وَلَمْ يَذْكُرْ
أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، هَدْيًا ثَانِيًا فِي حَقِّ مَنْ لَا
يَتَحَلَّلُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ.
[فَصْل أُحْصِرَ عَنْ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَة]
(2430) فَصْلٌ: فَإِنْ أُحْصِرَ عَنْ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ يُفِيدُهُ
التَّحَلُّلُ مِنْ جَمِيعِهِ، فَأَفَادَ التَّحَلُّلَ مِنْ بَعْضِهِ.
وَإِنْ كَانَ مَا حُصِرَ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ،
كَالرَّمْيِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ أَوْ
بِمِنًى فِي لَيَالِيهَا، فَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ
الْحَجِّ لَا تَقِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَرْكِهِ
ذَلِكَ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ.
وَإِنْ أُحْصِرَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ،
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ إنَّمَا هُوَ
عَنْ النِّسَاءِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ
الْإِحْرَامِ التَّامِّ، الَّذِي يُحَرِّمُ جَمِيعَ مَحْظُورَاتِهِ، فَلَا
يَثْبُتُ بِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ، وَمَتَى زَالَ الْحَصْرُ أَتَى
بِالطَّوَافِ، وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ.
[فَصْل الْمَحْصِر إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْبَيْتِ وَصُدَّ عَنْ عَرَفَة]
(2431) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْتِ وَيُصَدُّ عَنْ
عَرَفَةَ، فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ، وَيَجْعَلَهُ عُمْرَةً،
وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ
حَصْرٍ، فَمَعَ الْحَصْرِ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ قَدْ طَافَ وَسَعَى
لِلْقُدُومِ، ثُمَّ أُحْصِرَ، أَوْ مَرِضَ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ،
تَحَلَّلَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقْصِدْ
بِهِ طَوَافَ الْعُمْرَةِ، وَلَا سَعْيَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ
يُجَدِّدَ إحْرَامًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بُدَّ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَكُونُ مُحْصَرًا بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ. فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ
فَاتَهُ بِغَيْرِ حَصْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ،
وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الْمُعْتَمِرُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنِيبَ
مَنْ يُتَمِّمُ عَنْهُ أَفْعَالَ الْحَجِّ، جَازَ فِي التَّطَوُّعُ؛
لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي جُمْلَتِهِ، فَجَازَ فِي بَعْضِهِ،
وَلَا يَجُوزُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ، إلَّا إنْ يَئِسَ مِنْ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ، كَمَا فِي الْحَجِّ كُلِّهِ.
[فَصْل تَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ مِنْ الْحَجِّ فَزَالَ الْحَصْرُ
وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ]
(2432) فَصْلٌ: وَإِذَا تَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ مِنْ الْحَجِّ، فَزَالَ
الْحَصْرُ، وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ لَزِمَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ حَجَّةَ
الْإِسْلَامِ، أَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، أَوْ كَانَتْ الْحَجَّةُ
وَاجِبَةً فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْحَجَّةُ وَاجِبَةً، وَلَا قُلْنَا بِوُجُوبِ
الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَنْ لَمْ يُحْرِمْ.
(3/329)
[فَصْل الْمَحْصِرَ فِي حَجٍّ فَاسِدٍ]
(2433) فَصْلٌ: وَإِنْ أُحْصِرَ فِي حَجٍّ فَاسِدٍ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ؛
لِأَنَّهُ إذَا أُبِيحَ لَهُ التَّحَلُّلُ فِي الْحَجِّ الصَّحِيحِ،
فَالْفَاسِدُ أَوْلَى. فَإِنْ حَلَّ، ثُمَّ زَالَ الْحَصْرُ وَفِي
الْوَقْتِ سَعَةٌ، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ. وَلَيْسَ
يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِي الْعَامِ الَّذِي أُفْسِدَ الْحَجُّ فِيهِ فِي
غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
[مَسْأَلَة الْمَحْصَرَ إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ]
(2434) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَلَا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ، صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ حَلَّ) وَجُمْلَةُ
ذَلِكَ أَنَّ الْمَحْصَرَ، إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ، انْتَقَلَ إلَى
صَوْمِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ حَلَّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ،
فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ. وَلَنَا، أَنَّهُ دَمٌ وَاجِبٌ لِلْإِحْرَامِ،
فَكَانَ لَهُ بَدَلٌ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ،
وَتَرْكُ النَّصِّ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي
ذَلِكَ، وَيَتَعَيَّنُ الِانْتِقَالُ إلَى صِيَامِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ،
كَبَدَلِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ إلَّا
بَعْدَ الصِّيَامِ، كَمَا لَا يَتَحَلَّلُ وَاجِدُ الْهَدْيِ إلَّا
بِنَحْرِهِ.
وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ مَعَ ذَبْحِ الْهَدْيِ أَوْ
الصِّيَامِ؟ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْهَدْيِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَشْرُطْ
سِوَاهُ. وَالثَّانِيَةُ، عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِعْلُهُ فِي النُّسُكِ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَلَعَلَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْحَلَّاق نُسُكٌ أَوْ إطْلَاقٌ
مِنْ مَحْظُورٍ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ.
[فَصْل لَا يَتَحَلَّلُ الْمَحْصِر إلَّا بِالنِّيَّةِ]
(2435) فَصْلٌ: وَلَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا،
فَيَحْصُلُ الْحِلُّ بِشَيْئَيْنِ؛ النَّحْرُ، أَوْ الصَّوْمُ
وَالنِّيَّةُ، إنْ قُلْنَا الْحِلَاقُ لَيْسَ بِنُسُكٍ. وَإِنْ قُلْنَا:
هُوَ نُسُكٌ. حَصَلَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ الْحِلَاقُ مَعَ مَا
ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ النِّيَّةَ هَاهُنَا،
وَهِيَ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَنْ
أَتَى بِأَفْعَالِ النُّسُكِ، فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ، فَيَحِلُّ
مِنْهَا بِإِكْمَالِهَا، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ، بِخِلَافِ
الْمَحْصُورِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْ الْعِبَادَةِ قَبْلَ
إكْمَالِهَا، فَافْتَقَرَ إلَى قَصْدِهِ، وَلِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ
لِغَيْرِ الْحِلِّ، فَلَمْ يَتَخَصَّصْ إلَّا بِقَصْدِهِ، بِخِلَافِ
الرَّمْيِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلنُّسُكِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى
قَصْدِهِ.
[فَصْل نَوَى التَّحَلُّلَ قَبْلَ الْهَدْيِ أَوْ الصِّيَامِ لَمْ]
(2436) فَصْلٌ: فَإِنْ نَوَى التَّحَلُّلَ قَبْلَ الْهَدْيِ أَوْ
الصِّيَامِ، لَمْ يَتَحَلَّلْ، وَكَانَ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَنْحَرَ
الْهَدْيَ أَوْ يَصُومَ؛ لِأَنَّهُمَا أُقِيمَا مُقَامَ أَفْعَالِ
الْحَجِّ، فَلَمْ يَحِلَّ قَبْلَهُمَا، كَمَا لَا يَتَحَلَّلُ الْقَادِرُ
عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ قَبْلَهَا. وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي نِيَّةِ
الْحِلِّ فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنْ
فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ
فِدْيَتُهُ، كَمَا لَوْ فَعَلَ الْقَادِرُ ذَلِكَ قَبْلَ أَفْعَالِ
الْحَجِّ.
(3/330)
[فَصْل كَانَ الْعَدُوُّ الَّذِي حَصَرَ
الْحَاجَّ مُسْلِمِينَ فَأَمْكَنَ الِانْصِرَافُ كَانَ أَوْلَى مِنْ
قِتَالِهِمْ]
(2437) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ الْعَدُوُّ الَّذِي حَصَرَ الْحَاجَّ
مُسْلِمِينَ، فَأَمْكَنَ الِانْصِرَافُ، كَانَ أَوْلَى مِنْ قِتَالِهِمْ؛
لِأَنَّ فِي قِتَالِهِمْ مُخَاطَرَةً بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَقَتْلَ
مُسْلِمٍ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى. وَيَجُوزُ قِتَالُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ
تَعُدُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَنْعِهِمْ طَرِيقَهُمْ، فَأَشْبَهُوا
سَائِرَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، لَمْ يَجِبْ
قِتَالُهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إذَا بَدَءُوا
بِالْقِتَالِ، أَوْ وَقَعَ النَّفِيرُ فَاحْتِيجَ إلَى مَدَدٍ؛ وَلَيْسَ
هَاهُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
لَكِنْ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ الظَّفَرُ بِهِمْ،
اُسْتُحِبَّ قِتَالُهُمْ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْجِهَادِ، وَحُصُولِ
النَّصْرِ، وَإِتْمَامِ النُّسُكِ. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ ظَفَرُ
الْكُفَّارِ، فَالْأَوْلَى الِانْصِرَافُ؛ لِئَلَّا يُغَرِّرُوا
بِالْمُسْلِمِينَ. وَمَتَى احْتَاجُوا فِي الْقِتَالِ إلَى لُبْسِ مَا
تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ كَالدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، فَعَلُوا،
وَعَلَيْهِمْ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ لُبْسَهُمْ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَبِسُوا لِلِاسْتِدْفَاءِ مِنْ دَفْعِ بَرْدٍ.
[فَصْل أَذِنَ الْعَدُوُّ لِلْمُحْصَرَيْنِ فِي الْعُبُور فَلَمْ يَثِقُوا
بِهِمْ]
(2438) فَصْلٌ: فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ الْعَدُوُّ فِي الْعُبُورِ، فَلَمْ
يَثِقُوا بِهِمْ، فَلَهُمْ الِانْصِرَافُ؛ لِأَنَّهُمْ خَائِفُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْمَنُوهُمْ، وَإِنْ وَثِقُوا
بِأَمَانِهِمْ، وَكَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالْوَفَاءِ، لَزِمَهُمْ
الْمُضِيُّ عَلَى إحْرَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ حَصْرُهُمْ، وَإِنْ
طَلَبَ الْعَدُوُّ خَفَارَةً عَلَى تَخْلِيَةِ الطَّرِيقِ، وَكَانَ مِمَّنْ
لَا يُوثَقُ بِأَمَانِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ بَذْلُهُ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ
بَاقٍ مَعَ الْبَذْلِ، وَإِنْ كَانَ مَوْثُوقًا بِأَمَانِهِ وَالْخَفَارَةُ
كَثِيرَةٌ، لَمْ يَجِبْ بَذْلُهُ، بَلْ يُكْرَهُ إنْ كَانَ الْعَدُوُّ
كَافِرًا؛ لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا وَتَقْوِيَةً لِلْكُفَّارِ، وَإِنْ
كَانَتْ يَسِيرَةً، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ بَذْلِهِ،
كَالزِّيَادَةِ فِي ثَمَنِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجِبُ بَذْلُ خَفَارَةٍ بِحَالٍ، وَلَهُ
التَّحَلُّلُ، كَمَا أَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ إذَا
لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا آمِنًا مِنْ غَيْرِ خَفَارَةٍ.
[مَسْأَلَة مُنِعَ الْحَاجّ مِنْ الْوُصُول إلَى الْبَيْت بِمَرَضِ أَوْ
ذَهَاب نَفَقَة]
(2439) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ
بِمَرَضٍ، أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، بَعَثَ بِهَدْيٍ، إنْ كَانَ مَعَهُ،
لِيَذْبَحَهُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى
الْبَيْتِ) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ
الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ بِغَيْرِ حَصْرِ الْعَدُوِّ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ
عَرَجٍ، أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ، وَنَحْوِهِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ
التَّحَلُّلُ بِذَلِكَ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَرْوَانَ. وَبِهِ
قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ
أُخْرَى: لَهُ التَّحَلُّلُ بِذَلِكَ. رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ،
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كُسِرَ، أَوْ عَرِجَ فَقَدْ
حَلَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَلِأَنَّهُ مُحْصَرٌ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
يُحَقِّقُهُ
(3/331)
أَنَّ لَفْظَ الْإِحْصَارِ إنَّمَا هُوَ
لِلْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، يُقَال: أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ إحْصَارًا، فَهُوَ
مُحْصَرٌ، وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ، حَصْرًا، فَهُوَ مَحْصُورٌ. فَيَكُونُ
اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَحَصْرُ الْعَدُوِّ مَقِيسٌ
عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ مَصْدُودٌ عَنْ الْبَيْتِ، أَشْبَهَ مَنْ صَدَّهُ
عَدُوٌّ.
وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالْإِحْلَالِ الِانْتِقَالَ
مِنْ حَالِهِ، وَلَا التَّخَلُّصَ مِنْ الْأَذَى الَّذِي بِهِ، بِخِلَافِ
حَصْرِ الْعَدُوِّ. وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: إنِّي
أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ. فَقَالَ: حُجِّي، وَاشْتَرِطِي أَنَّ
مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي» . فَلَوْ كَانَ الْمَرَضُ يُبِيحُ الْحِلَّ،
مَا احْتَاجَتْ إلَى شَرْطٍ. وَحَدِيثُهُمْ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ
مُجَرَّدَ الْكَسْرِ وَالْعَرَجِ لَا يَصِيرُ بِهِ حَلَالًا، فَإِنْ
حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ يُبِيحُ التَّحَلُّلَ، حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا إذَا
اشْتَرَطَ الْحِلَّ بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ فِي حَدِيثِهِمْ كَلَامًا،
فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَذْهَبُهُ خِلَافُهُ.
فَإِنْ قُلْنَا: يَتَحَلَّلُ. فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ
عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَحَلَّلُ. فَإِنَّهُ يُقِيمُ
عَلَى إحْرَامِهِ، وَيَبْعَثُ مَا مَعَهُ مِنْ الْهَدْيِ لِيُذْبَح
بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ لَهُ نَحْرُهُ فِي مَكَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَتَحَلَّلْ. فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ، كَغَيْرِ
الْمَرِيضِ.
[فَصْل شَرَطَ فِي ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِ أَنْ يَحِلّ مَتَى مَرِضَ أَوْ
ضَاعَتْ نَفَقَتُهُ أَوْ نَفِدَتْ]
(2440) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ فِي ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِ أَنْ يَحِلَّ
مَتَى مَرِضَ، أَوْ ضَاعَتْ نَفَقَتُهُ، أَوْ نَفِدَتْ، أَوْ نَحْوَهُ،
أَوْ قَالَ إنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ، فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسَنِي. فَلَهُ
الْحِلُّ مَتَى وَجَدَ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لَا هَدْيَ، وَلَا
قَضَاءَ، وَلَا غَيْرَهُ، فَإِنَّ لِلشَّرْطِ تَأْثِيرًا فِي
الْعِبَادَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي
صُمْت شَهْرًا مُتَتَابِعًا، أَوْ مُتَفَرِّقًا. كَانَ عَلَى مَا شَرَطَهُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْهَدْيُ وَالْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ
شَرْطًا كَانَ إحْرَامُهُ الَّذِي فَعَلَهُ إلَى حِينِ وُجُودِ الشَّرْطِ،
فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَكْمَلَ أَفْعَالَ الْحَجِّ، ثُمَّ يُنْظَرُ
فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ، فَإِنْ قَالَ: إنْ مَرِضْت فَلِي أَنْ أَحِلَّ،
وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسَنِي. فَإِذَا حُبِسَ
كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْحِلِّ وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى
الْإِحْرَامِ. وَإِنْ قَالَ: إنْ مَرِضْت فَأَنَا حَلَالٌ. فَمَتَى وُجِدَ
الشَّرْطُ، حَلَّ بِوُجُودِهِ. لِأَنَّهُ شَرْطٌ صَحِيحٌ، فَكَانَ عَلَى
مَا شَرَطَ.
[مَسْأَلَة إنْ قَالَ أَنَا أَرْفُضُ إحْرَامِي وَأَحِلُّ فَلَبِسَ
الثِّيَابَ وَذَبَحَ الصَّيْدَ وَعَمِلَ مَا يَعْمَلُهُ الْحَلَالُ]
(2441) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَرْفُضُ إحْرَامِي
وَأَحِلُّ. فَلَبِسَ الثِّيَابَ، وَذَبَحَ الصَّيْدَ، وَعَمِلَ مَا
يَعْمَلُهُ الْحَلَالُ، كَانَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ دَمٌ،
وَإِنْ كَانَ وَطِئَ، فَعَلَيْهِ لِلْوَطْءِ بَدَنَةٌ، مَعَ مَا يَجِبُ
عَلَيْهِ مِنْ الدِّمَاءِ.) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ
الْحَجِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ كَمَالِ
أَفْعَالِهِ، أَوْ التَّحَلُّلِ عِنْد
(3/332)
الْحَصْرِ، أَوْ بِالْعُذْرِ إذَا شَرَطَ،
وَمَا عَدَا هَذَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِهِ. فَإِنْ نَوَى
التَّحَلُّلَ لَمْ يَحِلَّ، وَلَا يَفْسُدُ الْإِحْرَامُ بِرَفْضِهِ؛
لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِالْفَسَادِ، فَلَا يَخْرُجُ
مِنْهَا بِرَفْضِهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَيَكُونُ
الْإِحْرَامُ بَاقِيًا فِي حَقِّهِ، تَلْزَمُهُ أَحْكَامُهُ، وَيَلْزَمُهُ
جَزَاءُ كُلِّ جِنَايَةٍ جَنَاهَا عَلَيْهِ.
وَإِنْ وَطِئَ أَفْسَدَ حَجَّهُ، وَعَلَيْهِ لِذَلِكَ بَدَنَةٌ، مَعَ مَا
وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّمَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ قَبْلَ
الْجِنَايَاتِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ
الْفَاسِدِ تُوجِبُ الْجَزَاءَ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَلَيْسَ
عَلَيْهِ لِرَفْضِهِ الْإِحْرَامَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ
لَمْ تُؤَثِّرْ شَيْئًا.
[مَسْأَلَة يَمْضِي فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ]
(2442) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَمْضِي فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ، وَيَحُجُّ
مِنْ قَابِلٍ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ إلَّا
بِالْجِمَاعِ، فَإِذَا فَسَدَ فَعَلَيْهِ إتْمَامُهُ، وَلَيْسَ لَهُ
الْخُرُوجُ مِنْهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي
هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ: يَجْعَلُ الْحَجَّةَ عُمْرَةً، وَلَا
يُقِيمُ عَلَى حَجَّةٍ فَاسِدَةٍ. وَقَالَ دَاوُد: يَخْرُجُ بِالْإِفْسَادِ
مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهُوَ رَدٌّ» .
وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ
الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى
يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ، فَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْهُ، كَالْفَوَاتِ،
وَالْخَبَرُ لَا يُلْزِمُنَا؛ لِأَنَّ الْمُضِيَّ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ،
وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالْإِحْرَامِ. وَنَخُصُّ مَالِكًا بِأَنَّهَا حَجَّةٌ
لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِالْإِخْرَاجِ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا
إلَى عُمْرَةٍ كَالصَّحِيحَةِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ الْفَاسِدِ، بَلْ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ
قَبْلَهُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ تَوَابِعُ الْوُقُوفِ، مِنْ الْمَبِيتِ
بِمُزْدَلِفَةَ، وَالرَّمْيِ، وَيَجْتَنِبُ بَعْدَ الْفَسَادِ كُلَّ مَا
يَجْتَنِبُهُ قَبْلَهُ، مِنْ الْوَطْءِ ثَانِيًا، وَقَتْلِ الصَّيْدِ،
وَالطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ، وَنَحْوِهِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فِي
الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، كَالْفِدْيَةِ فِي
الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ. فَأَمَّا الْحَجُّ مِنْ
قَابِلٍ، فَيَلْزَمُهُ بِكُلِّ حَالٍ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْحَجَّةُ
الَّتِي أَفْسَدَهَا وَاجِبَةً بِأَصْلِ الشَّرْعِ، أَوْ بِالنَّذْرِ، أَوْ
قَضَاءً، كَانَتْ الْحَجَّةُ مِنْ قَابِلٍ مُجَزِّئَةً؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ
إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْقَضَاءُ، أَجْزَأَهُ عَمَّا يُجْزِئُ عَنْهُ
الْأَوَّلُ، لَوْ لَمْ يُفْسِدْهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَاسِدَةُ
تَطَوُّعًا، وَجَبَ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ فِي الْإِحْرَامِ
صَارَ الْحَجُّ عَلَيْهِ وَاجِبًا، فَإِذَا أَفْسَدَهُ، وَجَبَ قَضَاؤُهُ،
كَالْمَنْذُورِ، وَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ الْحَجَّ الْأَصْلِيَّ وَاجِبٌ
عَلَى الْفَوْرِ، فَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالدُّخُولِ
فِيهِ، وَالْوَاجِبُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِذَلِكَ.
[فَصْل يُحْرِم الْمَحْصِر الْقَضَاءِ مِنْ أَبْعَد الْمَوْضِعَيْنِ
الْمِيقَات أَوْ مَوْضِع إحْرَامه الْأَوَّل]
(2443) فَصْلٌ: وَيُحْرِمُ بِالْقَضَاءِ مِنْ أَبْعَدِ الْمَوْضِعَيْنِ:
الْمِيقَاتِ، أَوْ مَوْضِعِ إحْرَامِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ
الْمِيقَاتُ أَبْعَدَ، فَلَا يَجُوزُ
(3/333)
لَهُ تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ
إحْرَامٍ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ إحْرَامِهِ أَبْعَدِ، فَعَلَيْهِ
الْإِحْرَامُ بِالْقَضَاءِ مِنْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ،
وَالشَّافِعِيَّ، وَإِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ
مَوْضِعُ الْإِفْسَادِ. وَلَنَا، أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَكَانَ قَضَاؤُهَا
عَلَى حَسَبِ أَدَائِهَا، كَالصَّلَاةِ.
[فَصْل وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ]
(2444) فَصْلٌ: وَإِذَا قَضَيَا، تَفَرَّقَا مِنْ مَوْضِعِ الْجِمَاعِ
حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى سَعِيدُ، وَالْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ. فَقَالَ:
أَتِمَّا حَجَّكُمَا، فَإِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ، فَحُجَّا وَاهْدِيَا،
حَتَّى إذَا بَلَغْتُمَا الْمَكَانَ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا
أَصَبْتُمَا، فَتَفَرَّقَا حَتَّى تَحِلَّا. وَرَوَيَا عَنْ ابْنِ عَبَّاس
مِثْلَ ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ،
وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّقَانِ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمَانِ
حَتَّى يَحِلَّا. وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُ
مَالِكٍ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا خَوْفًا مِنْ مُعَاوَدَةِ
الْمَحْظُورِ، وَهُوَ يُوجَدُ فِي جَمِيعِ إحْرَامِهِمَا. وَوَجْهُ
الْأَوَّلِ أَنَّ مَا قَبْلَ مَوْضِعِ الْإِفْسَادِ كَانَ إحْرَامُهُمَا
فِيهِ صَحِيحًا، فَلَمْ يَجْبِ التَّفَرُّقُ فِيهِ، كَاَلَّذِي لَمْ
يَفْسُدْ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ التَّفْرِيقُ بِمَوْضِعِ الْجِمَاعِ،
لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَذْكُرُهُ بِرُؤْيَةِ مَكَانِهِ، فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ
إلَى فِعْلِهِ. وَمَعْنَى التَّفَرُّقِ أَنْ لَا يَرْكَبَ مَعَهَا فِي
مَحْمِلٍ، وَلَا يَنْزِلَ مَعَهَا فِي فُسْطَاطٍ وَنَحْوِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: يَتَفَرَّقَانِ فِي النُّزُولِ، وَفِي الْمَحْمِلِ
وَالْفُسْطَاطِ، وَلَكِنْ يَكُونُ بِقُرْبِهَا. وَهَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ
أَوْ يُسْتَحَبُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَجِبُ. وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّفَرُّقُ فِي قَضَاءِ
رَمَضَانَ إذَا أَفْسَدَاهُ، كَذَلِكَ الْحَجُّ. وَالثَّانِي: يَجِبُ؛
لِأَنَّهُ رُوِيَ عَمَّنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ الْأَمْرُ بِهِ،
وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ يُذَكِّرُ الْجِمَاعَ، فَيَكُونُ مِنْ دَوَاعِيهِ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ التَّفْرِيقِ الصِّيَانَةُ عَمَّا
يُتَوَهَّمُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْوِقَاعَ عِنْدَ تَذَكُّرِهِ بِرُؤْيَةِ
مَكَانِهِ، وَهَذَا وَهْمٌ بَعِيدٌ لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ.
[فَصْل إنْ كَانَ الْمُعْتَمِرُ مَكِّيًّا أَحْرَمَ بِهَا مِنْ الْحِلِّ]
(2445) فَصْلٌ: وَالْعُمْرَةُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ كَالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ
الْمُعْتَمِرُ مَكِّيًّا، أَحْرَمَ بِهَا مِنْ الْحِلِّ، أَحْرَمَ
لِلْقَضَاءِ مِنْ الْحِلِّ، وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِهَا مِنْ الْحَرَمِ،
أَحْرَمَ لِلْقَضَاءِ مِنْ الْحِلِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَكِّيِّ
وَمَنْ حَصَلَ بِهَا مِنْ الْمُجَاوِرِينَ.
وَإِنْ أَفْسَدَ الْمُتَمَتِّعُ عُمْرَتَهُ، وَمَضَى فِي فَاسِدِهَا،
فَأَتَمَّهَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَات،
(3/334)
فَيُحْرِمُ مِنْهُ لِلْحَجِّ، فَإِنْ
خَشِيَ الْفَوَاتَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِذَا فَرَغَ
مِنْ حَجِّهِ خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ
مَكَانَ الَّتِي أَفْسَدَهَا، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ يَذْبَحُهُ إذَا قَدِمَ
مَكَّةَ، لِمَا أَفْسَدَ مِنْ عُمْرَتِهِ.
وَلَوْ أَفْسَدَ الْحَاجُّ حَجَّتَهُ، وَأَتَمَّهَا، فَلَهُ الْإِحْرَامُ
بِالْعُمْرَةِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، كَالْمَكِّيِّينَ. (2446) فَصْلٌ:
وَإِذَا أَفْسَدَ الْقَضَاءَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَإِنَّمَا
يَقْضِي عَنْ الْحَجِّ الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ أَفْسَدَ قَضَاءَ الصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ لِلْأَصْلِ، دُونَ الْقَضَاءِ، كَذَا
هَاهُنَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَزْدَادُ بِفَوَاتِهِ،
وَإِنَّمَا يَبْقَى مَا كَانَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ، فَيُؤَدِّيهِ الْقَضَاءُ.
(3/335)
|