المغني لابن قدامة

[كِتَاب الصُّلْح]
ِ الصُّلْحُ مُعَاقَدَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَيَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا؛ صُلْحٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَصُلْحٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ، وَصُلْحٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ، إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بَابٌ يُفْرَدُ لَهُ، يَذْكُرُ فِيهِ أَحْكَامُهُ. وَهَذَا الْبَابُ لِلصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ، وَهُوَ نَوْعَانِ؛ صُلْحٌ عَلَى إقْرَارٍ، وَصُلْحٌ عَلَى إنْكَارٍ. وَلَمْ يُسَمِّ الْخِرَقِيِّ الصُّلْحَ إلَّا فِي الْإِنْكَارِ خَاصَّةً.

[مَسْأَلَةٌ الصُّلْح الْجَائِز]
[الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ]
(3492) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالصُّلْحُ الَّذِي يَجُوزُ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي حَقٌّ لَا يَعْلَمُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَصْطَلِحَانِ عَلَى بَعْضِهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ، فَجَحَدَهُ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ صَحِيحٌ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ، فَلَمْ تَصِحَّ الْمُعَاوَضَةُ كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ، فَبَطَلَ، كَالصُّلْحِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ.
وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ» . فَيَدْخُلُ هَذَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ.

(4/357)


فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ: «إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا» . وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَحَلَّ بِالصُّلْحِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ دُخُولَهُ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ هَذَا يُوجَدُ فِي الصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ بِمَعْنَى الْهِبَةِ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ، الْإِسْقَاطُ يُحِلُّ لَهُ تَرْكَ أَدَاءِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ.
الثَّانِي، أَنَّهُ لَوْ حَلَّ بِهِ الْمُحَرَّمُ، لَكَانَ الصُّلْحُ صَحِيحًا، فَإِنَّ الصُّلْحَ الْفَاسِدَ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى اسْتِرْقَاقِ حُرٍّ، أَوْ إحْلَالِ بُضْعٍ مُحَرَّمٍ، أَوْ صَالَحَهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ. وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ.
وَعَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا، فَإِنَّهُمْ يُبِيحُونَ لِمَنْ لَهُ حَقٌّ يَجْحَدُهُ غَرِيمُهُ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِهِ أَوْ دُونَهُ، فَإِذَا حَلَّ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا عِلْمِهِ، فَلَأَنْ يَحِلَّ بِرِضَاهُ وَبَذْلِهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَّ مَعَ اعْتِرَافِ الْغَرِيمِ، فَلَأَنْ يَحِلَّ مَعَ جَحْدِهِ وَعَجْزِهِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ إلَّا بِذَلِكَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هَاهُنَا يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُهُ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ، وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ، وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ يَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، فَصَحَّ مَعَ الْخَصْمِ كَالصُّلْحِ مَعَ الْإِقْرَارِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ، فَلَأَنْ يَصِحَّ مَعَ الْخَصْمِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مُعَاوَضَةٌ. قُلْنَا: فِي حَقِّهِمَا أَمْ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلِّمٌ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ مِنْ الْمُنْكِرِ لِعِلْمِهِ بِثُبُوتِ حَقِّهِ عِنْدَهُ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهِ، وَالْمُنْكِرُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ عَنْهُ، وَيُخَلِّصُهُ مِنْ شَرِّ الْمُدَّعِي، فَهُوَ أَبْرَأُ فِي حَقِّهِ، وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ ثُبُوتُ الْمُعَاوَضَةِ فِي حَقِّ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا شَهِدَ بِحُرِّيَّتِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَيَكُونُ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَاسْتِنْقَاذًا لَهُ مِنْ الرِّقِّ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، كَذَا هَاهُنَا.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُعْتَقِدًا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ حَقٌّ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا حَقَّ عَلَيْهِ، فَيَدْفَعُ إلَى الْمُدَّعِي شَيْئًا افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ، وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، وَصِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنْ التَّبَذُّلِ، وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ ذَوِي النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ وَالْمُرُوءَةِ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَيَرَوْنَ دَفْعَ ضَرَرِهَا عَنْهُمْ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهِمْ، وَالشَّرْعُ لَا يَمْنَعهُمْ مِنْ وِقَايَةِ أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَتِهَا، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ، وَالْمُدَّعِي يَأْخُذُ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ، فَلَا يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بِقَدْرِ حَقِّهِ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ بِقَدْرِهِ فَهُوَ

(4/358)


مُسْتَوْفٍ لَهُ، وَإِنْ أَخَذَ دُونَهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَى بَعْضَهُ وَتَرَكَ بَعْضَهُ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ فَقَدْ أَخَذَ عِوَضَهُ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَكْثَرِ مِمَّا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ لَا مُقَابِلَ لَهُ، فَيَكُونَ ظَالِمًا بِأَخْذِهِ. وَإِنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ جَازَ، وَيَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي؛ لِاعْتِقَادِهِ أَخْذَهُ عِوَضًا، فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ شِقْصًا فِي دَارٍ أَوْ عَقَارٍ، وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلَهُ رَدُّهُ، وَالرُّجُوعُ فِي دَعْوَاهُ، وَيَكُونُ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ، لِأَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، لَا عِوَضًا عَنْ حَقٍّ يَعْتَقِدُهُ فَيَلْزَمُهُ أَيْضًا حُكْمُ إقْرَارِهِ. فَإِنْ وَجَدَ بِالْمُصَالَحِ عَنْهُ عَيْبًا، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُدَّعِي؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مَا أَخَذَ عِوَضًا. وَإِنْ كَانَ شِقْصًا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ عَلَى مِلْكِهِ، لَمْ يَزُلْ، وَمَا مَلَكَهُ بِالصُّلْحِ.
وَلَوْ دَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْمُدَّعِي مَا ادَّعَاهُ أَوْ بَعْضَهُ، لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حُكْمُ الْبَيْعِ وَلَا تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ عَيْنَ مَالِهِ، مُسْتَرْجِعًا لَهَا مِمَّنْ هِيَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْعًا، كَاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَيُنْكِرَ الْمُنْكِرُ حَقًّا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَيْهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ كَاذِبًا، فَمَا يَأْخُذُهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، أَخَذَهُ بِشَرِّهِ وَظُلْمِهِ وَدَعْوَاهُ الْبَاطِلَةُ، لَا عِوَضًا عَنْ حَقٍّ لَهُ، فَيَكُونُ حَرَامًا عَلَيْهِ، كَمَنْ خَوَّفَ رَجُلًا بِالْقَتْلِ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْلَمُ صِدْقَهُ وَثُبُوتَ حَقِّهِ، فَجَحَدَهُ لِيَنْتَقِصَ حَقَّهُ، أَوْ يُرْضِيَهُ عَنْهُ بِشَيْءِ فَهُوَ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا، وَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ مَالُ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي قَوْله " وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ فَجَحَدَهُ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ". يَعْنِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ لَنَا فَهُوَ الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ بَاطِنَ الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْأَمْرُ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَالظَّاهِرُ، مِنْ الْمُسْلِمِ السَّلَامَةُ.

[فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُل وَدِيعَة أَوْ قَرْضًا]
(3493) فَصْلٌ: وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَدِيعَةً، أَوْ قَرْضًا، أَوْ تَفْرِيطًا فِي وَدِيعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ، فَأَنْكَرَهُ وَاصْطَلَحَا، صَحَّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

[فَصْلٌ صَالِح عَنْ الْمُنْكِرِ أَجْنَبِيٌّ]
(3494) فَصَلِّ: وَإِنْ صَالَحَ عَنْ الْمُنْكِرِ أَجْنَبِيٌّ، صَحَّ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنَّمَا يَصِحُّ إذَا اعْتَرَفَ لِلْمُدَّعِي بِصِدْقِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى صُلْحِ الْمُنْكِرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
ثُمَّ لَا يَخْلُو الصُّلْحُ، إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ، صَحَّ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْمُنْكِرِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنَّ «عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَضَيَا عَنْ الْمَيِّتِ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ عَيْنٍ بِإِذْنِ الْمُنْكِرِ، فَهُوَ كَالصُّلْحِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَهُوَ افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنْ الْخُصُومَةِ، وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنْ الدَّعْوَى، وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ، إذَا صَالَحَ

(4/359)


عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءِ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَالًا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ.
وَخَرَّجَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. فِيمَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ الثَّابِتَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إلَى الْمُدَّعِي، فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ.
وَمَنْ قَالَ بِرُجُوعِهِ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ كَالْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى عَلَى الْمُنْكَرِ لَا غَيْرُ، أَمَّا أَنْ يَجِبَ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّاهُ حَتْمًا، فَلَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَجِبُ لِمَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ هَاهُنَا لَمْ يَجِبْ لَهُ حَقٌّ، وَلَا لَزِمَ الْأَدَاءُ إلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ جَوَازِ الدَّعْوَى، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى أَنْ يَعْلَمَ صِدْقَ الْمُدَّعِي، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى بِشَيْءِ لَا يَعْلَمُ ثُبُوتَهُ، وَأَمَّا مَا إذَا صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ، فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَالتَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ.
ثُمَّ إنْ أَدَّى عَنْهُ بِإِذْنِهِ، رَجَعَ إلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَإِنْ أَدَّى عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُتَبَرِّعًا، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ وَإِنْ قَضَاهُ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ بِعَقْدِ الصُّلْحِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ وَقَضَى بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنَّهُ قَضَى مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْكِرِ قَضَاؤُهُ.

[فَصْل صَالِح الْأَجْنَبِيُّ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ]
(3495) فَصْلٌ: وَإِنْ صَالَحَ الْأَجْنَبِيُّ الْمُدَّعِيَ لِنَفْسِهِ؛ لِتَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لَهُ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، أَوْ لَا يَعْتَرِفَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ، كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إلَيْهِ خُصُومَةٌ يَفْتَدِي مِنْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَ غَيْرِهِ. وَإِنْ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَكَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَصِحُّ. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَصِحُّ، فَبَيْعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ مُنْكِرٍ مَعْجُوزٍ عَنْ قَبْضِهِ أُولَى.
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، فَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّك صَادِقٌ، فَصَالِحْنِي عَنْهَا، فَإِنِّي قَادِرٌ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا مِنْ الْمُنْكِرِ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَصِحُّ الصُّلْحُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ. ثُمَّ إنْ قَدَرَ عَلَى انْتِزَاعِهِ، اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ، وَإِنْ عَجَزَ، كَانَ لَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى بَدَلِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى قَبْضِهِ مَعْدُومٌ حَالَ الْعَقْدِ، فَكَانَ فَاسِدًا، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ آبِقٌ أَوْ مَيِّتٌ. وَلَوْ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ قَبْضُهُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ شِرَاءَ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ.
فَإِنْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ قَبْضِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَهُ مُمْكِنٌ، صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَنَاوَلَ مَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ عَلِمَا ذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ

(4/360)


عَدَمَ الشَّرْطِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا يَظُنُّ أَنَّهُ حُرُّ، أَوْ أَنَّهُ عَبْدُ غَيْرِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدُهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَعْلَمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَكَانَ بَيْعُهُ فَاسِدًا؛ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِقَوْلِهِ: مُعْتَقِدًا فَسَادَهُ، وَمِنْ لَا يَعْلَمُ يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ اجْتِمَاعُ شُرُوطِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ عَلِمَهُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ.

[فَصْلٌ قَالَ الْأَجْنَبِيّ لِلْمُدَّعِيَّ أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِك عَنْ هَذِهِ الْعَيْنِ]
(3496) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِك عَنْ هَذِهِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَك بِهَا، وَإِنَّمَا يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ. فَظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الصُّلْحَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ لِيَنْتَقِصَ الْمُدَّعِيَ بَعْضَ حَقِّهِ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ، فَهُوَ هَاضِمٌ لِلْحَقِّ، يَتَوَصَّلُ إلَى أَخْذِ الْمُصَالِحِ عَنْهُ بِالظُّلْمِ وَالْعَدُوَّانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ صِحَّةَ دَعْوَاك، وَأَنَّ هَذَا لَك، وَلَكِنْ لَا أُسَلِّمُهُ إلَيْك، وَلَا أُقِرُّ لَك بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى تُصَالِحَنِي مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ، أَوْ عِوَضٍ عَنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ. وَهَذَا مَذْهَبُ. الشَّافِعِيِّ.
قَالُوا: ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ، مَلَكَ الْعَيْنَ، وَرَجَعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَعَلَيْهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ، إنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ فِي الدَّفْعِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مِنْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِمِلْكِهَا.
فَأَمَّا حُكْمُ مِلْكِهَا فِي الْبَاطِنِ، فَإِنْ كَانَ وَكَّلَ الْأَجْنَبِيَّ فِي الشِّرَاءِ، فَقَدْ مَلَكَهَا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِهِ، فَلَا يَقْدَحُ إنْكَارُهُ فِي مِلْكِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَبَتَ قَبْلَ إنْكَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ بِالْإِنْكَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوَكِّلْهُ، لَمْ يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي مَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ أَجَازَهُ، لَزِمَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْهُ لَزِمَ مَنْ اشْتَرَاهُ.
وَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: قَدْ عَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صِحَّةَ دَعْوَاك، وَهُوَ يَسْأَلُك أَنْ تُصَالِحَهُ عَنْهُ، وَقَدْ وَكَّلَنِي فِي الْمُصَالَحَةِ عَنْهُ. فَصَالَحَهُ صَحَّ، وَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَدَائِهِ، بَلْ اعْتَرَفَ بِهِ، وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ، مَعَ بَذْلِهِ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجْحَدْهُ.

[مَسْأَلَة اعْتَرَفَ بِحَقِّ فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِهِ]
(3497) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ، فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صُلْحًا؛ لِأَنَّهُ هَضْمٌ لِلْحَقِّ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ حَتَّى صُولِحَ عَلَى بَعْضِهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضٍ، وَهَذَا مُحَالُ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، أَوْ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ الْمَقْرُونِ بِشَرْطِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَبْرَأَتْك عَنْ خَمْسِمِائَةٍ، أَوْ وَهَبْت لَك خَمْسَمِائَةٍ، بِشَرْطِ أَنْ تُعْطِيَنِي مَا بَقِيَ. وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِ بَعْضَ حَقِّهِ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ بَعْضَهُ، فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ هَضَمَهُ حَقَّهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، فَمَتَى أَلْزَمَ الْمُقَرَّ لَهُ تَرْكَ بَعْضِ حَقِّهِ، فَتَرَكَهُ عَنْ غَيْرِ طِيبِ

(4/361)


نَفْسِهِ، لَمْ يَطِبْ الْأَخْذُ. وَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ، جَازَ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُلْحٍ، وَلَا مِنْ بَابِ الصُّلْحِ بِسَبِيلٍ، وَلَمْ يُسَمِّ الْخِرَقِيِّ الصُّلْحَ إلَّا فِي الْإِنْكَارِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَأَمَّا فِي الِاعْتِرَافِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِشَيْءِ وَقَضَاهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَهُوَ وَفَاءٌ، وَإِنْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهِيَ مُعَاوَضَةٌ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَاسْتَوْفَى الْبَاقِيَ، فَهُوَ إبْرَاءٌ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الْعَيْنِ وَأَخَذَ بَاقِيَهَا بِطِيبِ نَفْسٍ، فَهِيَ هِبَةٌ، فَلَا يُسَمِّي ذَلِكَ صُلْحًا.
وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَسَمَّاهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ صُلْحًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ؛ وَالْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ، أَمَّا الْمَعْنَى فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا عَدَا وَفَاءَ الْحَقِّ، وَإِسْقَاطُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ مُعَاوَضَةٌ، وَإِبْرَاءٌ، وَهِبَةٌ.
فَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ، فَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ، أَوْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَجُوزُ تَعْوِيضُهُ بِهِ، وَهَذَا ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا، أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، فَيُصَالِحَهُ الْآخَرُ، نَحْوُ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، فَيُصَالِحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَرْفٌ، يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطُ الصَّرْفِ، مِنْ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ. الثَّانِي، أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعُرُوضٍ، فَيُصَالِحَهُ عَلَى أَثْمَانٍ، أَوْ بِأَثْمَانٍ فَيُصَالِحَهُ عَلَى عُرُوضٍ، فَهَذَا بَيْعٌ يَثْبُتْ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ.
وَإِنْ اعْتَرَفَ لَهُ بِدَيْنٍ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، لَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدِينٍ. الثَّالِثُ. أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ، خِدْمَةِ عَبْدٍ، وَنَحْوِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا مَعْلُومًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ إجَارَةً لَهَا حُكْمُ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَإِذَا أَتْلَفَ الدَّارُ أَوْ الْعَبْدُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ، وَرَجَعَ بِمَا صَالَحَ عَنْهُ.
وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، انْفَسَخَتْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، وَرَجَعَ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ جَارِيَتَهُ، وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، صَحَّ. وَكَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ صَدَاقَهَا، فَإِنْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِأَمْرٍ يُسْقِطُ الصَّدَاقَ، رَجَعَ الزَّوْجُ بِمَا صَالَحَ عَنْهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ بِنِصْفِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَرِفُ امْرَأَةً، فَصَالَحَتْ الْمُدَّعِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا، جَازَ وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَرَفُ بِهِ عَيْبًا فِي مَبِيعِهَا، فَصَالَحَتْهُ عَلَى نِكَاحِهَا صَحَّ. فَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ، رَجَعَتْ بِأَرْشِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَدَاقُهَا، فَرَجَعَتْ بِهِ، لَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا. وَإِنْ لَمْ يَزُلْ الْعَيْبُ، لَكِنْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِمَا يُسْقِطُ صَدَاقَهَا، رَجَعَ عَلَيْهَا بِأَرْشِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي، الْإِبْرَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَقُولَ: قَدْ أَبْرَأْتُك مِنْ نِصْفِهِ أَوْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ، فَأَعْطِنِي مَا بَقِيَ. فَيَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَلَى

(4/362)


الرَّجُلِ الدَّيْنُ، لَيْسَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَاقِيَ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمَا، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إثْمٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَ غُرَمَاءَ جَابِرٍ لِيَضَعُوا عَنْهُ، فَوَضَعُوا عَنْهُ، الشَّطْرَ.
وَفِي الَّذِي أُصِيبَ فِي حَدِيقَتِهِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَلْزُومٌ، فَأَشَارَ إلَى غُرَمَائِهِ بِالنِّصْفِ، فَأَخَذُوهُ مِنْهُ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ الْيَوْمَ، جَازَ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالنَّظَرِ لَهُمَا.
وَرَوَى يُونُسُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ إلَيْهِمَا، ثُمَّ نَادَى: «يَا كَعْبُ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَشَارَ إلَيْهِ، أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنَك. قَالَ: قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللَّه. قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُمْ فَأَعْطِهِ» . فَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُوَفِّيَنِي مَا بَقِيَ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ إلَّا لِيُوَفِّيَهُ بَقِيَّتَهُ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ، الْهِبَةُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ، فَيَقُولَ قَدْ وَهَبْتُك نِصْفَهَا، فَأَعْطِنِي بَقِيتهَا. فَيَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْهِبَةِ. وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ، لَمْ يَصِحَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْهِبَةِ الْوَفَاءَ جَعَلَ الْهِبَةَ عِوَضًا عَنْ الْوَفَاءِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ.
وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الْعَيْنِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: صَالِحْنِي بِنِصْفِ دَيْنَك عَلَيَّ، أَوْ بِنِصْفِ دَارِك هَذِهِ. فَيَقُولَ: صَالِحَتك بِذَلِكَ. لَمْ يَصِحَّ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ بِلَفْظِهِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صُلْحًا، وَلَا يَبْقَى لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ، فَلَا يُسَمَّى صُلْحًا، أَمَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ سُمِّيَ صُلْحًا؛ لِوُجُودِ اللَّفْظِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ الْمَعْنَى، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي لَفْظُ الصُّلْحِ الْمُعَاوَضَةَ إذَا كَانَ ثَمَّ عِوَضٌ، أَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلَا.
وَإِنَّمَا مَعْنَى الصُّلْحِ الِاتِّفَاقُ، وَالرِّضَى، وَقَدْ يَحْصُلُ هَذَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، كَالتَّمْلِيكِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ سُمِّيَ بَيْعًا، وَإِنْ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ سُمِّيَ هِبَةً. وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: صَالِحْنِي بِهِبَةِ كَذَا، أَوْ عَلَى نِصْفِ هَذِهِ الْعَيْنِ، وَنَحْوُ هَذَا. فَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِ بِالْمُقَابَلَةِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: بِعْنِي بِأَلْفٍ.
وَإِنْ أَضَافَ إلَيْهِ " عَلَى " جَرَى مَجْرَى الشَّرْطِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] . وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ أَوْ بِلَفْظِ الْمُعَاوَضَةِ. وَقَوْلُهُمْ: أَنَّهُ يُسَمَّى صُلْحًا. مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سُمِّيَ صُلْحًا فَمَجَازٌ؛ لِتَضَمُّنِهِ قَطْعَ النِّزَاعِ وَإِزَالَةَ الْخُصُومَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الصُّلْحَ لَا يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا لَكِنَّ الْمُعَاوَضَةَ حَصَلَتْ مِنْ اقْتِرَانِ حَرْفِ الْبَاءِ، أَوْ عَلَى، أَوْ نَحْوِهِمَا بِهِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ الصُّلْحِ تَحْتَاجُ إلَى حَرْفٍ تَعَدَّى بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

(4/363)


[فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بَيْتًا فَصَالَحَهُ عَلَى بَعْضِهِ]
(3498) فَصْل: وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بَيْتًا، فَصَالَحَهُ عَلَى بَعْضِهِ، أَوْ عَلَى بِنَاءِ غُرْفَةٍ فَوْقَهُ، أَوْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ سَنَةً، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يُصَالِحُهُ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى مِلْكِهِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ. وَإِنْ أَسْكَنَهُ كَانَ تَبَرُّعًا مِنْهُ، مَتَى شَاءَ أَخْرَجَهُ مِنْهَا. وَإِنْ أَعْطَاهُ بَعْضَ دَارِهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا، فَمَتَى شَاءَ انْتَزَعَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ إيَّاهُ عِوَضًا عَمَّا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ.
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَالَحَةِ، مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَجْرِ مَا سَكَنَ وَأَجْرِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ الْمَأْخُوذَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَسُكْنَى الدَّارِ بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ. وَإِنْ بَنَى فَوْقَ الْبَيْتِ غُرْفَةً، أُجْبِرَ عَلَى نَقْضِهَا، وَإِذَا آجَرَ السَّطْحَ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ، فَلَهُ أَخْذُ آلَتِهِ. وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُصَالِحَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ عَنْ بِنَائِهِ بِعِوَضٍ، جَازَ. وَإِنْ بَنَى الْغُرْفَةَ بِتُرَابٍ مِنْ أَرْضِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَآلَاتِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ. وَإِنْ أَرَادَ نَقْضَ الْبِنَاءِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، إذَا أَبْرَأْهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِ مَا يُتْلَفُ بِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ نَقْضَهُ، كَقَوْلِنَا فِي الْغَاصِبِ.

[فَصْلٌ صَالِحه بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً]
(3499) فَصْلٌ: وَإِذَا صَالَحَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً، صَحَّ. وَكَانَتْ إجَارَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. فَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ فِي السَّنَةِ صَحَّ الْبَيْعُ، وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ بَقِيَّةَ السَّنَةِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَتِهِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا.
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ، فَلَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ. وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ، فَصَحَّ عِتْقُهُ لِغَيْرِهِ، وَلِلْمُصَالِحِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ نَفْعَهُ فِي الْمُدَّةِ، لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ أَنْ مَلَّكَ مَنْفَعَتَهُ لِغَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَة لِحُرٍّ. وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّهُ مَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْعِتْقِ إلَّا عَنْ الرَّقَبَةِ، وَالْمَنَافِعُ حِينَئِذٍ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ تَتْلَفْ مَنَافِعُهُ بِالْعِتْقِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ زَمِنًا أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ، أَوْ أَعْتَقَ أَمَةً مُزَوَّجَةً، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعِتْقَ اقْتَضَى إزَالَةَ مِلْكِهِ عَنْ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ جَمِيعًا، فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلْ الْمَنْفَعَةُ لِلْعَبْدِ هَاهُنَا، فَكَأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْفَعَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ إعْتَاقَهُ لَمْ يُصَادِفْ لِلْمُعْتَقِ سِوَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ إلَّا فِيهِ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِرَقَبَةِ عَبْدٍ وَلِآخَرَ بِنَفْعِهِ، فَأَعْتَقَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَمَةً مُزَوَّجَةً. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ اقْتَضَى زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ فَلَا يَقْتَضِي إعْتَاقُهُ إزَالَةَ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَحِقٌّ، تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الصُّلْحِ لِفَسَادِ الْعِوَضِ، وَرَجَعَ الْمُدَّعِي فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ.
وَإِنْ وَجَدَ الْعَبْدَ مَعِيبًا عَيْبًا تَنْقُصُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ، فَلَهُ رَدَّهُ وَفَسْخُ الصُّلْحِ. وَإِنْ صَالَحَ عَلَى الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، صَحَّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ بَيْعًا. وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا خَرَجَ مُسْتَحَقًّا أَوْ ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ، كَمَا ذَكَرْنَا.

(4/364)


[فَصْلٌ ادَّعَى زَرْعًا فِي يَد رَجُلٍ]
(3500) فَصْل: إذَا ادَّعَى زَرْعًا فِي يَدِ رَجُلٍ، فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ، جَازَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ بَيْعُ الزَّرْعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ، فَأَقَرَّ لَهُ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ اشْتِدَادِ حُبِّهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَالَحَهُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ. وَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ؛ لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُهُ إلَّا بِقَطْعِ زَرْعِ الْآخَرِ.
وَلَوْ كَانَ الزَّرْعُ لَوَاحِدٍ، فَأَقَرَّ لِلْمُدَّعِي بِنِصْفِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَنْهُ بِنِصْفِ الْأَرْضِ لِيَصِيرَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِلْمُقِرِّ، وَالْأَرْضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ جَازَ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ كُلّه لِلْمُقِرِّ، فَجَازَ شَرْطُ قَطْعِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ فِي الزَّرْعِ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ، وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي لَمْ يُقِرَّ بِهِ، وَهُوَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لَهُ، فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ قَطْعِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ قَطْعَ زَرْعٍ آخَرَ فِي أَرْضٍ أُخْرَى. وَإِنْ صَالِحَهُ مِنْهُ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ لِيُسَلِّمَ الْأَرْضَ إلَيْهِ فَارِغَةً، صَحَّ؛ لِأَنَّ قَطْعَ جَمِيعِ الزَّرْعِ مُسْتَحَقٌّ نِصْفُهُ بِحُكْمِ الصُّلْحِ، وَالْبَاقِي لِتَفْرِيغِ الْأَرْضِ، فَأَمْكَنَ الْقَطْعُ.
وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِجَمِيعِ الزَّرْعِ، فَصَالَحَهُ مِنْ نِصْفِهِ عَلَى نِصْفِ الْأَرْضِ، لِيَكُونَ الْأَرْضُ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَشَرَطَ الْقَطْعَ فِي الْجَمِيعِ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ شَرَطَا قَطْعَ كُلِّ الزَّرْعِ وَتَسْلِيمَ الْأَرْضِ فَارِغَةً، وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّ بَاقِيَ الزَّرْعِ لَيْسَ بِمَبِيعٍ، فَلَا يَصِحُّ شَرْطُ قَطْعِهِ فِي الْعَقْدِ.

[فَصْلٌ حُصِلَتْ أَغْصَانُ شَجَرَتِهِ فِي هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ]
(3501) فَصْلٌ: إذَا حَصَلَتْ أَغْصَانُ شَجَرَتِهِ فِي هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ هَوَاءِ جِدَارٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ، أَوْ عَلَى نَفْسِ الْجِدَارِ، لَزِمَ مَالِكَ الشَّجَرَةِ إزَالَةُ تِلْكَ الْأَغْصَانِ، إمَّا بِرَدِّهَا إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَإِمَّا بِالْقَطْعِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْقَرَارَ، فَوَجَبَ إزَالَةُ مَا يَشْغَلُهُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ كَالْقَرَارِ. فَإِنْ امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ إزَالَته، لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إزَالَتِهِ، كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ.
وَإِنْ تَلِفَ بِهَا شَيْءٌ، لَمْ يَضْمَنْهُ كَذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إزَالَتِهِ، وَيَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ، إذَا أُمِرَ بِإِزَالَتِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا مَالَ حَائِطُهُ إلَى مِلْكِ غَيْره، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، إذَا امْتَنَعَ مِنْ إزَالَتِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْهَوَاءِ إزَالَتُهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تَدْخُلُ دَارِهِ، لَهُ إخْرَاجُهَا، كَذَا هَاهُنَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
فَإِنْ أَمْكَنَهُ إزَالَتُهَا بِلَا إتْلَافٍ وَلَا قَطْعٍ، مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ تَلْزَمُهُ وَلَا غَرَامَةٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ إتْلَافُهَا، كَمَا أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَهُ إخْرَاجُ الْبَهِيمَةِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ إتْلَافُهَا. فَإِنْ أَتْلَفَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ غَرِمَهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَتُهَا إلَّا بِالْإِتْلَافِ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إقْرَارُ مَالِ غَيْرِهِ فِي مِلْكِهِ.
فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى إقْرَارِهَا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ وَابْنُ عَقِيلٍ: يَجُوزُ ذَلِكَ رَطْبًا كَانَ الْغُصْنُ أَوْ يَابِسًا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ، لِكَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، بِخِلَافِ الْعِوَضِ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمِ؛ لِوُجُوبِ تَسْلِيمِهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الصُّلْحِ عَنْهُ، لِكَوْنِ ذَلِكَ

(4/365)


يَكْثُرُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُتَجَاوِرَةِ، وَفِي الْقَطْعِ إتْلَافٌ وَضَرَرٌ. وَالزِّيَادَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ يُعْفَى عَنْهَا، كَالسِّمَنِ الْحَادِثِ فِي الْمُسْتَأْجَرِ لِلرُّكُوبِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ لِلْغُرْفَةِ يَتَجَدَّدُ لَهُ الْأَوْلَادُ، وَالْغِرَاسِ الَّذِي يَسْتَأْجِرُ لَهُ الْأَرْضَ يَعْظُمُ وَيَجْفُو.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا تَصِحُّ الْمُصَالَحَةُ عَنْهُ بِحَالٍ، رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا؛ لِأَنَّ الرَّطْبَ يَزِيدُ وَيَتَغَيَّرُ وَالْيَابِسُ يَنْقُصُ، وَرُبَّمَا ذَهَبَ كُلُّهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ يَابِسًا مُعْتَمِدًا عَلَى نَفْسِ الْجِدَارِ، صَحَّتْ الْمُصَالَحَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَأْمُونَةٌ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَ يَزِيدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَا لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْجِدَارِ، لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعُ الْهَوَاءِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ صِحَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَى الْعِلْمِ بِهِ سَبِيلٌ، وَذَلِكَ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَكَوْنِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمٍ، وَهَذَا كَذَلِكَ. وَالْهَوَاءُ كَالْقَرَارِ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِهِ، فَجَازَ الصُّلْحُ عَلَى مَا فِيهِ، كَاَلَّذِي فِي الْقَرَارِ.

[فَصْلٌ صَالِحه عَلَى أَرْض بِجُزْءِ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهَا]
(3502) فَصْل: وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى إقْرَارِهَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهَا، أَوْ بِثَمَرِهَا كُلُّهُ، فَقَدْ نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ. وَنَحْوَهُ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ، فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا شَجَرَةٍ ظُلِّلَتْ عَلَى قَوْمٍ، فَهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَطْعِ مَا ظَلَّلَ، أَوْ أَكْلِ ثَمَرَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَجْهُولٌ، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ مَجْهُولَةٌ، وَجُزْؤُهَا مَجْهُولٌ، وَمِنْ شَرْطِ الصُّلْحِ الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ، وَلِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَتَغَيَّرُ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا.
وَوَجْهُ الْأَوَّل، أَنَّ هَذَا مِمَّا يَكْثُرُ فِي الْأَمْلَاكِ، وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَفِي الْقَطْعِ إتْلَافٌ، فَجَازَ مَعَ الْجَهَالَةَ، كَالصُّلْحِ عَلَى مَجْرَى مِيَاهِ الْأَمْطَارِ، وَالصُّلْحِ عَلَى الْمَوَارِيثِ الدَّارِسَةِ، وَالْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهَا، وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ الصُّلْحَ هَاهُنَا يَصِحُّ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُبِيحُ صَاحِبَهُ مَا بَذَلَ لَهُ، فَصَاحِبُ الْهَوَاءِ يُبِيحُ صَاحِبَ الشَّجَرَةِ إبْقَاءَهَا، وَيَمْتَنِعُ مِنْ قَطْعِهَا وَإِزَالَتِهَا، وَصَاحِبُ الشَّجَرَةَ يُبِيحُهُ مَا بَذَلَ لَهُ مِنْ ثَمَرَتهَا، وَلَا يَكُونُ هَذَا بِمَعْنَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ بِمَعْدُومٍ وَلَا مَجْهُولٍ، وَالثَّمَرَةُ فِي حَالِ الصُّلْحِ مَعْدُومَةٌ مَجْهُولَةٌ، وَلَا هُوَ لَازِمٌ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ عَمَّا بَذَلَهُ، وَالْعَوْدُ فِيمَا قَالَهُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ إبَاحَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: اُسْكُنْ دَارِي، وَأَسْكُنُ دَارَك. مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ، وَلَا ذِكْرِ شُرُوطِ الْإِجَارَةِ، أَوْ قَوْلِهِ: أَبَحْتُك الْأَكْلَ مِنْ ثَمَرَةِ بُسْتَانِي، فَأَبِحْنِي الْأَكْلَ مِنْ ثَمَرَة بُسْتَانِك.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: دَعْنِي أُجْرِي فِي أَرْضِك مَاءً، وَلَك أَنْ تَسْقِيَ بِهِ مَا شِئْت، وَتَشْرَبَ مِنْهُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ كَثِيرًا، وَفِي إلْزَامِ الْقَطْعِ ضَرَرٌ كَبِيرٌ، وَإِتْلَافُ أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَفِي التَّرْكِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَصِلُ إلَى صَاحِبِ الْهَوَاءِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعٌ بَيْنَ

(4/366)


الْأَمْرَيْنِ، وَنَظَرٌ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ، فَكَانَ أَوْلَى.

[فَصْلٌ مَا امْتَدَّ مِنْ عُرُوق شَجَرَة إنْسَان إلَى أَرْض جَاره]
(3503) فَصْلٌ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا امْتَدَّ مِنْ عُرُوقِ شَجَرَةِ إنْسَانٍ إلَى أَرْضِ جَارِهِ، سَوَاءٌ أَثَّرَتْ ضَرَرًا مِثْلُ تَأْثِيرِهَا فِي الْمَصَانِعِ، وَطَيِّ الْآبَارِ، وَأَسَاسِ الْحِيطَانِ أَوْ مَنْعِهَا مِنْ ثَبَاتِ شَجَرٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَوْ زَرْعٍ، أَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي قَطْعِهِ وَالصُّلْحِ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ فِي الْفُرُوعِ، إلَّا أَنَّ الْعُرُوقَ لَا ثَمَرَ لَهَا، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ مَا نَبَتَ مِنْ عُرُوقِهَا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، أَوْ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ، فَهُوَ كَالصُّلْحِ عَلَى الثَّمَرِ فِيمَا ذَكَرْنَا، فَعَلَى قَوْلِنَا، إذَا اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ، ثُمَّ أَبَى صَاحِبُ الشَّجَرَةِ دَفْعَ نَبَاتِهَا إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَهُ فِي أَرْضِهِ لِهَذَا، فَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمْهُ لَهُ، رَجَعَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهَا بِعِوَضٍ فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَنْ مَالَ حَائِطُهُ إلَى هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ ذَلِقَ مِنْ أَخْشَابِهِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَالْحُكْمِ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

[فَصْلٌ صَالِحه عَلَى الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا]
(3504) فَصْلٌ: وَإِذَا صَالَحَهُ عَلَى الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا، لَمْ يَجُزْ، كَرِهَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ - وَقَالَ: نَهَى عُمَرُ أَنْ تُبَاعَ الْعَيْنُ بِالدَّيْنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَهُشَيْمٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِسْحَاقُ.
وَرَوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بَأْسًا بِالْعُرُوضِ أَنْ يَأْخُذُهَا مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا الْعُرُوضَ بِمَا فِي الذِّمَّةِ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا. وَلَعَلَّ ابْنَ سِيرِينَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ التَّعْجِيلَ جَائِزٌ وَالْإِسْقَاطَ وَحْدَهُ جَائِزٌ، فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ فَعَلَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ عَلَيْهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ يَبْذُلُ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُطُّهُ عِوَضًا عَنْ تَعْجِيلِ مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَبَيْعُ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ عَشَرَةً حَالَّةً بِعِشْرِينَ مُؤَجَّلَةٍ. وَلِأَنَّهُ يَبِيعُهُ عَشَرَةً بِعِشْرِينَ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مَعِيبَةً، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ وَلَا عَقْدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعٌ بِبَذْلِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ جَوَازُهُ فِي الْعَقْدِ، أَوْ مَعَ الشَّرِكَة كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ.
وَيُفَارِقُ مَا إذَا اشْتَرَى الْعُرُوضَ بِثَمَنِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ الْحُلُولِ عِوَضًا، فَأَمَّا إنْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ بِنِصْفِهَا مُؤَجَّلًا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ، وَتَبَرُّعًا بِهِ، صَحَّ الْإِسْقَاطُ، وَلَمْ يَلْزَمْ التَّأْجِيلُ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى، وَالْإِسْقَاطُ صَحِيحٌ. وَإِنْ فَعَلَهُ لِمَنْعِهِ مِنْ حَقِّهِ بِدُونِهِ، أَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْوَفَاءِ، لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ أَيْضًا. عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا رِوَايَتَيْنِ، أَصَحُّهُمَا لَا يَصِحُّ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ أَوْلَى، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[فَصْلٌ الصُّلْح عَنْ الْمَجْهُولِ]
(3505) فَصْل: وَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ الْمَجْهُولِ، سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، إذَا كَانَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَى

(4/367)


مَعْرِفَتِهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يُصَالِحُ عَلَى الشَّيْءِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُوقِفَهُ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا لَا يَدْرِي مَا هُوَ، وَنَقَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ، إذَا اخْتَلَطَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ شَعِيرٍ، وَطُحِنَا، فَإِنْ عَرَفَ قِيمَةَ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِ الشَّعِيرِ، بِيعَ هَذَا، وَأُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةَ مَالِهِ، إلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ وَيَتَحَالَّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: الصُّلْحُ الْجَائِزُ هُوَ صُلْحُ الزَّوْجَةِ مِنْ صَدَاقِهَا الَّذِي لَا بَيِّنَةَ لَهَا بِهِ، وَلَا عِلْمَ لَهَا، وَلَا لِلْوَرَثَةِ بِمَبْلَغِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الْمُعَامَلَةُ وَالْحِسَابُ الَّذِي قَدْ مَضَى عَلَيْهِ الزَّمَانُ الطَّوِيلُ، لَا عِلْمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ، فَيَجُوزُ الصُّلْحُ، بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لَا عِلْمَ لَهُ بِقَدْرِهِ، جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ يَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّهِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، أَوْ لَا عِلْمَ لَهُ. وَيَقُول الْقَابِضُ: إنْ كَانَ لِي عَلَيْك حَقٌّ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ. وَيَقُول الدَّافِعُ: إنْ كُنْت أَخَذْت مِنِّي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّك فَأَنْتَ مِنْهُ فِي حِلٍّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ الْبَيْعِ، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ عَلَى مَجْهُولٍ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ: «اسْتِهِمَا، وَتَوَخَّيَا، وَلْيَحْلِلْ أَحَدُكُمَا صَاحِبَهُ» . وَهَذَا صُلْحٌ عَلَى الْمَجْهُولِ.
وَلِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الصُّلْحُ مَعَ الْعِلْمِ، وَإِمْكَانِ أَدَاءِ الْحَقِّ بِعَيْنِهِ، فَلَأَنْ يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَهُمَا طَرِيقٌ إلَى التَّخَلُّصِ وَبَرَاءَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِدُونِهِ، وَمَعَ الْجَهْلِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ أَفْضَى إلَى ضَيَاعِ الْمَالِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَالٌ لَا يَعْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ. وَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ بَيْعًا، وَلَا فَرْعَ بَيْعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إبْرَاءٌ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ بَيْعًا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِدَلِيلِ بَيْعِ أَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ، وَطَيِّ الْآبَارِ، وَمَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ، وَلَوْ أَتْلَفَ رَجُلٌ صُبْرَةَ طَعَامٍ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا، فَقَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ لِمُتْلِفِهِ: بِعْتُك الطَّعَامَ الَّذِي فِي ذِمَّتِك بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِهَذَا الثَّوْبِ. صَحَّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ فِي الصُّلْحِ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، كَالْمُخْتَصِمِينَ فِي مَوَارِيثَ دَارِسَةٍ، وَحُقُوقٍ سَالِفَةٍ، أَوْ عَيْنٍ مِنْ الْمَالِ لَا يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهَا، صَحَّ الصُّلْحُ مَعَ الْجَهَالَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِهِ، لَمْ يَجُزْ مَعَ الْجَهَالَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ وَاجِبٌ، وَالْجَهَالَةُ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، وَتُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الصُّلْحِ
(3506) فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا يُمْكِنُهُمَا مَعْرِفَتُهُ، كَتَرِكَةٍ مَوْجُودَةٍ، أَوْ يَعْلَمُهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَيَجْهَلُهُ صَاحِبُهُ، فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنْ صُولِحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ ثُمُنِهَا، لَمْ يَصِحَّ. وَاحْتَجَّ بُقُولِ شُرَيْحٍ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ صُولِحَتْ مِنْ ثُمُنِهَا، لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا مَا تَرَكَ زَوْجُهَا، فَهِيَ الرِّيبَةُ كُلُّهَا.
قَالَ: وَإِنْ وَرِثَ قَوْمٌ مَالًا

(4/368)


وَدُورًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَبَعْضِهِمْ: نُخْرِجُك مِنْ الْمِيرَاثِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَى مِنْهَا شَيْءٌ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ لَعَلَّهَا تَظُنُّ أَنَّهُ قَلِيلٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَثِيرٌ وَلَا يَشْتَرِي حَتَّى تَعْرِفَهُ وَتَعْلَمَ مَا هُوَ، وَإِنَّمَا يُصَالِحُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَعْرِفُهُ، وَلَا يَدْرِي مَا هُوَ حِسَابُ بَيْنَهُمَا، فَيُصَالِحُهُ، أَوْ يَكُونُ رَجُلٌ يَعْلَمُ مَالَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَالْآخَرُ لَا يَعْلَمُهُ فَيُصَالِحُهُ، فَأَمَّا إذَا عَلِمَ فَلَمْ يُصَالِحْهُ إنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَهْضِمَ حَقَّهُ وَيَذْهَبَ بِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا جَازَ مَعَ الْجَهَالَةِ، لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ لِإِبْرَاءِ الذِّمَمِ، وَإِزَالَةِ الْخِصَامِ، فَمَعَ إمْكَانِ الْعِلْمِ لَا حَاجَةَ إلَى الصُّلْحِ مَعَ الْجَهَالَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ.

[فَصْلٌ الصُّلْح عَنْ كُلِّ مَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ]
(3507) فَصْل: وَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ كُلِّ مَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ لَا يَجُوزُ، فَيَصِحُّ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَسُكْنَى الدَّارِ، وَعَيْبِ الْمَبِيعِ. وَمَتَى صَالَحَ عَمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ أَقَلَّ، جَازَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَسَعِيدَ بْنِ الْعَاصِ بَذَلُوا لِلَّذِي وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ سَبْعَ دِيَاتٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا. وَلِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، فَلَا يَقَعُ الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَتَهُ.
فَأَمَّا إنْ صَالَحَ عَنْ قَتْلِ الْخَطَأِ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا، لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ عَبْدًا أَوْ شَيْئًا غَيْرَهُ، فَصَالَحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا، لَمْ يَجُزْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ الْمُتْلَفِ، فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِذَلِكَ. وَلَنَا، أَنَّ الدِّيَةَ وَالْقِيمَةَ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ مُقَدَّرَةً، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِهَا، كَالثَّابِتَةِ عَنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَقَّهُ وَزِيَادَةً لَا مُقَابِلَ لَهَا، فَيَكُونُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. فَأَمَّا إنْ صَالَحَهُ عَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا، بِأَكْثَرَ قِيمَةً مِنْهَا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ.

[فَصْلٌ صَالِح عَنْ الْمِائَة الثَّابِتَة فِي الذِّمَّةِ بِالْإِتْلَافِ]
(3508) فَصْلٌ: وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْمِائَةِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ بِالْإِتْلَافِ، بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، لَمْ يَجُزْ، وَكَانَتْ حَالَّةً. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَحْمَدَ يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَنْ الْمُتْلِفِ بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فَجَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ وَهُوَ مِائَةٌ حَالَّةٌ، الْحَالُّ لَا يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنِ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ.

[فَصْلٌ صَالِح عَنْ الْقِصَاصِ بِعَبْدِ فَخَرَجَ مُسْتَحَقًّا]
(3509) فَصْلٌ: وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ بِعَبْدٍ، فَخَرَجَ مُسْتَحَقًّا، رَجَعَ بِقِيمَتِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ خَرَجَ حُرًّا فَكَذَلِكَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فَاسِدٌ، فَيَرْجِعُ بِبَذْلِ مَا صَالَحَ عَنْهُ، وَهُوَ الدِّيَةُ. وَلَنَا، أَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ مَا جَعَلَهُ عِوَضًا، فَرَجَعَ فِي قِيمَتِهِ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا.

(4/369)


[فَصْلٌ صَالِح عَنْ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ بِعِوَضِ]
(3510) فَصْل: وَلَوْ صَالَحَ عَنْ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ بِعِوَضِ، فَوَجَدَ الْعِوَضَ مُسْتَحَقًّا أَوْ حُرًّا، رَجَعَ فِي الدَّارِ وَمَا صَالَحَ عَنْهُ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ تَالِفًا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ هَاهُنَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِوَضَ كَانَ مُسْتَحَقًّا أَوْ حُرًّا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، فَرَجَعَ فِيمَا كَانَ لَهُ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ إسْقَاطِ الْقِصَاصِ.
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا، فَصَالَحَهُ عَنْهُ بِعَبْدٍ، فَبَانَ مُسْتَحَقًّا أَوْ حُرًّا، رَجَعَ بِأَرْشِ الْعَيْبِ. وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ امْرَأَةً، فَزَوْجَته نَفْسَهَا عِوَضًا عَنْ أَرْشِ الْعَيْبِ، فَزَالَ الْعَيْبُ رَجَعَتْ بِأَرْشِهِ، لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ ذَلِكَ مَهْرًا لَهَا.

[فَصْل صَالِحه عَنْ الْقِصَاصِ بَحْر يَعْلَمَانِ حُرِّيَّته]
(3511) فَصْلٌ: وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْ الْقِصَاصِ بِحُرٍّ يَعْلَمَانِ حُرِّيَّتَهُ أَوْ عَبْدٍ يَعْلَمَانِ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ، أَوْ تَصَالَحَا بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِ الْقِصَاصِ، رَجَعَ بِالدِّيَةِ وَبِمَا صَالَحَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ هَاهُنَا بَاطِلٌ يَعْلَمَانِ بُطْلَانَهُ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.

[فَصْلٌ صَالِح رَجُلًا عَلَى مَوْضِعِ قَنَاةٍ مِنْ أَرْضِهِ يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ]
(3512) فَصْلٌ: إذَا صَالَحَ رَجُلًا عَلَى مَوْضِعِ قَنَاةٍ مِنْ أَرْضِهِ يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ، بَيَّنَّا مَوْضِعَهَا وَعَرْضَهَا وَطُولَهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ لَمَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِهِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ عُمْقِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْمَوْضِعَ كَانَ لَهُ إلَى تُخُومِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ فِيهِ مَا شَاءَ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مِنْ أَرْضِ رَبِّ الْأَرْضِ، مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا، فَهَذَا إجَارَةٌ لِلْأَرْضِ، فَيَشْتَرِطُ تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْإِجَارَةِ. فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِ رَجُلٍ بِإِجَارَةٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ رَجُلًا عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهَا فِي سَاقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ مُدَّةً لَا تُجَاوِزُ مُدَّةَ إجَارَتِهِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ السَّاقِيَةُ مَحْفُورَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ سَاقِيَةٍ فِي أَرْضٍ فِي يَدِهِ بِإِجَارَةِ.
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِهِ وَقْفًا عَلَيْهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ كَالْمُسْتَأْجِرِ، لَهُ أَنْ يُصَالِحَ إجْرَاءَ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا سَاقِيَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، إنَّمَا يَسْتَوْفِي مَنْفَعَتَهَا، كَالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ سَوَاءً. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ حَفْرُ السَّاقِيَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَهُ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا كَيْفَمَا شَاءَ، مَا لَمْ يَنْقُلْ الْمِلْكَ فِيهَا إلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، فَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا أُذِنَ لَهُ فِي الْحَفْرِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَهَلْ لِمَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ فَسْخُ الصُّلْحِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا آجَرَهُ مُدَّةً، فَمَاتَ فِي أَثْنَائِهَا. فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ فَسْخُ الصُّلْحِ. فَفَسَخَهُ، رَجَعَ الْمُصَالِحُ عَلَى وَرَثَةِ الَّذِي صَالَحَهُ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ. رَجَعَ مِنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ عَلَى الْوَرَثَة.

[فَصْلٌ صَالِح رَجُلًا عَلَى إجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنْ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِهِ]
(3513) فَصْلٌ: وَإِنْ صَالَحَ رَجُلًا عَلَى إجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنْ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِهِ أَوْ فِي أَرْضِهِ عَنْ سَطْحِهِ، أَوْ فِي أَرْضِهِ عَنْ أَرْضِهِ، جَازَ، إذَا كَانَ مَا يَجْرِي مَاءً مَعْلُومًا، إمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ، وَإِمَّا بِمَعْرِفَةِ الْمِسَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَخْتَلِفُ بِصِغَرِ السَّطْحِ وَكِبَرِهِ. وَلَا يُمَكِّنُ ضَبْطُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْرِي

(4/370)


مِنْهُ الْمَاءُ إلَى السَّطْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ.
وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِ مُدَّةٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى هَذَا، وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْمَاءِ مَجْرَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَسْتَوْفِي بِهِ مَنَافِعَ الْمَجْرَى دَائِمًا، وَلَا فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ السَّاقِيَةِ، وَيَخْتَلِفَانِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي السَّاقِيَّةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ ذَلِكَ حَصَلَ بِتَقْدِيرِ السَّاقِيَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجْرِيَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مَائِهَا، وَالْمَاءُ الَّذِي عَلَى السَّطْحِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ السَّطْحِ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مِنْهُ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ.
وَإِنْ كَانَ السَّطْحُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمَاءُ مُسْتَأْجَرًا، أَوْ عَارِيَّةً مَعَ إنْسَانٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِهِ بِخِلَافِ الْمَاءِ فِي السَّاقِيَةِ الْمَحْفُورَةِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مَاءُ السَّطْحِ يَجْرِي عَلَى أَرْضٍ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ احْتَاجَ إلَى حَفْرٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ أَرْضَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَجْعَلُ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْأَرْضِ رَسْمًا، فَرُبَّمَا ادَّعَى اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهَا. وَاحْتَمَلَ الْجَوَازَ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى حَفْرٍ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ مَضَرَّةٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا مُدَّةً لَا تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ إجَارَتِهِ، كَمَا قُلْنَا فِي إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي السَّاقِيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءً فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ]
(3514) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءً فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْضٌ لِلزِّرَاعَةِ، لَهَا مَاءٌ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا أَرْضُ جَارِهِ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَاجَةِ لَا تُبِيحُ مَالَ غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الزَّرْعُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، وَلَا الْبِنَاءُ فِيهَا، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِشَيْءِ مِنْ مَنَافِعِهَا الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ قَبْل هَذِهِ الْحَاجَةِ.
وَالْأُخْرَى يَجُوزُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ خَلِيجًا مِنْ الْعَرِيضِ، فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَأَبَى، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: لِمَ تَمْنَعُنِي وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لَك، تَشْرَبُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَلَا يَضُرُّك؟ فَأَبَى مُحَمَّدٌ، فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ، فَدَعَا مُحَمَّدَ بْن مَسْلَمَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وَاَللَّهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاك مَا يَنْفَعُهُ، وَهُوَ لَك نَافِعٌ، تَشْرَبُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وَاَللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِك. فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ، فَفَعَلَهُ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ "، وَسَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ ". وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ، وَقَوْلُ عُمَرَ يُخَالِفُهُ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ، فَكَانَ أَوْلَى.

[فَصْل صَالِح رَجُلًا عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِ الرَّجُلِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ]
(3515) فَصْلٌ: وَإِنْ صَالَحَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِ الرَّجُلِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ مِنْ عَيْنِهِ، وَقَدَّرَهُ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ بِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ بِمَمْلُوكِ، وَلَا يَجُوزُ؛ بَيْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ

(4/371)


الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. قَالَ: وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ النَّهْرِ كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ، جَازَ، وَكَانَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ، وَالْمَاءُ تَابِعٌ لَهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى السَّقْيِ مِنْ نَهْرِهِ وَقَنَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَالْمَاءُ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فِي قِرْبَتِهِ أَوْ إنَائِهِ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ بِدَلِيلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَأَشْبَاهِهِ، وَالصُّلْحِ عَلَى الْمَجْهُولِ.

[فَصْلٌ الصُّلْح عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ]
(3516) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَ امْرَأَةً لِتُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ يُحِلُّ حَرَامًا، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ بَذْلَ نَفْسِهَا بِعِوَضٍ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ دَفَعَتْ إلَيْهِ عِوَضًا عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى لِيَكُفَّ عَنْهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْإِنْكَارِ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ، وَهَذِهِ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِأَخْذِ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ حَقِّهِ الَّذِي يَدَّعِيه، وَخُرُوجُ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا أُجِيزَ الْخَلْع لِلْحَاجَةِ إلَى افْتِدَاءِ نَفْسِهَا.
وَالثَّانِي، يَصِحُّ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ مِنْ النِّكَاحِ، فَجَازَ كَعِوَضِ الْخُلْعِ وَالْمَرْأَةُ تَبْذُلُهُ لِقَطْعِ خُصُومَتِهِ وَإِزَالَةِ شَرِّهِ، وَرُبَّمَا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهَا لِكَوْنِ الْحَاكِمِ يَرَى ذَلِكَ، أَوَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّهَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمَتَى صَالَحَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، ثَبَتَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِإِقْرَارِهَا أَوْ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: الصُّلْحُ بَاطِلٌ. فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ طَلَاقٌ وَلَا خَلَعَ. وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ صَحِيحٌ. احْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ بِأَخْذِ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ نِكَاحِهَا، فَكَانَ خُلْعًا، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ فَخَالَعَهَا.
وَلَوْ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ لِتَنْزِلَ عَنْ دَعْوَاهَا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا بَذْلُ نَفْسِهَا لِمُطَلِّقِهَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِهِ. وَإِنْ دَفَعَتْ إلَيْهِ مَالًا لِيُقِرَّ بِطَلَاقِهَا، لَمْ يَجُزْ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ يَجُوزُ، كَمَا لَوْ بَذَلَتْ لَهُ عِوَضًا لِيُطَلِّقهَا ثَلَاثًا.

[فَصْلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَهُ]
(3517) فَصْل: وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَأَنْكَرَهُ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ لِيُقِرَّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُحِلُّ حَرَامًا، فَإِنَّ إرْقَاقَ الْحُرِّ نَفْسَهُ لَا يَحِلُّ بِعِوَضِ وَلَا بِغَيْرِهِ. وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالًا صُلْحًا عَنْ دَعْوَاهُ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ بِمَالِ، وَيُشْرَعُ لِلدَّافِعِ لِدَفْعِ الْيَمِينِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَالْخُصُومَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ إلَيْهِ.
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا، فَأَنْكَرَهُ فَدَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا لِيُقِرَّ لَهُ بِالْأَلْفِ، لَمْ يَصِحَّ. فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِقْرَارِهِ كَذِبُهُ فِي إنْكَارِهِ، وَأَنَّ الْأَلْفَ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُنْكَرُ مَالًا صُلْحًا عَنْ دَعْوَاهُ، صَحَّ. وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُ.

(4/372)


[فَصْل صَالِح شَاهِدًا عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ]
(3518) فَصْلٌ: وَلَوْ صَالَحَ شَاهِدًا عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ تَلْزَمُ الشَّهَادَةُ بِهِ، كَدَيْنِ آدَمِي، أَوْ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ. الثَّانِي، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ. فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ ذَلِكَ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلَهُ وَلَا يَغْصِبَ مَالَهُ. الثَّالِثُ، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقِّ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ عِوَضِهِ، كَسَائِرِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ.
وَلَوْ صَالَحَ السَّارِقَ وَالزَّانِيَ وَالشَّارِبَ بِمَالٍ، عَلَى أَنْ لَا يَرْفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ، لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، فَأَشْبَهَ حَدَّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَهُ، لَمْ يَجُزْ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ حَقًّا لَيْسَ بِمَالِي، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ إلَى بَدَلَ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِتَنْزِيهِ الْعِرْضِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ عِرْضِهِ بِمَالٍ.
وَهَلْ يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالصُّلْحِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَقًّا لِآدَمِي؛ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَسْقُطْ بِصُلْحِ الْآدَمِيِّ وَلَا إسْقَاطِهِ، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ سَقَطَ بِصُلْحِهِ وَإِسْقَاطِهِ، مِثْل الْقِصَاصِ. وَإِنْ صَالَحَ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ شُرِعَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ، سَقَطَ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ هَاهُنَا وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِكَوْنِهِ حَقًّا لِآدَمِيٍّ.

[فَصْلٌ لَا يَشْرَعَ إلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ جَنَاحًا]
(3519) فَصْل: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ إلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ جَنَاحًا؛ وَهُوَ الرَّوْشَنُ يَكُونُ عَلَى أَطْرَافِ خَشَبَةٍ مَدْفُونَةٍ فِي الْحَائِطِ، وَأَطْرَافُهَا خَارِجَةٌ فِي الطَّرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ فِي الْعَادَةِ بِالْمَارَّةِ أَوْ لَا يَضُرُّ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهَا. سَابَاطًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُوَ الْمُسْتَوْفِي لِهَوَاءِ الطَّرِيقِ كُلِّهِ عَلَى حَائِطَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِطَانِ مِلْكَهُ أَوْ لَمْ يَكُونَا، وَسَوَاءٌ أَذِنَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ جَازَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُمْ، فَجَرَى إذْنُهُ مَجْرَى إذْنِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَيْسَ

(4/373)


بِنَافِدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَإِنْ عَارَضَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ قَلْعُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَنْعَهُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَقَ بِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ أَحَدٍ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ، فَكَانَ جَائِزًا، كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَضُرُّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ فِي شَارِعٍ تَمُرُّ فِيهِ الْجُيُوشُ وَالْأَحْمَالُ، فَيَكُونُ بِحَيْثُ إذَا سَارَ فِيهِ الْفَارِسُ وَرُمْحُهُ مَنْصُوبٌ لَا يَبْلُغُهُ.
وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يُقَدَّرُ بِذَلِكَ، بَلْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بالعماريات وَالْمَحَامِلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ بِنَاءٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَبِنَاءِ الدَّكَّةِ أَوْ بِنَاءِ ذَلِكَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ، وَيُفَارِقُ الْمُرُورَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهَا جُعِلَتْ لِذَلِكَ، وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ، وَالْجُلُوسُ لَا يَدُومُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُظْلِمُ الطَّرِيقَ، وَيَسُدُّ الضَّوْءَ، وَرُبَّمَا سَقَطَ عَلَى الْمَارَّةِ، أَوْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ تَعْلُو الْأَرْضُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ، فَيَصْدِمُ رُءُوسَ النَّاسِ، وَيَمْنَعُ مُرُورَ الدَّوَابِّ بِالْأَحْمَالِ، وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ إلَّا عَلَى الْمَاشِي، وَقَدْ رَأَيْنَا مِثْل هَذَا كَثِيرًا، وَمَا يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ فِي ثَانِي الْحَالِ، يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ بِنَاءَ حَائِطٍ مَائِلٍ إلَى الطَّرِيقِ يُخْشَى وُقُوعُهُ عَلَى مِنْ يَمُرُّ فِيهَا.
وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ بِنَاءٌ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ، لَوْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ إلَى هَوَاءِ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا، كَمَا لَا يَجُوزُ إذَا مَنَعَ مِنْهُ.

[فَصْلٌ لَا يَبْنِي فِي الطَّرِيقِ دُكَّانًا]
(3520) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ فِي الطَّرِيقِ دُكَّانًا، بِغَيْرِ خِلَافِ نَعْلَمُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا أَوْ غَيْرَ وَاسِعٍ، سَوَاءٌ أَذِنَ الْإِمَامُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي الْمَارَّةَ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ، وَيَعْثُرُ بِهِ الْعَاثِرُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا.

[فَصْل لَا يَبْنِي دُكَّانًا وَلَا يَخْرُج رَوِشْنَا وَلَا سَابَاطًا عَلَى دَرْب غَيْر نَافِذ]
(3521) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ دُكَّانًا، وَلَا يُخْرِجَ رَوْشَنًا وَلَا سَابَاطًا عَلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الدَّرْبِ بَابٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الدَّرْبِ بَابٌ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ لَهُ إخْرَاجَ الْجَنَاحِ وَالسَّابَاطِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الدَّرْبِ اسْتِطْرَاقًا، فَمَلَكَ ذَلِكَ، كَمَا يَمْلِكُهُ فِي الدَّرْبِ النَّافِذِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ بِنَاءٌ فِي هَوَاءِ مِلْكِ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ بَابٌ، وَلَا نُسَلِّمُ الْأَصْلَ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ أَذِنَ أَهْلُ الدَّرْبِ فِيهِ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، فَجَازَ بِإِذْنِهِمْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالِكُ وَاحِدًا. وَإِنْ صَالَحَ أَهْلَ الدَّرْبِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِوَضٍ مَعْلُومٍ، جَازَ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلْهَوَاءِ دُونَ الْقَرَارِ.

(4/374)


وَلَنَا أَنَّهُ يَبْنِي فِيهِ بِإِذْنِهِمْ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ أَذِنُوا لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ، فَجَازَ لَهُمْ أَخْذُ عِوَضِهِ، كَالْقَرَارِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ كَوْنِ مَا يُخْرِجُهُ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ فِي الْخُرُوجِ وَالْعُلُوِّ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَخْرَجَهُ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَيَجُوزُ بِإِذْنِهِ، بِعِوَضِ وَبِغَيْرِهِ، إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ: لَا يَحْفِر فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ بِئْرًا لِنَفْسِهِ]
(3522) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْفِرَ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ بِئْرًا لِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ جَعَلَهَا لِمَاءِ الْمَطَرِ، أَوْ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ أَرَادَ حَفْرَهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَنَفْعِهِمْ أَوْ لِنَفْعِ الطَّرِيقِ، مِثْل أَنْ يَحْفِرَهَا لِيَسْتَقِيَ النَّاسُ مِنْ مَائِهَا، وَيَشْرَبَ مِنْهُ الْمَارَّةُ، أَوْ لِيَنْزِلَ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ عَنْ الطَّرِيقِ، نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقِ ضَيِّقًا، أَوْ يَحْفِرَهَا فِي مَمَرِّ النَّاسِ بِحَيْثُ يُخَافُ سُقُوطُ إنْسَانٍ فِيهَا أَوْ دَابَّةٍ، أَوْ يُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ مَمَرَّهُمْ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا، وَإِنْ حَفَرَهَا فِي زَاوِيَةٍ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهَا مَا يَمْنَعُ الْوُقُوعَ فِيهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ بِلَا ضَرَرٍ، فَجَازَ كَتَمْهِيدِهَا، وَبِنَاءِ رَصِيفٍ فِيهَا، فَأَمَّا مَا فَعْلَهُ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ لِقَوْمِ مُعَيَّنِينَ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ.
كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي بُسْتَانِ إنْسَانٍ. وَلَوْ صَالَحَ أَهْلَ الدَّرْبِ عَنْ ذَلِكَ بِعِوَضٍ، جَازَ، سَوَاءٌ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ لِيَنْزِل فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ عَنْ دَارِهِ، أَوْ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا مَاءً لِنَفْسِهِ، أَوْ حَفَرَهَا لِلسَّبِيلِ وَنَفْعِ الطَّرِيقِ. وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ.

[فَصْلٌ إخْرَاجُ الميازيب إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ]
(3523) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْمَيَازِيبِ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ. وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا إلَى دَرْبٍ نَافِذٍ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ إخْرَاجُهُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجْتَازَ عَلَى دَارِ الْعَبَّاسِ وَقَدْ نَصَبَ مِيزَابًا عَلَى الطَّرِيقِ، فَقَلَعَهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تَقْلَعُهُ وَقَدْ نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا نَصَبْته إلَّا عَلَى ظَهْرِي، وَانْحَنَى حَتَّى صَعِدَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَنَصَبَهُ.
وَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِغَيْرِهِ فِعْلُهُ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ. وَلِأَنَّ
الْحَاجَةَ
تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُهُ رَدَّ مَائِهِ إلَى الدَّارِ. وَلِأَنَّ النَّاسَ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَلَنَا، أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقِ غَيْرُ نَافِذٍ وَلِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ وَأَهْلِهَا، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ دَكَّةٍ فِيهَا أَوْ جَنَاحٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهَا. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، فَإِنَّ مَاءَهُ يَقَعُ عَلَى الْمَارَّةِ، وَرُبَّمَا جَرَى فِيهِ الْبَوْلُ أَوْ مَاءٌ نَجِسٌ فَيُنَجِّسُهُمْ، وَيَزْلَقُ الطَّرِيقَ، وَيَجْعَلُ فِيهَا الطِّينَ، وَالْحَدِيثُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ، أَوْ تَجَدَّدَتْ الطَّرِيقُ بَعْدَ

(4/375)


نَصْبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الْحَاجَةَ
دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ.

[فَصْلٌ لَا يُفْتَح فِي الْحَائِط الْمُشْتَرَكِ طَاقَا وَلَا بَابًا]
فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَحَ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ طَاقًا وَلَا بَابًا، إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ، وَتَصَرُّفٌ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَغْرِزَ فِيهِ وَتَدًا، وَلَا يُحْدِثَ عَلَيْهِ حَائِطًا وَلَا يَسْتُرَهُ، وَلَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ نَوْعَ تَصَرُّفٍ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْحَائِطِ بِمَا يَضْرِبُهُ، فَلَمْ يَجُزْ، كَنَقْضِهِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي حَائِطِ جَارِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ؛ إذَا لَمْ يَجُزْ فِيمَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَفِيمَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ أَوْلَى. وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ ذَلِكَ بِعِوَضٍ، جَازَ.
وَأَمَّا الِاسْتِنَادُ إلَيْهِ، وَإِسْنَادُ شَيْءٍ لَا يَضُرُّهُ إلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ أَشْبَهَ الِاسْتِظْلَالَ بِهِ.

[فَصْلٌ وَضَعَ خَشَبَة عَلَى حَائِط غَيْره]
(3525) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَضْعُ خَشَبَةٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ لِضَعْفِهِ عَنْ حَمْلِهِ، لَمْ يَجُزْ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لَا ذَكَرْنَا، وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.» وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِ، إلَّا أَنَّ بِهِ غَنِيَّةً عَنْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَيْهِ، لِإِمْكَانِ وَضْعِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ. لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ حَائِطٍ عَلَيْهِ. وَأَشَارَ ابْنُ عَقِيلٍ إلَى جَوَازِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَهُ عَلَى جِدَارِهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ، كَأَخْذِ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَالْفَسْخِ بِالْخِيَارِ أَوْ بِالْعَيْبِ، اتِّخَاذِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ، وَإِبَاحَةِ السَّلَمِ، وَرُخَصِ السَّفَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى وَضْعِهِ عَلَى حَائِطِ جَارِهِ، أَوْ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْقِيفُ بِدُونِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ وَضْعُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْسَ لَهُ وَضْعُهُ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَزِرَاعَتِهِ. وَلَنَا، الْخَبَرُ وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِحَائِطِ جَارِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِهِ، أَشْبَهَ الِاسْتِنَادَ إلَيْهِ وَالِاسْتِظْلَالَ بِهِ، وَيُفَارِقُ الزَّرْعَ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ، وَلَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَاشْتَرَطَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ حِيطَانٍ، وَلِجَارِهِ حَائِطٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ هَذَا فِي كَلَامِ أَحْمَدَ، إنَّمَا قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: لَا يَمْنَعُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ، وَكَانَ الْحَائِطُ يَبْقَى. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ التَّسْقِيفُ عَلَى حَائِطَيْنِ إذَا كَانَا غَيْرَ مُتَقَابِلَيْنِ، أَوْ كَانَ الْبَيْتُ وَاسِعًا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ جِسْرًا ثُمَّ يَضَعُ الْخَشَبَ عَلَى ذَلِكَ الْجِسْرِ.
وَالْأَوْلَى اعْتِبَارُهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ التَّسْقِيفِ بِدُونِهِ. وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْبَالِغِ وَالْيَتِيمِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ وَضْعُهُ فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ خَشَب الْحَائِط]
(3526) فَصْلٌ: فَأَمَّا وَضْعُهُ فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ، إذَا وُجِدَ الشَّرْطَانِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ:

(4/376)


إحْدَاهُمَا، الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ فِي مِلْكِ الْجَارِ، مَعَ أَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، فَفِي حُقُوقِ اللَّه تَعَالَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ أَوْلَى. وَالثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ. نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، تُرِكَ فِي حَقِّ الْجَارِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ.
وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَجْهًا لِلْمَنْعِ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ فِي مِلْكِ الْجَارِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ فِي الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِلْوَاضِعِ فِيهِ حَقٌّ فَلَأَنْ يُمْنَعَ مَنْ الْمُخْتَصِّ بِغَيْرِهِ أَوْلَى. وَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ فِي حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ حَقَّهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ؛ لِغِنَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ مَعَ شُحِّهِ وَضِيقِهِ أَوْلَى.
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا تُجِيزُونَ فَتْحَ الطَّاقِ وَالْبَابِ فِي الْحَائِطِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى وَضْعِ الْخَشَبِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْخَشَبَ يُمْسِكُ الْحَائِطَ وَيَنْفَعُهُ، بِخِلَافِ الطَّاقِ وَالْبَابِ، فَإِنَّهُ يُضْعِفُ الْحَائِطَ، لِأَنَّهُ يَبْقَى مَفْتُوحًا فِي الْحَائِطِ، وَاَلَّذِي يَفْتَحُهُ لِلْخَشَبَةِ يَسُدُّهُ بِهَا، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْخَشَبِ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

[فَصْل مِلْك وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ فَزَالَ بِسُقُوطِهِ أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ ثُمَّ أُعِيدَ]
(3527) فَصْلٌ: وَمَنْ مَلَكَ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ، فَزَالَ بِسُقُوطِهِ، أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، ثُمَّ أُعِيدَ، فَلَهُ إعَادَةُ خَشَبِهِ، لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُجَوِّزَ لِوَضْعِهِ مُسْتَمِرٌّ، فَاسْتَمَرَّ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ.
وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ، مِثْلُ أَنْ يُخْشَى عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَيْهِ، أَوْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ وَضْعِهِ، لَمْ تَجُزْ إعَادَتُهُ؛ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ. وَإِنْ خِيفَ سُقُوطُ الْحَائِطِ بَعْدَ وَضْعِهِ عَلَيْهِ، أَوْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ وَضْعِهِ، لَزِمَ إزَالَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْمَالِكِ، وَيَزُولُ الْخَشَبُ. وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ، لَكِنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ إبْقَائِهِ عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْ إزَالَتُهُ؛ لِأَنَّ فِي إزَالَتِهِ ضَرَرًا بِصَاحِبِهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ فِي إبْقَائِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَشِيَ سُقُوطَهُ.

[فَصْلٌ كَانَ لَهُ وَضَعَ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ]
(3528) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ لَهُ وَضْعُ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ، لَمْ يَمْلِكْ إعَارَتَهُ وَلَا إجَارَتَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ الْمَاسَّةِ إلَى وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى وَضْعِ خَشَبِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا الْمُصَالَحَةَ عَنْهُ لِلْمَالِكِ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ لِحَاجَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ، كَطَعَامِ غَيْرِهِ إذَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ إعَارَةَ الْحَائِطِ، أَوْ إجَارَتَهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى مَنْعِ ذِي الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَمَنْعِهِ.
وَلَوْ أَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْحَقِّ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى هَدْمِهِ لِلْخَوْفِ مِنْ انْهِدَامِهِ، أَوْ لِتَحْوِيلِهِ إلَى مَكَان آخَرَ أَوْ لِغَرَضِ صَحِيحٍ مَلَكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ

(4/377)


صَاحِبَ الْخَشَبِ إنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّهُ لِلْإِرْفَاقِ بِهِ، مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الضَّرَرِ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ، فَمَتَى أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ زَالَ الِاسْتِحْقَاقُ؛ لِزَوَالِ شَرْطِهِ.

[فَصْلٌ أَذِنَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِجَارِهِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى حَائِطِهِ]
(3529) فَصْلٌ: وَإِذَا أَذِنَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِجَارِهِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى حَائِطِهِ، أَوْ وَضْعِ سُتْرَةٍ عَلَيْهِ، أَوْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِع الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ وَضْعَهُ، جَازَ، فَإِذَا فَعَلَ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، صَارَتْ الْعَارِيَّةُ لَازِمَةً، فَإِذَا رَجَعَ الْمُعِيرُ فِيهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَعِيرَ إزَالَةُ مَا فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ اقْتَضَى الْبَقَاءَ وَالدَّوَامَ، وَفِي الْقَلْعِ إضْرَارٌ بِهِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمُعِيرُ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِلدَّفْنِ وَالْغِرَاسِ، لَمْ يَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ بِنَقْلِ الْمَيِّتِ وَالْغِرَاسِ بِغَيْرِ ضَمَانٍ.
وَإِنْ أَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ قَدْ اسْتَحَقَّ تَبْقِيَةَ الْخَشَبِ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي تَبْقِيَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْدَمًا، فَلَهُ نَقْضُهُ. وَعَلَى صَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْخَشَبِ إزَالَتُهُ. وَإِذَا أُعِيدَ الْحَائِطُ لَمْ يَمْلِكْ الْمُسْتَعِيرُ رَدَّ بِنَائِهِ وَخَشَبِهِ إلَّا بِإِذْنِ جَدِيدٍ، سَوَاءٌ بَنَاهُ بِآلَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا. وَهَكَذَا لَوْ قَلَعَ الْمُسْتَعِيرُ خَشَبًا، أَوْ سَقَطَ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إلَّا بِإِذْنِ مُسْتَأْنَفٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْقَلْعِ إنَّمَا كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَهَا هُنَا قَدْ حَصَلَ الْقَلْعُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ فَانْقَلَعَ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالُوا فِي الْآخَرِ: ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ بَقَاءَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْإِبْقَاءَ ضَرُورَةَ دَفْعِ ضَرَرِ الْقَلْعِ، وَقَدْ حَصَلَ الْقَلْعُ هَاهُنَا، فَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ.
وَإِنْ قَلَعَ صَاحِبُ الْحَائِطِ ذَلِكَ عُدْوَانًا، كَانَ لِلْآخَرِ إعَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أُزِيلَ بِغَيْرِ حَقٍّ، تَعَدِّيًا مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلَمْ يَسْقُطْ الْحَقُّ عَنْهُ بِعُدْوَانِهِ. وَإِنْ أَزَالَهُ أَجْنَبِيٌّ، لَمْ يَمْلِكْ صَاحِبُهُ إعَادَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ، مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَقَطَ بِنَفْسِهِ.

[فَصْلٌ أَذِنَ لَهُ فِي وَضَعَ خَشَبه أَوْ الْبِنَاء عَلَى جِدَارِهِ بِعِوَضِ]
(3530) فَصْلٌ: وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَضْعِ خَشَبِهِ، أَوْ الْبِنَاءِ عَلَى جِدَارِهِ بِعِوَضٍ، جَازَ سَوَاءٌ كَانَ إجَارَةً فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ صُلْحًا عَلَى وَضْعِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَمَتَى زَالَ فَلَهُ إعَادَتُهُ، سَوَاءٌ زَالَ لِسُقُوطِهِ، أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ بِعِوَضٍ، وَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ مَعْلُومَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ، وَالسُّمْكِ، وَالْآلَاتُ مِنْ الطِّينِ وَاللَّبَنِ، وَالْآجُرُّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَخْتَلِفُ فَيُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَإِذَا سَقَطَ الْحَائِطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَوْ الْخَشَبُ، فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، سُقُوطًا لَا يَعُودُ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، وَرَجَعَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ.
وَإِنْ أُعِيدَ رَجَعَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي سَقَطَ الْبِنَاءُ وَالْخَشَبُ عَنْهُ. وَإِنْ صَالَحَهُ مَالِكُ الْحَائِطِ عَلَى رَفْعِ بِنَائِهِ أَوْ خَشَبِهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، جَازَ كَمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى وَضْعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا صَالَحَهُ بِهِ مِثْلَ الْعِوَضِ الَّذِي صُولِحَ بِهِ عَلَى وَضْعِهِ، أَوْ أَقَلِّ أَوْ أَكْثَرِ؛ لِأَنَّ هَذَا عِوَضٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ مَسِيلُ مَاءٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، أَوْ

(4/378)


مِيزَابٌ، أَوْ غَيْرُهُ فَصَالَحَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُسْتَحِقَّ ذَلِكَ بِعِوَضٍ، لِيُزِيلَهُ عَنْهُ، جَازَ.
وَإِنْ كَانَ الْخَشَبُ أَوْ الْحَائِطُ قَدْ سَقَطَ، فَصَالَحَهُ بِشَيْءٍ عَلَى أَنْ لَا يُعِيدَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ مِنْهُ، جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ بَيْعٌ.

[فَصْلٌ وَجَدَ بِنَاؤُهُ أَوْ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ حَائِطِ جَارِهِ وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبَهُ]
فَصْل: وَإِذَا وُجِدَ بِنَاؤُهُ أَوْ خَشَبُهُ عَلَى حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ، أَوْ حَائِطِ جَارِهِ، وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُهُ، فَمَتَى زَالَ فَلَهُ إعَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الْوَضْعَ بِحَقٍّ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يَزُولُ هَذَا الظَّاهِرُ حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ مَسِيلُ مَائِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، أَوْ مَجْرَى مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَهُ بِحَقٍّ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْيَدِ الثَّابِتَةِ. وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، هَلْ هُوَ بِحَقٍّ أَوْ بِعُدْوَانٍ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْخَشَبِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَسِيلِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ.

[فَصْلٌ ادَّعَى رَجُل دَارًا فِي يَدِ أَخَوَيْنِ فَأَنْكَرَهُ أَحَدُهُمَا]
(3532) فَصْل: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ أَخَوَيْنِ، فَأَنْكَرَهُ أَحَدُهُمَا، وَأَقَرَّ لَهُ الْآخَرُ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَمَّا أَقَرَّ لَهُ بِعِوَضٍ، صَحَّ الصُّلْحُ، وَلِأَخِيهِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا، وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ: هَذِهِ لَنَا وَرِثْنَاهَا جَمِيعًا عَنْ أَبِينَا أَوْ أَخِينَا. فَيُقَال: إذَا كَانَ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا، كَانَ لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ قَالَ: وَرِثْنَاهَا عَنْ أَبِينَا. فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمِلْكَ لِأَخِيهِ الْمُقِرَّ لَمْ يَزُلْ، وَأَنَّ الصُّلْحَ بَاطِلٌ، فَيُؤَاخَذُ بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شُفْعَةً.
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُدَّعِيَّ حُكْمًا؛ وَقَدْ رَجَعَ إلَى الْمُقِرِّ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ مُعْتَرَفٌ بِأَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ فَتَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتَقَلَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ إلَى الْمُدَّعِي بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، فَلَا يَتَنَافَى إنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ، كَحَالَةِ إطْلَاقِ الْإِنْكَارِ وَهَذَا أَصَحُّ.

[مَسْأَلَةٌ تَدَاعَى نَفْسَانِ جِدَارًا مَعْقُودًا بِبِنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا]
(3533) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا تَدَاعَى نَفْسَانِ جِدَارًا مَعْقُودًا بِبِنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، تَحَالَفَا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا. وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا، كَانَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا تَدَاعَيَا حَائِطًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، وَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَعْقُودًا بِبِنَائِهِمَا مَعًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِمَا اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْحَائِطِ، مِثْلُ اتِّصَالِ الْبِنَاءِ بِالطِّينِ، كَهَذِهِ الْفَطَائِرِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُ اتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا، أَيْ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِبِنَائِهِمَا الِاتِّصَالَ الْمَذْكُورَ، بَلْ بَيْنَهُمَا شَقٌّ مُسْتَطِيلٌ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ اللَّذَيْنِ أُلْصِقَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِ الْحَائِطِ، أَنَّهُ لَهُ، وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُهُ عَلَى نِصْفِ الْحَائِطِ؛ لِكَوْنِ الْحَائِطِ فِي أَيْدِيهِمَا. وَإِنْ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْحَائِطِ، أَنَّهُ لَهُ، وَمَا هُوَ لِصَاحِبِهِ، جَازَ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ

(4/379)


أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْعَيْنِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ.
فَإِذَا كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا، كَانَتْ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهَا، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي نِصْفِهَا مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، تَعَارَضَتَا، وَصَارَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَنَكَلَا عَنْ الْيَمِينِ، كَانَ الْحَائِطُ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى مَا كَانَ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا، وَنَكَلَ الْآخَرُ، قُضِيَ عَلَى النَّاكِلِ، فَكَانَ الْكُلُّ لِلْآخَرِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَهُوَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يُرَجَّحُ بِالْعَقْدِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِ.
وَلَنَا، أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الْبِنَاءِ بُنِيَ كُلُّهُ بِنَاءً وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ بَعْضُهُ لِرَجُلِ، كَانَ بَقِيَّتُهُ لَهُ، وَالْبِنَاءُ الْآخَرُ الْمَحْلُولُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ بُنِيَ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ بُنِيَ مَعَ هَذَا، كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِغَيْرِ صَاحِبِ هَذَا الْحَائِطِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَجَّحَ بِهَذَا، كَالْيَدِ وَالْأَزَجِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ تَجْعَلُوهُ لَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ لِذَلِكَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ بِيَقِينٍ، إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَنَى الْحَائِطَ لِصَاحِبِهِ تَبَرُّعًا مَعَ حَائِطِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ، أَوْ بَنَاهُ بِأُجْرَةِ، فَشُرِعَتْ الْيَمِينُ مِنْ أَجْلِ الِاحْتِمَالِ، كَمَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ وَسَائِرِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ مَعْقُودًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا عَقْدًا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ، مِثْلُ الْبِنَاءِ بِاللَّبِنِ وَالْآجُرِّ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْزَعَ مِنْ الْحَائِطِ الْمَبْنِيِّ نِصْفَ لَبِنَةٍ أَوْ آجُرَّةً، أَوْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا لَبِنَةً صَحِيحَةً أَوْ آجُرَّةً صَحِيحَةً تُعْقَدُ بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُرَجَّحُ بِهَذَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَعَلَ هَذَا لِيَتَمَلَّكَ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِهَذَا الِاتِّصَالِ، كَمَا يُرَجَّحُ بِالِاتِّصَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَائِطِ لَا يَدَعُ غَيْرَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، بِنَزْعِ آجُرِّهِ، وَتَغْيِيرِ بِنَائِهِ، وَفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِلْكِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَجَّحَ بِهَذَا، كَمَا يُرَجَّحُ بِالْيَدِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ يَدًا عَادِيَةً، حَدَثَتْ بِالْغَصْبِ أَوْ بِالسَّرِقَةِ أَوْ الْعَارِيَّة أَوْ الْإِجَارَةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ التَّرْجِيحَ بِهَا.

[فَصْلٌ كَانَ لَأَحَدِهِمَا بِنَاءٌ كَحَائِطِ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ]
(3534) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ بِنَاءٌ، كَحَائِطٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ، أَوْ عَقْدٍ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهِ، أَوْ قُبَّةٍ وَنَحْوهَا فَهُوَ لَهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ وَضْعَ بِنَائِهِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْيَدِ الثَّابِتَةِ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ،

(4/380)


فَجَرَى مَجْرَى كَوْنِ حِمْلِهِ عَلَى الْبَهِيمَةِ وَزَرْعِهِ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ يَبْنِي عَلَى حَائِطِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ سُتْرَةٌ، وَلَوْ كَانَ فِي أَصْلِ الْحَائِطِ خَشَبَةٌ طَرَفُهَا تَحْتَ حَائِطٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا، أَوْ لَهُ عَلَيْهَا أَزَجٌ مَعْقُودٌ، فَالْحَائِطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخَشَبَةَ لِمَنْ يَنْفَرِدُ بِوَضْعِ بِنَائِهِ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْبِنَاءِ لَهُ.
(3535) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا خَشَبٌ مَوْضُوعٌ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ بِذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَسْمَحُ بِهِ الْجَارُ. وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَنْعِ مِنْهُ. وَعِنْدَنَا إنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ التَّمْكِينُ مِنْهُ. فَلَمْ تُرَجَّحْ بِهِ الدَّعْوَى، كَإِسْنَادِ مَتَاعِهِ إلَيْهِ، وَتَجْصِيصِهِ وَتَزْوِيقِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرَجَّحَ بِهِ الدَّعْوَى. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ بِوَضْعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَانِيَ عَلَيْهِ وَالزَّارِعَ فِي الْأَرْضِ، وَوُرُودُ الشَّرْعِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَنْعِ مِنْهُ، لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ، بِدَلِيلِ أَنَّا اسْتَدْلَلْنَا بِوَضْعِهِ عَلَى كَوْنِ الْوَضْعِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الدَّوَامِ، حَتَّى مَتَى زَالَ جَازَتْ إعَادَتُهُ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ مُسْتَحَقًّا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ إلَى وَضْعِهِ، فَفِيمَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ وَضْعِهِ.
وَأَمَّا السَّمَاحُ بِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرِ النَّاسِ لَا يَتَسَامَحُونَ بِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، طَأْطَئُوا رُءُوسَهُمْ، كَرَاهَةً لِذَلِكَ، فَقَالَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» . وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يُوجِبُونَ التَّمْكِينَ مِنْ هَذَا، وَيَحْمِلُونَ الْحَدِيثَ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَنْعِ لَا عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَلِأَنَّ الْحَائِطَ يَبْنِي لِذَلِكَ، فَيُرَجَّحُ بِهِ، كَالْأَزَجِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالْجِذْعِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يَبْنِي لَهُ، وَيُرَجَّحُ بِالْجِذْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ يَبْنِي لَهُمَا وَلَنَا، أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْحَائِطِ، فَاسْتَوَى فِي تَرْجِيحِ الدَّعْوَى بِهِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، كَالْبِنَاءِ.
(3536) فَصْلٌ: وَلَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِكَوْنِ الدَّوَاخِلِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْخَوَارِجِ وَوُجُوهِ الْآجُرِّ وَالْحِجَارَةِ، وَلَا كَوْنِ الْآجُرَّةِ الصَّحِيحَةِ مِمَّا يَلِي مِلْكَ أَحَدِهِمَا وَأَقْطَاعِ الْآجُرِّ إلَى مِلْكِ الْآخَرِ، وَلَا بِمَعَاقِدِ الْقِمْطِ فِي الْخُصِّ، يَعْنِي عَقْدَ الْخُيُوطِ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا الْخُصُّ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ إلَيْهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدُ الْقِمْطِ؛ لِمَا رَوَى نَمِرُ بْنُ حَارِثَةَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ «، أَنَّ قَوْمًا اخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُصٍّ، فَبَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَحَكَمَ بِهِ لِمَنْ يَلِيهِ مَعَاقِدُ الْقِمْطِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:

(4/381)


أَصَبْت، وَأَحْسَنْت» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ.
وَلِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا جَعَلَ وَجْهَ الْحَائِطِ إلَيْهِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَلِأَنَّ وَجْهَ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدَ الْقِمْطِ إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إلَى أَحَدِهِمَا، إذْ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَبَطَلَتْ دَلَالَتُهُ كَالتَّزْوِيقِ، وَلِأَنَّهُ يُرَادُ لِلزِّينَةِ، فَأَشْبَهَ التَّزْوِيقَ. وَحَدِيثُهُمْ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ النَّقْلِ، وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
قَالَ الشَّالَنْجِيُّ: ذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ، فَلَمْ يُقْنِعْهُ، وَذَكَرْته لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا حَدِيثًا. وَلَمْ يُصَحِّحْهُ. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ فِيهِ مَقَالٌ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْعُرْفِ لَيْسَ بِصَحِيحِ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَعْلُ وَجْهِ الْحَائِطِ إلَى خَارِجٍ لِيَرَاهُ النَّاسُ، كَمَا يَلْبَسُ الرَّجُلُ أَحْسَنَ أَثْوَابِهِ، أَعْلَاهَا الظَّاهِرُ لِلنَّاسِ، لِيَرَوْهُ، فَيَتَزَيَّنُ بِهِ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ.
(3537) . فَصْلٌ: وَلَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالتَّزْوِيقِ وَالتَّحْسِينِ، وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا لَهُ عَلَى الْآجُرِّ سُتْرَةٌ غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُتَسَامَحُ بِهِ، وَيُمْكِنُ إحْدَاثُهُ.

[فَصْل تُنَازِع صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي حَوَائِطِ الْبَيْتِ السفلاني]
(3538) فَصْلٌ: وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ، فِي حَوَائِطِ الْبَيْتِ السُّفْلَانِيِّ، فَهِيَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْتَفِعُ بِهَا، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَيْتِ، فَكَانَتْ لِصَاحِبِهِ. وَإِنْ تَنَازَعَا حَوَائِطَ الْعُلْوِ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ؛ لِذَلِكَ. وَإِنْ تَنَازَعَا السَّقْفَ، تَحَالَفَا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ السَّقْفَ عَلَى مِلْكِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا سَرْجًا عَلَى دَابَّةِ أَحَدِهِمَا، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِهَا، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ.
وَحُكِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ؛ لِأَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ السُّكْنَى إلَّا بِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، يَنْتَفِعَانِ بِهِ، غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ الْبُنْيَانِ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا، كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ. وَقَوْلُهُمْ: هُوَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ السُّفْلِ. يَبْطُلُ بِحِيطَانِ الْعُلْوِ، وَلَا يُشْبِهُ السَّرْجَ عَلَى الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُ صَاحِبِهَا، وَلَا يُرَادُ إلَّا لَهَا، فَكَانَ فِي يَدِهِ. وَهَذَا السَّقْفُ يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ سَمَاءُ صَاحِبِ السُّفْلِ يُظِلُّهُ، وَأَرْضُ صَاحِبِ الْعُلْوِ تُقِلُّهُ، فَاسْتَوَيَا فِيهِ.

[فَصْلٌ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يَصْعَدُ مِنْهَا]
(3539) فَصْلٌ: وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يَصْعَدُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتِهَا مِرْفَقٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ، كَسُلَّمِ مُسَمَّرًا، أَوْ دَكَّةٍ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ الْيَدَ وَالتَّصَرُّفَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهَا مَصْعَدُ صَاحِبِ الْعُلْوِ لَا غَيْرُ. وَالْعَرْصَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الدَّرَجَةُ لَهُ أَيْضًا؛ لِانْتِفَاعِهِ بِهَا وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَهَا بُنِيَتْ لِأَجْلِهِ، لِتَكُونَ مَدْرَجًا لِلْعُلْوِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ يَدَيْهِمَا عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهَا سَقْفٌ لِلسُّفْلَانِيِّ، وَمَوْطِئٌ لِلْفَوْقَانِيِّ، فَهِيَ كَالسَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ تَحْتِهَا طَاقَ صَغِيرٌ لَمْ تُبْنَ

(4/382)


الدَّرَجَةُ لِأَجَلِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ مِرْفَقًا يُجْعَلُ فِيهِ جُبُّ الْمَاءِ وَنَحْوُهُ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ؛ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِأَجْلِهِ وَحْدَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ يَدَهُمَا عَلَيْهَا، وَانْتِفَاعَهُمَا حَاصِلٌ بِهَا، فَهِيَ كَالسَّقْفِ.

[فَصْلٌ تَنَازَعَا مُسَنَّاةً بَيْنَ نَهْرِ أَحَدِهِمَا وَأَرْضِ الْآخَرِ]
(3540) فَصْلٌ: وَلَوْ تَنَازَعَا مُسَنَّاةً بَيْنَ نَهْرِ أَحَدِهِمَا وَأَرْضِ الْآخَرِ، تَحَالَفَا، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهَا حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَهِيَ كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ.

[فَصْلٌ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ فَانْهَدَمَ]
(3541) فَصْلٌ: إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا إعَادَتَهُ فَأَبَى الْآخَرُ مُشْتَرَكٌ، فَانْهَدَمَ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا إعَادَتَهُ، فَأَبَى الْآخَرُ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى إعَادَتِهِ؟ قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُجْبَرُ. نَقَلَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ، وَحَرْبٌ، وَسِنْدِي. قَالَ الْقَاضِي: هِيَ أَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَعَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَصَحَّحَهُ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إضْرَارًا، فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ، كَمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ إذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا، وَعَلَى النَّقْضِ إذَا خِيفَ سُقُوطُهُ عَلَيْهِمَا، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ» . وَهَذَا وَشَرِيكُهُ يَتَضَرَّرَانِ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة، لَا يُجْبَرُ.
نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلًا، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ مَالِكُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، كَالِابْتِدَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى بِنَائِهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ، أَوْ لِحَقِّ جَارِهِ، أَوْ لِحَقَّيْهِمَا جَمِيعًا، لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ، وَلَا لِحَقِّ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ جَارُهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجَبًا عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَا. وَفَارَقَ الْقِسْمَةَ، فَإِنَّهَا دَفْعٌ لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَالْبِنَاءُ فِيهِ مَضَرَّةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَامَةِ وَإِنْفَاقِ مَالِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إجْبَارِهِ عَلَى إزَالَةِ الضَّرَرِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، إجْبَارُهُ عَلَى إزَالَتِهِ بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ، بِدَلِيلِ قِسْمَةِ مَا فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرٌ.
وَيُفَارِقُ هَدْمَ الْحَائِطِ إذَا خِيفَ سُقُوطُهُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ سُقُوطَ حَائِطِهِ عَلَى مَا يُتْلِفُهُ، فَيُجْبَرُ عَلَى مَا يُزِيلُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ انْفَرَدَ بِالْحَائِطِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي تَرْكِهِ إضْرَارًا، فَإِنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا حَصَلَ بِانْهِدَامِهِ، وَإِنَّمَا تَرْكُ الْبِنَاءِ تَرْكٌ لِمَا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْهُ، بِدَلِيلِ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إضْرَارٌ، لَكِنْ فِي الْإِجْبَارِ إضْرَارٌ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُمْتَنِعُ لَا نَفْعَ لَهُ فِي الْحَائِطِ، أَوْ يَكُونُ الضَّرَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ النَّفْعِ، أَوْ يَكُونُ مُعْسِرًا لَيْسَ مَعَهُ مَا يَبْنِي بِهِ، فَيُكَلَّفُ الْغَرَامَةَ مَعَ عَجْزِهِ عَنْهَا، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُجْبَرْ، فَإِنْ أَرَادَ شَرِيكُهُ الْبِنَاءِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْحَمْلِ وَرَسْمًا، فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْهُ، وَلَهُ بِنَاؤُهُ بِأَنْقَاضِهِ إنْ شَاءَ،

(4/383)


وَبِنَاؤُهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَإِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ وَأَنْقَاضِهِ، فَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمُنْفِقَ عَلَيْهِ إنَّمَا أَنْفَقَ عَلَى التَّالِفِ وَذَلِكَ أَثَرٌ لَا عَيْنٌ يَمْلِكُهَا.
وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَالْحَائِطُ مِلْكُهُ خَاصَّةً، وَلَهُ مَنْعُ شَرِيكِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَوَضْعِ خَشَبِهِ وَرُسُومِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَهُ. وَإِذَا أَرَادَ نَقْضَهُ، فَإِنْ كَانَ بَنَاهُ بِآلَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ نَقْضَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ [بِمَا] فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَهُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً. فَإِنْ قَالَ شَرِيكُهُ: أَنَا أَدْفَعُ إلَيْك نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَلَا تَنْقُضْهُ. لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبِنَاءِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِبْقَاءِ.
وَإِنْ أَرَادَ غَيْرُ الْبَانِي نَقْضَهُ، أَوْ إجْبَارَ بَانِيه عَلَى نَقْضِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْ بِنَائِهِ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ إجْبَارَهُ عَلَى نَقْضِهِ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْحَائِطِ رَسْمُ انْتِفَاعٍ، وَوَضْعِ خَشَبٍ، قَالَ لَهُ: إمَّا أَنْ تَأْخُذَ مِنِّي نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ انْتِفَاعِي وَوَضْعِ خَشَبِي، وَإِمَّا أَنْ تَقْلَعَ حَائِطَك، لِنُعِيدَ الْبِنَاءَ بَيْنَنَا. فَيَلْزَمُ الْآخَرَ إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ رُسُومِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِبِنَائِهِ.
وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الِانْتِفَاعَ بِهِ، فَطَالَبَهُ الْبَانِي بِالْغَرَامَةِ أَوْ الْقِيمَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبِنَاءِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْغَرَامَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَذِنَ فِي الْبِنَاءِ وَالْإِنْفَاقِ، فَيَلْزَمُهُ مَا أَذِنَ فِيهِ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، فَمَتَى امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أَخَذَ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، أَوْ إذْنِ الشَّرِيكِ، رَجَعَ عَلَيْهِ مَتَى قَدَرَ. وَإِنْ أَرَادَ بِنَاءَهُ، لَمْ يَمْلِكْ الشَّرِيكُ مَنْعَهُ، وَمَا أَنْفَقَ؛ إنْ تَبَرَّعَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ بِهِ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِذَلِكَ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
وَإِنْ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ بِآلَتِهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً. فَإِنْ أَرَادَ نَقْضِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَرِيكُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُجْبِرَ عَلَى بِنَائِهِ، فَأَوْلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إبْقَائِهِ.

[فَصْلٌ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا حَائِطٌ قَدِيمٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ مُبَانَاتَهُ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا]
(3542) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا حَائِطٌ قَدِيمٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ مُبَانَاتِهِ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَامْتَنَعَ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. رِوَايَةٌ وَاحِدَةً. وَإِنْ أَرَادَ الْبِنَاءَ وَحْدَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ إلَّا فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ جَارِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ مَا لَهُ فِيهِ رَسْمٌ، وَهَذَا لَا رَسْمَ لَهُ. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.

[فَصْلٌ كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلِ وَالْعُلْوُ لِآخَرَ فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا]
(3543) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ، وَالْعُلْوُ لِآخَرَ، فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُبَانَاةَ مِنْ الْآخَرِ، فَامْتَنَعَ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنْ انْهَدَمَتْ حِيطَانُ السُّفْلِ، فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِإِعَادَتِهَا، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ:

(4/384)


إحْدَاهُمَا، يُجْبَرُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً. وَالثَّانِيَة، لَا يُجْبَرُ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِنَاءَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ. عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا. فَإِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ، فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ السُّفْلِ. يَعْنِي حَتَّى يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْكُنَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْبَيْتَ إنَّمَا يَبْنِي لِلسُّكْنَى، فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَغَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِالْحِيطَانِ خَاصَّةً، مِنْ طَرْحِ الْخَشَبِ، وَسَمْرِ الْوَتَدِ، وَفَتْحِ الطَّاقِ، وَيَكُونُ لَهُ السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى إنَّمَا هِيَ إقَامَتُهُ فِي فِنَاءِ الْحِيطَانِ، مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهَا، فَأَشْبَهَ الِاسْتِظْلَالَ بِهَا مِنْ خَارِجِ.
فَأَمَّا إنْ طَالَبَ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ، وَأَبَى صَاحِبُ الْعُلْوِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ، وَلَا مُسَاعَدَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْلِ مُخْتَصٌّ بِهِ، فَلَمْ يُجْبَرْ غَيْرُهُ عَلَى بِنَائِهِ، وَلَا الْمُسَاعَدَةِ فِيهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُلْوٌ. وَالثَّانِيَة، يُجْبَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ وَالْبِنَاءِ مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَائِطٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَشْبَهَ الْحَائِطَ بَيْنَ الدَّارَيْنِ.

[فَصْلٌ كَانَ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ حَائِطٌ لِأَحَدِهِمَا فَانْهَدَمَ]
(3544) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ حَائِطٌ لِأَحَدِهِمَا، فَانْهَدَمَ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ بِنَاءَهُ. أَوْ الْمُسَاعَدَةَ فِي بِنَائِهِ، فَامْتَنَعَ، لَمْ يُجْبَرْ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ مَالِكَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، كَحَائِطِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ الْآخَرَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا الْمُسَاعَدَةَ فِيهِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا حَائِطُ السُّفْلِ، حَيْثُ يُجْبَرُ صَاحِبُهُ عَلَى بِنَائِهِ، مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ مَلَكَهُ مُسْتَحِقًّا لِإِبْقَائِهِ عَلَى حِيطَانِ السُّفْلِ دَائِمًا، فَلَزِمَ صَاحِبَ السُّفْلِ تَمْكِينُهُ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ، وَطَرِيقُهُ الْبِنَاءُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِنَاءَهُ، أَوْ نَقْضَهُ بَعْدَ بِنَائِهِ، لَمْ يَكُنْ لِجَارِهِ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً. وَإِنْ أَرَادَ جَارُهُ بِنَاءَهُ، أَوْ نَقْضَهُ أَوْ التَّصَرُّفَ فِيهِ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ.

[فَصْلٌ هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ]
(3545) فَصْلٌ: وَمَتَى هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ، أَوْ السَّقْفَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، نَظَرْت، فَإِنْ خِيفَ سُقُوطُهُ، وَوَجَبَ هَدْمُهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَى هَادِمِهِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ، وَأَزَالَ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ بِسُقُوطِهِ، وَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ سَوَاءٌ هَدَمَهُ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ الْتَزَمَ إعَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، فَلَزِمَهُ إعَادَتُهُ.

[فَصْلٌ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ]
(3546) فَصْلٌ: فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَمِلْكُهُ بَيْنَهُمَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يُصَالِحُ عَلَى بَعْضِ مِلْكِهِ بِبَعْضٍ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَارٍ فَصَالَحَهُ عَلَى سُكْنَاهَا.

(4/385)


وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُحَمِّلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا شَاءَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِجَهَالَةِ الْحِمْلِ فَإِنَّهُ يُحَمِّلُهُ مِنْ الْأَثْقَالِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِحَمْلِهِ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ جَازَ.

[فَصْلٌ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ أَوْ قَنَاةٌ أَوْ دُولَابٌ فَاحْتَاجَ إلَى عِمَارَةٍ]
(3547) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ أَوْ قَنَاةٌ أَوْ دُولَابٌ، أَوْ نَاعُورَةٌ، أَوْ عَيْنٌ، فَاحْتَاجَ إلَى عِمَارَةٍ، فَفِي إجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ مِنْهُمَا رِوَايَتَانِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يُجْبَرُ هَاهُنَا عَلَى الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ شَرِيكُهُ مِنْ مُقَاسَمَتِهِ، فَيَضُرُّ بِهِ، بِخِلَافِ الْحَائِطِ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُمَا قِسْمَةُ الْعَرْصَةِ. وَالْأَوْلَى التَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَةِ الْعَرْصَةِ إضْرَارًا بِهِمَا وَالْإِنْفَاقُ أَرْفَقُ بِهِمَا، فَكَانَا سَوَاءً. وَالْحُكْمُ فِي الدُّولَابِ وَالنَّاعُورَةِ، كَالْحُكْمِ فِي الْحَائِطِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالنَّهْرُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِنْقَاقُ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ الْآخَرِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ مِلْكَيْهِمَا، وَإِنَّمَا أَثَّرَ أَحَدُهُمَا فِي نَقْلِ الطِّينِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ، فَأَشْبَهَ الْحَائِطَ إذَا بَنَاهُ بِآلَتِهِ، وَالْحُكْمُ فِي الرُّجُوعِ بِالنَّفَقَةِ، كَحُكْمِ الرُّجُوعِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْحَائِطِ، عَلَى مَا مَضَى.

[فَصْلٌ كَانَ لِرَجُلَيْنِ بَابَانِ فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ]
(3548) فَصْل: إذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ بَابَانِ فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ، أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ مِنْ بَابِ الزُّقَاقِ وَالْآخَرُ فِي دَاخِلِهِ. فَلِلْقَرِيبِ مِنْ الْبَابِ نَقْلُ بَابِهِ إلَى مَا يَلِي بَابِ الزُّقَاقِ؛ لِأَنَّ لَهُ الِاسْتِطْرَاقَ إلَى بَابِهِ الْقَدِيمِ، فَقَدْ نَقَصَ مِنْ اسْتِطْرَاقِهِ، وَمَتَى أَرَادَ رَدَّ بَابِهِ إلَى مَوْضِعِهِ الْأَوَّلِ، كَانَ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِنْ أَرَادَ نَقْلَ بَابِهِ تِلْقَاءَ صَدْرِ الزُّقَاقِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ بَابَهُ إلَى مَوْضِعٍ لَا اسْتِطْرَاقَ لَهُ فِيهِ.
وَيَحْتَمِلُ جَوَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَابَهُ فِي أَوَّلِ الْبِنَاءِ، فِي أَيْ مَوْضِعٍ شَاءَ، فَتَرَكَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ، كَمَا أَنَّ تَحْوِيلَهُ بَعْدَ فَتْحِهِ لَا يُسْقِطُ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ حَائِطَهُ كُلَّهُ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ رَفْعِ مَوْضِعِ الْبَابِ وَحْدَهُ. فَأَمَّا صَاحِبُ الْبَابِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ فِي دَاخِلِ الدَّرْبِ بَابٌ لِآخَرَ، فَحُكْمُهُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ حُكْمُ صَاحِبِ الْبَابِ الْأَوَّلِ سَوَاءً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَّ بَابٌ آخَرُ، كَانَ لَهُ تَحْوِيلُ بَابِهِ حَيْثُ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ، لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيمَا تَجَاوَزَ الْبَابَ الْأَوَّلَ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ.
وَلَوْ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْتَحَ فِي دَارِهِ بَابًا آخَرَ، أَوْ يَجْعَلَ دَارِهِ دَارَيْنِ، يَفْتَحُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَابًا، جَازَ، إذَا وَضَعَ الْبَابَيْنِ فِي مَوْضِعِ اسْتِطْرَاقِهِ. وَإِنْ كَانَ ظَهْرُ دَارِ أَحَدِهِمَا إلَى شَارِعٍ نَافِذٍ، أَوْ زُقَاقٍ نَافِذٍ، فَفَتَحَ فِي حَائِطِهِ بَابًا إلَيْهِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَفِقُ بِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ أَحَدٍ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا إضْرَارٌ بِأَهْلِ الدَّرْبِ؛ لِأَنَّهُ بِجَعْلِهِ نَافِذًا يَسْتَطْرِقُ إلَيْهِ مِنْ الشَّارِعِ قُلْنَا: لَا يَصِيرُ الدَّرْبُ نَافِذًا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ دَارُهُ نَافِذَةً، وَلَيْسَ لَأَحَدٍ اسْتِطْرَاقُ دَارِهِ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ بَابُهُ فِي الشَّارِعِ، وَظَهْرُ دَارِهِ إلَى الزُّقَاقِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا إلَى الزُّقَاقِ لِلِاسْتِطْرَاقِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الدَّرْبِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِلْكُ أَرْبَابِهِ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ

(4/386)


الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا لِغَيْرِ الِاسْتِطْرَاقِ، أَوْ يَجْعَلَ لَهُ بَابًا يُسَمِّرُهُ، أَوْ شُبَّاكًا، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ رَفْعُ الْحَائِطِ بِجُمْلَتِهِ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ شَكْلَ الْبَابِ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ رُبَّمَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حَقِّ الِاسْتِطْرَاقِ، فَيَضُرُّ بِأَهْلِ الدَّرْبِ، بِخِلَافِ رَفْعِ الْحَائِطِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ.

[فَصْلٌ لِرَجُلِ دَارَانِ مُتَلَاصِقَتَانِ ظَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى]
(3549) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ دَارَانِ مُتَلَاصِقَتَانِ، ظَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى، وَبَابُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ، فَرَفَعَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَهُمَا دَارًا وَاحِدَةً، جَازَ. وَإِنْ فَتَحَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَابًا إلَى الْأُخْرَى، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّطَرُّقِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى كِلَا الدَّارَيْنِ، لَمْ يَجُزْ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الِاسْتِطْرَاقَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ مِنْ دَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ طَرِيقٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا أَدَّى إلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فِي قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا بِالطَّرِيقِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ فِي زُقَاقِ الْأُخْرَى. وَيَحْتَمِلُ جَوَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ رَفْعَ الْحَاجِزِ جَمِيعِهِ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى، وَهَذَا أَشْبَهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْمَنْعِ مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا رَفَعَ الْحَائِطَ جَمِيعَهُ. وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ. إذَا صَالَحَهُ أَهْلُ الدَّرْبِ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، أَوْ أَذِنُوا لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، جَازَ.

[فَصْلٌ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْبَابَيْنِ فِي الدَّرْبِ وَتَدَاعَيَاهُ]
(3550) فَصْلٌ: إذَا تَنَازَعَ صَاحِبُ الْبَابَيْنِ فِي الدَّرْبِ، وَتَدَاعَيَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَابٌ لَغَيْرِهِمَا. فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالدَّرْبِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِي أَوَّلَهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ لَهُمَا الِاسْتِطْرَاقَ فِيهِ جَمِيعًا، وَمَا بَعْدَهُ إلَى صَدْرِ الدَّرْبِ لِلْأُخَرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطْرَاقَ فِي ذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَهُ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى أَقْصَى حَائِطِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ لَهُمَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَفْتَحَ بَابَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ حَائِطِهِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِنَاءٍ لِلْأَوَّلِ، وَلَا لَهُ فِيهِ اسْتِطْرَاقٌ.
وَالثَّالِثُ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ لَهُمَا جَمِيعًا يَدًا وَتَصَرُّفًا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَ لِرَجُلِ عُلْوُ خَانٍ، وَلِآخَرَ سُفْلُهُ، وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ دَرَجَةٌ فِي أَثْنَاءِ صَحْنِ الْخَانِ، فَاخْتَلَفَا فِي الصَّحْنِ، فَمَا كَانَ مِنْ الدَّرَجَةِ إلَى بَابِ الْخَانِ بَيْنَهُمَا، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إلَى صَدْرِ الْخَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا هُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ. وَالثَّانِي هُوَ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ كَانَتْ الدَّرَجَةُ فِي صَدْرِ الصَّحْنِ، فَالصَّحْنُ بَيْنَهُمَا؛ لِوُجُودِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ مِنْهُمَا جَمِيعًا. فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: إنْ صَدْرَ الدَّرْبِ مُخْتَصٌّ بِصَاحِبِ الْبَابِ الصَّدْرَانِيِّ. لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ دِهْلِيزًا لِنَفْسِهِ، أَوْ يُدْخِلَهُ فِي دَارِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِجَارِهِ، وَلَا يَضَعُ عَلَى حَائِطِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لَهُ يَنْفَرِدُ بِهِ.

(4/387)


[فَصْلٌ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِجَارِهِ]
(3551) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِجَارِهِ، نَحْو أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ حَمَّامًا بَيْنَ الدُّورِ، أَوْ يَفْتَحَ خَبَّازًا بَيْنَ الْعَطَّارِينَ، أَوْ يَجْعَلَهُ دُكَّانَ قِصَارَةٍ يَهُزُّ الْحِيطَانَ وَيُخَرِّبُهَا، أَوْ يَحْفِرَ بِئْرًا إلَى جَانِبِ بِئْرِ جَارِهِ يَجْتَذِبُ مَاءَهَا. وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَة أُخْرَى: لَا يُمْنَعُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَمَا لَوْ طَبَخَ فِي دَارِهِ أَوْ خَبَزَ فِيهَا، وَسَلَّمُوا أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الدَّقِّ الَّذِي يَهْدِمُ الْحِيطَانَ وَيَنْثِرُهَا.
وَلَنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَلِأَنَّ هَذَا إضْرَارٌ بِجِيرَانِهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَالدَّقِّ الَّذِي يَهُزُّ الْحِيطَانَ وَيَنْثِرُهَا، وَكَسَقْيِ الْأَرْضِ الَّذِي يَتَعَدَّى إلَى هَدْمِ حِيطَانِ جَارِهِ، أَوْ إشْعَالِ نَارٍ تَتَعَدَّى إلَى إحْرَاقِهَا. قَالُوا: هَاهُنَا تَعَدَّتْ النَّارُ الَّتِي أَضْرَمَهَا، وَالْمَاءُ الَّذِي أَرْسَلَهُ، فَكَانَ مُرْسِلًا لِذَلِكَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرْسَلَهُ إلَيْهَا قَصْدًا. قُلْنَا: وَالدُّخَانُ هُوَ أَجْزَاءُ الْحَرِيقِ الَّذِي أَحْرَقَهُ، فَكَانَ مُرْسِلًا لَهُ فِي مِلْكِ جَارِهِ، فَهُوَ كَأَجْزَاءِ النَّارِ وَالْمَاءِ. وَأَمَّا دُخَانُ الْخُبْزِ وَالطَّبِيخِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ يَسِيرٌ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَتَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ.

[فَصْلٌ كَانَ سَطْح أَحَدِهِمَا أَعْلَى مِنْ سَطْحِ الْآخَرَ]
(3552) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ سَطْحُ أَحَدِهِمَا أَعْلَى مِنْ سَطْحِ الْآخَرَ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى الصُّعُودُ عَلَى سَطْحِهِ عَلَى وَجْهٍ يُشْرِفُ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ، إلَّا أَنْ يَبْنِيَ سُتْرَةً تَسْتُرُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ عَمَلُ سُتْرَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَلَا يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ، كَالْأَسْفَلِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ إضْرَارٌ بِجَارِهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَدَقِّ يَهُزُّ الْحِيطَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ جَارَهُ، وَيَطَّلِعُ عَلَى حُرُمِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ صِيرِ بَابِهِ أَوْ خَصَاصِهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ إلَيْك، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْت عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْك جُنَاحٌ» . وَيُفَارِقُ الْأَسْفَلَ؛ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ لَا يَضُرُّ بِالْأَعْلَى، وَلَا يَكْشِفُ دَارِهِ.

[فَصْلٌ كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَرْصَةُ حَائِطٍ فَاتَّفَقَا عَلَى قَسْمِهَا طُولًا]
(3553) فَصْلٌ: إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَرْصَةُ حَائِطٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى قَسْمَهَا طُولًا، جَازَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى قَسْمِهَا طُولًا أَوْ عَرْضًا؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمَا، وَلَا تَخْرُجُ عَنْهُمَا. وَإِنْ اخْتَلَفَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهَا طُولًا وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ نِصْفُ الطُّولِ فِي جَمِيعِ الْعَرْضِ، وَلِلْآخَرِ مِثْلُهُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْقِسْمَةِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ. فَإِذَا اقْتَسَمَا اقْتَرَعَا، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَخْرُجُ بِهِ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَبْنِيٍّ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُدْخِلَ بَعْضَ

(4/388)


عَرْصَتِهِ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَ فِي حَائِطِهِ مِنْ عَرْصَتِهِ فَعَلَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الْحَائِطِ الْمُقَابِلِ لِمِلْكِ شَرِيكِهِ، وَزَوَالَ مِلْكِ شَرِيكِهِ، فَيَتَضَرَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَائِطٍ يَسْتُرُ مِلْكَهُ، وَرُبَّمَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَبْنِيَ حَائِطَهُ، فَيَبْقَى مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكْشُوفًا، أَوْ يَبْنِيه وَيَمْنَعُ جَارَهُ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا تَمَكَّنَ أَيْضًا مِنْ مَنْعِ شَرِيكِهِ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَيْهِ. قُلْنَا: إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ رَسْمُ وَضْعِ خَشَبِهِ، أَوْ انْتِفَاعٌ بِهِ، لَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْ رَسْمِهِ، وَهَا هُنَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأَمَّا إنْ طَلَبَ قَسْمَهَا عَرْضًا، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعَرْضِ فِي كَمَالِ الطُّولِ، نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَتْ الْعَرْصَةُ لَا تَتَّسِعُ لِحَائِطَيْنِ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قَسْمِهَا. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهَا عَرْصَةٌ، فَأُجْبِرَ عَلَى قَسْمِهَا، كَعَرْصَةِ الدَّارِ. وَلَنَا، أَنَّ فِي قَسْمِهَا ضَرَرًا، فَلَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قَسْمِهَا عَلَيْهِ، كَالدَّارِ الصَّغِيرَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتْ تَتَّسِعُ لِحَائِطَيْنِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَبْنِي فِيهِ حَائِطًا، فَفِي إجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ. قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْصُلُ لَهُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ، فَأَشْبَهَ عَرْصَةَ الدَّارِ الَّتِي يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَبْنِي فِيهِ دَارًا. وَالثَّانِي، لَا يُجْبَرُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَا تَقَعُ فِيهَا قُرْعَةٌ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، لَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَخْرُجَ قُرْعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَلِي مِلْكَ جَارِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَلَوْ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى الْقِسْمَةِ لَأَجْبَرْنَاهُ عَلَى أَخْذِ مَا يَلِي دَارِهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ. وَمَتَى اقْتَسَمَا الْعَرْصَةَ طُولًا، فَبَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ حَائِطًا، وَبَقِيَتْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، لَمْ يُجْبَرْ أَحَدُهُمَا عَلَى سَدِّهَا، وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ سَدِّهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى بِنَاءِ الْحَائِطِ فِي عَرْصَتِهِ.

[فَصْلٌ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ فَاتَّفَقَا عَلَى قِسْمَتِهِ طُولًا]
(3554) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، فَاتَّفَقَا عَلَى قِسْمَتِهِ طُولًا، جَازَ، وَيُعَلَّمُ بَيْنَ نَصِيبِهِمَا بِعَلَامَةٍ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى قِسْمَتِهِ عَرْضًا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَأَشْبَهَ الْعَرْصَةَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِتَمْيِيزِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَهَا هُنَا لَا يَتَمَيَّزُ، وَلَا يُمْكِنُ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِهِ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ إنْ وَضَعَ خَشَبَهُ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْ الْحَائِطِ، كَانَ ثِقْلُهُ عَلَى الْحَائِطِ كُلِّهِ، وَإِنْ فَتَحَ فِيهِ طَاقًا يُضْعِفُهُ، ضَعُفَ كُلُّهُ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُهُ، تَضَرَّرَ النَّصِيبُ الْآخَرُ. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسَمَهُ وَأَبَى الْآخَرُ، فَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحَائِطِ

(4/389)


كَالْحُكْمِ فِي عَرْصَتِهِ، سَوَاءٌ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَسْمِ الْحَائِطِ، إلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهُ طُولًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى قَسْمِهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ قَطَعَاهُ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ أَتْلَفَا جُزْءًا مِنْ الْحَائِطِ، وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَطْعَهُ.
وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ وَعَلَّمَا عَلَامَةَ عَلَى نِصْفِهِ، كَانَ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِهِ انْتِفَاعًا بِنَصِيبِ الْآخَرِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قَسْمِ الدَّارِ وَقَسْمِ حَائِطِهَا الْمُحِيطِ بِهَا، وَكَذَلِكَ قَسْمِ الْبُسْتَانِ وَحَائِطِهِ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَطْعِ الْمُضِرِّ، بَلْ يُعَلِّمُهُ بِخَطِّ بَيْنَ نَصِيبِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِ الْآخَرِ وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ، بِدَلِيلِ الْحَائِطِ الْمُتَّصِلِ فِي دَارَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.