المغني
لابن قدامة [كِتَابُ الْوُقُوفِ وَالْعَطَايَا]
الْوُقُوفُ: جَمْعُ وَقْفٍ، يُقَالُ مِنْهُ: وَقَفْت وَقْفًا. وَلَا
يُقَالُ: أَوْقَفْت. إلَّا فِي شَاذِّ اللُّغَةِ، وَيُقَالُ: حَبَسْت
وَأَحْبَسْت. وَبِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ: «إنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا
وَتَصَدَّقْت بِهَا» . وَالْعَطَايَا: جَمْعُ عَطِيَّةٍ، مِثْلُ خَلِيَّةٍ
وَخَلَايَا، وَبَلِيَّةٍ وَبَلَايَا. وَالْوَقْفُ مُسْتَحَبٌّ.
وَمَعْنَاهُ: تَحْبِيسُ الْأَصْلِ، وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: «أَصَابَ
عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي
أَصَبْت أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ عِنْدِي
مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا؟ فَقَالَ: إنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا،
وَتَصَدَّقْت بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا
يُبْتَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ. قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ
فِي الْفُقَرَاءِ، وَذَوِي الْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَابْنِ السَّبِيلِ،
وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا،
أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا بِالْمَعْرُوفِ، غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ فِيهِ، أَوْ
غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
قَالَ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ:
صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ
وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ
قَالَ جَابِرٌ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُو مَقْدِرَةٍ إلَّا وَقَفَ. وَلَمْ يَرَ
شُرَيْحٌ الْوَقْفَ، وَقَالَ: لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ. قَالَ
أَحْمَدُ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
إلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِهِ، وَلِلْوَاقِفِ
الرُّجُوعُ فِيهِ، إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَلْزَمُ،
أَوْ يَحْكُمَ بِلُزُومِهِ حَاكِمٌ
وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاه، فَقَالَا كَقَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ،
صَاحِبَ الْأَذَانِ، جَعَلَ حَائِطَهُ صَدَقَةً، وَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ أَبَوَاهُ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ لَنَا عَيْشٌ إلَّا هَذَا الْحَائِطَ.
فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ
مَاتَا، فَوَرِثَهُمَا» . رَوَاهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي " أَمَالِيهِ "،
وَلِأَنَّهُ أَخْرَجَ مَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ مِنْ مِلْكِهِ،
فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، كَالصَّدَقَةِ
وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -، «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ فِي وَقْفِهِ: لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا
يُبْتَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ:
الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ، لَا
نَعْلَمُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ
اخْتِلَافًا.
(6/3)
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: تَصَدَّقَ أَبُو
بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِدَارِهِ عَلَى وَلَدِهِ، وَعُمَرُ
بِرَبْعِهِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ عَلَى وَلَدِهِ وَعُثْمَانُ بِرُومَةَ،
وَتَصَدَّقَ عَلِيٌّ بِأَرْضِهِ بِيَنْبُعَ، وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ
بِدَارِهِ بِمَكَّةَ وَدَارِهِ بِمِصْرَ وَأَمْوَالِهِ بِالْمَدِينَةِ
عَلَى وَلَدِهِ، وَتَصَدَّقَ سَعْدٌ بِدَارِهِ بِالْمَدِينَةِ وَدَارِهِ
بِمِصْرَ عَلَى وَلَدِهِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْوَهْطِ وَدَارِهِ
بِمَكَّةَ عَلَى وَلَدِهِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ بِدَارِهِ بِمَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَدِهِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ إلَى الْيَوْمِ.
وَقَالَ جَابِرٌ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُو مَقْدِرَةٍ إلَّا وَقَفَ. وَهَذَا
إجْمَاعٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الَّذِي قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَقْفِ
وَقَفَ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا،
وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ يَلْزَمُ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِذَا نَجَزَهُ
حَالَ الْحَيَاةِ لَزِمَ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، كَالْعِتْقِ.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ إنْ ثَبَتَ، فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ
الْوَقْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَهُ صَدَقَةً غَيْرَ مَوْقُوفٍ،
اسْتَنَابَ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَرَأَى وَالِدَيْهِ أَحَقَّ النَّاسِ بِصَرْفِهَا إلَيْهِمَا، وَلِهَذَا
لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ، إنَّمَا دَفَعَهَا إلَيْهِمَا. وَيَحْتَمِلُ
أَنَّ الْحَائِطَ كَانَ لَهُمَا، وَكَانَ هُوَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِحُكْمِ
النِّيَابَةِ عَنْهُمَا، فَتَصَرَّفَ بِهَذَا التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ
إذْنِهِمَا، فَلَمْ يُنَفِّذَاهُ، وَأَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّهُ إلَيْهِمَا. وَالْقِيَاسُ عَلَى
الصَّدَقَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ
حُكْمِ حَاكِمٍ، وَإِنَّمَا تَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ، وَالْوَقْفُ لَا
يَفْتَقِرُ إلَيْهِ، فَافْتَرَقَا.
[مَسْأَلَة مَنْ وَقَفَ فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ عَلَى قَوْمٍ
وَأَوْلَادِهِمْ وَعَقِبِهِمْ ثُمَّ آخِرُهُ لِلْمَسَاكِينِ]
[الْفَصْل الْأَوَّل الْوَقْفَ إذَا صَحَّ زَالَ بِهِ مِلْكُ الْوَاقِفِ
عَنْهُ]
(4367) مَسْأَلَةٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
(وَمَنْ وَقَفَ فِي صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، عَلَى قَوْمٍ
وَأَوْلَادِهِمْ وَعَقِبِهِمْ ثُمَّ آخِرُهُ لِلْمَسَاكِينِ، فَقَدْ زَالَ
مِلْكُهُ عَنْهُ) .
(4368) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ
الْوَقْفَ إذَا صَحَّ، زَالَ بِهِ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ، فِي
الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يَزُولُ
مِلْكُهُ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَحُكِيَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«احْبِسْ الْأَصْلَ، وَسَبِّلْ الثَّمَرَةَ» . وَلَنَا أَنَّهُ سَبَبٌ
يُزِيلُ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، فَأَزَالَ
الْمِلْكَ، كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكَهُ لَرَجَعَتْ
إلَيْهِ قِيمَتُهُ، كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ،
فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ
وَلَا يُورَثُ.
(6/4)
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّا إذَا
حَكَمْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ، لَزِمَتْهُ مُرَاعَاتُهُ، وَالْخُصُومَةُ
فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ أَرْشُ جِنَايَتِهِ، كَمَا يَفْدِي
أُمَّ الْوَلَدِ سَيِّدُهَا لَمَّا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ، بِخِلَافِ
غَيْرِ الْمَالِكِ.
[الْفَصْل الثَّانِي يَزُولُ الْمِلْكُ وَيَلْزَمُ الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِ
اللَّفْظِ]
(4369) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ، أَنَّهُ
يَزُولُ الْمِلْكُ، وَيَلْزَمُ الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ
الْوَقْفَ يَحْصُلُ بِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَإِخْرَاجِ
الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ. وَقَالَ: الْوَقْفُ الْمَعْرُوفُ أَنْ
يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَيُوَكِّلَ فِيهِ مَنْ يَقُومُ
بِهِ. اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ
الْمَالِيَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِمُجَرَّدِهِ، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ
وَلَنَا مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ
يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِهِ،
كَالْعِتْقِ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ؛ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ،
وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَهُوَ
بِالْعِتْقِ أَشْبَهُ، فَإِلْحَاقُهُ بِهِ أَوْلَى.
[الْفَصْلُ الثَّالِثُ الْوَقْف لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ مِنْ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ]
(4370) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ مِنْ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ:
إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْمَسَاكِينِ، أَوْ مَنْ
لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقَبُولُ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ، لَمْ
يَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَفِي
اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا اشْتِرَاطُهُ؛ لِأَنَّهُ
تَبَرُّعٌ لِآدَمِي مُعَيَّنٍ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبُولُ،
كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إنْ كَانَتْ
لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، وُقِفَتْ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِذَا كَانَتْ لِغَيْرِ
مُعَيَّنٍ أَوْ لِمَسْجِدٍ أَوْ نَحْوِهِ، لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ،
كَذَا هَاهُنَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ
نَوْعَيْ الْوَقْفِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ الْقَبُولُ، كَالنَّوْعِ
الْآخَرِ، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ
وَالْمِيرَاثَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقَبُولُ، كَالْعِتْقِ،
وَبِهَذَا فَارَقَ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَخْتَصُّ
الْمُعَيَّنَ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ مِنْ يَأْتِي مِنْ الْبُطُونِ
فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، إلَّا
أَنَّهُ مُرَتَّبٌ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ
الَّذِي لَا يَبْطُلُ بِرَدِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَقِفُ عَلَى
قَبُولِهِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْمُعَيَّنِ بِخِلَافِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ
فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ. لَمْ يَبْطُلْ
بِرَدِّهِ، وَكَانَ رَدُّهُ وَقَبُولُهُ وَعَدَمُهُمَا وَاحِدًا،
كَالْعِتْقِ. وَإِنْ قُلْنَا: يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ. فَرَدَّهُ مَنْ
وُقِفَ عَلَيْهِ، بَطَلَ فِي حَقِّهِ، وَصَارَ كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ
الِابْتِدَاءِ. يُخَرَّجُ فِي صِحَّتِهِ فِي حَقِّ مَنْ سِوَاهُ
وَبُطْلَانِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. فَإِنْ
قُلْنَا بِصِحَّتِهِ، فَهَلْ يَنْتَقِلُ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ بَعْدَهُ،
أَوْ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَصْرِفٍ فِي الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ
إلَى أَنْ يَمُوتَ الَّذِي رَدَّهُ،
(6/5)
ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى مَنْ بَعْدَهُ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ
الِابْتِدَاءِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[فَصْلٌ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْقُوفِ إلَى الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِمْ]
(4371) فَصْلٌ: وَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْمَوْقُوفِ إلَى الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِمْ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا وَقَفَ دَارِهِ
عَلَى وَلَدِ أَخِيهِ، صَارَتْ لَهُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ
مَلَكُوهُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا يُمْلَكُ، فَإِنَّ
جَمَاعَةً نَقَلُوا عَنْهُ، فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَرَثَتِهِ فِي
مَرَضِهِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ، وَلَا يَصِيرُ
مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِغَلَّتِهَا. وَهَذَا
يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَا يَمْلِكُونَ، أَنْ لَا
يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْمِلْكِ
وَآثَارَهُ ثَابِتَةٌ فِي الْوَقْفِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ
الِاخْتِلَافِ نَحْوُ مَا حَكَيْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا
يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي الْوَقْفِ اللَّازِمِ، بَلْ يَكُونُ حَقًّا
لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَنْ الْعَيْنِ
وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ،
فَانْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَالْعِتْقِ. وَلَنَا
أَنَّهُ سَبَبٌ يُزِيلُ مِلْكَ الْوَاقِفِ، وُجِدَ إلَى مَنْ يَصِحُّ
تَمْلِيكُهُ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يُخْرِجْ الْمَالَ عَنْ مَالِيَّتِهِ،
فَوَجَبَ أَنْ يُنْقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ، كَالْهِبَةِ، وَالْبَيْعِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ الْمُجَرَّدَةِ لَمْ
يَلْزَمْ كَالْعَارِيَّةِ وَالسُّكْنَى، وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْوَاقِفِ
عَنْهُ كَالْعَارِيَّةِ، وَيُفَارِقُ الْعِتْقَ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ
الْمَالِيَّةِ، وَامْتِنَاعُ التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ لَا يَمْنَعُ
الْمِلْكَ، كَأُمِّ الْوَلَدِ.
[فَصْلٌ أَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ]
(4372) فَصْلٌ: وَأَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ صَرِيحَةٌ،
وَثَلَاثَةٌ كِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحَةُ: وَقَفْت، وَحَبَسْت، وَسَبَّلْت.
مَتَى أَتَى بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، صَارَ وَقْفًا مِنْ
غَيْرِ انْضِمَامِ أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ ثَبَتَ
لَهَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ النَّاسِ، وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ
عُرْفُ الشَّرْعِ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: «إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا، وَسَبَّلْت
ثَمَرَتَهَا» . فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي الْوَقْفِ كَلَفْظِ
التَّطْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ: تَصَدَّقْت، وَحَرَّمْت، وَأَبَّدْت.
فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الصَّدَقَةِ وَالتَّحْرِيمِ
مُشْتَرَكَةٌ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الزَّكَاةِ
وَالْهِبَاتِ، وَالتَّحْرِيمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الظِّهَارِ وَالْأَيْمَانِ،
وَيَكُونُ تَحْرِيمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَالتَّأْبِيدُ
يَحْتَمِلُ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ، وَتَأْبِيدَ الْوَقْفِ، وَلَمْ
يَثْبُتْ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَا يَحْصُلُ
الْوَقْفُ بِمُجَرَّدِهَا، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فِيهِ. فَإِنْ انْضَمَّ
إلَيْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، حَصَلَ الْوَقْفُ بِهَا أَحَدُهَا
أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا لَفْظَةٌ أُخْرَى تُخَلِّصُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ
الْخَمْسَةِ، فَيَقُولُ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، أَوْ مُحَبَّسَةٌ، أَوْ
مُسَبَّلَةٌ، أَوْ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ مُؤَبَّدَةٌ
أَوْ يَقُولُ: هَذِهِ مُحَرَّمَةٌ مَوْقُوفَةٌ، أَوْ مُحَبَّسَةٌ، أَوْ
مُسَبَّلَةٌ، أَوْ مُؤَبَّدَةٌ.
(6/6)
الثَّانِي أَنْ يَصِفَهَا بِصِفَاتِ
الْوَقْفِ، فَيَقُولَ: صَدَقَةٌ لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا
تُورَثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ تُزِيلُ الِاشْتِرَاكَ. الثَّالِثُ،
أَنْ يَنْوِيَ الْوَقْفَ، فَيَكُونَ عَلَى مَا نَوَى، إلَّا أَنَّ
النِّيَّةَ تَجْعَلُهُ وَقْفًا فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ، لِعَدَمِ
الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِمَا نَوَاهُ،
لَزِمَ فِي الْحُكْمِ؛ لِظُهُورِهِ، وَإِنْ قَالَ: مَا أَرَدْت الْوَقْفَ.
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا نَوَى.
[فَصْلٌ الْوَقْفَ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ
عَلَيْهِ]
(4373) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَقْفَ يَحْصُلُ
بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَبْنِيَ
مَسْجِدًا، وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ مَقْبَرَةً،
وَيَأْذَنَ فِي الدَّفْنِ فِيهَا، أَوْ سِقَايَةً، وَيَأْذَنَ فِي
دُخُولِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَأَبِي
طَالِبٍ، فِي مَنْ أَدْخَلَ بَيْتًا فِي الْمَسْجِدِ وَأَذِنَ فِيهِ، لَمْ
يَرْجِعْ فِيهِ. وَكَذَلِكَ إذَا اتَّخَذَ الْمَقَابِرَ وَأَذِنَ
لِلنَّاسِ، وَالسِّقَايَةَ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَهَذَا قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا
يَصِيرُ وَقْفًا إلَّا بِالْقَوْلِ
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَخَذَهُ الْقَاضِي مِنْ قَوْلِ
أَحْمَدَ، إذْ سَأَلَهُ الْأَثْرَمُ عَنْ رَجُلٍ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى
أَرْضٍ، لِيَجْعَلَهَا مَقْبَرَةً، وَنَوَى بِقَلْبِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ
الْعَوْدُ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ جَعَلَهَا لِلَّهِ، فَلَا يَرْجِعْ. وَهَذَا
لَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى، فَإِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إنْ
كَانَ جَعَلَهَا لِلَّهِ أَيْ نَوَى بِتَحْوِيطِهَا جَعْلَهَا لِلَّهِ.
فَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا، إذْ
مَنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِمُجَرَّدِ التَّحْوِيطِ مَعَ النِّيَّةِ.
وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: جَعَلَهَا لِلَّهِ
أَيْ: اقْتَرَنَتْ بِفِعْلِهِ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ،
مِنْ إذْنِهِ لِلنَّاسِ فِي الدَّفْنِ فِيهَا، فَهِيَ الرِّوَايَةُ
الْأُولَى بِعَيْنِهَا، وَإِنْ أَرَادَ وَقْفًا بِلِسَانِهِ، فَيَدُلُّ
بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ
التَّحْوِيطِ وَالنِّيَّةِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى؛
لِأَنَّهُ فِي الْأُولَى انْضَمَّ إلَى فِعْلِهِ إذْنُهُ لِلنَّاسِ فِي
الدَّفْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ
لَمْ يُعْلَمْ مُرَادُهُ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَانْتَفَتْ هَذِهِ
الرِّوَايَةُ، وَصَارَ الْمَذْهَبُ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا تَحْبِيسُ أَصْلٍ عَلَى وَجْهِ
الْقُرْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ بِدُونِ اللَّفْظِ، كَالْوَقْفِ
عَلَى الْفُقَرَاءِ
وَلَنَا أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِذَلِكَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى
الْوَقْفِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ، كَالْقَوْلِ، وَجَرَى مَجْرَى مَنْ
قَدَّمَ إلَى ضَيْفِهِ طَعَامًا، كَانَ إذْنًا فِي أَكْلِهِ، وَمَنْ مَلَأَ
خَابِيَةَ مَاءٍ عَلَى الطَّرِيقِ، كَانَ تَسْبِيلًا لَهُ، وَمَنْ نَثَرَ
عَلَى النَّاسِ نِثَارًا، كَانَ إذْنًا فِي الْتِقَاطِهِ، وَأُبِيحَ
أَخْذُهُ. وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْحَمَّامِ، وَاسْتِعْمَالُ مَائِهِ مِنْ
غَيْرِ إذْنٍ مُبَاحٌ بِدَلَالَةِ الْحَالِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي
الْبَيْعِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالْمُعَاطَاةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، وَكَذَلِكَ
الْهِبَةُ وَالْهَدِيَّةُ، لِدَلَالَةِ الْحَالِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَلَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ
بِغَيْرِ لَفْظٍ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، أَوْ
دَلَّتْ الْحَالُ عَلَيْهِ، كَانَ كَمَسْأَلَتِنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(6/7)
[مَسْأَلَة مَنْ وَقَفَ شَيْئًا وَقْفًا
صَحِيحًا صَارَتْ مَنَافِعُهُ جَمِيعُهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ]
(4374) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ
مِنْ مَنَافِعِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا وَقْفًا
صَحِيحًا، فَقَدْ صَارَتْ مَنَافِعُهُ جَمِيعُهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ،
وَزَالَ عَنْ الْوَاقِفِ مِلْكُهُ، وَمِلْكُ مَنَافِعِهِ، فَلَمْ يَجُزْ
أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَ شَيْئًا
لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهِمْ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَ
مَسْجِدًا، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، أَوْ مَقْبَرَةً فَلَهُ الدَّفْنُ
فِيهَا، أَوْ بِئْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهَا،
أَوْ سِقَايَةً، أَوْ شَيْئًا يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ
كَأَحَدِهِمْ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافًا. وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَبَّلَ
بِئْرَ رُومَةَ، وَكَانَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
[مَسْأَلَة الْوَاقِفَ إذَا اشْتَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ
عَلَى نَفْسِهِ]
(4375) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ،
فَيَكُونَ لَهُ مِقْدَارُ مَا يَشْتَرِطُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَاقِفَ
إذَا اشْتَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، صَحَّ
الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَشْتَرِطُ فِي الْوَقْفِ أَنِّي أُنْفِقُ عَلَى
نَفْسِي وَأَهْلِي مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَاحْتَجَّ، قَالَ: سَمِعْت
ابْنَ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُجْرٌ
الْمَدَرِيِّ، أَنَّ «فِي صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا أَهْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ
غَيْرِ الْمُنْكَرِ»
وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ الْوَقْفُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ
أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهَا فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ
أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالزُّبَيْرُ،
وَابْنُ سُرَيْجٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ: لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ، فَلَمْ
يَجُزْ اشْتِرَاطُ نَفْعِهِ لِنَفْسِهِ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَكَمَا
لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا بِشَرْطِ أَنْ يَخْدِمَهُ، وَلِأَنَّ مَا يُنْفِقُهُ
عَلَى نَفْسِهِ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ
شَيْئًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ
وَلَنَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلِأَنَّ عُمَرَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا وَقَفَ قَالَ: وَلَا بَأْسَ عَلَى مَنْ
وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ
مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. وَكَانَ الْوَقْفُ فِي يَدِهِ إلَى أَنْ مَاتَ.
وَلِأَنَّهُ إذَا وَقَفَ وَقْفًا عَامًّا، كَالْمَسَاجِدِ،
وَالسِّقَايَاتِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْمَقَابِرِ، كَانَ لَهُ
الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ
يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، أَوْ مُدَّةً
مَعْلُومَةً مُعَيَّنَةً، وَسَوَاءٌ قَدَّرَ مَا يَأْكُلُ مِنْهُ، أَوْ
أَطْلَقَهُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُقَدِّرْ مَا
يَأْكُلُ الْوَالِي وَيُطْعِمُ إلَّا بِقَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ. وَفِي
حَدِيثِ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ أَهْلُهُ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ
الْمُنْكَرِ
إلَّا أَنَّهُ إذَا شَرَطَ أَنَّ يَنْتَفِعَ بِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً.
فَمَاتَ فِيهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ، كَمَا لَوْ
بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ أَنْ يَسْكُنَهَا سَنَةً، فَمَاتَ فِي
أَثْنَائِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(6/8)
[فَصْلٌ شَرَطَ الْوَاقِف أَنْ يَأْكُلَ
أَهْلُهُ مِنْ الْوَقْفِ]
(4376) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ أَهْلُهُ مِنْهُ، صَحَّ
الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - شَرَطَ ذَلِكَ فِي صَدَقَتِهِ. وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ
مَنْ وَلِيَهُ مِنْهُ، وَيُطْعِمَ صَدِيقًا جَازَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - شَرَطَ ذَلِكَ فِي صَدَقَتِهِ، الَّتِي اسْتَشَارَ فِيهَا
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَلِيَهَا
الْوَاقِفُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُطْعِمَ صَدِيقًا؛ لِأَنَّ عُمَرَ
وَلِي صَدَقَتَهُ
وَإِنْ وَلِيَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ كَانَتْ تَلِي صَدَقَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ
وَلِيَهَا بَعْدَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
[فَصْلٌ شَرَطَ الْوَاقِف أَنَّ يَبِيعَ الْوَقْف مَتَى شَاءَ أَوْ
يَهَبَهُ أَوْ يَرْجِعَ فِيهِ]
(4377) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ مَتَى شَاءَ، أَوْ يَهَبَهُ،
أَوْ يَرْجِعَ فِيهِ، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، وَلَا الْوَقْفُ. لَا
نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَفْسُدَ الشَّرْطُ، وَيَصِحَّ الْوَقْفُ، بِنَاءً عَلَى
الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي
الْوَقْفِ، فَسَدَ
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكُ
الْمَنَافِعِ، فَجَازَ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ، كَالْإِجَارَةِ. وَلَنَا،
أَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ
شَرَطَ أَنَّ لَهُ بَيْعَهُ مَتَى شَاءَ، وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ
لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَصِحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ
كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ
اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، كَالْهِبَةِ. وَيُفَارِقُ الْإِجَارَةَ،
فَإِنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ
الْخِيَارَ إذَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ، مَنَعَ ثُبُوتَ حُكْمِهِ قَبْلَ
انْقِضَاءِ الْخِيَارِ أَوْ التَّصَرُّفِ، وَهَاهُنَا لَوْ ثَبَتَ
الْخِيَارُ، لَثَبَتَ مَعَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْوَقْفِ، وَلَمْ يَمْنَعْ
التَّصَرُّفَ، فَافْتَرَقَا.
[فَصْل شَرَطَ الْوَاقِف فِي الْوَقْفِ أَنَّ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ
أَهْلِ الْوَقْفِ وَيُدْخِلَ مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ]
(4378) فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ
أَهْلِ الْوَقْفِ، وَيُدْخِلَ مَنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَمْ يَصِحَّ؛
لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ، فَأَفْسَدَهُ. كَمَا لَوْ
شَرَطَ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ بِهِ. وَإِنْ شَرَطَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُعْطِيَ
مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، وَيَحْرِمَ مَنْ يَشَاءُ، جَازَ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِخْرَاجٍ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْفِ،
وَإِنَّمَا عَلَّقَ اسْتِحْقَاقَ الْوَقْفِ بِصِفَةٍ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ
لَهُ حَقًّا فِي الْوَقْفِ، إذَا اتَّصَفَ بِإِرَادَةِ الْوَالِي
لِعَطِيَّتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَقًّا إذَا انْتَفَتْ تِلْكَ
الصِّفَةُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْمُشْتَغِلِينَ
بِالْعِلْمِ مِنْ وَلَدِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ مَنْ اشْتَغَلَ
بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُشْتَغِلُ
الِاشْتِغَالَ زَالَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَإِذَا عَادَ إلَيْهِ عَادَ
اسْتِحْقَاقُهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ جَعَلَ عُلْوَ دَارِهِ مَسْجِدًا دُونَ سُفْلِهَا أَوْ سُفْلَهَا
دُون عُلْوِهَا]
(4379) فَصْلٌ: إذَا جَعَلَ عُلْوَ دَارِهِ مَسْجِدًا دُونَ سُفْلِهَا،
أَوْ سُفْلَهَا دُونَ عُلْوِهَا، صَحَّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا
يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَتْبَعُهُ هَوَاؤُهُ.
(6/9)
وَلَنَا أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهَا،
كَذَلِكَ يَصِحُّ وَقْفُهُ، كَالدَّارِ جَمِيعِهَا، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ
يُزِيلُ الْمِلْكَ إلَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِقْرَارِ
وَالتَّصَرُّفِ، فَجَازَ فِيمَا ذَكَرْنَا كَالْبَيْعِ.
[فَصْلٌ جَعَلَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَلَمْ يَذْكُر الِاسْتِطْرَاقَ]
(4380) فَصْلٌ: وَإِنْ جَعَلَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا، وَلَمْ يَذْكُرْ
الِاسْتِطْرَاقَ، صَحَّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى
يَذْكُرَ الِاسْتِطْرَاقَ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدٌ يُبِيحُ الِانْتِفَاعَ،
مِنْ ضَرُورَتِهِ الِاسْتِطْرَاقُ، فَصَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ
الِاسْتِطْرَاقَ، كَمَا لَوْ أَجَرَ بَيْتًا مِنْ دَارِهِ.
[فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ عَلَى
وَلَدِهِ]
(4381) فَصْلٌ: إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ،
أَوْ عَلَى وَلَدِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ؛
فَإِنَّهُ قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا،
فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ الْوَقْفَ إلَّا مَا أَخْرَجَهُ لِلَّهِ، وَفِي
سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِذَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَا
أَعْرِفُهُ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ
بَاطِلًا. وَهَلْ يَبْطُلُ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ. وَهَذَا
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ
وَالْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَلِّكَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ
نَفْسِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ مَالَ نَفْسِهِ،
وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا حَاصِلُهُ مَنْعُ نَفْسِهِ
التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَةِ الْمِلْكِ، فَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ
أَفْرَدَهُ بِأَنْ يَقُولَ: لَا أَبِيعُ هَذَا وَلَا أَهَبُهُ وَلَا
أُوَرِّثُهُ
وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْوَقْفَ صَحِيحٌ، اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي
مُوسَى. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَهِيَ أَصَحُّ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ سُرَيْجٍ؛ لِمَا
ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
مَنَافِعِهِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقِفَ وَقْفًا عَامًّا
فَيَنْتَفِعَ بِهِ، كَذَلِكَ إذَا خَصَّ نَفْسَهُ بِانْتِفَاعِهِ،
وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ.
[مَسْأَلَة وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلَادِهِمْ وَعَقِبِهِمْ
وَنَسْلِهِمْ]
(4382) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْبَاقِي عَلَى مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ
وَأَوْلَادُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنِينَ
بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ فَضَّلَ
بَعْضَهُمْ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ: (4383)
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَأَوْلَادِهِمْ
وَعَقِبِهِمْ وَنَسْلِهِمْ، كَانَ الْوَقْفُ بَيْنَ الْقَوْمِ
وَأَوْلَادِهِمْ، وَمَنْ حَدَثَ مِنْ نَسْلِهِمْ، عَلَى سَبِيلِ
الِاشْتِرَاكِ، إنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي تَرْتِيبًا؛
لِأَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا
اشْتَرَكُوا، وَلَمْ يُقَدَّمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيُشَارِكُ
الْآخَرُ الْأَوَّلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْبَطْنِ الْعَاشِرِ، وَإِذَا
حَدَثَ حَمْلٌ لَمْ يُشَارِكْ حَتَّى يَنْفَصِلَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ
أَنْ لَا يَكُونَ حَمْلًا، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ قَبْلَ
انْفِصَالِهِ.
(6/10)
[فَصْلٌ قَالَ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي
ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ]
(4384) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى
الْمَسَاكِينِ. أَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ.
أَوْ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ،
وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، مِنْ الْأَوْلَادِ الْبَنِينَ، مَا لَمْ تَكُنْ
قَرِينَةٌ تَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي
عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَقَفَ ضَيْعَةً عَلَى وَلَدِهِ،
فَمَاتَ الْأَوْلَادُ، وَتَرَكُوا النُّسْوَةَ حَوَامِلَ؟ فَقَالَ: كُلُّ
مَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الذُّكُورِ، بَنَاتٍ كُنَّ أَوْ بَنِينَ،
فَالضَّيْعَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ
الْبَنَاتِ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ
وَقَالَ أَيْضًا فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ،
وَلَمْ يَقُلْ: إنْ مَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ دُفِعَ إلَى
وَلَدِ وَلَدِهِ، فَمَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ: دُفِعَ إلَى
وَلَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْن إسْمَاعِيلَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] .
فَدَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا. وَلَمَّا قَالَ:
{وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ
كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]
فَتَنَاوَلَ وَلَدَ الْبَنِينَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ
تَعَالَى الْوَلَدَ دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ، فَالْمُطْلَقُ مِنْ
كَلَامِ الْآدَمِيِّ إذَا خَلَا عَنْ قَرِينَةٍ، يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ
عَلَى الْمُطْلَقِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُفَسَّرُ بِمَا
يُفَسَّرُ بِهِ. وَلِأَنَّ وَلَدَ وَلَدِهِ وَلَدٌ لَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ وَيَا بَنِي إسْرَائِيلَ. وَقَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْمُوا بَنِي
إسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» . وَقَالَ: «نَحْنُ بَنُو
النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ» . وَالْقَبَائِلُ كُلّهَا تُنْسَبُ إلَى
جُدُودِهَا. وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ، وَهُمْ
قَبِيلَةٌ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ
يَكُونُوا قَبِيلَةً
وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَصْحَابُهُ: لَا يَدْخُل فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ
بِحَالٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ؛
لِأَنَّ الْوَلَدَ حَقِيقَةً وَعُرْفًا إنَّمَا هُوَ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ،
وَإِنَّمَا يُسَمَّى وَلَدُ الْوَلَدِ وَلَدًا مَجَازًا، وَلِهَذَا يَصِحُّ
نَفْيُهُ، فَيُقَالُ: مَا هَذَا وَلَدِي، إنَّمَا هُوَ وَلَدُ وَلَدِي.
وَإِنْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي لِصُلْبِي. فَهُوَ آكَدُ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى
وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِي، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. دَخَلَ فِيهِ
الْبَطْنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْبَطْنُ
الثَّالِثُ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِي، وَوَلَدِ
وَلَدِ وَلَدِي. دَخَلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ بُطُونٍ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ
وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ الْمُطْلَقِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ دَلَالَةٍ
تَصْرِفُ إلَى أَحَدِ الْمَحْمَلَيْنِ، فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَيْهِ
بِغَيْرِ خِلَافٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ. وَهُمْ
قَبِيلَةٌ لَيْسَ فِيهِمْ وَلَدٌ مِنْ صُلْبِهِ، فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى
أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ بِغَيْرِ خِلَافٍ.
(6/11)
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي،
أَوْ وَلَدِي. وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ صُلْبِهِ. أَوْ قَالَ:
وَيُفَضَّلُ وَلَدُ الْأَكْبَرِ أَوْ الْأَعْلَمِ عَلَى غَيْرِهِمْ. أَوْ
قَالَ: فَإِذَا خَلَتْ الْأَرْضُ مِنْ عَقِبِي عَادَ إلَى الْمَسَاكِينِ.
أَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي غَيْرِ وَلَدِ الْبَنَاتِ. أَوْ غَيْرِ وَلَدِ
فُلَانٍ. أَوْ قَالَ: يُفَضَّلُ الْبَطْنُ الْأَعْلَى عَلَى الثَّانِي
أَوْ قَالَ: الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى. وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَهَذَا
يُصْرَفُ لَفْظُهُ إلَى جَمِيعِ نَسْلِهِ وَعَاقِبَته. وَإِنْ اقْتَرَنَتْ
بِهِ قَرِينَةٌ تَقْضِي تَخْصِيصَ أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ بِالْوَقْفِ،
مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَلَى وَلَدِي لِصُلْبِي. أَوْ الَّذِينَ يَلُونَنِي.
وَنَحْوَ هَذَا، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْبَطْنِ الْأَوَّلِ دُونَ
غَيْرِهِمْ. وَإِذَا قُلْنَا بِالتَّعْمِيمِ فِيهِمْ، إمَّا لِلْقَرِينَةِ،
وَإِمَّا لِقَوْلِنَا بِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ وَلَمْ
يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي تَشْرِيكًا وَلَا تَرْتِيبًا، احْتَمَلَ
أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ عَلَى التَّشْرِيكِ، لِأَنَّهُمْ
دَخَلُوا فِي اللَّفْظِ دُخُولًا وَاحِدًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
بَيْنَهُمْ مُشْتَرَكًا، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ بِدَيْنٍ، وَيَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ، عَلَى حَسَبِ التَّرْتِيبِ فِي
الْمِيرَاثِ
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِقَوْلِهِ فِي مَنْ وَقَفَ عَلَى
وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يَقُلْ: إنْ مَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ
بْنِ إسْمَاعِيلَ دُفِعَ إلَى وَلَدِ وَلَدِهِ. فَمَاتَ وَلَدُ عَلِيِّ
بْنِ إسْمَاعِيلَ، وَتَرَكَ وَلَدًا، فَقَالَ: إنْ مَاتَ بَعْضُ وَلَدِ
عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ دُفِعَ إلَى وَلَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا
مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ. فَجَعَلَهُ لِوَلَدِ مَنْ مَاتَ
مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَذَلِكَ
أَنَّ وَلَدَ الْبَنِينَ لَمَّا دَخَلُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]
وَلَمْ يَسْتَحِقَّ وَلَدُ الْبَنِينَ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ آبَائِهِمْ،
وَاسْتَحَقُّوا عِنْدَ فَقْدِهِمْ، كَذَا هَاهُنَا. فَأَمَّا إنْ وَصَّى
لِوَلَدِ فُلَانٍ، وَهُمْ قَبِيلَةٌ، فَلَا تَرْتِيبَ فِيهِ، وَيَسْتَحِقُّ
الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
[فَصْلٌ رَتَّبَ فَقَالَ وَقَفْت هَذَا عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي مَا
تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى]
(4385) فَصْلٌ: وَإِنْ رَتَّبَ فَقَالَ: وَقَفْت هَذَا عَلَى وَلَدِي،
وَوَلَدِ وَلَدِي، مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا، الْأَعْلَى
فَالْأَعْلَى، أَوْ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، أَوْ الْأَوَّلَ
فَالْأَوَّلَ، أَوْ الْبَطْنَ الْأَوَّلَ ثُمَّ الْبَطْنَ الثَّانِيَ، أَوْ
عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي، أَوْ عَلَى
أَوْلَادِي، فَإِنْ انْقَرَضُوا فَعَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي
فَكُلُّ هَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا شَرَطَ، وَلَا
يَسْتَحِقُّ الْبَطْنُ الثَّانِي شَيْئًا حَتَّى يَنْقَرِضَ الْبَطْنُ
كُلُّهُ. وَلَوْ بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، كَانَ
الْجَمِيعُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ، فَيَتْبَعُ فِيهِ
مُقْتَضَى كَلَامِهِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِهِمْ مَا
تَعَاقَبُوا وَتَنَاسَلُوا، عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى
وَلَدٍ كَانَ مَا كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ جَارِيًا عَلَى وَلَدِهِ
كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى
التَّشْرِيكَ لَاقْتَضَى التَّسْوِيَةَ، وَلَوْ جَعَلْنَا لِوَلَدِ
الْوَلَدِ سَهْمًا مِثْلَ سَهْمِ أَبِيهِ، ثُمَّ دَفَعْنَا إلَيْهِ سَهْمَ
أَبِيهِ، صَارَ لَهُ سَهْمَانِ، وَلِغَيْرِهِ سَهْمٌ، وَهَذَا يُنَافِي
التَّسْوِيَةَ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَفْضِيلِ وَلَدِ الِابْنِ عَلَى
الِابْنِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ إرَادَةِ الْوَاقِفِ خِلَافُ هَذَا
(6/12)
فَإِذَا ثَبَتَ التَّرْتِيبُ فَإِنَّهُ
يَتَرَتَّبُ بَيْنَ كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ، فَإِذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ
انْتَقَلَ إلَى وَلَدِهِ سَهْمُهُ، سَوَاءٌ بَقِيَ مِنْ الْبَطْنِ
الْأَوَّلِ أَحَدٌ أَوْ لَمْ يَبْقَ.
(4386) فَصْلٌ: وَإِنْ رَتَّبَ بَعْضَهُمْ دُونِ بَعْضٍ، فَقَالَ: وَقَفْت
عَلَى وَلَدِي، وَوَلَدِ وَلَدِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ. أَوْ عَلَى
أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِهِمْ، مَا
تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا. أَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ
أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، مَا
تَنَاسَلُوا.
فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ، يَشْتَرِكُ مَنْ شَرَّكَ بَيْنَهُمْ بِالْوَاوِ
الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ وَالتَّشْرِيكِ وَتَرْتِيبِ مَنْ رَتَّبَهُ
بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ. فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَشْتَرِكُ
الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ، ثُمَّ إذَا انْقَرَضُوا صَارَ لِمَنْ
بَعْدَهُمْ. وَفِي الثَّانِيَةِ يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ، فَإِذَا
انْقَرَضُوا صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَفِي الثَّالِثَةِ
يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَطْنَانِ الْأَوَّلَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا
انْقَرَضُوا اشْتَرَكَ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُمْ.
[فَصْلٌ قَالَ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي
عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِي عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ
لِوَلَدِهِ]
(4387) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى
أَوْلَادِ أَوْلَادِي، عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَوْلَادِي عَنْ
وَلَدٍ، فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، أَوْ فَنَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ، أَوْ
لِوَلَدِ وَلَدِهِ، أَوْ لِوَلَدِ أَخِيهِ، أَوْ لِأَخَوَاتِهِ، أَوْ
لِوَلَدِ أَخَوَاتِهِ. فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطَهُ. وَإِنْ قَالَ: مَنْ
مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ، فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، وَمَنْ مَاتَ
مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، فَنَصِيبُهُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ. وَكَانَ
لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ ابْنَيْنِ، انْتَقَلَ
نَصِيبُهُ إلَيْهِمَا، ثُمَّ مَاتَ الثَّانِي عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ،
فَنَصِيبُهُ لِأَخِيهِ وَابْنَيْ أَخِيهِ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ
أَهْلُ الْوَقْفِ
ثُمَّ إنْ مَاتَ أَحَدُ ابْنَيْ الِابْنِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، انْتَقَلَ
نَصِيبُهُ إلَى أَخِيهِ وَعَمِّهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلُ الْوَقْفِ. وَلَوْ
مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، وَخَلَّفَ
أَخَوَيْهِ وَابْنَيْ أَخٍ لَهُ، فَنَصِيبُهُ لِأَخَوَيْهِ دُونَ ابْنَيْ
أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ مَا دَامَ أَبُوهُمَا
حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ أَبُوهُمَا، صَارَ نَصِيبُهُ لَهُمَا. فَإِذَا مَاتَ
الثَّالِثُ، كَانَ نَصِيبُهُ لِابْنَيْ أَخِيهِ بِالسَّوِيَّةِ، إنْ لَمْ
يُخَلِّفْ وَلَدًا، وَإِنْ خَلَّفَ ابْنًا وَاحِدًا، فَلَهُ نَصِيبُ
أَبِيهِ، وَهُوَ النِّصْفُ، وَلِابْنَيْ عَمِّهِ النِّصْفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ
الرُّبْعُ
وَإِنْ قَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، كَانَ مَا كَانَ
جَارِيًا عَلَيْهِ جَارِيًا عَلَى مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ، فَإِنْ كَانَ
الْوَقْفُ مُرَتَّبًا بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، كَانَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ
عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ لِأَهْلِ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ
مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْبُطُونِ كُلِّهَا، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ
بَيْنَ أَهْلِ الْوَقْفِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ
الْوَقْفِ سَوَاءٌ، فَكَانُوا فِي دَرَجَتِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ،
وَلِأَنَّنَا لَوْ صَرَفْنَا نَصِيبَهُ إلَى بَعْضِهِمْ، أَفْضَى إلَى
تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ، وَالتَّشْرِيكُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ. فَعَلَى
هَذَا يَكُونُ وُجُودُ هَذَا الشَّرْطِ كَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَتَ
عَنْهُ، كَانَ الْحُكْمُ
(6/13)
فِيهِ كَذَلِكَ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ نَصِيبُهُ إلَى سَائِرِ أَهْلِ الْبَطْنِ
الَّذِي هُوَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْقُرْبِ إلَى
الْجَدِّ الَّذِي يَجْمَعُهُمْ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إخْوَتُهُ وَبَنُو
عَمِّهِ وَبَنُو بَنِي عَمِّ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقُرْبِ،
وَلِأَنَّنَا لَوْ شَرَّكْنَا بَيْنَ أَهْلِ الْوَقْفِ كُلِّهِمْ فِي
نَصِيبِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَائِدَةٌ، وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ قَصَدَ شَيْئًا يُفِيدُ. فَعَلَى هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي
دَرَجَتِهِ أَحَدٌ، بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا
لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ،
عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى
وَلَدِهِ، وَمَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ
فِي دَرَجَتِهِ.
فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ بَيْنَ
أَهْلِ الْوَقْفِ كُلِّهِمْ، يَتَسَاوُونَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ
بَطْنٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ بُطُونٍ، وَسَوَاءٌ تَسَاوَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ
فِي الْوَقْفِ، أَوْ اخْتَلَفَتْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ بَطْنٍ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ
الْوَقْفِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْبَطْنُ الْأُوَلُ
ثَلَاثَةً، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ الثَّانِي عَنْ
ابْنَيْنِ، فَمَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ، وَتَرَكَ أَخَاهُ وَعَمَّهُ
وَابْنَ عَمِّهِ وَابْنًا لِعَمِّهِ الْحَيِّ، فَيَكُونَ نَصِيبُهُ بَيْنَ
أَخِيهِ وَابْنَيْ عَمِّهِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ بَطْنِهِ
مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، فَيَكُونَ نَصِيبُهُ عَلَى هَذَا لِأَخِيهِ وَابْنِ
عَمِّهِ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ.
فَإِنْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِ فِي النَّسَبِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ
الِاسْتِحْقَاقِ بِحَالٍ، كَرَجُلِ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَقَفَ عَلَى
ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَتَرَكَ
الرَّابِعَ، فَمَاتَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ، لَمْ يَكُنْ
لِلرَّابِعِ فِيهِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ،
فَأَشْبَهَ ابْنَ عَمِّهِمْ.
(4388) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، عَلَى أَنَّ
مَنْ مَاتَ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَأَوْلَادِهِمْ عَنْ وَلَدٍ
فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ، وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ فَنَصِيبُهُ لِأَهْلِ
الْوَقْفِ. فَهُوَ عَلَى مَا شَرَطَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ بَنُونَ
وَبَنَاتٌ، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ الذُّكُورِ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ،
وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْبَنَاتِ فَنَصِيبُهَا لِأَهْلِ الْوَقْفِ. فَهُوَ
عَلَى مَا قَالَ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، عَلَى أَنْ يُصْرَفَ
إلَى الْبَنَاتِ مِنْهُ أَلْفٌ، وَالْبَاقِي لِلْبَنِينَ
لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَنُونَ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الْبَنَاتُ
الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْبَنَاتِ مُسَمًّى، وَجَعَلَ لِلْبَنِينَ
الْفَاضِلَ عَنْهُ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَ، فَجَعَلَ
الْبَنَاتِ كَذَوِي الْفُرُوضِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ لَهُمْ فَرْضًا،
وَجَعَلَ الْبَنِينَ كَالْعَصَبَاتِ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا
مَا فَضَلَ عَنْ ذَوِي الْفُرُوضِ.
[فَصْلٌ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ فَقَالَ وَقَفْت عَلَى وَلَدَيَّ فُلَانٍ
وَفُلَانٍ وَعَلَى وَلَدِ وَلَدِي]
(4389) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ فَقَالَ: وَقَفْت
عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَعَلَى وَلَدِ وَلَدِي. كَانَ الْوَقْفُ
عَلَى الِابْنَيْنِ الْمُسَمَّيَيْنِ، وَعَلَى أَوْلَادِهِمَا، وَأَوْلَادِ
الثَّالِثِ، وَلَيْسَ لِلثَّالِثِ شَيْءٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَدْخُلُ
الثَّالِثُ
(6/14)
فِي الْوَقْفِ. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ
قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ: وَقَفْت هَذِهِ الضَّيْعَةَ، عَلَى وَلَدِي
فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَعَلَى وَلَدِ وَلَدِي. وَلَهُ وَلَدٌ غَيْرُ
هَؤُلَاءِ، قَالَ: يَشْتَرِكُونَ فِي الْوَقْفِ. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي
بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَدِي. يَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ، فَيَعُمُّ الْجَمِيعَ،
وَقَوْلَهُ: فُلَانٍ وَفُلَانٍ.
تَأْكِيدٌ لِبَعْضِهِمْ، فَلَا يُوجِبُ إخْرَاجَ بَقِيَّتِهِمْ،
كَالْعَطْفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . وَلَنَا
أَنَّهُ أَبْدَلَ بَعْضَ الْوَلَدِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُتَنَاوِلِ
لِلْجَمِيعِ، فَاخْتَصَّ بِالْبَعْضِ الْمُبْدَلِ، كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَى
وَلَدِي فُلَانٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ بَدَلَ الْبَعْضِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ
الْحُكْمِ بِهِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]
لَمَّا خَصَّ الْمُسْتَطِيعَ بِالذِّكْرِ، اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِهِ.
وَلَوْ قَالَ: ضَرَبْت زَيْدًا رَأْسَهُ. وَرَأَيْت زَيْدًا وَجْهَهُ.
اخْتَصَّ الضَّرْبُ بِالرَّأْسِ، وَالرُّؤْيَةُ بِالْوَجْهِ. وَمِنْهُ
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ}
[الأنفال: 37] . وَقَوْلُ الْقَائِلِ: طَرَحْت الثِّيَابَ بَعْضَهَا فَوْقَ
بَعْضٍ. فَإِنَّ الْفَوْقِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ مَعَ عُمُومِ
اللَّفْظِ الْأَوَّلِ
كَذَا هَاهُنَا. وَفَارَقَ الْعَطْفَ، فَإِنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى
الْعَامِ يَقْتَضِي تَأْكِيدَهُ، لَا تَخْصِيصَهُ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ: هُمْ
شُرَكَاءُ. يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، أَيْ
يَشْتَرِكُ أَوْلَادُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمَا وَأَوْلَادُ غَيْرِهِمْ؛
لِعُمُومِ لَفْظِ الْوَاقِفِ فِيهِمْ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِ
عَلَيْهِ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي
فُلَانٍ وَفُلَانٍ، ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. خَرَجَ فِيهِ مِنْ
الْخِلَافِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا.
وَيَحْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ فِي الْوَقْفِ وَلَدُ
وَلَدِهِ؛ لِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ
أَحْمَدَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَفْت عَلَى وَلَدِي. يَتَنَاوَلُ نَسْلَهُ
وَعَاقِبَتَهُ كُلَّهَا.
[فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ غَيْرِهِ وَفِيهِمْ
حَمْلٌ]
(4390) فَصْلٌ: وَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ غَيْرِهِ،
وَفِيهِمْ حَمْلٌ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا قَبْلَ انْفِصَالِهِ؛
لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ أَحْكَامُ الدُّنْيَا قَبْلَ انْفِصَالِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فِي مَنْ وَقَفَ
نَخْلًا عَلَى قَوْمٍ، وَمَا تَوَالَدُوا، ثُمَّ وُلِدَ مَوْلُودٌ: فَإِنْ
كَانَتْ النَّخْلُ قَدْ أُبِّرَتْ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ
لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُبِّرَتْ، فَهُوَ مَعَهُمْ.
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّأْبِيرِ تَتْبَعُ
الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ، وَهَذَا الْمَوْلُودُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ
الْأَصْلِ فَيَتْبَعُهُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَرَةِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى
ذَلِكَ النَّصِيبَ مِنْ الْأَصْلِ.
وَبَعْدَ التَّأْبِيرِ لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ، وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ
كَانَ لَهُ الْأَصْلُ، فَكَانَتْ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ
كُلُّهُ لَهُ، فَاسْتَحَقَّ ثَمَرَتَهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ هَذَا النَّصِيبَ
(6/15)
مِنْهَا، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلُودُ
مِنْهَا شَيْئًا كَالْمُشْتَرِي. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ ثَمَرِ
الشَّجَرِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْمَوْلُودَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْهُ
شَيْئًا، وَيَسْتَحِقُّ مِمَّا ظَهَرَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ. وَإِنْ كَانَ
الْوَقْفُ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ، فَهُوَ
لِلْأَوَّلِ
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُشْتَرِي، فَلِلْمَوْلُودِ
حِصَّتُهُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَوْلُودَ يَتَجَدَّدُ اسْتِحْقَاقُهُ
لِلْأَصْلِ، كَتَجَدُّدِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِيهِ.
(4391) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ، وَأَوْلَادِهِمْ،
وَعَاقِبَتِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ. دَخَلَ فِي الْوَقْفِ وَلَدُ الْبَنِينَ،
بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ فَأَمَّا وَلَدُ الْبَنَاتِ، فَقَالَ
الْخِرَقِيِّ: لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ
وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ: مَا كَانَ مِنْ وَلَدِ الْبَنَاتِ فَلَيْسَ لَهُمْ
فِيهِ شَيْءٌ
فَهَذَا النَّصُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعَدَّى إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ،
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ
وَلَمْ يَذْكُرْ وَلَدَ وَلَدِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا
تَقَدَّمَ. وَمِمَّنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ فِي
الْوَقْفِ الَّذِي عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَالِكٌ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَهَكَذَا إذَا قَالَ: عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ
وَنَسْلِهِمْ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: يَدْخُلُ فِيهِ
وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ؛
لِأَنَّ الْبَنَاتِ أَوْلَادُهُ، فَأَوْلَادُهُنَّ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ
حَقِيقَةً، فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْوَقْفِ، لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ
لَهُمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلَى قَوْلِهِ: {وَعِيسَى} [الأنعام: 85] .
وَهُوَ مِنْ وَلَدِ بِنْتِهِ، فَجَعَلَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ عِيسَى وَإِبْرَاهِيم وَمُوسَى
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ، ثُمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ
حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ}
[مريم: 58]
وَعِيسَى مَعَهُمْ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «لِلْحَسَنِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» . وَهُوَ وَلَدُ
بِنْتِهِ. وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ}
[النساء: 23] . دَخَلَ فِي التَّحْرِيمِ حَلَائِلُ أَبْنَاءِ الْبَنَاتِ،
وَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَنَاتِ، دَخَلَ فِي التَّحْرِيمِ
بَنَاتُهُنَّ. وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ اللَّهِ تَعَالَى
قَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . فَدَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ
وَلَدِ الْبَنَاتِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ الْوَلَدُ فِي
الْإِرْثِ وَالْحَجْبِ، دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ
الْبَنَاتِ
وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ رَجُلٍ، وَقَدْ صَارُوا قَبِيلَةً،
دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ الْبَنَاتِ بِالِاتِّفَاقِ،
وَكَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا قَبِيلَةً. وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ
عَلَى وَلَدِ الْعَبَّاسِ فِي عَصْرِنَا، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَلَدُ
بَنَاتِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِهِ، وَلِأَنَّ
وَلَدَ الْبَنَاتِ مَنْسُوبُونَ إلَى آبَائِهِمْ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ،
قَالَ الشَّاعِرُ:
(6/16)
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا
... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ أَوْلَادُ أَوْلَادٍ حَقِيقَةً. قُلْنَا: إلَّا
أَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَى الْوَاقِفِ عُرْفًا، وَلِذَلِكَ لَوْ
قَالَ: أَوْلَادُ أَوْلَادِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيَّ. لَمْ يَدْخُلْ
هَؤُلَاءِ فِي الْوَقْفِ
وَلِأَنَّ وَلَدَ الْهَاشِمِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الْهَاشِمِيِّ لَيْسَ
بِهَاشِمِيٍّ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهَا. وَأَمَّا عِيسَى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ، فَنُسِبَ إلَى
أُمِّهِ لِعَدَمِ أَبِيهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ،
وَغَيْرُهُ إنَّمَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ، كَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ ابْنِي
هَذَا سَيِّدٌ» . تَجَوُّزٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:
40] . وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى
تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَأَمَّا إنْ وُجِدَ مَا يَصْرِفُ
اللَّفْظَ إلَى أَحَدِهِمَا، انْصَرَفَ إلَيْهِ
وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، عَلَى أَنَّ
لِوَلَدِ الْبَنَاتِ سَهْمًا، وَلِوَلَدِ الْبَنِينَ سَهْمَيْنِ. أَوْ:
فَإِذَا خَلَتْ الْأَرْضُ مِمَّنْ يَرْجِعُ نَسَبُهُ إلَيَّ مِنْ قِبَلِ
أَبٍ أَوْ أُمٍّ، كَانَ لِلْمَسَاكِينِ. أَوْ كَانَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ
مِنْ أَوْلَادِهِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بَنَاتٍ، وَأَشْبَاهُ
هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ وَلَدِ الْبَنَاتِ بِالْوَقْفِ،
دَخَلُوا فِي الْوَقْفِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ
أَوْلَادِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَيَّ، أَوْ غَيْرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، أَوْ
نَحْوِ ذَلِكَ. لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَإِنْ قَالَ:
عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ، وَأَوْلَادِهِمْ، دَخَلَ
فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ
مِنْهُمْ عَنْ وَلَدِهِ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ.
وَإِنْ قَالَ الْهَاشِمِيُّ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، وَأَوْلَادِ
أَوْلَادِي الْهَاشِمِيِّينَ. لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَقْفِ مِنْ أَوْلَادِ
بَنَاتِهِ مَنْ كَانَ غَيْرَ هَاشِمِيٍّ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ هَاشِمِيًّا
مِنْ غَيْرِ أَوْلَادِ بَنِيهِ، فَهَلْ يَدْخُلُونَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛
أُولَاهُمَا، أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ اجْتَمَعَ فِيهِمْ
الصِّفَتَانِ جَمِيعًا، كَوْنُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ،
وَكَوْنُهُمْ هَاشِمِيِّينَ. وَالثَّانِي، لَا يَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ
لَمْ يَدْخُلُوا فِي مُطْلَقِ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ
لَمْ يَقُلْ الْهَاشِمِيِّينَ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي،
وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، مِمَّا يُنْسَبُ إلَى قَبِيلَتِي. فَكَذَلِكَ.
(4392) الْفَصْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ رَجُلٍ،
وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، اسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى؛
لِأَنَّهُ تَشْرِيكٌ بَيْنَهُمْ، وَإِطْلَاقُ التَّشْرِيكِ يَقْتَضِي
التَّسْوِيَةَ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ بِشَيْءٍ، وَكَوَلَدِ الْأُمِّ
فِي الْمِيرَاثِ حِينَ شَرَّكَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ
(6/17)
فِيهِ، فَقَالَ: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي
الثُّلُثِ} [النساء: 12] . تَسَاوَوْا فِيهِ، وَلَمْ يُفَضِّلْ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مِيرَاثِ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ
وَوَلَدِ الْأَبِ، فَإِنَّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كَانُوا
إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}
[النساء: 176] . وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
(4393) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ، فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ، فَلَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي،
وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، عَلَى أَنَّ لِلذَّكَرِ سَهْمَيْنِ، وَلِلْأُنْثَى
سَهْمًا، أَوْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أَوْ عَلَى حَسَبِ
مِيرَاثِهِمْ، أَوْ عَلَى حَسَبِ فَرَائِضِهِمْ، أَوْ بِالْعَكْسِ مِنْ
هَذَا، أَوْ عَلَى أَنَّ لِلْكَبِيرِ ضِعْفَ مَا لِلصَّغِيرِ، أَوْ
لِلْعَالِمِ ضِعْفَ مَا لِلْجَاهِلِ، أَوْ لِلْعَائِلِ ضِعْفَ مَا
لِلْغَنِيِّ، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ، أَوْ عَيَّنَ بِالتَّفْضِيلِ وَاحِدًا
مُعَيَّنًا، أَوْ وَلَدَهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا، فَهُوَ عَلَى مَا
قَالَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَقْفِ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ
تَفْضِيلُهُ وَتَرْتِيبُهُ
وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ إخْرَاجَ بَعْضِهِمْ بِصِفَةٍ وَرَدَّهُ بِصِفَةٍ
مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ فَلَهُ، وَمَنْ فَارَقَ
فَلَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ، أَوْ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ
فَلَهُ، وَمَنْ نَسِيَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ
فَلَهُ، وَمَنْ تَرَكَ فَلَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ
كَذَا فَلَهُ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ. فَكُلُّ هَذَا
صَحِيحٌ عَلَى مَا شَرَطَ. وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، أَنَّ
الزُّبَيْرَ جَعَلَ دُورَهُ صَدَقَةً عَلَى بَنِيهِ لَا تُبَاعُ وَلَا
تُوهَبُ، وَأَنَّ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ
مُضِرَّةٍ وَلَا مُضَرٍّ بِهَا، فَإِنْ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَا حَقَّ
لَهَا فِي الْوَقْفِ.
وَلَيْسَ هَذَا تَعْلِيقًا لِلْوَقْفِ بِصِفَةٍ، بَلْ الْوَقْفُ مُطْلَقٌ
وَالِاسْتِحْقَاقُ لَهُ بِصِفَةٍ. وَكُلُّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
[فَصْلٌ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَسِّمَ الْوَقْفَ عَلَى أَوْلَادِهِ عَلَى
حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ]
(4394) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَسِّمَ الْوَقْفَ عَلَى
أَوْلَادِهِ، عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ
بَيْنَهُمْ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ الْقَاضِي:
الْمُسْتَحَبُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ
الْقَصْدَ الْقُرْبَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي
الْقَرَابَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ إيصَالٌ لِلْمَالِ إلَيْهِمْ، فَيَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ، كَالْعَطِيَّةِ،
وَلِأَنَّ الذَّكَرَ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأُنْثَى؛
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَادَةِ يَتَزَوَّجُ، وَيَكُونُ
لَهُ الْوَلَدُ، فَالذَّكَرُ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ
وَأَوْلَادِهِ، وَالْمَرْأَةُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَلَا
يَلْزَمُهَا نَفَقَةُ أَوْلَادِهَا، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ الذَّكَرَ
(6/18)
عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى
وَفْقِ هَذَا الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بِهِ
وَيَتَعَدَّى إلَى الْوَقْفِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعَطَايَا
وَالصِّلَاتِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ مُلْغًى
بِالْمِيرَاثِ وَالْعَطِيَّةِ. فَإِنْ خَالَفَ فَسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ، أَوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْبَنِينَ
أَوْ بَعْضَ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ
دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ:
إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْأَثَرَةِ، فَأَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى
أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ. يَعْنِي فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الزُّبَيْرَ خَصَّ الْمَرْدُودَةَ مِنْ بَنَاتِهِ
دُونَ الْمُسْتَغْنِيَةِ مِنْهُنَّ بِصَدَقَتِهِ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ
أَحْمَدَ، لَوْ خَصَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَوْلَادِهِ
بِوَقْفِهِ، تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ ذَا الدِّينِ
دُونَ الْفُسَّاقِ، أَوْ الْمَرِيضَ أَوْ مَنْ لَهُ فَضْلٌ مِنْ أَجْلِ
فَضِيلَتِهِ، فَلَا بَأْسَ
وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - نَحَلَ عَائِشَةَ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا دُونَ
سَائِرِ وَلَدِهِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ، أَنَّهُ كَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ، إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ، أَنَّ ثَمْغًا وَصِرْمَةَ بْنَ
الْأَكْوَعِ، وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ، وَالْمِائَةَ سَهْمٍ الَّتِي
بِخَيْبَرَ، وَرَقِيقَهُ الَّذِي فِيهِ، الَّذِي أَطْعَمَهُ مُحَمَّدٌ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَادِي، تَلِيه حَفْصَةُ مَا
عَاشَتْ، ثُمَّ يَلِيهِ ذُو الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا، أَنْ لَا يُبَاعَ
وَلَا يُشْتَرَى، يُنْفِقُهُ حَيْثُ رَأَى مِنْ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
وَذَوِي الْقُرْبَى، لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إنْ أَكَلَ أَوْ آكَلَ
أَوْ اشْتَرَى رَقِيقًا مِنْهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِ حَفْصَةَ دُونَ إخْوَتِهَا وَأَخَوَاتهَا.
[مَسْأَلَة وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَنَسْلِهِمْ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ]
(4395) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، رَجَعَ
إلَى الْمَسَاكِينِ) يَعْنِي إذَا وَقَفَ عَلَى قَوْمٍ وَنَسْلِهِمْ، ثُمَّ
عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَانْقَرَضَ الْقَوْمُ وَنَسْلُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ
مِنْهُمْ أَحَدٌ، رَجَعَ إلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَمْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ
مَا دَامَ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ أَوْ مِنْ نَسْلِهِمْ بَاقِيًا؛ لِأَنَّهُ
رَتَّبَهُ لِلْمَسَاكِينِ بَعْدَهُمْ. وَالْمَسَاكِينُ الَّذِينَ
يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَالْفُقَرَاءُ يَدْخُلُونَ
فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَسَاكِينُ؛
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا.
وَالْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّيَانِ بِهِ شَامِلٌ لَهُمَا، وَهُوَ
الْحَاجَةُ وَالْفَاقَةُ، وَلِهَذَا لَمَّا سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
الْمَسَاكِينَ، فِي مَصْرِفِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ
الظِّهَارِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى، تَنَاوَلَهُمَا جَمِيعًا، وَجَازَ
الصَّرْفُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمَّا ذَكَرَ الْفُقَرَاءَ فِي
قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
[البقرة: 273] . وَفِي قَوْلِهِ: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ} [البقرة: 271] . تَنَاوَلَ الْقِسْمَيْنِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ
(6/19)
فِيهِ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ تَنَاوَلَ
الْقِسْمَيْنِ، إلَّا فِي الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ اللَّهِ تَعَالَى جَمَعَ
بَيْنَ الِاسْمَيْنِ، وَمَيَّزَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ، فَاحْتَجْنَا
إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، وَفِي غَيْرِ الصَّدَقَاتِ يُسَمَّى
الْكُلُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ
الِاسْمَيْنِ بِالْوَقْفِ أَيْضًا، فَقَالَ: وَقَفْت هَذَا عَلَى
الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، نِصْفَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا
وَجَبَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا، فَنَزَّلْنَاهُمَا
مَنْزِلَتَهُمَا مِنْ سِهَامِ الصَّدَقَاتِ. وَإِنْ قَالَ: عَلَى
الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ الِاقْتِصَارِ
عَلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، وَإِبَاحَةُ الدَّفْعِ إلَى وَاحِدٍ، كَمَا
قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَجُوزَ الدَّفْعُ إلَى
أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ فِي
الزَّكَاةِ أَيْضًا. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْمِيمُهُمْ
بِالْعَطِيَّةِ، كَمَا لَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُمْ بِالزَّكَاةِ، وَلَا فِي
أَنَّهُ يَجُوزُ التَّفْضِيلُ بَيْنَ مِنْ يُعْطِيه مِنْهُمْ، سَوَاءٌ
كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا، أَوْ كَانَ الْوَقْفُ ابْتِدَاءً، أَوْ
انْتَقَلَ إلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ
وَضَابِطُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ يُمْكِنُ
حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، وَجَبَ
اسْتِيعَابُهُمْ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، إذَا لَمْ يُفَضِّلْ
الْوَاقِفُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ لَا
يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ، كَالْمَسَاكِينِ، أَوْ قَبِيلَةٍ كَبِيرَةٍ كَبَنِي
تَمِيمٍ وَبَنِي هَاشِمٍ، جَازَ الدَّفْعُ إلَى وَاحِدٍ وَإِلَى أَكْثَرَ
مِنْهُ، وَجَازَ التَّفْضِيلُ وَالتَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّ وَقْفَهُ
عَلَيْهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِتَعَذُّرِ اسْتِيعَابِهِمْ، دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ، وَمَنْ جَازَ حِرْمَانُهُ، جَازَ تَفْضِيلُ
غَيْرِهِ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ فِي ابْتِدَائِهِ عَلَى مَنْ
يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ، فَصَارَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ،
كَرَجُلٍ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، فَصَارُوا قَبِيلَةً
كَبِيرَةً تَخْرُجُ عَنْ الْحَصْرِ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَ عَلِيٌّ عَلَى
وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْمِيمُ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ،
وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ.
لِأَنَّ التَّعْمِيمَ كَانَ وَاجِبًا، وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ، فَإِذَا
تَعَذَّرَ، وَجَبَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ، كَالْوَاجِبِ الَّذِي يَعْجِزُ
عَنْ بَعْضِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ أَرَادَ التَّعْمِيمَ
وَالتَّسْوِيَةَ، لِإِمْكَانِهِ وَصَلَاحِ لَفْظِهِ لِذَلِكَ، فَيَجِبُ
الْعَمَلُ بِمَا أَمْكَنَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا حَالَ
الْوَقْفِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِمْ.
[فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّه أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ
الرِّقَابِ أَوْ الْغَارِمِينَ]
(4396) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ ابْنِ
السَّبِيلِ، أَوْ الرِّقَابِ أَوْ الْغَارِمِينَ، فَهُمْ الَّذِينَ
يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، لَا يَعْدُوهُمْ إلَى
غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ
عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، فَيُنْظَرُ؛ مَنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ
السَّهْمَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، فَالْوَقْفُ مَصْرُوفٌ إلَيْهِ، وَشَرْحُهُمْ
يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ وَقَفَ عَلَى
الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الصَّدَقَاتِ، صُرِفَ
إلَيْهِمْ، وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْوَقْفِ مِثْلَ
الْقَدْرِ الَّذِي يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ، لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ،
فَيُعْطَى الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ مَا يَتِمُّ بِهِ غَنَاؤُهُ،
وَالْغَارِمُ
(6/20)
قَدْرَ مَا يَقْضِي غُرْمَهُ،
وَالْمُكَاتَبُ قَدْرَ مَا يُؤَدِّي بِهِ كِتَابَتَهُ
وَابْنُ السَّبِيلِ مَا يُبَلِّغُهُ، وَالْغَازِي مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
لِغَزْوِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ مَا يَحْصُلُ
بِهِ الْغِنَى، فَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، فِي
الرَّجُلِ يُعْطَى مِنْ الْوَقْفِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَالَ: إنْ كَانَ
الْوَاقِفُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمَسَاكِينَ، فَهُوَ مِثْلُ الزَّكَاةِ.
وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا أَعْطَى مَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ. فَقَدْ نَصَّ
أَحْمَدُ عَلَى إلْحَاقِهِ بِالزَّكَاةِ، فَيَكُونُ الْخِلَافُ فِيهِ
كَالْخِلَافِ فِي الزَّكَاةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ وَقَفَ عَلَى
جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، أَوْ عَلَى صِنْفَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ، فَهَلْ
يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَوْ يَجِبُ إعْطَاءُ بَعْضِ
كُلِّ صِنْفٍ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى
الزَّكَاةِ.
[فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الثَّوَابِ وَسَبِيلِ
الْخَيْرِ]
(4397) فَصْلٌ: وَإِذَا وَقَفَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ، وَسَبِيلِ
الثَّوَابِ، وَسَبِيلِ الْخَيْرِ، فَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ الْغَزْوُ
وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُصْرَفُ ثُلُثُ الْوَقْفِ إلَى مِنْ
يُصْرَفُ إلَيْهِمْ السَّهْمُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَهُمْ الْغُزَاةُ
الَّذِينَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الدِّيوَانِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ،
وَسَائِرُ الْوَقْفِ يُصْرَفُ إلَى كُلِّ مَا فِيهِ أَجْرٌ وَمَثُوبَةٌ
وَخَيْرٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا:
يُجَزَّأُ الْوَقْفُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجُزْءٌ يُصْرَفُ إلَى
الْغُزَاةِ، وَجُزْءٌ يُصْرَفُ إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ مِنْ
الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْجِهَاتِ ثَوَابًا، فَإِنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَدَقَتُك عَلَى
ذِي الْقَرَابَةِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» .
وَالثَّالِثُ يُصْرَفُ إلَى مَنْ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ لِحَاجَتِهِ، وَهُمْ
خَمْسَةُ أَصْنَافٍ؛ الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، وَالرِّقَابُ
وَالْغَارِمُونَ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَابْنُ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ
أَهْلُ حَاجَةٍ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ مَنْ نَصَّ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ
سَاوَاهُ فِي الْحَاجَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَلَنَا أَنَّ لَفْظَهُ عَامٌ، فَلَا يَجِبُ التَّخْصِيصُ بِالْبَعْضِ
لِكَوْنِهِ أَوْلَى، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فِي الزَّكَاةِ، لَا
يَجِبُ تَخْصِيصُ أَقَارِبِهِ مِنْهُمْ بِهَا، وَإِنْ كَانُوا أَوْلَى،
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ. وَإِنْ أَوْصَى فِي
أَبْوَابِ الْبِرِّ، صُرِفَ فِي كُلِّ مَا فِيهِ بِرٌّ وَقُرْبَةٌ. وَقَالَ
أَصْحَابُنَا: يُصْرَفُ فِي أَرْبَعِ جِهَاتٍ؛ أَقَارِبِهِ غَيْرِ
الْوَارِثِينَ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَجِّ. قَالَ أَبُو
الْخَطَّابِ: وَعَنْهُ فِدَاءُ الْأَسْرَى مَكَانَ الْحَجِّ. وَوَجْهُ
الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. (4398) مَسْأَلَةٌ
قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَمْ يَبْقَ
مِمَّنْ وَقَفَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، رَجَعَ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ. فِي
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ عَصَبَةٍ
الْوَاقِفِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِي
صِحَّتِهِ، مَا كَانَ مَعْلُومَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، غَيْرَ
مُنْقَطِعٍ، مِثْلَ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ طَائِفَةٍ لَا
يَجُوزُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ انْقِرَاضُهُمْ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
مَعْلُومِ الِانْتِهَاءِ،
(6/21)
مِثْلَ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَوْمٍ يَجُوزُ
انْقِرَاضُهُمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ
لِلْمَسَاكِينِ، وَلَا لِجِهَةٍ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ، فَإِنَّ الْوَقْفَ
يَصِحُّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَصِحُّ. وَهُوَ
الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ مُقْتَضَاهُ
التَّأْبِيدُ.
فَإِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا صَارَ وَقْفًا عَلَى مَجْهُولٍ، فَلَمْ يَصِحَّ،
كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَجْهُولٍ فِي الِابْتِدَاءِ. وَلَنَا أَنَّهُ
تَصَرُّفٌ مَعْلُومُ الْمَصْرِفِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ
بِمَصْرِفِهِ الْمُتَّصِلِ، وَلِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إذَا كَانَ لَهُ
عُرْفٌ، حُمِلَ عَلَيْهِ، كَنَقْدِ الْبَلَدِ وَعُرْفِ الْمَصْرِفِ،
وَهَاهُنَا هُمْ أَوْلَى الْجِهَاتِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُمْ. إذَا
ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ عِنْدَ انْقِرَاضِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِمْ إلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ
أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَسَاكِينِ
وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ؛ لِأَنَّهُ مَصْرِفُ
الصَّدَقَاتِ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا،
فَإِذَا وُجِدَتْ صَدَقَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةِ الْمَصْرِفِ، انْصَرَفَتْ
إلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَدَقَةً مُطْلَقَةً. وَعَنْ أَحْمَدَ
رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ، أَنَّهُ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛
لِأَنَّهُ مَالٌ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَأَشْبَهَ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ
لَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ وَإِلَى
وَرَثَتِهِ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، يُنْفَقُ مِنْهَا
عَلَى فُلَانٍ وَعَلَى فُلَانٍ.
فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُسَمَّى كَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
لِأَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً عَلَى مُسَمًّى، فَلَا تَكُونُ عَلَى
غَيْرِهِ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا قَالَ: يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلَانٍ
وَفُلَانٍ. فَإِنَّهُ جَعَلَ الصَّدَقَةَ مُطْلَقَةً. وَلَنَا أَنَّهُ
أَزَالَ مِلْكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ،
كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صَرْفِهِ إلَى أَقَارِبِ
الْوَاقِفِ، أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِصَدَقَتِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَدَقَتُك عَلَى
غَيْرِ رَحِمِك صَدَقَةٌ، وَصَدَقَتُك عَلَى رَحِمِك صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّك أَنْ تَدَعَ
وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ
النَّاسَ» . وَلِأَنَّ فِيهِ إغْنَاءَهُمْ وَصِلَةَ أَرْحَامِهِمْ،
لِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِصَدَقَاتِهِ النَّوَافِلِ
وَالْمَفْرُوضَاتِ، كَذَلِكَ صَدَقَتُهُ الْمَنْقُولَةُ. إذَا ثَبَتَ
هَذَا، فَإِنَّهُ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَظَاهِرِ كَلَامِ
أَحْمَدَ، يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّ
الْوَقْفَ لَا يَخْتَصُّ الْفُقَرَاءَ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ،
تَنَاوَلَ الْفُقَرَاءَ وَالْأَغْنِيَاءَ، كَذَا هَاهُنَا. وَفِيهِ وَجْهٌ
آخَرِ، أَنَّهُ يَخْتَصُّ الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ
الصَّدَقَاتِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِأَنَّا خَصَصْنَاهُمْ بِالْوَقْفِ
لِكَوْنِهِمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ، وَأَوْلَى النَّاسِ
بِالصَّدَقَةِ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوَقْفَ مِنْ
أَقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ، فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، يَرْجِعُ إلَى
الْوَرَثَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ صَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى
إلَيْهِمْ مَالَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ
يُصْرَفُ إلَيْهِمْ مِنْ صَدَقَتِهِ مَا لَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَصْرِفًا،
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّك
(6/22)
أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ،
خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . فَعَلَى
هَذَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ، وَيَكُونُ وَقْفًا
عَلَيْهِمْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي، لِأَنَّ
الْوَقْفَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَإِنَّمَا صَرَفْنَاهُ إلَى هَؤُلَاءِ
لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِصَدَقَتِهِ، فَصُرِفَ إلَيْهِمْ مَعَ
بَقَائِهِ صَدَقَةً.
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ
الْإِرْثِ، وَيَبْطُلَ الْوَقْفُ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَقَوْلِ
أَبِي يُوسُفَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَة يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ
عَصَبَةِ الْوَاقِفِ، دُونَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ مِنْ أَصْحَابِ
الْفُرُوضِ، وَدُونَ الْبَعِيدِ مِنْ الْعَصَبَاتِ، فَيُقَدَّمُ
الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِوَلَاءِ
الْمَوَالِي، لِأَنَّهُمْ خُصُّوا بِالْعَقْلِ عَنْهُ، وَبِمِيرَاثِ
مَوَالِيه، فَخُصُّوا بِهَذَا أَيْضًا. وَهَذَا لَا يَقْوَى عِنْدِي،
فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِهَذَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ لَا
يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَا
نَعْلَمُ فِيهِ نَصًّا، وَلَا إجْمَاعًا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى
مِيرَاثِ وَلَاءِ الْمَوَالِي؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ لَا تَتَحَقَّقُ هَاهُنَا
وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِيهِ صَرْفُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُمْ
مَصَارِفُ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي أَقَارِبِ
الْوَاقِفِ مَسَاكِينُ، كَانُوا أُولَى بِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ
الْوُجُوبِ، كَمَا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ وَصَلَاتِهِ مَعَ جَوَازِ
الصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّنَا إذَا صَرَفْنَاهُ إلَى
أَقَارِبِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ، فَهِيَ أَيْضًا جِهَةٌ
مُنْقَطِعَةٌ، فَلَا يَتَحَقَّقُ اتِّصَالُهُ إلَّا بِصَرْفِهِ إلَى
الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَكُونُ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ
النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ، الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ.
(4399) فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ أَقَارِبُ، أَوْ كَانَ لَهُ
أَقَارِبُ فَانْقَرَضُوا، صُرِفَ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَقْفًا عَلَيْهِمْ
لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ الثَّوَابُ الْجَارِي عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ
الدَّوَامِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا الْأَقَارِبَ عَلَى الْمَسَاكِينِ،
لِكَوْنِهِمْ أُولَى، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا، فَالْمَسَاكِينُ أَهْلٌ
لِذَلِكَ، فَصُرِفَ إلَيْهِمْ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ
يُصْرَفُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ مِلْكًا لَهُمْ. فَإِنَّهُ يُصْرَفُ
عِنْدَ عَدَمِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ
بِانْقِطَاعِهِ، وَصَارَ مِيرَاثًا لَا وَارِثَ لَهُ، فَكَانَ بَيْتُ
الْمَالِ بِهِ أَوْلَى.
[فَصْلٌ قَالَ وَقَفْت هَذَا وَسَكَتَ أَوْ قَالَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ
وَلَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَهُ]
(4400) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: وَقَفْت هَذَا. وَسَكَتَ، أَوْ قَالَ:
صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَهُ. فَلَا نَصَّ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَصِحُّ الْوَقْفُ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ
قَوْلِ أَحْمَدَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ: يَنْعَقِدُ
مُوجِبًا لِكَفَّارَةِ يَمِينٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ
فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى وَجْهِ
الْقُرْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مُطْلَقُهُ، كَالْأُضْحِيَّةِ
وَالْوَصِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ: وَصَّيْت بِثُلُثِ مَالِي. صَحَّ، وَإِذَا
صَحَّ صُرِفَ إلَى مَصَارِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ بَعْدَ انْقِرَاضِ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
(6/23)
[فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَجُوزُ
الْوَقْفُ عَلَيْهِ ثُمَّ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ]
(4401) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ،
ثُمَّ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَ
عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى الْبِيَعِ. صَحَّ الْوَقْفُ أَيْضًا،
وَيُصْرَفُ بَعْدَ انْقِرَاضِ مَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ إلَى مَنْ
يُصْرَفُ إلَيْهِ الْوَقْفُ الْمُنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ لِمَنْ لَا
يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَعَدَمَهُ وَاحِدٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا
يَصِحَّ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا
يَجُوزُ، فَأَشْبَهَ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ.
[فَصْلٌ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ]
فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ، مِثْلَ أَنْ
يَقِفَهُ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، كَنَفْسِهِ، أَوْ
أُمِّ وَلَدِهِ، أَوْ عَبْدِهِ، أَوْ كَنِيسَةٍ، أَوْ مَجْهُولٍ، فَإِنْ
لَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَالًا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، فَالْوَقْفُ
بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ مَالَهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِأَحَدِ شَرْطَيْ الْوَقْفِ فَبَطَلَ، كَمَا
لَوْ وَقَفَ مَا لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ. وَإِنْ جَعَلَ لَهُ مَالًا يَجُوزُ
الْوَقْفُ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى عَبْدِهِ، ثُمَّ عَلَى
الْمَسَاكِينِ، فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ
الصَّفْقَةِ
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا:
يَصِحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، وَكَانَ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ
عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ، كَالْمَيِّتِ
وَالْمَجْهُولِ وَالْكَنَائِسِ، صُرِفَ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ يَجُوزُ
الْوَقْفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّنَا لَمَّا صَحَّحْنَا الْوَقْفَ مَعَ ذِكْرِ
مَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَلْغَيْنَاهُ؛ فَإِنَّهُ
يَتَعَذَّرُ التَّصْحِيحُ مَعَ اعْتِبَارِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَا
يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ، كَأُمِّ
وَلَدِهِ، وَعَبْدٍ مُعَيَّنٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ
يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، كَالَّتِي
قَبْلَهَا. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ إلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ
الْمُنْقَطِعِ، إلَى أَنْ يَنْقَرِضَ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ،
فَإِذَا انْقَرَضَ صُرِفَ إلَى مَنْ يَجُوزُ. وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي
ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ إنَّمَا جَعَلَهُ
وَقْفًا عَلَى مَنْ يَجُوزُ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ هَذَا، فَلَا يَثْبُتُ
بِدُونِهِ. وَفَارَقَ مَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ، فَإِنَّهُ
تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ،
كَهَذَيْنِ.
[فَصْلٌ كَانَ الْوَقْفُ صَحِيحَ الطَّرَفَيْنِ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ]
(4403) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ صَحِيحَ الطَّرَفَيْنِ، مُنْقَطِعَ
الْوَسَطِ، مِثْلَ أَنْ يَقِفَ عَلَى وَلَدِهِ، ثُمَّ عَلَى عَبِيدِهِ،
ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ. خُرِّجَ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ،
كَمُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ
عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ أَلْغَيْنَاهُ
إذَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ انْقِرَاضِهِ
فَهَلْ يُعْتَبَرُ أَوْ يُلْغَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ،
وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعَ الطَّرَفَيْنِ، صَحِيحَ الْوَسَطِ كَرَجُلٍ وَقَفَ
عَلَى عَبِيدِهِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ عَلَى الْكَنِيسَةِ،
خُرِّجَ فِي صِحَّتِهِ أَيْضًا وَجْهَانِ، وَمَصْرِفُهُ بَعْدَ مَنْ
يَجُوزُ إلَى مَصْرِفِ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ.
(6/24)
[مَسْأَلَةٌ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي
مَاتَ فِيهِ أَوْ قَالَ هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي]
(4404) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَنْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ، أَوْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي. وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ
الثُّلُثِ، وُقِفَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، إلَّا أَنْ تُجِيزَ
الْوَرَثَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَقْفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ،
بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛
لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، فَاعْتُبِرَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مِنْ الثُّلُثِ،
كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ
وَإِذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ، جَازَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ
وَلَزِمَ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لَزِمَ الْوَقْفُ مِنْهُ فِي
قَدْرِ الثُّلُثِ، وَوَقَفَ الزَّائِدُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. لَا
نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الْوَقْفِ؛
وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ بِوُجُودِ
الْمَرَضِ، فَمَنَعَ التَّبَرُّعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ،
كَالْعَطَايَا وَالْعِتْقِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ: هُوَ وَقْفٌ بَعْدَ
مَوْتِي. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ
مِنْ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا
يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ، وَتَعْلِيقُ
الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ غَيْرُ جَائِزٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ عَلَّقَهُ
عَلَى شَرْطٍ فِي حَيَاتِهِ، وَحُمِلَ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهُ
قَالَ: قِفُوا بَعْدَ مَوْتِي. فَيَكُونُ وَصِيَّةً بِالْوَقْفِ لَا
إيقَافًا.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: قَوْلُ الْخِرَقِيِّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى
جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ. وَلَنَا عَلَى صِحَّةِ
الْوَقْفِ بِالْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ، مَا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ وَصَّى، فَكَانَ فِي
وَصِيَّتِهِ: هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ، أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ. وَذَكَرَ
بَقِيَّةَ الْخَبَرِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ،
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا، وَهَذَا نَصٌّ فِي
مَسْأَلَتِنَا، وَوَقْفُهُ هَذَا كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَلِأَنَّهُ اشْتَهَرَ فِي الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ
إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ هَذَا تَبَرُّعٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ، فَصَحَّ
كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ، أَوْ نَقُولُ: صَدَقَةٌ
مُعَلَّقَةٌ بِالْمَوْتِ، فَأَشْبَهَتْ غَيْرَ الْوَقْفِ. وَيُفَارِقُ
هَذَا التَّعْلِيقَ عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ، بِدَلِيلِ الْهِبَةِ
الْمُطْلَقَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا
وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ أَوْسَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْحَيَاةِ،
بِدَلِيلِ جَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ، وَلِلْمَجْهُولِ،
وَلِلْحَمْلِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قِيَاسِ مَنْ قَاسَ عَلَى
هَذَا الشَّرْطِ بَقِيَّةَ الشُّرُوطِ.
[فَصْلٌ تَعْلِيقُ ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ]
(4405) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ عَلَى شَرْطٍ
فِي الْحَيَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ
فَدَارِي وَقْفٌ، أَوْ فَرَسِي حَبِيسٌ، أَوْ إذَا وُلِدَ لِي وَلَدٌ، أَوْ
إذَا قَدِمَ لِي غَائِبِي. وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا
خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيمَا لَمْ يُبْنَ عَلَى
التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ
كَالْهِبَةِ
وَسَوَّى الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ تَعْلِيقِهِ
بِالْمَوْتِ، وَتَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ. وَلَا يَصِحُّ؛ لِمَا
ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا قَبْلَ هَذَا.
(6/25)
(4406) فَصْلٌ: وَإِنْ عَلَّقَ
انْتِهَاءَهُ عَلَى شَرْطٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: دَارِي وَقْفٌ إلَى سَنَةٍ،
أَوْ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْحَاجُّ. لَمْ يَصِحَّ، فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ، فَإِنَّ
مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ. وَفِي الْآخَرِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُنْقَطِعُ
الِانْتِهَاءِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى مُنْقَطِعِ
الِانْتِهَاءِ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ هَاهُنَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ
مُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ.
(4407) فَصْلٌ: وَإِنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي سَنَةً، ثُمَّ
عَلَى الْمَسَاكِينِ. صَحَّ. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى
وَلَدِي مُدَّةَ حَيَاتِي، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ مَوْتِي لِلْمَسَاكِينِ.
صَحَّ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ مُتَّصِلُ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ. وَإِنْ
قَالَ: وَقْفٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِي صَحَّ،
وَيَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَيُلْغَى قَوْلُهُ: عَلَى
أَوْلَادِي. لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ لَا انْقِرَاضَ لَهُمْ.
[فَصْلٌ الْوَقْف فِي مَرَضِهِ عَلَى بَعْضِ وَرَثَته]
(4408) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْوَقْفِ
فِي مَرَضِهِ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ، فَعَنْهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ،
فَإِنْ فَعَلَ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، قَالَ أَحْمَدَ،
فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، فِي مَنْ أَوْصَى، لِأَوْلَادِ
بَنِيهِ بِأَرْضٍ تُوقَفُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إنْ لَمْ يَرِثُوهُ
فَجَائِزٌ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ فِي
الْمَرَضِ. اخْتَارَهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ، وَابْنُ عَقِيلٍ،
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِمْ ثُلُثَهُ،
كَالْأَجَانِبِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ
الْمَيْمُونِيُّ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقِفَ فِي مَرَضِهِ عَلَى
وَرَثَتِهِ. فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ تَذْهَبُ أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَالْوَقْفُ غَيْرُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ
لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ، وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ
يَنْتَفِعُونَ بِغَلَّتِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ
الْحَسَنِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي مَسْأَلَتِهِ بِوَقْفِ ثُلُثِهِ عَلَى
بَعْضِ وَرَثَتِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ: جَائِزٌ
قَالَ الْخَبَرِيُّ: وَأَجَازَ هَذَا الْأَكْثَرُونَ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ،
بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: هَذَا مَا
أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ حَدَثَ
بِهِ حَدَثٌ أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ، وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ،
وَالسَّهْمَ الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَرَقِيقَهُ الَّذِي فِيهِ، وَالْمِائَةَ
وَسْقٍ الَّذِي أَطْعَمَنِي مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- تَلِيه حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ، ثُمَّ يَلِيهِ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْ
أَهْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى، يُنْفِقُهُ حَيْثُ يَرَى مِنْ
السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَذَوِي الْقُرْبَى، وَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ
وَلِيَهُ إنْ أَكَلَ أَوْ اشْتَرَى رَقِيقًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا
فَالْحُجَّةُ أَنَّهُ جَعَلَ لِحَفْصَةَ أَنْ تَلِيَ وَقْفَهُ، وَتَأْكُلَ
مِنْهُ، وَتَشْتَرِيَ رَقِيقًا. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدْ:
(6/26)
إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرَ بِالْإِيقَافِ، وَلَيْسَ فِي
الْحَدِيثِ الْوَارِثُ. قَالَ: فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ وَهُوَ ذَا قَدْ وَقَفَهَا عَلَى
وَرَثَتِهِ، وَحَبَسَ الْأَصْلَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ
لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ،
فَهُوَ كَعِتْقِ الْوَارِثِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ
الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَالْهِبَاتِ
وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْعَيْنِ، لَا
تَجُوزُ بِالْمَنْفَعَةِ، كَالْأَجْنَبِيِّ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ
وَأَمَّا خَبَرُ عُمَرَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ
بِوَقْفِهِ، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ. وَأَمَّا
جَعْلُ الْوِلَايَةِ لِحَفْصَةَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَيْهَا، فَلَا
يَكُونُ ذَلِكَ وَارِدًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَكَوْنُهُ انْتِفَاعًا
بِالْغَلَّةِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّخْصِيصِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ
أَوْصَى لِوَرَثَتِهِ بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ، لَمْ يَجُزْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، عَلَى أَنَّهُ
وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، لِيَكُونَ عَلَى وَفْقِ حَدِيثِ عُمَرَ،
وَعَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
[فَصْلٌ وَقَفَ دَارِهِ بَيْنَ ابْنه وَبِنْتِهِ نِصْفَيْنِ فِي مَرَضِ
مَوْتِهِ]
(4409) فَصْلٌ: فَإِنْ وَقَفَ دَارِهِ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ،
بَيْنَ ابْنِهِ وَبِنْتِهِ نِصْفَيْنِ، فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَعَلَى
رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ، وَيَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا
كَانَ يَجُوزُ لَهُ تَخْصِيصُ الْبِنْتِ بِوَقْفِ الدَّارِ كُلِّهَا،
فَبِنِصْفِهَا أَوْلَى. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي نَصَرْنَاهَا، إنْ
أَجَازَ الِابْنُ ذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ الْوَقْفُ
فِيمَا زَادَ عَلَى نَصِيبِ الْبِنْتِ، وَهُوَ السُّدُسُ، وَيَرْجِعُ إلَى
الِابْنِ مِلْكًا، فَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا، وَالسُّدُسُ مِلْكًا
مُطْلَقًا، وَالثُّلُثُ لِلْبِنْتِ جَمِيعُهُ وَقْفًا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَبْطُلَ الْوَقْفُ فِي نِصْفِ مَا وَقَفَ عَلَى
الْبِنْتِ، وَهُوَ الرُّبْعُ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ
وَقْفًا، نِصْفُهَا لِلِابْنِ، وَرُبْعُهَا لِلْبِنْتِ، وَالرُّبْعُ
الَّذِي بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، لِلِابْنِ
ثُلُثَاهُ، وَلِلْبِنْتِ ثُلُثُهُ، وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْ
عَشَرَ؛ لِلِابْنِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا وَسَهْمَانِ مِلْكًا،
وَلِلْبِنْتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا وَسَهْمٌ مِلْكًا. وَلَوْ
وَقَفَهَا عَلَى ابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ نِصْفَيْنِ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ
الثُّلُثِ، فَرَدَّ الِابْنُ، صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى الِابْنِ فِي
نِصْفِهَا، وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِي ثُمْنِهَا، وَلِلِابْنِ إبْطَالُ
الْوَقْفِ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهَا، فَتَرْجِعُ إلَيْهِ مِلْكًا عَلَى
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الِابْنِ فِي
نِصْفِهَا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ نَصِيبِهِ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ
بَاقِي نَصِيبِهِ مِلْكًا، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ فِي أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِ
الثُّمْنِ الَّذِي لِلْمَرْأَةِ، وَبَاقِيه يَكُونُ لَهَا مِلْكًا،
فَاضْرِبْ سَبْعَةً فِي ثَمَانِيَةٍ، تَكُونُ سِتَّةً وَخَمْسِينَ،
لِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَقْفًا، وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ مِلْكًا،
وَلِلْمَرْأَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا، وَثَلَاثَةٌ مِلْكًا.
وَهَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الدَّارُ
جَمِيعَ مِلْكِهِ، فَوَقَفَهَا كُلَّهَا، فَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ.
الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ
الْوَارِثَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الزَّائِدِ عَنْ
الثُّلُثِ، وَأَمَّا عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، فَإِنَّ الْوَقْفَ
يَلْزَمُ
(6/27)
فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ
الْوَرَثَةِ، وَفِيمَا زَادَ فَلَهُمَا إبْطَالُ الْوَقْفِ فِيهِ،
وَلِلِابْنِ إبْطَالُ التَّسْوِيَةِ، فَإِنْ اخْتَارَ إبْطَالَ
التَّسْوِيَةِ دُونَ إبْطَالِ الْوَقْفِ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْوَقْفُ فِي التُّسْعِ، وَيَرْجِعُ
إلَيْهِ مِلْكًا، فَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا، وَالتُّسْعُ مِلْكًا،
وَيَكُونُ لِلْبِنْتِ السُّدُسُ وَالتُّسْعَانِ وَقْفًا؛ لِأَنَّ الِابْنَ
إنَّمَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْوَقْفِ فِي مَا لَهُ دُونَ مَا لِغَيْرِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ لَهُ إبْطَالَ الْوَقْفِ فِي السُّدُسِ،
وَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا، وَالتُّسْعُ مِلْكًا، وَلِلْبِنْتِ
الثُّلُثُ وَقْفًا، وَنِصْفُ التُّسْعِ مِلْكًا؛ لِئَلَّا تَزْدَادَ
الْبِنْتُ عَلَى الِابْنِ فِي الْوَقْفِ. وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ فِي
هَذَا الْوَجْه مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلِابْنِ تِسْعَةٌ وَقْفًا
وَسَهْمَانِ مِلْكًا، وَلِلْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَقْفًا وَسَهْمٌ
مِلْكًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَهُ إبْطَالُ الْوَقْفِ فِي
الرُّبْعِ كُلِّهِ، وَيَصِيرُ لَهُ النِّصْفُ وَقْفًا وَالسُّدُسُ مِلْكًا،
وَيَكُونُ لِلْبِنْتِ الرُّبْعُ وَقْفًا وَنِصْفُ السُّدُسِ مِلْكًا، كَمَا
لَوْ كَانَتْ الدَّارُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ
عَشَرَ.
[مَسْأَلَةٌ خَرَابُ الْوَقْفِ]
(4410) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا خَرِبَ الْوَقْفُ، وَلَمْ يَرُدَّ
شَيْئًا، بِيعَ، وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ
الْوَقْفِ، وَجُعِلَ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ الْفَرَسُ
الْحَبِيسُ إذَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْغَزْوِ، بِيعَ، وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ
مَا يَصْلُحُ لِلْجِهَادِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا خَرِبَ،
وَتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ، كَدَارٍ انْهَدَمَتْ، أَوْ أَرْضٍ خَرِبَتْ،
وَعَادَتْ مَوَاتًا، وَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهَا، أَوْ مَسْجِدٍ
انْتَقَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَنْهُ، وَصَارَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُصَلَّى
فِيهِ، أَوْ ضَاقَ بِأَهْلِهِ وَلَمْ يُمْكِنْ تَوْسِيعُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
أَوْ تَشَعَّبَ جَمِيعُهُ فَلَمْ تُمْكِنْ عِمَارَتُهُ وَلَا عِمَارَةُ
بَعْضِهِ إلَّا بِبَيْعِ بَعْضِهِ، جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ لِتُعَمَّرَ بِهِ
بَقِيَّتُهُ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، بِيعَ
جَمِيعُهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: إذَا كَانَ فِي
الْمَسْجِدِ خَشَبَتَانِ، لَهُمَا قِيمَةٌ، جَازَ بَيْعُهُمَا وَصَرْفُ
ثَمَنِهِمَا عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: يُحَوَّلُ
الْمَسْجِدُ خَوْفًا مِنْ اللُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُهُ قَذِرًا.
قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي إذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ
فِيهِ. وَنَصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ عَرْصَتِهِ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ
اللَّهِ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّ
الْمَسَاجِدَ لَا تُبَاعُ، وَإِنَّمَا تُنْقَلُ آلَتُهَا. قَالَ:
وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ؛ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ
الْفَرَسِ الْحَبِيسِ يَعْنِي الْمَوْقُوفَةَ عَلَى الْغَزْوِ إذَا
كَبِرَتْ، فَلَمْ تَصْلُحْ لِلْغَزْوِ، وَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي
شَيْءٍ آخَرَ، مِثْلُ أَنْ تَدُورَ فِي الرَّحَى، أَوْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا
تُرَابٌ، أَوْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ فِي نِتَاجِهَا، أَوْ حِصَانًا
يُتَّخَذُ لِلطِّرَاقِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَيُشْتَرَى
بِثَمَنِهَا مَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ أَوْ
الْوَقْفُ، عَادَ إلَى مِلْكِ وَاقِفِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إنَّمَا هُوَ
تَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا زَالَتْ مَنْفَعَتُهُ، زَالَ حَقُّ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ
(6/28)
بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يُبَاعُ
أَصْلُهَا، وَلَا تُبْتَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا تُورَثُ ". وَلِأَنَّ
مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعِهِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
مَعَ تَعَطُّلِهَا، كَالْمُعْتَقِ، وَالْمَسْجِدُ أَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ
بِالْمُعْتَقِ
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى
سَعْدٍ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ نَقَّبَ بَيْتَ الْمَالِ الَّذِي
بِالْكُوفَةِ، أَنْ اُنْقُلْ الْمَسْجِدَ الَّذِي بِالتَّمَارِينِ،
وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ لَنْ
يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ. وَكَانَ هَذَا بِمَشْهَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ
فِيمَا ذَكَرْنَاهُ اسْتِبْقَاءَ الْوَقْفِ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ
إبْقَائِهِ، بِصُورَتِهِ، فَوَجَبَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ
الْجَارِيَةَ الْمَوْقُوفَةَ، أَوْ قَبَّلَهَا غَيْرُهُ
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْوَقْفُ مُؤَبَّدٌ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ
تَأْبِيدُهُ عَلَى وَجْهٍ، يُخَصِّصُهُ اسْتِبْقَاءُ الْغَرَضِ، وَهُوَ
الِانْتِفَاعُ عَلَى الدَّوَامِ فِي عَيْنٍ أُخْرَى، وَإِيصَالُ
الْأَبْدَالِ جَرَى مَجْرَى الْأَعْيَانِ، وَجُمُودُنَا عَلَى الْعَيْنِ
مَعَ تَعَطُّلِهَا تَضْيِيعٌ لِلْغَرَضِ. وَيَقْرُبُ هَذَا مِنْ الْهَدْيِ
إذَا عَطِبَ فِي السَّفَرِ، فَإِنَّهُ يُذْبَحُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ
يَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ
بِالْكُلِّيَّةِ، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ، وَتُرِكَ مُرَاعَاةُ
الْمَحَلِّ الْخَاصِّ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاتَهُ مَعَ
تَعَذُّرِهِ تُفْضِي إلَى فَوَاتِ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ،
وَهَكَذَا الْوَقْفُ الْمُعَطَّلُ الْمَنَافِعِ
وَلَنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَلَى
وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَلَا يَعُودُ إلَى مَالِكِهِ بِاخْتِلَالِهِ،
وَذَهَابِ مَنَافِعِهِ كَالْعِتْقِ.
[فَصْل الْوَقْفَ إذَا بِيعَ]
(4411) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْوَقْفَ إذَا
بِيعَ، فَأَيُّ شَيْءٍ اُشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مِمَّا يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ
الْوَقْفِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ؛ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنْفَعَةُ، لَا الْجِنْسُ، لَكِنْ تَكُونُ
الْمَنْفَعَةُ مَصْرُوفَةً إلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي كَانَتْ الْأُولَى
تُصْرَفُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْمَصْرِفِ مَعَ
إمْكَانِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْوَقْفِ
بِالْبَيْعِ مَعَ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
(4412) فَصْلٌ: وَإِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُ الْفَرَسِ الْحَبِيسِ لِشِرَاءِ
فَرَسٍ أُخْرَى، أُعِينَ بِهِ فِي شِرَاءِ فَرَسٍ حَبِيسٍ يَكُونُ بَعْضَ
الثَّمَنِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِبْقَاءُ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ الْمُمْكِنِ
اسْتِبْقَاؤُهَا، وَصِيَانَتُهَا عَنْ الضَّيَاعِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى
ذَلِكَ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ.
(4413) فَصْلٌ: وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْوَقْفِ
بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنْ قَلَّتْ، وَكَانَ غَيْرُهُ أَنْفَعَ مِنْهُ
وَأَكْثَرَ رُدَّ عَلَى أَهْلِ
(6/29)
الْوَقْفِ، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ، الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ
صِيَانَةً لِمَقْصُودِ الْوَقْفِ عَنْ الضَّيَاعِ، مَعَ إمْكَانِ
تَحْصِيلِهِ، وَمَعَ الِانْتِفَاعِ، وَإِنْ قَلَّ مَا يَضِيعُ
الْمَقْصُودُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ فِي قِلَّةِ النَّفْعِ إلَى
حَدٍّ لَا يُعَدُّ نَفْعًا، فَيَكُونُ وُجُودُ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ.
[فَصْلٌ فِي جَعْلِ مَسْجِدٍ سِقَايَةً وَحَوَانِيت]
(4414) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فِي مَسْجِدٍ
أَرَادَ أَهْلُهُ رَفْعَهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَيُجْعَلُ تَحْتَهُ سِقَايَةٌ
وَحَوَانِيتُ، فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ: فَيُنْظَرُ إلَى قَوْلِ
أَكْثَرِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ أَحْمَدَ،
فَذَهَبَ ابْنُ حَامِدٍ إلَى أَنَّ هَذَا فِي مَسْجِدٍ أَرَادَ أَهْلُهُ
إنْشَاءَهُ ابْتِدَاءً، وَاخْتَلَفُوا كَيْفَ يُعْمَلُ؟ وَسَمَّاهُ
مَسْجِدًا قَبْلَ بِنَائِهِ تَجَوُّزًا؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَيْهِ، أَمَّا
بَعْدَ كَوْنِهِ مَسْجِدًا لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ سِقَايَةً وَلَا
حَوَانِيتَ
وَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى ظَاهِر اللَّفْظِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ
مَسْجِدًا، فَأَرَادَ أَهْلُهُ رَفْعَهُ، وَجَعْلَ مَا تَحْتَهُ سِقَايَةً
لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَوْلَى، وَإِنْ
خَالَفَ الظَّاهِرَ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ،
وَإِبْدَالُهُ، وَبَيْعُ سَاحَتِهِ، وَجَعْلُهَا سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ،
إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالْحَاجَةُ إلَى سِقَايَةٍ
وَحَوَانِيتَ لَا تُعَطِّلُ نَفْعَ الْمَسْجِدِ، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ
فِي ذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ جَعْلُ أَسْفَلِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةً
وَحَوَانِيتَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ، لَجَازَ تَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ
وَجَعْلُهُ سِقَايَةً وَحَوَانِيتَ وَيُجْعَلُ بَدَلَهُ مَسْجِدًا فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ
قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، فِي
مَسْجِدٍ لَيْسَ بِحَصِينٍ مِنْ الْكِلَابِ، وَلَهُ مَنَارَةٌ، فَرَخَّصَ
فِي نَقْضِهَا، وَبِنَاءِ حَائِطِ الْمَسْجِدِ بِهَا
لِلْمَصْلَحَةِ.
[فَصْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرَةٌ]
(4415) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَجَرَةٌ.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: إنْ كَانَتْ غُرِسَتْ النَّخْلَةُ
بَعْدَ أَنْ صَارَ مَسْجِدًا، فَهَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا
أُحِبُّ الْأَكْلَ مِنْهَا، وَلَوْ قَلَعَهَا الْإِمَامُ لَجَازَ؛ وَذَلِكَ
لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يُبْنَ لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذَكَرِ
اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقِرَانِ، وَلِأَنَّ الشَّجَرَةَ
تُؤْذِي الْمَسْجِدَ وَتَمْنَعُ الْمُصَلَّيْنَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي
مَوْضِعِهَا، وَيَسْقُطُ وَرَقُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَثَمَرُهَا،
وَتَسْقُطُ عَلَيْهَا الْعَصَافِيرُ وَالطَّيْرُ فَتَبُولُ فِي
الْمَسْجِدِ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الصِّبْيَانُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ
أَجْلِهَا، وَرَمَوْهَا بِالْحِجَارَةِ لِيَسْقُطَ ثَمَرُهَا
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ النَّخْلَةُ فِي أَرْضٍ، فَجَعَلَهَا صَاحِبُهَا
مَسْجِدًا وَالنَّخْلَةُ فِيهَا فَلَا بَأْسَ. قَالَ أَحْمَدُ فِي
مَوْضِعٍ: لَا بَأْسَ. يَعْنِي أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ الْجِيرَانِ. وَقَالَ
فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فِي النَّبْقَةِ: لَا تُبَاعُ، وَتُجْعَلُ
لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الدَّرْبِ يَأْكُلُونَهَا. وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ -، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ لَمَّا جَعَلَهَا مَسْجِدًا
وَالنَّخْلَةُ فِيهَا، فَقَدْ وَقَفَ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَةَ مَعَهَا،
وَلَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفَهَا، فَصَارَتْ كَالْوَقْفِ الْمُطْلَقِ الَّذِي
لَمْ يُعَيَّنْ لَهُ مَصْرِفٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ فِي إحْدَى
الرِّوَايَاتِ، أَنَّهُ لِلْمَسَاكِينِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ صَاحِبُهَا:
هَذِهِ وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ ثَمَرُهَا، وَيُصْرَفَ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ
وَقَفَهَا عَلَى الْمَسْجِدِ وَهِيَ فِي غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو
الْخَطَّابِ: عِنْدِي أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا احْتَاجَ إلَى
(6/30)
ثَمَنِ ثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، بِيعَتْ،
وَصُرِفَ ثَمَنُهَا فِي عِمَارَتِهِ. قَالَ: وَقَوْلُ أَحْمَدَ يَأْكُلُهَا
الْجِيرَانُ. مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُعَمِّرُونَهُ.
[فَصْلٌ مَا فَضَلَ مِنْ حُصِرَ الْمَسْجِدِ وَزَيْتِهِ وَلَمْ يُحْتَجْ
إلَيْهِ]
(4416) فَصْلٌ: وَمَا فَضَلَ مِنْ حُصِرَ الْمَسْجِدِ وَزَيْتِهِ، وَلَمْ
يُحْتَجْ إلَيْهِ، جَازَ أَنْ يُجْعَلَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، أَوْ
يُتَصَدَّقَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ وَغَيْرِهِمْ،
وَكَذَلِكَ إنْ فَضَلَ مِنْ قَصَبِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ نَقْضِهِ. قَالَ
أَحْمَدُ، فِي مَسْجِدٍ بُنِيَ، فَبَقِيَ مِنْ خَشَبِهِ أَوْ قَصَبِهِ أَوْ
شَيْءٍ مِنْ نَقْضِهِ، فَقَالَ: يُعَانُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ. أَوْ كَمَا
قَالَ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
بَوَارِي الْمَسْجِدِ، إذَا فَضَلَ مِنْهُ الشَّيْءُ، أَوْ الْخَشَبَةُ.
قَالَ: يُتَصَدَّقُ بِهِ
وَأَرَى أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ بِكُسْوَةِ الْبَيْتِ إذَا تَحَرَّقَتْ
تُصُدِّقَ بِهَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قَدْ كَانَ شَيْبَةُ
يَتَصَدَّقُ بِخُلْقَانِ الْكَعْبَةِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ
عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ.
أَنَّ شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ الْحَجَبِيَّ، جَاءَ إلَى عَائِشَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ
ثِيَابَ الْكَعْبَةِ تَكْثُرُ عَلَيْهَا، فَنَنْزِعُهَا، فَنَحْفِرُ لَهَا
آبَارًا فَنَدْفِنُهَا فِيهَا، حَتَّى لَا تَلْبَسَهَا الْحَائِضُ
وَالْجُنُبُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، وَلَمْ تُصِبْ، إنَّ
ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إذَا نُزِعَتْ لَمْ يَضُرَّهَا مَنْ لَبِسَهَا مِنْ
حَائِضٍ أَوْ جُنُبٍ، وَلَكِنْ لَوْ بِعْتَهَا، وَجَعَلْت ثَمَنَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسَاكِينِ. فَكَانَ شَيْبَةُ يَبْعَثُ بِهَا إلَى
الْيَمَنِ، فَتُبَاعُ، فَيَضَعُ ثَمَنَهَا حَيْثُ أَمَرَتْهُ عَائِشَةُ
وَهَذِهِ قِصَّةٌ مِثْلُهَا يَنْتَشِرُ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَيَكُونُ
إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَبْقَ لَهُ
مَصْرِفٌ، فَصُرِفَ إلَى الْمَسَاكِينِ، كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ.
[فَصْلٌ جنى الْوَقْفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ]
(4417) فَصْلٌ: إذَا جَنَى الْوَقْفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَجَبَ
سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى
غَيْرِهِ. فَإِنْ قُتِلَ بَطَلَ الْوَقْفُ فِيهِ، وَإِنْ قُطِعَ كَانَ
بَاقِيه وَقْفًا، كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ
كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ، لَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّقُهَا
بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا، وَيَجِبُ أَرْشُهَا عَلَى
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ تَعَلَّقَ أَرْشُهُ
بِرَقَبَتِهِ، فَكَانَ عَلَى مَالِكِهِ، كَأُمِّ الْوَلَدِ
وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ كَأُمِّ الْوَلَدِ. وَإِنْ
قُلْنَا: الْوَقْفُ لَا يُمْلَكُ. فَالْأَرْشُ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ
تَعَذَّرَ تَعَلُّقُهُ بِرَقَبَتِهِ لِكَوْنِهَا لَا تُبَاعُ،
وَبِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، فَكَانَ فِي
كَسْبِهِ، كَالْحُرِّ يَكُونُ فِي مَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي
بَيْتِ الْمَالِ كَأَرْشِ جِنَايَةِ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ. وَهَذَا
احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي
بَيْتِ الْمَالِ، فِي صُورَةٍ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ عِنْدَ عَدَمِهَا،
وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ
(6/31)
لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
الْأَرْشُ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ
يُمْكِنُ إيجَابُ الْأَرْشِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ
بِرَقَبَتِهِ، لِتَعَذُّرِ بَيْعِهَا فَتَعَيَّنَ فِي كَسْبِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
(4418) فَصْلٌ: وَإِنْ جُنِيَ عَلَى الْوَقْفِ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ
لِلْمَالِ، وَجَبَ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ لَمْ تَبْطُلْ، وَلَوْ بَطَلَتْ
مَالِيَّتُهُ لَمْ يَبْطُلْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحُرَّ
يَجِبُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُتِلَ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ،
وَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْعَفْوُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا
يَخْتَصُّ بِهَا وَيُشْتَرَى بِهَا مِثْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يَكُونُ
وَقْفًا
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَخْتَصُّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ
بِالْقِيمَةِ إنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُ الْمَوْقُوفَ، لِأَنَّهُ بَدَلُ
مِلْكِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مِلْكُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ
بِبَدَلِهِ، كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَرْهُونِ، وَبَيَانُ عَدَمِ
الِاخْتِصَاصِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْبَطْنِ
الثَّانِي، فَلَمْ يَجُزْ إبْطَالُهُ. وَلَا نَعْلَمُ قَدْرَ مَا
يَسْتَحِقُّ هَذَا مِنْهُ فَنَعْفُوَ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْ
شَيْءٍ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ رَجُلُ رَهْنًا، أُخِذَتْ مِنْهُ
قِيمَتُهُ فَجُعِلَتْ رَهْنًا، وَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عَنْهُ
وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَمْدًا مَحْضًا مِنْ مُكَافِئٍ لَهُ،
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لَا
يَخْتَصُّ بِهِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ
قَاتِلِهِ، كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَك. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ: يَكُونُ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ
الْعَبْدِ أَوْ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِهِ، فَالْقِصَاصُ لَهُ، وَلَهُ
اسْتِيفَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ
الْقَطْعُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، أَوْ يُوجِبُهُ فَعُفِيَ عَنْهُ، وَجَبَ
نِصْفُ قِيمَتِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ كَامِلٌ،
وَإِلَّا اُشْتُرِيَ بِهَا شِقْصٌ مِنْ عَبْدٍ.
[فَصْلٌ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ]
(4419) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ؛ لِأَنَّهُ
عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، أَشْبَهَ الْإِجَارَةَ، وَلِأَنَّ
الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ،
فَلَا يَتَضَرَّرُ بِتَمْلِيكِ غَيْرِهِ إيَّاهَا، وَوَلِيُّهَا
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، وَالْمَهْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ
بَدَلُ نَفْعِهَا، أَشْبَهَ الْأَجْرَ فِي الْإِجَارَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ
لَا يَجُوزَ تَزْوِيجُهَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى نَفْعِهَا فِي
الْعُمُرِ، فَيُفْضِي إلَى تَفْوِيتِ نَفْعِهَا فِي حَقِّ الْبَطْنِ
الثَّانِي.
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقٌ؛ مِنْ وُجُوبِ تَمْكِينِ
الزَّوْجِ مِنْ اسْتِمْتَاعِهَا، وَمَبِيتِهَا عِنْدَهُ، فَتَفُوتُ
خِدْمَتُهَا فِي اللَّيْلِ عَلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، إلَّا أَنْ تَطْلُبَ
التَّزْوِيجَ، فَيَتَعَيَّنَ تَزْوِيجُهَا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا
طَلَبَتْهُ، فَتَتَعَيَّنُ الْإِجَابَةُ إلَيْهِ، وَمَا فَاتَ مِنْ
الْحَقِّ بِهِ، فَاتَ تَبَعًا لِإِيفَائِهَا حَقَّهَا، فَوَجَبَ ذَلِكَ،
كَمَا يَجِبُ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمَوْقُوفَةِ وَإِذَا طَلَبَتْ
ذَلِكَ. وَإِذَا زَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ، فَوَلَدُهَا وَقْفٌ
مَعَهَا؛ لِأَنَّ وَلَدَ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَةٌ
حُكْمُهُ حُكْمُهَا، كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةِ
وَإِنْ أَكْرَهَهَا أَجْنَبِيُّ، فَوَطِئَهَا، أَوْ طَاوَعَتْهُ،
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ
لِأَهْلِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ، أَشْبَهَ
الْأَمَةَ الْمُطَلَّقَةَ، وَوَلَدُهَا يَكُونُ
(6/32)
وَقْفًا مَعَهَا. وَإِنْ وَطِئَهَا
بِشُبْهَةِ يَعْتَقِدُهَا حُرَّةً، فَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَلَوْ كَانَ
الْوَاطِئُ عَبْدًا، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ سَبِيلِهِ
أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا، فَمَنَعَهُ اعْتِقَادُ الْحُرِّيَّةِ مِنْ
الرِّقِّ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ يَكُونُ وَقْفًا،
وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ تَضَعُهُ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ
تَقْوِيمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ وَطْءُ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ]
(4420) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَطْءُ الْأَمَةِ
الْمَوْقُوفَةِ؛ لِأَنَّا لَا نَأْمَنُ حَبَلَهَا، فَتَنْقُصُ أَوْ
تَتْلَفُ أَوْ تَخْرُجُ مِنْ الْوَقْفِ بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ
مِلْكَهُ نَاقِصٌ، فَإِنْ وَطِئَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِلشُّبْهَةِ،
وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لَهُ، وَلَا يَجِبُ
لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
وَطْءِ شُبْهَةٍ. وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ، يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ
مَكَانَهُ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِحُرٍّ فِي
مِلْكِهِ. فَإِذَا مَاتَ عَتَقَتْ، وَوَجَبَتْ قِيمَتُهَا فِي تَرِكَتِهِ؛
لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْبُطُونِ، فَيُشْتَرَى
بِهَا جَارِيَةٌ تَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُهَا. لَمْ تَصِرْ
أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ.
[فَصْل عِتْقُ الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ]
(4421) فَصْلٌ: وَإِنْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ، لَمْ يَنْفُذْ
عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ
لَازِمٌ، فَلَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ
وَقْفًا، وَنِصْفُهُ طَلْقًا، فَأَعْتَقَ صَاحِبُ الطَّلْقِ، لَمْ يَسْرِ
عِتْقُهُ إلَى الْوَقْفِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتِقْ بِالْمُبَاشَرَةِ
فَبِالسَّرَايَةِ أَوْلَى.
[مَسْأَلَةٌ حَصَلَ فِي يَدِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْفِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ]
(4422) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِ بَعْضِ أَهْلِ
الْوَقْفِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَإِذَا صَارَ الْوَقْفُ
لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ
إذَا كَانَ شَجَرًا فَأَثْمَرَ، أَوْ أَرْضًا فَزُرِعَتْ، وَكَانَ
الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، فَحَصَلَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ
الثَّمَرَةِ أَوْ الْحَبِّ نِصَابٌ فَفِيهِ الزَّكَاةُ. وَبِهَذَا قَالَ
مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ
وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَكْحُولٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ
لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ زَكَاةٌ فِي
الْخَارِجِ مِنْهَا كَالْمَسَاكِينِ. وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَغَلَّ مِنْ
أَرْضِهِ أَوْ شَجَرِهِ نِصَابًا، فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ، كَغَيْرِ
الْوَقْفِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْوَقْفَ الْأَصْلُ، وَالثَّمَرَةَ طَلْقٌ،
وَالْمِلْكُ فِيهَا تَامٌّ، لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِجَمِيعِ
التَّصَرُّفَاتِ، وَتُورَثُ عَنْهُ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ،
كَالْحَاصِلَةِ مِنْ أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لَهُ
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَرْضَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ. مَمْنُوعٌ. وَإِنْ
سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَهُوَ مَالِكٌ لِمَنْفَعَتِهَا؛ وَيَكْفِي ذَلِكَ فِي
وُجُوبِ الزَّكَاةِ، بِدَلِيلِ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. أَمَّا
الْمَسَاكِينُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِيهِمْ،
سَوَاءٌ حَصَلَ فِي يَدِ بَعْضِهِمْ نِصَابٌ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ،
أَوْ لَمْ يَحْصُلْ،
(6/33)
وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ
تَفْرِيقِهَا، وَإِنْ بَلَغَتْ نُصُبًا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى
الْمَسَاكِينِ لَا يَتَعَيَّنُ لَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِدَلِيلِ، أَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ حِرْمَانُهُ وَالدَّفْعُ إلَى غَيْرِهِ،
وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهِ بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ، لِمَا
أُعْطِيَهُ مِنْ غَلَّتِهِ مِلْكًا مُسْتَأْنَفًا، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ
فِيهِ زَكَاةٌ، كَاَلَّذِي يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَكَمَا لَوْ
وَهَبَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ
وَفَارَقَ الْوَقْفَ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ. فَإِنَّهُ يُعَيَّنُ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ فِي نَفْعِ الْأَرْضِ وَغَلَّتِهَا،
وَلِهَذَا يَجِبُ إعْطَاؤُهُ، وَلَا يَجُوزُ حِرْمَانُهُ.
[فَصْلٌ الْوَقْفُ عَلَى الْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ]
(4423) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ،
كَقُرَيْشٍ، وَبَنَى هَاشِمٍ، وَبَنِي تَمِيمٍ، وَبَنِي وَائِلٍ.
وَنَحْوِهِمْ. وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ،
وَعَلَى أَهْلِ إقْلِيمٍ وَمَدِينَةٍ، كَالشَّامِ وَدِمَشْقَ وَنَحْوِهِمْ.
وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقِفَ عَلَى عَشِيرَتِهِ، وَأَهْلِ
مَدِينَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا يَصِحُّ
الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُمْ وَحَصْرُهُمْ، فِي
غَيْرِ الْمَسَاكِينِ وَأَشْبَاهِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ
الْآدَمِيِّ، فَلَمْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهَالَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْت
عَلَى قَوْمٍ
وَلَنَا أَنَّ مَنْ صَحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، إذَا كَانَ عَدَدُهُ
مَحْصِيًّا صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْصِيًّا، كَالْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ. وَمَتَى كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ
حَصْرُهُمْ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ
لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسَاكِينِ، وَلَا فِي جُمْلَةِ الْوَقْفِ؛ لِمَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
[مَسْأَلَةٌ حُكْم وَقَفَ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ]
(4424) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا
بِالْإِتْلَافِ، مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالْمَأْكُولِ
وَالْمَشْرُوبِ، فَوَقْفُهُ غَيْرُ جَائِزٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا لَا
يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَالدَّنَانِيرِ
وَالدَّرَاهِمِ، وَالْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ، وَالشَّمْعِ،
وَأَشْبَاهِهِ، لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ
وَأَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ،
وَالْأَوْزَاعِيِّ، فِي وَقْفِ الطَّعَامِ، أَنَّهُ يَجُوزُ. وَلَمْ
يَحْكِهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ
وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ
الثَّمَرَةِ، وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ لَا يَصِحُّ
فِيهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ: يَصِحُّ
وَقْفُهَا، عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ إجَارَتَهُمَا. وَلَا يَصِحُّ؛
لِأَنَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَيْسَتْ الْمَقْصُودَ الَّذِي خُلِقَتْ لَهُ
الْأَثْمَانُ، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ، فَلَمْ يَجُزْ
الْوَقْفُ لَهُ، كَوَقْفِ الشَّجَرِ عَلَى نَشْرِ الثِّيَابِ وَالْغَنَمِ
عَلَى دَوْسِ الطِّينِ، وَالشَّمْعِ لِيَتَجَمَّلَ بِهِ.
(4425) فَصْلٌ: وَالْمُرَادُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هَاهُنَا
الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، وَمَا لَيْسَ بِحُلِيٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
هُوَ الَّذِي يَتْلَفُ
(6/34)
بِالِانْتِفَاعِ بِهِ
أَمَّا الْحُلِيُّ، فَيَصِحُّ وَقْفُهُ لِلُّبْسِ وَالْعَارِيَّةُ؛ لِمَا
رَوَى نَافِعٌ، قَالَ: ابْتَاعَتْ حَفْصَةُ حُلِيًّا بِعِشْرِينَ أَلْفًا،
فَحَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ، فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ
زَكَاتَهُ. رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ.
وَلِأَنَّهُ عَيْنٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، مَعَ بَقَائِهَا
دَائِمًا، فَصَحَّ وَقْفُهَا، كَالْعَقَارِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ تَحْبِيسُ
أَصْلِهَا وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ، فَصَحَّ وَقْفُهَا، كَالْعَقَارِ
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لَا
يَصِحُّ وَقْفُهَا. وَأَنْكَرَ الْحَدِيثَ عَنْ حَفْصَةَ فِي وَقْفِهِ.
وَذَكَرِهِ ابْنُ أَبِي مُوسَى، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ تَأَوَّلَهُ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْحَدِيثُ فِيهِ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ
التَّحَلِّيَ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ الْأَثْمَانِ،
فَلَمْ يَصِحَّ وَقْفُهَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ الدَّنَانِيرَ
وَالدَّرَاهِمَ. وَالْأُوَلُ هُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ
وَالتَّحَلِّي مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمُهِمَّةِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ
بِهِ، وَقَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنْ
مُتَّخِذِهِ، وَجَوَّزَ إجَارَتَهُ لِذَلِكَ
وَيُفَارِقُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، فَإِنْ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ
بِالتَّحَلِّي بِهِ، وَلَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي إسْقَاطِ زَكَاتِهِ،
وَلَا ضَمَانِ مَنْفَعَتِهِ فِي الْغَصْبِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
[فَصْلٌ وَقْفُ الشَّمْعِ]
(4426) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الشَّمْعِ؛ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ
بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَهُوَ كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَلَا مَا
يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، مِنْ الْمَشْمُومَاتِ وَالرَّيَاحِينِ
وَأَشْبَاهِهَا؛ لِأَنَّهَا تَتْلَفُ عَلَى قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ،
فَأَشْبَهَتْ الْمَطْعُومَ، وَلَا وَقْفُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ،
كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمَرْهُونِ، وَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ،
وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ،
وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ الَّتِي لَا يُصَادُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ
لِلْمِلْكِ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَلِأَنَّ
الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَمَا لَا
مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا يَحْصُلُ فِيهِ تَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْكَلْبُ
أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِلضَّرُورَةِ.
فَلَمْ يَجُزْ التَّوَسُّعُ فِيهَا، وَالْمَرْهُونُ فِي وَقْفِهِ إبْطَالُ
حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ إبْطَالُهُ. وَلَا يَصِحُّ
الْوَقْفُ فِيمَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ، كَعَبْدٍ فِي الذِّمَّةِ، وَدَارٍ،
وَسِلَاحٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إبْطَالٌ لِمَعْنَى الْمِلْكِ فِيهِ، فَلَمْ
يَصِحَّ فِي عَبْدٍ مُطْلَقٍ، كَالْعِتْقِ.
[فَصْلٌ وَصَّى بِفَرَسِ وَسَرْجٍ وَلِجَامٍ مُفَضَّضٍ يُوقَفُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ]
(4427) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي مَنْ وَصَّى بِفَرَسٍ وَسَرْجٍ
وَلِجَامٍ مُفَضَّضٍ، يُوقَفُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: فَهُوَ عَلَى مَا
وَقَفَ وَوَصَّى، وَإِنْ بِيعَ الْفِضَّةُ مِنْ السَّرْجِ، وَاللِّجَامِ،
وَجُعِلَ فِي وَقْفِ مِثْلِهِ، فَهُوَ أَحَبُّ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا
يُنْتَفَعُ بِهَا، وَلَعَلَّهُ يَشْتَرِي بِتِلْكَ الْفِضَّةِ سَرْجًا
وَلِجَامًا، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ
فَقِيلَ لَهُ: تُبَاعُ الْفِضَّةُ، وَتُجْعَلُ فِي نَفَقَتِهِ؟ قَالَ: لَا.
فَأَبَاحَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِفِضَّةِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ سَرْجًا
وَلِجَامًا؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لَهُمَا فِي جِنْسِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ،
حِينَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِمَا فِيهِ. فَأَشْبَهَ الْفَرَسَ الْحَبِيسَ
إذَا عَطِبَ فَلَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْجِهَادِ، جَازَ بَيْعُهُ،
وَصَرْفُ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ، وَلَمْ يَجُزْ إيقَافُهَا عَلَى
الْفَرَسِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لَهَا إلَى غَيْرِ جِهَتِهَا.
(6/35)
[مَسْأَلَةٌ مَا جَازَ بَيْعُهُ وَجَازَ
الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ جَازَ وَقْفُهُ]
(4428) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَيَصِحُّ الْوَقْفُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ وَقْفُهُ، مَا جَازَ بَيْعُهُ،
وَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَكَانَ أَصْلًا
يَبْقَى بَقَاءً مُتَّصِلًا، كَالْعَقَارِ، وَالْحَيَوَانَاتِ،
وَالسِّلَاحِ، وَالْأَثَاثِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي
رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: إنَّمَا الْوَقْفُ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ،
عَلَى مَا وَقَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. وَقَالَ فِي مَنْ وَقَفَ خَمْسَ نَخَلَاتٍ عَلَى مَسْجِدٍ:
لَا بَأْسَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْحَيَوَانِ، وَلَا
الرَّقِيقِ، وَلَا الْكُرَاعِ، وَلَا الْعُرُوضِ، وَلَا السِّلَاحِ،
وَالْغِلْمَانِ، وَالْبَقَرِ، وَالْآلَةِ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ
تَبَعًا لَهَا؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُقَاتَلُ عَلَيْهِ، فَلَمْ
يَجُزْ وَقْفُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَقْفُ إلَى مُدَّةٍ. وَعَنْ مَالِكٍ
فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ رِوَايَتَانِ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ
احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَعْتُدَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْأَعْتَادُ مَا يُعِدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ
الْمَرْكُوبِ وَالسِّلَاحِ وَأْلَةِ الْجِهَادِ. وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ
مَعْقِلٍ، «جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا مَعْقِلٍ جَعَلَ نَاضِحَهُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، أَفَأَرْكَبُهُ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْكَبِيهِ،
فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ»
وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ
الْمَنْفَعَةِ، فَصَحَّ وَقْفُهُ، كَالْعَقَارِ وَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ،
وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَصَحَّ وَقْفُهُ وَحْدَهُ،
كَالْعَقَارِ.
(4429) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رَجُلٍ لَهُ
دَارٌ فِي الرَّبَضِ، أَوْ قَطِيعَةٌ، فَأَرَادَ التَّنَزُّهَ مِنْهَا.
قَالَ: يَقِفُهَا. قَالَ: الْقَطَائِعُ تَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ إذَا
جَعَلَهَا لِلْمَسَاكِينِ. فَظَاهِرُ هَذَا إبَاحَةُ وَقْفِ السَّوَادِ،
وَهُوَ فِي الْأَصْلِ وَقْفٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ وَقْفَهَا يُطَابِقُ
الْأَصْلَ لَا أَنَّهَا تَصِيرُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقْفًا.
[مَسْأَلَةٌ وَقْفُ الْمَشَاعِ]
(4430) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَصِحُّ وَقْفُ الْمَشَاعِ)
(6/36)
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَصِحُّ وَبَنَاهُ
عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ، وَأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَصِحُّ
فِي الْمَشَاعِ. وَلَنَا
، أَنَّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ «أَنَّهُ أَصَابَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ
خَيْبَرَ، وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فِيهَا، فَأَمَرَهُ بِوَقْفِهَا.» وَهَذَا صِفَةُ الْمَشَاعِ، وَلِأَنَّهُ
عَقْدٌ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ مُفْرَزًا فَجَازَ عَلَيْهِ
مَشَاعًا، كَالْبَيْعِ، أَوْ عَرْصَةٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَجَازَ
وَقْفُهَا، كَالْمُفْرَزَةِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ
وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْمَشَاعِ، كَحُصُولِهِ
فِي الْمُفْرَزِ، وَلَا نُسَلِّمُ اعْتِبَارَ الْقَبْضِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا
فَإِذَا صَحَّ فِي الْبَيْعِ صَحَّ فِي الْوَقْفِ.
[فَصْلٌ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ]
(4431) فَصْلٌ: وَإِنْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ،
مِثْلُ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى أَوْلَادِهِ وَعَلَى الْمَسَاكِينِ،
نِصْفَيْنِ، أَوْ أَثْلَاثًا، أَوْ كَيْفَمَا كَانَ جَازَ. وَسَوَاءٌ
جَعَلَ مَآلَ الْمَوْقُوفِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَعَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ
عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى سِوَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ وَقْفُ الْجُزْءِ
مُفْرَدًا، جَازَ وَقْفُ الْجُزْأَيْنِ. وَإِنْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ،
فَقَالَ: أَوْقَفْت دَارِي هَذِهِ عَلَى أَوْلَادِي، وَعَلَى
الْمَسَاكِينِ. فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ
الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ،
وَلَا تَتَحَقَّقُ التَّسْوِيَةُ إلَّا بِالتَّنْصِيفِ
وَإِنْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى زَيْدٍ وَعُمَرَ وَالْمَسَاكِينِ. فَهِيَ
بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا.
(4432) فَصْلٌ: فَإِنْ أُرِيدَ تَمْيِيزُ الْوَقْفِ عَنْ الطَّلْقِ
بِالْقِسْمَةِ، فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقِسْمَةِ، هَلْ هِيَ بَيْعٌ
أَوْ إفْرَازُ حَقٍّ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إفْرَازُ حَقٍّ، فَيُنْظَرُ؛
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَدٌّ جَازَتْ الْقِسْمَةُ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا
رَدٌّ مِنْ جَانِبِ أَصْحَابِ الْوَقْفِ، جَازَتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ
شِرَاءٌ لِشَيْءٍ مِنْ الطَّلْق. وَإِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الطَّلْقِ،
لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءُ بَعْضِ الْوَقْفِ، وَبَيْعُهُ غَيْرُ
جَائِزٍ. وَإِنْ كَانَ الْمَشَاعُ وَقْفًا عَلَى جِهَتَيْنِ، فَأَرَادَ
أَهْلُهُ قِسْمَتَهُ، انْبَنِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهَا رَدٌّ بِحَالٍ. وَمَتَى جَازَتْ
الْقِسْمَةُ فِي الْوَقْفِ، وَطَلَبَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ
وَلِيُّ الْوَقْفِ، أُجْبِرَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِسْمَةٍ جَازَتْ
مِنْ غَيْرِ رَدٍّ وَلَا ضَرَرٍ، فَهِيَ وَاجِبَةُ.
[مَسْأَلَةٌ لَمْ يَكُنْ الْوَقْفُ عَلَى مَعْرُوفٍ أَوْ بِرٍّ]
(4433) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْفُ عَلَى مَعْرُوفٍ
أَوْ بِرٍّ فَهُوَ بَاطِلٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ
إلَّا عَلَى مَنْ يُعْرَفُ، كَوَلَدِهِ، وَأَقَارِبِهِ، وَرَجُلٍ
مُعَيَّنٍ، أَوْ عَلَى بِرٍّ،
(6/37)
كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ،
وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ، وَالْمَقَابِرِ،
وَالسِّقَايَاتِ وَسَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَصْلُحُ عَلَى غَيْرِ
مُعَيَّنٍ، كَرَجُلِ وَامْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلْعَيْنِ
أَوْ لِلْمَنْفَعَةِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ، وَلَا عَلَى مَعْصِيَةٍ كَبَيْتِ النَّارِ، وَالْبِيَعِ
وَالْكَنَائِسِ، وَكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
مَعْصِيَةٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ بُنِيَتْ لِلْكُفْرِ.
وَهَذِهِ الْكُتُبُ مُبَدَّلَةٌ مَنْسُوخَةٌ، وَلِذَلِكَ غَضِبَ النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً
فِيهَا شَيْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ
الْخَطَّابِ؟ أَلَمِ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً؟ لَوْ كَانَ مُوسَى
أَخِي حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» . وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ
مَعْصِيَةٌ مَا غَضِبَ مِنْهُ.
وَالْوَقْفُ عَلَى قَنَادِيلِ الْبِيعَةِ وَفَرْشِهَا وَمَنْ يَخْدِمُهَا
وَيُعَمِّرُهَا، كَالْوَقْفِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ لِتَعْظِيمِهَا.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا
قَالَ أَحْمَدُ فِي نَصَارَى وَقَفُوا عَلَى الْبِيعَةِ ضِيَاعًا
كَثِيرَةً، وَمَاتُوا وَلَهُمْ أَبْنَاءُ نَصَارَى، فَأَسْلَمُوا
وَالضَّيَاعُ بِيَدِ النَّصَارَى: فَلَهُمْ أَخْذُهَا، وَلِلْمُسْلِمِينَ
عَوْنُهُمْ حَتَّى يَسْتَخْرِجُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا لَا
يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، لَا يَصِحُّ مِنْ
الذِّمِّيِّ، كَالْوَقْفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ
قُلْتُمْ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إذَا عَقَدُوا عُقُودًا فَاسِدَةً،
وَتَقَابَضُوا، ثُمَّ أَسْلَمُوا وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا، لَمْ نَنْقُضْ
مَا فَعَلُوهُ، فَكَيْفَ أَجَزْتُمْ الرُّجُوعَ فِيمَا وَقَفُوهُ عَلَى
كَنَائِسِهِمْ؟ قُلْنَا: الْوَقْفُ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ،
وَإِنَّمَا هُوَ إزَالَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَى وَجْهِ
الْقُرْبَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا، لَمْ يَزُلْ الْمِلْكُ،
فَيَبْقَى بِحَالِهِ كَالْعِتْقِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي نَصْرَانِيٍّ
أَشْهَدَ فِي وَصِيَّتِهِ، أَنَّ غُلَامَهُ فُلَانًا يَخْدِمُ الْبِيعَةَ
خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ هُوَ حُرٌّ. ثُمَّ مَاتَ مَوْلَاهُ، وَخَدَمَ
سَنَةً، ثُمَّ أَسْلَمَ، مَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: هُوَ حُرٌّ. وَيَرْجِعُ
عَلَى الْغُلَامِ بِأُجْرَةِ خِدْمَةِ مَبْلَغِ أَرْبَعِ سِنِينَ. وَرُوِيَ
عَنْهُ، قَالَ: هُوَ حُرٌّ سَاعَةَ مَاتَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ
مَعْصِيَةٌ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ وَأَوْفَقُ لِأُصُولِهِ
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخِدْمَتِهِ أَرْبَعَ
سِنِينَ. لَمْ يَكُنْ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، بَلْ لِأَنَّهُ إنَّمَا
أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ يَعْتَقِدَانِ صِحَّتَهُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعِوَضُ
بِإِسْلَامِهِ، كَانَ عَلَيْهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا لَوْ
تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَ؛ فَإِنَّهُ
يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ، كَذَا هَاهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
[فَصْلٌ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ]
(4434) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ،
كَالْعَبْدِ الْقِنِّ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمَيِّتِ،
وَالْحَمْلِ، وَالْمَلَكِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي
مَنْ وَقَفَ عَلَى مَمَالِيكِهِ: لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ حَتَّى
يَعْتِقَهُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى
مَنْ لَا يَمْلِكُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَوَّزْتُمْ الْوَقْفَ عَلَى
الْمَسَاجِدِ وَالسِّقَايَات وَأَشْبَاهِهَا، وَهِيَ لَا تُمْلَكُ
قُلْنَا: الْوَقْفُ هُنَاكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ عُيِّنَ
فِي نَفْعٍ خَاصٍّ لَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ
الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ
الذِّمَّةِ. قُلْنَا: الْجِهَةُ الَّتِي عُيِّنَ صَرْفُ الْوَقْفِ فِيهَا
لَيْسَتْ نَفْعًا،
(6/38)
بَلْ هِيَ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ،
يُزَادُونَ بِهَا عِقَابًا وَإِثْمًا، بِخِلَافِ الْمَسَاجِد. وَلَا
يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُ
بِالتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي تَحْبِيسَ الْأَصْلِ،
وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ مِلْكًا لَازِمًا
وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ؛
لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَلَا عَلَى مُرْتَدٍّ، وَلَا عَلَى
حَرْبِيٍّ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةُ فِي الْأَصْلِ، وَيَجُوزُ
أَخْذُهَا مِنْهُمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ
أَوْلَى، وَالْوَقْفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحَ الْأَخْذِ؛
لِأَنَّهُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ.
[فَصْلٌ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ]
(4435) فَصْلٌ: وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ
يَمْلِكُونَ مِلْكًا مُحْتَرَمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ،
فَجَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ، كَالْمُسْلِمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ
الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ زَوْجَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَتْ عَلَى أَخٍ
لَهَا يَهُودِيٍّ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَقِفَ الذِّمِّيُّ عَلَيْهِ
جَازَ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ كَالْمُسْلِمِ. وَلَوْ وَقَفَ
عَلَى مِنْ يَنْزِلُ كَنَائِسَهُمْ وَبِيعَهُمْ مِنْ الْمَارَّةِ
وَالْمُجْتَازِينَ، صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى
الْمَوْضِعِ.
[فَصْلٌ يَنْظُرُ فِي الْوَقْفِ مَنْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ]
(4436) فَصْلٌ: وَيَنْظُرُ فِي الْوَقْفِ مَنْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ؛
لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ وَقْفَهُ إلَى حَفْصَةَ
تَلِيه مَا عَاشَتْ، ثُمَّ إلَى ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا. وَلِأَنَّ
مَصْرِفَ الْوَقْفِ يُتْبَعُ فِيهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ، فَكَذَلِكَ
النَّاظِرُ فِيهِ. فَإِنْ جَعَلَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ جَازَ، وَإِنْ
جَعَلَهُ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ لِأَحَدٍ،
أَوْ جَعَلَهُ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ نَظَرَ فِيهِ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَنَفْعُهُ لَهُ، فَكَانَ نَظَرَهُ إلَيْهِ كَمِلْكِهِ
الْمُطْلَقِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ الْحَاكِمُ. اخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي
مُوسَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّ
الْمِلْكَ هَلْ يَنْتَقِلُ فِيهِ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى؟ فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
فَالنَّظَرُ فِيهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، عَيْنُهُ وَنَفْعُهُ.
وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلَّهِ. فَالْحَاكِمُ يَنُوبُ فِيهِ، وَيَصْرِفُهُ
إلَى مَصَارِفِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالُ اللَّهِ، فَكَانَ النَّظَرُ فِيهِ إلَى
حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ
وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا، أَوْ
عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَاسْتِيعَابُهُمْ، فَالنَّظَرُ فِيهِ
إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مُتَعَيِّنٌ يَنْظُرُ
فِيهِ. وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يُمْكِنُهُ
تَوَلِّي النَّظَرَ بِنَفْسِهِ. وَمَتَى كَانَ النَّظَرُ لِلْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ، إمَّا بِجَعْلِ الْوَاقِفِ ذَلِكَ لَهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ
بِذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ نَاظِرٍ سِوَاهُ، وَكَانَ وَاحِدًا مُكَلَّفًا
رَشِيدًا، فَهُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، عَدْلًا
كَانَ أَوْ فَاسِقًا؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ
فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، كَالطَّلْقِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُضَمَّ إلَى الْفَاسِقِ أَمِينٌ، حِفْظًا لِأَصْلِ
الْوَقْفِ عَنْ الْبَيْعِ أَوْ التَّضْيِيعِ. وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ
لِجَمَاعَةٍ رَشِيدِينَ، فَالنَّظَرُ
(6/39)
لِلْجَمِيعِ، لِكُلِّ إنْسَانٍ فِي
نَصِيبِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ رَشِيدٍ، إمَّا
لِصِغَرٍ، أَوْ سَفَهٍ، أَوْ جُنُونٍ، قَامَ وَلِيُّهُ فِي النَّظَرِ
مَقَامَهُ، كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَالِهِ الْمُطْلَقِ. وَإِنْ كَانَ
النَّظَرُ لِغَيْرِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ لِبَعْضِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ، بِتَوْلِيَةِ الْوَاقِفِ أَوْ الْحَاكِمِ
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إلَّا أَمِينًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا،
وَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُ مِنْ الْحَاكِمِ، لَمْ تَصِحَّ. وَأُزِيلَتْ
يَدُهُ. وَإِنْ وَلَّاهُ الْوَاقِفُ وَهُوَ فَاسِقٌ، أَوْ وَلَّاهُ وَهُوَ
عَدْلٌ وَصَارَ فَاسِقًا، ضُمَّ إلَيْهِ أَمِينٌ يَنْحَفِظُ بِهِ
الْوَقْفُ، وَلَمْ تَزُلْ يَدُهُ؛ وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ
الْحَقَّيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ، وَأَنَّهُ
يَنْعَزِلُ إذَا فَسَقَ فِي أَثْنَاء وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ
عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ، فَنَافَاهَا الْفِسْقُ، كَمَا لَوْ وَلَّاهُ
الْحَاكِمُ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُ الْوَقْفِ مِنْهُ مَعَ
بَقَاءِ وِلَايَتِهِ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يُمْكِنْ
حِفْظُهُ مِنْهُ أُزِيلَتْ وِلَايَتُهُ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ
الْوَقْفِ أَهَمُّ مِنْ إبْقَاءِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ نَفَقَةُ الْوَقْفِ مِنْ حَيْثُ شَرَطَ الْوَاقِفُ]
(4437) فَصْلٌ: وَنَفَقَةُ الْوَقْفِ مِنْ حَيْثُ شَرَطَ الْوَاقِفُ؛
لِأَنَّهُ لَمَّا اُتُّبِعَ شَرْطُهُ فِي تَسْبِيلِهِ، وَجَبَ اتِّبَاعُ
شَرْطِهِ فِي نَفَقَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَمِنْ غَلَّتِهِ؛ لِأَنَّ
الْوَقْفَ اقْتَضَى تَحْبِيسَ أَصْلِهِ وَتَسْبِيلَ نَفْعِهِ، وَلَا
يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ
ضَرُورَتِهِ. وَإِنْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْحَيَوَانِ الْمَوْقُوفِ،
فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ
وَيَحْتَمِلُ وُجُوبَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، عَلَى
مَا سَلَفَ بَيَانُهُ.
(6/40)
|