المغني
لابن قدامة [كِتَابُ الْجِرَاحِ] [فَصْلٌ تَحْرِيمِ
الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ]
ِ يَعْنِي كِتَابَ الْجِنَايَاتِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالْجِرَاحِ
لِغَلَبَةِ وُقُوعِهَا بِهِ، وَالْجِنَايَةُ: كُلُّ فِعْلِ عُدْوَانٍ عَلَى
نَفْسٍ أَوْ مَالٍ. لَكِنَّهَا فِي الْعُرْفِ مَخْصُوصَةٌ بِمَا يَحْصُلُ
فِيهِ التَّعَدِّي عَلَى الْأَبْدَانِ، وَسَمَّوْا الْجِنَايَاتِ عَلَى
الْأَمْوَالِ غَصْبًا، وَنَهْبًا، وَسَرِقَةً، وَخِيَانَةً، وَإِتْلَافًا.
(6580) فَصْلٌ: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ
بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]
. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا
خَطَأً} [النساء: 92] . وَقَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] . الْآيَةَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ
امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي
رَسُولُ اللَّهِ، إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ الثَّيِّبُ الزَّانِي،
وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ
لِلْجَمَاعَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى عُثْمَانُ، وَعَائِشَةُ، عَنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ، فِي آيٍ
وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذِهِ كَثِيرَةٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي
تَحْرِيمِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ إنْسَانٌ مُتَعَمِّدًا، فَسَقَ، وَأَمْرُهُ
إلَى اللَّهِ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ،
وَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُقْبَلُ. لِلْآيَةِ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ
يَنْسَخْهَا شَيْءٌ. وَلِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَفْظُ الْخَبَرِ،
وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا نَسْخٌ وَلَا تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ خَبَرَ
اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا صِدْقًا.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .
فَجَعَلَهُ دَاخِلًا فِي الْمَشِيئَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] . وَفِي الْحَدِيثِ، عَنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: إنَّ رَجُلًا
قَتَلَ مِائَةَ رَجُلٍ ظُلْمًا، ثُمَّ سَأَلَ: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟
فَدُلَّ عَلَى عَالِمٍ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَك
وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، وَلَكِنْ اُخْرُجْ مِنْ قَرْيَةِ السَّوْءِ، إلَى
الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ، فَاعْبُدْ اللَّهَ فِيهَا.
(8/259)
فَخَرَجَ تَائِبًا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ
فِي الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ
وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مَلَكًا، فَقَالَ:
قِيسُوا مَا بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ،
فَاجْعَلُوهُ مِنْ أَهْلِهَا. فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى الْقَرْيَةِ
الصَّالِحَةِ بِشِبْرٍ، فَجَعَلُوهُ مِنْ أَهْلِهَا» . وَلِأَنَّ
التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِنْ الْكُفْرِ، فَمِنْ الْقَتْلِ أَوْلَى. وَالْآيَةُ
مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، أَوْ عَلَى أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ إنْ
جَازَاهُ، وَلَهُ الْعَفْوُ إذَا شَاءَ. وَقَوْلُهُ: لَا يَدْخُلُهَا
النَّسْخُ. قُلْنَا: لَكِنْ يَدْخُلُهَا التَّخْصِيصُ وَالتَّأْوِيلُ.
[مَسْأَلَةٌ وَالْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ]
(6581) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
(وَالْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ عَمْدٌ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ،
وَخَطَأٌ) أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْقَتْلَ مُنْقَسِمًا إلَى
هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ.
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ،
وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ
الرَّأْي. وَأَنْكَرَ مَالِكٌ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ إلَّا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، فَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ،
فَلَا يُعْمَلُ بِهِ عِنْدَنَا. وَجَعَلَهُ مِنْ قِسْمِ الْعَمْدِ.
وَحُكِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا إنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ
شِبْهَ الْعَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةٌ مِنْ
الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظٍ: " قَتِيلِ خَطَإِ الْعَمْدِ ". وَهَذَا نَصٌّ
يُقَدَّمُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ. وَقَسَّمَهُ أَبُو الْخَطَّابِ أَرْبَعَةَ
أَقْسَامٍ، فَزَادَ قِسْمًا رَابِعًا، وَهُوَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى
الْخَطَإِ، نَحْوَ أَنْ يَنْقَلِبَ نَائِمٌ عَلَى شَخْصٍ فَيَقْتُلَهُ،
أَوْ يَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ عُلْوٍ، وَالْقَتْلُ بِالسَّبَبِ، كَحَفْرِ
الْبِئْرِ وَنَصْبِ السِّكِّينِ، وَقَتْلِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، أُجْرِيَ
مَجْرَى الْخَطَإِ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا. وَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي
ذَكَرَهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ قِسْمِ الْخَطَإِ، فَإِنَّ
صَاحِبَهَا لَمْ يَعْمِدْ الْفِعْلَ، أَوْ عَمَدَهُ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ
أَهْلِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ، فَسَمَّوْهُ خَطَأً، فَأَعْطَوْهُ حُكْمَهُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْخِرَقِيِّ بِذَلِكَ، فَقَالَ فِي الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ: عَمْدُهُمَا خَطَأٌ.
[مَسْأَلَةٌ الْقَتْلُ الْعَمْدُ]
(6582) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَالْعَمْدُ مَا ضَرَبَهُ بِحَدِيدَةٍ، أَوْ
خَشَبَةٍ كَبِيرَةٍ فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ، أَوْ حَجَرٍ كَبِيرٍ
الْغَالِبُ أَنْ يَقْتُلَ مِثْلُهُ، أَوْ أَعَادَ الضَّرْبَ بِخَشَبَةٍ
صَغِيرَةٍ، أَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا الْغَالِبُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ
أَنَّهُ يُتْلِفُ)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمْدَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ
يَضْرِبَهُ بِمُحَدِّدِ، وَهُوَ مَا يَقْطَعُ، وَيَدْخُلُ فِي الْبَدَنِ،
كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَالسِّنَانِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا
يُحَدِّدُ فَيَجْرَحُ، مِنْ الْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ،
وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالزُّجَاجِ، وَالْحَجَرِ، وَالْقَصَبِ،
(8/260)
وَالْخَشَبِ، فَهَذَا كُلُّهُ إذَا جَرَحَ
بِهِ جُرْحًا كَبِيرًا، فَمَاتَ، فَهُوَ قَتْلٌ عَمْدٌ، لَا خِلَافَ فِيهِ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فِيمَا عَلِمْنَاهُ.
فَأَمَّا إنْ جَرَحَهُ جُرْحًا صَغِيرًا، كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ، أَوْ
غَرَزَهُ بِإِبْرَةِ، أَوْ شَوْكَةٍ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلِ،
كَالْعَيْنِ، وَالْفُؤَادِ، وَالْخَاصِرَةِ، وَالصُّدْغِ، وَأَصْلِ
الْأُذُنِ، فَمَاتَ، فَهُوَ عَمْدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِذَلِكَ
فِي الْمَقْتَلِ، كَالْجُرْحِ بِالسِّكِّينِ فِي غَيْرِ الْمَقْتَلِ،
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ؛ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَالَغَ فِي
إدْخَالِهَا فِي الْبَدَنِ، فَهُوَ كَالْجُرْحِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا
يَشْتَدُّ أَلَمُهُ، وَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ، كَالْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ
الْغَوْرُ يَسِيرًا، أَوْ جَرَحَهُ بِالْكَبِيرِ جُرْحًا لَطِيفًا،
كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ فَمَا دُونَهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ بَقِيَ
مِنْ ذَلِكَ ضَمَّنَّا حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْحَالِ، فَفِيهِ
وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا قِصَاصَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ
غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الْعَصَا وَالسَّوْطَ، وَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ
أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ حُصُولَ الْمَوْتِ بِغَيْرِهِ
ظَاهِرًا، كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ كَانَتْ
الْعِلَّةُ كَوْنَهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، لَمْ
يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ مَوْتِهِ فِي الْحَالِ، وَمَوْتِهِ
مُتَرَاخِيًا عَنْهُ، كَسَائِرِ مَا لَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ
وَالثَّانِي، فِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْمُحَدَّدَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ
غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي حُصُولِ الْقَتْلِ بِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَطَعَ
شَحْمَةَ أُذُنِهِ، أَوْ قَطَعَ أُنْمُلَتَهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ
يُمْكِنْ إدَارَةُ الْحُكْمِ، وَضَبْطُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَجَبَ
رَبْطُهُ بِكَوْنِهِ مُحَدَّدًا، وَلَا يُعْتَبَرُ ظُهُورُ الْحِكْمَةِ فِي
آحَادِ صُوَرِ الْمَظِنَّةِ، بَلْ يَكْفِي احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ،
وَلِذَلِكَ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ فِيمَا إذَا بَقِيَ ضِمْنًا، مَعَ أَنَّ
الْعَمْدَ لَا يَخْتَلِفُ مَعَ اتِّحَادِ الْآلَةِ وَالْفِعْلِ، بِسُرْعَةِ
الْإِفْضَاءِ وَإِبْطَائِهِ، وَلِأَنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِلَ خَفِيَّةً،
وَهَذَا لَهُ سِرَايَةٌ وَمَوْرٌ، فَأَشْبَهَ الْجُرْحَ الْكَبِيرَ.
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ
الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةُ،
وَلِلشَّافِعِيِّ، مِنْ التَّفْصِيلِ نَحْوٌ مَا ذَكَرْنَا.
النَّوْعُ الثَّانِي، الْقَتْلُ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ، مِمَّا يَغْلِبُ
عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ الزَّهُوقِ بِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ
فَهَذَا عَمْدٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ،
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو
يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا قَوَدَ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ،
وَطَاوُسٌ: الْعَمْدُ مَا كَانَ بِالسِّلَاحِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَوَدَ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ
قَتَلَهُ بِالنَّارِ. وَعَنْهُ فِي مُثْقَلِ الْحَدِيدِ رِوَايَتَانِ.
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَإِ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا
وَالْحَجَرِ، مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» . فَسَمَّاهُ عَمْدَ الْخَطَإِ،
وَأَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ الْعَمْدَ لَا
يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ ضَبْطُهُ بِمَظِنَّتِهِ، وَلَا
يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، لِحُصُولِ الْعَمْدِ بِدُونِهِ
فِي الْجُرْحِ الصَّغِيرِ، فَوَجَبَ ضَبْطُهُ بِالْجُرْحِ.
(8/261)
وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]
. وَهَذَا مَقْتُولٌ ظُلْمًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . وَرَوَى أَنَسٌ «،
أَنْ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا بِحَجَرٍ،
فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ
حَجَرَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ
بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا يُودِي، وَإِمَّا يُقَادُ» . مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الْمُحَدَّدَ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُثْقَلِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ
ذَكَرَ الْعَصَا وَالسَّوْطَ، وَقَرَنَ بِهِ الْحَجَرَ. فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ أَرَادَ مَا يُشْبِهُهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ.
مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّنَا نُوجِبُ الْقِصَاصَ بِمَا نَتَيَقَّنُ حُصُولَ
الْغَلَبَةِ بِهِ، وَإِذَا شَكَكْنَا، لَمْ نُوجِبْهُ مَعَ الشَّكِّ،
وَصَغِيرُ الْجُرْحِ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ
ضَبْطُهُ بِالْجُرْحِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِالنَّارِ، أَوْ
بِمُثْقَلِ الْحَدِيدِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ
يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا؛ أَحَدُهَا، أَنْ يَضْرِبَهُ بِمُثْقَلٍ كَبِيرٍ،
يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ، كَاللَّتِّ،
وَالسِّنْدَانِ، وَالْمِطْرَقَةِ، أَوْ حَجَرٍ ثَقِيلٍ، أَوْ خَشَبَةٍ
كَبِيرَةٍ، وَحَدَّ الْخِرَقِيِّ الْخَشَبَةَ الْكَبِيرَةَ، بِمَا فَوْقَ
عَمُودِ الْفُسْطَاطِ، يَعْنِي الْعَمْدَ الَّتِي تَتَّخِذُهَا
الْأَعْرَابُ لِبُيُوتِهَا، وَفِيهَا دِقَّةٌ، فَأَمَّا عَمَدُ الْخِيَامِ
فَكَبِيرَةٌ، تَقْتُلُ غَالِبًا، فَلَمْ يُرِدْهَا الْخِرَقِيِّ وَإِنَّمَا
حَدَّ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ بِمَا فَوْقَ عَمُودِ الْفُسْطَاطِ «؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ
عَنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي ضَرَبَتْ جَارِيَتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ
فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ، وَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى
عَاقِلَتِهَا» . وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ الْقَتْلَ بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ لَيْسَ بِعَمْدٍ.
وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ، فَهُوَ عَمْدٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ
غَالِبًا، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ حَائِطًا، أَوْ
صَخْرَةً، أَوْ خَشَبَةً عَظِيمَةً، أَوْ مَا أَشْبَهَ مِمَّا يُهْلِكُهُ
غَالِبًا، فَيُهْلِكَهُ، فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا
النَّوْعُ الثَّانِي، أَنْ يَضْرِبَهُ بِمُثْقَلٍ صَغِيرٍ، كَالْعَصَا،
وَالسَّوْطِ، وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ، أَوْ يَلْكُزَهُ بِيَدَيْهِ فِي
مَقْتَلٍ، أَوْ فِي حَالِ ضَعْفٍ مِنْ الْمَضْرُوبِ؛ لَمَرَضٍ أَوْ صِغَرٍ،
أَوْ فِي زَمَنٍ مُفْرِطِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ، بِحَيْثُ تَقْتُلُهُ
تِلْكَ الضَّرْبَةُ، أَوْ كَرَّرَ الضَّرْبَ حَتَّى قَتَلَهُ بِمَا
يَقْتُلُ غَالِبًا، فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ
مِثْلُهُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ بِمُثْقَلٍ كَبِيرٍ. وَمِنْ هَذَا
النَّوْعِ، لَوْ عَصَرَ خُصْيَتَهُ عَصْرًا شَدِيدًا فَقَتَلَهُ بِعَصْرٍ
يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَإِ، وَفِيهِ
الدِّيَةُ، إلَّا أَنْ يَصْغُرَ جِدًّا، كَالضَّرْبَةِ بِالْقَلَمِ
وَالْإِصْبَعِ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ، وَنَحْوِ هَذَا مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ
الْقَتْلُ بِهِ، فَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ
بِهِ.
(8/262)
وَكَذَلِكَ إنْ مَسَّهُ بِالْكَبِيرِ،
وَلَمْ يَضْرِبْهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَتْلِ،
وَلَيْسَ هَذَا بِقَتْلٍ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمْنَعَ خُرُوجَ نَفَسِهِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ فِي عُنُقِهِ خِرَاطَةً، ثُمَّ يُعَلِّقَهُ فِي
خَشَبَةٍ أَوْ شَيْءٍ، بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنْ الْأَرْضِ، فَيَخْتَنِقُ
وَيَمُوتُ، فَهَذَا عَمْدٌ سَوَاءٌ مَاتَ فِي الْحَالِ، أَوْ بَقِيَ
زَمَنًا، لِأَنَّ هَذَا أَوْحَى أَنْوَاعِ الْحَنَقِ، وَهُوَ الَّذِي
جَرَتْ الْعَادَةُ بِفِعْلِهِ مِنْ الْوُلَاةِ فِي اللُّصُوصِ
وَأَشْبَاهِهِمْ مِنْ الْمُفْسِدِينَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ
يَخْنُقَهُ وَهُوَ عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ، أَوْ مِنْدِيلٍ، أَوْ
حَبْلٍ، أَوْ يُغَمِّهِ بِوِسَادَةٍ، أَوْ شَيْءٍ يَضَعُهُ عَلَى فِيهِ
وَأَنْفِهِ، أَوْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا فَيَمُوتَ، فَهَذَا إنْ
فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ مُدَّةً يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَمَاتَ،
فَهُوَ عَمْدٌ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْد
الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي مُدَّةٍ
لَا يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَمَاتَ، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَإِ،
إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَسِيرًا فِي الْعَادَةِ، بِحَيْثُ لَا
يُتَوَهَّمُ الْمَوْتُ مِنْهُ، فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا؛ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ لَمْسِهِ.
وَإِنْ خَنَقَهُ، وَتَرَكَهُ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ
الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَتِهِ، فَهُوَ
كَالْمَيِّتِ مِنْ سِرَايَةِ الْجُرْحِ، وَإِنْ تَنَفَّسَ وَصَحَّ، ثُمَّ
مَاتَ، فَلَا قَوَدِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْدَمَلَ الْجُرْحُ ثُمَّ مَاتَ
النَّوْعُ الرَّابِعُ: أَنْ يُلْقِيه فِي مَهْلَكَةٍ، وَذَلِكَ عَلَى
أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يُلْقِيَهُ مِنْ شَاهِقٍ كَرَأْسِ
جَبَلٍ، أَوْ حَائِطٍ عَالٍ، يَهْلِكُ بِهِ غَالِبًا، فَيَمُوتَ، فَهُوَ
عَمْدٌ. الثَّانِي: أَنْ يُلْقِيَهُ فِي نَارٍ، أَوْ مَاءٍ يُغْرِقُهُ،
وَلَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، إمَّا لِكَثْرَةِ الْمَاءِ
وَالنَّارِ، وَإِمَّا لِعَجْزِهِ عَنْ التَّخَلُّصِ، لَمَرَضٍ، أَوْ ضَعْفٍ
أَوْ صِغَرٍ، أَوْ كَوْنِهِ مَرْبُوطًا، أَوْ مَنَعَهُ الْخُرُوجَ، أَوْ
كَوْنِهِ فِي حُفْرَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصُّعُودِ مِنْهَا، وَنَحْوُ
هَذَا، أَوْ أَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ ذَاتِ نَفَسٍ، فَمَاتَ بِهِ، عَالِمًا
بِذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ عَمْدٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا. وَإِنْ
أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، فَلَبِثَ
فِيهِ اخْتِيَارًا حَتَّى مَاتَ، فَلَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ
هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ مَوْتُهُ بِلُبْثِهِ
فِيهِ، وَهُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ.
وَإِنْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا،
أَوْ كَوْنِهِ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِأَدْنَى
حَرَكَةٍ؛ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ، فَلَا قَوَدَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا
يَقْتُلُ غَالِبًا، وَهَلْ يَضْمَنُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا
يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ مُهْلِكٌ لِنَفْسِهِ بِإِقَامَتِهِ، فَلَمْ
يَضْمَنْهُ، كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، لَكِنْ يَضْمَنُ مَا
أَصَابَتْ النَّارُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ
بِالْإِلْقَاءِ الْمُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ، وَتَرْكُ التَّخَلُّصِ لَا
يُسْقِطُ الضَّمَانَ، كَمَا لَوْ فَصَدَهُ
(8/263)
فَتَرَك شَدَّ فَصَادِهِ مَعَ إمْكَانِهِ،
أَوْ جَرَحَهُ فَتَرَكَ مُدَاوَاةَ جُرْحِهِ، وَفَارَقَ الْمَاءَ؛
لِأَنَّهُ لَا يَهْلِكُ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ النَّاسُ
لِلْغُسْلِ وَالسِّبَاحَةِ وَالصَّيْدِ، وَأَمَّا النَّارُ فَيَسِيرُهَا
يُهْلِكُ. وَإِنَّمَا تُعْلَمُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّخَلُّصِ بِقَوْلِهِ:
أَنَا قَادِرٌ عَلَى التَّخَلُّصِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا؛ لِأَنَّ النَّارَ
لَهَا حَرَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَرُبَّمَا أَزْعَجَتْهُ حَرَارَتُهَا عَنْ
مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ، أَوْ أَذْهَبَتْ عَقْلَهُ بِأَلَمِهَا
وَرَوْعَتِهَا. وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي لُجَّةٍ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ
مِنْهَا، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، عَلَيْهِ
الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ أَلْقَاهُ فِي مَهْلَكَةٍ فَهَلَكَ، فَأَشْبَهَ مَا
لَوْ غَرِقَ فِيهَا. وَالثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَهْلِكْ بِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ آدَمِيُّ آخَرُ.
وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، فَأَكَلَهُ سَبُعٌ، أَوْ الْتَقَمَهُ
حُوتٌ أَوْ تِمْسَاحٌ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ
لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ
بِفِعْلِهِ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدٍ أَوْ
نَمِرٍ، فِي مَكَان ضَيِّقٍ، كَزُبْيَةِ وَنَحْوِهَا، فَيَقْتُلَهُ،
فَهَذَا عَمْدٌ، فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا فَعَلَ السَّبُعُ بِهِ فِعْلًا
يَقْتُلُ مِثْلُهُ، وَإِنْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا لَوْ فَعَلَهُ الْآدَمِيُّ
لَمْ يَكُنْ عَمْدًا، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّبُعَ
صَارَ آلَةً لِلْآدَمِيِّ، فَكَانَ فِعْلُهُ. كَفِعْلِهِ. وَإِنْ أَلْقَاهُ
مَكْتُوفًا بَيْنَ يَدَيْ الْأَسَدِ، أَوْ النَّمِرِ، فِي فَضَاءٍ،
فَأَكَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ حَيَّةٍ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، فَنَهَشَتْهُ فَقَتَلَتْهُ،
فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي
الصُّورَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَسَدَ
وَالْحَيَّةَ يَهْرُبَانِ مِنْ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ غَيْرُ
مُلْجِئٍ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَكَانَ عَمْدًا
مَحْضًا، كَسَائِرِ الصُّوَرِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمَا يَهْرُبَانِ.
غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْأَسَدَ يَأْخُذُ الْآدَمِيَّ الْمُطْلَقَ،
فَكَيْفَ يَهْرُبُ مِنْ مَكْتُوفٍ أُلْقِيَ إلَيْهِ لِيَأْكُلَهُ،
وَالْحَيَّةُ إنَّمَا تَهْرُبُ فِي مَكَان وَاسِعٍ، أَمَّا إذَا ضَاقَ
الْمَكَانُ، فَالْغَالِبُ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا بِالنَّهْشِ،
عَلَى مَا هُوَ الْعَادَةُ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَنْ أُلْقِيَ
مَكْتُوفًا فِي أَرْضٍ مُسَبَّعَةٍ، أَوْ ذَاتِ حَيَّاتٍ، فَقَتَلَتْهُ،
أَنَّ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ رِوَايَتَيْنِ. وَهَذَا تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ؛
فَإِنَّهُ نَفَى الضَّمَانَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي صُورَةٍ كَانَ الْقَتْلُ
فِيهَا أُغْلَبَ، وَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي صُورَةٍ كَانَ فِيهَا
أَنْدَرَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ هَاهُنَا، وَيَجِبُ
الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا مُتَعَمِّدًا تَلِفَ بِهِ. لَا
يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا.
وَإِنْ أَنْهَشَهُ حَيَّةً أَوْ سَبُعًا فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ
إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا
يَقْتُلُ غَالِبًا، كَثُعْبَانِ الْحِجَازِ، أَوْ سَبُعٍ صَغِيرٍ، فَفِيهِ
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، فِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ لَا
يُعْتَبَرُ فِيهِ غَلَبَةُ حُصُولِ الْقَتْلِ بِهِ، وَهَذَا جُرْحٌ،
وَلِأَنَّ الْحَيَّةَ مِنْ جِنْسِ مَا يَقْتُلُ غَالِبًا.
(8/264)
وَالثَّانِي: هُوَ شِبْهُ عَمْدٍ؛
لِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، أَشْبَهَ الضَّرْبَ بِالْعَصَا
وَالْحَجَرِ. وَإِنْ كَتَّفَهُ وَأَلْقَاهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مُسَبَّعَةٍ
فَأَكَلَهُ سَبُعٌ، أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، فَمَاتَ فَهُوَ شِبْهُ
عَمْدٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. وَلَنَا،
أَنَّهُ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا عَمْدًا،
فَأَفْضَى إلَى هَلَاكِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَمَاتَ.
وَكَذَلِكَ إنْ أَلْقَاهُ مَشْدُودًا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَعْهَدْ وُصُولَ
زِيَادَةِ الْمَاءِ إلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَعْلَمُ
وُصُولِ زِيَادَةِ الْمَاءِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَاتَ بِهَا،
فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، إمَّا
لِكَوْنِهَا تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَعَدَمَهُ، أَوْ لَا تُعْهَدُ أَصْلًا،
فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ.
الضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَكَان، وَيَمْنَعَهُ
الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُدَّةً لَا يَبْقَى فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ،
فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَهَذَا
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالزَّمَانِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِذَا
كَانَ عَطْشَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، مَاتَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ،
وَإِنْ كَانَ رَيَّانَ وَالزَّمَنُ بَارِدٌ أَوْ مُعْتَدِلٌ، لَمْ يَمُتْ
إلَّا فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ فَيُعْتَبَرُ هَذَا فِيهِ. وَإِنْ كَانَ فِي
مُدَّةٍ يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا فَفِيهِ الْقَوَدُ. وَإِنْ كَانَ
لَا يَمُوتُ فِي مِثْلِهَا غَالِبًا، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَإِ. وَإِنْ
شَكَكْنَا فِيهَا، لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّنَا شَكَكْنَا فِي
السَّبَبِ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ، لَا
سِيَّمَا الْقِصَاصُ الَّذِي يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ
النَّوْعُ الْخَامِسُ: أَنْ يَسْقِيَهُ سُمًّا، أَوْ يُطْعِمَهُ شَيْئًا
قَاتِلًا، فَيَمُوتَ بِهِ، فَهُوَ عَمْدٌ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ، إذَا كَانَ
مِثْلُهُ يَقْتُلُ غَالِبًا. وَإِنْ خَلَطَهُ بِطَعَامٍ، وَقَدَّمَهُ
إلَيْهِ، فَأَكَلَهُ أَوْ أَهْدَاهُ إلَيْهِ، أَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامِ
رَجُلٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَأَكَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ؛
لِأَنَّهُ يَقْتُلُ غَالِبًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ
قَوْلَيْهِ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَهُ مُخْتَارًا،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَّمَ إلَيْهِ سِكِّينًا، فَطَعَنَ بِهَا نَفْسَهُ،
وَلِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَوَى «، أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ
اللَّهِ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْتُلْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قَالَ: وَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ وَلَنَا، خَبَرُ الْيَهُودِيَّةِ، فَإِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ
فِيهِ: فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُتِلَتْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد،
وَلِأَنَّ هَذَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَيُتَّخَذُ طَرِيقًا إلَى الْقَتْلِ
كَثِيرًا، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شُرْبِهِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ
مِنْهُ. وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنْ يُقْتَلَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ
يَقْتُلْهَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ فَلَمَّا مَاتَ،
أَرْسَلَ إلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فَسَأَلَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَقَتَلَهَا، فَنَقَلَ أَنَسٌ صَدْرَ
الْقِصَّةِ دُونَ آخِرِهَا.
(8/265)
وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، جَمْعًا
بَيْن الْخَبَرَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ قَتْلَهَا؛ لِكَوْنِهَا مَا
قَصَدَتْ بِشْرَ بْنَ الْبَرَاءِ، إنَّمَا قَصَدَتْ قَتَلَ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَلَّ الْعَمْدُ بِالنِّسْبَةِ
إلَى بِشْرٍ، وَفَارَقَ تَقْدِيمَ السِّكِّينِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقَدَّمُ
إلَى الْإِنْسَانِ لِيَقْتُلَ بِهَا نَفْسَهُ، إنَّمَا تُقَدَّمُ إلَيْهِ
لِيَنْتَفِعَ بِهَا، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَضَرَّتِهَا وَنَفْعِهَا،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُدِّمَ إلَيْهِ السُّمُّ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ.
فَأَمَّا إنْ خَلَطَ السُّمَّ بِطَعَامِ نَفْسِهِ وَتَرَكَهُ فِي
مَنْزِلِهِ، فَدَخَلَ إنْسَانٌ فَأَكَلَهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ
بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا الدَّاخِلُ
قَتَلَ نَفْسَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ بِئْرًا،
فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَوَقَعَ فِيهَا، وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِذَلِكَ قَتْلَ
الْآكِلِ، مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ظَالِمًا يُرِيدُ هُجُومَ دَارِهِ،
فَتَرَكَ السُّمَّ فِي الطَّعَامِ لِيَقْتُلهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَفَرَ
بِئْرًا فِي دَارِهِ لِيَقَعَ فِيهَا اللِّصُّ إذَا دَخَلَ لِيَسْرِقَ
مِنْهَا، وَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ بِإِذْنِهِ، فَأَكَلَ الطَّعَامَ
الْمَسْمُومَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يَضْمَنْهُ لِذَلِكَ. وَإِنْ خَلَطَهُ
بِطَعَامِ رَجُلٍ، أَوْ قَدَّمَ إلَيْهِ طَعَامًا مَسْمُومًا، وَأَخْبَرَهُ
بِسُمِّهِ فَأَكَلَهُ، لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَهُ عَالِمًا
بِحَالِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَّمَ إلَيْهِ سِكِّينًا، فَوَجَأَ بِهَا
نَفْسَهُ. وَإِنْ سَقَى إنْسَانًا سُمًّا، أَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامِهِ،
فَأَكَلَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَكَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ
غَالِبًا، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ. فَإِنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَقْتُلُ
مِثْلُهُ غَالِبًا أَوْ لَا؟ وَثَمَّ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ، عُمِلَ بِهَا.
وَإِنْ قَالَتْ الْبَيِّنَةُ: هُوَ يَقْتُلُ النِّضْوَ الضَّعِيفَ دُونَ
الْقَوِيِّ. أَوْ غَيْرَ هَذَا، عُمِلَ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ
السَّاقِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَلَا يَثْبُتُ
بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِصِفَةِ مَا سَقَى. وَإِنْ ثَبَتَ
أَنَّهُ قَاتِلٌ، فَقَالَ: لَمْ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَاتِلٌ. فَفِيهِ
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ السُّمَّ مِنْ جِنْسِ
مَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَهُ، وَقَالَ: لَمْ
أَعْلَمْ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَاتِلٌ. وَهَذِهِ
شُبْهَةٌ يَسْقُطُ بِهَا الْقَوَدُ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: أَنْ يَقْتُلَهُ بِسِحْرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا،
فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِسِكِّينِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا
يَقْتُلُ غَالِبًا، أَوْ كَانَ مِمَّا يَقْتُلُ وَلَا يَقْتُلُ، فَفِيهِ
الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدُ الْخَطَإِ، فَأَشْبَهَ
ضَرْبَ الْعَصَا
النَّوْعُ السَّابِعُ: أَنْ يَتَسَبَّبَ إلَى قَتْلِهِ بِمَا يَقْتُلُ
غَالِبًا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يُكْرِهَ رَجُلًا
عَلَى قَتْلِ آخَرَ، فَيَقْتُلَهُ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ
وَالْمُكْرَهِ جَمِيعًا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ
الْمُبَاشِرِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
(8/266)
: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ
وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّ الْمُكْرَهَ
آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُكْرِهِ،
وَنَقْلِ فِعْلِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُكْرَهِ، كَمَا لَوْ
رَمَى بِهِ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ. وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ عَلَى
الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ تَقْطَعُ حُكْمَ
السَّبَبِ، كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ، وَالْآمِرِ مَعَ الْقَاتِلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَفِي الْمُكْرَهِ
قَوْلَانِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛
لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ، فَهُوَ كَحَافِرِ
الْبِئْرِ، وَالْمُكْرَهَ مُلْجَأٌ، فَأَشْبَهَ الْمَرْمِيَّ بِهِ عَلَى
إنْسَانٍ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ، أَنَّهُ تَسَبَّبَ
إلَى قَتْلِهِ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ
أَلْسَعَهُ حَيَّةً، أَوْ أَلْقَاهُ عَلَى أَسَدٍ فِي زُبْيَةٍ. وَلَنَا،
عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ، أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا ظُلْمًا
لِاسْتِبْقَاءِ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ فِي الْمَخْمَصَةِ
لِيَأْكُلَهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُكْرَهَ مُلْجَأٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ،
فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الِامْتِنَاعِ، وَلِذَلِكَ أَثِمَ بِقَتْلِهِ،
وَحَرُمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ عِنْد الْإِكْرَاهِ ظَنًّا مِنْهُ
أَنَّ فِي قَتْلِهِ نَجَاةَ نَفْسِهِ، وَخَلَاصَهُ مِنْ شَرِّ الْمُكْرِهِ،
فَأَشْبَهَ الْقَاتِلَ فِي الْمَخْمَصَةِ لِيَأْكُلَهُ. وَإِنْ صَارَ
الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا دِيَةَ عَلَى الْمُكْرَهِ؛
بِنَاءً مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ آلَةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ،
وَإِنَّمَا هُمَا شَرِيكَانِ، يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا،
فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا، كَالشَّرِيكَيْنِ بِالْفِعْلِ، وَكَمَا
يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ
وَالْمُبَاشِرِ، وَالرِّدْءِ وَالْمُبَاشِرِ فِي الْمُحَارَبَةِ. فَعَلَى
هَذَا، إنْ أَحَبَّ الْوَلِيُّ قَتْلَ أَحَدِهِمَا، وَأَخْذَ نِصْفَ
الدِّيَةِ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ الْعَفْوَ عَنْهُ، فَلَهُ ذَلِكَ.
الضَّرْب الثَّانِي: إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ
قَتْلَهُ، فَقُتِلَ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، وَاعْتَرَفَا
بِتَعَمُّدِ الْقَتْلِ ظُلْمًا، وَكَذِبِهِمَا فِي شَهَادَتِهِمَا،
فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ،
فَلَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ. وَلَنَا، مَا رَوَى
الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ
عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ،
فَقَطَعَهُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ
أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا، لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا.
وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ يَدِهِ. وَلِأَنَّهُمَا تَوَصَّلَا إلَى قَتْلِهِ
بِسَبَبٍ يَقْتُلُ غَالِبًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ،
كَالْمُكْرِهِ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ، الْحَاكِمُ إذَا حَكَمَ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ،
عَالِمًا بِذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَقَتَلَهُ، وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ،
(8/267)
وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ
كَالْكَلَامِ فِي الشَّاهِدَيْنِ، وَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي بَاشَرَ
قَتْلَهُ أَقَرَّ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِ الشُّهُودِ، وَتَعَمَّدَ قَتْلَهُ،
فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ. لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنْ أَقَرَّ
الشَّاهِدَانِ وَالْحَاكِمُ وَالْوَلِيُّ جَمِيعًا بِذَلِكَ، فَعَلَى
الْوَلِيِّ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْقَتْلَ عَمْدًا وَعُدْوَانًا،
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى غَيْرِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ
مُتَسَبِّبُونَ، وَالْمُبَاشَرَةُ تُبْطِلُ حُكْمَ السَّبَبِ، كَالدَّافِعِ
مَعَ الْحَافِرِ. وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا لَمْ يُقِرَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَثْبُتْ حُكْمُ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِ ظُلْمًا، فَكَانَ
وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ
وَالْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُتَسَبِّبُونَ. وَإِنْ صَارَ الْأَمْرُ
إلَى الدِّيَةِ، فَهِيَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْحَاكِمِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ تَسَبُّبَهُ أَخَصُّ
مِنْ تَسَبُّبِهِمْ؛ فَإِنَّ حُكْمَهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ شَهَادَتِهِمْ
وَقَتْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُبَاشِرَ مَعَ الْمُتَسَبِّبِ.
وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ الْمُقِرُّ بِالتَّعَمُّدِ لَمْ يُبَاشِرْ
الْقَتْلَ، وَإِنَّمَا وَكَّلَ فِيهِ، نَظَرْت فِي الْوَكِيلِ؛ فَإِنْ
أَقَرَّ بِالْعِلْمِ، وَتَعَمَّدَ الْقَتْلَ ظُلْمًا، فَهُوَ الْقَاتِلُ
وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْقَتْلِ عَمْدًا ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ
إكْرَاهٍ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ بِالْقَتْلِ فِي
غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، فَالْحُكْمُ
مُتَعَلِّقٌ بِالْوَلِيِّ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ الْقَتْلُ الْعَمْدُ فِيهِ الْقَوَدُ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ
الْأَوْلِيَاءُ]
(6583) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَفِيهِ الْقَوَدُ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ
الْأَوْلِيَاءُ، وَكَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا مُسْلِمًا) أَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمْدِ، وَلَا
نَعْلَمُ بَيْنهمْ فِي وُجُوبِهِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ إذَا اجْتَمَعَتْ
شُرُوطُهُ خِلَافًا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ
بِعُمُومِهَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ
جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:
33] . وَقَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}
[البقرة: 178] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
[البقرة: 179] . يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ
يَمْنَعُ مَنْ يُرِيدُ الْقَتْلَ مِنْهُ، شَفَقَةً عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
الْقَتْلِ، فَتَبْقَى الْحَيَاةُ فِي مَنْ أُرِيدَ قَتْلُهُ. وَقِيلَ: إنَّ
الْقَاتِلَ تَنْعَقِدُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَبِيلَةِ
الْمَقْتُولِ، فَيُرِيدُ قَتْلَهُمْ خَوْفًا مِنْهُمْ. وَيُرِيدُونَ
قَتْلَهُ وَقَتْلَ قَبِيلَتِهِ اسْتِيفَاءً، فَفِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ
بِحُكْمِ الشَّرْعِ قَطْعٌ لِسَبَبِ الْهَلَاكِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . الْآيَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ
النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يَفْدِيَ» . مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ: «مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ، أَوْ خَبَلٍ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ
إحْدَى ثَلَاثٍ؛ فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ؛
أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ يَعْفُوَ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ»
(8/268)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ:
«فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ
خِيرَتَيْنِ؛ أَنْ يَأْخُذُوا الدِّيَةَ، أَوْ يَقْتُلُوا» .
وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْعَمْدُ قَوَدٌ، إلَّا أَنْ يَعْفُوَ
وَلِيُّ الْمَقْتُولِ» . وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ قَتَلَ عَامِدًا، فَهُوَ
قَوَدٌ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ:
«مَنْ قَتَلَ عَامِدًا، فَهُوَ قَوَدٌ، وَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ،
فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا
يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» . وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: إذَا
اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأَوْلِيَاءُ. يَعْنِي إذَا كَانَ لِلْمَقْتُولِ
أَوْلِيَاءُ يَسْتَحِقُّونَ الْقِصَاصَ، فَمِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ
اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى طَلَبِهِ، وَلَوْ عَفَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، سَقَطَ
كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَائِبًا، أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، لَمْ
يَكُنْ لِشُرَكَائِهِ الْقِصَاصُ حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ، وَيَخْتَارَ
الْقِصَاصَ، أَوْ يُوَكِّلَ، وَيَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ
وَيَخْتَارَاهُ. وَقَوْلُهُ: إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا مُسْلِمًا.
يَعْنِي مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا
مُسْلِمًا. اُشْتُرِطَ كَوْنُ الْمَقْتُولِ حُرًّا مُسْلِمًا لِتَتَحَقَّقَ
الْمُكَافَأَةُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يُكَافِئُ
الْمُسْلِمَ، وَالْعَبْدَ لَا يُكَافِئُ الْحُرَّ.
[فَصْلٌ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ يُقَادُ بِهِ قَاتِلُهُ]
فَصْلٌ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ
يُقَادُ بِهِ قَاتِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ، مَعْدُومَ
الْحَوَاسِّ، وَالْقَاتِلُ صَحِيحٌ سَوِيُّ الْخَلْقِ، أَوْ كَانَ
بِالْعَكْسِ. وَكَذَلِكَ إنْ تَفَاوَتَا فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ،
وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْقُوَّةِ
وَالضَّعْفِ، وَالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، وَالسُّلْطَانِ وَالسُّوقَةِ،
وَنَحْوِ هَذَا مِنْ الصِّفَاتِ، لَمْ يَمْنَعْ الْقِصَاصَ،
بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُمُومَاتُ الَّتِي
تَلَوْنَاهَا، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» . وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ
التَّسَاوِي فِي الصِّفَات وَالْفَضَائِلِ، يُفْضِي إلَى إسْقَاطِ
الْقِصَاصِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفَوَاتِ حِكْمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ،
فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ، كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ،
وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ.
[فَصْلٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَوْنُ الْقَتْلِ فِي
دَارِ الْإِسْلَامِ]
فَصْلٌ: (6585) وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَوْنُ الْقَتْلِ
فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، بَلْ مَتَى قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا
عَامِدًا عَالِمًا بِإِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، سَوَاءٌ كَانَ
قَدْ هَاجَرَ أَوْ لَمْ يُهَاجِرْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ فِي غَيْرِ دَارِ
الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ هَاجَرَ، لَمْ يَضْمَنْهُ
بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ، عَمْدًا قَتَلَهُ أَوْ خَطَأً، وَإِنْ كَانَ قَدْ
هَاجَرَ، ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، كَرَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ
دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَقَتَلَ
(8/269)
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، ضَمِنَهُ
بِالدِّيَةِ، وَلَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ.
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ كَقَوْلِهِ. وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ
أَسِيرًا مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَمْ يَضْمَنْهُ إلَّا
بِالدِّيَةِ، عَمْدًا قَتَلَهُ أَوْ خَطَأً. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَا مِنْ
الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهُ قَتَلَ مِنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا
ظُلْمًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي دَارِ
الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ دَارٍ يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ إذَا كَانَ
فِيهَا إمَامٌ، يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إمَامٌ، كَدَارِ
الْإِسْلَامِ.
[فَصْلٌ قَتْلُ الْغِيلَةِ]
(6586) فَصْلٌ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ
وَالْعَفْوِ، وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ دُونَ السُّلْطَانِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ:
الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنْ يُقْتَلَ بِهِ، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُ، وَذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ. وَالْغِيلَةُ عِنْدَهُ، أَنْ
يُخْدَعَ الْإِنْسَانُ، فَيُدْخَلَ بَيْتًا أَوْ نَحْوَهُ، فَيُقْتَلَ أَوْ
يُؤْخَذَ مَالُهُ. وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ عُمَرَ، فِي الَّذِي
قُتِلَ غِيلَةً: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَأَقَدْتُهُمْ.
بِهِ وَبِقِيَاسِهِ عَلَى الْمُحَارِبِ.
وَلَنَا، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ» . وَلِأَنَّهُ
قَتِيلٌ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ، فَكَانَ أَمْرُهُ إلَى وَلِيِّهِ،
كَسَائِرِ الْقَتْلَى، وَقَوْلُ عُمَرَ: لَأَقَدْتُهُمْ بِهِ. أَيْ
أَمْكَنْت الْوَلِيَّ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ مِنْهُمْ.
[فَصْلٌ قَتَلَ رَجُلًا، وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ]
(6587) فَصْلٌ: وَإِذَا قَتَلَ رَجُلًا، وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ
امْرَأَتِهِ، أَوْ أَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ أَنَّهُ
دَخَلَ مَنْزِلَهُ يُكَابِرهُ عَلَى مَالِهِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى
دَفْعِهِ إلَّا بِقَتْلِهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ،
وَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ. رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ
الْمُنْذِرِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، وَسَوَاءٌ وُجِدَ فِي دَارِ
الْقَاتِلِ، أَوْ فِي غَيْرِهَا، أَوْ وُجِدَ مَعَهُ سِلَاحٌ، أَوْ لَمْ
يُوجَدْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ
سُئِلَ عَمَّنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ، فَقَالَ: إنْ
لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ. وَلِأَنَّ
الْأَصْلَ عَدَمُ مَا يَدَّعِيه، فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.
وَإِنْ اعْتَرَفَ الْوَلِيُّ بِذَلِكَ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلَا
دِيَةَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ
يَوْمًا يَتَغَدَّى، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ يَعْدُو، وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ
مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، وَوَرَاءَهُ قَوْمٌ يَعْدُونَ خَلْفَهُ، فَجَاءَ
حَتَّى جَلَسَ مَعَ عُمَرَ، فَجَاءَ الْآخَرُونَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ هَذَا قَتَلَ صَاحِبَنَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا
يَقُولُونَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي ضَرَبْت فَخِذِي
امْرَأَتِي، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ فَقَدْ قَتَلْتُهُ. فَقَالَ
عُمَرُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّهُ ضَرَبَ
بِالسَّيْفِ، فَوَقَعَ فِي وَسَطِ الرَّجُلِ وَفَخِذِي الْمَرْأَةِ.
فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ
(8/270)
فَهَزَّهُ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ،
وَقَالَ: إنَّ عَادُوا فَعُدْ. رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ "، وَرُوِيَ
عَنْ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجَيْشِ،
وَمَعَهُ جَارِيَةٌ لَهُ، فَأَتَاهُ رَجُلَانِ فَقَالَا: أَعْطِنَا
شَيْئًا. فَأَلْقَى إلَيْهِمَا طَعَامًا كَانَ مَعَهُ، فَقَالَا: خَلِّ
عَنْ الْجَارِيَةِ. فَضَرَبَهُمَا بِسَيْفِهِ، فَقَطَعَهُمَا بِضَرْبَةٍ
وَاحِدَةٍ. وَلِأَنَّ الْخَصْمَ اعْتَرَفَ بِمَا يُبِيحُ قَتْلَهُ،
فَسَقَطَ حَقُّهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ قِصَاصًا، أَوْ فِي حَدٍّ
يُوجِبُ قَتْلَهُ. وَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، فَكَذَلِكَ.
[مَسْأَلَةٌ قَتَلَ شَبَهِ الْعَمْدِ]
(6588) فَصْلٌ قَالَ: (وَشِبْهُ الْعَمْدِ مَا ضَرَبَهُ بِخَشَبَةٍ
صَغِيرَةٍ، أَوْ حَجَرٍ صَغِيرٍ، أَوْ لَكَزَهُ، أَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا،
الْأَغْلَبُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ، فَلَا
قَوَدَ فِي هَذَا، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ) شِبْهُ الْعَمْدِ
أَحَدُ أَقْسَامِ الْقَتْلِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا
يَقْتُلُ غَالِبًا؛ إمَّا لِقَصْدِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ، أَوْ لِقَصْدِ
التَّأْدِيبِ لَهُ، فَيُسْرِفُ فِيهِ، كَالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ،
وَالْعَصَا، وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ، وَالْوَكْزِ وَالْيَدِ، وَسَائِرِ مَا
لَا يَقْتُلُ غَالِبًا إذَا قَتَلَ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ؛ لِأَنَّهُ
قَصَدَ الضَّرْبَ دُونَ الْقَتْلِ، وَيُسَمَّى عَمْدَ الْخَطَإِ وَخَطَأَ
الْعَمْدِ؛ لِاجْتِمَاعِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِيهِ، فَإِنَّهُ عَمَدَ
الْفِعْلَ، وَأَخْطَأَ فِي الْقَتْلِ، فَهَذَا لَا قَوَدَ فِيهِ.
وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَجَعَلَهُ مَالِكٌ عَمْدًا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ إلَّا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ، فَمَنْ زَادَ قِسْمًا
ثَالِثًا، زَادَ عَلَى النَّصِّ، وَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِفِعْلٍ عَمَدَهُ،
فَكَانَ عَمْدًا، كَمَا لَوْ غَرَزَهُ بِإِبْرَةِ فَقَتَلَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ
الْقَاتِلِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ فِعْلِ
عَمْدٍ، فَكَانَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ. وَلَنَا.
مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ
هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا
فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ
الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَوْجَبَ
دِيَتَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ عَمْدًا،
وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ خَطَإِ الْعَمْدِ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا
وَالْحَجَرِ، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» .
وَفِي لَفْظٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
قَالَ: «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ، مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ،
وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا نَصٌّ،
وَقَوْلُهُ هَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ. قُلْنَا: نَعَمْ، هَذَا ثَبَتَ
بِالسُّنَّةِ، وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ ثَبَتَا بِالْكِتَابِ،
وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ، فَكَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى
الْعَاقِلَةِ، كَقَتْلِ الْخَطَإِ.
[مَسْأَلَةٌ الْقَتْلُ الْخَطَأُ عَلَى ضَرْبَيْنِ]
(6589) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْخَطَأُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَرْمِيَ الصَّيْدَ، أَوْ يَفْعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ،
فَيَئُولَ إلَى إتْلَافِ حُرٍّ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، فَتَكُونَ
الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)
(8/271)
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْخَطَأَ أَنْ
يَفْعَلَ فِعْلًا لَا يُرِيدُ بِهِ إصَابَةَ الْمَقْتُولِ، فَيُصِيبَهُ
وَيَقْتُلَهُ، مِثْلَ أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا أَوْ هَدَفًا، فَيُصِيبَ
إنْسَانًا فَيَقْتُلَهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرَ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ
نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ، أَنْ
يَرْمِيَ الرَّامِي شَيْئًا، فَيُصِيبَ غَيْرَهُ، لَا أَعْلَمُهُمْ
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْن عَبْد الْعَزِيزِ،
وَقَتَادَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ،
وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْخَطَإِ تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ عَلَى
الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ
نَعْلَمُهُ.
وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا}
[النساء: 92] . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لَهُ
عَهْدٌ؛ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا؛
لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ بِهِ الدِّيَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ
قِصَاصًا، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا
عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي عَمْدِ الْخَطَأِ،
فَفِي الْخَطَأِ أَوْلَى.
[فَصْلٌ قَصَدَ فِعْلًا مُحَرَّمًا فَقَتَلَ آدَمِيًّا]
(6590) فَصْلٌ: وَإِنْ قَصَدَ فِعْلًا مُحَرَّمًا، فَقَتَلَ آدَمِيًّا،
مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَ بَهِيمَةٍ، أَوْ آدَمِيًّا مَعْصُومًا،
فَيُصِيبَ غَيْرَهُ، فَيَقْتُلَهُ، فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَقْصِدْ قَتْلَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ، أَنْ يَرْمِيَ الرَّامِي
شَيْئًا، فَيُصِيبَ غَيْرَهُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ،
أَنَّ هَذَا عَمْدٌ؛ لِقَوْلِهِ فِي مَنْ رَمَى نَصْرَانِيًّا، فَلَمْ
يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى أَسْلَمَ، أَنَّهُ عَمْدٌ يَجِبُ بِهِ
الْقِصَاصُ؛ لِكَوْنِهِ قَصَدَ فِعْلًا مُحَرَّمًا، قَتَلَ بِهِ إنْسَانًا.
[مَسْأَلَةٌ وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْقَتْلِ الْخَطَأِ]
(6591) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتُلَ فِي
بِلَادِ الرُّومِ مَنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَيَكُونُ قَدْ أَسْلَمَ،
وَكَتَمَ إسْلَامَهُ، إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى التَّخَلُّصِ إلَى أَرْضِ
الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ،
بِلَا دِيَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:
92] هَذَا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْخَطَإِ، وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ فِي
أَرْضِ الْحَرْبِ مَنْ يَظُنُّهُ كَافِرًا، وَيَكُونُ مُسْلِمًا. وَلَا
خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، لَا يُوجِبُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَقْصِدْ قَتْلَ مُسْلِمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَنَّهُ صَيْدًا فَبَانَ
آدَمِيًّا وَإِلَّا أَنَّ هَذَا لَا تَجِبُ بِهِ دِيَةٌ أَيْضًا، وَلَا
يَجِبُ إلَّا الْكَفَّارَةُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ
قَالَ عَطَاءٌ،
(8/272)
وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ،
وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ
وَالْكَفَّارَةُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَقَالَ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ خَطَإِ الْعَمْدِ، قَتِيلِ
السَّوْطِ وَالْعَصَا، مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» . وَلِأَنَّهُ قَتَلَ
مُسْلِمًا خَطَأً فَوَجَبَتْ دِيَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ
الْإِسْلَامِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
[النساء: 92] . وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَةً، وَتَرْكُهُ ذِكْرَهَا فِي هَذَا
الْقِسْمِ، مَعَ ذِكْرِهَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، ظَاهِرٌ فِي
أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَذِكْرُهُ لِهَذَا قِسْمًا مُفْرَدًا، يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجُّوا
بِهَا، وَيُخَصُّ بِهَا عُمُومُ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ.
[مَسْأَلَةٌ قَتَلَ الْمُسْلِمِ بِكَافِرٍ]
(6592) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ) أَكْثَرُ
أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُوجِبُونَ عَلَى مُسْلِمٍ قِصَاصًا بِقَتْلِ
كَافِرٍ، أَيَّ كَافِرٍ كَانَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ،
وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ،
وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ،
وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي: يُقْتَلُ
الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ خَاصَّةً.
قَالَ أَحْمَدُ: الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ قَالَا: دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ
وَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ
قَتَلَهُ يُقْتَلُ بِهِ. هَذَا عَجَبٌ، يَصِيرُ الْمَجُوسِيُّ مِثْلَ
الْمُسْلِمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا هَذَا الْقَوْلُ، وَاسْتَبْشَعَهُ.
وَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا
يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . وَهُوَ يَقُولُ: يُقْتَلُ بِكَافِرٍ.
فَأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، وَاحْتَجُّوا بِالْعُمُومَاتِ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَبِمَا رَوَى ابْن الْبَيْلَمَانِيِّ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقَادَ
مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» .
وَلِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عِصْمَةً مُؤَبَّدَةً، فَيُقْتَلُ بِهِ قَاتِلُهُ،
كَالْمُسْلِمِ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ
أَدْنَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ
(8/273)
مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»
. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّهُ مَنْقُوصٌ بِالْكُفْرِ، فَلَا
يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ، كَالْمُسْتَأْمَنِ، وَالْعُمُومَاتُ
مَخْصُوصَاتٌ بِحَدِيثِنَا، وَحَدِيثُهُمْ لَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ. قَالَهُ
أَحْمَدُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ. يَرْوِيه ابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ،
وَهُوَ ضَعِيفٌ إذَا أَسْنَدَ، فَكَيْفَ إذَا أَرْسَلَ؟ وَالْمَعْنَى فِي
الْمُسْلِمِ أَنَّهُ مُكَافِئٌ لِلْمُسْلِمِ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ،
فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ، فَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمَاعَةَ فِي
أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقَادُ بِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ. وَعَنْهُ: يُقْتَلُ بِهِ؛ لِمَا سَبَقَ فِي الذِّمِّيِّ. وَلَنَا،
أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَأَشْبَهَ
الْحَرْبِيَّ، مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
[فَصْلٌ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ]
(6593) فَصْلٌ فَإِنْ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ،
أَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ الْجَارِحُ، وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ. فَقَالَ
أَصْحَابُنَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ وُجُوبِهَا
دُونَ حَالِ اسْتِيفَائِهَا، كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ
عَلَيْهِ قَبْلَ إسْلَامِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِإِسْلَامِهِ، كَالدَّيْنِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ؛
لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُقْتَلُ
مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَلَا يُقْتَلُ بِكَافِرٍ،
كَمَا لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا حَالَ قَتْلِهِ، وَلِأَنَّ إسْلَامَهُ لَوْ
قَارَنَ السَّبَبَ، مَنَعَ عَمَلَهُ، فَإِذَا طَرَأَ أَسْقَطَ حُكْمَهُ.
[فَصْلٌ جَرَحَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فَأَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ ثُمَّ مَاتَ
مُسْلِمًا]
(6594) فَصْلٌ وَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ كَافِرًا، فَأَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ،
ثُمَّ مَاتَ مُسْلِمًا بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ
قَاتِلُهُ؛ لِأَنَّ التَّكَافُؤَ مَعْدُومٌ حَالَ الْجِنَايَةِ، وَعَلَيْهِ
دِيَةُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَرْشِ بِحَالَةِ اسْتِقْرَارِ
الْجِنَايَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ وَرِجْلَيْهِ،
فَسَرَى إلَى نَفْسِهِ، دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ اُعْتُبِرَ حَالَ
الْجُرْحِ، وَجَبَ دِيَتَانِ، وَلَوْ قَطَعَ حُرٌّ يَدَ عَبْدٍ، ثُمَّ
عَتَقَ وَمَاتَ، لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ؛ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ حَالَ
الْجِنَايَةِ، وَعَلَى الْجَانِي دِيَةُ حُرٍّ اعْتِبَارًا بِحَالِ
الِاسْتِقْرَارِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ.
وَلِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ، مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، أَوْ نِصْفِ
دِيَةِ حُرٍّ، وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ
كَانَتْ أَقَلَّ، فَهِيَ الَّتِي وُجِدَتْ فِي مِلْكِهِ، فَلَا يَكُونُ
لَهُ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ حَصَلَ بَحْرِيَّته، وَلَا
حَقَّ لَهُ فِيمَا حَصَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ الدِّيَةَ، لَمْ
يَسْتَحِقّ أَكْثَرِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْقِيمَةِ حَصَلَ بِسَبَبٍ
مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ، وَإِعْتَاقُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ
أَحْمَدَ نَصَّ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فِي مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ،
ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ، أَنَّ عَلَى الْجَانِي قِيمَتَهُ لِلسَّيِّدِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْجِنَايَةِ. وَهَذَا
اخْتِيَارُ. أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ.
(8/274)
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَنْ قَطَعَ يَدَ
ذِمِّيٍّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ، ضَمِنَهُ بِدِيَةِ ذِمِّيٍّ، وَلَوْ
قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ وَمَاتَ، فَعَلَى الْجَانِي
قِيمَتُهُ لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ
الْجِنَايَةِ، دُونَ حَالِ السِّرَايَةِ، فَكَذَلِكَ الدِّيَةُ
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ الْجُرْحِ
مَضْمُونَةٌ، فَإِذَا أَتْلَفَتْ حُرًّا مُسْلِمًا، وَجَبَ ضَمَانُهُ
بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ ثَانٍ.
وَقَوْلُ أَحْمَدَ، فِي مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ
لِلسَّيِّدِ. لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ
الزَّائِدِ عَلَى الْقِيمَةِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ لِلْوَرَثَةِ، وَلَمْ
يَذْكُرْهُ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ مُقَدَّرٌ بِمَا تُفْضِي
إلَيْهِ السِّرَايَةُ دُونَ مَا تُتْلِفُهُ الْجِنَايَةُ بِدَلِيلِ أَنَّ
مِنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، فَسَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهِ، لَمْ
يَلْزَمْ الْجَانِيَ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ، وَلَوْ قَطَعَ إصْبَعًا،
فَسَرَى إلَى نَفْسِهِ، لَوَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، فَكَذَلِكَ إذَا
سَرَتْ إلَى نَفْسِ حُرٍّ مُسْلِمٍ، تَجِبُ دِيَتُهُ كَامِلَةً. فَأَمَّا
إنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا، أَوْ حَرْبِيًّا فَسَرَى الْجُرْحُ إلَى نَفْسِهِ،
فَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ السِّرَايَةِ
أَوْ لَمْ يُسْلِمْ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَلَمْ يَضْمَنْ
سِرَايَتَهُ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ بِسِرَايَةِ
الْجُرْحِ]
(6595) فَصْلٌ: وَلَوْ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ، ثُمَّ مَاتَ
بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ، لَمْ يَجِبْ فِي النَّفْسِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ
وَلَا كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا نَفْسُ مُرْتَدٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ وَلَا
مَضْمُونٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ ذِمِّيٍّ فَصَارَ حَرْبِيًّا،
ثُمَّ مَاتَ مِنْ جِرَاحِهِ. وَأَمَّا الْيَدُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا
قِصَاصَ فِيهَا. وَذَكَرِ الْقَاضِي وَجْهًا فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ
فِيهَا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ بِانْقِطَاعِ حُكْمِ
سِرَايَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، أَوْ
جَاءَ آخَرُ فَقَتَلَهُ، وَلِلشَّافِعِي فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ قَوْلَانِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ قَطْعٌ هُوَ قَتْلٌ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْقَتْلُ، فَلَمْ
يَجِبْ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، وَفَارَقَ مَا
قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَصِرْ قَتْلًا. وَهَلْ تَجِبُ
دِيَةُ الطَّرَفِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ فِيهِ؛
لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلٌ لِغَيْرِ مَعْصُومٍ. وَالثَّانِي:
تَجِبُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ حُكْمِ سِرَايَةِ الْجُرْحِ لَا يُسْقِطَ
ضَمَانَهُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَ رَجُلٍ، ثُمَّ قَتَلَهُ آخَرُ.
فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَجِبُ ضَمَانُهُ بِدِيَةِ الْمَقْطُوعِ، أَوْ
بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ دِيَةِ النَّفْسِ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ دِيَةُ الْمَقْطُوعِ، فَلَوْ قَطَعَ
يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَمَاتَ، فَفِيهِ دِيَتَانِ؛
لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَطَعَتْ حُكْمَ السِّرَايَةِ، فَأَشْبَهَ انْقِطَاعَ
حُكْمِهَا بِانْدِمَالِهَا، أَوْ بِقَتْلِ آخَرَ لَهُ. وَالثَّانِي: يَجِبُ
أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ لَمْ يَجِبْ
أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ، فَمَعَ الرِّدَّةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ
قَطْعٌ صَارَ قَتْلًا، فَلَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ، كَمَا لَوْ
لَمْ يَرْتَدَّ، وَفَارَقَ أَصْلَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَمْ
يَصِرْ قَتْلًا؛
(8/275)
وَلِأَنَّ الِانْدِمَالَ وَالْقَتْلَ
مَنَعَ وُجُودَ السِّرَايَةِ، وَالرِّدَّةَ مَنَعَتْ ضَمَانَهَا، وَلَمْ
تَمْنَعْ جَعَلَهَا قَتْلًا. وَلِلشَّافِعِي مِنْ التَّفْصِيلِ نَحْوٌ
مِمَّا قُلْنَا.
[فَصْلٌ قَطَعَ مُسْلِمٌ يَدَ نَصْرَانِيٍّ فَتَمَجَّسَ]
فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ مُسْلِمٌ يَدَ نَصْرَانِيٍّ فَتَمَجَّسَ، وَقُلْنَا:
لَا يُقَرُّ. فَهُوَ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ. وَإِنْ
قُلْنَا: يُقَرُّ عَلَيْهِ. وَجَبَتْ دِيَةُ مَجُوسِيٍّ. وَإِنْ قَطَعَ
يَدَ مَجُوسِيٍّ، فَتَنَصَّرَ، ثُمَّ مَاتَ، وَقُلْنَا: يُقَرُّ. وَجَبَتْ
دِيَةُ نَصْرَانِيٍّ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي،
أَنْ تَجِبَ دِيَةُ نَصْرَانِيٍّ فِي الْأُولَى، وَدِيَةُ مَجُوسِيٍّ فِي
الثَّانِيَةِ، كَقَوْلِهِمْ فِي مَنْ جَنَى عَلَى عَبْدٍ ذِمِّيٍّ
فَأَسْلَمَ وَعَتَقَ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ ضَمِنَهُ بِقِيمَةِ
عَبْدٍ ذِمِّيٍّ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ]
(6597) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ
وَمَاتَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ. وَقَالَ
الْقَاضِي: يَتَوَجَّهُ عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ زَمَنُ الرِّدَّةِ
تَسْرِي فِي مِثْلِهِ الْجِنَايَةُ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ.
وَهَلْ يَجِبُ فِي الطَّرَفِ الَّذِي قُطِعَ فِي إسْلَامِهِ؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ
بِالْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ كُلِّهَا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ جَمِيعُهَا
فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ
جُرْحَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي الْإِسْلَامِ، وَالْآخَرُ: فِي الرِّدَّةِ،
فَمَاتَ مِنْهُمَا.
وَلَنَا، أَنَّهُ مُسْلِمٌ حَالَ الْجِنَايَةِ وَالْمَوْتِ، فَوَجَبَ
الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ، وَاحْتِمَالُ
السِّرَايَةِ حَالَ الرِّدَّةِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ
مَعْلُومَةٍ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ السَّبَبِ الْمَعْلُومِ بِاحْتِمَالِ
الْمَانِعِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ
بِمَرَضٍ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ، أَوْ بِالْجُرْحِ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ
يُؤَثِّرُ فِي الْمَوْتِ، فَأَمَّا الدِّيَةُ، فَتَجِبُ كَامِلَةً،
وَيُحْتَمَلُ وُجُوبُ نِصْفِهَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحٍ مَضْمُونٍ
وَسِرَايَةٍ غَيْرِ مَضْمُونَةٍ، فَوَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ
جَرَحَهُ إنْسَانٌ وَجَرَحَ نَفْسَهُ، فَمَاتَ مِنْهُمَا. فَأَمَّا إنْ
كَانَ زَمَنُ الرِّدَّةِ لَا تَسْرِي فِي مِثْلِهِ الْجِنَايَةُ، فَفِيهِ
الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا قِصَاصَ فِيهِ؛
لِأَنَّهُ انْتَهَى إلَى حَالٍ لَوْ مَاتَ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ.
وَلَنَا، أَنَّهُمَا مُتَكَافِئَانِ حَالَ الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ
وَالْمَوْتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ. وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ
خَطَأً وَجَبْت الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ نَفْسًا
مَعْصُومَةً.
[فَصْلٌ جَرَحَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ ثُمَّ جَرَحَهُ جُرْحًا آخَرَ
ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ]
(6598) فَصْلٌ: وَإِنْ جَرَحَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ، ثُمَّ
جَرَحَهُ جُرْحًا آخَرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ مِنْهُمَا، فَلَا قِصَاصَ
فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحَيْنِ مَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ،
وَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِذَلِكَ. وَسَوَاءٌ تَسَاوَى
الْجُرْحَانِ، أَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا، مِثْلَ إنْ قَطَعَ يَدَيْهِ، وَهُوَ
مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ، فَقَطَعَ رِجْلَهُ، أَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ
الْجُرْحَ فِي الْحَالَيْنِ كَجُرْحِ رَجُلَيْنِ. وَهَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ
فِي الطَّرَفِ الَّذِي قَطَعَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ؟ يَحْتَمِلُ
وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى
(8/276)
مَنْ قَطَعَ طَرَفَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ،
فَارْتَدَّ، وَمَاتَ فِي رِدَّتِهِ. وَلَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ فِي رِدَّتِهِ
أَوَّلًا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَطَعَ طَرَفَهُ الْآخَرَ، وَمَاتَ مِنْهُمَا،
فَالْحُكْمُ فِيهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا.
[فَصْلٌ يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ]
(6599) فَصْلٌ: وَيُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَتَلَ الْيَهُودِيَّ الَّذِي
رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا»
وَلِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ بِمِثْلِهِ فَبِمَنْ فَوْقَهُ أَوْلَى. وَيُقْتَلُ
الذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ أَدْيَانُهُمْ أَوْ
اخْتَلَفَتْ. فَلَوْ قَتَلَ النَّصْرَانِيُّ مَجُوسِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا،
قُتِلَ بِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي النَّصْرَانِيِّ يُقْتَلُ
بِالْمَجُوسِيِّ إذَا قَتَلَهُ، قِيلَ: فَكَيْفَ يُقْتَلُ بِهِ،
وَدِيَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ؟ فَقَالَ: أَذْهَبُ إلَى أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ رَجُلًا بِامْرَأَةٍ. يَعْنِي
أَنَّهُ قَتَلَهُ بِهَا مَعَ اخْتِلَافِ دِيَتِهِمَا، وَلِأَنَّهُمَا
تَكَافَآ فِي الْعِصْمَةِ بِالذِّمَّةِ وَنَقِيصَةِ الْكُفْرِ، فَجَرَى
الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ تَسَاوَى دِينُهُمَا. وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ.
[فَصْل لَا يُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِحَرْبِيٍّ]
(6600) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِحَرْبِيٍّ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ
خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَشْبَهَ
الْخِنْزِيرَ، وَلَا دِيَةَ فِيهِ لِذَلِكَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَلَا يَجِبُ
بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ،
سَوَاءٌ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَجِبُ الْقِصَاصُ
عَلَى الذِّمِّيُّ بِقَتْلِهِ، وَالِدَيْهِ إذَا عَفَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ
لَا وِلَايَةَ فِي قَتْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ الْقِصَاصُ دُونِ
الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ
أَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَضْمَنُهُ الْمُسْلِمُ لَا
يَضْمَنُهُ الذِّمِّيُّ، كَالْحَرْبِيِّ.
[فَصْل قَاتِلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ]
(6601) فَصْلٌ: وَلَيْسَ عَلَى قَاتِلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ قِصَاصٌ
وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَحَكَى بَعْضُهُمْ وَجْهًا، أَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الْقَوَدَ؛ لِأَنَّ
قَتْلَهُ إلَى الْإِمَامِ، فَيَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ
سِوَاهُ، كَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا قَتَلَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقِّهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ مُبَاحُ الدَّمِ، وَقَتْلُهُ مُتَحَتِّمٌ، فَلَمْ
يَضْمَنْ كَالْحَرْبِيِّ، وَيَبْطُلُ مَا قَالَهُ بِالْمُرْتَدِّ،
وَفَارَقَ الْقَاتِلَ، فَإِنَّ قَتْلَهُ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ. وَهُوَ
مُسْتَحَقٌّ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، فَاخْتَصَّ بِمُسْتَحِقِّهِ،
وَهَا هُنَا يَجِبُ قَتْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَشْبَهَ الْمُرْتَدَّ،
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُحَارِبِ الَّذِي تَحَتَّمَ قَتْلُهُ.
[فَصْلٌ يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ]
(6602) فَصْلٌ: وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ،
وَيُقَدَّمُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ
آدَمِيٍّ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ
(8/277)
الْقِصَاصِ، فَلَهُ دِيَةُ الْمَقْتُولِ،
فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ فَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ قُتِلَ
بِالرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ، تَعَلَّقَتْ بِمَالِهِ. وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا
مِنْ أَحَدِهِمَا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِيهِ أَيْضًا. وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ، وَلَا
يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ
بَاقِيَةٌ؛ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ، وَمُطَالَبَتِهِ
بِالْإِسْلَامِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ كَافِرٌ، فَيُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، كَالْأَصْلِيِّ.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ،
فَإِنَّهُ قَدْ زَالَتْ عِصْمَتُهُ وَحُرْمَتُهُ، وَحِلُّ نِكَاحِ
الْمُسْلِمَاتِ، وَشِرَاءُ الْعَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ، وَصِحَّةُ
الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا مُطَالَبَتُهُ بِالْإِسْلَامِ، فَهُوَ
حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ كُفْرِهِ،
وَأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ؛ لِسُوءِ حَالِهِ، فَإِذَا قُتِلَ
بِالذِّمِّيِّ مِثْلُهُ فَمِنْ هُوَ دُونَهُ أَوْلَى.
[فَصْلٌ جَرَحَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا ثُمَّ ارْتَدَّ وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ]
(6603) فَصْلٌ: وَإِنْ جَرَحَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، ثُمَّ ارْتَدَّ وَمَاتَ
الْمَجْرُوحُ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّكَافُؤَ مُشْتَرَطٌ حَالَ
وُجُودِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ قَتَلَ مَنْ يَعْرِفُهُ
ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَعَتَقَ، وَجَبَ
الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا عُدْوَانًا،
فَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ عَلِمَ، وَفَارَقَ مِنْ عَلِمَهُ
حَرْبِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمِدْ إلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ.
[مَسْأَلَةٌ قَتْلُ الْحَرِّ بِالْعَبْدِ]
(6604) فَصْلٌ: (وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ) وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ،
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ؛ لِعُمُومِ الْآيَات
وَالْأَخْبَارِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» . وَلِأَنَّهُ آدَمِيُّ
مَعْصُومٌ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ.
وَلَنَا، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ، -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا
يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ»
. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ
مَعَ التَّسَاوِي فِي السَّلَامَةِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ، كَالْأَبِ مَعَ
ابْنِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ، فَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ
الْحُرُّ، كَالْمُكَاتَبِ إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، وَالْعُمُومَاتُ
مَخْصُوصَاتٌ بِهَذَا، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ لَا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ]
(6605) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ
أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ وَدَاوُد، أَنَّهُ يُقْتَلُ
بِهِ؛ لِمَا رَوَى
(8/278)
قَتَادَةُ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ،
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ
قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ» . رَوَاهُ
سَعِيدٌ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ غَرِيبٌ. مَعَ الْعُمُومَاتِ وَالْمَعْنَى فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا يُقَادُ الْمَمْلُوكُ
مِنْ مَوْلَاهُ، وَالْوَلَدُ مِنْ وَالِدِهِ لَأَقَدْته مِنْك» . رَوَاهُ
النَّسَائِيّ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ رَجُلًا
قَتَلَ عَبْدَهُ، فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَنَفَاهُ عَامًا، وَمَحَا اسْمَهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَالْخَلَّالُ. وَقَالَ أَحْمَدُ:
لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ قِبَلِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ. وَرَوَاهُ
عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ، أَنَّهُمَا قَالَا: مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ، جُلِدَ مِائَةً،
وَحُرِمَ سَهْمُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ، فَلَمْ
يَثْبُتْ. قَالَ أَحْمَدُ: الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ، إنَّمَا
هِيَ صَحِيفَةٌ.
وَقَالَ عَنْهُ أَحْمَدُ: إنَّمَا سَمِعَ الْحَسَنُ مِنْ سَمُرَةَ
ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ، لَيْسَ هَذَا مِنْهَا. وَلِأَنَّ الْحَسَنَ أَفْتَى
بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ.
وَقَالَ: إذَا قَتَلَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ يُضْرَبُ. وَمُخَالَفَتُهُ لَهُ
تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ.
[فَصْلٌ لَا يُقْطَعُ طَرَفٌ بِطَرَفِ الْعَبْدِ]
(6606) فَصْلٌ: وَلَا يُقْطَعُ طَرَفُ الْحُرِّ بِطَرَفِ الْعَبْدِ،
بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ بَيْنهمْ، وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ،
وَيُقْتَلُ بِسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ بِمِثْلِهِ، فَبِمَنْ هُوَ
أَكْمَلُ مِنْهُ أَوْلَى، مَعَ عُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي
ذَلِكَ. وَمَتَى وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْعَبْدِ، فَعَفَا وَلِيُّ
الْجِنَايَةِ إلَى الْمَالِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَتَعَلَّقُ أَرْشُهَا
بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ، فَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ،
كَالْقِصَاصِ. ثُمَّ إنْ شَاءَ سَيِّدُهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى وَلِيِّ
الْجِنَايَةِ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ
إلَيْهِ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ. وَإِنْ قَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ:
بِعْهُ، وَادْفَعْ إلَيَّ ثَمَنَهُ. لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَتَعَلَّق بِذِمَّتِهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ
الَّتِي سَلَّمَهَا، فَبَرِئَ مِنْهَا. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الرَّهْنِ. وَإِنْ امْتَنَعَ
مِنْ تَسْلِيمِهِ، وَاخْتَارَ فِدَاءَهُ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَوْ
أَرْشُ الْجِنَايَةِ جَمِيعًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ لِيَمْلِكَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ، فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ
إتْلَافَهُ، فَكَانَ مِلْكًا لَهُ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ. وَالثَّانِيَةُ،
لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ تَعَلَّقَ بِهِ الْقِصَاصُ، فَلَا
يَمْلِكُهُ بِالْعَفْوِ كَالْحُرِّ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ،
يَتَعَلَّقُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ، كَمَا لَوْ عَفَا عَلَى
مَالٍ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ الَّذِي عَفَا لِأَجْلِهِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ،
فَكَانَ لَهُ عِوَضُهُ، كَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ.
(8/279)
[فَصْلٌ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ]
فَصْلٌ: وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ، فِي قَوْلِ
أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَسَالِمٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ،
وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي
حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ مِنْ شَرْطِ
الْقِصَاصِ تَسَاوِي قِيمَتِهِمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمْ لَمْ
يَجْرِ بَيْنهمْ قِصَاصٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ هَذَا بِمَا إذَا
كَانَتْ قِيمَةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَلَا.
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبِيدِ قِصَاصٌ، فِي نَفْسٍ
وَلَا جُرْحٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَمْوَالٌ. وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] .
وَهَذَا نَصٌّ مِنْ الْكِتَابِ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ
تَفَاوُتَ الْقِيمَةِ كَتَفَاوُتِ الدِّيَةِ وَالْفَضَائِلِ، فَلَا
يَمْنَعُ الْقِصَاصَ كَالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ، وَالذُّكُورِيَّةِ
وَالْأُنُوثِيَّةِ. (6608) فَصْلٌ: وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنهمْ فِيمَا
دُونَ النَّفْسِ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَالِمٌ
وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ،
وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنهمْ
فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ،
وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ مَالٌ، فَلَا
يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهَا، كَالْبَهَائِمِ، وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي
الْأَطْرَافِ مُعْتَبَرٌ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ، بِدَلِيلِ أَنَّا لَا
نَأْخُذُ الصَّحِيحَةَ بِالشَّلَّاءِ، وَلَا كَامِلَةَ الْأَصَابِعِ
بِالنَّاقِصَةِ، وَأَطْرَافُ الْعَبِيدِ لَا تَتَسَاوَى. وَلَنَا، قَوْلُ
اللَّه تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] ، الْآيَةَ،
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَجَرَى بَيْنَ الْعَبِيدِ،
كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ (6609) فَصْلٌ: وَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي
طَرَفِ الْعَبْدِ، وَجَبَ لِلْعَبْدِ، وَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ وَالْعَفْوُ
عَنْهُ.
[فَصْلٌ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ]
(6610) فَصْلٌ: وَلَوْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا، ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ،
قُتِلَ بِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ عَبْدٌ عَبْدًا، ثُمَّ عَتَقَ
الْجَارِحُ، وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ، قُتِلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ
وَجَبَ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعِتْقِ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ التَّكَافُؤَ
مَوْجُودٌ حَالَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ، وَهِيَ السَّبَبُ، فَاكْتُفِيَ
بِهِ. وَلَوْ جَرَحَ حُرٌّ ذِمِّيٌّ عَبْدًا ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ
الْحَرْبِ، فَأُسِرَ وَاسْتُرِقَّ، لَمْ يُقْتَلْ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ
حِينَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ حُرٌّ.
(8/280)
[فَصْلٌ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا عَمْدًا]
(6611) فَصْلٌ: وَإِذَا قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا عَمْدًا، فَسَيِّدُ
الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، فَإِنْ عَفَا إلَى
مَالٍ، تَعَلَّقَ الْمَالُ بِرَقَبَةِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ
بِجِنَايَتِهِ، وَسَيِّدُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِ وَتَسْلِيمِهِ،
فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ، فَدَاهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
قِيمَتِهِ أَوْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَقَلُّ
قِيمَتَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْهُ،
وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ قِيمَةَ الْمَقْتُولِ، فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ
أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْهُ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ سَيِّدَهُ إنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ،
لَزِمَهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ، بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ إذَا
سَلَّمَهُ لِلْبَيْعِ، رُبَّمَا زَادَ فِيهِ مُزَايِدٌ أَكْثَرَ مِنْ
قِيمَتِهِ. فَإِنْ قَتَلَ عَشْرَةُ أَعْبُدٍ عَبْدًا لِرَجُلِ عَمْدًا،
فَعَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ، فَإِنْ اخْتَارَ السَّيِّدُ قَتْلَهُمْ، فَلَهُ
قَتْلُهُمْ، وَإِنْ عَفَا إلَى مَالٍ، تَعَلَّقَتْ قِيمَةُ عَبْدِهِ
بِرِقَابِهِمْ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُهَا، يُبَاعُ مِنْهُ
بِقَدْرِهَا أَوْ يَفْدِيه سَيِّدُهُ، فَإِنْ اخْتَارَ قَتْلَ بَعْضِهِمْ
وَالْعَفْوَ عَنْ الْبَعْضِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ قَتْلَ
جَمِيعِهِمْ وَالْعَفْوَ عَنْ جَمِيعِهِمْ.
وَإِنْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدَيْنِ لَرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَهُ قَتْلُهُ
وَالْعَفْوُ عَنْهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ، سَقَطَ حَقُّهُ، وَإِنْ عَفَا إلَى
مَالٍ، تَعَلَّقَتْ قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ بِرَقَبَتِهِ، فَإِنْ كَانَا
لِرَجُلَيْنِ فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ
مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ الْأَوَّلُ،
قُتِلَ بِالثَّانِي. وَإِنْ قَتَلَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَقْرَعَ
بَيْنَ السَّيِّدَيْنِ، فَأَيُّهُمَا خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، اقْتَصَّ،
وَسَقَطَ حَقُّ الْآخَرِ. وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، أَوْ عَفَا
سَيِّدُ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ عَنْ الْقِصَاصِ إلَى مَالٍ، تَعَلَّقَ
بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلِلثَّانِي أَنْ يَقْتَصَّ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ
الْمَالِ بِالرَّقَبَةِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْقِصَاصِ، كَمَا لَوْ جَنَى
الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ. فَإِنْ قَتَلَهُ الْآخَرُ، سَقَطَ حَقُّ
الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَحَلٌّ يَتَعَلَّقُ
بِهِ، وَإِنْ عَفَا الثَّانِي، تَعَلَّقَتْ قِيمَةُ الْقَتِيلِ الثَّانِي
بِرَقَبَتِهِ أَيْضًا، وَيُبَاعُ فِيهِمَا، وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ عَلَى
قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ، وَلَمْ نُقَدِّمْ الْأَوَّلَ بِالْقِيمَةِ، كَمَا
قَدَّمْنَاهُ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَبَعَّضُ
بَيْنَهُمَا، وَالْقِيمَةُ يُمْكِنُ تَبَعُّضُهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَحَقُّ
الْأَوَّلِ أَسْبَقُ. قُلْنَا: لَا يُرَاعَى السَّبْقُ، كَمَا لَوْ
أَتْلَفَ أَمْوَالًا لَجَمَاعَةٍ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.
فَأَمَّا إنْ قَتَلَ الْعَبْدُ عَبْدًا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ كَانَ لَهُمَا
الْقِصَاصُ وَالْعَفْوُ، فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا، سَقَطَ الْقِصَاصُ،
وَيَنْتَقِلُ حَقُّهُمَا إلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا
يَتَبَعَّضُ. وَإِنْ قَتَلَ عَبْدَيْنِ لَرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَهُ أَنْ
يَقْتَصَّ مِنْهُ لَأَحَدِهِمَا، أَيِّهِمَا كَانَ، وَيَسْقُطُ حَقُّهُ
مِنْ الْآخَرِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ إلَى مَالٍ، وَتَتَعَلَّقُ
قِيمَتُهُمَا جَمِيعًا بِرَقَبَتِهِ.
[فَصْلٌ الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ عَبْدًا]
(6612) فَصْلٌ: وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ،
وَالْمُكَاتَبُ بِهِ، وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ
وَأُمِّ الْوَلَد، وَيُقْتَلُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدٌ، فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ
قَوْله تَعَالَى {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] .
(8/281)
وَقَدْ دَلَّ عَلَى كَوْنِ الْمُكَاتَبِ
عَبْدًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ، مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَسَوَاءٌ كَانَ
الْمُكَاتَبُ قَدْ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ شَيْئًا، أَوْ لَمْ يُؤَدِّ،
وَسَوَاءٌ مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، أَوْ لَمْ يَمْلِكْ، إلَّا إذَا قُلْنَا:
إنَّهُ إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي فَقَدْ صَارَ حُرًّا. فَإِنَّهُ لَا
يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ، فَلَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ.
وَإِنْ أَدَّى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مَالِ الْكِتَابَةِ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ
أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا، وَمِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِحُرِّيَّتِهِ
إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ، أَجَازَ قَتْلَهُ بِهِ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا، لَهُ وَفَاءٌ
وَوَارِثٌ سِوَى مَوْلَاهُ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْجُرْحِ
كَانَ الْمُسْتَحِقُّ الْمَوْلَى، وَحِينَ الْمَوْتِ الْوَارِثَ، وَلَا
يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا لِمَنْ يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي الطَّرَفَيْنِ.
وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] . وَلِأَنَّهُ
لَوْ كَانَ قِنًّا، لَوَجَبَ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا كَانَ
مُكَاتَبًا، كَانَ أَوْلَى، كَمَا لَوْ لَمْ يَخْلُفْ وَارِثًا. وَمَا
ذَكَرُوهُ شَيْءٌ بَنَوْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ، وَلَا نُسَلِّمُهُ.
[مَسْأَلَةٌ قَتَلَ الْكَافِرُ الْعَبْدَ عَمْدًا]
(6613) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَإِذَا قَتَلَ الْكَافِرُ الْعَبْدَ عَمْدًا،
فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَيُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ يَعْنِي الْكَافِرَ
الْحُرَّ، لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا
يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، لِفِقْدَانِ التَّكَافُؤِ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّهُ
لَا يَحُدُّ بِقَذْفِهِ، فَلَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، كَالْأَبِ مَعَ
ابْنِهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَيُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ؛ فَإِنَّ
قَتْلَ الْمُسْلِمِ يَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ
ذِمِّيًّا كَانَ يَسُوقُ حِمَارًا بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ، فَنَخَسَهُ
بِهَا فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَرَادَ إكْرَاهَهَا عَلَى الزِّنَى، فَرُفِعَ
إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ مَا عَلَى هَذَا
صَالَحْنَاهُمْ. فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ. وَرُوِيَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ،
أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ: أَنْ أَلْحِقْ
بِالشُّرُوطِ: مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا، فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ.
وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يُنَافِي الْأَمَانَ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، كَالِاجْتِمَاعِ عَلَى
قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ.
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى؛ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ.
فَعَلَى هَذَا، عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَيُؤَدَّبُ بِمَا يَرَاهُ وَلِيُّ
الْأَمْرِ.
[فَصْل قَتَلَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ حُرًّا كَافِرًا]
(6614) فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ حُرًّا كَافِرًا لَمْ
يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَقْتُلُ الْمُسْلِمَ بِالْكَافِرِ. وَإِنْ
قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّا لَا
نَقْتُلُ نِصْفَ الْحُرِّ بِعَبْدٍ. وَإِنْ قَتَلَهُ حُرٌّ، لَمْ يُقْتَلْ
بِهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الرَّقِيقَ لَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ. وَإِنْ
قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ، قُتِلَ بِهِ؛ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ يَقَعُ بَيْن الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَهُمَا
مُتَسَاوِيَانِ.
(8/282)
[فَصْلٌ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْوُلَاةِ
وَالْعُمَّالِ وَبَيْن رَعِيَّتِهِمْ]
(6615) فَصْلٌ: وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْن الْوُلَاةِ وَالْعُمَّالِ
وَبَيْنَ رَعِيَّتِهِمْ؛ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ؛ وَلِأَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا
خِلَافًا. وَثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ
قَالَ لَرَجُلٍ شَكَا إلَيْهِ عَامِلًا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ ظُلْمًا:
لَئِنْ كُنْت صَادِقًا، لِأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ. وَثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُقِيدُ مِنْ نَفْسِهِ. وَرَوَى أَبُو
دَاوُد، قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي
لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، فَمَنْ
فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَلْيَرْفَعْهُ إلَيَّ، أَقُصُّهُ مِنْهُ. فَقَالَ
عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدَّبَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ،
أَتَقُصُّهُ مِنْهُ؟ قَالَ: أَيْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، أَقُصُّهُ
مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَقَصَّ مِنْ نَفْسِهِ. وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَتَكَافَأُ
دِمَاؤُهُمْ، وَهَذَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا إيلَادٌ،
فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، كَسَائِرِ الرَّعِيَّةِ.
[فَصْل قَتَلَ الْقَاتِلَ غَيْرُ وَلِيِّ الدَّمِ]
(6616) فَصْلٌ: وَإِذَا قَتَلَ الْقَاتِلَ غَيْرُ وَلِيِّ الدَّمِ، فَعَلَى
قَاتِلِهِ الْقِصَاصُ، وَلِوَرَثَةِ الْأَوَّلِ الدِّيَةُ فِي تَرِكَةِ
الْجَانِي الْأَوَّلِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ،
وَمَالِكٌ: يُقْتَلُ قَاتِلُهُ، وَيَبْطُلُ دَمُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ
فَاتَ مَحَلُّهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ.
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي هَاشِمٍ: لَا قَوَدَ عَلَى الثَّانِي؛
لِأَنَّهُ قَتَلَ مُبَاحَ الدَّمِ، فَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ،
كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى
قَاتِلِهِ، أَنَّهُ مَحَلٌّ لَمْ يَتَحَتَّمْ قَتْلُهُ، وَلَمْ يُبَحْ
لِغَيْرِ وَلِيِّ الدَّمِ قَتْلُهُ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، كَمَا
لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَلَنَا، عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي
تَرِكَةِ الْجَانِي الْأَوَّلِ، أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا تَعَذَّرَ وَجَبَتْ
الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ مَاتَ، أَوْ عَفَا بَعْضُ الشُّرَكَاءِ، أَوْ حَدَثَ
مَانِعٌ.
وَفَارَقَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ يَنْتَقِلُ
إلَيْهِ؛ فَإِنْ عَفَا أَوْلِيَاءُ الثَّانِي عَلَى الدِّيَةِ، أَخَذُوهَا
وَدَفَعُوهَا إلَى وَرَثَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ،
ضُمَّ مَا قَبَضُوا مِنْ الدِّيَةِ إلَى سَائِرِ تَرِكَتِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ
أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ مَعَ سَائِرِ أَهْلِ الدُّيُونِ فِي
تَرِكَتِهِ وَدِيَتِهِ، وَإِنْ أَحَالَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ الثَّانِي
وَرَثَةَ الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ بِالدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي،
صَحَّتْ الْحَوَالَةُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَجِبَ دِيَةُ الْقَتِيلِ
الْأَوَّلِ عَلَى قَاتِلِ قَاتِلِهِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ
مَحَلَّ حَقِّ وَرَثَتِهِ، فَكَانَ غَرَامَتُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ
قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِي، وَإِنْ مَاتَ الْقَاتِلُ عَمْدًا، وَجَبْت
الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ. بِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: يَسْقُطُ حَقُّ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ. وَتَوْجِيه
الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
(8/283)
[مَسْأَلَةٌ لَا قِصَاصَ عَلَى صَبِيٍّ
وَلَا مَجْنُونٍ]
(6617) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالطِّفْلُ، وَالزَّائِلُ الْعَقْلِ، لَا
يُقْتَلَانِ بِأَحَدٍ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لَا
قِصَاصَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ زَائِلِ
الْعَقْلِ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ، مِثْلَ النَّائِمِ، وَالْمُغْمَى
عَلَيْهِ، وَنَحْوِهِمَا. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ «-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛
عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ،
وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» . وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ
مُغَلَّظَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَزَائِلِ الْعَقْلِ
كَالْحُدُودِ، وَلِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ، فَهُمْ
كَالْقَاتِلِ خَطَأً.
[فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فِي الْقِصَاصِ]
(6618) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ،
فَقَالَ الْجَانِي: كُنْت صَبِيًّا حَالَ الْجِنَايَةِ. وَقَالَ وَلِيُّ
الْجِنَايَةِ: كُنْت بَالِغًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ
يَمِينِهِ، إذَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ،
وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الْقِصَاصِ. وَإِنْ قَالَ: قَتَلْته وَأَنَا
مَجْنُونٌ. وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ جُنُونَهُ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ حَالُ
جُنُونٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا لِذَلِكَ، إنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ
حَالُ جُنُونٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ
السَّلَامَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ عُرِفَ لَهُ جُنُونٌ، ثُمَّ عُلِمَ زَوَالُهُ
قَبْلَ الْقَتْلِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ لَأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ بِمَا
ادَّعَاهُ، حُكِمَ لَهُ.
وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا، فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ
أَنَّهُ كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: كُنْتَ سَكْرَانَ.
وَقَالَ الْقَاتِلُ: كُنْت مَجْنُونًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ
يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ
ذِمَّتِهِ، وَاجْتِنَابُ الْمُسْلِمِ فِعْلَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ.
[فَصْل قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ]
(6619) فَصْلٌ: فَإِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ، ثُمَّ جُنَّ، لَمْ
يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ
أَوْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ
فِي حَالِ جُنُونِهِ. وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ،
ثُمَّ جُنَّ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَالَ جُنُونِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ
يُقْبَلُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا رَجَعَ.
[فَصْلٌ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى السَّكْرَانِ إذَا قَتَلَ حَالَ سُكْرِهِ]
(6620) فَصْلٌ: وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى السَّكْرَانِ إذَا قَتَلَ حَالَ
سُكْرِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّ وُجُوبَ
الْقِصَاصِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَفِيهِ
رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ؛
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ، أَشْبَهَ
الْمَجْنُونَ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، أَشْبَهَ الصَّبِيَّ
وَالْمَجْنُونَ. وَلَنَا، أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،
أَقَامُوا سُكْرَهُ مُقَامَ قَذْفِهِ، فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ
الْقَاذِفِ، فَلَوْلَا أَنَّ
(8/284)
قَذْفَهُ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ،
لَمَا وَجَبَ الْحَدُّ بِمَظِنَّتِهِ، وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ،
فَالْقِصَاصُ الْمُتَمَحَّضُ حَقُّ آدَمِيٍّ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ
لَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ، لَأَفْضَى إلَى أَنَّ
مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى، شَرِبَ مَا يُسْكِرُهُ،
ثُمَّ يَقْتُلُ وَيَزْنِي وَيَسْرِقُ، وَلَا يَلْزَمُهُ عُقُوبَةٌ وَلَا
مَأْثَمٌ، وَيَصِيرُ عِصْيَانُهُ سَبَبًا لِسُقُوطِ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ عَنْهُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا. وَفَارَقَ هَذَا الطَّلَاقَ،
وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يُمْكِنُ إلْغَاؤُهُ بِخِلَافِ الْقَتْلِ. فَأَمَّا إنْ
شَرِبَ أَوْ أَكَلَ مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ غَيْرَ الْخَمْرِ، عَلَى وَجْهٍ
مُحَرَّمٍ، فَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بِحَيْثُ صَارَ
مَجْنُونًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَزُولُ قَرِيبًا
وَيَعُودُ مِنْ غَيْرِ تَدَاوٍ، فَهُوَ كَالسُّكْرِ، عَلَى مَا فُصِّلَ
فِيهِ.
[مَسْأَلَةٌ لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ فِي الْقِصَاصِ]
(6621) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَإِنْ
سَفَلَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ، وَالْجَدُّ
لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِ وَلَدِهِ، وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ، وَسَوَاءٌ
فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ أَوْ وَلَدُ الْبَنَاتِ. وَمِمَّنْ نُقِلَ
عَنْهُ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ، وَالثَّوْرِيُّ،
وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ:
يُقْتَلُ بِهِ؛ لِظَاهِرِ آيِ الْكِتَابِ، وَالْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ
لِلْقِصَاصِ، وَلِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ مِنْ أَهْلِ الْقِصَاصِ
فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ،
كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَدْ رَوَوْا فِي هَذَا
الْبَابِ أَخْبَارًا. وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ قَتَلَهُ حَذْفًا بِالسَّيْفِ
وَنَحْوِهِ، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَإِنْ ذَبَحَهُ، أَوْ قَتَلَهُ قَتْلًا
لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ عَمَدَ إلَى قَتْلِهِ دُونَ تَأْدِيبِهِ، أُقِيدَ
بِهِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا
يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ» . أَخْرَجَ النَّسَائِيّ حَدِيثَ عُمَرَ،
وَرَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ، وَذَكَرَهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ،
وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحِجَازِ
وَالْعِرَاقِ، مُسْتَفِيضٌ عِنْدَهُمْ، يَسْتَغْنِي بِشُهْرَتِهِ
وَقَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ عَنْ الْإِسْنَادِ فِيهِ، حَتَّى يَكُونَ
الْإِسْنَادُ فِي مِثْلِهِ مَعَ شُهْرَتِهِ تَكَلُّفًا. وَلِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَنْتَ وَمَالُك
لِأَبِيك» . وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَمْلِيكُهُ إيَّاهُ، فَإِذَا
لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَةُ الْمِلْكِيَّةِ، بَقِيَتْ الْإِضَافَةُ شُبْهَةً
فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِأَنَّهُ
سَبَبُ إيجَادِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَسَلَّطَ بِسَبَبِهِ عَلَى
إعْدَامِهِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَخُصُّ الْعُمُومَاتِ، وَيُفَارِقُ الْأَبُ سَائِرَ
النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ قَتَلُوا بِالْحَذْفِ بِالسَّيْفِ، وَجَبَ
عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ، وَالْأَبُ بِخِلَافِهِ. (6622) فَصْلٌ: وَالْجَدُّ
وَإِنْ عَلَا كَالْأَبِ فِي هَذَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ
أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ مُسْقِطِي الْقِصَاصِ عَنْ
الْأَبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيِّ: يُقْتَلُ بِهِ.
(8/285)
وَلَنَا أَنَّهُ وَالِدٌ، فَيَدْخُلُ فِي
عُمُومِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ،
فَاسْتَوَى فِيهِ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، كَالْمَحْرَمِيَّةِ،
وَالْعِتْقِ إذَا مَلَكَهُ، وَالْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ كَالْجَدِّ
مِنْ قِبَلِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْبِنْتِ يُسَمَّى ابْنًا، قَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الْحَسَنِ: إنَّ
ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» .
[مَسْأَلَةٌ الْأُمُّ فِي الْقِصَاصِ كَالْأَبِ]
(6623) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْأُمُّ فِي ذَلِكَ كَالْأَبِ) هَذَا
الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْد مُسْقِطِي
الْقِصَاصِ عَنْ الْأَبِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْأُمِّ فَإِنَّ مُهَنَّا
نَقَلَ عَنْهُ، فِي أُمِّ وَلَدٍ قَتَلَتْ سَيِّدَهَا عَمْدًا: تُقْتَلُ.
قَالَ: مَنْ يَقْتُلُهَا؟ قَالَ: وَلَدُهَا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ
الْقِصَاصِ عَلَى الْأُمِّ بِقَتْلِ وَلَدِهَا. وَخَرَّجَهَا أَبُو بَكْرٍ
عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْأُمَّ تُقْتَلُ بِوَلَدِهَا؛
لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَيْهِ، فَتُقْتَلُ بِهِ، كَالْأَخِ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ» . وَلِأَنَّهَا أَحَدُ
الْوَالِدَيْنِ، فَأَشْبَهْت الْأَبَ، وَلِأَنَّهَا أَوْلَى بِالْبِرِّ،
فَكَانَتْ أَوْلَى بِنَفْيِ الْقِصَاصِ عَنْهَا، وَالْوِلَايَةُ غَيْرُ
مُعْتَبَرَةٍ؛ بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ عَنْ الْأَبِ بِقَتْلِ
الْكَبِيرِ الَّذِي لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، وَعَنْ الْجَدِّ، وَلَا
وِلَايَةَ لَهُ، وَعَنْ الْأَبِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، أَوْ
الرَّقِيقِ. وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَتْ فِي ذَلِكَ كَالْأُمِّ، وَسَوَاءٌ
فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ؛ لِمَا
ذَكَرْنَا فِي الْجَدِّ.
(6624) فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَالِدُ مُسَاوِيًا لِلْوَلَدِ فِي
الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ، أَوْ مُخَالِفًا لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
انْتِفَاءَ الْقِصَاصِ لِشَرَفِ الْأُبُوَّةِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ
حَالٍ، فَلَوْ قَتَلَ الْكَافِرُ وَلَدَهُ الْمُسْلِمَ، أَوْ قَتَلَ
الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْكَافِرَ، أَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ وَلَدَهُ الْحُرَّ،
أَوْ قَتَلَ الْحُرُّ وَلَدَهُ الْعَبْدَ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ لِشَرَفِ
الْأُبُوَّةِ فِيمَا إذَا قَتَلَ وَلَدَهُ، وَانْتِفَاءُ الْمُكَافَأَةِ
فِيمَا إذَا قَتَلَ وَالِدَهُ.
[فَصْلٌ ادَّعَى نَفَرَانِ نَسَبَ صَغِيرٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ ثُمَّ
قَتَلَاهُ قَبْلَ إلْحَاقِهِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا]
(6625) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى نَفَرَانِ نَسَبَ صَغِيرٍ مَجْهُولِ
النَّسَبِ، ثُمَّ قَتَلَاهُ قَبْلَ إلْحَاقِهِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا
قِصَاصَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَوْ ابْنَهُمَا. وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَحَدِهِمَا
ثُمَّ، قَتَلَاهُ، لَمْ يُقْتَلْ أَبُوهُ، وَقُتِلَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ
شَرِيكُ الْأَبِ فِي قَتْلِ ابْنِهِ. وَإِنْ رَجَعَا جَمِيعًا عَنْ
الدَّعْوَى، لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ
لِلْوَلَدِ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا عَنْ إقْرَارِهِمَا بِهِ، كَمَا
لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِحَقِّ سِوَاهُ، أَوْ كَمَا لَوْ ادَّعَاهُ وَاحِدٌ،
فَأُلْحِقَ
(8/286)
بِهِ، ثُمَّ جَحَدَهُ. وَإِنْ رَجَعَ
أَحَدُهُمَا، صَحَّ رُجُوعُهُ، وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ
رُجُوعَهُ لَمْ يُبْطِلْ نَسَبَهُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الَّذِي
لَمْ يَرْجِعْ، وَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ الْأَبَ،
وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَلَوْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ،
وَأَتَتْ بِوَلَدٍ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا، فَقَتَلَاهُ قَبْلَ
إلْحَاقِهِ بِأَحَدِهِمَا، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَفَيَا
نَسَبَهُ، لَمْ يَنْتَفِ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ نَفَاهُ أَحَدُهُمَا، لَمْ
يَنْتَفِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ بِالْفِرَاشِ، فَلَا يَنْتَفِي
إلَّا بِاللَّعَّانِ. وَفَارَقَ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا رَجَعَ عَنْ دَعْوَاهُ، لَحِقَ
الْآخَرَ، وَهَا هُنَا لَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي، أَنَّ ثُبُوتَ
نَسَبِهِ ثَمَّ بِالِاعْتِرَافِ، فَيَسْقُطُ بِالْجَحْدِ، وَهَا هُنَا
يَثْبُتُ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْوَطْءِ، فَلَا يَنْتَفِي بِالْجَحْدِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَمَا قُلْنَا، سَوَاءٌ.
[فَصْل قَتَلَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ صَاحِبَهُ وَلَهُمَا وَلَدٌ]
(6626) فَصْلٌ: وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ صَاحِبَهُ، وَلَهُمَا
وَلَدٌ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ،
لِوَلَدِهِ، وَلَا يَجِبُ لِلْوَلَدِ قِصَاصٌ عَلَى وَالِده؛ لِأَنَّهُ
إذَا لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ لَهُ
بِالْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا
أَوْ أُنْثَى، أَوْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ وَلَدٌ سِوَاهُ، أَوْ مَنْ
يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ
الْقِصَاصُ، لَوَجَبَ لَهُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ وُجُوبُهُ،
وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بَعْضُهُ، سَقَطَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَتَبَعَّضُ. وَصَارَ كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي الْقِصَاصِ
عَنْ نَصِيبِهِ مِنْهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَلَدٌ
مِنْهُمَا، وَجَبَ الْقِصَاصُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛
مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يُقْتَلُ الزَّوْجُ بِامْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ
مَلَكَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الْأَمَةَ. وَلَنَا، عُمُومَاتُ
النَّصِّ، وَلِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ مُتَكَافِئَانِ، يُحَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِقَذْفِ صَاحِبِهِ، فَيُقْتَلُ بِهِ، كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ.
وَقَوْلُهُ: إنَّهُ مَلَكَهَا. غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهَا حُرَّةٌ،
وَإِنَّمَا مَلَكَ مَنْفَعَةَ الِاسْتِمْتَاعِ، فَأَشْبَهَ
الْمُسْتَأْجَرَةَ؛ وَلِهَذَا تَجِبْ دِيَتُهَا عَلَيْهِ، وَيَرِثُهَا
وَرَثَتُهَا، وَلَا يَرِثُ مِنْهَا إلَّا قَدْرَ مِيرَاثِهِ، وَلَوْ
قَتَلَهَا غَيْرُهُ، كَانَ دِيَتُهَا أَوْ الْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهَا،
بِخِلَافِ الْأَمَةِ.
[فَصْلٌ قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ فَوَرِثَهُ ابْنُهُ أَوْ أَحَدًا يَرِثُ
ابْنُهُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مِيرَاثِهِ]
(6627) فَصْلٌ: وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ، فَوَرِثَهُ ابْنُهُ، أَوْ
أَحَدًا يَرِثُ ابْنُهُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مِيرَاثِهِ، لَمْ يَجِبْ
الْقِصَاصُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ قَتَلَ خَالَ ابْنِهِ، فَوَرِثَتْ
أُمُّ ابْنِهِ الْقِصَاصَ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَتْ بِقَتْلِ
الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ، فَوَرِثَهَا ابْنُهُ، سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ
مَا مُنِعَ مُقَارِنًا أُسْقِطَ طَارِئًا، وَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَلَوْ
قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ أَخَا زَوْجِهَا، فَصَارَ الْقِصَاصُ أَوْ جُزْءٌ
مِنْهُ لِابْنِهَا، سَقَطَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ صَارَ إلَيْهِ ابْتِدَاءً،
أَوْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
(8/287)
[فَصْل قَتَلَ أَحَدُ أَبَوَيْ
الْمُكَاتَبِ الْمُكَاتَبَ أَوْ عَبْدًا لَهُ]
(6628) فَصْلٌ: وَإِذَا قَتَلَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْمُكَاتَبِ الْمُكَاتَبَ،
أَوْ عَبْدًا لَهُ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا
يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ قِصَاصٌ.
وَإِنْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَحَدَ أَبَوَيْهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ، لَمْ
يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدِهِ.
[فَصْل ابْنَانِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا أَبَاهُ وَالْآخَرُ أُمَّهُ]
(6629) فَصْلٌ: ابْنَانِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا أَبَاهُ، وَالْآخَرُ أُمَّهُ،
فَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا مَوْجُودَةً حَالَ قَتْلِ
الْأَوَّلِ، فَالْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛
لِأَنَّ الْقَتِيلَ الثَّانِي وَرِثَ جُزْءًا مِنْ دَمِ الْأَوَّلِ،
فَلَمَّا قُتِلَ وَرِثَهُ قَاتِلُ الْأَوَّلِ، فَصَارَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ
دَمِ نَفْسِهِ، فَسَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ، وَوَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ
عَلَى أَخِيهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ، وَرِثَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ
سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ بِحَقٍّ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إلَى الدِّيَةِ،
وَجَبَتْ، وَتَقَاصَّا بِمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا فَضَلَ لِأَحَدِهِمَا
فَهُوَ لَهُ عَلَى أَخِيهِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الزَّوْجِيَّةُ بَيْن
الْأَبَوَيْنِ قَائِمَةً، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقِصَاصُ
لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَ الَّذِي قَتَلَهُ أَخُوهُ وَحْدَهُ دُونَ
قَاتِلِهِ، فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمَا فَقَتَلَ صَاحِبَهُ، فَقَدْ
اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ
أَخَاهُ؛ لِكَوْنِهِ قَتْلًا بِحَقٍّ، فَلَا يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ، إلَّا
أَنْ يَكُونَ لِلْمَقْتُولِ ابْنٌ، أَوْ ابْنُ ابْنٍ يَحْجُبُ الْقَاتِلَ،
فَيَكُونَ لَهُ قَتْلُ عَمِّهِ، وَيَرِثُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ
سِوَاهُ.
وَإِنْ تَشَاحَّا فِي الْمُبْتَدِئِ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ، احْتَمَلَ أَنْ
يُبْدَأَ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ، وَاحْتُمِلَ
أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا تُسَاوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَيَصِيرَا
إلَى الْقُرْعَةِ، وَأَيُّهُمَا قَتَلَ صَاحِبَهُ أَوَّلًا، إمَّا
بِمُبَادَرَةٍ أَوْ قُرْعَةٍ، وَرِثَهُ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، إنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ
مَحْجُوبًا عَنْ مِيرَاثِهِ كُلِّهِ، فَلَوْ وَرِثَ الْقَتِيلُ قُتِلَ
الْآخَرُ. وَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، ثُمَّ قَتَلَ
الْمَعْفُوُّ عَنْهُ الْعَافِيَ، وَرِثَهُ أَيْضًا، وَسَقَطَ عَنْهُ مَا
وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ. وَإِنْ تَعَافَيَا جَمِيعًا عَلَى
الدِّيَةِ، تَقَاصَّا بِمَا اسْتَوَيَا فِيهِ، وَوَجَبَ لِقَاتِلِ الْأُمِّ
الْفَضْلُ عَلَى قَاتِلِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ عَقْلَ الْأُمِّ نِصْفُ عَقْلِ
الْأَبِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَسْقُطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا؛
لِتَسَاوِيهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِ، كَسُقُوطِ الدِّيَتَيْنِ إذَا
تَسَاوَتَا، وَلِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَائِهِمَا مَعًا،
وَاسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ حَيْفٌ، فَلَا يَجُوزُ،
فَتَعَيَّنَ السُّقُوطُ.
وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنٌ يَحْجُبُ عَمَّهُ عَنْ
مِيرَاثِ أَبِيهِ، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَرِثَهُ
ابْنُهُ، ثُمَّ لِابْنِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَرِثُهُ ابْنُهُ،
وَيَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِابْنَيْنِ مَالَ أَبِيهِ وَمَالَ جَدِّهِ
الَّذِي قَتَلَهُ عَمُّهُ دُونَ الَّذِي قَتَلَهُ أَبُوهُ. وَإِنْ كَانَ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنْتٌ، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، سَقَطَ
الْقِصَاصُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَ نِصْفَ مَالِ أَخِيهِ وَنِصْفَ
قِصَاصِ نَفْسِهِ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ، وَوَرِثَ مَالَ أَبِيهِ
الَّذِي قَتَلَهُ أَخُوهُ وَنِصْفَ مَالِ أَخِيهِ
(8/288)
وَنِصْفَ مَالِ أَبِيهِ الَّذِي قَتَلَهُ
هُوَ، وَوَرِثَتْ الْبِنْتُ الَّتِي قُتِلَ أَبُوهَا نِصْفَ مَالِ أَبِيهَا
وَنِصْفَ مَالِ جَدِّهَا الَّذِي قَتَلَهُ عَمُّهَا، وَلَهَا عَلَى
عَمِّهَا نِصْفُ دِيَةِ قَتِيلِهِ.
[فَصْلٌ أَرْبَعَةُ إخْوَةٍ قَتَلَ الْأَوَّلُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ
الرَّابِعَ]
(6630) فَصْلٌ: أَرْبَعَةُ إخْوَةٍ، قَتَلَ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ،
وَالثَّالِثُ الرَّابِعَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا
قَتَلَ الرَّابِعَ، لَمْ يَرِثْهُ، وَوَرِثَهُ الْأَوَّلُ وَحْدَهُ، وَقَدْ
كَانَ لِلرَّابِعِ نِصْفُ قِصَاصِ الْأَوَّلِ، فَرَجَعَ نِصْفُ قِصَاصِهِ
إلَيْهِ، فَسَقَطَ، وَوَجَبَ لِلثَّالِثِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَكَانَ
لِلْأَوَّلِ قَتْلُ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِثْ مِنْ دَمِ نَفْسِهِ
شَيْئًا، فَإِنْ قَتَلَهُ، وَرِثَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَيَرِثُ مَا
يَرِثُهُ عَنْ أَخِيهِ الثَّانِي، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إلَى الدِّيَةِ،
وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِكَمَالِهَا يُقَاصُّهُ بِنِصْفِهَا. وَإِنْ كَانَ
لَهُمَا وَرَثَةٌ، كَانَ فِيهَا مِنْ التَّفْصِيلِ مِثْلُ الَّذِي فِي
الَّتِي قَبْلَهَا.
[مَسْأَلَة يُقْتَلُ الْوَلَدُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِدَيْنِ]
(6631) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَحَكَى
أَصْحَابُنَا عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً ثَانِيَةً، أَنَّ الِابْنَ لَا
يُقْتَلُ بِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ
بِحَقِّ النَّسَبِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ كَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ.
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ؛ لِلْآيَاتِ، وَالْأَخْبَارِ،
وَمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الْأَبَ أَعْظَمُ حُرْمَةً وَحَقًّا
مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِذَا قُتِلَ بِالْأَجْنَبِيِّ، فَبِالْأَبِ
أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، فَيُقْتَلُ بِهِ،
كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ
حُرْمَةَ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ آكَدُ، وَالِابْنُ مُضَافٌ إلَى
أَبِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الْوَالِدِ مَعَ الْوَلَدِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ عَنْ سُرَاقَةَ،
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُقَادُ الْأَبُ مِنْ ابْنِهِ، وَلَا الِابْنُ مِنْ
أَبِيهِ» .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ «كَانَ يُقِيدُ الْأَبَ مِنْ ابْنِهِ، وَلَا يُقِيدُ
الِابْنَ مِنْ أَبِيهِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ؛
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَمْ نَجِدْهُ فِي كُتُبِ
السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا أَظُنُّ لَهُ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ
أَصْلٌ فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ مُتَدَافِعَانِ، يَجِبُ اطِّرَاحُهُمَا،
وَالْعَمَلُ بِالنُّصُوصِ الْوَاضِحَةِ الثَّابِتَةِ، وَالْإِجْمَاعِ
الَّذِي لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ.
[مَسْأَلَةٌ يُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ]
(6632) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ)
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا، فَعَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْقِصَاصُ، إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ
انْفَرَدَ
(8/289)
بِفِعْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ،
وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ،
وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ،
وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي
ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى،
لَا يُقْتَلُونَ بِهِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ. وَهَذَا قَوْلُ
ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَحَبِيبِ بْنِ
أَبِي ثَابِتٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَرَبِيعَةَ، وَدَاوُد وَابْنِ
الْمُنْذِرِ. وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ
سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَيُؤْخَذُ
مِنْ الْبَاقِينَ حِصَصُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ مُكَافِئٌ لَهُ، فَلَا تُسْتَوْفَى أَبْدَالٌ بِمُبَدِّلٍ
وَاحِدٍ، كَمَا لَا تَجِبُ دِيَاتٌ لَمَقْتُولٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] . وَقَالَ:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:
45] . فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْأَوْصَافِ يَمْنَعُ،
بِدَلِيلِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يُؤْخَذُ بِالْعَبْدِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي
الْعَدَدِ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا حُجَّةَ مَعَ مَنْ
أَوْجَبَ قَتْلَ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ.
وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، رَوَى
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَتَلَ
سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا، وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ
عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا. وَعَنْ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَتَلَ ثَلَاثَةً قَتَلُوا رَجُلًا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَتَلَ جَمَاعَةً بِوَاحِدٍ، وَلَمْ
يُعْرَفْ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا،
وَلِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَجِبُ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ، فَوَجَبَتْ
لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ. وَيُفَارِقُ
الدِّيَةَ، فَإِنَّهَا تَتَبَعَّضُ، وَالْقِصَاصُ لَا يَتَبَعَّضُ،
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَوْ سَقَطَ بِالِاشْتِرَاكِ، أَدَّى إلَى
التَّسَارُعِ إلَى الْقَتْلِ بِهِ، فَيُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ حِكْمَةِ
الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ.
(6633) فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى
الْمُشْتَرِكِينَ التَّسَاوِي فِي سَبَبِهِ، فَلَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ
جُرْحًا وَالْآخَرُ مِائَةً، أَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا مُوضِحَةً
وَالْآخَرُ آمَّةً، أَوْ أَحَدُهُمَا جَائِفَةً وَالْآخَرُ غَيْرَ
جَائِفَةٍ، فَمَاتَ، كَانَا سَوَاءً فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ
اعْتِبَارَ التَّسَاوِي يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنْ
الْمُشْتَرِكِينَ، إذْ لَا يَكَادُ جُرْحَانِ يَتَسَاوَيَانِ مِنْ كُلِّ
وَجْهٍ، وَلَوْ احْتَمَلَ التَّسَاوِي لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ
الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ، وَلَا يَكْتَفِي بِاحْتِمَالِ
الْوُجُودِ، بَلْ الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهِ فِي
انْتِفَاءِ الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الْجُرْحَ الْوَاحِدَ يَحْتَمِلُ أَنْ
يَمُوتَ مِنْهُ دُونَ الْمِائَةِ، كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ
الْمُوضِحَةِ دُونَ الْآمَّةِ، وَمِنْ غَيْرِ الْجَائِفَةِ دُونَ
الْجَائِفَةِ، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَ إذَا صَارَتْ نَفْسًا سَقَطَ
اعْتِبَارُهَا، فَكَانَ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ كَحُكْمِ الْوَاحِدِ، أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ كُلَّهَا فَمَاتَ، وَجَبَتْ دِيَةٌ
وَاحِدَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ فَمَاتَ.
(8/290)
[فَصْلٌ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ فِي قَتْلِ
رَجُلٍ فَقَطَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ وَالْآخَرُ رِجْلَهُ وَأَوْضَحَهُ
الثَّالِثُ فَمَاتَ]
(6634) فَصْلٌ: إذَا اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ، فَقَطَعَ
أَحَدُهُمْ يَدَهُ، وَالْآخَرُ رِجْلَهُ، وَأَوْضَحَهُ الثَّالِثُ،
فَمَاتَ، فَلِلْوَلِيِّ قَتْلُ جَمِيعِهِمْ، وَالْعَفْوُ عَنْهُمْ إلَى
الدِّيَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَهَا، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ
عَنْ وَاحِدٍ، فَيَأْخُذَ مِنْهُ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَيَقْتُلَ
الْآخَرَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ اثْنَيْنِ، فَيَأْخُذَ مِنْهُمَا
ثُلُثِي الدِّيَةِ، وَيَقْتُلَ الثَّالِثَ، فَإِنْ بَرَأَتْ جِرَاحَةُ
أَحَدِهِمْ، وَمَاتَ مِنْ الْجُرْحَيْنِ الْآخَرَيْنِ، فَلَهُ أَنْ
يَقْتَصَّ مِنْ الَّذِي بَرَأَ جُرْحُهُ بِمِثْلِ جُرْحِهِ، وَيَقْتُلَ
الْآخَرَيْنِ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا دِيَةً كَامِلَةً، أَوْ يَقْتُلَ
أَحَدَهُمَا وَيَأْخُذَ مِنْ الْآخَرِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَلَهُ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْ الَّذِي بَرَأَ جُرْحُهُ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ دِيَةَ
جُرْحِهِ. فَإِنْ ادَّعَى الْمُوضِحُ أَنَّ جُرْحَهُ بَرَأَ قَبْلَ
مَوْتِهِ، وَكَذَّبَهُ شَرِيكَاهُ، نَظَرْت فِي الْوَلِيِّ، فَإِنْ
صَدَّقَهُ ثَبَتَ حُكْمُ الْبُرْءِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، فَلَا يَمْلِكُ
قَتْلَهُ، وَلَا مُطَالَبَتَهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ
مِنْهُ مُوضِحَهُ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَرْشَهَا، وَلَمْ يُقْبَلْ
قَوْلُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْبُرْءِ فِيهَا،
لَكِنْ إنْ اخْتَارَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ، فَلَا فَائِدَةَ لَهُمَا فِي
إنْكَارِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا، سَوَاءٌ بَرَأَتْ أَوْ
لَمْ تَبْرَأْ.
وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، لَمْ يَلْزَمْهُمَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثَيْهَا.
وَإِنْ كَذَّبَهُ الْوَلِيُّ، حَلَفَ، وَلَهُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ، أَوْ
مُطَالَبَتُهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ
شَرِيكِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثهَا. فَإِنْ شَهِدَ لَهُ شَرِيكَاهُ
بِبُرْئِهَا، لَزِمَهُمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِإِقْرَارِهِمَا
بِوُجُوبِهَا، وَلِلْوَلِيِّ أَخْذُهَا مِنْهُمَا إنْ صَدَّقَهُمَا، وَإِنْ
لَمْ يُصَدِّقْهُمَا، وَعَفَا وَلِيُّ الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ
أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ، إنْ كَانَا قَدْ تَابَا وَعُدِّلَا؛
لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا بِذَلِكَ نَفْعًا،
فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ
مُوضِحَةٍ.
[فَصْل قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ مِنْ الْكُوعِ ثُمَّ قَطَعَهَا آخَرُ مِنْ
الْمَرْفِقِ ثُمَّ مَاتَ]
(6635) فَصْلٌ: إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ مِنْ الْكُوعِ، ثُمَّ قَطَعَهَا
آخَرُ مِنْ الْمَرْفِقِ، ثُمَّ مَاتَ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحَةُ
الْأَوَّلِ بَرَأَتْ قَبْلَ قَطْعِ الثَّانِي، فَالثَّانِي هُوَ الْقَاتِلُ
وَحْدَهُ، وَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوْ الدِّيَةُ كَامِلَةً، إنْ عَفَا عَنْ
قَتْلِهِ، وَلَهُ قَطْعُ يَدِ الْأَوَّلِ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ
لَمْ تَبْرَأْ، فَهُمَا قَاتِلَانِ، وَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي
النَّفْسِ، وَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا. وَبِهَذَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي
وَحْدَهُ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ
الثَّانِي قَطْعُ سِرَايَةٍ، قَطَعَهُ وَمَاتَ بَعْدَ زَوَالِ جِنَايَتِهِ،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْدَمَلَ جُرْحُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ قَطَعَهُ
الثَّانِي عَقِيبَ قَطْعِ الْأَوَّلِ، قُتِلَا جَمِيعًا، وَإِنْ عَاشَ
بَعْدَ قَطْعِ الْأَوَّلِ حَتَّى أَكَلَ وَشَرِبَ، وَمَاتَ عَقِيبَ قَطْعِ
الثَّانِي، فَالثَّانِي هُوَ الْقَاتِلُ وَحْدَهُ، وَإِنْ عَاشَ
بَعْدَهُمَا حَتَّى أَكَلَ وَشَرِبَ، فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا
عَلَى أَيِّهِمَا شَاءُوا وَيَقْتُلُوهُ.
وَلَنَا، أَنَّهُمَا قَطْعَانِ لَوْ مَاتَ بَعْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَحْدَهُ، لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا مَاتَ بَعْدَهُمَا،
وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدَيْنِ، وَلِأَنَّ
الْقَطْعَ الثَّانِيَ لَا يَمْنَعُ جِنَايَتَهُ بَعْدَهُ، فَلَا يَسْقُطُ
حُكْمُ مَا قَبْلَهُ،
(8/291)
كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدَيْنِ، وَلَا
نُسَلِّمُ زَوَالَ جِنَايَتِهِ، وَلَا قَطْعَ سِرَايَته، فَإِنَّ الْأَلَمَ
الْحَاصِلَ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ لَمْ يَزُلْ، وَإِنَّمَا انْضَمَّ
إلَيْهِ الْأَلَمُ الثَّانِي، فَضَعُفَتْ النَّفْسُ عَنْ احْتِمَالِهِمَا،
فَزَهَقَتْ بِهِمَا، فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِمَا. وَيُخَالِفُ
الِانْدِمَالَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ الْأَلَمُ الَّذِي حَصَلَ فِي
الْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ، فَاخْتَلَفَا. فَإِنْ ادَّعَى الْأَوَّلُ أَنَّ
جُرْحَهُ انْدَمَلَ، فَصَدَّقَهُ الْوَلِيُّ، سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ،
وَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ
كَذَّبَهُ شَرِيكُهُ، وَاخْتَارَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ، فَلَا فَائِدَةَ
لَهُ فِي تَكْذِيبِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ وَاجِبٌ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إلَى
الدِّيَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ
مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ.
وَإِنْ كَذَّبَ الْوَلِيُّ الْأَوَّلَ، حَلَفَ، وَكَانَ لَهُ قَتْلُهُ؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا ادَّعَاهُ. وَلَوْ ادَّعَى الثَّانِي
انْدِمَالَ جُرْحِهِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْأَوَّلِ إذَا
ادَّعَى ذَلِكَ.
[مَسْأَلَةٌ قَطَعَ يَدًا جَمَاعَةٌ]
(6636) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَطَعُوا يَدًا، قُطِعَتْ نَظِيرَتُهَا
مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا
اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى
جَمِيعِهِمْ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو
ثَوْرٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا تُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ.
وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ
عَنْهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ.
وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَطْرَافَ لَا تُؤْخَذُ بِطَرَفٍ
وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهَا، بِدَلِيلِ
أَنَّا لَا نَأْخُذُ الصَّحِيحَةَ بِالشَّلَّاءِ، وَلَا كَامِلَةَ
الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَتِهَا، وَلَا أَصْلِيَّةً بِزَائِدَةٍ، وَلَا
زَائِدَةً بِأَصْلِيَّةٍ، وَلَا يَمِينًا بِيَسَارٍ، وَلَا يَسَارًا
بِيَمِينٍ، وَلَا نُسَاوِي بَيْنَ الطَّرَفِ وَالْأَطْرَافِ، فَوَجَبَ
امْتِنَاعُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِي
النَّفْسِ، فَإِنَّنَا نَأْخُذُ الصَّحِيحَ بِالْمَرِيضِ، وَصَحِيحَ
الْأَطْرَافِ بِمَقْطُوعِهَا وَأَشَلَّهَا، وَلِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي
الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ التَّسَاوِي فِي نَفْسِ الْقَطْعِ، بِحَيْثُ
لَوْ قَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ جَانِبٍ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ،
بِخِلَافِ النَّفْسِ، وَلِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ يَقَعُ كَثِيرًا، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ زَجْرًا عَنْهُ، كَيْ لَا
يُتَّخَذَ وَسِيلَةً إلَى كَثْرَةِ الْقَتْلِ، وَالِاشْتِرَاكُ
الْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَا يَقَعُ إلَّا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَلَا
حَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ.
وَلِأَنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ فِي النَّفْسِ
يَحْصُلُ بِهِ الزَّجْرُ عَنْ كُلِّ اشْتِرَاكٍ، أَوْ عَنْ الِاشْتِرَاكِ
الْمُعْتَادِ، وَإِيجَابُهُ عَنْ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الطَّرَفِ، لَا
يَحْصُلُ بِهِ الزَّجْرُ عَنْ الِاشْتِرَاكِ الْمُعْتَادِ، وَلَا عَنْ
شَيْءٍ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، إلَّا عَلَى صُورَةٍ نَادِرَةِ الْوُقُوعِ
بَعِيدَةِ الْوُجُودِ، يُحْتَاجُ فِي وُجُودِهَا إلَى تَكَلُّفٍ،
فَإِيجَابُ الْقِصَاصِ لِلزَّجْرِ عَنْهَا يَكُونُ مَنْعًا لَشَيْءٍ
مُمْتَنِعٍ بِنَفْسِهِ لِصُعُوبَتِهِ، وَإِطْلَاقًا فِي الْقَطْعِ
السَّهْلِ الْمُعْتَادِ بِنَفْيِ الْقِصَاصِ عَنْ فَاعِلِهِ، وَهَذَا لَا
فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ الِاشْتِرَاكِ فِي النَّفْسِ، يُحَقِّقُهُ
أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِوَاحِدٍ فِي النَّفْسِ
وَالطَّرَفِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِكَوْنِهِ يَأْخُذُ
(8/292)
فِي الِاسْتِيفَاءِ زِيَادَةً عَلَى مَا
فَوَّتَ عَلَيْهِ، وَيُخِلُّ بِالتَّمَاثُلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى النَّهْيِ
عَمَّا عَدَاهُ، وَإِنَّمَا خُولِفَ هَذَا الْأَصْلُ فِي الْأَنْفُسِ،
زَجْرًا عَنْ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي يَقَعُ الْقَتْلُ بِهِ غَالِبًا،
فَفِيمَا عَدَاهُ يَجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ
النَّفْسَ أَشْرَفُ مِنْ الطَّرَفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُحَافَظَةِ
عَلَيْهَا بِأَخْذِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا
دُونَهَا بِذَلِكَ.
وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ، - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ، فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ
جَاءَا بِآخَرَ، فَقَالَا: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي
الْأَوَّلِ. فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي، وَغَرَّمَهُمَا
دِيَةَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا،
لَقَطَعْتُكُمَا. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لَوْ تَعَمَّدَا قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ. وَلِأَنَّهُ أَحَدُ
نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالْأَنْفُسِ،
وَأَمَّا اعْتِبَارُ التَّسَاوِي، فَمِثْلُهُ فِي الْأَنْفُسِ، فَإِنَّنَا
نَعْتَبِرُ التَّسَاوِي فِيهَا، فَلَا نَأْخُذُ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، وَلَا
حُرًّا بِعَبْدٍ، وَأَمَّا أَخْذُ صَحِيحِ الْأَطْرَافِ بِمَقْطُوعِهَا،
فَلِأَنَّ الطَّرَفَ لَيْسَ هُوَ مِنْ النَّفْسِ الْمُقْتَصِّ مِنْهَا،
وَإِنَّمَا يَفُوتُ تَبَعًا؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ دِيَتُهُمَا وَاحِدَةً،
بِخِلَافِ الْيَدِ النَّاقِصَةِ وَالشَّلَّاءِ مَعَ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ
دِيَتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ التَّسَاوِي فِي الْفِعْلِ، فَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ فِي
الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهَا بِالْقَطْعِ، فَإِذَا قَطَعَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جَانِبٍ، كَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا عَنْ فِعْلِ صَاحِبِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى
إنْسَانٍ قَطْعُ مَحَلٍّ لَمْ يَقْطَعْ مِثْلَهُ، وَأَمَّا النَّفْسُ،
فَلَا يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا أَفْعَالُهُمْ فِي
الْبَدَنِ، فَيُفْضِي أَلَمُهُ إلَيْهَا فَتَزْهَقُ، وَلَا يَتَمَيَّزُ
أَلَمُ فِعْلِ أَحَدِهِمَا مِنْ أَلَمِ فِعْلِ الْآخَرِ، فَكَانَا
كَالْقَاطِعَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَوْفِي مِنْ
الطَّرَفِ إلَّا فِي الْمَفْصِلِ الَّذِي قَطَعَ الْجَانِي مِنْهُ، وَلَا
يَجُوزُ تَجَاوُزُهُ، وَفِي النَّفْسِ لَوْ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ فِي بَطْنِهِ
أَوْ جَنْبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ الْعُنُقِ
دُونَ الْمَحَلِّ الَّذِي وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ فِيهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ
فِي الطَّرَفِ، إذَا اشْتَرَكُوا فِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ
فِعْلُ أَحَدِهِمْ عَنْ فِعْلِ الْآخَرِ؛ إمَّا بِأَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ
بِمَا يُوجِبُ قَطْعَهُ، فَيُقْطَعُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَنْ الشَّهَادَةِ،
أَوْ يُكْرِهُوا إنْسَانًا عَلَى قَطْعِ طَرَفٍ، فَيَجِبُ قَطْعُ
الْمُكْرِهِينَ كُلِّهِمْ وَالْمُكْرَهُ، أَوْ يُلْقُوا صَخْرَةً عَلَى
طَرَفِ إنْسَانٍ، فَيَقْطَعُهُ، أَوْ يَقْطَعُوا يَدًا يَقْلَعُوا عَيْنًا،
بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ يَضَعُوا حَدِيدَةً عَلَى مَفْصِلٍ،
وَيَتَحَامَلُوا عَلَيْهَا جَمِيعًا، أَوْ يَمُدُّوهَا، فَتَبِينُ، فَإِنْ
قَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَانِبٍ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمْ
بَعْضَ الْمَفْصِلِ، وَأَتَمَّهُ غَيْرُهُ أَوْ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ
ضَرْبَةً، أَوْ وَضَعُوا مِنْشَارًا عَلَى مَفْصِلِهِ، ثُمَّ مَدَّهُ كُلُّ
وَاحِدٍ إلَيْهِ مَرَّةً حَتَّى بَانَتْ الْيَدُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَقْطَعْ الْيَدَ، وَلَمْ يُشَارِكْ
فِي قَطْعِ جَمِيعِهَا، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُمْكِنُ
الِاقْتِصَاصُ بِمُفْرَدِهِ، اُقْتُصَّ مِنْهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ.
[مَسْأَلَةٌ قَتَلَ الْأَبُ وَغَيْرُهُ عَمْدًا]
(6637) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ الْأَبُ وَغَيْرُهُ عَمْدًا.
قُتِلَ مَنْ سِوَى الْأَبِ)
(8/293)
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، لَا قِصَاصَ عَلَى
وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ
تَرَكَّبَ مِنْ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ، فَلَمْ يُوجِبْ، كَقَتْلِ
الْعَامِدِ وَالْخَاطِئِ، وَالصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ، وَالْمَجْنُونِ
وَالْعَاقِلِ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَارَكَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ
الْعُدْوَانِ فِيمَنْ يُقْتَلُ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ، فَوَجَبَ
عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ
فِعْلَ الْأَبِ غَيْرُ مُوجِبٍ؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ
لِكَوْنِهِ تَمَحَّضَ عَمْدًا عُدْوَانًا، وَالْجِنَايَةُ بِهِ أَعْظَمُ
إثْمًا، وَأَكْثَرُ جُرْمًا؛ وَلِذَلِكَ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِالنَّهْيِ عَنْهُ، فَقَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الأنعام:
151] . ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:
31] . وَلَمَّا «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَنْ أَعْظَمِ الذَّنْبِ، قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ
خَلَقَك، ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك» .
فَجَعَلَهُ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ بَعْدَ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّهُ قَطَعَ
الرَّحِمَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِلَتِهَا، وَوَضَعَ
الْإِسَاءَةَ مَوْضِعَ الْإِحْسَانِ، فَهُوَ أَوْلَى بِإِيجَابِ
الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْوُجُوبُ فِي
حَقِّ الْأَبِ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِالْمَحَلِّ، لَا لِقُصُورٍ فِي
السَّبَبِ الْمُوجِبِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَمَلُهُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي
لَا مَانِعَ فِيهِ، وَأَمَّا شَرِيكُ الْخَاطِئِ، فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ،
وَمَعَ التَّسْلِيمِ فَامْتِنَاعُ الْوُجُوبِ فِيهِ لِقُصُورِ السَّبَبِ
عَنْ الْإِيجَابِ، فَإِنَّ فِعْلَ الْخَاطِئِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ،
وَلَا صَالِحٍ لَهُ وَالْقَتْلُ مِنْهُ وَمِنْ شَرِيكِهِ غَيْرُ
مُتَمَحِّضٍ عَمْدًا؛ لِوُقُوعِ الْخَطَأِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي حَصَلَ
بِهِ زَهُوقُ النَّفْسِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
[فَصْلٌ كُلُّ شَرِيكَيْنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا
لِمَعْنًى فِيهِ]
(6638) فَصْلٌ: وَكُلُّ شَرِيكَيْنِ امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي حَقِّ
أَحَدِهِمَا، لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ فِي السَّبَبِ فَهُوَ
فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِهِ كَالْأَبِ وَشَرِيكِهِ، مِثْلَ
أَنْ يَشْتَرِكَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ فِي قَتْلِ عَبْدٍ، عَمْدًا
عُدْوَانًا، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْحُرِّ،
وَيَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْعَبْدِ، إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهِ عَلَى
شَرِيكِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ عَنْ الْمُسْلِمِ
لِإِسْلَامِهِ، وَعَنْ الْحُرِّ لِحُرِّيَّتِهِ، وَانْتِقَاءِ مُكَافَأَةِ
الْمَقْتُولِ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَعَدَّى إلَى فِعْلِهِ،
وَلَا إلَى شَرِيكِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ عَنْهُ. وَقَدْ نَقَلَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: سَأَلْت أَبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
عَنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ قَتَلَا عَبْدًا عَمْدًا، قَالَ: أَمَّا الْحُرُّ
فَلَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَعَلَى الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ
فِي مَالِهِ، وَالْعَبْدُ إنْ شَاءَ سَيِّدُهُ أَسْلَمَهُ، وَإِلَّا
فَدَاهُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ
عَلَى الْعَبْدِ، فَيُخَرَّجُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ قَتْلٍ شَارَكَ
فِيهِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.
(8/294)
[مَسْأَلَة اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ
صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَبَالِغٌ]
(6639) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ صَبِيٌّ
وَمَجْنُونٌ وَبَالِغٌ، لَمْ يُقْتَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَعَلَى
الْعَاقِلِ ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَعِتْقُ رَقَبَتَيْنِ
فِي أَمْوَالِهِمَا؛ لِأَنَّ عَمْدَهُمَا خَطَأٌ) أَمَّا إذَا شَارَكُوا
فِي الْقَتْلِ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ؛
كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا
قِصَاصَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ،
وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ.
وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْقَوَدَ يَجِبُ عَلَى
الْبَالِغِ الْعَاقِلِ. حَكَاهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ،
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَحَمَّادٍ؛ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءً لِفِعْلِهِ، فَمَتَى كَانَ
فِعْلُهُ عَمْدًا عُدْوَانًا، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَلَا نَنْظُرُ
إلَى فِعْلِ شَرِيكِهِ بِحَالٍ، وَلِأَنَّهُ شَارَكَ فِي الْقَتْلِ عَمْدًا
عُدْوَانًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْأَجْنَبِيِّ،
وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُؤْخَذُ بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ
غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا، يُعْتَبَرُ فِعْلُ الشَّرِيكِ مُنْفَرِدًا،
فَمَتَى تَمَحَّضَ عَمْدًا عُدْوَانًا، وَكَانَ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا
لَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.
وَبَنَى الشَّافِعِيُّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ إذَا تَعَمَّدَاهُ عَمْدٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ
الْقَتْلَ، وَإِنَّمَا سُقُوطُ الْقِصَاصِ عَنْهُمَا لِمَعْنًى فِيهِمَا،
وَهُوَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ، فَلَمْ يَقْتَضِ سُقُوطَهُ عَنْ شَرِيكِهِمَا،
كَالْأُبُوَّةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ فِي
فِعْلِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قِصَاصٌ، كَشَرِيكِ الْخَاطِئِ، وَلِأَنَّ
الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا قَصْدَ لَهُمَا صَحِيحٌ، وَلِهَذَا لَا
يَصِحُّ إقْرَارُهُمَا، فَكَانَ حُكْمُ فِعْلِهِمَا حُكْمَ الْخَطَأِ،
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ: عَمْدُهُمَا خَطَأٌ أَيْ فِي حُكْمِ
الْخَطَأِ فِي انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ عَنْهُ، وَمَدَارِ دِيَتِهِ، وَحَمْلِ
عَاقِلَتِهِمَا إيَّاهَا، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، عَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهَا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ الْمَحَلِّ،
وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِهِ، وَالْمَحَلُّ الْمُتْلَفُ وَاحِدٌ،
فَكَانَتْ دِيَتُهُ وَاحِدَةً، وَلِأَنَّهَا تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ،
أَمَّا الْقِصَاصُ، فَإِنَّمَا كَمُلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ
جَزَاءُ الْفِعْلِ، وَأَفْعَالُهُمْ مُتَعَدِّدَةٌ، فَتَعَدَّدَ فِي
حَقِّهِمْ، وَكَمُلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةٌ
وَاحِدًا، إلَّا أَنَّ الثُّلُثَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ يَلْزَمُ
فِي مَالِهِ حَالًّا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ، وَالْعَاقِلَةُ لَا
تَحْمِلُ الْعَمْدَ، وَمَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ، فَعَلَى
عَاقِلَتِهِمَا؛ لِأَنَّ عَمْدَهُمَا خَطَأٌ، وَالْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ
جِنَايَةَ الْخَطَأِ إذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَتَكُونُ
مُؤَجَّلَةً عَامًا، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مَتَى كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ،
كَانَ أَجَلُهُ عَامًا، وَيَلْزَمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْكَفَّارَةُ
مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا خَطَأٌ، وَالْقَاتِلُ الْخَاطِئُ
وَالْمُشَارِكُ فِي الْقَتْلِ خَطَأً، يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا
لَا تَجِبُ بَدَلًا عَنْ الْمَحَلِّ، وَلِهَذَا لَمْ تَخْتَلِفْ،
وَإِنَّمَا وَجَبَتْ تَكْفِيرًا لِلْفِعْلِ، وَمَحْوًا لِأَثَرِهِ،
فَوَجَبَ تَكْمِيلُهَا، كَالْقِصَاصِ.
(8/295)
[مَسْأَلَة يُقْتَلُ الذَّكَرُ
بِالْأُنْثَى وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ فِي الْقِصَاصِ]
(6640) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى،
وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛
مِنْهُمْ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، وَغَيْرُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ
بِالْمَرْأَةِ، وَيُعْطِي أَوْلِيَاؤُهُ نِصْفَ الدِّيَةِ. أَخْرَجَهُ
سَعِيدٌ. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ أَحْمَدَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ
الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ. وَحُكِيَ عَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ.
وَلَعَلَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَحْتَجُّ بِقَوْلِ
عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ عَقْلَهَا نِصْفُ عَقْلِهِ،
فَإِذَا قُتِلَ بِهَا بَقِيَ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَاسْتُوْفِيَتْ مِمَّنْ
قَتَلَهُ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:
45] . وَقَوْلُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] . مَعَ عُمُومِ
سَائِرِ النُّصُوصِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَتَلَ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ» . وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ
فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْأَسْنَانُ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ
بِالْمَرْأَةِ.» وَهُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ عِنْد أَهْلِ الْعِلْمِ،
مُتَلَقًّى بِالْقَبُولِ عِنْدَهُمْ، وَلِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ يُحَدُّ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَذْفِ صَاحِبِهِ، فَقُتِلَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، كَالرَّجُلَيْنِ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقِصَاصِ
شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قِصَاصٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَجِبْ مَعَهُ شَيْءٌ عَلَى
الْمُقْتَصِّ، كَسَائِرِ الْقِصَاصِ، وَاخْتِلَافُ الْأَبْدَالِ لَا
عِبْرَةَ بِهِ فِي الْقِصَاصِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقْتَلُونَ
بِالْوَاحِدِ، وَالنَّصْرَانِيَّ يُؤْخَذُ بِالْمَجُوسِيِّ، مَعَ
اخْتِلَافِ دِينَيْهِمَا، وَيُؤْخَذُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، مَعَ
اخْتِلَافِ قِيمَتِهِمَا.
[فَصْلٌ يُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْخُنْثَى
وَيُقْتَلُ بِهِمَا]
(6641) فَصْلٌ: وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ
بِالْخُنْثَى، وَيُقْتَلُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ
يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى.
[مَسْأَلَةٌ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ قِصَاصٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا
فِي الْجِرَاحِ]
(6642) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ
قِصَاصٌ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا فِي الْجِرَاحِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ
شَخْصَيْنِ جَرَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، جَرَى الْقِصَاصُ
بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ، فَيُقْطَعُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ
الْمُسْلِمِ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ،
وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، وَيُقْطَعُ
النَّاقِصُ
(8/296)
بِالْكَامِلِ، كَالْعَبْدِ بِالْحُرِّ،
وَالْكَافِرِ بِالْمُسْلِمِ.
وَمَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، لَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، فَلَا
يُقْطَعُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلَا وَالِدٌ
بِوَلَدٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ فِي الطَّرَفِ بَيْن مُخْتَلِفِي الْبَدَلِ، فَلَا
يُقْطَعُ الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ، وَلَا النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ، وَلَا
الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَلَا الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ، وَلَا الْحُرُّ
بِالْعَبْدِ، وَلَا الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ
بِالْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ التَّكَافُؤَ
مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ
بِالشَّلَّاءِ، وَلَا الْكَامِلَةَ بِالنَّاقِصَةِ، فَكَذَا لَا يُؤْخَذ
طَرَفُ الرَّجُلِ بِطَرَفِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهَا
بِطَرَفِهِ، كَمَا لَا تُؤْخَذُ الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى.
وَلَنَا، أَنَّ مَنْ جَرَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، جَرَى،
فِي الطَّرَفِ، كَالْحُرَّيْنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ، فَإِنَّ التَّكَافُؤَ مُعْتَبَرٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ
لَا يُقْتَلُ بِمُسْتَأْمِنٍ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّاقِصَةَ
بِالْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ وُجِدَتْ وَزِيَادَةٌ،
فَوَجَبَ أَخْذُهَا بِهَا إذَا رَضِيَ الْمُسْتَحِقُّ، كَمَا تُؤْخَذُ
نَاقِصَةُ الْأَصَابِعِ بِكَامِلَةِ الْأَصَابِعِ، وَأَمَّا الْيَسَارُ
وَالْيَمِينُ، فَيَجْرِيَانِ مَجْرَى النَّفْسِ، لِاخْتِلَافِ
مَحَلَّيْهِمَا؛ وَلِهَذَا اسْتَوَى بَدَلُهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّهَا
لَيْسَتْ نَاقِصَةً عَنْهَا شَرْعًا، وَلَا الْعِلَّةُ فِيهِمَا ذَلِكَ.
[مَسْأَلَةٌ قَتَلَاهُ وَأَحَدُهُمَا مُخْطِئٌ وَالْآخَرُ مُتَعَمِّدٌ]
(6643) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَاهُ، وَأَحَدُهُمَا مُخْطِئٌ،
وَالْآخَرُ مُتَعَمِّدٌ، فَلَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى
الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُخْطِئِ
نِصْفُهَا، وَعَلَيْهِ فِي مَالِهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أَمَّا
الْمُخْطِئُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] . وَأَمَّا السُّنَّةِ،
فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ
لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» . وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ
عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا شَرِيكُهُ فَأَكْثَرُ أَهْلِ
الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ عَلَيْهِ قِصَاصًا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ
مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي الْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا، فَوَجَبَ
عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْعَامِدِ؛ وَلِأَنَّ مُؤَاخَذَتَهُ
بِفِعْلِهِ، وَفِعْلُهُ عَمْدٌ وَعُدْوَانٌ لَا عُذْرَ لَهُ فِيهِ وَلَنَا،
أَنَّهُ قَتْلٌ لَمْ يَتَمَحَّضُ عَمْدًا، فَلَمْ يُوجِبْ الْقِصَاصَ،
كَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَكَمَا لَوْ قَتَلَهُ وَاحِدٌ بِجُرْحَيْنِ عَمْدًا
وَخَطَأً، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مُبَاشِرٌ
وَمُتَسَبِّبٌ، فَإِذَا كَانَا عَامِدَيْنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُتَسَبِّبٌ
إلَى
(8/297)
فِعْلٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ، فَقَامَ
فِعْلُ شَرِيكِهِ مَقَامَ فِعْلِهِ لِتَسَبُّبِهِ إلَيْهِ، وَهَا هُنَا
إذَا أَقَمْنَا الْمُخْطِئَ مُقَامَ الْعَامِدِ، صَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ
بِعَمْدٍ وَخَطَأٍ، وَهَذَا غَيْرُ مُوجِبٍ.
[فَصْل هَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى شَرِيكِ نَفْسِهِ وَشَرِيكِ
السَّبْعِ]
(6644) فَصْلٌ: وَهَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى شَرِيكِ نَفْسِهِ وَشَرِيكِ
السَّبْع؟ فِيهِ وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ
حَامِدٍ، وَصُورَةُ ذَلِكَ، أَنْ يَجْرَحَهُ سَبُعٌ أَوْ يَجْرَحَهُ
إنْسَانٌ عَمْدًا، إمَّا قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، فَيَمُوتَ
مِنْهُمَا، أَوْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا، ثُمَّ يَجْرَحَهُ غَيْرُهُ
عَمْدًا، فَيَمُوتَ مِنْهُمَا، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُشَارِكِ لَهُ
قِصَاصٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَاخْتُلِفَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِ. وَقَالَ
أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَا
يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْزَمَهُ قِصَاصٌ، كَشَرِيكِ
الْخَاطِئِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ تَرَكَّبَ مِنْ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ،
فَلَمْ يُوجِبْ، كَالْقَتْلِ الْحَاصِلِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ؛ وَلِأَنَّهُ
إذَا لَمْ يُجِبْ عَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ وَفِعْلُهُ مَضْمُونٌ، فَلَأَنْ
لَا يَجِبَ عَلَى شَرِيكِ مَنْ لَا يُضْمَنُ فِعْلُهُ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ
الثَّانِي، عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَرَحَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ
جَرَحَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، فَمَاتَ، فَعَلَى شَرِيكِهِ الْقِصَاصُ؛
لِأَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ مُتَمَحِّضٌ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى
الشَّرِيكِ فِيهِ، كَشَرِيكِ الْأَبِ، فَأَمَّا إنْ جَرَحَ الرَّجُلُ
نَفْسَهُ خَطَأً، كَأَنَّهُ أَرَادَ ضَرْبَ جَارِحَةٍ، فَأَصَابَ نَفْسَهُ،
أَوْ خَاطَ جُرْحَهُ، فَصَادَفَ اللَّحْمَ الْحَيَّ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى
شَرِيكِهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ
عَلَيْهِ الْقِصَاصَ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي شَرِيكِ
الْخَاطِئِ.
[فَصْلٌ جَرَحَهُ إنْسَانٌ فَتَدَاوَى بِسُمٍّ فَمَاتَ]
(6645) فَصْلٌ: فَإِنْ جَرَحَهُ إنْسَانٌ، فَتَدَاوَى بِسُمٍّ فَمَاتَ،
نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ سُمَّ سَاعَةٍ يَقْتُلُ فِي الْحَالِ، فَقَدْ قَتَلَ
نَفْسَهُ، وَقَطَعَ سِرَايَةَ الْجُرْحِ، وَجَرَى مَجْرَى مَنْ ذَبَحَ
نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ جُرِحَ، وَنَنْظُرُ فِي الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ
مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ، فَلِوَلِيِّهِ اسْتِيفَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مُوجِبًا لَهُ، فَلِوَلِيِّهِ الْأَرْشُ، وَإِنْ كَانَ السُّمُّ لَا
يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يَقْتُلُ، بِفِعْلِ الرَّجُلِ فِي
نَفْسِهِ عَمْدُ خَطَأٍ، وَالْحُكْمُ فِي شَرِيكِهِ كَالْحُكْمِ فِي
شَرِيكِ الْخَاطِئِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، فَعَلَى الْجَارِحِ
نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ السُّمُّ يَقْتُلُ غَالِبًا بَعْدَ
مُدَّةٍ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَمْدَ الْخَطَأِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَقْصِدْ الْقَتْلَ، إنَّمَا قَصَدَ التَّدَاوِيَ، فَيَكُونُ كَاَلَّذِي
قَتَلَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ، فَيَكُونَ فِي
شَرِيكِهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَإِنْ جُرِحَ رَجُلٌ، فَخَاطَ جُرْحَهُ، أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَخَاطَهُ
لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا
لَوْ شَرِبَ سُمًّا يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَ، عَلَى مَا مَضَى فِيهِ. وَإِنْ
خَاطَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كُرْهًا، فَهُمَا قَاتِلَانِ
عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ. وَإِنْ خَاطَهُ وَلِيُّهُ، أَوْ الْإِمَامُ، وَهُوَ
مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، فَهُمَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ
لَهُمَا عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ
فِعْلَهُمَا جَائِزٌ لَهُمَا، إذْ لَهُمَا
(8/298)
مُدَاوَاتُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَطَأً.
وَهَلْ عَلَى الْجَارِحِ الْقَوَدُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى
شَرِيكِ الْخَاطِئِ.
[مَسْأَلَةٌ دِيَةُ الْعَبْدِ]
(6646) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَدِيَةُ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ بَلَغَتْ
دِيَاتٌ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ فِي الْعَبْدِ، الَّذِي لَا
تَبْلُغُ قِيمَتُهُ دِيَةَ الْحُرِّ، قِيمَتَهُ. وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ
دِيَةَ الْحُرِّ أَوْ زَادَتْ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، إلَى أَنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَإِنْ
بَلَغَتْ دِيَاتٍ، عَمْدًا كَانَ الْقَتْلُ أَوْ خَطَأً، سَوَاءٌ ضَمِنَ
بِالْيَدِ أَوْ بِالْجِنَايَةِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ،
وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَمَالِكٍ،
وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ،
وَمُحَمَّدٌ: لَا تَبْلُغُ بِهِ دِيَةَ الْحُرِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يُنْتَقَصُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ دِينَارًا، أَوْ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ،
الْقَدْرَ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ، وَهَذَا إذَا ضَمِنَ
بِالْجِنَايَةِ، وَإِنْ ضَمِنَ بِالْيَدِ، بِأَنْ يَغْصِبَ عَبْدًا
فَيَمُوتَ فِي يَدِهِ، فَإِنَّ قِيمَتَهُ تَجِبُ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى
دِيَةِ الْحُرِّ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ، فَلَمْ يَزِدْ
عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، كَضَمَانِ الْحُرِّ؛ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْحُرِّ دِيَةً لَا تَزِيدُ، وَهُوَ
أَشْرَفُ لِخُلُوصِهِ مِنْ نَقِيصَةِ الرِّقِّ، كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى
أَنَّ دِيَةَ الْعَبْدِ الْمَنْقُوصِ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، فَنَجْعَلُ
مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مِعْيَارًا لِلْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ، مَا لَمْ
يَزِدْ عَلَى الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَ، عَلِمْنَا خَطَأَ ذَلِكَ،
فَنَرُدُّهُ إلَى دِيَةِ الْحُرِّ، كَأَرْشِ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ،
يَجِبُ فِيهِ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ، مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْشِ
الْمُوضِحَةِ، فَنَرُدُّهُ إلَيْهَا.
وَلَنَا، أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، فَيُضْمَنُ بِكَمَالِ قِيمَتِهِ
بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، كَالْفَرَسِ، أَوْ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ،
فَكَانَتْ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ ضَمِنَهُ بِالْيَدِ، وَيُخَالِفُ
الْحُرَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونِ بِالْقِيمَةِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ
بِمَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ، فَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ
الْحُرِّ لَيْسَ بِضَمَانِ مَالٍ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ
صِفَاتِهِ، وَهَذَا ضَمَانُ مَالٍ، يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ،
وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا، فَاخْتَلَفَا. وَقَدْ حَكَى أَبُو الْخَطَّابِ،
عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةً أُخْرَى، أَنَّهُ لَا
يُبْلَغُ بِالْعَبْدِ دِيَةُ الْحُرِّ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
[بَاب الْقَوَدِ]
ِ الْقَوَدُ: الْقِصَاصُ. وَلَعَلَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الْمُقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ يُقَادُ بِشَيْءٍ يُرْبَطُ فِيهِ أَوْ
بِيَدِهِ إلَى الْقَتْلِ، فَسُمِّيَ الْقَتْلُ قَوَدًا لِذَلِكَ
(8/299)
(6647) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَوْ شَقَّ
بَطْنَهُ، فَأَخْرَجَ حَشْوَتَهُ، فَقَطَعَهَا، فَأَبَانَهَا مِنْهُ، ثُمَّ
ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَلَوْ شَقَّ
بَطْنَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ، فَالثَّانِي هُوَ الْقَاتِلُ؛
لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَعِيشُ مِثْلُهُ، وَالثَّانِيَ قَدْ يَعِيشُ
مِثْلُهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا جَنَى عَلَيْهِ اثْنَانِ
جِنَايَتَيْنِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى أَخْرَجَتْهُ مِنْ
حُكْمِ الْحَيَاةِ، مِثْلُ قَطْعِ حَشْوَتِهِ، أَيْ مَا فِي بَطْنِهِ،
وَإِبَانَتِهَا مِنْهُ، أَوْ ذَبْحِهِ، ثُمَّ ضَرْبِ عُنُقِهِ الثَّانِي
فَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ
حَيَاةٌ، وَالْقَوَدُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَعَلَى الثَّانِي التَّعْزِيرُ،
كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى مَيِّتٍ.
وَإِنْ عَفَا الْوَلِيُّ إلَى الدِّيَةِ، فَهِيَ عَلَى الْأَوَّلِ
وَحْدَهُ. وَإِنْ كَانَ جُرْحُ الْأَوَّلِ يَجُوزُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ
مَعَهُ، مِثْلُ شَقِّ الْبَطْنِ مِنْ غَيْرِ إبَانَةِ الْحَشْوَةِ، أَوْ
قَطْعِ طَرَفٍ، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ آخَرُ، فَالثَّانِي هُوَ الْقَاتِلُ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ الْأَوَّلُ مِنْ حُكْمِ الْحَيَاةِ، فَيَكُونُ
الثَّانِي هُوَ الْمُفَوِّتُ لَهَا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ،
وَالدِّيَةُ كَامِلَةً وَإِنْ عَفَا عَنْهُ. ثُمَّ نَنْظُرُ فِي جُرْحِ
الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ، كَقَطْعِ الطَّرَفِ،
فَالْوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَطْعِ طَرَفِهِ وَالْعَفْوِ عَنْ دِيَتِهِ
مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَالْجَائِفَةِ
وَنَحْوِهَا، فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ. وَإِنَّمَا جَعَلْنَا عَلَيْهِ
الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي قَطَعَ سِرَايَةِ جِرَاحِهِ، فَصَارَ
كَالْمُنْدَمِلِ الَّذِي لَا يَسْرِي. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ،
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا.
وَلَوْ كَانَ جُرْحُ الْأَوَّلِ يُفْضِي إلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ،
إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ حُكْمِ الْحَيَاةِ، وَتَبْقَى مَعَهُ
الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ، مِثْلَ خَرْقِ الْمِعَى، أَوْ أُمِّ
الدِّمَاغِ، فَضَرَبَ الثَّانِي عُنُقَهُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي؛
لِأَنَّهُ فَوَّتَ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً. وَقِيلَ: هُوَ فِي حُكْمِ
الْحَيَاةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ، لَمَّا جُرِحَ دَخَلَ عَلَيْهِ
الطَّبِيبُ فَسَقَاهُ لَبَنًا، فَخَرَجَ يَصْلُدُ، فَعَلِمَ الطَّبِيبُ
أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَقَالَ: اعْهَدْ إلَى النَّاسِ. فَعَهِدَ إلَيْهِمْ،
وَأَوْصَى، وَجَعَلَ الْخِلَافَةَ إلَى أَهْلِ الشُّورَى، فَقَبِلَ
الصَّحَابَةُ عَهْدَهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ وَصَايَاهُ وَعَهْدِهِ.
فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الْحَيَاةِ بَاقِيًا، كَانَ الثَّانِي مُفَوِّتًا
لَهَا، فَكَانَ هُوَ الْقَاتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ عَلِيلًا لَا يُرْجَى
بُرْءُ عِلَّتِهِ.
[فَصْلٌ أُلْقِي رَجُلٌ مِنْ شَاهِقٍ فَتَلَقَّاهُ آخَرُ بِسَيْفِ
فَقَتَلَهُ]
(6648) فَصْلٌ: إذَا أُلْقِي رَجُلٌ مِنْ شَاهِقٍ، فَتَلَقَّاهُ آخَرُ
بِسَيْفِ فَقَتَلَهُ، فَالْقِصَاصُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ
حَيَاتَهُ قَبْلَ الْمَصِيرِ إلَى حَالٍ يَئِسُوا فِيهَا مِنْ حَيَاتِهِ،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَمَاهُ إنْسَانٌ بِسَهْمٍ قَاتِلٍ، فَقَطَعَ آخَرُ
عُنُقَهُ قَبْلَ وُقُوعِ السَّهْمِ بِهِ، أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ صَخْرَةً،
فَأَطَارَ آخَرُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ وُقُوعِهَا عَلَيْهِ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ رَمَاهُ مِنْ مَكَان يَجُوزُ أَنْ
يَسْلَمَ مِنْهُ، وَإِنْ رَمَاهُ مِنْ شَاهِقٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ
الْوَاقِعُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛
(8/300)
أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي
الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا بِالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ سُقُوطِهِ؛
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِلْإِتْلَافِ. وَلَنَا، أَنَّ
الرَّمْيَ سَبَبٌ وَالْقَتْلَ مُبَاشَرَةٌ، فَانْقَطَعَ حُكْمُ السَّبَبِ،
كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ، وَالْجَارِحِ مَعَ الذَّابِحِ،
وَكَالصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَمَا ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ بِهَذِهِ
الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ.
[مَسْأَلَةٌ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ
قَبْلَ أَنْ تَنْدَمِلَ جِرَاحُهُ]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ
فَضَرَبَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمِلَ جِرَاحُهُ، قُتِلَ، وَلَمْ
تُقْطَعْ يَدُهُ وَلَا رِجْلَاهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، قَالَ:
إنَّهُ لَأَهْلٌ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ. فَإِنْ عَفَا عَنْهُ
الْوَلِيُّ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ
الرَّجُلَ إذَا جَرَحَ رَجُلًا، ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ قَبْلَ انْدِمَالِ
الْجُرْحِ، فَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي حَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا،
أَنْ يَخْتَارَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ، فَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ
أَحْمَدَ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِيفَاءِ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ؛ لَا
يَسْتَوْفِي إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ،
وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا
قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ
أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ، فَدَخَلَ الطَّرَفُ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ،
كَالدِّيَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ، لَمْ تَجِبْ
إلَّا دِيَةُ النَّفْسِ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ تَعْطِيلُ الْكُلِّ، وَإِتْلَافُ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ
هَذَا بِضَرْبِ الْعُنُقِ، فَلَا يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ بِإِتْلَافِ
أَطْرَافِهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ كَالٍّ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ
بِمِثْلِهِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ: إنَّهُ لَأَهْلٌ أَنْ
يُفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ. يَعْنِي أَنَّ لِلْمُسْتَوْفِي أَنْ يَقْطَعَ
أَطْرَافَهُ، ثُمَّ يَقْتُلَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي
ثَوْرٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَضَّ رَأْسَ يَهُودِيٍّ لِرَضِّهِ رَأْسَ جَارِيَةٍ
مِنْ الْأَنْصَارِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.» وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . وَهَذَا قَدْ قَلَعَ عَيْنَهُ،
فَيَجِبُ أَنْ تُقْلَعَ عَيْنُهُ، لِلْآيَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
قَالَ: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» .
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مَوْضُوعٌ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَلَفْظُهُ مُشْعِرٌ
بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ
(8/301)
مِثْلُ مَا فَعَلَ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ
الْعُنُقَ آخَرُ غَيْرُهُ. فَأَمَّا حَدِيثُ: «لَا قَوَدَ إلَّا
بِالسَّيْفِ» . فَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ إسْنَادُهُ بِجَيِّدِ. الْحَالُ
الثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ، إمَّا بِعَفْوِ
الْوَلِيِّ، أَوْ كَوْنِ الْفِعْلِ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، أَوْ
غَيْرَ ذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ دِيَةُ الْأَطْرَافِ
الْمَقْطُوعَةِ وَدِيَةُ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قُطِعَ بِسِرَايَةِ
الْجُرْحِ بِقَتْلِهِ صَارَ كَالْمُسْتَقِرِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ
قَتَلَهُ غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَسْقُط الْقِصَاصُ فِيهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ قَاتِلٌ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْجُرْحِ، فَدَخَلَ أَرْشُ
الْجِرَاحَةِ فِي أَرْشِ النَّفْسِ، كَمَا لَوْ سَرَتْ إلَى نَفْسِهِ،
وَالْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَجِبُ،
وَإِنْ وَجَبَ فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يُشْبِهُ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّ
سِرَايَةَ الْجُرْحِ لَا تُسْقِطُ الْقِصَاصَ فِيهِ، وَتُسْقِطُ دِيَتَهُ.
(6650) فَصْلٌ: وَمَتَى قُلْنَا: لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِمِثْلِ مَا
فَعَلَ بِوَلِيِّهِ. فَأَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ضَرْبِ عُنُقِهِ،
فَلَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَفْضَلُ. وَإِنْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ الَّتِي
قَطَعَهَا الْجَانِي، أَوْ بَعْضَهَا، ثُمَّ عَفَا عَنْ قَتْلِهِ،
فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ بَعْضَ حَقِّهِ. وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَ
أَطْرَافِهِ، ثُمَّ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛
لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فَعَلَ بِوَلِيِّهِ لَا يَجِبُ بِهِ إلَّا دِيَةٌ
وَاحِدَةٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بَعْضَهُ وَيَسْتَحِقَّ
كَمَالَ الدِّيَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَلَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الدِّيَةِ،
فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ إلَّا بِضَرْبِ الْعُنُقِ.
فَاسْتَوْفَى مِنْهُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ
عَلَيْهِ سِوَى الْمَأْثَمِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجَانِي فِي الْأَطْرَافِ
لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا يَخْتَصُّ بِهَا، فَكَذَلِكَ فِعْلُ
الْمُسْتَوْفِي، إنْ قَطَعَ الْجَانِي طَرَفًا وَاحِدًا، ثُمَّ عَفَا إلَى
الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا تَمَامُهَا، وَإِنْ قَطَعَ مَا تَجِبُ
بِهِ الدِّيَةُ، ثُمَّ عَفَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَإِنْ قَطَعَ مَا
يَجِبُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ الدِّيَةِ، ثُمَّ عَفَا، احْتَمَلَ أَنْ
يَلْزَمَهُ مَا زَادَ عَلَى الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ
مِنْ دِيَةٍ، وَقَدْ فَعَلَ مَا يُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَكَانَتْ
الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ
لَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا تَرَكَ قَتْلَهُ، وَعَفَا
عَنْهُ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَ
مَا فَعَلَ بِوَلِيِّهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ قُلْنَا:
إنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا يُوجِبُ
الْقِصَاصَ إذَا انْفَرَدَ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ]
(6651) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، أَوْ جَرَحَهُ
جُرْحًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ إذَا انْفَرَدَ، فَسَرَى إلَى النَّفْسِ،
فَلَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقَطْعَ
قَبْلَ الْقَتْلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي،
وَبَنَاهُمَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي
الْمَسْأَلَةِ؛
(8/302)
وَإِحْدَاهُمَا، لَيْسَ لَهُ قَطْعُ
الطَّرَفِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى
الزِّيَادَةِ عَلَى مَا جَنَاهُ الْأَوَّلُ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ
الْمُمَاثَلَةَ، فَمَتَى خِيفَ فِيهِ الزِّيَادَةُ سَقَطَ، كَمَا لَوْ
قَطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ. وَالثَّانِيَةُ، يَجِبُ الْقِصَاصُ
فِي الطَّرَفِ، فَإِنْ مَاتَ بِهِ، وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَهَذَا
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الطَّرَفِ،
رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى
الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِإِفْضَاءِ هَذَا إلَى الزِّيَادَةِ،
بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ. وَالصَّحِيحُ تَخْرِيجُهُ عَلَى
الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا بِزِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ النَّفْسِ
بِسِرَايَةِ فِعْلِهِ، وَسِرَايَةُ فِعْلِهِ كَفِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا
لَوْ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْفِعْلِ فِي
الصُّورَةِ مُحْتَمِلٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ
بِضَرْبَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنْ قَتْلُهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ إلَّا
بِضَرْبَتَيْنِ.
[فَصْلٌ جَرَحَهُ جُرْحًا لَا قِصَاصَ فِيهِ]
(6652) فَصْلٌ: وَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ
فَوَاتِ الْحَيَاةِ بِهِ، مِثْلُ إنْ أَجَافَهُ، أَوْ أَمَّهُ، أَوْ قَطَعَ
يَدَهُ مِنْ نِصْفِ ذِرَاعِهِ، أَوْ رِجْلَهُ مِنْ نِصْفِ سَاقِهِ، فَمَاتَ
مِنْهُ، أَوْ قَطَعَ يَدًا نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ، أَوْ شَلَّاءَ، أَوْ
زَائِدَةً، وَيَدُ الْقَاطِعِ أَصْلِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، فَالصَّحِيحُ فِي
الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِعْلُ مِثْلِ مَا فَعَلَ، وَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَقْتَصَّ إلَّا فِي الْعُنُقِ بِالسَّيْفِ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ،
وَالْقَاضِي. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ لَهُ
أَنْ يَقْتَصَّ بِمِثْلِ مَا فَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَتْلًا، فَكَانَ
لَهُ الْقِصَاصُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، كَمَا لَوْ رَضَّ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ
فَقَتَلَهُ بِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَوْ انْفَرَدَ
لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ، فَلَمْ يَجُزْ الْقِصَاصُ فِيهِ مَعَ
الْقَتْلِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَمِينَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ
يَمِينٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ يَسَاره.
وَفَارَقَ مَا إذَا رَضَّ رَأْسَهُ فَمَاتَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ
قَتْلٌ مُفْرَدٌ، وَهَا هُنَا قَتْلٌ وَقَطْعٌ، وَالْقَطْعُ لَا يُوجِبُ
قِصَاصًا، فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْقَتْلِ، فَإِذَا جَمَعَ الْمُسْتَوْفِي
بَيْنَهُمَا، فَقَدْ زَادَ قَطْعًا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِاسْتِيفَائِهِ،
فَيَكُونُ حَرَامًا، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا إذَا قَطَعَ ثُمَّ قَتَلَ
عَقِيبَهُ، وَبَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى وَلَا يُمْنَى لِلْقَاطِعِ]
فَصْلٌ: فَأَمَّا قَطْعُ الْيُمْنَى وَلَا يُمْنَى لِلْقَاطِعِ، أَوْ
الْيَدَ وَلَا يَدَ لَهُ، أَوْ قَلَعَ الْعَيْنَ وَلَا عَيْنَ لَهُ،
فَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ فِي
الْعُنُقِ، وَلَا قِصَاصَ فِي طَرَفِهِ. وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛
لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ مِثْلِ الْعُضْوِ الْمُتْلَفِ،
وَهُوَ هَاهُنَا مَعْدُومٌ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ فِعْلُ مِثْلِ مَا فَعَلَ
الْجَانِي، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ ثُمَّ عَفَا
عَنْ الْقَتْلِ، لَصَارَ مُسْتَوْفِيًا رِجْلًا مِمَّنْ لَمْ يَقْطَعْ لَهُ
مِثْلَهَا، أَوْ أُذُنًا بَدَلًا عَنْ عَيْنٍ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْوَجْهِ الثَّانِي فِي الْفَصْلِ الَّذِي
قَبْلَهُ.
(8/303)
[فَصْلٌ قَتَلَهُ بِغَيْرِ السَّيْفِ
فَهَلْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ]
(6654) فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَهُ بِغَيْرِ السَّيْفِ، مِثْلُ أَنْ قَتَلَهُ
بِحَجَرٍ، أَوْ هَدْمٍ أَوْ تَغْرِيقٍ، أَوْ خَنْقٍ، فَهَلْ يَسْتَوْفِي
الْقِصَاصَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَهُ
ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ، لَا
يَسْتَوْفِي إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ، فِيمَا إذَا قَتَلَهُ بِمُثْقَلِ الْحَدِيدِ، عَلَى إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُ، أَوْ جَرَحَهُ فَمَاتَ. وَوَجْهُ
الرِّوَايَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَلِأَنَّ
هَذَا لَا تُؤْمَنُ مَعَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا فَعَلَهُ الْجَانِي،
فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِمِثْلِ آلَتِهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الطَّرَفَ
بِآلَةٍ كَالَّةٍ، أَوْ مَسْمُومَةٍ، أَوْ بِالسَّيْفِ، فَإِنَّهُ لَا
يُسْتَوْفَى بِمِثْلِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُرْتَدُّ،
فَلَا يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِتَجْرِيعِ
الْخَمْرِ، أَوْ بِالسِّحْرِ، وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ بِهِ
مِثْلَ فِعْلِهِ فَلَمْ يَمُتْ، قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ. وَهَذَا أَحَدُ
قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي، أَنَّهُ يُكَرِّرُ
عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلَ حَتَّى يَمُوتَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ
بِذَلِكَ، فَلَهُ قَتْلُهُ بِمِثْلِهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِهِ، فَلَمْ يَزِدْ
عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا، أَوْ قَطَعَ مِنْهُ طَرَفًا،
فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْوَلِيُّ مِثْلَهُ فَلَمْ يَمُتْ بِهِ، فَإِنَّهُ
لَا يُكَرِّرُ عَلَيْهِ الْجُرْحَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَيَعْدِلُ إلَى
ضَرْبِ عُنُقِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا.
[فَصْلٌ قَتَلَهُ بِمَا لَا يَحِلُّ لِعَيْنِهِ]
(6655) فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَهُ بِمَا لَا يَحِلُّ لِعَيْنِهِ، مِثْلَ إنْ
لَاطَ بِهِ فَقَتَلَهُ، أَوْ جَرَّعَهُ خَمْرًا أَوْ سَحَرَهُ، لَمْ
يُقْتَلْ بِمِثْلِهِ اتِّفَاقًا، وَيَعْدِلُ إلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ.
وَحَكَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فِي مَنْ قَتَلَهُ بِاللِّوَاطِ
وَتَجْرِيعِ الْخَمْرِ، وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يُدْخِلُ فِي دُبُرِهِ
خَشَبَةً يَقْتُلُهُ بِهَا، وَيُجَرِّعُهُ الْمَاءَ حَتَّى يَمُوتَ.
وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ، فَوَجَبَ الْعُدُولُ عَنْهُ
إلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِالسِّحْرِ. وَإِنْ
حَرَّقَهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُحَرَّقُ؛ لِأَنَّ
التَّحْرِيقَ مُحَرَّمٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا
رَبُّ النَّارِ» . وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ. وَهَذَا
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي: الصَّحِيحُ أَنَّ فِيهِ
رِوَايَتَيْنِ، كَالتَّغْرِيقِ؛ إحْدَاهُمَا، يُحَرَّقُ. وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ «حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ،
وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ» . وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ عَلَى
غَيْرِ الْقِصَاصِ فِي الْمُحْرَقِ.
(8/304)
[فَصْلٌ زَادَ مُسْتَوْفِي الْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ عَلَى حَقِّهِ]
(6656) فَصْلٌ: إذَا زَادَ مُسْتَوْفِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ عَلَى
حَقِّهِ، مِثْلَ أَنْ يُقْتَلَ وَلِيُّهُ، فَيَقْطَعَ الْمُقْتَصُّ
أَطْرَافَهُ أَوْ بَعْضَهَا، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ عَفَا عَنْهُ بَعْدَ قَطْعِ
طَرَفِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ بِدِيَتِهِ. وَبِهَذَا قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ،
وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قَدْ
أَسَاءَ، وَيُعَزَّرُ، وَسَوَاءٌ عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ أَوْ قَتَلَهُ؛
لِأَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ جُمْلَةٍ اسْتَحَقَّ إتْلَافَهَا، فَلَمْ
يَضْمَنْهُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْ يَدٍ يَسْتَحِقُّ قَطْعَهَا.
وَلَنَا، أَنَّهُ قَطَعَ طَرَفًا لَهُ قِيمَةٌ حَالَ الْقَطْعِ بِغَيْرِ
حَقٍّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ عَفَا عَنْهُ ثُمَّ
قَطَعَهُ، أَوْ كَمَا لَوْ قَطَعَهُ أَجْنَبِيٌّ. فَأَمَّا إنْ قَطَعَهُ
ثُمَّ قَتَلَهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ
إذَا عَفَا عَنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْفُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْعَفْوَ
إحْسَانٌ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا
يَضْمَنَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ
مُتَعَدِّيًا ثُمَّ قَتَلَ، لَمْ يَضْمَنْ الطَّرَفَ، فَلَأَنْ يَضْمَنَهُ
إذَا كَانَ الْقَتْلُ مُسْتَحَقًّا أَوْلَى. فَأَمَّا الْقِصَاصُ، فَلَا
يَجِبُ فِي الْعُرْفِ بِحَالٍ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشُّبْهَةُ هَاهُنَا
مُتَحَقِّقَةٌ، لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ لِإِتْلَافِ هَذَا الطَّرَفِ ضِمْنًا
لِاسْتِحْقَاقِهِ إتْلَافَ الْجُمْلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ
الْقِصَاصِ أَنْ لَا تَجِبَ الدِّيَةُ، بِدَلِيلِ امْتِنَاعِهِ لِعَدَمِ
الْمُكَافَآتِ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْجَانِي قَطَعَ طَرَفَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ،
فَاسْتَوْفَى مِنْهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى.
وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا غَيْرَ الَّذِي قَطَعَهُ الْجَانِي، كَانَ الْجَانِي
قَطَعَ يَدَهُ؛ فَقَطَعَ الْمُسْتَوْفِي رِجْلَهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ
بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ؛ لِأَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ،
وَاحْتَمَلَ أَنْ تَلْزَمَهُ دِيَةُ الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ لَمْ
يَقْطَعْهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ.
[فَصْلٌ اسْتَحَقَّ قَطْعَ إصْبَعٍ فَقَطَعَ اثْنَتَيْنِ]
(6657) فَصْلٌ: فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مِنْ
الطَّرَفِ، مِثْلُ أَنْ اسْتَحَقَّ قَطْعَ إصْبَعٍ، فَقَطَعَ اثْنَتَيْنِ،
فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَاطِعِ ابْتِدَاءً، إنْ كَانَ عَمْدًا مِنْ
مَفْصِلٍ، أَوْ شَجَّةٍ يَجِبُ فِي مِثْلِهَا الْقِصَاصُ، فَعَلَيْهِ
الْقِصَاصُ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً أَوْ جُرْحًا لَا
يُوجِبُ الْقِصَاصَ، مِثْلُ مَنْ يَسْتَحِقُّ مُوضِحَةً فَاسْتَوْفَهَا
هَاشِمَةً، فَعَلَيْهِ أَرْشُ
(8/305)
الزِّيَادَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
بِسَبَبٍ مِنْ الْجَانِي، كَاضْطِرَابِهِ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَا
شَيْءَ عَلَى الْمُقْتَصِّ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِ الْجَانِي. فَإِنْ
اخْتَلَفَا هَلْ فَعَلَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُقْتَصِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنْ الْخَطَأُ
فِيهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ، وَإِنْ قَالَ الْمُقْتَصُّ: حَصَلَ
هَذَا بِاضْطِرَابِك، أَوْ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِك. فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُقْتَصِّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ.
فَإِنْ سَرَى الِاسْتِيفَاءُ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ الزِّيَادَةُ إلَى
نَفْسِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، فَمَاتَ، أَوْ إلَى بَعْض أَعْضَائِهِ، مِثْلُ
أَنْ قَطَعَ إصْبَعَهُ، فَسَرَى إلَى جَمِيعِ يَدِهِ، أَوْ اقْتَصَّ مِنْهُ
بِآلَةٍ كَالَّةٍ أَوْ مَسْمُومَةٍ، أَوْ فِي حَالِ حَرٍّ مُفْرِطٍ، أَوْ
بَرْدٍ شَدِيدٍ، فَسَرَى، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَى الْمُقْتَصِّ نِصْفُ
الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلَيْنِ؛ جَائِزٍ وَمُحَرَّمٍ،
وَمَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، فَانْقَسَمَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا
نِصْفَيْنِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا فِي حَالِ رِدَّتِهِ وَجُرْحًا
بَعْدَ إسْلَامِهِ، فَمَاتَ مِنْهُمَا. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ السِّرَايَةِ
كُلِّهَا، فِيمَا إذَا اقْتَصَّ بِآلَةِ مَسْمُومَةٍ أَوْ كَالَّةٍ؛
لِأَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ مُحَرَّمٌ، بِخِلَافِ قَطْعِ الْإِصْبَعَيْنِ،
فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مُبَاحٌ.
[فَصْلٌ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إلَّا بِحَضْرَةِ
السُّلْطَانِ]
(6658) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ
إلَّا بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ. وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ
وَيَحْرُمُ الْحَيْفُ فِيهِ، فَلَا يُؤْمَنُ الْحَيْفُ مَعَ قَصْدِ
التَّشَفِّي.
فَإِنْ اسْتَوْفَاهُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ، وَقَعَ
الْمَوْقِعَ، وَيُعَزَّرُ؛ لِافْتِيَاتِهِ بِفِعْلِ مَا مُنِعَ فِعْلُهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الِاسْتِيفَاءُ بِغَيْرِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ،
إذَا كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ «رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ يَقُودُهُ بِنِسْعَةٍ،
فَقَالَ: إنَّ هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَاعْتَرَفَ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْهَبْ، فَاقْتُلْهُ»
. رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ حُضُورِ
السُّلْطَانِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ،
وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْضِرَ شَاهِدَيْنِ،
لِئَلَّا يَجْحَدَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءَ. وَإِذَا أَرَادَ
الْوَلِيُّ الِاسْتِيفَاءَ، فَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَتَفَقَّدَ
الْآلَةَ الَّتِي يَسْتَوْفِي بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ كَالَّةً مَنَعَهُ
الِاسْتِيفَاءَ بِهَا، لِئَلَّا يُعَذِّبَ الْمَقْتُولَ.
وَقَدْ رَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا
ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلِيَحُدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ،
وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» .
(8/306)
وَإِنْ كَانَتْ مَسْمُومَةً، مَنَعَهُ
الِاسْتِيفَاءَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الْبَدَنَ، وَرُبَّمَا مَنَعَتْ
غُسْلَهُ.
وَإِنْ عَجَّلَ فَاسْتَوْفَى بِآلَةِ كَالَّةٍ أَوْ مَسْمُومَةٍ، عُزِّرَ.
وَإِنْ كَانَ السَّيْفُ صَارِمًا غَيْرَ مَسْمُومٍ، نَظَرَ فِي الْوَلِيِّ؛
فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، وَيُكْمِلُهُ بِالْقُوَّةِ
وَالْمَعْرِفَةِ، مَكَّنَهُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] .
وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ
بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا
الدِّيَةَ» . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ مُتَمَيِّزٌ، فَكَانَ لَهُ
اسْتِيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ إذَا أَمْكَنَهُ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ
لَمْ يُحْسِنْ الِاسْتِيفَاءَ، أَمَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ
عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْمَعْرِفَةَ
بِالِاسْتِيفَاءِ، فَأَمْكَنَهُ السُّلْطَانُ مِنْ ضَرْبِ عُنُقِهِ،
فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَأَبَانَهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَإِنْ أَصَابَ
غَيْرَهُ، وَأَقَرَّ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ، عُزِّرَ.
وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتَ. وَكَانَتْ الضَّرْبَةُ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ
مِنْ الْعُنُقِ، كَالرَّأْسِ وَالْمَنْكِبِ، قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ
يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ الْخَطَأُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ
كَانَ بَعِيدًا، كَالْوَسْطِ وَالرِّجْلَيْنِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛
لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِيهِ. ثُمَّ إنْ أَرَادَ
الْعَوْدَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ؛
لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ،
وَيَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَى مِثْلِ فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: يُمَكَّنُ
مِنْهُ. قَالَهُ الْقَاضِي: لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَحَرُّزُهُ عَنْ مِثْلِ
ذَلِكَ ثَانِيًا. وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ،
أَمَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَكَانَ لَهُ
التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
مَنْ يُوَكِّلُهُ إلَّا بِعِوَضٍ، أَخَذَ الْعِوَضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ رَجُلٌ
يَسْتَوْفِي الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ، فَالْأُجْرَةُ عَلَى الْجَانِي؛
لِأَنَّهَا أُجْرَةٌ لِإِيفَاءِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَكَانَتْ
عَلَيْهِ، كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ فِي بَيْعِ الْمَكِيلِ. وَيَحْتَمِلُ
أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمُقْتَصِّ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ، فَكَانَتْ
الْأُجْرَةُ عَلَى مُوَكِّلِهِ، كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَاَلَّذِي عَلَى
الْجَانِي التَّمْكِينُ دُونَ الْفِعْلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ
يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ
عَلَيْهِ أُجْرَةُ التَّوْكِيلِ، لَلَزِمَتْهُ أُجْرَةُ الْوَلِيِّ إذَا
اسْتَوْفَى بِنَفْسِهِ.
وَإِنْ قَالَ الْجَانِي: أَنَا أَقْتَصُّ لَك مِنْ نَفْسِي. لَمْ يَلْزَمْ
تَمْكِينُهُ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . وَلِأَنَّ مَعْنَى
الْقِصَاصِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ
عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْفِيَ
لَهُ كَالْبَائِعِ لَا يَسْتَوْفِي مِنْ نَفْسِهِ.
(8/307)
[فَصْل كَانَ الْقِصَاصُ لَجَمَاعَةٍ مِنْ
الْأَوْلِيَاءِ وَتَشَاحُّوا فِي الْمُتَوَلِّي مِنْهُمْ لِلِاسْتِيفَاءِ]
(6659) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ لَجَمَاعَةٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ،
وَتَشَاحُّوا فِي الْمُتَوَلِّي مِنْهُمْ لِلِاسْتِيفَاءِ، أُمِرُوا
بِتَوْكِيلِ أَحَدِهِمْ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرهمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يَتَوَلَّاهُ جَمِيعُهُمْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْجَانِي،
وَتَعَدُّدِ أَفْعَالِهِمْ. فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ،
وَتَشَاحُّوا، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ،
أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ إذَا تَسَاوَتْ وَعَدَمُ
التَّرْجِيحِ، صِرْنَا إلَى الْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ تَشَاحُّوا فِي
تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، أُمِرَ
الْبَاقُونَ بِتَوْكِيلِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ بِغَيْرِ
إذْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ بِغَيْرِ
إذْنِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَوْكِيلِ وَاحِدٍ، مُنِعُوا
الِاسْتِيفَاءَ حَتَّى يُوَكَّلُوا.
[مَسْأَلَةٌ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَبَرَأَتْ جِرَاحُهُ ثُمَّ
قَتَلَهُ]
(6660) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحُ بَرَأَتْ قَبْلَ
قَتْلِهِ، فَعَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ ثَلَاثُ دِيَاتٍ، إلَّا أَنْ
يُرِيدُوا الْقَوَدَ، فَيُقِيدُوا وَيَأْخُذُوا مِنْ مَالِهِ دِيَتَيْنِ)
أَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَبَرَأَتْ جِرَاحُهُ، ثُمَّ
قَتَلَهُ، فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْقَطْعِ، وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ
الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ عَفَا وَأَخَذَ ثَلَاثَ دِيَاتٍ؛ دِيَةً لِنَفْسِهِ،
وَدِيَةً لِيَدَيْهِ، وَدِيَةً لِرِجْلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ
قِصَاصًا بِالْقَتْلِ، وَأَخَذَ دِيَتَيْنِ لِأَطْرَافِهِ. وَإِنْ أَحَبَّ
قَطَعَ أَطْرَافَهُ الْأَرْبَعَةَ، وَأَخَذَ دِيَةً لِنَفْسِهِ. وَإِنْ
أَحَبَّ قَطَعَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ دِيَتَيْنِ لِنَفْسِهِ وَرِجْلَيْهِ.
وَإِنْ أَحَبَّ قَطْعَ رِجْلَيْهِ، وَأَخَذَ دِيَتَيْنِ لِنَفْسِهِ
وَيَدَيْهِ. وَإِنْ أَحَبَّ قَطَعَ طَرَفًا وَاحِدًا، وَأَخَذَ دِيَةَ
الْبَاقِي. وَإِنْ أَحَبَّ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَطْرَافٍ، وَأَخَذَ دِيَةَ
الْبَاقِي. وَكَذَلِكَ سَائِرُ فُرُوعِهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَطْعِ
اسْتَقَرَّ قَبْلَ الْقَتْلِ بِالِانْدِمَالِ، فَلَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُهُ
بِالْقَتْلِ الْحَادِثِ بَعْدَهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَلَا
نَعْلَمُ فِي هَذَا مُخَالِفًا.
(6661) فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْوَلِيُّ فِي انْدِمَالِ
الْجُرْحِ قَبْلَ الْقَتْلِ، وَكَانَتْ الْمُدَّةُ بَيْنَهُمَا يَسِيرَةً،
لَا يَحْتَمِلُ انْدِمَالَهُ فِي مِثْلِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي
بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مُضِيِّهَا،
وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبُرْءَ فِيهَا،
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ
سَبَبُ وُجُوبِ دِيَةِ الْيَدَيْنِ بِقَطْعِهِمَا، وَالْجَانِي يَدَّعِي
سُقُوطَ دِيَتِهِمَا بِالْقَتْلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ. فَإِنْ
كَانَتْ لِلْجَانِي بَيِّنَةٌ بِبَقَاءِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ضِمْنًا
حَتَّى قَتَلَهُ، حُكِمَ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْوَلِيِّ
بَيِّنَةٌ بِبُرْئِهِ، حُكِمَ لَهُ أَيْضًا، وَإِنْ تَعَارَضَتَا،
قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلْبُرْءِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُون الْقَوْلُ قَوْلَ الْجَانِي، إذَا لَمْ يَكُنْ
لَهُمَا بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْجِرَاحَةِ، وَعَدَمُ
انْدِمَالِهَا.
(8/308)
وَإِنْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ فَمَاتَ،
وَاخْتَلَفَا، هَلْ بَرَأَ قَبْلَ الْمَوْتِ، أَوْ مَاتَ بِسِرَايَةِ
الْجُرْحِ؟ أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: إنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ، كَأَنْ
لُدِغَ، أَوْ ذَبَحَ نَفْسَهُ، أَوْ ذَبَحَهُ غَيْرُهُ. فَالْحُكْمُ فِيمَا
إذَا مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ آخَرَ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا قَتَلَهُ،
سَوَاءً. وَأَمَّا إذَا مَاتَ بِقَتْلٍ أَوْ سَبَبٍ آخَرَ، فَفِيهِ
وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، تَقْدِيمُ قَوْلِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
بَقَاءُ الْجِنَايَةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ، فَيَكُونُ
الظَّاهِرُ مَعَهُ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ قَوْلُ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ،
لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الدِّيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وُجِدَ سَبَبُهُمَا،
حَتَّى يُوجَدَ مَا يُزِيلُهُمَا. فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَاهُمَا
بِالْعَكْسِ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ قَطْعِك، فَعَلَيْك
الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. فَقَالَ الْجَانِي: بَلْ انْدَمَلَتْ جِرَاحُهُ
قَبْلَ مَوْتِهِ. أَوْ ادَّعَى مَوْتَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ،
وَقَدْ تَحَقَّقَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِانْدِمَالِ، وَعَدَمُ سَبَبٍ
آخَرَ يَحْصُلُ الزَّهُوقُ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجُرْحُ فِيمَا يَجِبُ
بِهِ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، كَقَطْعِ الْيَدِ مِنْ مَفْصِلٍ وَلَا
يُوجِبُهُ، كَالْجَائِفَةِ وَالْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ. وَهَذَا
كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
[مَسْأَلَةٌ رَمَى وَهُوَ مُسْلِمٌ كَافِرًا عَبْدًا فَلَمْ يَقَعْ بِهِ
السَّهْمُ حَتَّى عَتَقَ وَأَسْلَمَ]
(6662) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَلَوْ رَمَى، وَهُوَ مُسْلِمٌ كَافِرًا
عَبْدًا، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى عَتَقَ وَأَسْلَمَ، فَلَا
قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ، إذَا مَاتَ مِنْ سَهْمِهِ هَذَا
قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
يَجِبُ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ ظُلْمًا عَمْدًا،
فَوَجَبَ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ كَانَ حُرًّا مُسْلِمًا حَالَ الرَّمْيِ،
يُحَقِّقُهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ
رَمَى مُسْلِمًا حَيًّا، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى ارْتَدَّ
أَوْ مَاتَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ رَمَى عَبْدًا كَافِرًا،
فَلَمْ يَقَعْ بِهِ السَّهْمُ حَتَّى عَتَقَ وَأَسْلَمَ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ
حُرٍّ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ فِي الْعَبْدِ دِيَةُ عَبْدٍ
لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ نَاشِئَةٌ عَنْ إرْسَالِ السَّهْمِ،
فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِهَا، كَحَالَةِ الْجُرْحِ. فَأَمَّا الْكَافِرُ،
فَمَذْهَبُهُ أَنَّ دِيَتَهُ دِيَةُ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ
الْمُسْلِمُ، وَكَذَلِكَ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ. وَلَنَا عَلَى
دَرْءِ الْقِصَاصِ، أَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى نَفْسٍ مُكَافِئَتِهِ لَهُ
حَالَ الرَّمْيِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، كَمَا لَوْ رَمَى
حَرْبِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ. وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ
أَتْلَفَ حُرًّا، فَضَمِنَهُ ضَمَانَ الْأَحْرَارِ، كَمَا لَوْ قَصَدَ
صَيْدًا. وَمَا قَالَهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا رَمَى حَيًّا فَأَصَابَهُ
مَيِّتًا، أَوْ صَحِيحًا فَأَصَابَهُ مَعِيبًا.
وَلَنَا عَلَى أَنَّ دِيَتَهُ تَجِبُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ،
وَأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ تَجِبُ دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ
دُونِ الْكُفَّارِ، إنْ مَاتَ مُسْلِمًا حُرًّا، فَكَانَتْ دِيَتُهُ
لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ حَالَ رَمْيِهِ،
وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا
(8/309)
يُسْتَحَقُّ بِالْمَوْتِ، فَتُعْتَبَرُ
حَالُهُ حِينَئِذٍ، لَا حِينَ سَبَبِ الْمَوْتِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَرِضَ
وَهُوَ عَبْدٌ كَافِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ،
وَالْوَاجِبُ بَدَلُ الْمَحَلِّ، فَيُعْتَبَرُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي فَاتَ
بِهَا، فَيَجِبُ بِقَدْرِهِ، وَقَدْ فَاتَ بِهَا نَفْسُ حُرٍّ مُسْلِمٍ،
وَالْقِصَاصُ جَزَاءُ الْفِعْلِ، فَيُعْتَبَرُ الْفِعْلُ فِيهِ
وَالْإِصَابَةُ مَعًا؛ لِأَنَّهُمَا طَرَفَاهُ، فَلِذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ
الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ.
(6663) فَصْلٌ: وَلَمْ يُفَرِّقْ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ كَوْنِ الْكَافِرِ
ذِمِّيًّا أَوْ غَيْرَهُ، إلَّا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّفْرِيقُ فِيهِ،
فَمَتَى رَمَى إلَى حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ
وُقُوعِ الرَّمْيَةِ بِهِ، فَلَا دِيَةَ لَهُ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ؛
لِأَنَّهُ رَمْيٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، مَأْمُورٌ بِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ
قَتَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ
وَكَتَمَ إسْلَامَهُ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ
عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ خَطَأٍ، فَكَذَلِكَ
هَاهُنَا. وَلَوْ رَمَى مُرْتَدًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ
ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِإِرْسَالِ
سَهْمِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِمَامِ، لَا إلَى
آحَادِ النَّاسِ، وَقَتْلُهُ بِالسَّيْفِ لَا بِالسَّهْمِ.
[فَصْلٌ رَمَى حَرْبِيًّا فَتَتَرُّسَ بِمُسْلِمِ فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ]
(6664) فَصْلٌ: وَلَوْ رَمَى حَرْبِيًّا، فَتَتَرَّسَ بِمُسْلِمٍ،
فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ تَتَرَّسَ بِهِ بَعْدَ
الرَّمْيِ، فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِي الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ
الرَّامِي رِوَايَتَانِ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ تَتَرَّسَ بِهِ
قَبْلَ الرَّمْيِ، لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ، إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، فَيَرْمِيَ الْكَافِرَ، وَلَا يَقْصِدُ الْمُسْلِمَ،
فَإِذَا قَتَلَهُ، فَفِي دِيَتِهِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ، وَإِنْ رَمَاهُ
مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ رَمْيُهُ.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ أَوْ يَدَ ذِمِّيٍّ
ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ]
(6665) فَصْلٌ: وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ، أَوْ
يَدَ ذِمِّيٍّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:
الْوَاجِبُ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ، لِوَرَثَتِهِ وَلِسَيِّدِهِ مِنْهَا
أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، اعْتِبَارًا
بِحَالِ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو بَكْرٍ:
تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، مَصْرُوفَةً إلَى
السَّيِّدِ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا الْمُوجِبَةُ
لِلضَّمَانِ، فَاعْتُبِرَتْ حَالَ وُجُودِهَا. وَمُقْتَضَى قَوْلِهِمَا
ضَمَانُ الذِّمِّيِّ الَّذِي أَسْلَمَ بِدِيَةِ ذِمِّيٍّ، وَيَلْزَمُهُمَا
عَلَى هَذَا أَنْ يَصْرِفَاهَا إلَى وَرَثَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ،
وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ
مُسْتَحَقَّةً
(8/310)
لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ
لِوَرَثَتِهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ لِوَرَثَتِهِ
الْمُسْلِمِينَ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ، كَاَلَّذِي كَسَبَهُ
بَعْد جُرْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ،
فَوَرَثَتُهُ هُمْ الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكُفَّارِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ أَنْفَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِينَارٍ فَانْدَمَلَ ثُمَّ
أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ]
(6666) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ أَنْفَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِينَارٍ،
فَانْدَمَلَ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ. وَجَبَتْ قِيمَتُهُ
بِكَمَالِهَا لِلسَّيِّدِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ انْدَمَلَ، فَكَذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَقَرَّ بِالِانْدِمَالِ مَا وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ،
وَالْجِنَايَةُ كَانَتْ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ. وَإِنْ مَاتَ مِنْ سِرَايَة
الْجُرْحِ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي. وَهُوَ قَوْلُ
الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ يُرَاعَى فِيهَا حَالُ وُجُودِهَا.
وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ
حَنْبَلٍ، فِي مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ،
فَفِيهِ قِيمَتُهُ لَا الدِّيَةُ.
وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ دِيَةُ حُرٍّ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ بِحَالَةِ
الِاسْتِقْرَارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَتُصْرَفُ إلَى السَّيِّدِ؛
لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ أَرْشِ
الْجُرْحِ، وَالدِّيَةُ هَاهُنَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ. وَمَا ذَكَرُوهُ
يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَمَاتَ بِسِرَايَةِ
الْجُرْحِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ دِيَةُ النَّفْسِ، لَا دِيَةَ الْجُرْحِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأُعْتِقَ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ
وَانْدَمَلَ الْقِطْعَانِ]
(6667) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، فَأُعْتِقَ، ثُمَّ عَادَ
فَقَطَعَ رِجْلَهُ، وَانْدَمَلَ الْقَطْعَانِ، فَلَا قِصَاصَ فِي الْيَدِ؛
لِأَنَّهَا قُطِعَتْ فِي حَالِ رِقِّهِ، وَيَجِبُ فِيهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ،
أَوْ مَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ لِسَيِّدِهِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي
الرِّجْلِ الَّتِي قَطَعَهَا حَالَ حُرِّيَّتِهِ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ
إنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ انْدَمَلَ قَطْعُ الْيَدِ،
وَسَرَى قَطْعُ الرِّجْلِ إلَى نَفْسِهِ، فَفِي الْيَدِ نِصْفُ الْقِيمَةِ
لِسَيِّدِهِ، وَعَلَى الْقَاطِعِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، أَوْ الدِّيَةُ
كَامِلَةً لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ انْدَمَلَ قَطْعُ الرِّجْلِ، وَسَرَى
قَطْعُ الْيَدِ، فَفِي الرِّجْلِ الْقِصَاصُ بِقَطْعِهَا، أَوْ نِصْفُ
الدِّيَةِ لِوَرَثَتِهِ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْيَدِ، وَلَا فِي
سِرَايَتهَا، وَعَلَى الْجَانِي دِيَةُ حُرٍّ، لِسَيِّدِهِ مِنْهَا أَقَلُّ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْقَطْعِ أَوْ دِيَةُ الْحُرِّ، عَلَى قَوْلِ
ابْنِ حَامِدٍ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي، تَجِبُ قِيمَةُ
الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، اعْتِبَارًا بِحَالِ جِنَايَتِهِ.
وَإِنْ سَرَى الْجُرْحَانِ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَلَا
الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحَيْنِ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ،
فَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحَيْنِ عَمْدًا
وَخَطَأً، وَلَكِنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا
مِنْ حُرٍّ، فَإِنْ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ
مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَقَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُ مَا يُقَابِلُ نِصْفَ
الدِّيَةِ، وَلِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ
أَوْ نِصْفِ الدِّيَةِ، فَإِنْ زَادَ نِصْفُ الدِّيَةِ. عَلَى نِصْفِ
الْقِيمَةِ، كَانَ الزَّائِدُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ عَفَا وَرَثَتُهُ عَنْ
الْقِصَاصِ، فَلَهُمْ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ قَاطِعُ
الرِّجْلِ غَيْرَ قَاطِعِ الْيَدِ، وَانْدَمَلَ الْجُرْحَانِ، فَعَلَى
قَاطِعِ الْيَدِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِسَيِّدِهِ، وَعَلَى قَاطِعِ الرِّجْلِ
الْقِصَاصُ فِيهَا أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَإِنْ سَرَى الْجُرْحَانِ إلَى نَفْسِهِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَوَّلِ؛
لِأَنَّهُ
(8/311)
قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ
دِيَةِ حُرٍّ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ حُرٌّ فِي حَالِ قَرَارِ
الْجِنَايَةِ، وَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ إذَا كَانَا
عَمَدَا الْقَطْعَ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي الْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا،
فَهُوَ كَشَرِيكِ الْأَبِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي
النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ خَرَجَتْ مِنْ سِرَايَةِ قَطْعَيْنِ؛ مُوجِبٍ
وَغَيْرِ مُوجِبٍ، بِنَاءً عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ
إلَى الدِّيَةِ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ
الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، خُرِّجَ فِي وُجُوبِهِ فِي الطَّرَفِ
رِوَايَتَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَجِبُ فِي النَّفْسِ. وَجَبَ فِي
الرِّجْلِ.
[فَصْلٌ قَلَعَ عَيْنَ عَبْدٍ ثُمَّ أُعْتِقَ ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ
ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ رِجْلَهُ]
(6668) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ عَيْنَ عَبْدٍ، ثُمَّ أُعْتِقَ، ثُمَّ قَطَعَ
آخَرُ يَدَهُ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ رِجْلَهُ، فَلَا قَوَدَ عَلَى
الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ انْدَمَلَ جُرْحُهُ أَوْ سَرَى، وَأَمَّا الْآخَرَانِ،
فَعَلَيْهِمَا الْقَوَدُ فِي الطَّرَفَيْنِ إنْ وَقَفَ قَطْعُهُمَا، أَوْ
دِيَتُهُمَا إنْ عَفَا عَنْهُمَا. وَإِنْ سَرَتْ الْجِرَاحَاتُ كُلُّهَا،
فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُمَا صَارَتْ
نَفْسًا. وَفِي ذَلِكَ وَفِي الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا، فَعَلَيْهِمْ الدِّيَةُ أَثْلَاثًا،
وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَقَلُّ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ. هَذَا
قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَطْعِ اسْتَحَقَّ نِصْفَ
الْقِيمَةِ، فَإِذَا صَارَتْ نَفْسًا، وَجَبَ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ،
فَكَانَ لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّانِي: لَهُ أَقَلُّ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ
الْجِنَايَةَ إذَا صَارَتْ نَفْسًا، كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا آلَتْ
إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَنَى الْجَانِيَانِ الْآخَرَانِ قَبْلَ
الْعِتْقِ أَيْضًا، لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَوَّلِ إلَّا ثُلُثُ الْقِيمَةِ،
فَلَا يَزِيدُ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ، كَمَا لَوْ قَلَعَ رَجُلٌ عَيْنَهُ،
ثُمَّ بَاعَهُ سَيِّدُهُ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ، وَآخَرُ رِجْلَهُ،
ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْأَوَّلِ ثُلُثُ الْقِيمَةِ.
وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا قُلْنَا
بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَطَعَ إصْبَعَيْهِ، أَوْ
هَشَّمَهُ، وَالْجَانِيَانِ فِي الْحُرِّيَّةِ قَطَعَا يَدَهُ، فَالدِّيَةُ
عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، لِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
أَرْشِ الْإِصْبَعِ وَهُوَ عُشْرُ الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ.
وَلَوْ كَانَ الْجَانِي فِي حَالِ الرِّقِّ قَطَعَ يَدَيْهِ،
وَالْجَانِيَانِ فِي الْحُرِّيَّةِ قَطَعَا رِجْلَيْهِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ
أَثْلَاثًا، وَكَانَ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
جَمِيعِ قِيمَتِهِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ،
يَكُونُ لَهُ فِي الْفَرْعَيْنِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ
الْقِيمَةِ أَوْ ثُلُثِ الدِّيَةِ. (6669) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ
الْجَانِيَانِ فِي حَالِ الرِّقِّ، وَالْوَاحِدُ فِي حَالِ الْحُرِّيَّةِ،
فَمَاتَ، فَعَلَيْهِمْ الدِّيَةُ، وَلِلسَّيِّدِ مِنْ ذَلِكَ،
(8/312)
فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَقَلُّ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَتَيْنِ أَوْ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ،
وَعَلَى الْآخَرِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ أَوْ
ثُلُثَيْ الدِّيَةِ.
(6670) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْجُنَاةُ أَرْبَعَةً؛ وَاحِدٌ فِي الرِّقِّ،
وَثَلَاثَةٌ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَمَاتَ، كَانَ لِلسَّيِّدِ فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ، الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوْ رُبْعِ
الدِّيَةِ، وَعَلَى الْآخَرِ الْأَقَلُّ مِنْ رُبْعِ الْقِيمَةِ أَوْ
رُبْعِ الدِّيَةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّلَاثَةُ فِي الرِّقِّ، وَالْوَاحِدُ
فِي الْحُرِّيَّةِ، كَانَ لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ
الْجِنَايَاتِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ الْأَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ
الْقِيمَةِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ. وَلَوْ كَانُوا عَشْرَةً،
وَاحِدٌ فِي الرِّقِّ، وَتِسْعَةٌ فِي الْحُرِّيَّةِ، فَالدِّيَةُ
عَلَيْهِمْ، وَلِلسَّيِّدِ فِيهَا بِحِسَابِ مَا ذَكَرْنَا، عَلَى
اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ.
[فَصْل قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أُعْتِقَ فَقَطَعَ آخَرُ رِجْلَهُ ثُمَّ عَادَ
الْأَوَّلُ فَقَتَلَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ]
(6671) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَقَطَعَ آخَرُ
رِجْلَهُ، ثُمَّ عَادَ الْأَوَّلُ فَقَتَلَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ،
فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِلْوَرَثَةِ، وَنِصْفُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ،
وَعَلَى الْآخَرِ الْقِصَاصُ لِلْوَرَثَةِ فِي الرِّجْلِ أَوْ نِصْفُ
الدِّيَةِ. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَعَلَى الْجَانِي
الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا
فِي رِقِّهِ. فَإِنْ اخْتَارَ الْوَرَثَةُ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ،
سَقَطَ حَقُّ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ
النَّفْسُ وَأَرْشُ الطَّرَفِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، فَإِنَّ الطَّرَفَ
دَاخِلٌ فِي النَّفْسِ فِي الْأَرْشِ.
وَإِنْ اخْتَارُوا الْعَفْوَ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ دُونَ أَرْشِ
الطَّرَفِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الطَّرَفِ يَدْخُلُ فِي النَّفْسِ،
وَلِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ أَرْشِ
الطَّرَفِ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَعَلَيْهِ
الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَطَعَ سِرَايَتهَا، فَصَارَ
كَمَا لَوْ انْدَمَلَتْ. فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الَّذِي قَتَلَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ،
فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. وَهَلْ يُقْطَعُ طَرَفُهُ؟ عَلَى
رِوَايَتَيْنِ. فَإِنْ عَفَا الْوَرَثَةُ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلسَّيِّدِ، وَلَا
قِصَاصَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ ثَالِثًا، فَقَدْ اسْتَقَرَّ
الْقَطْعَانِ، وَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِسَيِّدِهِ،
وَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ فِي الرِّجْلِ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ
لِوَرَثَتِهِ، وَعَلَى الثَّالِثِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَوْ
الدِّيَةُ.
[فَصْلٌ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ انْدَمَلَ
جُرْحُهُ]
(6672) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ
ثُمَّ انْدَمَلَ جُرْحُهُ، فَلَا قِصَاصِ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ؛
لِأَنَّهُ إنَّمَا قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَقَرَّ
بِالِانْدِمَالِ مَا وَجَبَ بِالْجِرَاحِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِتْقِ
بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ
عَلَى مَمْلُوكِهِ. وَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا
يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسِرَايَةِ جُرْحٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ،
أَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْقَطْعِ فِي الْحَدِّ
(8/313)
وَسِرَايَة الْقَوَدِ، وَلِأَنَّا
تَبَيَّنَّا أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ قَتْلًا، فَيَكُونُ قَاتِلًا
لَعَبْدِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ.
وَهَذَا بِمُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ بِمَا
زَادَ عَلَى أَرْشِ الْقَطْعِ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ
حُرٌّ بِسِرَايَةِ قَطْعِ عُدْوَانٍ، فَيَضْمَنُ، كَمَا لَوْ كَانَ
الْقَاطِعُ أَجْنَبِيًّا، لَكِنْ يَسْقُطُ أَرْشُ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ فِي
مِلْكِهِ، وَيَجِبُ الزَّائِدُ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
وَارِثٌ سِوَاهُ، وَجَبَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَرِثُ السَّيِّدُ
شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ.
[مَسْأَلَة قَتَلَ رَجُلٌ اثْنَيْنِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ]
(6673) مَسْأَلَة؛ قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ اثْنَيْنِ، وَاحِدًا
بَعْدَ وَاحِدٍ، فَاتَّفَقَ أَوْلِيَاءُ الْجَمِيعِ عَلَى الْقَوَدِ،
أُقِيدَ لَهُمَا. وَإِنْ أَرَادَ وَلِيُّ الْأَوَّلِ الْقَوَدَ،
وَالثَّانِي الدِّيَةَ، أُقِيدَ لِلْأَوَّلِ، وَأُعْطِيَ أَوْلِيَاءُ
الثَّانِي الدِّيَةَ مِنْ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَوْلِيَاءُ
الْأَوَّلِ الدِّيَةَ، وَالثَّانِي الْقَوَدَ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ
إذَا قَتَلَ اثْنَيْنِ، فَاتَّفَقَ أَوْلِيَاؤُهُمَا عَلَى قَتْلِهِ
بِهِمَا، قُتِلَ بِهِمَا. وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الْقَوَدَ،
وَالْآخَرُ الدِّيَةَ، قُتِلَ لِمَنْ اخْتَارَ أَرَادَ الْقَوَدَ،
وَأُعْطِيَ أَوْلِيَاءُ الثَّانِي الدِّيَةَ مِنْ مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ
الْمُخْتَارُ لِلْقَوَدِ الثَّانِيَ أَوْ الْأَوَّلَ، وَسَوَاءٌ
قَتَلَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ دَفْعَتَيْنِ. فَإِنْ بَادَرَ
أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ، وَجَبَ لِلْآخَرِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ،
أَيِّهِمَا كَانَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ، لَيْسَ
لَهُمْ إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ طَلَبَ بَعْضُهُمْ الدِّيَةَ، فَلَيْسَ لَهُ،
وَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ، سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ
الْجَمَاعَةَ لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا قُتِلُوا بِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا
قَتَلَهُمْ وَاحِدٌ قُتِلَ بِهِمْ، كَالْوَاحِدِ بِالْوَاحِدِ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ إلَّا بِوَاحِدٍ، سَوَاءٌ اتَّفَقُوا عَلَى
طَلَبِ الْقِصَاصِ أَوْ لَمْ يَتَّفِقُوا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ، فَاشْتِرَاكُهُمْ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا
يُوجِبُ تَدَاخُلَ حُقُوقِهِمْ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَلَنَا عَلَى أَبِي
حَنِيفَةَ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ إنْ
أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ» . فَظَاهِرُ
هَذَا أَنَّ أَهْلَ كُلِّ قَتِيلٍ يَسْتَحِقُّونَ مَا اخْتَارُوهُ مِنْ
الْقَتْلِ أَوْ الدِّيَةِ، فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى الْقَتْلِ وَجَبَ
لَهُمْ، وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ الدِّيَةَ، وَجَبَ لَهُ بِظَاهِرِ
الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ لَا يَتَدَاخَلَانِ إذَا كَانَتَا
خَطَأً أَوْ إحْدَاهُمَا، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا فِي الْعَمْدِ،
كَالْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَطْرَافِ، وَقَدْ سَلَّمُوهَا.
وَلَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ مَحَلٌّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقَّانِ،
لَا يَتَّسِعُ لَهُمَا مَعًا، رَضِيَ الْمُسْتَحِقَّانِ بِهِ عَنْهُمَا،
فَيَكْتَفِي بِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدَيْنِ خَطَأً فَرَضِيَ
بِأَخْذِهِ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِدُونِ حَقِّهِمَا فَجَازَ،
كَمَا لَوْ رَضِيَ صَاحِبُ الصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ، أَوْ وَلِيُّ
الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَوَلِيُّ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ. وَفَارَقَ مَا
إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً؛ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ،
وَالذِّمَّةُ تَتَّسِعُ لَحُقُوقٍ كَثِيرَةٍ.
وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ
الْجَمَاعَةَ قُتِلُوا بِالْوَاحِدِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ الِاشْتِرَاكُ
إلَى إسْقَاطِ الْقِصَاصِ، تَغْلِيظًا لِلْقِصَاصِ، وَمُبَالَغَةً فِي
الزَّجْرِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا
(8/314)
يَنْعَكِسُ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ
أَنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِقَتْلِ وَاحِدٍ، وَأَنَّ قَتْلَ
الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يَزْدَادُ بِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ، بَادَرَ إلَى
قَتْلِ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَفَعَلَ مَا يَشْتَهِي فِعْلَهُ، فَيَصِيرُ
هَذَا كَإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنْهُ ابْتِدَاءً مَعَ الدِّيَةِ. (6674)
فَصْلٌ: وَإِنْ طَلَبَ كُلُّ وَلِيٍّ قَتْلَهُ بِوَلِيِّهِ، مُسْتَقِلًّا
مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ، قُدِّمَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ،
وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْقَتْلِ الْأَوَّلِ.
فَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْأَوَّلِ، فَلِوَلِيِّ الثَّانِي قَتْلُهُ. وَإِنْ
طَالَبَ وَلِيُّ الثَّانِي قَبْلَ طَلَبِ الْأَوَّلِ، بَعَثَ الْحَاكِمُ
إلَى وَلِيِّ الْأَوَّلِ فَأَعْلَمَهُ. وَإِنْ بَادَرَ الثَّانِي
فَقَتَلَهُ، أَسَاءَ، وَسَقَطَ حَقُّ الْأَوَّلِ إلَى الدِّيَةِ. وَإِنْ
كَانَ وَلِيُّ الْأَوَّلِ غَائِبًا أَوْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا،
اُنْتُظِرَ.
وَإِنْ عَفَا أَوْلِيَاءُ الْجَمِيعِ إلَى الدِّيَاتِ، فَلَهُمْ ذَلِكَ.
وَإِنْ قَتَلَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَتَشَاحُّوا فِي الْمُسْتَوْفِي،
أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ؛ لِتَسَاوِي
حُقُوقِهِمْ. وَإِنْ بَادَرَ غَيْرُهُ فَقَتَلَهُ، اسْتَوْفَى حَقَّهُ،
وَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ إلَى الدِّيَةِ. وَإِنْ قَتَلَهُمْ
مُتَفَرِّقًا، وَأَشْكَلَ الْأَوَّلُ، أَوْ ادَّعَى كُلُّ وَلِيٍّ أَنَّهُ
الْأَوَّلُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمْ، فَأَقَرَّ الْقَاتِلُ لَأَحَدِهِمْ،
قُدِّمَ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ، أَقْرَعَنَا بَيْنَهُمْ؛
لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ]
(6675) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ
كَالْحُكْمِ فِي الْأَنْفُسِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ
وَالِاخْتِلَافِ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ قَالُوا: يُقَادُ
لَهُمَا جَمِيعًا، وَيَغْرَمُ لَهُمَا دِيَةَ الْيَدِ فِي مَالِهِ
نِصْفَيْنِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إيجَابِ
الْقَوَدِ فِي بَعْضِ الْعُضْوِ وَالدِّيَةِ فِي بَعْضِهِ، وَالْجَمْعِ
بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَرِدْ
الشَّرْعُ بِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرُ ثُمَّ سَرَى الْقَطْعُ إلَى
نَفْسِ الْمَقْطُوعِ فَمَاتَ]
(6676) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ، ثُمَّ
سَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِ الْمَقْطُوعِ فَمَاتَ، فَهُوَ قَاتِلٌ
لَهُمَا، فَإِذَا تَشَاحَّا فِي الْمُسْتَوْفِي لِلْقَتْلِ، قُتِلَ
بِاَلَّذِي قَتَلَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ عَلَيْهِ أَسْبَقُ،
فَإِنَّ الْقَتْلَ بِاَلَّذِي قَطَعَهُ إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ
السِّرَايَةِ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ قَتْلِ الْآخَرِ، وَأَمَّا
الْقَطْعُ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَسْتَوْفِي مِنْهُ مِثْلُ مَا فَعَلَ.
فَإِنَّهُ يُقْطَعُ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقْتَلُ لِلَّذِي قَتَلَهُ،
وَيَجِبُ لِلْأَوَّلِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَسْتَوْفِي
الْقَطْعُ. وَجَبَتْ لَهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَلَمْ يُقْطَعْ طَرَفُهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْقَطْعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ
الْقَطْعَ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ.
فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَتْلِ، وَجَبَ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ
لِوُجُوبِ مُقْتَضِيه، وَعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ اسْتِيفَائِهِ، كَمَا لَوْ
لَمْ يَسْرِ. وَلَوْ كَانَ قَطْعُ الْيَدِ لَمْ يَسْرِ إلَى النَّفْسِ،
فَإِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُقْتَلُ، وَسَوَاءٌ
(8/315)
تَقَدَّمَ الْقَطْعُ أَوْ تَأَخَّرَ.
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ وَلَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ تَلِفَ
الطَّرَفُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْقَطْعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَا
لَوَاحِدٍ. وَلَنَا، أَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ، فَلَمْ
يَتَدَاخَلَا، كَقَطْعِ يَدَيْ رَجُلَيْنِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِيَاسِ
غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، ثُمَّ
قَتَلَهُ يَقْصِدُ الْمُثْلَةَ بِهِ، قُطِعَ وَقُتِلَ. وَنَحْنُ
نُوَافِقُهُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ، فَقَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ مِنَّا
وَمِنْهُمْ عَلَى انْتِفَاءِ التَّدَاخُلِ فِي الْأَصْلِ، فَكَيْفَ يَقِيسُ
عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَنْقَلِبُ دَلِيلًا عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: قَطَعَ
وَقَتَلَ، فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مِثْلُ مَا فَعَلَ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ
بِرَجُلٍ وَاحِدٍ يَقْصِدُ الْمُثْلَةَ بِهِ، وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي
مَحَلِّ النِّزَاعِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ
يَتَدَاخَلْ حَقُّ الْوَاحِد، فَحَقُّ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى، وَيَبْطُلُ
بِهَذَا مَا قَالَهُ مِنْ الْمَعْنَى.
[فَصْلٌ قَطَعَ إصْبَعًا مِنْ يَمِينِ رَجُلٍ وَيَمِينًا لِآخَرَ]
(6677) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا مِنْ يَمِينِ رَجُلٍ، وَيَمِينًا
لِآخَرَ، وَكَانَ قَطْعُ الْإِصْبَعِ أَسْبَقِ، قُطِعَتْ إصْبَعُهُ
قِصَاصًا، وَخُيِّرَ الْآخَرُ بَيْنَ الْعَفْوِ إلَى الدِّيَةِ، وَبَيْنَ
الْقِصَاصِ وَأَخْذِ دِيَةِ الْإِصْبَعِ. ذَكَره الْقَاضِي، وَهُوَ
اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ
بَعْضَ حَقِّهِ، فَكَانَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَوْجُودِ، وَأَخْذُ بَدَلِ
الْمَفْقُودِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مِثْلِيًّا لِرَجُلٍ، فَوَجَدَ بَعْضَ
الْمِثْلِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُخَيَّرُ بَيْن الْقِصَاصِ وَلَا شَيْءَ
لَهُ مَعَهُ، وَبَيْنَ الدِّيَةِ. هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قِصَاصٍ
وَدِيَةٍ كَالنَّفْسِ.
وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الْيَدِ سَابِقًا عَلَى قَطْعِ الْإِصْبَعِ، قُطِعَتْ
يَمِينُهُ قِصَاصًا، وَلِصَاحِبِ الْإِصْبَعِ أَرْشُهَا. وَيُفَارِقُ هَذَا
مَا إذَا قَتَلَ رَجُلًا، ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ، حَيْثُ قَدَّمْنَا
اسْتِيفَاءَ الْقَطْعِ مَعَ تَأَخُّرِهِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ لَا
يَمْنَعُ التَّكَافُؤَ فِي النَّفْسِ، بِدَلِيلِ أَنَّا نَأْخُذُ كَامِلَ
الْأَطْرَافِ بِنَاقِصِهَا، وَأَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، وَنَقْصَ
الْإِصْبَعِ يَمْنَعُ التَّكَافُؤَ فِي الْيَدِ، بِدَلِيلِ أَنَّا لَا
نَأْخُذُ الْكَامِلَةَ بِالنَّاقِصَةِ، وَاخْتِلَافِ دِيَتِهِمَا. وَإِنْ
عَفَا صَاحِبُ الْيَدِ، قُطِعَتْ الْإِصْبَعُ لِصَاحِبِهَا، إنْ اخْتَارَ
قَطَعَهَا.
[مَسْأَلَةٌ جَرَحَهُ جُرْحًا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِلَا حَيْفٍ]
(6678) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا جَرَحَهُ جُرْحًا يُمْكِنُ
الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِلَا حَيْفٍ، اُقْتُصَّ مِنْهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ
أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْجُرُوحِ، إذَا
أَمْكَنَ؛ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَرَوَى أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ، أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضِرِ بْنِ أَنَسٍ، «كَسَرَتْ
ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمْ الْأَرْشَ، فَأَبَوْا إلَّا
الْقِصَاصَ، فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ
(8/316)
النَّضْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ، وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا
تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ. قَالَ: فَعَفَا
الْقَوْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»
. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ إذَا أَمْكَنَ، وَلِأَنَّ مَا دُون النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي
الْحَاجَةِ إلَى حِفْظِهِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي
وُجُوبِهِ.
[فَصْلٌ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ ثَلَاثَةُ
أَشْيَاء]
(6679) فَصْلٌ: وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ
ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا، فَأَمَّا
الْخَطَأُ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ إجْمَاعًا، لِأَنَّ الْخَطَأ لَا يُوجِبُ
الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ، وَهِيَ الْأَصْلُ، فَفِيمَا دُونَهَا أَوْلَى.
وَلَا يَجِبُ بِعَمْدِ الْخَطَأِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا
يُفْضِي إلَى ذَلِكَ غَالِبًا، مِثْلُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَصَاةِ لَا
يُوضِحُ مِثْلُهَا، فَتُوضِحَهُ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ
شِبْهُ الْعَمْدِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ
ذَلِكَ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ. الثَّانِي: التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَارِحِ
وَالْمَجْرُوحِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي يُقَادُ مِنْ الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ لَوْ قَتَلَهُ، كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ مَعَ الْحُرِّ
الْمُسْلِمِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، فَلَا يُقْتَصُّ
مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ، كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ،
وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ، وَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا
تُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، وَلَا
يُجْرَحُ بِجُرْحِهِ، كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمِنِ. الثَّالِثُ:
إمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلَا زِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . وَقَالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .
وَلِأَنَّ دَمَ الْجَانِي مَعْصُومٌ إلَّا فِي قَدْرِ جِنَايَتِهِ، فَمَا
زَادَ عَلَيْهَا يَبْقَى عَلَى الْعِصْمَةِ، فَيَحْرُمُ اسْتِيفَاؤُهُ
بَعْدَ الْجِنَايَةِ، كَتَحْرِيمِهِ قَبْلَهَا، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْمَنْعِ
مِنْ الزِّيَادَةِ الْمَنْعُ مِنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ
لَوَازِمِهِ، فَلَا يُمْكِنُ الْمَنْعُ مِنْهَا إلَّا بِالْمَنْعِ مِنْهُ.
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ نَعْلَمُهُ. وَمِمَّنْ مَنَعَ الْقِصَاصَ فِيمَا
دُونَ الْمُوضِحَةِ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ،
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَمَنَعَهُ فِي الْعِظَامِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ،
وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْجُرْحَ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ
غَيْرِ زِيَادَةٍ، هُوَ كُلُّ جُرْحٍ يَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ،
كَالْمُوضِحَةِ
(8/317)
فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَلَا نَعْلَمُ
فِي جَوَازِ الْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ خِلَافًا، وَهِيَ كُلُّ جُرْحٍ
يَنْتَهِي إلَى الْعَظْمِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ، فَلَوْ لَمْ
يَجِبْ هَاهُنَا، لَسَقَطَ حُكْمُ الْآيَةِ، وَفِي مَعْنَى الْمُوضِحَةِ
كُلُّ جُرْحٍ يَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ فِيمَا سِوَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ،
كَالسَّاعِدِ، وَالْعَضُدِ، وَالسَّاقِ، وَالْفَخِذِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ
أَهْلِ الْعِلْمِ. وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَا قِصَاصَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ
فِيهَا. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا بِغَيْرِ
حَيْفٍ وَلَا زِيَادَةٍ، لِانْتِهَائِهَا إلَى عَظْمٍ، فَهِيَ
كَالْمُوضِحَةِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْمُوضِحَةِ لَيْسَ هُوَ الْمُقْتَضِي
لِلْقِصَاصِ، وَلَا عَدَمُهُ مَانِعًا، وَإِنَّمَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِي
الْمُوضِحَةِ لِكَثْرَةِ شَيْنِهَا، وَشَرَفِ مَحَلِّهَا؛ وَلِهَذَا
قُدِّرَ مَا فَوْقَهَا مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَلَا قِصَاصَ
فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْجَائِفَةُ أَرْشُهَا مُقَدَّرٌ، لَا قِصَاصَ فِيهِ.
[فَصْلٌ لَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالسَّيْفِ]
(6680) فَصْلٌ: وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
بِالسَّيْفِ، وَلَا بِآلَةٍ يُخْشَى مِنْهَا الزِّيَادَةُ، سَوَاءٌ كَانَ
الْجُرْحُ بِهَا أَوْ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا اُسْتُوْفِيَ
بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ آلَتُهُ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ شَيْءٌ يُخْشَى
التَّعَدِّي إلَيْهِ، فَيَجِبُ أَنْ يُسْتَوْفَى مَا دُونَ النَّفْسِ
بِآلَتِهِ، وَيُتَوَقَّى مَا يُخْشَى مِنْهُ الزِّيَادَةُ إلَى مَحَلٍّ لَا
يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلِأَنَّنَا مَنَعْنَا الْقِصَاصَ بِالْكُلِّيَّةِ
فِيمَا تُخْشَى الزِّيَادَةُ فِي اسْتِيفَائِهِ. فَلَأَنْ نَمْنَعَ
الْآلَةَ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا ذَلِكَ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ
مُوضِحَةً أَوْ مَا أَشْبَهَهَا، فَبِالْمُوسَى أَوْ حَدِيدَةٍ مَاضِيَةٍ
مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَوْفِي ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَهُ عِلْمٌ
بِذَلِكَ، كَالْجَرَائِحِيِّ وَمَنْ أَشْبَهَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلْوَلِيِّ عِلْمٌ بِذَلِكَ، أُمِرَ بِالِاسْتِبَانَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ
عِلْمٌ، فَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يُمَكَّنُ
مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَيُمَكَّنُ مِنْ
اسْتِيفَائِهِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ، كَالْقَتْلِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا
يَلِيهِ إلَّا نَائِبُ الْإِمَامِ، أَوْ مِنْ يَسْتَنِيبُهُ وَلِيُّ
الْجِنَايَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ
مَعَ الْعَدَاوَةِ وَقَصْدِ التَّشَفِّي الْحَيْفُ فِي الِاسْتِيفَاءِ
بِمَا لَا يُمْكِنُ تَلَافِيه، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى النِّزَاعِ
وَالِاخْتِلَافِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ الْجَانِي الزِّيَادَةَ وَيُنْكِرَهَا
الْمُسْتَوْفِي.
[فَصْل أَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ مُوضِحَةٍ وَشِبْهِهَا]
(6681) فَصْلٌ: وَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ مُوضِحَةٍ
وَشِبْهِهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَوْضِعِهَا شَعْرٌ حَلَقَهُ، وَيَعْمِدُ
إلَى مَوْضِعِ الشَّجَّةِ مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ، فَيَعْلَمُ مِنْهُ
طُولَهَا بِخَشَبَةٍ أَوْ خَيْطٍ، وَيَضَعُهَا عَلَى رَأْسِ الشَّاجِّ،
وَيُعَلِّمُ طَرَفَيْهِ بِخَطٍّ بِسَوَادٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَأْخُذُ
حَدِيدَةً عَرْضُهَا كَعَرْضِ الشَّجَّةِ، فَيَضَعُهَا فِي أَوَّلِ
الشَّجَّةِ، وَيَجُرُّهَا إلَى آخِرِهَا، وَيَأْخُذُ مِثْلَ الشَّجَّةِ
طُولًا وَعَرْضًا، وَلَا يُرَاعِي الْعُمْقَ؛ لِأَنَّ حَدَّهُ الْعَظْمُ،
وَلَوْ رُوعِيَ الْعُمْقُ لَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّ
(8/318)
النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي قِلَّةِ
اللَّحْمِ وَكَثْرَتِهِ، وَهَذَا كَمَا يَسْتَوْفِي فِي الطَّرَفِ مِثْلِهِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالدِّقَّةِ وَالْغِلَظِ،
وَيُرَاعِي الطُّولَ وَالْعَرْضَ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ
الشَّاجِّ وَالْمَشْجُوجِ سَوَاءً، اسْتَوْفَى قَدْرَ الشَّجَّةِ، وَإِنْ
كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، لَكِنَّهُ يَتَّسِعُ لِلشَّجَّةِ،
اُسْتُوْفِيَتْ إنْ اسْتَوْعَبَ رَأْسَ الشَّاجِّ كُلَّهُ، وَهِيَ بَعْضُ
رَأْسِ الْمَشْجُوجِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَاهَا بِالْمِسَاحَةِ، وَلَا
يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ زِيَادَتُهَا عَلَى مِثْلِ مَوْضِعِهَا مِنْ
رَأْسِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ رَأْسُهُ. وَإِنْ كَانَ قَدْرُ
الشَّجَّةِ يَزِيدُ عَلَى رَأْسِ الْجَانِي، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي
الشَّجَّةَ مِنْ جَمِيعِ رَأْسِ الشَّاجِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ
إلَى جَبْهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ فِي عُضْوٍ آخَرَ غَيْرِ الْعُضْوِ
الَّذِي جَنَى عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَنْزِلُ إلَى قَفَاهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا
يَسْتَوْفِي بَقِيَّةَ الشَّجَّةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ رَأْسِهِ؛
لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِمُوضِحَتَيْنِ، وَوَاضِعًا
لِلْحَدِيدَةِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهَا فِيهِ الْجَانِي.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَاذَا يَصْنَعُ؟ فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ
ظَاهِرَ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهُ فِيمَا بَقِيَ؛
كَيْ لَا يَجْتَمِعَ قِصَاصٌ وَدِيَةٌ فِي جُرْحٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَعَلَى هَذَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ
الِاسْتِيفَاءِ فِي جَمِيعِ رَأْسِ الشَّاجِّ وَلَا أَرْشَ لَهُ، وَبَيْنَ
الْعَفْوِ إلَى دِيَةِ مُوضِحَةٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ
حَامِدٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَهُ أَرْشُ مَا بَقِيَ. وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيمَا جَنَى عَلَيْهِ،
فَكَانَ لَهُ أَرْشُهُ، كَمَا لَوْ تَعَذُّرَ فِي الْجَمِيعِ. فَعَلَى
هَذَا، تُقَدَّرُ شَجَّةُ الْجَانِي مِنْ الشَّجَّةِ فِي رَأْسِ
الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوْفِي أَرْشَ الْبَاقِي، فَإِنْ كَانَتْ
بِقَدْرِ ثُلُثِهَا فَلَهُ ثُلُثُ أَرْشِ مُوضِحَةٍ، وَإِنْ زَادَتْ أَوْ
نَقَصَتْ عَنْ هَذَا فَبِالْحِسَابِ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ.
وَلَا يَجِبُ لَهُ أَرْشُ مُوضِحَةٍ كَامِلَةٍ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى
إيجَابِ الْقِصَاصِ وَدِيَةِ مُوضِحَةٍ فِي مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ
أَوْضَحَهُ فِي جَمِيعِ رَأْسِهِ، وَرَأْسُ الْجَانِي أَكْبَرُ،
فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يُوضِحَ مِنْهُ بِقَدْرِ مِسَاحَةِ
مُوضِحَتِهِ مِنْ أَيِّ الطَّرَفَيْنِ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كُلِّهِ، وَإِذَا اسْتَوْفَى قَدْرَ مُوضِحَتِهِ، ثُمَّ
تَجَاوَزَهَا، وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ عَمَدَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ
فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَإِذَا انْدَمَلَتْ مُوضِحَتُهُ، اُسْتُوْفِيَ
مِنْهُ الْقِصَاصُ فِي مَوْضِعِ الِانْدِمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ
الْجِنَايَةِ، وَإِنْ ادَّعَى الْخَطَأَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ
مُحْتَمِلٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْمُوضِحَةُ كُلُّهَا لَوْ كَانَتْ عُدْوَانًا
لَمْ يَجِبْ فِيهَا إلَّا دِيَةُ مُوضِحَةٍ، فَكَيْفَ يَجِبُ فِي بَعْضِهَا
دِيَةُ مُوضِحَةٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِي، لَمْ يَكُنْ
جِنَايَةً، إنَّمَا الْجِنَايَةُ الزَّائِدُ، وَالزَّائِدُ لَوْ انْفَرَدَ
لَكَانَ مُوضِحَةً، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ مَا لَيْسَ بِجِنَايَةِ،
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا عُدْوَانًا؛ فَإِنَّ الْجَمِيعَ
جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ.
[فَصْلٌ أَوْضَحَهُ فِي جَمِيعِ رَأْسِهِ وَرَأْسُ الْجَانِي أَكْبَرُ]
فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْضَحَهُ فِي جَمِيعِ رَأْسِهِ، وَرَأْسُ الْجَانِي
أَكْبَرُ، فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ بَعْضَهُ مِنْ مُقَدَّمِ
الرَّأْسِ
(8/319)
وَبَعْضَهُ مِنْ مُؤَخَّرِهِ، احْتَمَلَ
أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مُوضِحَتَيْنِ بِوَاحِدَةٍ،
وَدِيَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، وَاحْتَمَلَ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُجَاوِزُ مَوْضِعَ الْجِنَايَةِ وَلَا قَدْرَهَا، إلَّا أَنْ يَقُولَ
أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ ضَرَرٍ أَوْ شَيْنٍ، فَلَا
يَفْعَلُ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَهَذَيْنِ. فَإِنْ كَانَ رَأْسُ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَكْبَرَ، فَأَوْضَحَهُ الْجَانِي فِي مُقَدَّمِهِ
وَمُؤَخَّرِهِ مُوضِحَتَيْنِ، قَدْرُهُمَا جَمِيعُ رَأْسِ الْجَانِي،
فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُوضِحَهُ مُوضِحَةً وَاحِدَةً فِي جَمِيعِ
رَأْسِهِ، أَوْ يُوضِحَهُ مُوضِحَتَيْنِ، يَقْتَصِرُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا عَلَى قَدْرِ مُوضِحَتِهِ، وَلَا أَرْشَ لِذَلِكَ، وَجْهًا
وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِيفَاءَ مَعَ إمْكَانِهِ. وَإِنْ عَفَا
إلَى الْأَرْشِ، فَلَهُ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ مِنْ
أَحَدِهِمَا، وَأَخَذَ دِيَةَ الْأُخْرَى.
[فَصْلٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ]
(6683) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ
وَالْوَجْهِ، فَكَانَتْ فِي سَاعِدٍ، فَزَادَتْ عَلَى سَاعِدِ الْجَانِي،
لَمْ يَنْزِلْ إلَى الْكَفِّ، وَلَمْ يَصْعَدْ إلَى الْعَضُدِ، وَإِنْ
كَانَتْ فِي السَّاقِ، لَمْ يَنْزِلْ إلَى الْقَدَمِ، وَلَمْ يَصْعَدْ إلَى
الْفَخِذِ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ آخَرُ، فَلَا يَقْتَصُّ مِنْهُ، كَمَا لَمْ
يَنْزِلْ مِنْ الرَّأْسِ إلَى الْوَجْهِ، وَلَمْ يَصْعَدْ مِنْ الْوَجْهِ
إلَى الرَّأْسِ.
[فَصْلٌ شُجَّ فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ عَرْضًا شَجَّةً
لَا يَتَّسِعُ لَهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ]
(6684) فَصْلٌ: وَإِذَا شُجَّ فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ
عَرْضًا شَجَّةً لَا يَتَّسِعُ لَهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ
رَأْسِ الشَّاجِّ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ وَسَطِ الرَّأْسِ،
فِيمَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ، لِكَوْنِهِ يَتَّسِعُ لِمِثْلِ تِلْكَ
الْمُوضِحَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ
غَيْرُ الْمَوْضِعِ الَّذِي شَجَّهُ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ
الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ
مَحَلِّ شَجَّتِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ عُضْوٌ
وَاحِدٌ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ مَحَلِّ
شَجَّتِهِ، جَازَ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ شَجَّهُ فِي مُقَدَّمِ
رَأْسِهِ شَجَّةً قَدْرُهَا جَمِيعُ رَأْسِ الشَّاجِّ، جَازَ إتْمَامُ
اسْتِيفَائِهَا فِي مُؤَخَّرِ رَأْسِ الْجَانِي. وَهَذَا مَنْصُوصُ
الشَّافِعِيِّ. وَهَكَذَا يُخَرَّجُ فِيمَا إذَا كَانَ الْجُرْحُ فِي
مَوْضِعٍ مِنْ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَالذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ. وَإِنْ
أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، لَمْ يَجُزْ
الْعُدُولُ عَنْهُ، وَجْهًا وَاحِدًا.
[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ]
(6685) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ مِنْهُ طَرَفًا مِنْ
مَفْصِلٍ، قَطَعَ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَفْصِلِ، إذَا كَانَ الْجَانِي
يُقَادُ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَوْ قَتَلَهُ) أَجْمَعَ أَهْلُ
الْعِلْمِ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ، وَقَدْ ثَبَتَ
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ
بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .
(8/320)
وَبِخَبَرِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ النَّضِرِ
بْنِ أَنَسٍ، وَيُشْتَرَطُ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيهَا شُرُوطٌ
خَمْسَةٌ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَمْدًا، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا لِلْجَانِي
بِحَيْثُ يُقَادُ بِهِ لَوْ قَتَلَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الطَّرَفُ مُسَاوِيًا لِلطَّرَفِ، فَلَا
يُؤْخَذُ صَحِيحٌ بِأَشَلَّ، وَلَا كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ،
وَلَا أَصْلِيَّةٌ بِزَائِدَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِي
الدِّقَّةِ وَالْغِلَظِ، وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالصِّحَّةِ
وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ
بِالْكُلِّيَّةِ. وَالرَّابِعُ: الِاشْتِرَاكُ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ،
فَلَا تُؤْخَذُ يَمِينٌ بِيَسَارٍ، وَلَا يَسَارٌ بِيَمِينٍ، وَلَا إصْبَعٌ
بِمُخَالِفَةٍ لَهَا، وَلَا جَفْنٌ أَوْ شَفَةٌ إلَّا بِمِثْلِهَا.
وَالْخَامِسُ: إمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، وَهُوَ أَنْ
يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلَا
قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.
وَقَدْ رَوَى نَمِرُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ «، أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ
رَجُلًا عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْر مَفْصِلٍ،
فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ. قَالَ:
خُذْ الدِّيَةَ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا» . وَلَمْ يَقْضِ لَهُ
بِالْقِصَاصِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
[فَصْلٌ فِي قَطْعِ الْيَدِ ثَمَانِ مَسَائِلَ]
(6686) فَصْلٌ: وَفِي قَطْعِ الْيَدِ ثَمَانِ مَسَائِلَ؛ أَحَدُهَا: قَطْعُ
الْأَصَابِعِ مِنْ مَفَاصِلِهَا، فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ لَهَا
مَفَاصِلَ، وَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، وَإِنْ اخْتَارَ
الدِّيَةَ فَلَهُ نِصْفُهَا؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ إصْبَعٍ عُشْرَ الدِّيَةِ.
الثَّانِيَةُ: قَطْعِهَا مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ، فَلَيْسَ لَهُ الْقِصَاصُ
مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَفْصِلٍ، فَلَا يُؤْمَنُ
الْحَيْفُ فِيهِ. وَإِنْ أَرَادَ قَطْعَ الْأَصَابِع فَفِيهِ وَجْهَانِ؛
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛
لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ، فَلَمْ يَجُزْ،
كَمَا لَوْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ الْكُوعِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ امْتِنَاعَ
قَطْعِ الْأَصَابِعِ إذَا قَطَعَ مِنْ الْكُوعِ، إنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ
الْمُقْتَضِي، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ
مُتَحَقِّقٌ إذَا كَانَ الْقَطْعُ مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ. وَالثَّانِي: لَهُ
قَطْعُ الْأَصَابِعِ. ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ دُونَ حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ
اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَجَّهُ هَاشِمَةً، فَاسْتَوْفَى
مُوضِحَةً.
(8/321)
وَيُفَارِقُ مَا إذَا قَطَعَ مِنْ
الْكُوعِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ
الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ. وَهَلْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي نِصْفِ الْكَفِّ؟
فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ
بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا
لَوْ قَطَعَ مِنْ الْكُوعِ. وَالثَّانِي: لَهُ أَرْشُ نِصْفِ الْكَفِّ؛
لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، فَوَجَبَ أَرْشُهُ،
كَسَائِرِ مَا هَذَا حَالُهُ. وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَلَهُ
نِصْفُهَا، لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ مِنْ الْكُوعِ لَا يُوجِبُ أَكْثَرَ
مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ، فَمَا دُونَهُ أَوْلَى. الثَّالِثَةُ: قَطَعَ مِنْ
الْكُوعِ، فَلَهُ قَطْعُ يَدِهِ مِنْ الْكُوعِ، لِأَنَّهُ مَفْصِلٌ،
وَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ
الْجِنَايَةِ، فَلَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ
مَحَلِّهَا. الرَّابِعَةُ: قَطَعَ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ، فَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَقْطَعَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَفْصِلٍ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِيهِ، وَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ،
وَحُكُومَةٌ فِي الْمَقْطُوعِ مِنْ الذِّرَاعِ. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ
مِنْ الْكُوعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي مَنْ قَطَعَ مِنْ
نِصْفِ الْكَفِّ.
وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ الْقَطْعَ مِنْ الْكُوعِ، فَعِنْدَهُ فِي وُجُوبِ
الْحُكُومَةِ لِمَا قُطِعَ مِنْ الذِّرَاعِ وَجْهَانِ. وَيُخَرَّج أَيْضًا
فِي جَوَازِ قَطْعِ الْأَصَابِعِ وَجْهَانِ. فَإِنْ قَطَعَ مِنْهَا، لَمْ
يَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الْكَفِّ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ
قِصَاصًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَلَبُ أَرْشِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ
الْجِنَايَةُ مِنْ الْكُوعِ. الْخَامِسَةُ: قَطَعَ مِنْ الْمَرْفِقِ،
فَلَهُ الْقِصَاصُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَفْصِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ الْقَطْعُ
مِنْ الْكُوعِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ،
وَالِاقْتِصَاصُ مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ
الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَلَهُ دِيَةُ
الْيَدِ، وَحُكُومَةٌ لِلسَّاعِدِ. السَّادِسَةُ: قَطَعَهَا مِنْ
الْعَضُدِ، فَلَا قِصَاصَ فِيهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَهُ دِيَةُ
الْيَدِ، وَحُكُومَةٌ لِلسَّاعِدِ وَبَعْضِ الْعَضُدِ. وَالثَّانِي: لَهُ
الْقِصَاصُ مِنْ الْمَرْفِقِ. وَهَلْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الزَّائِد؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ: وَهَلْ لَهُ الْقَطْعُ مِنْ الْكُوعِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ.
السَّابِعَةُ: قَطَعَ مِنْ الْمَنْكِبِ، فَالْوَاجِبُ الْقِصَاصُ؛
لِأَنَّهُ مَفْصِلٌ، وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَلَهُ دِيَةُ الْيَدِ،
وَحُكُومَةٌ لِمَا زَادَ. الثَّامِنَةُ: خَلَعَ عَظْمَ الْمَنْكِبِ،
وَيُقَال لَهُ: مِشْطُ الْكَتِفِ، فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى اثْنَيْنِ مِنْ
ثِقَاتِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ
غَيْرِ أَنْ تَصِيرَ جَائِفَةً. اُسْتُوْفِيَ، وَإِلَّا صَارَ الْأَمْرُ
إلَى الدِّيَةِ. وَفِي جَوَاز الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْمَرْفِقِ أَوْ مَا
دُونَهُ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي نَظَائِرِهِ. وَمِثْلُ هَذِهِ
الْمَسَائِلِ فِي الرِّجْلِ، وَالسَّاقُ كَالذِّرَاعِ، وَالْفَخِذُ
كَالْعَضُدِ، وَالْوَرِكُ كَعَظْمِ الْكَتِفِ، وَالْقَدَمُ كَالْكَفِّ.
(8/322)
[مَسْأَلَةٌ لَيْسَ فِي الْمَأْمُومَةِ
وَلَا فِي الْجَائِفَةِ قِصَاصٌ]
(6687) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَيْسَ فِي الْمَأْمُومَةِ، وَلَا فِي
الْجَائِفَةِ قِصَاصٌ) الْمَأْمُومَةُ: شِجَاجُ الرَّأْسِ، وَهِيَ الَّتِي
تَصِلُ إلَى جِلْدَةِ الدِّمَاغِ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْجِلْدَةُ أُمَّ
الدِّمَاغِ؛ لِأَنَّهَا تَجْمَعُهُ، فَالشَّجَّةُ الْوَاصِلَةُ إلَيْهَا
تُسَمَّى مَأْمُومَةً وَآمَّةً، لِوُصُولِهَا إلَى أُمِّ الدِّمَاغِ.
وَالْجَائِفَةُ فِي الْبَدَنِ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ.
وَلَيْسَ فِيهِمَا قِصَاصٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
نَعْلَمُهُ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَصَّ مِنْ
الْمَأْمُومَةِ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: مَا سَمِعْنَا
أَحَدًا قَصَّ مِنْهَا قَبْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَمِمَّنْ لَمْ يَرَ فِي
ذَلِكَ قِصَاصًا مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا قِصَاصَ فِي
الْمَأْمُومَةِ. وَقَالَهُ مَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ.
وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ: لَا قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ. وَرَوَى
ابْنُ مَاجَهْ، فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ، وَلَا فِي الْجَائِفَةِ،
وَلَا فِي الْمُنَقِّلَةِ» . وَلِأَنَّهُمَا جُرْحَانِ لَا تُؤْمَنُ
الزِّيَادَةُ فِيهِمَا، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِمَا قِصَاصٌ، كَكَسْرِ
الْعِظَامِ.
[فَصْلٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ قِصَاصٌ سِوَى
الْمُوضِحَةِ]
(6688) فَصْلٌ: وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ قِصَاصٌ سِوَى
الْمُوضِحَةِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا دُون الْمُوضِحَةِ،
كَالْحَارِصَةِ، وَالْبَازِلَةِ، وَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلَاحِمَةِ،
وَالسِّمْحَاقِ، وَمَا فَوْقَهَا، وَهِيَ الْهَاشِمَةُ وَالْمُنَقِّلَةُ
وَالْآمَّةُ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. فَأَمَّا مَا فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، فَلَا
نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِيهَا الْقِصَاصَ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ أَقَادَ مِنْ الْمُنَقَّلَةِ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ
عَنْهُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ؛ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ،
وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُمَا
جِرَاحَتَانِ لَا تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ فِيهِمَا، أَشْبَهَا
الْمَأْمُومَةَ وَالْجَائِفَةَ. وَأَمَّا مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ، فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ فِي
الدَّامِيَةِ وَالْبَاضِعَةِ وَالسِّمْحَاقِ.
وَلَنَا، أَنَّهَا جِرَاحَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ، فَلَمْ يَجِبْ
فِيهَا قِصَاصٌ، كَالْمَأْمُومَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا
الزِّيَادَةُ، فَأَشْبَهَ كَسْرَ الْعِظَامِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّهُ
إنْ اقْتَصَّ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، أَفْضَى إلَى أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرِ
مِنْ حَقِّهِ، وَإِنْ اعْتَبَرَ مِقْدَارَ الْعُمْقِ، أَفْضَى إلَى أَنْ
يَقْتَصَّ مِنْ الْبَاضِعَةِ وَالسِّمْحَاقِ مُوضِحَةً، وَمِنْ
الْبَاضِعَةِ سِمْحَاقًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَحْمُ الْمَشْجُوجِ
كَثِيرًا، بِحَيْثُ يَكُونُ عُمْقُ بَاضِعَتِهِ كَعُمْقِ مُوضِحَةِ
الشَّاجِّ، أَوْ سِمْحَاقِهِ، وَلِأَنَّنَا لَمْ نَعْتَبِرْ فِي
الْمُوضِحَةِ قَدْرَ عُمْقِهَا، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا. وَبِهَذَا قَالَ
الْحَسَنُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ.
(8/323)
[فَصْل كَانَتْ الشَّجَّةُ فَوْقَ
الْمُوضِحَةِ]
(6689) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، فَأُحِبُّ
أَنْ يَقْتَصَّ مُوضِحَةً، جَازَ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ
أَصْحَابِنَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ عَلَى
بَعْضِ حَقِّهِ، وَيَقْتَصُّ مِنْ مَحَلِّ جِنَايَتِهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا
يَضَعُ السِّكِّينَ فِي مَوْضِعٍ وَضَعَهَا الْجَانِي؛ لِأَنَّ سِكِّينَ
الْجَانِي وَصَلَتْ إلَى الْعَظْمِ، ثُمَّ تَجَاوَزَتْهُ، بِخِلَافِ
قَاطِعِ السَّاعِدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَضَعْ سِكِّينَهُ فِي الْكُوعِ.
وَهَلْ لَهُ أَرْشُ مَا زَادَ عَلَى الْمُوضِحَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:؛
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛
لِأَنَّهُ جُرْحٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُجْمَعُ فِيهِ بَيْن قِصَاصٍ وَدِيَةٍ،
كَمَا لَوْ قَطَعَ الشَّلَّاءَ بِالصَّحِيحَةِ، وَكَمَا فِي الْأَنْفُسِ
إذَا قُتِلَ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ، وَالْعَبْدُ بِالْحُرِّ.
وَالثَّانِي: لَهُ أَرْشُ مَا زَادَ عَلَى الْمُوضِحَةِ، اخْتَارَهُ ابْنُ
حَامِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ
فِيهِ، فَانْتَقَلَ إلَى الْبَدَلِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ إصْبَعَيْهِ وَلَمْ
يُمْكِنْ الِاسْتِيفَاءُ إلَّا مِنْ وَاحِدَةٍ. وَفَارَقَ الشَّلَّاءَ
بِالصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ثَمَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى،
وَلَيْسَتْ مُتَمَيِّزَةً، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
[مَسْأَلَةٌ تُقْطَعُ الْأُذُنُ بِالْأُذُنِ]
(6690) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُقْطَعُ الْأُذُنُ بِالْأُذُنِ) أَجْمَعَ
أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَ تُؤْخَذُ بِالْأُذُنِ، وَذَلِكَ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] .
وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ فَاصِلٍ، فَأَشْبَهَتْ الْيَدَ.
وَتُؤْخَذُ الْكَبِيرَةُ بِالصَّغِيرَةِ، وَتُؤْخَذُ أُذُنُ السَّمِيعِ
بِأُذُنِ السَّمِيعِ، وَتُؤْخَذُ أُذُنُ الْأَصَمِّ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا؛ لِتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ ذَهَابَ السَّمْعِ نَقْصٌ فِي
الرَّأْسِ، لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَلَيْسَ بِنَقْصٍ فِيهِمَا. وَتُؤْخَذُ
الصَّحِيحَةُ بِالْمَثْقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الثَّقْبَ لَيْسَ بِعَيْبٍ،
وَإِنَّمَا يُفْعَلُ فِي الْعَادَةِ لِلْقُرْطِ وَالتَّزَيُّنِ بِهِ،
فَإِنْ كَانَ الثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ كَانَتْ مَخْرُومَةً،
أُخِذَتْ بِالصَّحِيحَةِ، وَلَمْ تُؤْخَذْ الصَّحِيحَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ
الثُّقْبَ إذَا انْخَرَمَ صَارَ نَقْصًا فِيهَا، وَالثَّقْبُ فِي غَيْرِ
مَحِلِّهِ عَيْبٌ، وَيُخَيَّرُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَيْنَ أَخْذِ
الدِّيَةِ إلَّا قَدْرَ النَّقْصِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ فِيمَا سِوَى
الْمَعِيبِ وَيَتْرُكَهُ مِنْ أُذُنِ الْجَانِي.
وَفِي وُجُوبِ الْحُكُومَةِ لَهُ فِي قَدْرِ الثُّقْبِ وَجْهَانِ. وَإِنْ
قُطِعَتْ بَعْضُ أُذُنِهِ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أُذُنِ الْجَانِي
وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ، فَيُؤْخَذُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ،
وَالثُّلُثُ بِالثُّلُثِ، وَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُجْزِئُ الْقِصَاصُ فِي الْبَعْضِ؛
لِأَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ. وَلَنَا، أَنَّهُ يُمْكِنُ تَقْدِيرُ
الْمَقْطُوعِ، وَلَيْسَ فِيهَا كَسْرُ عَظْمٍ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِي
بَعْضِهَا، كَالذَّكَرِ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ.
(8/324)
[فَصْلٌ تُؤْخَذُ الْأُذُنُ
الْمُسْتَحْشِفَةُ بِالصَّحِيحَةِ]
(6691) فَصْلٌ: وَتُؤْخَذُ الْأُذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ بِالصَّحِيحَةِ.
وَهَلْ تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا
تُؤْخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ مَعِيبَةٌ، فَلَمْ تُؤْخَذْ بِهَا
الصَّحِيحَةُ، كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَالثَّانِي:
تُؤْخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا جَمْعُ الصَّوْتِ، وَحِفْظُ
مَحَلِّ السَّمْعِ، وَالْجَمَالُ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهَا كَحُصُولِهِ
بِالصَّحِيحَةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَبَانَهَا فَأَلْصَقَهَا صَاحِبُهَا
فَالْتَصَقَتْ وَثَبَتَتْ]
(6692) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَهُ فَأَبَانَهَا، فَأَلْصَقَهَا
صَاحِبُهَا فَالْتَصَقَتْ وَثَبَتَتْ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ
الْقِصَاصُ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛
لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْإِبَانَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ الْإِبَانَةُ. وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ: لَا قِصَاصَ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ
تَبِنْ عَلَى الدَّوَامِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ إبَانَةَ أُذُنِ الْجَانِي
دَوَامًا. وَإِنْ سَقَطَتْ بَعْدَ ذَلِكَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، فَلَهُ
الْقِصَاصُ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، إذَا لَمْ تَسْقُطْ: لَهُ دِيَةُ الْأُذُنِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَوَّلِينَ إذَا
اخْتَارَ الدِّيَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا عَقْلَ لَهَا إذَا عَادَتْ
مَكَانَهَا، فَأَمَّا إنْ قَطَعَ بَعْضَ أُذُنِهِ فَالْتَصَقَ، فَلَهُ
أَرْشُ الْجُرْحِ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ. وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَ إنْسَانٍ،
فَاسْتُوْفِيَ مِنْهُ، فَأَلْصَقَ الْجَانِي أُذُنَهُ فَالْتَصَقَتْ،
وَطَلَبَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ إبَانَتَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛
لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَدْ حَصَلَتْ، وَالْقِصَاصُ قَدْ اُسْتُوْفِيَ،
فَلَمْ يَبْقَ لَهُ قِبَلَهُ حَقٌّ. فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِ لَمْ يَقْطَعْ جَمِيعَ الْأُذُنِ، إنَّمَا قَطَعَ بَعْضَهَا
فَالْتَصَقَ، كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَطْعُ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّهُ
اسْتَحَقَّ إبَانَةَ جَمِيعِهَا، وَلَمْ يَكُنْ إبَانَةٌ. وَالْحُكْمُ فِي
السِّنِّ كَالْحُكْمِ فِي الْأُذُنِ.
[فَصْلٌ أَلْصَقَ أُذُنَهُ بَعْدَ إبَانَتِهَا أَوْ سِنَّهُ فَهَلْ
تَلْزَمُهُ إبَانَتُهَا]
(6693) فَصْلٌ: وَمَنْ أَلْصَقَ أُذُنَهُ بَعْدَ إبَانَتِهَا، أَوْ
سِنَّهُ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ إبَانَتُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ
عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِيمَا بَانَ مِنْ الْآدَمِيِّ، هَلْ هُوَ نَجِسٌ
أَوْ طَاهِرٌ؟ إنْ قُلْنَا: هُوَ نَجِسٌ. لَزِمَتْهُ إزَالَتُهَا، مَا لَمْ
يَخَفْ الضَّرَرَ بِإِزَالَتِهَا، كَمَا لَوْ جَبَرَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ
نَجِسٍ. وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهَا. لَمْ تَلْزَمْهُ إزَالَتُهَا.
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَقَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ،
وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ آدَمِيٍّ
طَاهِرٍ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ، فَكَانَ طَاهِرًا كَحَالَةِ
اتِّصَالِهِ، فَأَمَّا إنْ قَطَعَ بَعْضَ أُذُنِهِ فَالْتَصَقَ، لَمْ
تَلْزَمْهُ إبَانَتُهَا؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ
جَمِيعًا، لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مَيْتَةً، لِعَدَمِ إبَانَتِهَا. وَلَا
قِصَاصَ فِيهَا. قَالَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَقْطُوعِ مِنْهَا.
(8/325)
[مَسْأَلَةٌ الْأَنْفُ بِالْأَنْفِ]
(6694) مَسْأَلَةٌ:؛ قَالَ: (وَالْأَنْفُ بِالْأَنْفِ) وَأَجْمَعُوا عَلَى
جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفِ أَيْضًا؛ لِلْآيَةِ وَالْمَعْنَى.
وَيُؤْخَذُ الْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالْأَقْنَى بِالْأَفْطَسِ، وَأَنْفُ
الْأَشَمِّ بِأَنْفِ الْأَخْشَمِ الَّذِي لَا يَشُمُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
لِعِلَّةٍ فِي الدِّمَاغِ وَالْأَنْفُ صَحِيحٌ. كَمَا تُؤْخَذُ أُذُنُ
السَّمِيعِ بِأُذُنِ الْأَصَمِّ. وَإِنْ كَانَ بِأَنْفِهِ جُذَامٌ، أُخِذَ
بِهِ الْأَنْفُ الصَّحِيحُ، مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ مَرَضٌ، فَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، لَمْ يَقْطَعْ بِهِ
الصَّحِيحَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ. فَيَأْخُذَ مِنْ
الصَّحِيحِ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوْ يَأْخُذَ أَرْشَ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ هُوَ الْمَارِنُ،
وَهُوَ مَالَانِ مِنْهُ، دُونَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَدٌّ
يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَهُوَ كَالْيَدِ، يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا انْتَهَى
إلَى الْكُوعِ. وَإِنْ قَطَعَ الْأَنْفَ كُلَّهُ مَعَ الْقَصَبَةِ،
فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْمَارِنِ، وَحُكُومَةٌ لِلْقَصَبَةِ. هَذَا
قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ،
أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَ الْقِصَاصِ حُكُومَةٌ؛ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ فِي
عُضْوٍ وَاحِدٍ قِصَاصٌ وَدِيَةٌ.
وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ هَاهُنَا؛
لِأَنَّهُ يَضَعُ الْحَدِيدَةَ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهَا
الْجَانِي فِيهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي مَنْ قَطَعَ
الْيَدَ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ أَوْ الْكَفِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي
هَاهُنَا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَفِي نَظَائِرِهِ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ
حَامِدٍ، وَلَا يَصِحُّ التَّفْرِيقُ مَعَ التَّسَاوِي. وَإِنْ قَطَعَ
بَعْضَ الْأَنْفِ، قُدِّرَ بِالْأَجْزَاءِ، وَأُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ
ذَلِكَ، كَقَوْلِنَا فِي الْأُذُنِ، وَلَا يُؤْخَذُ بِالْمِسَاحَةِ،
لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى قَطْعِ جَمِيعِ أَنْفِ الْجَانِي لِصِغَرِهِ
بِبَعْضِ أَنْفِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِكِبَرِهِ، وَيُؤْخَذُ الْمَنْخِرُ
الْأَيْمَنُ بِالْأَيْمَنِ، وَالْأَيْسَرُ بِالْأَيْسَرِ، وَلَا يُؤْخَذُ
أَيْمَنُ بِأَيْسَرَ، وَلَا أَيْسَرُ بِأَيْمَنَ، وَيُؤْخَذُ الْحَاجِزُ
بِالْحَاجِزِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ، لِانْتِهَائِهِ إلَى
حَدٍّ.
[مَسْأَلَةٌ الذَّكَرُ بِالذَّكَرِ]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالذَّكَرُ بِالذَّكَرِ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ
الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي فِي الذَّكَرِ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّ
لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ، وَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ
حَيْفٍ، فَوَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ، كَالْأَنْفِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ
ذَكَرُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ، وَالذَّكَرُ
الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالصَّحِيحُ وَالْمَرِيضُ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ
فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ الْأَطْرَافِ لَمْ يَخْتَلِفْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي،
كَذَلِكَ الذَّكَرُ. وَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَخْتُونِ
وَالْأَغْلَفِ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْغُلْفَةَ زِيَادَةٌ تَسْتَحِقُّ
إزَالَتَهَا، فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ.
(8/326)
وَأَمَّا ذَكَرُ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ،
فَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يُؤْخَذُ بِهِمَا. وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْعِنِّينَ
لَا يَطَأُ وَلَا يُنْزِلُ، وَالْخَصِيُّ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَا يُنْزِلُ،
وَلَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ، فَهُمَا كَالْأَشَلِّ، وَلِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصٌ، فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ الْكَامِلُ،
كَالْيَدِ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُؤْخَذُ غَيْرُهُمَا بِهِمَا، فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ
صَحِيحَانِ، يَنْقَبِضَانِ وَيَنْبَسِطَانِ، وَيُؤْخَذُ بِهِمَا
غَيْرُهُمَا، كَذَكَرِ الْفَحْلِ غَيْرِ الْعِنِّينِ، وَإِنَّمَا عَدَمُ
الْإِنْزَالِ لِذَهَابِ الْخُصْيَةِ، وَالْعُنَّةُ لَعِلَّةٍ فِي
الظَّهْرِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الْقِصَاصِ بِهِمَا، كَأُذُنِ
الْأَصَمِّ وَأَنْفِ الْأَخْشَمِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُؤْخَذُ ذَكَرُ
الْفَحْلِ بِالْخَصِيِّ؛ لِتَحَقُّقِ نَقْصِهِ، وَالْإِيَاسِ مِنْ
بُرْئِهِ. وَفِي أَخْذِهِ بِذَكَرِ الْعِنِّينِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا،
يُؤْخَذُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَيْئُوسٍ مِنْ زَوَالِ
عُنَّتِهِ، وَلِذَلِكَ يُؤَجَّلُ سَنَةً، بِخِلَافِ الْخَصِيِّ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّهُ إذَا تَرَدَّدَتْ الْحَالُ بَيْن
كَوْنِهِ مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ وَعَدَمِهِ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ،
لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، سِيَّمَا وَقَدْ
حَكَمْنَا بِانْتِفَاءِ التَّسَاوِي، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى
عُنَّتِهِ، وَثُبُوتِ عَيْبِهِ. وَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصِيِّ
وَالْعِنِّينِ بِمِثْلِهِ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، كَمَا يُؤْخَذُ الْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ، وَالذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ.
(6696) فَصْلٌ: وَيُؤْخَذُ بَعْضُهُ بِبَعْضِهِ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ
بِالْأَجْزَاءِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، فَيُؤْخَذُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ،
وَالرُّبْعُ بِالرُّبْعِ، وَمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَبِحَسَبِ ذَلِكَ،
عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ.
[مَسْأَلَةٌ الْأُنْثَيَانِ بِالْأُنْثَيَيْنِ]
(6697) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْأُنْثَيَانِ بِالْأُنْثَيَيْنِ) وَيَجْرِي
الْقِصَاصُ فِي الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّصِّ
وَالْمَعْنَى. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنْ قَطَعَ إحْدَاهُمَا،
وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، إنَّهُ مُمْكِنٌ أَخْذُهَا مَعَ سَلَامَةِ
الْأُخْرَى جَازَ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يُؤْمَنُ تَلَفُ الْأُخْرَى. لَمْ
تُؤْخَذْ خَشْيَةَ الْحَيْفِ، وَيَكُونُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ
أُمِنَ تَلَفُ الْأُخْرَى، أُخِذَتْ الْيُمْنَى بِالْيُمْنَى، وَالْيُسْرَى
بِالْيُسْرَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِهِمَا.
[فَصْلٌ الْقِصَاصِ فِي شَفْرَيْ الْمَرْأَةِ]
(6698) فَصْلٌ: وَفِي الْقِصَاصِ فِي شَفْرَيْ الْمَرْأَةِ وَجْهَانِ؛
(8/327)
أَحَدُهُمَا: لَا قِصَاصَ فِيهِمَا؛
لِأَنَّهُ لَحْمٌ لَا مَفْصِلَ لَهُ يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ
فِيهِ قِصَاصٌ، كَلَحْمِ الْفَخِذَيْنِ. هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي.
وَالثَّانِي: فِيهِمَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ انْتِهَاءَهُمَا مَعْرُوفٌ،
فَأَشْبَهَا الشَّفَتَيْنِ وَجَفْنَيْ الْعَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي
الْخَطَّابِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ أَوْ أُنْثَيَيْهِ أَوْ
شَفْرَيْهِ]
(6699) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ، أَوْ أُنْثَيَيْهِ،
أَوْ شَفْرَيْهِ، فَاخْتَارَ الْقِصَاصَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قِصَاصٌ فِي
الْحَالِ، وَيَقِفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ؛ لِأَنَّنَا لَا
نَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْطُوعَ عُضْوٌ أَصْلِيٌّ. وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ،
وَكَانَ يُرْجَى انْكِشَافُ حَالِهِ، أَعْطَيْنَاهُ الْيَقِينَ، فَيَكُونُ
لَهُ حُكُومَةٌ فِي الْمَقْطُوعِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَطَعَ جَمِيعَهَا،
فَلَهُ دِيَةُ امْرَأَةٍ فِي الشَّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةٌ فِي الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ يَئِسَ مِنْ انْكِشَافِ حَالِهِ، أُعْطِيَ
نِصْفَ دِيَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَنِصْفَ دِيَةِ
الشَّفْرَيْنِ، وَحُكُومَةً فِي نِصْفِ ذَلِكَ كُلِّهِ.
[فَصْلٌ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَلْيَتَيْنِ النَّاتِئَتَيْنِ بَيْنَ
الْفَخِذَيْنِ وَالظَّهْرِ بِجَانِبِيِّ الدُّبُرِ]
(6700) فَصْلٌ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَلْيَتَيْنِ النَّاتِئَتَيْنِ
بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ وَالظَّهْرِ بِجَانِبَيْ الدُّبُرِ. وَهَذَا ظَاهِرُ
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا قِصَاصَ فِيهِمَا؛
لِأَنَّهُمَا لَحْمٌ مُتَّصِلٌ بِلَحْمِ، فَأَشْبَهَ لَحْمَ الْفَخِذِ.
وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .
وَلِأَنَّ لَهُمَا حَدًّا يَنْتَهِيَانِ إلَيْهِ، فَجَرَى الْقِصَاصُ
فِيهِمَا، كَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ.
[مَسْأَلَةٌ تُقْلَعُ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ]
(6701) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُقْلَعُ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) أَجْمَعَ
أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْعَيْنِ، وَمِمَّنْ بَلَغَنَا
قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَسْرُوقٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ،
وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ،
وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْأَصْلُ
فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] .
وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ، فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهَا
كَالْيَدِ. وَتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بِعَيْنِ الشَّيْخِ الْمَرِيضَةِ،
وَعَيْنُ الْكَبِيرِ بِعَيْنِ الصَّغِيرِ وَالْأَعْمَشِ، وَلَا تُؤْخَذُ
صَحِيحَةٌ بِقَائِمَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ.
(8/328)
[فَصْلٌ قَلَعَ عَيْنَهُ بِإِصْبَعِهِ]
(6702) فَصْلٌ: فَإِنْ قَلَعَ عَيْنَهُ بِإِصْبَعِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ
يَقْتَصَّ بِإِصْبَعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ.
وَإِنْ لَطَمَهُ فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصَّ
مِنْهُ بِاللَّطْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ؛
وَلِهَذَا لَوْ انْفَرَدَتْ مِنْ إذْهَابِ الضَّوْءِ، لَمْ يَجِبْ فِيهَا
قِصَاصٌ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْبَصَرِ، فَيُعَالَجُ بِمَا يَذْهَبُ
بِبَصَرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْلَعَ عَيْنَهُ، كَمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ
جَعْدَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَدِمَ بِحَلُوبَةٍ لَهُ إلَى الْمَدِينَةِ،
فَسَاوَمَهُ فِيهَا مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - فَنَازَعَهُ، فَلَطَمَهُ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَقَالَ لَهُ
عُثْمَانُ: هَلْ لَك أَنْ أُضَعِّفَ لَك الدِّيَةَ، وَتَعْفُوَ عَنْهُ؟
فَأَبَى، فَرَفَعَهُمَا إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَدَعَا
عَلِيٌّ بِمِرْآةِ فَأَحْمَاهَا، ثُمَّ وَضَعَ الْقُطْنَ عَلَى عَيْنِهِ
الْأُخْرَى، ثُمَّ أَخَذَ الْمِرْآةَ بِكَلْبَتَيْنِ، فَأَدْنَاهَا مِنْ
عَيْنِهِ حَتَّى سَالَ إنْسَانُ عَيْنِهِ. وَإِنْ وَضَعَ فِيهَا كَافُورًا
يَذْهَبُ بِضَوْئِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى الْحَدَقَةِ، جَازَ.
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعُضْوِ، سَقَطَ
الْقِصَاصُ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ
يَقْتَصُّ مِنْهُ بِاللَّطْمَةِ، فَيَلْطِمُهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ
مِثْلَ لَطْمَتِهِ، فَإِنْ ذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ، وَإِلَّا كَانَ لَهُ
أَنْ يُذْهِبَهُ بِمَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا
لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ اللَّطْمَةَ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا مُنْفَرِدَةً،
فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهَا إذَا سَرَتْ إلَى الْعَيْنِ، كَالشَّجَّةِ إنْ
كَانَتْ دُونَ الْمُوضِحَةِ، وَلِأَنَّ اللَّطْمَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي
الْعَيْنِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا بِمِثْلِهَا مَعَ الْأَمْنِ مِنْ
إفْسَادِ الْعُضْوِ، فِي الْعَيْنِ فَمَعَ خَوْفِ ذَلِكَ أَوْلَى؛
وَلِأَنَّهُ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ
الْآلَةِ الْمُعَدَّةِ كَالْمُوضِحَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجِبُ
الْقِصَاصُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ اللَّطْمَةُ تَذْهَبُ بِذَلِكَ غَالِبًا،
فَإِنْ كَانَتْ لَا تَذْهَبُ بِهِ غَالِبًا فَذَهَبَ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ
لَا قِصَاصَ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا
يُفْضِي إلَى الْفَوَاتِ غَالِبًا، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْقِصَاصُ،
كَشِبْهِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجِبُ الْقِصَاصُ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِعُمُومِ
قَوْلِهِ: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّ
اللَّطْمَةَ إذَا أَسَالَتْ إنْسَانَ الْعَيْنِ، كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ
الْجُرْحِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْجُرْحِ الْإِفْضَاءُ إلَى التَّلَفِ
غَالِبًا.
[فَصْلٌ لَطَمَ عَيْنَهُ فَذَهَبَ بَصَرُهَا وَابْيَضَّتْ وَشَخَصَتْ]
(6703) فَصْلٌ: فَلَوْ لَطَمَ عَيْنَهُ، فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَابْيَضَّتْ،
وَشَخَصَتْ، فَإِنْ أَمْكَنَ مُعَالَجَةُ عَيْنِ الْجَانِي حَتَّى يَذْهَبَ
بَصَرُهَا وَتَبْيَضَّ وَتَشْخَصَ، مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَى
الْحَدَقَةِ، فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَهَابُ بَعْضِ
ذَلِكَ، مِثْلَ أَنْ يَذْهَبَ الْبَصَرُ دُونَ أَنْ تَبْيَضَّ وَتَشْخَصَ،
فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لِلَّذِي لَمْ يُمْكِنْ الْقِصَاصُ فِيهِ، كَمَا لَوْ
جَرَحَ هَاشِمَةً، فَإِنَّهُ يَقْتَصُّ مُوضِحَةً، وَيَأْخُذُ أَرْشَ
بَاقِي جُرْحِهِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، لَا يُسْتَحَقُّ مَعَ
الْقِصَاصِ أَرْشٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا اقْتَصَّ مِنْهُ يَعْنِي
لَطَمَهُ مِثْلَ لَطْمَتِهِ فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ، وَلَمْ تَبْيَضَّ،
وَلَمْ تَشْخَصْ، فَإِنْ أَمْكَنَ
(8/329)
مُعَالَجَتُهَا حَتَّى تَبْيَضَّ
وَتَشْخَصَ، مِنْ غَيْرِ ذَهَابِ الْحَدَقَةِ، فَعَلَهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ
ذَلِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ انْدَمَلَتْ مُوضِحَةُ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَحْشَةً قَبِيحَةً، وَمُوضِحَةُ الْجَانِي حَسَنَةً
جَمِيلَةً، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى
أَنَّ اللَّطْمَةَ حَصَلَ بِهَا الْقِصَاصُ، كَمَا حَصَلَ بِجُرْحِ
الْمُوضِحَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا.
[فَصْلٌ شَجَّهُ شَجَّةً دُونَ الْمُوضِحَةِ فَأَذْهَبَ ضَوْءَ عَيْنِهِ
الْقِصَاص]
(6704) فَصْلٌ: وَإِنْ شَجَّهُ شَجَّة دُون الْمُوضِحَةِ، فَأَذْهَبَ
ضَوْءَ عَيْنِهِ، لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مِثْلَ شَجَّتِهِ، بِغَيْرِ
خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا قِصَاصَ فِيهَا إذَا لَمْ يَذْهَبْ
ضَوْءُ الْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ إذَا ذَهَبَ، وَيُعَالَجُ ضَوْءُ الْعَيْنِ
بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا فِي اللَّطْمَةِ. وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فَوْقَ
الْمُوضِحَةِ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مُوضِحَةً. وَهَلْ لَهُ أَرْشُ
الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَإِنْ ذَهَبَ ضَوْءُ الْعَيْنِ،
وَإِلَّا اسْتَعْمَلَ فِيهِ مَا يُزِيلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى
الْحَدَقَةِ. وَإِنْ شَجَّهُ مُوضِحَةً، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهَا.
وَحُكْمُ الْقِصَاصِ فِي الْبَصَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقِصَاصِ فِي الْبَصَرِ، فِي
هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا قِصَاصَ فِيهِ؛
لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالسِّرَايَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ إصْبَعَهُ،
فَسَرَى الْقَطْعُ إلَى الَّتِي تَلِيهَا، فَأَذْهَبَهَا عِنْدهمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ الْقِصَاصُ هَاهُنَا، قَوْلًا وَاحِدًا؛
لِأَنَّ ضَوْءَ الْعَيْنِ لَا تُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ بِالْجِنَايَةِ،
فَيَقْتَصُّ مِنْهُ بِالسِّرَايَةِ، كَالنَّفْسِ، فَيَقْتَصُّ مِنْ
الْبَصَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَ هَذَا.
[فَصْلٌ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ الْقِصَاص]
(6705) فَصْلٌ: إذَا قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ، فَلَا قَوَدَ،
وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ،
وَعَطَاءٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: إنْ شَاءَ اقْتَصَّ
وَأَعْطَاهُ نِصْفَ دِيَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً. وَقَالَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ
سِيرِينَ، وَابْنُ مُغَفَّلٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَهُ الْقِصَاصُ، وَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ عَفَا، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ. وَلِأَنَّهَا
إحْدَى شَيْئَيْنِ فِيهِمَا الدِّيَةُ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ مِمَّنْ لَهُ
وَاحِدَةٌ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ
مَنْ لَهُ يَدَانِ. وَلَنَا، قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمَا،
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ
الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَا
عَيْنَيْنِ. وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَ الْأَقْطَعِ، فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ،
وَمَعَ التَّسْلِيمِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ يَدَ الْأَقْطَعِ لَا
تَقُومُ مَقَامَ الْيَدَيْنِ فِي النَّفْعِ الْحَاصِلِ بِهِمَا، بِخِلَافِ
عَيْنِ الْأَعْوَرِ، فَإِنَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ بِالْعَيْنَيْنِ حَاصِلٌ
بِهَا، وَكُلُّ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِصَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ، يَثْبُتُ فِي
الْأَعْوَرِ مِثْلُهُ؛ وَلِهَذَا صَحَّ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ دُونَ
الْأَقْطَعِ.
فَأَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ كَامِلَةً عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ،
فَلِأَنَّهُ لَمَّا دُفِعَ عَنْهُ الْقِصَاصُ مَعَ
(8/330)
إمْكَانِهِ لِفَضِيلَتِهِ، ضُوعِفَتْ
الدِّيَةُ عَلَيْهِ، كَالْمُسْلِمِ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا عَمْدًا. وَلَوْ
قَلَعَ الْأَعْوَرُ إحْدَى عَيْنَيْ الصَّحِيحِ خَطَأً، لَمْ يَلْزَمْهُ
إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ؛ لِعَدَمِ الْمَعْنَى
الْمُقْتَضِي لِتَضْعِيفِ الدِّيَةِ.
[فَصْلٌ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ الْقِصَاص]
(6706) فَصْلٌ: وَلَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ، فَفِيهِ
الْقِصَاصُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إذَا
كَانَتْ الْعَيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ، فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ
يَسَارًا. وَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَلَهُ جَمِيعُهَا، وَكَذَلِكَ إنْ
قَلَعَهَا خَطَأً، أَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحِقِّي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ
ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَلَعَ عَيْنَيْ صَحِيحٍ.
[فَصْلٌ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ الْقِصَاص]
(6707) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ، فَقَالَ
الْقَاضِي: هُوَ مُخَيَّرٌ، إنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى
ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ
الدِّيَةَ، فَلَهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» . وَلِأَنَّهُ لَمْ
يَتَعَذَّرْ الْقِصَاصُ، فَلَمْ تَتَضَاعَفْ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ
الْأَشَلُّ يَدَ صَحِيحٍ، أَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، أَوْ يَدُ
الْقَاطِعِ أَنْقَصَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَقْتَضِي الْفِقْهُ أَنْ
يَلْزَمَهُ دِيَتَانِ، إحْدَاهُمَا لِلْعَيْنِ الَّتِي تُقَابِلُ عَيْنَهُ،
وَالدِّيَةُ الثَّانِيَة لِأَجْلِ الْعَيْنِ النَّاتِئَةِ؛ لِأَنَّهَا
عَيْنُ أَعْوَرَ. وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ
الْعِلْمِ، وَأَشَدُّ مُوَافَقَةً لِلنُّصُوصِ، وَأَصَحُّ فِي الْمَعْنَى.
[فَصْلٌ قَلَعَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ أَعْوَرَ الْقِصَاص]
(6708) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ عَيْنَ أَعْوَرَ،
فَلَهُ الْقِصَاصُ مِنْ مِثْلِهَا، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ. نَصَّ
عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، وَأَذْهَبَ
الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ
اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ
بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَخْذُ يَمِينٍ بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ
بِبَدَلِ نِصْفِ الضَّوْءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا
الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ، كَمَا
لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدًا صَحِيحَةً، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ هَاهُنَا
غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَدَلٌ، كَزِيَادَةِ
الصَّحِيحَةِ عَلَى الشَّلَّاءِ، هَذَا مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى:
{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] .
[فَصْلٌ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَهُ يَدَانِ الْقِصَاصُ]
فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَهُ يَدَانِ فَعَلَيْهِ
الْقِصَاصُ، وَإِنْ قُطِعَتْ رِجْلُ الْأَقْطَعِ أَوْ يَدُهُ، فَلَهُ
الْقِصَاصُ أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ يَدَ الْأَقْطَعِ لَا تَقُومُ
مَقَامَ يَدَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ وَالْبَطْشِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي
الْعِتْقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ،
(8/331)
بِخِلَافِ عَيْنِ الْأَعْوَرِ، فَإِنَّهَا
تَقُومُ مَقَامَ عَيْنَيْهِ جَمِيعًا وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَتْ
الْمَقْطُوعَةُ أَوَّلًا قُطِعَتْ ظُلْمًا أَوْ قِصَاصًا، فَفِي
الْبَاقِيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ
الْأُولَى قُطِعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّه فَفِي الثَّانِيَةِ رِوَايَتَانِ،
إحْدَاهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالثَّانِيَةُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ،
لِأَنَّهُ عَطَّلَ مَنَافِعَهُ مِنْ الْعُضْوَيْنِ جُمْلَةً، وَأَمَّا إنْ
قَطَعَ الْأَقْطَعُ يَدَ مَنْ لَيْسَ بِأَقْطَعَ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ فِي
يَدِ الْأَقْطَعِ دِيَةً كَامِلَةً فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا
تَكْمُلُ فِيهَا الدِّيَةُ فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ فِيهَا، وَاللَّائِقُ
بِالْفِقْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَالتَّعْلِيلُ بِتَفْوِيتِ
مَنْفَعَةِ الْعُضْوَيْنِ يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا قُطِعَتْ الْأُولَى
قِصَاصًا، وَالْقِيَاسُ عَلَى عَيْنِ الْأَعْوَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا
بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ، فَأَمَّا إنْ قُطِعَتْ أُذُنُ مَنْ قُطِعَتْ
إحْدَى أُذُنَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، رِوَايَةً
وَاحِدَةً، وَإِنْ قَطَعَ هُوَ أُذُنَ ذِي أُذُنَيْنِ، وَجَبَ عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ، لَا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا فِي
غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ نَفْعَ كُلِّ أُذُنٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُخْرَى.
[فَصْلٌ يُؤْخَذُ الْجَفْنُ بِالْجَفْنِ]
(6710) فَصْلٌ: وَيُؤْخَذُ الْجَفْنُ بِالْجَفْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ
فِيهِ، لِانْتِهَائِهِ إلَى مَفْصِلٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَيُؤْخَذُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ، وَجَفْنُ
الضَّرِيرِ، بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي
السَّلَامَةِ مِنْ النَّقْصِ، وَعَدَمُ الْبَصَرِ نَقْصٌ فِي غَيْرِهِ، لَا
يَمْنَعُ أَخْذَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَالْأُذُنِ إذَا عَدِمَ السَّمْعَ
مِنْهَا.
[مَسْأَلَةٌ السِّنُّ بِالسِّنِّ]
(6711) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) أَجْمَعَ أَهْلُ
الْعِلْمِ عَلَى الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ لِلْآيَةِ وَحَدِيثِ
الرُّبَيِّعِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهَا مُمْكِنٌ، لِأَنَّهَا
مَحْدُودَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَوَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ كَالْعَيْنِ.،
وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَتُؤْخَذُ الْمَكْسُورَةُ
بِالصَّحِيحَةِ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَهَلْ يَأْخُذُ مَعَ
الْقِصَاصِ أَرْشَ الْبَاقِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا
مَضَى.
[فَصْلٌ لَا يُقْتَصُّ إلَّا مِنْ سِنِّ مَنْ أَثْغَرَ]
(6712) فَصْلٌ: وَلَا يُقْتَصُّ إلَّا مِنْ سِنِّ مَنْ أَثْغَرَ، أَيْ
سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ، ثُمَّ نَبَتَتْ، يُقَالُ لِمَنْ سَقَطَتْ
رَوَاضِعُهُ: ثَغْرٌ، فَهُوَ مَثْغُورٌ، فَإِذَا نَبَتَتْ قِيلَ: أَثْغَرَ
وَأُثْغَرَ. لُغَتَانِ، وَإِنْ قُلِعَ سِنُّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ، لَمْ
يُقْتَصَّ مِنْ الْجَانِي فِي الْحَالِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِأَنَّهَا تَعُودُ بِحُكْمِ
الْعَادَةِ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهَا كَالشَّعْرِ، ثُمَّ إنَّ عَادَ بَدَلُ
(8/332)
السِّنِّ فِي مَحَلِّهَا مِثْلُهَا عَلَى
صِفَتِهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي، كَمَا لَوْ قَلَعَ شَعْرَةً
ثُمَّ نَبَتَتْ، وَإِنْ عَادَتْ مَائِلَةً عَنْ مَحَلِّهَا، أَوْ
مُتَغَيِّرَةً عَنْ صِفَتِهَا، كَانَ عَلَيْهِ حُكُومَةٌ، لِأَنَّهَا لَوْ
لَمْ تَعُدْ ضَمِنَ السِّنَّ، فَإِذَا عَادَتْ نَاقِصَةً ضَمِنَ مَا
نَقَصَ. مِنْهَا بِالْحِسَابِ، فَفِي ثُلُثِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَفِي
رُبْعِهَا رُبْعُهَا وَعَلَى هَذَا، وَإِنْ عَادَتْ وَالدَّمُ يَسِيلُ،
فَفِيهَا حُكُومَةٌ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ مَضَى
زَمَنُ عَوْدِهَا وَلَمْ تَعُدْ، سُئِلَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ،
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يَئِسَ مِنْ عَوْدِهَا.
فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ أَوْ دِيَةِ
السِّنِّ، فَإِنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِيَاسِ مِنْ
عَوْدِهَا، فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُ غَيْرُ
مُتَحَقِّقٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْئِهِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ،
لِأَنَّ الْقَلْعَ مَوْجُودٌ، وَالْعَوْدَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ
أَنَّهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ عَوْدِهَا، أَنْ لَا يَجِبَ
شَيْءٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ عَوْدُهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَقَ
شَعْرَهُ فَمَاتَ قَبْلَ نَبَاتِهِ، فَأَمَّا إنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ
أَثْغَرَ، وَجَبَ الْقِصَاصُ لَهُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ
عَوْدِهَا، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ،
وَقَالَ الْقَاضِي: يُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَالُوا: لَا
تَعُودُ، فَلَهُ الْقِصَاصُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ قَالُوا: يُرْجَى
عَوْدُهَا إلَى وَقْتٍ ذَكَرُوهُ، لَمْ يُقْتَصَّ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ
الْوَقْتُ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا
تَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، فَأَشْبَهَتْ سِنَّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ، وَإِذَا
ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَعُدْ بَعْدُ، فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ
عَادَتْ، لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَا
يَسْقُطُ الْأَرْشُ، لِأَنَّ هَذِهِ السِّنَّ لَا تَسْتَخْلِفُ عَادَةً،
فَإِذَا عَادَتْ كَانَتْ هِبَةً مُجَدَّدَةً؛ وَلِذَلِكَ لَا يُنْتَظَرُ
عَوْدُهَا فِي الضَّمَانِ وَلَنَا، أَنَّهَا سِنٌّ عَادَتْ، فَسَقَطَ
الْأَرْشُ، كَسِنِّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ، وَنُدْرَةُ وُجُودِهَا لَا يَمْنَع
ثُبُوتَ حُكْمِهَا إذَا وُجِدَتْ، فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ أَخَذَ
الْأَرْشَ، رَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، لَمْ يَجُزْ
قَلْعُ هَذِهِ قِصَاصًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعُدْوَانَ، وَإِنْ
عَادَتْ سِنُّ الْجَانِي دُونَ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَفِيهِ
وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، تُقْلَعُ، لِئَلَّا يَأْخُذَ سِنَّيْنِ
بِسِنٍّ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] وَالثَّانِي، تُقْلَعُ وَإِنْ عَادَتْ مَرَّاتٍ،
لِأَنَّهُ قَلَعَ سِنَّهُ وَأَعْدَمَهَا، فَكَانَ لَهُ إعْدَامُ سِنِّهِ،
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ، كَهَذَيْنِ.
[فَصْلٌ قَلَعَ سِنًّا فَاقْتَصَّ مِنْهُ ثُمَّ عَادَتْ سِنُّ الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ فَقَلَعَهَا الْجَانِي ثَانِيَةً]
(6713) فَصْلٌ: وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا، فَاقْتُصَّ مِنْهُ، ثُمَّ عَادَتْ
سِنُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَقَلَعَهَا الْجَانِي ثَانِيَةً فَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ سِنَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمَّا عَادَتْ،
وَجَبَ لِلْجَانِي عَلَيْهِ دِيَةُ سِنِّهِ، فَلَمَّا قَلَعَهَا، وَجَبَ
عَلَى الْجَانِي دِيَتُهَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَقَدْ وَجَبَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ سِنٍّ، فَيَتَقَاصَّانِ.
(8/333)
[مَسْأَلَةٌ الْقِصَاصَ جَارٍ فِي بَعْضِ
السِّنِّ]
(6714) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِنْ كَسَرَ بَعْضَهَا، بَرَدَ مِنْ سِنِّ
الْجَانِي مِثْلَهُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ جَارٍ فِي بَعْضِ
السِّنِّ لِأَنَّ الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ، فَأَمَرَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ
مَا جَرَى الْقِصَاصُ فِي جُمْلَتِهِ، جَرَى فِي بَعْضِهِ إذَا أَمْكَنَ
كَالْأُذُنِ، فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ، فَيُؤْخَذُ النِّصْفُ
بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثُ بِالثُّلُثِ، وَكُلُّ جُزْءٍ بِمِثْلِهِ، وَلَا
يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالْمِسَاحَةِ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى أَخْذِ جَمِيعِ
سِنِّ الْجَانِي بِبَعْضِ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ
الْقِصَاصُ بِالْمِبْرَدِ، لِيُؤْمَنَ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، فَإِنَّا لَوْ
أَخَذْنَاهَا بِالْكَسْرِ، لَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَنْصَدِعَ، أَوْ
تَنْقَلِعَ، أَوْ تَنْكَسِرَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الْقِصَاصِ، وَلَا
يُقْتَصُّ حَتَّى يَقُولَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إنَّهُ يُؤْمَنُ
انْقِلَاعُهَا، أَوْ السَّوَادُ فِيهَا لِأَنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ
يَمْنَعُ الْقِصَاصَ فِي الْأَعْضَاءِ، كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ
غَيْرِ مَفْصِلٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَجَزْتُمْ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ
تَوَهُّمِ سِرَايَتهَا إلَى النَّفْسِ، فَلِمَ مَنَعْتُمْ مِنْهُ
لِتَوَهُّمِ السِّرَايَةِ إلَى بَعْضِ الْعُضْوِ؟ قُلْنَا: وَهْمُ
السِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ لَا سَبِيلَ إلَى التَّحَرُّزِ مِنْهُ، فَلَوْ
اعْتَبَرْنَاهُ فِي الْمَنْعِ، لَسَقَطَ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ
بِالْكُلِّيَّةِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، وَأَمَّا السِّرَايَةُ إلَى
بَعْضِ الْعُضْوِ، فَتَارَةً نَقُولُ إنَّمَا مَنَعَ الْقِصَاصَ فِيهَا
احْتِمَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْفِعْلِ، لَا فِي السِّرَايَةِ، مِثْلُ مَنْ
يَسْتَوْفِي بَعْضَ الذِّرَاعِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَفْعَلَ
أَكْثَرَ مِمَّا فُعِلَ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَسَرَ سِنًّا وَلَمْ
يَصْدَعْهَا، فَكَسَرَ الْمُسْتَوْفِي سِنَّهُ وَصَدَعَهَا، أَوْ
قَلَعَهَا، أَوْ كَسَرَ أَكْثَرَ مِمَّا كَسَرَ، فَقَدْ زَادَ عَلَى
الْمِثْلِ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُمَاثَلَةَ، وَتَارَةً نَقُولُ:
إنَّ السِّرَايَةَ فِي بَعْضِ الْعُضْوِ إنَّمَا تَمْنَعُ إذَا كَانَتْ
ظَاهِرَةً، وَمِثْلُ هَذَا يَمْنَعُ فِي النَّفْسِ، وَلِهَذَا مَنَعْنَاهُ
مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِآلَةٍ كَالَّةٍ، أَوْ مَسْمُومَةٍ، وَفِي وَقْتِ
إفْرَاطِ الْحَرَارَةِ أَوْ الْبُرُودَةِ، تَحَرُّزًا مِنْ السِّرَايَة.
[فَصْلٌ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً]
(6715) فَصْلٌ: وَمَنْ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً وَهِيَ الَّتِي تَنْبُتُ
فَضْلَةً فِي غَيْرِ سَمْتِ الْأَسْنَانِ، خَارِجَةً عَنْهَا، إمَّا إلَى
دَاخِلِ الْفَمِ، وَإِمَّا إلَى الشَّفَةِ، وَكَانَتْ لِلْجَانِي مِثْلُهَا
فِي مَوْضِعهَا، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، الْقِصَاصُ، أَوْ أَخْذُ
حُكُومَةٍ فِي سِنِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُهَا فِي مَحَلِّهَا،
فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَّا الْحُكُومَةُ، وَإِنْ كَانَتْ
إحْدَى الزَّائِدَتَيْنِ أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛
أَحَدُهُمَا لَا تُؤْخَذُ الْكُبْرَى بِالصُّغْرَى، لِأَنَّ الْحُكُومَةَ
فِيهَا أَكْبَرُ، فَلَا يُقْلَعُ بِهَا مَا هُوَ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْهَا
وَالثَّانِي، تُؤْخَذُ بِهَا، لِأَنَّهُمَا سِنَّانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي
الْمَوْضِعِ، فَتُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى،
(8/334)
كَالْأَصْلِيَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ قَوْلَ
اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] عَامٌ فَيَدْخُلُ
فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَثْبُتُ الْقِيَاسُ فِي
الزَّائِدَتَيْنِ بِالِاجْتِهَادِ، فَالثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ
مُعْتَبَرٌ بِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَاخْتِلَافُ الْقِيمَةِ لَا يَمْنَعُ
الْقِصَاصَ، بِدَلِيلِ جَرَيَانِهِ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَبَيْنَ الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى، فِي النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ، عَلَى أَنَّ كِبَرَ السِّنِّ
لَا يُوجِبُ كَثْرَةُ قِيمَتِهَا، فَإِنَّ السِّنَّ الزَّائِدَةَ نَقْصٌ
وَعَيْبٌ، وَكَثْرَةُ الْعَيْبِ زِيَادَةٌ فِي النَّقْصِ، لَا فِي
الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ كِبَرَ السِّنِّ الْأَصْلِيَّةِ لَا يَزِيدُ
قِيمَتَهَا، فَالزَّائِدَةُ كَذَلِكَ.
[فَصْلٌ يُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ الْقِصَاصُ]
(6716) فَصْلٌ: وَيُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي
إلَيْهِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ كَالْعَيْنِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا
خِلَافًا، وَلَا يُؤْخَذُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِلِسَانِ أَخْرَسَ، لِأَنَّهُ
أَفْضَلُ مِنْهُ، وَيُؤْخَذُ الْأَخْرَسُ بِالنَّاطِقِ، لِأَنَّهُ بَعْضُ
حَقِّهِ، وَيُؤْخَذُ بَعْضُ اللِّسَانِ بِبَعْضٍ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ
الْقِصَاصُ فِي جَمِيعِهِ، فَأَمْكَنَ فِي بَعْضِهِ، كَالسِّنِّ،
وَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِالْحِسَابِ
[فَصْلٌ تُؤْخَذُ الشَّفَةُ بِالشَّفَةِ الْقِصَاصُ]
(6717) فَصْلٌ: وَتُؤْخَذُ الشَّفَةُ بِالشَّفَةِ وَهِيَ مَا جَاوَزَ
الذَّقَنَ وَالْخَدَّيْنِ عُلْوًا وَسُفْلًا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي
إلَيْهِ، يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ فَوَجَبَ، كَالْيَدَيْنِ.
[مَسْأَلَةٌ لَا تُؤْخَذُ يَدٌ يَمِينٌ بِيَسَارٍ الْقِصَاصُ]
(6718) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا تُؤْخَذُ يَمِينٌ بِيَسَارٍ، وَلَا
يَسَارٌ بِيَمِينٍ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ
سِيرِينَ، وَشَرِيكٍ أَنَّ إحْدَاهُمَا تُؤْخَذُ بِالْأُخْرَى،
لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْخِلْقَةِ وَالْمَنْفَعَةِ. وَلَنَا،
أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَخْتَصُّ بَاسِمٍ، فَلَا تُؤْخَذُ
إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، كَالْيَدِ مَعَ الرِّجْلِ. فَعَلَى هَذَا كُلُّ
مَا انْقَسَمَ إلَى يَمِينٍ وَيَسَارٍ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ
وَالْأُذُنَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالْأَلْيَتَيْنِ
وَالْأُنْثَيَيْنِ، لَا تُؤْخَذُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى
(6719) فَصْلٌ: وَمَا انْقَسَمَ إلَى أَعْلَى وَأَسْفَلِ، كَالْجَفْنَيْنِ
وَالشَّفَتَيْنِ، لَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى بِالْأَسْفَلِ، وَلَا
الْأَسْفَلُ بِالْأَعْلَى
(8/335)
لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا تُؤْخَذُ إصْبَعٌ
بِإِصْبَعِ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي الِاسْمِ وَالْمَوْضِعِ، وَلَا
تُؤْخَذُ أُنْمُلَةٌ بِأُنْمُلَةِ، إلَّا أَنَّ يَتَّفِقَا فِي ذَلِكَ،
وَلَا تُؤْخَذُ عُلْيَا بِسُفْلَى وَلَا وُسْطَى، وَالْوُسْطَى
وَالسُّفْلَى لَا تُؤْخَذَانِ بِغَيْرِهِمَا، وَلَا تُؤْخَذُ السِّنُّ
بِالسِّنِّ إلَّا أَنْ يُتَّفَقَ مَوْضِعُهُمَا وَاسْمُهُمَا. وَلَا
تُؤْخَذُ إصْبَعٌ وَلَا سِنٌّ أَصْلِيَّةٌ بِزَائِدَةِ، وَلَا زَائِدَةٌ
بِأَصْلِيَّةٍ، وَلَا زَائِدَةٌ بِزَائِدَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، لِمَا
ذَكَرْنَاهُ.
[فَصْلٌ مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ قِصَاصًا]
(6720) فَصْلٌ: وَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ قِصَاصًا، لَا يَجُوزُ
بِتَرَاضِيهِمَا وَاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا
تُسْتَبَاحُ بِالِاسْتِبَاحَةِ وَالْبَذْلِ، وَلِذَلِكَ لَوْ بَذَلَهَا
لَهُ ابْتِدَاءً، لَا يَحِلُّ أَخْذُهَا، وَلَا يَحِلُّ لَأَحَدٍ قَتْلُ
نَفْسِهِ، وَلَا قَطْعُ طَرَفِهِ، فَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ بِبَذْلِهِ،
فَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنْ
الْأُخْرَى، فَقَطَعَهَا الْمُقْتَصُّ، سَقَطَ الْقَوَدُ، لِأَنَّ
الْقَوَدَ سَقَطَ فِي الْأُولَى بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهَا، وَفِي
الثَّانِيَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فِي قَطْعِهَا، وَدِيَاتُهُمَا
مُتَسَاوِيَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: لَوْ قَطَعَ
الْمُقْتَصُّ الْيَدَ الْأُخْرَى عُدْوَانًا، لَسَقَطَ الْقِصَاصُ،
لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الْأَلَمِ وَالدِّيَةِ وَالِاسْمِ،
فَتُقَاصَّا وَتَسَاقَطَا، وَلِأَنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ يُفْضِي إلَى
قَطْعِ يَدَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذْهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ،
وَإِلْحَاقِ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ بِهِمَا جَمِيعًا. وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى
هَذَا الْقَوْلِ لَوُضُوحِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَطْعَيْنِ
مَضْمُونٌ بِسِرَايَتِهِ لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ أَخَذَهَا عُدْوَانًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا بِتَرَاضِيهِمَا،
فَلَا قِصَاصَ فِي الثَّانِيَةِ، لِرِضَا صَاحِبِهَا بِبَذْلِهَا،
وَإِذْنِهِ فِي قَطْعِهَا، وَفِي وُجُوبِهِ فِي الْأُولَى وَجْهَانِ،
أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي، لَا يَسْقُطُ،
لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتَرْكِهِ بِعِوَضٍ لَمْ يَثْبُتْ، فَكَانَ لَهُ
الرُّجُوعُ إلَى حَقِّهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِخَمْرٍ
وَقَبَّضَهُ إيَّاهُ. فَعَلَى هَذَا، لَهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ لَا
يَقْتَصُّ إلَّا بَعْدَ انْدِمَال الْأُخْرَى، وَلِلْجَانِي دِيَةُ يَدِهِ،
فَإِذَا وَجَبَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ دِيَةُ يَدِهِ، وَكَانَتْ
الدِّيَتَانِ وَاحِدَةً، تَقَاصَّا، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْبَرَ
مِنْ الْأُخْرَى، كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ
لِصَاحِبِهِ.
[فَصْلٌ طَلَب الْمُقْتَصُّ مِنْ الْجَانِي إخْرَاجَ الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ
الْيُسْرَى]
(6721) فَصْلٌ: وَإِذَا قَالَ الْمُقْتَصُّ لِلْجَانِي: أَخْرِجْ يَمِينَك
لِأَقْطَعْهَا. فَأَخْرَجَ يَسَارَهُ، فَقَطَعَهَا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي
بَكْرٍ يُجْزِئُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ قَطَعَهَا عَالِمًا بِهَا أَوْ غَيْرَ
عَالِمٍ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ إنْ أَخْرَجَهَا عَمْدًا عَالِمًا
بِأَنَّهَا يَسَارُهُ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى
قَاطِعِهَا وَلَا قَوَدَ. لِأَنَّهُ بَذَلَهَا بِإِخْرَاجِهِ لَهَا لَا
عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، وَقَدْ يَقُومُ الْفِعْلُ
(8/336)
فِي ذَلِكَ مَقَامَ النُّطْقِ، بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: خُذْ هَذَا فَكُلْهُ، وَبَيْنَ
اسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَيُعْطِيه إيَّاهُ، وَيُفَارِقُ هَذَا مَا
لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ، وَهُوَ سَاكِتٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ
الْبَذْلُ، وَيُنْظَرُ فِي الْمُقْتَصِّ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَالِمًا
بِالْحَالِ عُزِّرَ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى،
وَهَلْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي الْيَمِينِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ، لِأَنَّ قَاطِعَ الْيَسَارِ تَعَدَّى بِقَطْعِهَا؛
وَلِأَنَّهُ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ، فَلَمْ يَمْلِكْ قَطْعَ الْيَدِ
الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الْيُسْرَى مَكَانَ
يَمِينِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ قَطْعَ يَمِينِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَقَطْعِ السَّارِقِ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَدَّ مَبْنِيٌّ عَلَى
الْإِسْقَاطِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَالثَّانِي، أَنَّ الْيَسَارَ لَا
تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ عَدِمَتْ يَمِينُهُ، لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ
مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ فِي الْحَدِّ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، وَالثَّالِثُ:
أَنَّ الْيَدَ لَوْ سَقَطَتْ بِأَكَلَةٍ أَوْ قِصَاصٍ سَقَطَ الْقَطْعُ فِي
السَّرِقَةِ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِقَطْعِ الْيَسَارِ، بِخِلَافِ
الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَيَنْتَقِلُ إلَى الْبَدَلِ، لَكِنْ
لَا تُقْطَعُ يَمِينُهُ حَتَّى تَنْدَمِلَ يَسَارُهُ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ
إلَى ذَهَابِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ
وَيَسَارَ آخَرَ، لَمْ يُؤَخَّرْ أَحَدُهُمَا إلَى انْدِمَالِ الْآخَرِ؟
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَيْنِ مُسْتَحَقَّانِ
قِصَاصًا؛ فَلِهَذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا
أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَلَمْ نَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا
انْدَمَلَتْ الْيَسَارُ قَطَعْنَا الْيَمِينَ، فَإِنْ سَرَى قَطْعُ
الْيَسَارِ إلَى نَفْسِهِ، كَانَتْ هَدْرًا، وَيَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ
دِيَةُ الْيَمِينِ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ فِيهَا بِمَوْتِهِ. وَإِنْ
قَالَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا الْيَسَارُ، أَوْ
ظَنَنْت أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ الْيَمِينِ، نَظَرْت فِي الْمُسْتَوْفِي،
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا يَسَارُهُ، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ قِصَاصًا،
ضَمِنَهَا بِدِيَتِهَا وَيُعَزَّرُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ قَطَعَهَا
مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَطْعُهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ
قَطَعَهَا بِبَذْلِ صَاحِبِهَا، فَلَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَمَا
لَوْ عَلِمَ بَاذِلُهَا. وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَلَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ،
وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالدِّيَةِ، لِأَنَّهُ بَذَلَهَا لَهُ عَلَى وَجْهِ
الْبَدَل، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ لَوْ
كَانَ الْقَاطِعُ عَالِمًا بِهَا، وَمَا وَجَبَ ضَمَانُهُ فِي الْعَمْدِ،
وَجَبَ فِي الْخَطَأ، كَإِتْلَافِ الْمَالِ، وَالْقِصَاصُ بَاقٍ لَهُ فِي
الْيَمِينِ، وَلَا تُقْطَعُ حَتَّى تَنْدَمِلَ الْيَسَارُ، فَإِذَا
انْدَمَلَتْ، فَلَهُ قَطْعُ الْيَمِينِ، فَإِنْ عَفَا، وَجَبَ بَدَلُهَا،
وَيَتَقَاصَّانِ، وَإِنْ سَرَتْ الْيَسَارُ إلَى نَفْسِهِ، كَانَتْ
مَضْمُونَةً بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ قَطْعُ
الْيَمِينِ، وَوَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَيَتَقَاصَّانِ بِهِ،
وَيَبْقَى نِصْفُ
(8/337)
الدِّيَةِ لِوَرَثَةِ الْجَانِي.
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي بَذْلِهَا فَقَالَ الْجَانِي: إنَّمَا بَذَلْتهَا
بَدَلًا عَنْ الْيَمِينِ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَذَلْتهَا فِي
غَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ قَالَ: أَخْرَجْتهَا دَهْشَةً، فَقَالَ: بَلْ
عَالِمًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ،
وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبْذُلُ طَرَفَهُ لِلْقَطْعِ
تَبَرُّعًا، مَعَ أَنَّ عَلَيْهِ قَطْعًا مُسْتَحَقًّا، وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْيَسَارِ مَجْنُونًا مِثْلَ أَنْ
يُجَنَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ، فَعَلَى قَاطِعِهَا
ضَمَانُهَا بِالْقِصَاصِ إنْ كَانَ عَالِمًا، وَبِالدِّيَةِ إنْ كَانَ
مُخْطِئًا لِأَنَّ بَذْلَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ بِشُبْهَةِ، وَإِنْ كَانَ
مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ مَجْنُونًا وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عَاقِلًا،
فَأَخْرَجَ إلَيْهِ يَسَارَهُ أَوْ يَمِينِهِ فَقَطَعَهَا ذَهَبَتْ
هَدْرًا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ، وَلَا يَجُوزُ
الْبَدَلُ لَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِبَذْلِ
صَاحِبِهَا، لَكِنْ إنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ الْيُمْنَى، وَقَدْ تَعَذَّرَ
اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا لِتَلَفِهَا، فَيَكُونُ لِلْمَجْنُونِ
دِيَتُهَا.
وَإِنْ وَثَبَ الْمَجْنُونُ عَلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الَّتِي لَا قِصَاصَ
فِيهَا، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتُهَا، وَلَهُ الْقِصَاصُ فِي الْأُخْرَى،
وَإِنْ قَطَعَ الْأُخْرَى، فَهُوَ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا
قَهْرًا، سَقَطَ حَقُّهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ وَدِيعَتَهُ، وَالثَّانِي،
لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلَهُ عَقْلُ يَدِهِ، وَعَقْلُ يَدِ الْجَانِي
عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ
الِاسْتِيفَاءُ وَيُفَارِقُ الْوَدِيعَةَ إذَا أَتْلَفْهَا؛ لِأَنَّهَا
تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَلَيْسَ لَهَا بَدَلٌ إذَا تَلِفَتْ
بِذَلِكَ، وَالْيَدُ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ
تَفْرِيطٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهَا، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ، وَكَذَلِكَ
الْحُكْمُ فِيهِمَا إذَا قَتَلَا قَاتِلَ أَبِيهِمَا عَمْدًا، وَإِنْ
اقْتَصَّا مِنْ الْجَانِي مَا لَا تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ، كَمَا دُونَ
الثُّلُثِ، كَقَطْعِ إصْبَعٍ وَنَحْوِهَا، سَقَطَ حَقُّهُمَا، لِأَنَّ
ذَلِكَ يَقْتَضِي الدِّيَةَ فِي ذِمَّتِهِمَا، وَلَهُمَا فِي ذِمَّةِ
الْجَانِي مِثْلُ ذَلِكَ، فَيَتَقَاصَّانِ، وَإِنْ كَانَتْ دِيَتُهُمَا
مُخْتَلِفَةً، كَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
فَإِنْ قُلْنَا: يَكُونَانِ مُسْتَوْفِيَيْنِ، لِحَقِّهِمَا بِالْقَطْعِ،
لَمْ يَبْقَ لَهُمَا حَقٌّ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَا وَدِيعَتَهُمَا، وَإِنْ
قُلْنَا: لَا يَكُونَانِ مُسْتَوْفِيَيْنِ، يُقَاصُّ مِنْ الدِّيَتَيْنِ
بِقَدْرِ الْأَدْنَى مِنْهُمَا، وَوَجَبَ الْفَضْلُ لِلصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى
وَلِيِّهِمَا خَطَأً تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، فَاسْتَوْفَيَا الْقِصَاصَ،
لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُمَا، وَجْهًا وَاحِدًا، وَكَانَتْ دِيَةُ مَنْ
اسْتَوْفَيَا مِنْهُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا مُؤَجَّلَةً، وَدِيَةُ
الْجِنَايَة عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى وَلِيِّهِمَا عَلَى عَاقِلَةِ
الْجَانِي مُؤَجَّلَةً.
[فَصْلٌ سِرَايَةُ الْقَوَدِ لَيْسَ لَهَا ضَمَانُ]
(6722) فَصْلٌ: وَسِرَايَةُ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَمَعْنَاهُ
أَنَّهُ إذَا قَطَعَ طَرَفًا يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهِ فَاسْتَوْفَى مِنْهُ
الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ الْجَانِي بِسِرَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ،
لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَوْفِيَ شَيْءٌ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ
سِيرِينَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ،
وَمُحَمَّدٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ عَطَاءٌ،
وَطَاوُسٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ،
وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ:
عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: هِيَ عَلَى
(8/338)
عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ نَفْسَهُ،
وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا طَرَفَهُ فَلَزِمَتْهُ دِيَتُهُ، كَمَا لَوْ
ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَلِأَنَّهَا سِرَايَةُ قَطْعٍ مَضْمُونٍ، فَكَانَتْ
مَضْمُونَةً، كَسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ
مَضْمُونٌ، أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي
مُقَابَلَتِهِ. وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، قَالَا: مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَا دِيَةَ لَهُ،
الْحَقُّ قَتَلَهُ رَوَاهُ سَعِيدٌ بِمَعْنَاهُ. وَلِأَنَّهُ قَطْعٌ
مُسْتَحَقٌّ مُقَدَّرٌ، فَلَا تُضْمَنَ سِرَايَتُهُ، كَقَطْعِ السَّارِقِ.
وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مَا فَعَلَهُ
مُسْتَحَقًّا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ سِرَايَتِهِ إلَى
النَّفْسِ، بِأَنْ يَمُوتَ مِنْهَا، أَوْ إلَى مَا دُونَهَا، مِثْلَ أَنْ
يَقْطَعَ إصْبَعًا فَتَسْرِيَ إلَى كَفِّهِ.
[فَصْلٌ سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ]
(6723) فَصْلٌ: وَسِرَايَةُ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِلَا خِلَافٍ؛
لِأَنَّهَا أَثَرُ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ مَضْمُونَةٌ، فَكَذَلِكَ
أَثَرُهَا. ثُمَّ إنْ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ
مُبَاشَرَتُهُ بِالْإِتْلَافِ، مِثْلَ أَنْ يُهَشِّمَهُ فِي رَأْسِهِ
فَيَذْهَبَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِ، وَلَا خِلَافَ فِي
ذَلِكَ فِي النَّفْسِ، وَفِي ضَوْءِ الْعَيْنِ خِلَافٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ
فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ سَرَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ مُبَاشَرَتُهُ
بِالْإِتْلَافِ، مِثْلَ إنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَتَآكَلَتْ أُخْرَى
وَسَقَطَتْ مِنْ مَفْصِلٍ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ أَيْضًا، فِي قَوْلِ
إمَامِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا قِصَاصَ فِي الثَّانِيَةِ، وَتَجِبُ
دِيَتُهَا؛ لِأَنَّ مَا أَمْكَنَ مُبَاشَرَتُهُ بِالْجِنَايَةِ لَا يَجِبُ
الْقَوَدُ فِيهِ بِالسِّرَايَةِ، كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا فَمَرَقَ مِنْهُ
إلَى آخَرَ. وَلَنَا، أَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْقَوَدُ بِالْجِنَايَةِ
وَجَبَ بِالسِّرَايَةِ، كَالنَّفْسِ وَضَوْءِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّهُ
أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا، وَفَارَقَ مَا
ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ وَلَيْسَ بِسِرَايَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ
قَصَدَ ضَرْبَ رَجُلٍ فَأَصَابَ آخَرَ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَلَوْ
قَصَدَ قَطْعَ إبْهَامِهِ فَقَطَعَ سَبَّابَتَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَلَوْ
ضَرَبَ إبْهَامَهُ فَمَرَقَ إلَى سَبَّابَتِهِ، وَجَبَ الْقِصَاصُ
فِيهِمَا، فَافْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَلِفَتْ بِفِعْلٍ
أَوْجَبَ الْقِصَاصَ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا، كَمَا لَوْ رَمَى
إحْدَاهُمَا فَمَرَقَ إلَى الْأُخْرَى.
فَأَمَّا إنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَشُلَّتْ إلَى جَانِبِهَا أُخْرَى، وَجَبَ
الْقِصَاصُ فِي الْمَقْطُوعَةِ وَحَسْبُ وَالْأَرْشُ فِي الشَّلَّاءِ،
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا
قِصَاصَ فِيهِمَا وَيَجِبُ أَرْشُهُمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ حُكْمَ
السِّرَايَةِ لَا يَنْفَرِدُ عَنْ الْجِنَايَةِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ سَرَتْ
إلَى النَّفْسِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي إحْدَاهُمَا، لَمْ
يَجِبْ فِي الْأُخْرَى،
(8/339)
وَلَنَا أَنَّهَا جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ
لِلْقِصَاصِ لَوْ لَمْ تَسْرِ، فَأَوْجَبَتْهُ إذَا سَرَتْ، كَاَلَّتِي
تَسْرِي إلَى سُقُوطِ أُخْرَى، وَكَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ حُبْلَى فَسَرَى
إلَى جَنِينِهَا. وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ.
وَفَارَقَ الْأَصْلَ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلْقِصَاصِ،
كَاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ لَهُ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا، وَهَا هُنَا
بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ الْقَطْعَ
إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَوَجَبَ فِي
النَّفْسِ، فَخَالَفَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ حُكْمَ السِّرَايَةِ، فَسَقَطَ
مَا قَالَهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ فِي مَالِهِ،
وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، لِأَنَّهُ جِنَايَةُ عَمْدٍ، وَإِنَّمَا
لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِيهِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَطْعِ
وَالشَّلَلِ، فَإِذَا قَطَعَ إصْبَعَهُ فَشُلَّتْ أَصَابِعُهُ الْبَاقِيَةُ
وَكَفُّهُ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ
اقْتَصَّ مِنْ الْإِصْبَعِ، فَلَهُ فِي الْأَصَابِعِ الْبَاقِيَةِ
أَرْبَعُونَ مِنْ الْإِبِلِ، وَيَتْبَعُهَا مَا حَاذَاهَا مِنْ الْكَفِّ،
وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ، فَيَدْخُلُ أَرْشُهُ فِيهَا، وَيَبْقَى
خُمْسُ الْكَفِّ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَتْبَعُهَا فِي الْأَرْشِ،
وَلَا شَيْءَ فِيهِ.
وَالثَّانِي، فِيهِ الْحُكُومَةُ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْأَرْبَعَ
تَبِعَهَا فِي الْأَرْشِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَحُكْمُ
الَّتِي اقْتَصَّ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْأَرْشِ، فَلَمْ
يَتْبَعْهَا.
[فَصْلٌ لَا يَجُوزُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إلَّا بَعْدَ انْدِمَالِ
الْجُرْحِ]
(6724) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إلَّا بَعْدَ
انْدِمَالِ الْجُرْحِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ؛
النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ،
وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى
الِانْتِظَارَ بِالْجُرْحِ حَتَّى يَبْرَأَ. وَيَتَخَرَّجُ لَنَا، أَنَّهُ
يَجُوزُ الِاقْتِصَاصُ قَبْلَ الْبُرْءِ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا: إنَّهُ
إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ، يَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ، وَهَذَا قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَلَوْ سَأَلَ الْقَوَدَ سَاعَةَ قُطِعَتْ
إصْبَعُهُ، أَقَدْتُهُ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ، «أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ
رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَقِدْنِي. قَالَ: حَتَّى تَبْرَأَ. فَأَبَى، وَعَجَّلَ، فَاسْتَقَادَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَيِيَتْ رِجْلُ
الْمُسْتَقِيدِ، وَبَرَأَتْ رِجْلُ الْمُسْتَقَادِ مِنْهُ. فَقَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ لَك شَيْءٌ
عَجَّلَتْ» رَوَاهُ سَعِيدٌ مُرْسَلًا.
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ الطَّرَفِ لَا يَسْقُطُ بِالسِّرَايَةِ،
فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ فِي الْحَالِ، كَمَا لَوْ بَرَأَ. وَلَنَا، مَا
رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«نَهَى أَنْ يُسْتَقَادَ مِنْ الْجُرُوحِ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ.»
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلِأَنَّ الْجُرْحَ
(8/340)
لَا يُدْرَى أَقَتْلٌ هُوَ أَمْ لَيْسَ
بِقَتْلٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْتَظَرَ لِيُعْلَمَ مَا حُكْمُهُ؟ فَأَمَّا
حَدِيثُهُمْ، فَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِي سِيَاقِهِ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَرَجْت. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي، فَأَبْعَدَك
اللَّهُ، وَبَطَلَ عَرَجُك ". ثُمَّ نَهَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ
حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَهِيَ
مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الِاقْتِصَاصِ، فَتَكُونُ نَاسِخَةً لَهُ. وَفِي نَفْسِ
الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقَادَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ
مَعْصِيَةٌ؛ لِقَوْلِهِ: " قَدْ نَهَيْتُك فَعَصَيْتنِي ". وَمَا ذَكَرُوهُ
مَمْنُوعٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ.
[فَصْلٌ اقْتَصَّ قَبْلَ انْدِمَالِ الْجُرْحِ]
(6725) فَصْلٌ: فَإِنْ اقْتَصَّ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، هُدِرَتْ سِرَايَةُ
الْجِنَايَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: بَلْ هِيَ
مَضْمُونَةٌ؛ لِأَنَّهَا سِرَايَةُ جِنَايَةٍ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً،
كَمَا لَوْ لَمْ يُقْتَصَّ. وَلَنَا، الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ، وَلِأَنَّهُ
اسْتَعْجَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْجَالُهُ، فَبَطَلَ حَقُّهُ،
كَقَاتِلِ مَوْرُوثِهِ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَنْ لَمْ يَقْتَصَّ. فَعَلَى
هَذَا، لَوْ سَرَى الْقَطْعَانِ جَمِيعًا، فَمَاتَ الْجَانِي
وَالْمُسْتَوْفِي، فَهُمَا هَدْرٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ
ضَمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ سِرَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَضْمُونَةٌ، ثُمَّ يَتَقَاصَّانِ فَيَسْقُطَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوَّلًا، ثُمَّ
مَاتَ الْجَانِي، كَانَ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ سِرَايَةِ
الْقَطْعِ، فَقَدْ مَاتَ بِفِعْلِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ
الْجَانِي، فَكَذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، يَكُونُ
مَوْتُ الْجَانِي هَدْرًا، وَلِوَلِيِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ نِصْفُ
الدِّيَةِ. فَأَمَّا إنْ سَرَى أَحَدُ الْقَطْعَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ،
فَعِنْدَنَا هُوَ هَدْرٌ، لَا ضَمَانَ فِيهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
يَجِبُ ضَمَانُ سِرَايَتِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، إنْ سَرَتْ
الْجِنَايَةُ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ، وَإِنْ سَرَى الِاسْتِيفَاءُ، لَمْ
يَجِبْ ضَمَانُهُ. وَمَبْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ.
[فَصْلٌ انْدَمَلَ جُرْحُ الْجِنَايَةِ فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ انْتَقَضَ
فَسَرَى]
(6726) فَصْلٌ: وَإِنْ انْدَمَلَ جُرْحُ الْجِنَايَةِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ،
ثُمَّ انْتَقَضَ فَسَرَى، فَسِرَايَتُهُ مَضْمُونَةٌ، وَسِرَايَةُ
الِاسْتِيفَاءِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَّ بَعْدَ جَوَازِ
الِاقْتِصَاصِ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، فَبَرَأَ،
فَاقْتُصَّ، ثُمَّ انْتَقَضَ جُرْحُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَمَاتَ،
فَلِوَلِيِّهِ قَتْلُ الْجَانِي، لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ، وَإِنْ
عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى
بِالْقَطْعِ مَا قِيمَتُهُ دِيَةٌ، وَهُوَ يَدَاهُ، وَإِنْ سَرَى
الِاسْتِيفَاءُ، لَمْ يَجِبْ أَيْضًا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ
سَقَطَ بِمَوْتِهِ، وَالدِّيَةُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ بِالْجِنَايَةِ يَدًا، فَوَلِيُّهُ بِالْخِيَارِ
بَيْنَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ إلَى نِصْفِ
الدِّيَةِ، وَمَتَى سَقَطَ الْقِصَاصُ بِمَوْتِ الْجَانِي أَوْ غَيْرِهِ،
وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، أَوْ مَالِهِ إنْ كَانَ
حَيًّا.
(8/341)
[فَصْلٌ قَطَعَ كِتَابِيٌّ يَدَ مُسْلِمٍ
فَبَرَأَ أَوْ اقْتَصَّ ثُمَّ انْتَقَضَ جُرْحَ الْمُسْلِمِ فَمَاتَ]
(6727) فَصْلٌ: وَلَوْ قَطَعَ كِتَابِيٌّ يَدَ مُسْلِمٍ، فَبَرَأَ أَوْ
اقْتَصَّ، ثُمَّ انْتَقَضَ جُرْحُ الْمُسْلِمِ فَمَاتَ، فَلِوَلِيِّهِ
قَتْلُ الْكِتَابِيِّ، وَالْعَفْوُ إلَى أَرْشِ الْجُرْحِ، وَفِي قَدْرِهِ
وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى
بَدَلَ يَدِهِ بِالْقِصَاصِ، وَبَدَلُهَا نِصْفُ دِيَتِهِ، فَبَقِيَ لَهُ
نِصْفُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاطِعُ مُسْلِمًا. وَالثَّانِي، لَهُ
ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا؛ لِأَنَّ يَدَ الْيَهُودِيِّ تَعْدِلُ نِصْفَ
دِيَتِهِ، وَذَلِكَ رُبْعُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَقَدْ اسْتَوْفَى رُبْعَ
دِيَتِهِ، وَبَقِيَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا.
وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَيْ الْمُسْلِمِ، فَاقْتَصَّ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ
الْمُسْلِمُ، فَعَفَا وَلِيُّهُ إلَى مَالٍ، انْبَنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛
إنَّ قُلْنَا: تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْيَهُودِيِّ. فَلَهُ هَاهُنَا نِصْفُ
الدِّيَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: الِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ يَدِ الْمُسْلِمِ.
فَلَا شَيْءَ لَهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى بَدَلَ يَدَيْهِ،
وَهُمَا جَمِيعُ دِيَتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ فِي يَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ، فَعَفَا إلَى الدِّيَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَجْهًا
وَاحِدًا؛ لِأَنَّ دِيَةَ ذَلِكَ دِيَةُ مُسْلِمٍ. وَلَوْ كَانَ الْجَانِي
امْرَأَةً عَلَى رَجُلٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ
دِيَتَهَا نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ الْكُوعِ ثُمَّ قَطَعَهَا آخَرُ مِنْ
الْمَرْفِقِ فَمَاتَ بِسِرَايَتِهِمَا]
(6728) فَصْلٌ: إذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ الْكُوعِ، ثُمَّ قَطَعَهَا
آخَرُ مِنْ الْمَرْفِقِ، فَمَاتَ بِسِرَايَتِهِمَا، فَلِوَلِيِّهِ قَتْلُ
الْقَاطِعَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَيْهِمَا، فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ، لَهُ قَطْعُ يَدِ الْقَاطِعِ مِنْ
الْكُوعِ. فَإِنْ قَطَعَهَا، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ،
وَأَمَّا الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ مَقْطُوعَةً مِنْ الْكُوعِ،
فَقَطَعَهَا مِنْ الْمَرْفِقِ، ثُمَّ عَفَا، فَلَهُ دِيَةٌ، إلَّا قَدْرَ
الْحُكُومَةِ فِي الذِّرَاعِ. وَلَوْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ مِنْ
الْمَرْفِقِ صَحِيحَةً، لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛
لِأَنَّهُ يَأْخُذُ صَحِيحَةً بِمَقْطُوعَةٍ.
وَإِنْ قَطَعَ أَيْدِيَهُمَا، وَهُمَا صَحِيحَتَانِ، أَوْ قَطَعَ رَجُلَانِ
يَدَيْهِ، فَقَطَعَ يَدَيْهِمَا، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ، فَمَاتَ مِنْ
قَطْعِهِمَا، فَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ اسْتَوْفَى مَا قِيمَتُهُ دِيَةٌ. وَإِنْ اخْتَارَ قَتْلَهُمَا،
فَلَهُ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ قَبْلَ وَضْعِهَا]
(6729) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ قَبْلَ
وَضْعِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا وَقْتَ الْجِنَايَة، أَوْ حَمَلَتْ
بَعْدَهَا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِصَاصُ فِي
النَّفْسِ أَوْ فِي الطَّرَفِ؛ أَمَّا فِي النَّفْسِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] . وَقَتْلُ
الْحَامِلِ قَتْلٌ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ، فَيَكُونُ إسْرَافًا. وَرَوَى
ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ، قَالَ:
ثنا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
(8/342)
الْجَرَّاحِ، وَعُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ،
وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، قَالُوا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ عَمْدًا، لَمْ
تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا إنْ كَانَتْ حَامِلًا، وَحَتَّى
تَكْفُلَ وَلَدَهَا، وَإِنْ زَنَتْ، لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَضَعَ مَا فِي
بَطْنِهَا، وَحَتَّى تَكْفُلَ وَلَدَهَا» وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ
الْمُقِرَّةِ بِالزِّنَى: «ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِك. ثُمَّ
قَالَ لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ» . وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا.
وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، فَلِأَنَّنَا مَنَعْنَا الِاسْتِيفَاءَ
فِيهِ خَشْيَةَ السِّرَايَةِ إلَى الْجَانِي، أَوْ إلَى زِيَادَةٍ فِي
حَقِّهِ، فَلَأَنْ تُمْنَعَ مِنْهُ خَشْيَةَ السِّرَايَةِ إلَى غَيْرِ
الْجَانِي، وَتَفْوِيتِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ، أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلِأَنَّ
فِي الْقِصَاصِ مِنْهَا قَتْلًا لِغَيْرِ الْجَانِي، وَهُوَ حَرَامٌ.
وَإِذَا وَضَعَتْ، لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَسْقِيَ الْوَلَدَ اللِّبَأَ؛
لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ فِي الْغَالِبِ، ثُمَّ إنْ لَمْ
يَكُنْ لِلْوَلَدِ مَنْ يُرْضِعُهُ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا حَتَّى يَجِيءَ
أَوَانُ فِطَامِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّهُ
لَمَّا أُخِّرَ الِاسْتِيفَاءُ لَحِفْظِهِ وَهُوَ حَمْلٌ، فَلَأَنْ
يُؤَخَّرَ لِحِفْظِهِ بَعْدَ وَضْعِهِ أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ
الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَيَكُونَ الْغَالِبُ بَقَاءَهَا،
وَعَدَمَ ضَرَرِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهَا، فَيُسْتَوْفَى.
وَإِنْ وُجِدَ لَهُ مُرْضِعَةٌ رَاتِبَةٌ، جَازَ قَتْلُهَا؛ لِأَنَّهُ
يَسْتَغْنِي بِلَبَنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً، أَوْ جَمَاعَةً
يَتَنَاوَبْنَهُ، أَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُسْقَى مِنْ لَبَنِ شَاةٍ أَوْ
نَحْوِهَا، جَازَ قَتْلُهَا. وَيُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ تَأْخِيرُهَا؛
لِمَا عَلَى الْوَلَدِ، مِنْ الضَّرَرِ، لِاخْتِلَافِ اللَّبَنِ عَلَيْهِ،
وَشُرْبِ لَبَنِ الْبَهِيمَةِ (6730) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَتْ الْحَمْلَ،
فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: تُحْبَسُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا؛
لِأَنَّ لِلْحَمْلِ أَمَارَاتٌ خَفِيَّةً، تَعْلَمُهَا مِنْ نَفْسِهَا،
وَلَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُحْتَاطَ لِلْحَمْلِ، حَتَّى
يَتَبَيَّنَ انْتِفَاءُ مَا ادَّعَتْهُ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّهَا،
فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ، كَالْحَيْضِ. وَالثَّانِي، ذَكَرَهُ الْقَاضِي،
أَنَّهَا تُرَى أَهْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنْ شَهِدْنَ بِحَمْلِهَا
أُخِّرَتْ، وَإِنْ شَهِدْنَ بِبَرَاءَتِهَا لَمْ تُؤَخَّرْ؛ لِأَنَّ
الْحَقَّ حَالٌ عَلَيْهَا، فَلَا يُؤَخَّرُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا.
[فَصْلٌ اقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ]
(6731) فَصْلٌ: وَإِنْ اقْتَصَّ مِنْ حَامِلٍ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَخْطَأَ
السُّلْطَانُ الَّذِي مَكَّنَهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَعَلَيْهِمَا
الْإِثْمُ إنْ كَانَا عَالِمَيْنِ، أَوْ كَانَ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ، وَإِنْ
عَلِمَ أَحَدُهُمَا أَوْ فَرَّطَ، فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَنْظُرُ؛
فَإِنْ لَمْ تُلْقِ الْوَلَدَ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّا لَمْ
نَتَحَقَّقْ وُجُودَهُ وَحَيَاتَهُ، وَإِنْ انْفَصَلَ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا
لَوَقْتٍ لَا يَعِيشُ فِي مِثْلِهِ، فَفِيهِ غُرَّةٌ، وَإِنْ انْفَصَلَ
حَيًّا لَوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلُهُ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ،
وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ. وَعَلَى مَنْ يَجِبُ ضَمَانُهُ؟ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ
كَانَ الْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ عَالِمَيْنِ بِالْحَمْلِ وَتَحْرِيمِ
الِاسْتِيفَاءِ، أَوْ جَاهِلَيْنِ بِالْأَمْرَيْنِ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا،
أَوْ كَانَ الْوَلِيُّ عَالِمًا بِذَلِكَ
(8/343)
دُونَ الْمُمَكَّنِ لَهُ مِنْ
الِاسْتِيفَاءِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ،
وَالْحَاكِمُ الْمُمَكِّنُ لَهُ صَاحِبُ سَبَبٍ، وَمَتَى اجْتَمَعَ
الْمُبَاشِرُ مَعَ الْمُتَسَبِّبِ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ
دُونَ الْمُتَسَبِّبِ، كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ، وَإِنْ عَلِمَ
الْحَاكِمُ دُونَ الْوَلِيِّ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ وَحْدَهُ؛
لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ مَعْذُورٌ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ،
كَالسَّيِّدِ إذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِالْقَتْلِ، وَالْعَبْدُ أَعْجَمِيٌّ
لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ، وَكَشُهُودِ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا
عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا وَحْدَهُ، فَالضَّمَانُ
عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَا عَالِمَيْنِ، فَالضَّمَانُ عَلَى
الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ، وَالْوَلِيُّ
إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى حُكْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَإِنْ كَانَا
جَاهِلَيْنِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: الضَّمَانُ عَلَى
الْإِمَامِ، كَمَا لَوْ كَانَا عَالِمَيْنِ. وَالثَّانِي، عَلَى
الْوَلِيِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ:
الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ:
الضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ فِي كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ،
وَالسَّبَبُ، غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَالْحَافِرِ
مَعَ الدَّافِعِ، وَكَمَا لَوْ أَمَرَ مِنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ
بِهِ فَقَتَلَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ. وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ كَانَ الْقَاطِعُ سَالِمَ الطَّرَفِ وَالْمَقْطُوعَةُ
شَلَّاءُ]
(6732) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْقَاطِعُ سَالِمَ الطَّرَفِ،
وَالْمَقْطُوعَةُ شَلَّاءُ، فَلَا قَوَدَ) لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ بِوُجُوبِ قَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ لِسَانٍ
صَحِيحٍ بِأَشَلَّ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ أَوْجَبَ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمًّى بِاسْمِ صَاحِبِهِ،
فَيُؤْخَذُ بِهِ كَالْأُذُنَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الشَّلَّاءَ لَا نَفْعَ
فِيهَا سِوَى الْجَمَالِ، فَلَا يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعُ،
كَالصَّحِيحَةِ لَا تُؤْخَذُ بِالْقَائِمَةِ، وَمَا ذُكِرَ لَهُ قِيَاسٌ،
وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ، وَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْقِصَاصَ فِي
الْعَيْنَيْنِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
[المائدة: 45] . لِأَجْلِ تَفَاوُتِهِمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْعَمَى،
فَلَأَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ أَوْلَى.
[فَصْلٌ قَطَعَ أُذُنًا شَلَّاءَ أَوْ أَنْفًا أَشَلَّ فَهَلْ يُؤْخَذُ
بِهِ الصَّحِيحُ]
(6733) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ أُذُنًا شَلَّاءَ، أَوْ أَنْفًا أَشَلَّ،
فَهَلْ يُؤْخَذُ بِهِ الصَّحِيحُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا
يُؤْخَذُ بِهِ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَالثَّانِي، يُؤْخَذُ بِهِ؛
لِأَنَّ نَفْعَهُ لَا يَذْهَبُ بِشَلَلِهِ، فَإِنَّ نَفْعَ الْأُذُنِ
جَمْعُ الصَّوْتِ، وَرَدُّ الْهَوَامِّ، وَسَتْرُ مَوْضِعِ
(8/344)
السَّمْعِ، وَنَفْعَ الْأَنْفِ جَمْعُ
الرِّيحِ، وَرَدُّ الْهَوَاءِ أَوْ الْهَوَامِّ، فَقَدْ سَاوَى الصَّحِيحَ
فِي الْجَمَالِ وَالنَّفْعِ، فَوَجَبَ أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِالْآخَرِ، كَالصَّحِيحِ بِالصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ،
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ.
[فَصْلٌ لَا تُؤْخَذُ يَدٌ كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْقِصَاصِ]
(6734) فَصْلٌ: وَلَا تُؤْخَذُ يَدٌ كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ
الْأَصَابِعِ، فَلَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ يَدَ مَنْ لَهُ
أَرْبَعٌ أَوْ ثَلَاثٌ، أَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ يَدَ
مَنْ لَهُ ثَلَاثٌ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ حَقِّهِ.
وَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ؟
فِيهِ وَجْهَانِ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا إذَا قَطَعَ مِنْ نِصْفِ الْكَفِّ.
وَإِنْ قَطَعَ ذُو الْيَدِ الْكَامِلَةِ يَدًا فِيهَا إصْبَعٌ شَلَّاءُ
وَبَاقِيهَا صِحَاحٌ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الصَّحِيحَةِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ
أَخْذُ كَامِلٍ بِنَاقِصِ، وَفِي الِاقْتِصَاصِ مِنْ الْأَصَابِعِ
الصِّحَاحِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ. فَلَهُ
الْحُكُومَةُ فِي الشَّلَّاءِ، وَأَرْشُ مَا تَحْتَهَا مِنْ الْكَفِّ.
وَهَلْ يَدْخُلُ مَا تَحْتَ الْأَصَابِعِ الصِّحَاحِ فِي قِصَاصِهَا، أَوْ
تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ الْيَدَ الْكَامِلَةَ ذُو يَدٍ فِيهَا إصْبَعٌ زَائِدٌ
الْقِصَاصُ]
(6735) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ الْيَدَ الْكَامِلَةَ ذُو يَدٍ فِيهَا
إصْبَعٌ زَائِدٌ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهَا. ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنُ حَامِدٍ لِأَنَّ الزَّائِدَةَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ فِي الْمَعْنَى،
يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُودُهَا الْقِصَاصَ مِنْهَا،
كَالسِّلْعَةِ فِيهَا وَالْخُرَاجِ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهَا لَا
تُقْطَعُ بِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ.
فَعَلَى هَذَا، إنْ كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَيْضًا إصْبَعٌ
زَائِدَةٌ فِي مَحَلِّ الزَّائِدَةِ مِنْ الْجَانِي، وَجَبَ الْقِصَاصُ؛
لِاسْتِوَائِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، أَوْ لَمْ
يَكُنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ، لَمْ تُؤْخَذْ يَدُ
الْجَانِي. وَهَلْ يَمْلِكُ قَطْعَ الْإِصْبَعِ؟ نَنْظُرُ؛ فَإِنْ كَانَتْ
الزَّائِدَةُ مُلْصَقَةً بِأَحَدِ الْأَصَابِعِ، فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ
تِلْكَ الْأَصَابِعِ، لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا إضْرَارًا بِالزَّائِدَةِ.
وَهَلْ لَهُ قَطْعُ الْأَصَابِعِ الْأَرْبَعِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ مُلْصَقَةً بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَهَلْ لَهُ قَطْعُ
الْخَمْسِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ الزَّائِدَةُ ثَابِتَةً فِي
إصْبَعٍ فِي أُنْمُلَتِهَا الْعُلْيَا، لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا، وَإِنْ
كَانَتْ نَابِتَةً فِي السُّفْلَى أَوْ الْوُسْطَى، فَلَهُ قَطْعُ مَا
فَوْقَهَا مِنْ الْأَنَامِلِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَيَأْخُذُ أَرْشَ
الْأُنْمُلَةِ الَّتِي تَعَذَّرَ قَطْعُهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ،
وَيَتْبَعُ ذَلِكَ خُمُسُ الْكَفِّ.
[فَصْلٌ قَطَعَ ذُو يَدٍ لَهَا أَظْفَارٌ يَدَ مَنْ لَا أَظْفَارَ لَهُ
الْقِصَاصُ]
(6736) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ ذُو يَدٍ لَهَا أَظْفَارٌ يَدَ مَنْ لَا
أَظْفَارَ لَهُ لَمْ يَجُزْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْكَامِلَةَ لَا تُؤْخَذُ
بِالنَّاقِصَةِ.
(8/345)
وَإِنْ كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ ذَاتَ
أَظْفَارٍ، إلَّا أَنَّهَا خَضْرَاءُ، أَوْ مُسْتَحْشِفَةٌ، أَخَذْنَا
بِهَا السَّلِيمَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ وَمَرَضٌ، وَالْمَرَضُ لَا
يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، بِدَلِيلِ أَنَّا نَأْخُذُ الصَّحِيحَ بِالسَّقِيمِ.
[مَسْأَلَةٌ كَانَ الْقَاطِعُ أَشَلَّ وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً
الْقِصَاصُ]
(6737) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْقَاطِعُ أَشَلَّ،
وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً، فَشَاءَ الْمَظْلُومُ أَخْذَهَا، فَذَلِكَ
لَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ دِيَةَ
يَدِهِ) أَمَّا إذَا اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَلَهُ دِيَةُ يَدِهِ، لَا
نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ عَلَى
الْكَمَالِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَتْ لَهُ الدِّيَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ
يَكُنْ لِلْقَاطِعِ يَدٌ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ. وَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ، سُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ،
فَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ إذَا قُطِعَ لَمْ تَنْسَدَّ الْعُرُوقُ، وَدَخَلَ
الْهَوَاءُ إلَى الْبَدَنِ فَأَفْسَدَهُ. سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَخْذُ نَفْسٍ بِطَرَفٍ.
وَإِنْ أُمِنَ هَذَا، فَلَهُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِدُونِ
حَقِّهِ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ رَضِيَ الْمُسْلِمُ بِالْقِصَاصِ
مِنْ الذِّمِّيِّ، وَالرَّجُلُ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَالْحُرُّ مِنْ
الْعَبْدِ، وَلَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ أَرْشٌ؛ لِأَنَّ الشَّلَّاءَ
كَالصَّحِيحَةِ فِي الْخِلْقَةِ، وَإِنَّمَا نَقَصَتْ فِي الصِّفَةِ،
فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ، كَالصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَقَالَ
أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي لَهُ أَرْشٌ مَعَ الْقِصَاصِ. عَلَى قِيَاسِ
قَوْلِهِ فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ إلْحَاقَ
هَذَا الْفَرْعِ بِالْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَوْلَى مِنْ
إلْحَاقِهِ بِفَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، خَارِجٍ عَنْ الْأُصُولِ، مُخَالِفٍ
لِلْقِيَاسِ.
[فَصْلٌ تُؤْخَذُ الشَّلَّاءُ بِالشَّلَّاءِ الْقِصَاصُ]
(6738) فَصْلٌ: وَتُؤْخَذُ الشَّلَّاءُ بِالشَّلَّاءِ، إذَا أُمِنَ فِي
الِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، لَا
تُؤْخَذُ بِهَا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّلَلَ عِلَّةٌ،
وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَن، فَلَا تَتَحَقَّقُ
الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا. وَلَنَا، أَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي ذَاتِ
الْعُضْوِ وَصِفَتِهِ، فَجَازَ أَخْذُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى،
كَالصَّحِيحَةِ بِالصَّحِيحَةِ.
[فَصْلٌ تُؤْخَذُ فِي الْقِصَاصِ الْيَدُ النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ]
(6739) فَصْلٌ: وَتُؤْخَذُ النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ، إذَا تَسَاوَتَا
فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ الْجَانِي كَالْمَقْطُوعِ
مِنْ يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَتَا فِي الذَّاتِ
وَالصِّفَةِ. فَأَمَّا إنْ اخْتَلَفَا، فَكَانَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ
أَحَدِهِمَا الْإِبْهَامَ، وَمِنْ الْأُخْرَى إصْبَعَ غَيْرِهَا، لَمْ
يَجُزْ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَخْذَ إصْبَعٍ بِغَيْرِهَا. وَإِنْ
كَانَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا نَاقِصَةً إصْبَعًا، وَالْأُخْرَى نَاقِصَةً
تِلْكَ الْإِصْبَعُ وَأُخْرَى، جَازَ أَخْذُ النَّاقِصَةِ إصْبَعَيْنِ
بِالنَّاقِصَةِ إصْبَعًا. وَهَلْ لَهُ أَرْشُ إصْبَعِهِ الزَّائِدَةِ؟
فِيهِ وَجْهَانِ. وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُخْرَى بِهَا؛ لِأَنَّ
الْكَامِلَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالنَّاقِصَةِ.
(8/346)
[فَصْلٌ يَجُوزُ أَخْذُ النَّاقِصَةِ
بِالْكَامِلَةِ الْقِصَاصُ]
(6740) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَخْذُ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّهَا
دُونَ حَقِّهِ. وَهَلْ لَهُ أَخْذُ دِيَةٍ لِأَصَابِعِ النَّاقِصَةِ؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ،
وَاخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ. وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ
أَرْشٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ؛
لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْجَمْعِ بَيْن قِصَاصٍ وَدِيَةٍ فِي عُضْوٍ
وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: قِيَاسُ قَوْلِهِ سُقُوطُ الْقِصَاصِ،
كَقَوْلِهِ فِي مَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْ مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ، وَيَضَعُ
الْحَدِيدَةَ فِي مَوْضِعٍ وَضَعَهَا الْجَانِي، فَمَلَكَ ذَلِكَ، كَمَا
لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ، أَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ
أَصْغَرَ، أَوْ أَخَذَ الشَّلَّاءَ بِالصَّحِيحَةِ. وَيُفَارِقُ الْقَاطِعَ
مِنْ نِصْفِ الذِّرَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِصَاصُ مِنْ
مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ. هَكَذَا حَكَاهُ الشَّرِيفُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ.
[فَصْلٌ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَامِلَتَيْنِ
وَفِي يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ]
(6741) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ
كَامِلَتَيْنِ، [وَ] فِي يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ،
فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، لَا عِبْرَةَ بِالزَّائِدَةِ؛ لِأَنَّهَا
بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ وَالسِّلْعَةِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، لَهُ
قَطْعُ يَدِ الْجَانِي. وَهَلْ لَهُ حُكُومَةٌ فِي الزَّائِدَةِ؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ.، وَإِنْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ أَصْلِيَّةٍ، كَفَّ
مَنْ لَهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ أَصْلِيَّةٍ وَإِصْبَعٌ زَائِدَةٌ، أَوْ
قَطَعَ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ وَإِصْبَعٌ زَائِدَةٌ، كَفَّ مَنْ
لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ أَصْلِيَّةٍ، فَلَا قِصَاصَ فِي الصُّورَةِ
الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلِيَّةَ لَا تُؤْخَذُ بِالزَّائِدَةِ. وَلَهُ
الْقِصَاصُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ؛
لِأَنَّ الزَّائِدَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: إنْ لَمْ تَكُنْ الزَّائِدَةُ فِي مَحَلِّ
الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِصْبَعَيْنِ
مُخْتَلِفَانِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِيَّةِ، فَقَالَ
الْقَاضِي: يَجْرِي الْقِصَاصُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا
شَيْءَ لَهُ لِنَقْصِ الزَّائِدَةِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهَا
مَتَى كَانَتْ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِيَّةِ، كَانَتْ أَصْلِيَّةً، لِأَنَّ
الزَّائِدَةَ هِيَ الَّتِي زَادَتْ عَنْ عَدَدِ الْأَصَابِع، أَوْ كَانَتْ
فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْأَصَابِعِ، وَهَذَا لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ فِي
مَحَلِّهَا، فَكَانَتْ كُلُّهَا أَصْلِيَّةً. فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَى
كَوْنِهَا زَائِدَةً، أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ مَائِلَةٌ عَنْ سَمْتِ
الْأَصَابِعِ. قُلْنَا: ضَعْفُهَا لَا يُوجِبُ كَوْنَهَا زَائِدَةً،
كَذَكَرِ الْعِنِّينِ، وَأَمَّا مَيْلُهَا عَنْ الْأَصَابِعِ، فَإِنَّهَا
إنْ لَمْ تَكُنْ نَابِتَةً فِي مَحَلِّ الْإِصْبَعِ الْمَعْدُومَةِ، فَسَدَ
قَوْلُهُمْ إنَّهَا فِي مَحَلِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَابِتَةً فِي
مَوْضِعِهَا، وَإِنَّمَا مَالَ رَأْسُهَا وَاعْوَجَّتْ، فَهَذَا مَرَضٌ لَا
يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَصْلِيَّةً.
[فَصْلٌ قَطَعَ إصْبَعَهُ فَأَصَابَهُ مِنْ جُرْحِهَا أَكَلَةٌ فِي يَدِهِ
وَسَقَطَتْ مِنْ مَفْصِلٍ]
(6742) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ إصْبَعَهُ، فَأَصَابَهُ مِنْ جُرْحِهَا
أَكَلَةٌ فِي يَدِهِ، وَسَقَطَتْ مِنْ مَفْصِلٍ، فَفِيهَا الْقِصَاصُ.
وَإِنْ بَادَرَهَا
(8/347)
صَاحِبُهَا، فَقَطَعَهَا مِنْ الْكُوعِ،
لِئَلَّا تَسْرِيَ إلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ انْدَمَلَ جُرْحُهُ،
فَعَلَى الْجَانِي الْقِصَاصُ فِي الْإِصْبَعِ، وَالْحُكُومَةُ فِيمَا
تَآكَلَ مِنْ الْكَفِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا قَطَعَهُ
الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلِهِ. وَإِنْ لَمْ
يَنْدَمِلْ، وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَالْجَانِي شَرِيكُ نَفْسِهِ،
فَيَحْتَمِلُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ
بِحَالٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، إنَّمَا قَصَدَ بِهِ
الْمَصْلَحَةَ، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ، وَشَرِيكُ الْخَاطِئِ لَا قِصَاصِ
عَلَيْهِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَإِنْ قَطَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَوْضِعَ الْأَكَلَةِ، نَظَرْت؛
فَإِنَّ قَطَعَ لَحْمًا مَيِّتًا، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ، فَالْقِصَاصُ
عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ سِرَايَةُ جُرْحِهِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ فِي
لَحْمٍ حَيٍّ، فَمَاتَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَطَعَهَا خَوْفًا
مِنْ سِرَايَتهَا.
[فَصْلٌ قَطَعَ أُنْمُلَةً لَهَا طَرَفَانِ إحْدَاهُمَا زَائِدَةٌ
وَالْأُخْرَى أَصْلِيَّةٌ]
(6743) فَصْلٌ: وَإِذَا قَطَعَ أُنْمُلَةً لَهَا طَرَفَانِ، إحْدَاهُمَا:
زَائِدَةٌ وَالْأُخْرَى أَصْلِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أُنْمُلَةُ الْقَاطِعِ
ذَاتَ طَرَفَيْنِ أَيْضًا، أُخِذَتْ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ
طَرَفَيْنِ. قُطِعَتْ، وَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ فِي الزَّائِدَةِ. وَإِنْ
كَانَتْ الْمَقْطُوعَةُ ذَاتَ طَرَفٍ وَاحِدٍ، وَأُنْمُلَةُ الْقَاطِعِ
ذَاتُ طَرَفَيْنِ، أُخِذَتْ بِهَا، فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، وَعَلَى
قَوْلِ غَيْرِهِ؛ لَا قِصَاصَ فِيهَا، وَلَهُ دِيَةُ أُنْمُلَتِهِ. وَإِنْ
ذَهَبَ الطَّرَفُ الزَّائِدُ، فَلَهُ الِاسْتِيفَاءُ. وَإِنْ قَالَ: أَنَا
أَصْبِرُ حَتَّى يَذْهَبَ الزَّائِدُ ثُمَّ أَقْتَصُّ. فَلَهُ ذَلِكَ؛
لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّهُ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْجِيلِ
اسْتِيفَائِهِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا ثُمَّ قَطَعَ أُنْمُلَةَ
آخَرَ الْوُسْطَى ثُمَّ قَطَعَ السُّفْلَى مِنْ ثَالِثٍ]
(6744) فَصْلٌ: وَلَوْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا، ثُمَّ قَطَعَ
أُنْمُلَةَ آخَرَ الْوُسْطَى، ثُمَّ قَطَعَ السُّفْلَى مِنْ ثَالِثٍ،
فَلِلْأَوَّلِ الْقِصَاصُ مِنْ الْعُلْيَا، ثُمَّ لِلثَّانِي أَنْ
يَقْتَصَّ مِنْ الْوُسْطَى، ثُمَّ لِلثَّالِثِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ
السُّفْلَى، سَوَاءٌ جَاءُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ وَاحِدًا بَعْدَ
وَاحِدٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا
قِصَاصَ إلَّا فِي الْعُلْيَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِهَا حَالَ
الْجِنَايَةِ، لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ، فَلَمْ يَجِبْ بَعْدَ ذَلِكَ
كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ مُكَافِئٍ حَالَ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ صَارَ
مُكَافِئًا بَعْدَهُ. وَلَنَا، أَنَّ تَعَذُّرَ الْقِصَاصِ لِاتِّصَالِ
مَحَلِّهِ بِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُهُ إذَا زَالَ الِاتِّصَالُ، كَمَا لَوْ
جَنَتْ الْحَامِلُ.
وَيُفَارِقُ عَدَمَ التَّكَافُؤِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ لِمَعْنًى فِيهِ،
وَهَا هُنَا تَعَذَّرَ لِاتِّصَالِ غَيْرِهِ بِهِ. فَأَمَّا إنْ جَاءَ
صَاحِبُ الْوُسْطَى أَوْ السُّفْلَى يَطْلُبُ الْقِصَاصَ قَبْلَ صَاحِبِ
الْعُلْيَا، لَمْ يُعْطِهِ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَائِهِ إتْلَافَ أُنْمُلَةٍ
لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَقِيلَ لَهُمَا: إمَّا أَنْ تَصْبِرَا حَتَّى
تَعْلَمَا مَا يَكُونُ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنْ اقْتَصَّ فَلَكُمَا
الْقِصَاصُ، وَإِنْ عَفَا فَلَا قِصَاصَ لَكُمَا، وَإِمَّا أَنْ تَرْضَيَا
بِالْعَقْلِ. فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ الْعُلْيَا فَاقْتَصَّ، فَلِلثَّانِي
الِاقْتِصَاصُ، وَحُكْمُ الثَّالِثِ مَعَ الثَّانِي كَحُكْمِ الثَّانِي
مَعَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ عَفَا، فَلَهُمَا الْعَقْلُ، فَإِنْ قَالَا:
نَحْنُ نَصْبِرُ وَنَنْظُرُ بِالْقِصَاصِ أَنْ تَسْقُطَ الْعُلْيَا
بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، ثُمَّ نَقْتَصُّ. لَمْ يُمْنَعَا مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ قَطَعَ صَاحِبُ الْوُسْطَى الْوُسْطَى وَالْعُلْيَا، فَعَلَيْهِ
دِيَةُ الْعُلْيَا، تُدْفَعُ إلَى صَاحِبِ الْعُلْيَا.
وَإِنْ قَطَعَ الْإِصْبَعَ كُلَّهَا، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي
الْأُنْمُلَةِ الثَّالِثَةِ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ
(8/348)
الْعُلْيَا لِلْأَوَّلِ، وَأَرْشُ
السُّفْلَى عَلَى الْجَانِي لَصَاحِبِهَا، وَإِنْ عَفَا الْجَانِي عَنْ
قِصَاصِهَا، وَجَبَ أَرْشُهَا، يَدْفَعُهُ إلَيْهِ، لِيَدْفَعَهُ إلَى
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا ثُمَّ قَطَعَ أُنْمُلَتَيْ
آخَرَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى مِنْ تِلْكَ الْإِصْبَعِ]
(6745) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا، ثُمَّ قَطَعَ
أُنْمُلَتَيْ آخَرَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى مِنْ تِلْكَ الْإِصْبَعِ،
فَلِلْأَوَّلِ قَطْعُ الْعُلْيَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ، ثُمَّ
يَقْطَعُ الثَّانِي الْوُسْطَى، وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْعُلْيَا مِنْهُ.
فَإِنْ بَادَرَ الثَّانِي فَقَطَعَ الْأُنْمُلَتَيْنِ، فَقَدْ اسْتَوْفَى
حَقَّهُ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِلْأَوَّلِ، وَلَهُ
الْأَرْشُ عَلَى الْجَانِي. وَإِنْ كَانَ قَطَعَ الْأُنْمُلَتَيْنِ
أَوَّلًا، قَدَّمْنَا صَاحِبَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، لِلْأَوَّلِ، وَلَهُ
الْأَرْشُ عَلَى الْجَانِي. وَإِنْ بَادَرَ صَاحِبُهَا فَقَطَعَهَا، فَقَدْ
اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَتُقْطَعُ الْوُسْطَى لِلْأَوَّلِ، وَيَأْخُذُ
الْأَرْشَ لِلْعُلْيَا. وَلَوْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ رَجُلٍ الْعُلْيَا،
وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ عُلْيَا، فَاسْتَوْفَى الْجَانِي مِنْ
الْوُسْطَى، فَإِنْ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، تَقَاصَّا وَتَسَاقَطَا؛ لِأَنَّ
دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ، وَإِنْ اخْتَارَ الْجَانِي الْقِصَاصَ، فَلَهُ
ذَلِكَ، وَيَدْفَعُ أَرْشَ الْعُلْيَا. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي
بَكْرٍ، أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ دِيَتَهُمَا وَاحِدَةٌ،
وَاسْمُ الْأُنْمُلَةِ يَشْمَلُهُمَا، فَتَسَاقَطَا، كَقَوْلِهِ فِي إحْدَى
الْيَدَيْنِ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى.
[مَسْأَلَةٌ قُتِلَ وَلَهُ وَلِيَّانِ بَالِغٌ وَطِفْلٌ أَوَغَائِب]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا قُتِلَ وَلَهُ وَلِيَّانِ؛ بَالِغٌ، وَطِفْلٌ
أَوْ غَائِبٌ، لَمْ يَقْتُلْ، حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ وَيَبْلُغَ
الطِّفْلُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَرَثَةَ الْقَتِيلِ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ
مِنْ وَاحِدٍ، لَمْ يَجُزْ لَبَعْضِهِمْ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ إلَّا
بِإِذْنِ الْبَاقِينَ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَائِبًا، اُنْتُظِرَ
قُدُومُهُ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاضِرِ الِاسْتِقْلَالُ بِالِاسْتِيفَاءِ،
بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ صَغِيرًا أَوْ
مَجْنُونًا، فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ
لَيْسَ لَغَيْرِهِمَا الِاسْتِيفَاءُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَيُفِيقَ
الْمَجْنُونُ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى،
وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: لِلْكِبَارِ الْعُقَلَاءِ
اسْتِيفَاؤُهُ. وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ،
وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَتَلَ ابْنَ مُلْجِمٍ، قِصَاصًا، وَفِي الْوَرَثَةِ
صِغَارٌ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِصَاصِ هِيَ
اسْتِحْقَاقُ اسْتِيفَائِهِ، وَلَيْسَ لِلصَّغِيرِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ.
وَلَنَا، أَنَّهُ قِصَاصٌ غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ، ثَبَتَ لَجَمَاعَةٍ
مُعَيَّنِينَ، فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمْ اسْتِيفَاؤُهُ اسْتِقْلَالًا،
كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ، أَوْ أَحَدُ بَدَلَيْ
النَّفْسِ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ بَعْضُهُمْ كَالدِّيَةِ، وَالدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّ لِلصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ فِيهِ حَقًّا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ؛
أَحَدُهَا، أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَاسْتَحَقَّهُ، وَلَوْ
نَافَاهُ الصِّغَرُ مَعَ غَيْرِهِ لَنَافَاهُ مُنْفَرِدًا، كَوِلَايَةِ
النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي، أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ لَاسْتَحَقَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
مُسْتَحِقًّا
(8/349)
عِنْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا
بَعْدَهُ، كَالرَّقِيقِ إذَا عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ. وَالثَّالِث:
أَنَّهُ لَوْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْمَالِ، لَاسْتَحَقَّ، وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْقِصَاصِ لَمَا اسْتَحَقَّ بَدَلَهُ،
كَالْأَجْنَبِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الصَّغِيرُ
لَاسْتَحَقَّهُ وَرَثَتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَمْ يَرِثْهُ،
كَسَائِرِ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ، فَأَمَّا ابْنُ مُلْجِمٍ، فَقَدْ قِيلَ:
إنَّهُ قَتَلَهُ بِكُفْرِهِ، لِأَنَّهُ قَتَلَ عَلِيًّا مُسْتَحِلًّا
لِدَمِهِ، مُعْتَقِدًا كُفْرَهُ، مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى. وَقِيلَ: قَتَلَهُ لِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ،
وَإِظْهَارِ السِّلَاحِ، فَيَكُونُ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ.
وَقَتْلُهُ مُتَحَتِّمٌ، وَهُوَ إلَى الْإِمَامِ، وَالْحَسَنُ هُوَ
الْإِمَامُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْتَظِرْ الْغَائِبِينَ مِنْ الْوَرَثَةِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْننَا فِي وُجُوبِ انْتِظَارِهِمْ، وَإِنْ قُدِّرَ
أَنَّهُ قَتَلَهُ قِصَاصًا، فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى خِلَافِهِ، فَكَيْفَ
يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ.
[فَصْلٌ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا صَغِيرًا]
(6747) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا صَغِيرًا، كَصَبِيٍّ
قُتِلَتْ أُمُّهُ، وَلَيْسَتْ زَوْجَةً لِأَبِيهِ، فَالْقِصَاصُ لَهُ،
وَلَيْسَ لِأَبِيهِ وَلَا غَيْرِهِ اسْتِيفَاؤُهُ. وَبِهَذَا قَالَ
الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ، فِي الطَّرَفِ دُونَ
النَّفْسِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ فِي الْأَبِ
رِوَايَتَيْنِ، وَفِي مَوْضِعٍ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: كَقَوْلِنَا؛
لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ، فَكَانَ لِلْأَبِ
اسْتِيفَاؤُهُ، كَالدِّيَةِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ
الطَّلَاقِ بِزَوْجَتِهِ، فَلَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لَهُ،
كَالْوَصِيِّ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ التَّشَفِّي وَدَرْكُ الْغَيْظِ، وَلَا
يَحْصُلُ ذَلِكَ بِاسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ.
وَيُخَالِفُ الدِّيَةَ، فَإِنَّ الْغَرَضَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ الْأَبِ
لَهُ، فَافْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهَا
إذَا تَعَيَّنَتْ، وَالْقِصَاصُ لَا يَتَعَيَّنُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ
الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ، وَالصُّلْحُ عَلَى مَالٍ أَكْثَرُ مِنْهَا
وَأَقَلُّ، وَالدِّيَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ يَحْبِس الْقَاتِل عِنْدَ تَأْخِيرُ الِاسْتِيفَاءِ]
فَصْلٌ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ تَأْخِيرُ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنْ
الْقَاتِلَ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، وَيَعْقِلَ الْمَجْنُونُ،
وَيَقْدَمَ الْغَائِبُ، وَقَدْ حَبَسَ مُعَاوِيَةُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ
فِي قِصَاصٍ حَتَّى بَلَغَ ابْنُ الْقَتِيلِ، فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ،
فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ، وَبَذَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَسَعِيدُ بْنُ
الْعَاصِ لِابْنِ الْقَتِيلِ سَبْعَ دِيَاتٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا. فَإِنْ
قِيلَ: فَلِمَ لَا يُخْلَى سَبِيلُهُ كَالْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ؟ قُلْنَا:
لِأَنَّ فِي تَخَلَّيْتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ
هَرَبُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْسِرِ مِنْ وُجُوهٍ؛
أَحَدُهَا: أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ لَا يَجِبُ مَعَ الْإِعْسَارِ، فَلَا
يُحْبَسُ بِمَا لَا يَجِبُ، وَالْقِصَاصُ هَاهُنَا وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا
تَعَذَّرَ الْمُسْتَوْفِي.
الثَّانِي، أَنَّ الْمُعْسِرَ إذَا حَبَسْنَاهُ تَعَذَّرَ الْكَسْبُ
لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا يُفِيدُ، بَلْ يَضُرُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ،
وَهَا هُنَا الْحَقُّ نَفْسُهُ يَفُوتُ بِالتَّخْلِيَةِ لَا بِالْحَبْسِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ اُسْتُحِقَّ قَتْلُهُ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ
نَفْسِهِ وَنَفْعِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ تَفْوِيتُ نَفْسِهِ، جَازَ
تَفْوِيتُ نَفْعِهِ لِإِمْكَانِهِ.
(8/350)
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ يُحْبَسُ مِنْ أَجْلِ
الْغَائِبِ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ إذَا كَانَ
مُكَلَّفًا رَشِيدًا؛ وَلِذَلِكَ لَوْ وَجَدَ بَعْضَ مَالِهِ مَغْصُوبًا
لَمْ يَمْلِكْ انْتِزَاعَهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَقًّا
لِلْمَيِّتِ، وَلِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، وَلِهَذَا تَنْفُذُ
وَصَايَاهُ مِنْ الدِّيَةِ، وَتُقْضَى دُيُونُهُ مِنْهَا، فَنَظِيرُهُ أَنْ
يَجِدَ الْحَاكِمُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي يَدِ إنْسَانٍ شَيْئًا
غَصْبًا، وَالْوَارِثُ غَائِبٌ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ.
وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ لِحَيِّ فِي طَرَفِهِ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَنْ
هُوَ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِيُخَلِّيَ
سَبِيلَهُ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ فِي الْقِصَاصِ،
فَإِنَّ فَائِدَتَهَا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْكَفِيلِ إنْ تَعَذَّرَ
إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ
الْقَاتِلِ، فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحَدِّ، وَلِأَنَّ فِيهِ
تَغْرِيرًا بِحَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَلَّى
سَبِيلَهُ فَهَرَبَ، فَضَاعَ الْحَقُّ.
[فَصْلٌ قَتَلَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَاقِينَ]
(6749) فَصْلٌ: فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ
الْبَاقِينَ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ الْأَخِيرُ،
عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَتْلِهِ، وَبَعْضُهُ
غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَهُ، وَقَدْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِإِتْلَافِ بَعْضِ
النَّفْسِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي قَتْلِ وَاحِدٍ.
وَلَنَا، أَنَّهُ مُشَارِكٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ، فَلَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ كَانَ مُشَارِكًا فِي مِلْكِ الْجَارِيَةِ
وَوَطْئِهَا، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ يَمْلِكُ بَعْضَهُ، فَلَمْ تَجِبْ
الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ بِاسْتِيفَائِهِ كَالْأَصْلِ. وَيُفَارِقُ
إذَا قَتَلَ الْجَمَاعَةُ وَاحِدًا، فَإِنَّا لَا نُوجِبُ الْقِصَاصَ
بِقَتْلِ بَعْضِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا نَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
قَاتِلًا لِجَمِيعِهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهُ عَلَيْهِ لِقَتْلِهِ
بَعْضَ النَّفْسِ، فَمِنْ شَرْطِهِ الْمُشَارَكَةُ لِمَنْ فَعَلَهُ،
كَفِعْلِهِ فِي الْعَمْدِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَاهُنَا.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لِلْوَلِيِّ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ قِسْطَهُ
مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ الْقِصَاصِ سَقَطَ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا بَعْضُ
الْأَوْلِيَاءِ. وَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى قَاتِلِ الْجَانِي، أَوْ فِي
تَرِكَةِ الْجَانِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَى قَاتِلِ الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ
مَحَلَّ حَقِّهِ، فَكَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ نَصِيبَهُ، كَمَا
لَوْ كَانَتْ لَهُ وَدِيعَةٌ فَأَتْلَفَهَا. وَالثَّانِي، يَرْجِعُ فِي
تَرِكَةِ الْجَانِي، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، أَوْ عَفَا
شَرِيكُهُ عَنْ الْقِصَاصِ، وَقَوْلُنَا: أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّهِ،
يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَتْلَفَ مُسْتَأْجَرَهُ أَوْ غَرِيمَهُ أَوْ
امْرَأَتَهُ، أَوْ كَانَ الْمُتْلَفُ أَجْنَبِيًّا، وَيُفَارِقُ
الْوَدِيعَةَ،
(8/351)
فَإِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمَا، فَوَجَبَ
عِوَضُ مِلْكِهِ، أَمَّا الْجَانِي فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ
غَرِيمَهُ. فَعَلَى هَذَا، يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْجَانِي عَلَى قَاتِلِهِ
بِدِيَةِ مُوَرِّثِهِمْ إلَّا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهَا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ
كَانَ الْجَانِي أَقَلَّ دِيَةً مِنْ قَاتِلِهِ، مِثْلَ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ
رَجُلًا لَهُ ابْنَانِ، فَقَتَلَهَا أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْآخَرِ،
فَلِلْآخَرِ نِصْفُ دِيَةِ أَبِيهِ فِي تَرِكَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي
قَتَلَتْهُ، وَيَرْجِعُ وَرَثَتُهَا بِنِصْفِ دِيَتِهَا عَلَى قَاتِلِهَا،
وَهُوَ رُبْعُ دِيَةِ الرَّجُلِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَرْجِعُ الِابْنُ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ
عَلَى أَخِيهِ بِنِصْفِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ
عَلَى أَخِيهِ إلَّا نِصْفَ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ
عَلَى وَرَثَةِ الْمَرْأَةِ بِشَيْءِ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ الَّذِي قَتَلَهَا
أَتْلَفَ جَمِيعَ الْحَقِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْوَجْهِ
وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا، صِحَّةُ إبْرَاءِ مَنْ حَكَمْنَا بِالرُّجُوعِ
عَلَيْهِ، وَمِلْكُ مُطَالَبَتِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ عَلَى
وَرَثَةِ الْجَانِي. صَحَّ إبْرَاؤُهُمْ، وَمَلَكُوا الرُّجُوعَ عَلَى
قَاتِلِ مَوْرُوثِهِمْ بِقِسْطِ أَخِيهِ الْعَافِي. وَإِنْ قُلْنَا:
يَرْجِعُ عَلَى تَرِكَةِ الْجَانِي. وَلَهُ تَرِكَةٌ، فَلَهُ الْأَخْذُ
مِنْهَا، سَوَاءٌ أَمْكَنَ وَرَثَتَهُ أَنْ يَسْتَوْفُوا مِنْ الشَّرِيكِ،
أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ. وَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ. لَمْ
يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ وَرَثَةِ الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَ شَرِيكُهُ
مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.
[مَسْأَلَةٌ عَفَا بَعْضٌ مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْقِصَاصِ]
(6750) مَسْأَلَةٌ:؛ قَالَ: (وَمَنْ عَفَا مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عَنْ
الْقِصَاصِ، لَمْ يَكُنْ إلَى الْقِصَاصِ سَبِيلٌ، وَإِنْ كَانَ الْعَافِي
زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إجَازَةِ الْعَفْو
عَنْ الْقِصَاصِ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ
قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وَقَالَ تَعَالَى
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:
45] . إلَى قَوْله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] . قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لِلْجَانِي، يَعْفُو صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْهُ. وَقِيلَ: فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لِلْعَافِيَّ بِصَدَقَتِهِ وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَإِنَّ أَنَسَ
بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ، إلَّا أَمَرَ
فِيهِ بِالْعَفْوِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَفِي حَدِيثِهِ فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ النَّضْرِ، حِينَ
كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِالْقِصَاصِ، فَعَفَا الْقَوْمُ.
(8/352)
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْقِصَاصُ حَقٌّ
لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ،
وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَمَنْ عَفَا
مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَبْقَ لَأَحَدٍ
إلَيْهِ سَبِيلٌ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ
عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ،
وَطَاوُسٍ، وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ:
لَيْسَ لِلنِّسَاءِ عَفْوٌ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ
مَوْرُوثٌ لِلْعَصَبَاتِ خَاصَّةً. وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ
الْعَصَبَاتُ. كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ.
وَلَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّهُ لِذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ
الزَّوْجَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ بَيْنَ أَنْ
يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ» . وَأَهْلُهُ ذَوُو رَحِمِهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ
بِعَفْوِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ؛
لِأَنَّ حَقَّ غَيْرِ الْعَافِي لَا يَرْضَى بِإِسْقَاطِهِ، وَقَدْ
تُؤْخَذُ النَّفْسُ بِبَعْضِ النَّفْسِ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ
بِالْوَاحِدِ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "
فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ ". وَهَذَا عَامٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِهِ،
وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ يَبْلُغُنِي
أَذَاهُ فِي أَهْلِي، وَمَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ
ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ
يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي. يُرِيدُ عَائِشَةَ. وَقَالَ لَهُ
أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلَك وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا» .
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِرَجُلِ قَتَلَ
قَتِيلًا، فَجَاءَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَتْ
امْرَأَةُ الْمَقْتُولِ، وَهِيَ أُخْتُ الْقَاتِلِ: قَدْ عَفَوْت عَنْ
حَقِّي. فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، عَتَقَ الْقَتِيلُ. رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى
امْرَأَتِهِ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا رَجُلًا، فَقَتَلَهَا، فَاسْتَعْدَى
إخْوَتُهَا عُمَرَ، فَقَالَ بَعْضُ إخْوَتِهَا: قَدْ تَصَدَّقْت. فَقَضَى
لِسَائِرِهِمْ بِالدِّيَةِ. وَرَوَى قَتَادَةُ، أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ
إلَيْهِ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا، فَجَاءَ أَوْلَادُ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ
عَفَا بَعْضُهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ مَسْعُودٍ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ:
إنَّهُ قَدْ أُحْرِزَ مِنْ الْقَتْلِ. فَضَرَبَ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَ:
كَنِيفٌ مُلِئَ عِلْمًا.
وَالدَّلِيلُ
(8/353)
عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لِجَمِيعِ
الْوَرَثَةِ، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الصَّغِيرِ
وَالْكَبِيرِ، وَلِأَنَّ مِنْ وَرِثَ الدِّيَةَ وَرِثَ الْقِصَاصَ
كَالْعُصْبَةِ، فَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ، صَحَّ عَفْوُهُ، كَعَفْوِهِ عَنْ
سَائِرِ حُقُوقِهِ، وَزَوَالُ الزَّوْجِيَّةِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ
الْقِصَاصِ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ اسْتِحْقَاقَ الدِّيَةِ، وَسَائِرِ
حُقُوقِهِ الْمَوْرُوثَةِ. وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْن
جَمِيعِهِمْ، سَقَطَ بِإِسْقَاطِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ
مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْهُ لَهُ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ،
فَإِذَا سَقَطَ سَقَطَ جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَبَعَّضُ،
كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ
بَيْنَهُمْ لَا يَتَبَعَّضُ، مَبْنَاهُ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ،
فَإِذَا أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ، سَرَى إلَى الْبَاقِي كَالْعِتْقِ،
وَالْمَرْأَةُ أَحَدُ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَسَقَطَ بِإِسْقَاطِهَا
كَالرَّجُلِ.
وَمَتَى عَفَا أَحَدُهُمْ، فَلِلْبَاقِينَ حَقُّهُمْ مِنْ الدِّيَةِ
سَوَاءٌ عَفَا مُطْلَقًا أَوْ إلَى الدِّيَةِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا أَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا مِمَّنْ
قَالَ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ الْقِصَاصِ
سَقَطَ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَثَبَتَ لَهُ الْبَدَلُ كَمَا لَوْ وَرِثَ
الْقَاتِلُ بَعْضَ دَمِهِ أَوْ مَاتَ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[فَصْلٌ قَتَلَهُ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ عَالِمًا بِعَفْوِ
شَرِيكِهِ وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ]
(6751) فَصْلٌ: فَإِنْ قَتَلَهُ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ عَالِمًا
بِعَفْوِ شَرِيكِهِ، وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ،
سَوَاءٌ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: لَهُ قَوْلٌ آخَرُ، لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛
لِأَنَّ لَهُ فِيهِ شُبْهَةً، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ وَلَنَا. أَنَّهُ
قَتَلَ مَعْصُومًا مُكَافِئًا لَهُ عَمْدًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ
لَهُ فِيهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِالْعَفْوِ
حَاكِمٌ، وَالِاخْتِلَافُ لَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ
مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، قَتَلْنَاهُ، بِهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي قَتْلِهِ.
وَأَمَّا إنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَفْوِ، فَلَا قِصَاصَ
عَلَيْهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛
لِأَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ عُدْوَانٌ لِمَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي قَتْلِهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ قَتَلَهُ مُعْتَقِدًا ثُبُوتَ حَقِّهِ فِيهِ، مَعَ أَنَّ
الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قِصَاصٌ، كَالْوَكِيلِ إذَا قَتَلَ
بَعْدَ عَفْوِ الْمُوَكِّلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِعَفْوِهِ، وَلَا فَرْقَ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ حَكَمَ بِالْعَفْوِ أَوْ لَمْ
يَحْكُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَوْجُودَةٌ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ
مَعْدُومَةٌ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَتَى قَتَلَهُ
بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، عَلِمَ بِالْعَفْوِ أَوْ
لَمْ يَعْلَمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا.
وَمَتَى حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ
مَعْذُورًا، وَإِمَّا لِلْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ
عَنْهُ مِنْهَا مَا قَابَلَ حَقَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ قِصَاصًا، وَيَجِبُ
عَلَيْهِ الْبَاقِي، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ عَفَا إلَى غَيْرِ مَالٍ،
فَالْوَاجِبُ لِوَرَثَةِ الْقَاتِلِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ
كَانَ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَالْوَاجِبُ لِوَرَثَةِ الْقَاتِلِ،
(8/354)
وَعَلَيْهِمْ نَصِيبُ الْعَافِي مِنْ
الدِّيَةِ. وَقِيلَ فِيهِ: إنَّ حَقَّ الْعَافِي، مِنْ الدِّيَةِ عَلَى
الْقَاتِلِ. لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا
بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَمْ
تَنْتَقِلْ إلَى الْقَاتِلِ، كَمَا لَوْ قَتَلَ غَرِيمَهُ.
[فَصْلٌ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْعَافِي فِي الْقِصَاصُ]
(6752) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْعَافِي، فَعَلَيْهِ
الْقِصَاصُ سَوَاءٌ عَفَا مُطْلَقًا أَوْ إلَى مَالٍ. وَبِهَذَا قَالَ
عِكْرِمَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ
الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: تُؤْخَذْ مِنْهُ الدِّيَةُ، وَلَا
يُقْتَلُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْحُكْمُ فِيهِ إلَى
السُّلْطَانِ. وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ
فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ،
وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِهَا: أَيْ بَعْدَ أَخْذِهِ
الدِّيَةَ. وَعَنْ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا
أُعْفِي مَنْ قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِهِ الدِّيَةَ» . وَلِأَنَّهُ قَتَلَ
مَعْصُومًا مُكَافِئًا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ لَمْ
يَكُنْ قَتَلَ.
[فَصْلٌ عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ مُطْلَقًا]
(6753) فَصْلٌ: وَإِذَا عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ مُطْلَقًا، صَحَّ، وَلَمْ
تَلْزَمْهُ عُقُوبَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ،
وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ،
وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُضْرَبُ، وَيُحْبَسُ سَنَةً. وَلَنَا، أَنَّهُ،
إنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ،
فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الدِّيَةَ عَنْ
الْقَاتِلِ خَطَأً.
[فَصْلٌ تَوْكِيلَ مَنْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ]
(6754) فَصْلٌ: وَإِذَا وَكَّلَ مَنْ يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ، صَحَّ
تَوْكِيلُهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَإِنْ
وَكَّلَهُ، ثُمَّ غَابَ، وَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، وَاسْتَوْفَى
الْوَكِيلُ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ عَفْوُهُ بَعْدَ الْقَتْلِ، لَمْ
يَصِحَّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ اسْتَوْفِي، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ وَقَدْ
عَلِمَ الْوَكِيلُ بِهِ، فَقَدْ قَتَلَهُ ظُلْمًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ،
كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً. وَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ
بِعَفْوِ الْمُوَكِّلِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا ضَمَانَ عَلَى
الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْعَفْوَ حَصَلَ
عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَكِّنُ الْوَكِيلَ اسْتِدْرَاكَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ
ضَمَانٌ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْدَ مَا رَمَاهُ.
وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ الضَّمَانُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا:
لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا ذَكَرْنَا
مِنْ حُصُولِهِ فِي حَالٍ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُ الْفِعْلِ، فَوَقَعَ
الْقَتْلُ مُسْتَحَقًّا لَهُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ؛ وَلِأَنَّ
الْعَفْوَ إحْسَانٌ، فَلَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الضَّمَانِ.
(8/355)
وَالثَّانِي، عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ
قَتْلَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ وَتَسْلِيطِهِ، عَلَى وَجْهٍ
لَا ذَنْبَ لِلْمُبَاشِرِ فِيهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ، كَمَا
لَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ الْأَعْجَمِيَّ بِقَتْلِ مَعْصُومٍ. وَقَالَ غَيْرُ
أَبِي بَكْرٍ: فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى
الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْوَكِيلِ، هَلْ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ
أَوْ لَا؟ وَلِلشَّافِعَيَّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا:
لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ
يَجِبُ قَتْلُهُ بِأَمْرٍ يَسْتَحِقُّهُ.
وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الْعَفْوُ. فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّ
الْوَكِيلَ قَتَلَ مَنْ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ قَتْلِهِ بِسَبَبٍ هُوَ
مَعْذُورٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ
يَعْتَقِدُهُ حَرْبِيًّا. وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ
لَوْ عَلِمَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ
تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَدْ أَسْلَمَ
قَبْلَ عِلْمِهِ بِإِسْلَامِهِ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُوَكِّلِ؛
لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِتَسْلِيطِهِ عَلَى الْقَتْلِ بِتَفْرِيطِهِ فِي تَرْكِ
إعْلَامِهِ بِالْعَفْوِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، كَالْغَارِ فِي النِّكَاحِ
بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ، أَوْ تَزَوُّجِ مَعِيبَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا
يَرْجِعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إحْسَانٌ مِنْهُ، فَلَا يَقْتَضِي
الرُّجُوعَ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ
الْوَكِيلِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّ هَذَا جَرَى
مَجْرَى الْخَطَأِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ
مُسْلِمًا يَعْتَقِدُهُ حَرْبِيًّا.
وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ فِي مَالِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ عَمْدٍ
مَحْضٍ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا مَحْضًا
لَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ
أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَالِ الْمَحَلِّ، وَكَوْنِهِ مَعْصُومًا، وَلَمْ
يُوجَدْ هَذَا. وَإِنْ قَالَ: هُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ. فَعَمْدُ الْخَطَأِ
تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَدَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ
الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَتْ جَارِيَتهَا وَجَنِينَهَا بِمُسَطَّحِ،
فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدِّيَةِ
عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ عَفَا
إلَى الدِّيَةِ، فَلَهُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، وَلِوَرَثَةِ
الْجَانِي مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِدِيَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ
مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ فِيمَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ لِأَخَوَيْنِ
فَقَتَلَهُ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلِأَخِيهِ
مُطَالَبَتُهُ بِهِ، فِي وَجْهٍ. قُلْنَا: ثُمَّ أَتْلَفَ حَقَّهُ،
فَرَجَعَ بِبَدَلِهِ عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا أَتْلَفَهُ بَعْدَ سُقُوطِ
حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَنْهُ، فَافْتَرَقَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْوَكِيلَ
يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. احْتَمَلَ أَنْ تَسْقُطَ الدِّيَتَانِ؛
لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَأْخُذَهَا الْوَرَثَةُ مِنْ
الْوَكِيلِ، ثُمَّ يَدْفَعُونَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ، ثُمَّ يَرُدُّهَا
الْمُوَكِّلُ إلَى الْوَكِيلِ، فَيَكُونُ تَكْلِيفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ لِغَيْرِ مِنْ لِلْوَكِيلِ
الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَتَسَاقَطُ الدِّيَتَانِ إذَا كَانَ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا لَهُ
عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الدِّيَتَانِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، بِأَنْ
يَكُونَ أَحَدُ الْمَقْتُولَيْنِ رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً، فَعَلَى
هَذَا يَأْخُذُ وَرَثَةُ الْجَانِي دِيَتَهُ مِنْ الْوَكِيلِ،
وَيَدْفَعُونَ إلَى الْمُوَكِّلِ دِيَةَ وَلِيِّهِ، ثُمَّ يَرُدُّ
الْمُوَكِّلُ إلَى الْوَكِيلِ قَدْرَ مَا غَرِمَهُ،
(8/356)
وَإِنْ أَحَالَ وَرَثَةُ الْجَانِي
الْمُوَكِّلَ عَلَى الْوَكِيلِ بِدِيَةِ وَلِيِّهِمْ، صَحَّ فَإِنْ كَانَ
الْجَانِي أَقَلَّ دِيَةً، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ قَتَلَتْ
رَجُلًا، فَقَتَلَهَا الْوَكِيلُ، فَلِوَرَثَتِهَا إحَالَةُ الْمُوَكَّلِ
بِدِيَتِهَا؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ لَهُمْ عَلَى الْوَكِيلِ،
فَيَسْقُطُ عَنْ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ جَمِيعًا، وَيَرْجِعُ
الْمُوَكِّلُ عَلَى وَرَثَتِهَا بِنِصْفِ دِيَةِ وَلِيِّهِ، وَإِنْ كَانَ
الْجَانِي رَجُلًا قَتَلَ امْرَأَةً، فَقَتَلَهُ الْوَكِيلُ، فَلِوَرَثَةِ
الْجَانِي إحَالَةُ الْمُوَكِّلِ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ
الْمُوَكِّلَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهَا،
وَيُطَالِبُونَ الْوَكِيلَ بِنِصْفِ دِيَةِ الْجَانِي، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ
عَلَى الْمُوَكِّلِ.
[فَصْلٌ حُكْمُ الْقِصَاصِ إذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ سَرَتْ
الْجِنَايَةُ إلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ]
فَصْلٌ: وَإِذَا جَنَى عَلَى الْإِنْسَانِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَتْ
الْجِنَايَةُ إلَى نَفْسِهِ، فَمَاتَ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ. وَبِهَذَا
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ
الْقِصَاصَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ نَفْسًا، وَلَمْ يَعْفُ
عَنْهَا. وَلَنَا، أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ دُونَ مَا عَفَا عَنْهُ، فَسَقَطَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لَوْ
عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ
فِيهَا قِصَاصٌ مَعَ إمْكَانِهِ، لَمْ يَجِبْ فِي سِرَايَتهَا، كَمَا لَوْ
قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْهَا نَظَرْنَا،
فَإِنْ كَانَ عَفَا عَلَى مَالٍ، فَلَهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ عَفَا
عَلَى غَيْرِ مَالٍ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ إلَّا أَرْشَ الْجُرْحِ الَّذِي
عَفَا عَنْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ
صَارَتْ نَفْسًا، وَحَقُّهُ فِي النَّفْسِ لَا فِيمَا عَفَا عَنْهُ،
وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ. وَإِنْ قَالَ: عَفَوْت عَنْ
الْجِنَايَةِ. لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَخْتَصُّ
بِالْقَطْعِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيمَا إذَا عَفَا عَنْ الْقَطْعِ:
ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَبِهِ قَالَ أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَكَذَلِكَ
سِرَايَتُهُ. وَلَنَا، أَنَّهَا سِرَايَةُ جِنَايَةٍ أَوْجَبَتْ
الضَّمَانَ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْفُ، وَإِنَّمَا
سَقَطَتْ دِيَتُهَا بِعَفْوِهِ عَنْهَا، فَيَخْتَصُّ السُّقُوطُ بِمَا
عَفَا عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ نِصْفُ الدِّيَةِ؛
لِأَنَّ الْجِنَايَةَ أَوْجَبَتْ نِصْفَ الدِّيَةِ، فَإِذَا عَفَا، سَقَطَ
مَا وَجَبَ دُونَ مَا لَمْ يَجِبْ، فَإِذَا صَارَتْ نَفْسًا، وَجَبَ
بِالسِّرَايَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَمْ يَسْقُطْ أَرْشُ الْجُرْحِ فِيمَا
إذَا لَمْ يَعْفُ، وَإِنَّمَا تَكَمَّلْت الدِّيَةُ بِالسِّرَايَةِ.
[فَصْلٌ كَانَ الْجُرْحُ لَا قِصَاصَ فِيهِ فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ فِيهِ
فَسَرَى إلَى النَّفْسِ]
(6756) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ لَا قِصَاصَ فِيهِ، كَالْجَائِفَةِ،
وَنَحْوِهَا، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ فِيهِ، فَسَرَى إلَى النَّفْسِ،
فَلِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَجِبْ فِي الْجُرْحِ،
فَلَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ بَعْدَ
عَفْوِهِ، وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ، وَلَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ.
وَإِنْ عَفَا عَنْ دِيَةِ الْجُرْحِ، صَحَّ، وَلَهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ
دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا أَرْشَ الْجُرْحِ. وَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ
الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ
بِالْعَفْوِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدًا، فَانْدَمَلَتْ
(8/357)
وَاقْتَصَّ مِنْهَا، ثُمَّ انْتَقَضَتْ
وَسَرَتْ إلَى النَّفْسِ، فَلَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَلَيْسَ لَهُ
الْعَفْوُ إلَّا عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ. وَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ نِصْفِ
السَّاعِدِ، فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي
بَكْرٍ، لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ
يَجِبْ، فَهُوَ كَالْجَائِفَةِ. وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ
الْكُوعِ، أَسْقَطَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَطْعُ
مِنْ الْكُوعِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْ دِيَةِ الْجُرْحِ قَبْلَ
انْدِمَالِهِ، فَلَوْ قَطَعَ يَدًا، فَعَفَا عَنْ دِيَتِهَا وَقِصَاصِهَا،
ثُمَّ انْدَمَلَتْ، لَمْ تَسْقُطْ دِيَتُهَا، وَسَقَطَ قِصَاصُهَا؛ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ قَدْ وَجَبَ فِيهَا، فَصَحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ، بِخِلَافِ
الدِّيَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ دِيَةَ الْجُرْحِ إنَّمَا وَجَبَتْ
بِالْجِنَايَةِ، إذْ هِيَ السَّبَبُ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفِ
عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ بُرْئِهِ، كَانَ أَرْشُ الطَّرَفِ لِبَائِعِهِ
لَا لِمُشْتَرِيهِ، وَتَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ بِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ
عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَامْتِنَاعُ صِحَّةِ الْعَفْوِ، كَالدَّيْنِ
الْمُؤَجَّلِ لَا تُمْلَكُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَيَصِحُّ الْعَفْوُ
عَنْهُ، كَذَا هَاهُنَا.
[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَهُ فَعَفَا عَنْهُ ثُمَّ عَادَ الْجَانِي فَقَتَلَهُ]
(6757) فَصْلٌ: فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ، فَعَفَا عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ
الْجَانِي فَقَتَلَهُ فَلِوَلِيِّهِ الْقِصَاصُ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضِهِمْ: لَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ حَصَلَ
عَنْ بَعْضِهِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ، كَمَا لَوْ سَرَى الْقَطْعُ إلَى
نَفْسِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْقَتْلَ انْفَرَدَ عَنْ الْقَطْعِ، فَعَفْوُهُ
عَنْ الْقَطْعِ لَا يَمْنَعُ مَا يَلْزَمُ بِالْقَتْلِ، كَمَا لَوْ كَانَ
الْقَاطِعُ غَيْرَهُ. وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، فَقَالَ الْقَاضِي: إنْ
كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الطَّرَفِ إلَى غَيْرِ دِيَةٍ، فَلَهُ بِالْقَتْلِ
نِصْفُ الدِّيَةِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلِأَنَّ
الْقَتْلَ إذَا تَعَقَّبَ الْجِنَايَةَ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، كَانَ
كَالسِّرَايَةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْفُ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ
دِيَةٍ، وَالْقَطْعُ يَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ فِي الدِّيَةِ دُونَ
الْقِصَاصِ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْقِصَاصَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ
ثُمَّ يَقْتُلَ، وَلَوْ صَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ لَمْ يَجِبْ إلَّا
دِيَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَهُ الْعَفْوُ إلَى دِيَةٍ كَامِلَةٍ. وَهُوَ
قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مُنْفَرِدٌ عَنْ
الْقَتْلِ، فَلَمْ يَدْخُلْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، كَمَا لَوْ
انْدَمَلَ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ، فَأَوْجَبَ الدِّيَةَ
كَامِلَةً، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عَفْوٌ. وَفَارَقَ السِّرَايَةَ،
فَإِنَّهَا لَمْ تُوجِبْ قَتْلًا، وَلِأَنَّ السِّرَايَةَ عُفِيَ عَنْ
سَبَبِهَا، وَالْقَتْلُ لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا عَنْ
سَبَبِهِ، سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كَانَ الْعَافِي عَنْ الْجُرْحِ أَخَذَ
دِيَةَ طَرَفِهِ أَوْ لَمْ يَأْخُذْهَا.
[فَصْلٌ قَطَعَ إصْبَعًا فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ الْقِصَاصِ
ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَة إلَى الْكَفّ ثُمَّ انْدَمَلَ الْجُرْحُ]
(6758) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ
عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْكَفِّ، ثُمَّ
انْدَمَلَ الْجُرْحُ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي
النَّفْسِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ فِي الْإِصْبَعِ بِالْعَفْوِ،
فَصَارَتْ الْيَدُ نَاقِصَةً لَا تُؤْخَذُ
(8/358)
بِهَا [اليد] الْكَامِلَةُ. ثُمَّ إنْ
كَانَ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ دِيَةُ الْيَدِ كُلُّهَا، وَإِنْ
كَانَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، خُرِجَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا
فِيمَا إذَا قَطَعَ يَدًا فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَرَى إلَى
نَفْسِهِ. فَعَلَى هَذَا، تَجِبُ هَاهُنَا دِيَةُ الْكَفِّ إلَّا دِيَةَ
الْإِصْبَعِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، أَنْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ
الْجِنَايَةِ عَفْوٌ عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي:
إنَّ الْقِيَاسَ فِيمَا إذَا قَطَعَ الْيَدَ، ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ،
أَنْ يَجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ
هَاهُنَا. .
[فَصْلٌ الْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ]
(6759) فَصْلٌ: فَإِنْ قَالَ: عَفَوْت عَنْ الْجِنَايَةِ، وَمَا يَحْدُثُ
مِنْهَا، صَحَّ عَفْوُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي سِرَايَتِهَا قِصَاصٌ
وَلَا دِيَةٌ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَسَوَاءٌ عَفَا بِلَفْظِ
الْعَفْوِ أَوْ الْوَصِيَّةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِصِحَّةِ عَفْوِ
الْمَجْرُوحِ عَنْ دَمِهِ؛ مَالِكٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ،
وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إذَا قَالَ: عَفَوْت
عَنْ الْجِنَايَةِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا. فَفِيهِ قَوْلَانِ؛
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَصِيَّةٌ، فَيُبْنَى عَلَى الْوَصِيَّةِ
لِلْقَاتِلِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، فَتَجِبُ
دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا دِيَةَ الْجُرْحِ. وَالثَّانِي، يَصِحُّ، فَإِنْ
خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ سَقَطَ، وَإِلَّا سَقَطَ مِنْهَا مَا خَرَجَ مِنْ
الثُّلُثِ، وَوَجَبَ الْبَاقِي. وَالْقَوْلُ الثَّانِي، لَيْسَ
بِوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا يَصِحُّ،
وَتَلْزَمُهُ دِيَةُ النَّفْسِ إلَّا دِيَةَ الْجُرْحِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ، فَسَقَطَ،
كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الشُّفْعَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا،
فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ؛
لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، أَوْ
أَحَدُ شَيْئَيْنِ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَمَا تَعَيَّنَتْ
الدِّيَةُ، وَلَا تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ بِمَالٍ،؛ وَلِذَلِكَ صَحَّ
الْعَفْوُ مِنْ الْمُفْلِسِ إلَى غَيْرِ مَالٍ. وَأَمَّا جِنَايَةُ
الْخَطَأِ، فَإِذَا عَفَا عَنْهَا وَعَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا، اُعْتُبِرَ
خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ، سَوَاءٌ عَفَا بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوْ
الْوَصِيَّةِ أَوْ الْإِبْرَاءِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ
الثُّلُثِ، صَحَّ عَفْوُهُ فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ
الثُّلُثِ، سَقَطَ عَنْهُ مِنْ دِيَتِهَا مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَنَحْوَهُ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ،
وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هَاهُنَا بِمَالٍ.
[فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْوَلِيُّ أَوْ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ
فَقَالَ الْجَانِي عَفَوْت مُطْلَقًا وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَلْ
عَفَوْت إلَى مَالٍ]
(6760) فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ
عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْكَفِّ، ثُمَّ
انْدَمَلَ الْجُرْحُ فَصْلٌ: وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَعَفَا الْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِ عَنْ الْقِصَاصِ، ثُمَّ سَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى الْكَفِّ، ثُمَّ
انْدَمَلَ الْجُرْحُ فَصْلٌ: فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْوَلِيُّ أَوْ
الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ.، فَقَالَ الْجَانِي: عَفَوْت مُطْلَقًا. وَقَالَ
الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَلْ عَفَوْت
(8/359)
إلَى مَالٍ. أَوْ قَالَ: عَفَوْت عَنْ
الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا. قَالَ: بَلْ عَفَوْت عَنْهَا دُونَ
مَا يَحْدُثُ مِنْهَا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ
وَلِيِّهِ إنْ كَانَ الْخِلَافُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ
الْعَفْوِ عَنْ الْجَمِيعِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْعَفْوُ عَنْ الْبَعْضِ
بِإِقْرَارِهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي عَدَمِ سُقُوطِهِ قَوْلَهُ. .
[مَسْأَلَةٌ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَة فِي الْقَتْلِ فَأُحِبّ الْأَوْلِيَاء
أَنْ يَقْتُلُوا الْجَمِيعَ]
(6761) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَتْلِ،
فَأَحَبَّ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يَقْتُلُوا الْجَمِيعَ، فَلَهُمْ ذَلِكَ،
وَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا الْبَعْضَ، وَيَعْفُوا عَنْ الْبَعْضِ،
وَيَأْخُذُوا الدِّيَةَ مِنْ الْبَاقِينَ، فَلَهُمْ ذَلِكَ) أَمَّا
قَتْلُهُمْ لِلْجَمِيعِ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَأَمَّا إنْ
أَحَبُّوا قَتْلَ الْبَعْضِ فَلَهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُمْ
قَتْلُهُ فَلَهُمْ الْعَفْوُ عَنْهُ، كَالْمُنْفَرِدِ، وَلَا يَسْقُطُ
الْقِصَاصُ عَنْ الْبَعْضِ بِعَفْوِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ،
فَلَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِإِسْقَاطِهِ عَنْ الْآخَرِ،
كَمَا لَوْ قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ رَجُلًا.
وَأَمَّا إذَا اخْتَارُوا أَخْذَ الدِّيَةِ مِنْ الْقَاتِلِ، أَوْ مِنْ
بَعْضِ الْقَتَلَةِ، فَإِنَّ لَهُمْ هَذَا مِنْ غَيْرِ رِضَى الْجَانِي.
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ سِيرِينَ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ،
وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ:
لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ إلَّا الْقَتْلُ، إلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى
الدِّيَةِ بِرِضَى الْجَانِي. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى،
كَقَوْلِنَا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] . وَالْمَكْتُوبُ لَا يَتَخَيَّر فِيهِ،
وَلِأَنَّهُ مُتْلَفٌ يَجِبُ بِهِ الْبَدَلُ، فَكَانَ بَدَلُهُ مُعَيَّنًا،
كَسَائِرِ أَبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ.
وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}
[البقرة: 178] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ
الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
هَذِهِ الْآيَةُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:
178] . الْآيَة، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] .
فَالْعَفْوُ أَنْ تُقْبَلَ فِي الْعَمْدِ الدِّيَةُ {فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] يَتْبَعُ الطَّالِبُ بِالْمَعْرُوفِ،
وَيُؤَدِّي إلَيْهِ الْمَطْلُوبُ {بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] . مِمَّا كَتَبَ عَلَى مَنْ
قَبْلَكُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(8/360)
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَنْ
«قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أَنْ يُودَى،
وَإِمَّا يُقَادُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثُمَّ أَنْتُمْ يَا خُزَاعَةُ، قَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا
الْقَتِيلَ، وَأَنَا وَاَللَّهِ عَاقِلُهُ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ
قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ
أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ.
وَلِأَنَّ الْقَتْلَ الْمَضْمُونَ إذَا سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ
غَيْرِ إبْرَاءٍ، ثَبَتَ الْمَالُ، كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ،
وَيُخَالِفُ سَائِرَ الْمُتْلَفَاتِ؛ لِأَنَّ بَدَلَهَا يَجِبُ مِنْ
جِنْسِهَا، وَهَا هُنَا يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَعَمْدِ الْخَطَأِ مِنْ
غَيْرِ الْجِنْسِ، فَإِذَا رَضِيَ فِي الْعَمْدِ بِبَدَلِ الْخَطَأِ، كَانَ
لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ
أَمْكَنَهُ إحْيَاءُ نَفْسِهِ بِبَذْلِ الدِّيَةِ، فَلَزِمَهُ وَيَنْتَقِضُ
مَا ذَكَرُوهُ بِمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، أَوْ يَدُ
الْقَاطِعِ أَنْقَصَ، فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا فِيهِمَا.
[فَصْلٌ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ]
(6762) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي مُوجَبِ الْعَمْدِ، فَرُوِيَ
عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُوجَبَهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ عَمْدًا، فَهُوَ قَوَدٌ» .
وَلِمَا ذَكَرُوهُ فِي دَلِيلِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ مُوجَبَهُ أَحَدُ
شَيْئَيْنِ؛ الْقِصَاصِ، أَوْ الدِّيَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا،
وَلِأَنَّ الدِّيَةَ أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ، فَكَانَتْ بَدَلًا
عَنْهَا، لَا عَنْ بَدَلِهَا، كَالْقِصَاصِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ،
فَالْمُرَادُ بِهِ وُجُوبُ الْقَوَدِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَيُخَالِفُ
الْقَتْلُ سَائِرَ الْمُتْلَفَات؛ لِأَنَّ بَدَلَهَا لَا يَخْتَلِفُ
بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ، وَالْقَتْلُ بِخِلَافِهِ. وَلِلشَّافِعِي
قَوْلَانِ، كَالرِّوَايَتَيْنِ. فَإِذَا قُلْنَا مُوجَبُهُ الْقِصَاصُ
عَيْنًا، فَلَهُ الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ، وَالْعَفْوُ مُطْلَقًا، فَإِذَا
عَفَا مُطْلَقًا، لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ. وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِئَلَّا يُطَلَّ
الدَّمُ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ بَعْدَ
وُجُوبِهَا، صَحَّ عَفْوُهُ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ بِغَيْرِ مَالٍ،
لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، فَأَمَّا إنْ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ؛ لَمْ يَصِحَّ
عَفْوُهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ.
وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ. فَعَفَا
عَنْ الْقِصَاصِ مُطْلَقًا، أَوْ إلَى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ؛
لِأَنَّ الْوَاجِبَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَهُمَا وَجَبَ
الْآخَرُ، وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ اخْتَارَ
الْقِصَاصَ، تَعَيَّنَ. وَهَلْ لَهُ بَعْد ذَلِكَ الْعَفْوُ عَلَى
الدِّيَةِ؟ قَالَ الْقَاضِي: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَعْلَى،
فَكَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الْأَدْنَى، وَيَكُونُ بَدَلًا عَنْ
الْقِصَاصِ، وَلَيْسَتْ الَّتِي وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ، كَمَا قُلْنَا فِي
الرِّوَايَةِ الْأُولَى: إنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ عَيْنًا، وَلَهُ
الْعَفْوُ إلَى الدِّيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ أَسْقَطَهَا بِاخْتِيَارِهِ الْقَوَدَ فَلَمْ يَعُدْ إلَيْهَا.
(8/361)
[فَصْلٌ جَنَى عَبْد عَلَى حُرٍّ جِنَايَةً
مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ فَاشْتَرَاهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِأَرْشِ
الْجِنَايَة]
(6763) فَصْلٌ: وَإِذَا جَنَى عَبْدٌ عَلَى حُرٍّ جِنَايَةً مُوجِبَةً
لِلْقِصَاصِ، فَاشْتَرَاهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ،
سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ عُدُولَهُ إلَى الشِّرَاءِ اخْتِيَارٌ
لِلْمَالِ، وَلَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ لَمْ يَعْرِفَا
قَدْرَ الْأَرْشِ فَالثَّمَنُ مَجْهُولٌ، وَإِنْ عَرَفَا عَدَدَ الْإِبِلِ
وَأَسْنَانَهَا فَصِفَتُهَا مَجْهُولَةٌ، وَالْجَهْلُ بِالصِّفَةِ
كَالْجَهْلِ بِالذَّاتِ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ؛ وَلِذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ
شَيْئًا بِجَمَلٍ جَذْعٍ غَيْرِ مَعْرُوفِ الصِّفَةِ، لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ
قَدَّرَ الْأَرْشَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَبَاعَهُ بِهِ صَحَّ.
[فَصْلٌ الْقِصَاصُ لِصَغِيرٍ هَلْ لِوَلِيِّهِ الْعَفْو]
(6764) فَصْلٌ: إذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لَصَغِيرٍ، لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ
الْعَفْوُ إلَى غَيْرِ مَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّهِ.
وَإِنْ أَحَبَّ الْعَفْوَ إلَى مَالٍ، وَلِلصَّبِيِّ كِفَايَةٌ مِنْ
غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ
حَاجَةٍ. فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُحْتَاجًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛
أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ؛ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَالِ لِحِفْظِهِ. قَالَ
الْقَاضِي: هَذَا أَصَحُّ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَمْلِكُ إسْقَاطَ قِصَاصِهِ، وَأَمَّا حَاجَتُهُ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ فِي
بَيْتِ الْمَالِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ
فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا يُغْنِيه إذَا لَمْ يَحْصُلْ، فَأَمَّا إنْ كَانَ
مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ مَجْنُونًا فَقِيرًا فَلِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ عَلَى
الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ حَالَةً مُعْتَادَةً يُنْتَظَرُ فِيهَا
إفَاقَتُهُ. .
[فَصْلٌ يَصِحُّ عَفْو الْمُفْلِسِ وَالْمَحْجُور عَلَيْهِ لَسَفَّهُ عَنْ
الْقِصَاصِ]
فَصْلٌ: وَيَصِحُّ عَفْوُ الْمُفْلِسِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَسَفَهٍ
عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُفْلِسُ
الْقِصَاصَ، لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ إجْبَارُهُ عَلَى تَرْكِهِ. وَإِنْ
أَحَبَّ الْعَفْوَ عَنْهُ إلَى مَالٍ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَظًّا
لِلْغُرَمَاءِ. وَإِنْ أَرَادَ الْعَفْوَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، انْبَنَى
عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ إنَّ قُلْنَا الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ، فَلَهُ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ
الْغُرَمَاءِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ. لَمْ
يَمْلِكْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَجِبُ بِقَوْلِهِ: عَفَوْت عَنْ الْقِصَاصِ.
فَقَوْلُهُ: عَلَى غَيْرِ مَالٍ. إسْقَاطٌ لَهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ
وَتَعْيِينِهِ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي السَّفِيهِ
وَوَارِثِ الْمُفْلِسِ.
وَإِنْ عَفَا الْمَرِيضُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي
مَوْضِعٍ، أَنَّهُ يَصِحُّ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَمْ
يَخْرُجْ. وَذَكَر أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى هَذَا. وَقَالَ فِي
مَوْضِعٍ: يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ ثُلُثِهِ، وَلَعَلَّهُ يَنْبَنِي
عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مُوجَبِ الْعَمْدِ عَلَى مَا مَضَى.
[فَصْلٌ قَتَلَ مِنْ لَا وَارِث لَهُ]
(6766) فَصْلٌ: وَإِذَا قُتِلَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَالْأَمْرُ إلَى
السُّلْطَانِ؛ فَإِنْ أَحَبَّ الْقِصَاصَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّ
الْعَفْوَ عَلَى
(8/362)
مَالٍ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَحَبَّ
الْعَفْوَ إلَى غَيْرِ مَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي هَذَا. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ
الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْعَفْوَ عَلَى مَالٍ إلَّا
بِرِضَى الْجَانِي.
[فَصْلٌ اشْتَرَكَ الْجَمَاعَة فِي الْقَتْل فَعَفَا عَنْهُمْ إلَى
الدِّيَة]
(6767) فَصْلٌ: وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَتْل، فَعَفَا
عَنْهُمْ إلَى الدِّيَةِ، فَعَلَيْهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ عَفَا
عَنْ بَعْضِهِمْ، فَعَلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ قِسْطُهُ مِنْ الدِّيَةِ؛
لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ الْمَحَلِّ، وَهُوَ وَاحِدٌ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ
وَاحِدَةً، سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ
أَبِي مُوسَى: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةً
كَامِلَةً لِأَنَّ لَهُ قَتْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَكَانَ عَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِيَةُ نَفْسٍ كَامِلَةٍ، كَمَا لَوْ قَلَعَ
الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ عَيْنِهِ،
وَهُوَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ
بَدَلُ الْمُتْلَفِ، فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتْلَفِ،
وَلِذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَبْدٌ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ حُرًّا، لَمْ يَمْلِكْ
الْعَفْوَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ الدِّيَةِ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ، فَإِنَّهُ
عُقُوبَةٌ عَلَى الْفِعْلِ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ.
[مَسْأَلَةٌ قَالَ قَتَلَ مِنْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَقِيدُوا بِهِ
فَبَذَلَ الْقَاتِلُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ]
(6768) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ قُتِلَ مَنْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ
يَقِيدُوا بِهِ، فَبَذَلَ الْقَاتِلُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَنْ
لَا يُقَادَ، فَلِلْأَوْلِيَاءِ قَبُولُ ذَلِكَ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ
لَهُ الْقِصَاصُ، لَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ،
وَبِقَدْرِهَا وَأَقَلِّ مِنْهَا، لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِمَا
رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَتَلَ
عَمْدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ؛ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا،
وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، ثَلَاثِينَ حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ
جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً، وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ
لَهُمْ. وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ الْقَتْلِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ،
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَيْنَا أَنَّ هُدْبَةَ بْن خَشْرَمٍ
قَتَلَ قَتِيلًا، فَبَذَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَالْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ لِابْنِ الْمَقْتُولِ سَبْعَ دِيَاتٍ، لِيَعْفُوَ عَنْهُ،
فَأَبَى ذَلِكَ، وَقَتَلَهُ. وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ غَيْرِ مَالٍ،
فَجَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، كَالصَّدَاقِ،
وَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ عَمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ
الرِّبَا، فَأَشْبَهَ الصُّلْحَ عَنْ الْعُرُوضِ.
(8/363)
[مَسْأَلَةٌ أَمْسَكَ رَجُلًا وَقَتَلَهُ
آخَر]
(6769) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا أَمْسَكَ رَجُلًا وَقَتَلَهُ آخَرُ،
قُتِلَ الْقَاتِلُ، وَحُبِسَ الْمَاسِكُ حَتَّى يَمُوتَ) يُقَالُ أَمْسَكَ
وَمَسَكَ وَمَسَّكَ. وَقَدْ جَمَعَ الْخِرَقِيِّ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ،
فَقَالَ: إذَا أَمْسَكَ، وَحُبِسَ الْمَاسِكُ. وَهُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ
مِنْ مَسَكَ مُخَفَّفًا. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ؛
لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَمَّا
الْمُمْسِكُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَاتِلَ يَقْتُلُهُ، فَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ، وَالْقَاتِلُ مُبَاشِرٌ، فَسَقَطَ
حُكْمُ الْمُتَسَبِّبِ بِهِ.
وَإِنْ أَمْسَكَهُ لَهُ لِيَقْتُلهُ، مِثْلَ إنْ ضَبَطَهُ لَهُ حَتَّى
ذَبَحَهُ لَهُ. فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ؛ فَرُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ
وَرَبِيعَة. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ،
أَنَّهُ يُقْتَلُ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ
أَبِي مُوسَى: الْإِجْمَاعُ فِينَا أَنْ يُقْتَلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ
يُمْسِكْهُ، مَا قَدَرَ عَلَى قَتْلِهِ، وَبِإِمْسَاكِهِ تَمَكَّنَ مِنْ
قَتْلِهِ، فَالْقَتْلُ حَاصِلٌ بِفِعْلِهِمَا، فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ
فِيهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ جَرَحَاهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ: يُعَاقَبُ، وَيَأْثَمُ، وَلَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى
اللَّهِ، مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ ". وَالْمُمْسِكُ غَيْرُ قَاتِلٍ،
وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ
مَعَهُ الْمُبَاشَرَةُ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ، كَمَا لَوْ
لَمْ يَعْلَمْ الْمُمْسِكُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ، وَلَنَا، مَا رَوَى
الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلَ،
وَقَتَلَهُ الْآخَرُ، يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ الَّذِي
أَمْسَكَ» وَلِأَنَّهُ حَبَسَهُ إلَى الْمَوْتِ، فَيُحْبَسُ الْآخَرُ إلَى
الْمَوْتِ، كَمَا لَوْ حَبَسَهُ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى
مَاتَ، فَإِنَّنَا نَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَمُوتَ.
[فَصْلٌ اتَّبَعَ رَجُلًا لِيَقْتُلهُ فَأَدْرَكَهُ أَخَّرَ]
(6770) فَصْلٌ: وَإِنْ اتَّبَعَ رَجُلًا لِيَقْتُلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ،
فَأَدْرَكَهُ آخَرُ، فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الثَّانِي
فَقَتَلَهُ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْأَوَّلِ حَبْسَهُ بِالْقَطْعِ
لِيَقْتُلَهُ الثَّانِي، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَحُكْمُهُ
فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ حُكْمُ الْمُمْسِكِ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهُ
عَلَى الْقَتْلِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ حَبْسَهُ، فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ
دُونَ الْقَتْلِ، كَاَلَّذِي أَمْسَكَهُ غَيْرَ عَالِمٍ. وَفِيهِ وَجْهٌ
آخَرُ، لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَطْعُ بِكُلِّ حَالٍ. وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ الْحَابِسُ لَهُ بِفِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَابِسَ
بِإِمْسَاكِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ قَصْدَ الْإِمْسَاكِ
هَاهُنَا وَأَنْتُمْ لَا تَعْتَبِرُونَ إرَادَةَ الْقَتْلِ فِي الْجَارِحِ؟
(8/364)
قُلْنَا إذَا مَاتَ مِنْ الْجُرْحِ، فَقَدْ
مَاتَ مِنْ سِرَايَتِهِ وَأَثَرِهِ، فَنَعْتَبِرُ قَصْدَ الْجُرْحِ الَّذِي
هُوَ السَّبَبُ دُونَ قَصْدِ الْأَثَرِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إنَّمَا كَانَ
مَوْتُهُ بِأَمْرِ غَيْرِ السِّرَايَةِ، وَالْفِعْلُ مُمَكِّنٌ لَهُ
عَلَيْهِ، فَاعْتُبِرَ قَصْدُهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا لَوْ
أَمْسَكَهُ.
[مَسْأَلَةٌ أَمَرَ عَبْده أَنْ يَقْتُل رَجُلًا وَكَانَ الْعَبْد
أَعْجَمِيًّا]
(6771) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَمَنْ (أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا،
وَكَانَ الْعَبْدُ أَعْجَمِيًّا، لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْقَتْلَ مُحَرَّمٌ
قُتِلَ السَّيِّدُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ خَطَرَ الْقَتْلِ، قُتِلَ
الْعَبْدُ، وَأُدِّبَ السَّيِّدُ) إنَّمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ كَوْنَهُ
أَعْجَمِيًّا، وَهُوَ الَّذِي لَا يُفْصِحُ، لِيَتَحَقَّقَ مِنْهُ
الْجَهْلُ، وَإِنَّمَا يَكُنْ الْجَهْلُ فِي حَقِّ مِنْ نَشَأَ فِي غَيْرِ
بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا مَنْ أَقَامَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ
بَيْنَ أَهْلِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْقَتْلِ، وَلَا
يَعْذِرُ فِي فِعْلِهِ، وَمَتَى كَانَ الْعَبْدُ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ
الْقَتْلِ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيُؤَدَّبُ سَيِّدُهُ؛ لِأَمْرِهِ
بِمَا أَفْضَى إلَى الْقَتْلِ، بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ الْحَبْسِ
وَالتَّعْزِيرِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِخَطَرِهِ، فَالْقِصَاصُ عَلَى سَيِّدِهِ،
وَيُؤَدَّبُ الْعَبْدُ. قَالَ أَحْمَدُ يُضْرَبُ وَيُؤَدَّبُ. وَنَقَلَ
عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ، قَالَ: يُقْتَلُ الْوَلِيُّ وَيُحْبَسُ الْعَبْدُ
حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ سَوْطُ الْمَوْلَى وَسَيْفُهُ. كَذَا
قَالَ عَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - يُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ
الشَّافِعِيُّ وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّ السَّيِّدَ يُقْتَلُ عَلِيٌّ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُقْتَلَانِ جَمِيعًا. وَقَالَ سُلَيْمَانُ
بْنُ مُوسَى: لَأَنْ يُقْتَلَ الْآمِرُ، وَلَكِنْ يَدَيْهِ، وَيُعَاقَبُ
وَيُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ، وَلَا أَلْجَأَ إلَيْهِ،
فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْعَبْدُ خَطَرَ
الْقَتْلِ.
وَلَنَا، أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِخَطَرِ الْقَتْلِ،
فَهُوَ مُعْتَقِدٌ إبَاحَتَهُ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ تَمْنَعُ الْقِصَاصَ
كَمَا لَوْ اعْتَقَدَهُ صَيْدًا فَرَمَاهُ، فَبَانَ إنْسَانًا، وَلِأَنَّ
حِكْمَةَ الْقِصَاصِ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي
مُعْتَقِدِ الْإِبَاحَةِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَى
السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ، لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِصَاصِ
عَلَيْهِ، فَوَجَبَ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ بِهِ، كَمَا لَوْ أَنْهَشَهُ
حَيَّةً أَوْ كَلْبًا أَوْ أَلْقَاهُ فِي زُبْيَةِ أَسَدٍ فَأَكَلَهُ.
وَيُفَارِقُ هَذَا مَا إذَا عَلِمَ خَطَرَ الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ
عَلَى الْعَبْدِ؛ لِإِمْكَانِ إيجَابِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُبَاشِرٌ لَهُ،
فَانْقَطَعَ حُكْمُ الْآمِرِ، كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ، وَيَكُونُ
عَلَى السَّيِّدِ الْأَدَبُ؛ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّسَبُّبِ إلَى الْقَتْلِ.
[فَصْلٌ أَمَرَ صَبِيًّا لَا يُمَيِّز أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا
لَا يَعْلَمُ خَطَر الْقَتْل يَقْتُل]
(6772) فَصْلٌ: وَلَوْ أَمَرَ صَبِيًّا لَا يُمَيِّزُ، أَوْ مَجْنُونًا،
أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يَعْلَمُ خَطَرَ الْقَتْلِ، فَقَتَلَ، فَالْحُكْمُ
فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ، يُقْتَلُ الْآمِرُ دُونَ الْمُبَاشِرِ.
وَلَوْ أَمَرَهُ بِزِنًى، أَوْ سَرِقَةٍ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى
الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُبَاشِرِ،
(8/365)
وَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِالتَّسَبُّبِ،
وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالشُّهُودِ فِي الْقِصَاصِ.
[فَصْلٌ أَمَرَ السُّلْطَانُ رَجُلًا فَقَتَلَ آخَرَ]
(6773) فَصْلٌ: وَلَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ رَجُلًا، فَقَتَلَ آخَرَ،
فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَتْلَهُ،
فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي
فِعْلِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» .
وَعَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَمَرَكُمْ
مِنْ الْوُلَاةِ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تُطِيعُوهُ»
. فَلَزِمَهُ الْقِصَاصُ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ.
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ
الْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورِ؛ مَعْذُورٌ، لِوُجُوبِ طَاعَةِ
الْإِمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا
يَأْمُرُ إلَّا بِالْحَقِّ.
وَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ مِنْ الرَّعِيَّةِ بِالْقَتْلِ،
فَقَتَلَ، فَالْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِكُلِّ حَالٍ، عَلِمَ أَوْ
لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ، وَلَيْسَ لَهُ
الْقَتْلُ بِحَالٍ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ، فَإِنَّ إلَيْهِ الْقَتْلَ
لِلرِّدَّةِ، وَالزِّنَى وَقَطْعِ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ الْقَاطِعُ،
وَيَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ لِلنَّاسِ، وَهَذَا لَيْسَ إلَيْهِ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ،
أَوْ جَلْدِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَمَاتَ، فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا.
وَإِنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، كَانَتْ عَلَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ
الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الْقَتْلِ دُونَ الْمَأْمُورِ،
كَمُسْلِمٍ قَتَلَ ذِمِّيًّا، أَوْ حُرٍّ قَتَلَ عَبْدًا، فَقَتَلَهُ،
فَقَالَ الْقَاضِي: الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ
الْإِمَامَ؛ أَمَرَهُ بِمَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ،
وَالْمَأْمُورُ لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
يَقْبَلَ أَمْرَهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ
قَتَلَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ
بَيْنَ الْعَامِّيِّ وَالْمُجْتَهِدِ؛ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا،
فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ
مُقَلِّدًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ تَقْلِيدَ
الْإِمَامِ فِيمَا رَآهُ.
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، وَالْقَاتِلُ
يَعْتَقِدُ حِلَّهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ
السَّيِّدَ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ بِهِ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(8/366)
|