المغني
لابن قدامة [كِتَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ]
ِ الْأَصْلُ فِي حُكْمِهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] .
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ،
نَزَلَتْ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهِ يَقُولُ
مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي
الْمُرْتَدِّينَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَعَبْدِ
الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قِصَّةُ الْعُرَنِيِّينَ، وَكَانُوا
ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا الرُّعَاةَ، فَاسْتَاقُوا إبِلَ
الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مَنْ جَاءَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ
أَعْيُنَهُمْ، وَأَلْقَاهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا. قَالَ أَنَسٌ:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33] الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد،
وَالنَّسَائِيُّ. وَلِأَنَّ مُحَارَبَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنَّمَا
تَكُونُ مِنْ الْكُفَّارِ لَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] . وَالْكُفَّارُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ
الْقُدْرَةِ، كَمَا تُقْبَلُ قَبْلَهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَتْلُ
وَالْقَطْعُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْمُحَارَبَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]
(7321) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالْمُحَارِبُونَ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ
لِلْقَوْمِ بِالسِّلَاحِ فِي الصَّحْرَاءِ، فَيَغْصِبُونَهُمْ الْمَالَ
مُجَاهَرَةً) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ تَثْبُتُ
لَهُمْ أَحْكَامُ الْمُحَارَبَةِ الَّتِي نَذْكُرُهَا بَعْدُ، تُعْتَبَرُ
لَهُمْ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي
الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ،
فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِمْ وَظَاهِرُ كَلَامِ
الْخِرَقِيِّ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُحَارِبِينَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى
حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إنَّمَا هُوَ فِي
الصَّحْرَاءِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ فِي الْمِصْرِ يَلْحَقُ بِهِ الْغَوْثُ
غَالِبًا، فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ، وَيَكُونُونَ
مُخْتَلِسِينَ، وَالْمُخْتَلِسُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ قَاطِعٌ حَيْثُ كَانَ. وَبِهِ
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ،
وَأَبُو ثَوْرٍ؛ لِتَنَاوُلِ الْآيَةِ بِعُمُومِهَا كُلَّ مُحَارِبٍ؛
وَلِأَنَّ ذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي الْمِصْرِ كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا،
وَأَكْثَرَ ضَرَرًا، فَكَانَ بِذَلِكَ أَوْلَى.
(9/144)
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ
فِي الْمِصْرِ، مِثْلَ أَنْ كَبَسُوا دَارًا، فَكَانَ أَهْلُ الدَّارِ
بِحَيْثُ لَوْ صَاحُوا أَدْرَكَهُمْ الْغَوْثُ، فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ
بِقُطَّاعِ طَرِيقٍ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُمْ الْغَوْثُ
عَادَةً، وَإِنْ حَصَرُوا قَرْيَةً أَوْ بَلَدًا فَفَتَحُوهُ وَغَلَبُوا
عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ مَحَلَّةً مُنْفَرِدَةً، بِحَيْثُ لَا يُدْرِكُهُمْ
الْغَوْثُ عَادَةً، فَهُمْ مُحَارِبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمْ
الْغَوْثُ، فَأَشْبَهَ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ فِي الصَّحْرَاءِ. الشَّرْطُ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ
سِلَاحٌ، فَهُمْ غَيْرُ مُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ مَنْ
يَقْصِدُهُمْ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا. فَإِنْ عَرَضُوا
بِالْعِصِيِّ وَالْحِجَارَةِ، فَهُمْ مُحَارِبُونَ. وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسُوا
مُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ.
وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ السِّلَاحِ الَّذِي يَأْتِي عَلَى
النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، فَأَشْبَهَ الْحَدِيدَ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ
يَأْتُوا مُجَاهَرَةً، وَيَأْخُذُوا الْمَالَ قَهْرًا فَأَمَّا إنْ
أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ، فَهُمْ سُرَّاقٌ، وَإِنْ اخْتَطَفُوهُ وَهَرَبُوا
فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ، لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ
الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ، فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا
شَيْئًا، فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إلَى
مَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ. وَإِنْ خَرَجُوا عَلَى عَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ،
فَهُمْ قُطَّاعُ طَرِيقٍ.
[مَسْأَلَةٌ قَاطِعُ الطَّرِيقِ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ]
(7322) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَأَخَذَ الْمَالَ،
قُتِلَ وَإِنْ عَفَا صَاحِبُ الْمَالِ، وَصُلِبَ حَتَّى يُشْتَهَرَ،
وَدُفِعَ إلَى أَهْلِهِ، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَأْخُذْ
الْمَالَ، قُتِلَ، وَلَمْ يُصْلَبْ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ
يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، فِي مَقَامٍ
وَاحِدٍ، ثُمَّ حُسِمَتَا وَخُلِّيَ) رَوَيْنَا نَحْوَ هَذَا عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَحَمَّادٌ،
وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ إذَا
قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَقُطِعَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ
الْجِنَايَتَيْنِ تُوجِبُ حَدًّا مُنْفَرِدًا، فَإِذَا اجْتَمَعَا، وَجَبَ
حَدُّهُمَا مَعًا، كَمَا لَوْ زَنَى، وَسَرَقَ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ بَيْنَ
الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ؛ لِأَنَّ " أَوْ "
تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ
كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . وَهَذَا قَوْلُ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ،
وَالضَّحَّاكِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَأَبِي ثَوْرٍ،
وَدَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ " أَوْ
" فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ قَتَلَ قُتِلَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ
قُطِعَ، وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، وَبَيْنَ قَتْلِهِ وَقَطْعِهِ، وَبَيْنَ أَنْ
يَجْمَعَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ
الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ، فَكَانَ لِلْإِمَامِ فِعْلُهُمَا، كَمَا لَوْ
قَتَلَ وَقَطَعَ فِي غَيْرِ قَطْعِ طَرِيقٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا قَطَعَ
الطَّرِيقَ، فَرَآهُ الْإِمَامُ جَلْدًا ذَا رَأْيٍ، قَتَلَهُ، وَإِنْ
كَانَ جَلْدًا لَا رَأْيَ لَهُ، قَطَعَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِعْلَهُ.
(9/145)
وَلَنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إذَا
لَمْ يَقْتُلْ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ كُفْرٍ
بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ
حَقٍّ.» فَأَمَّا " أَوْ " فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِنَا،
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا، أَوْ لُغَةً، وَأَيُّهُمَا كَانَ،
فَهُوَ حُجَّةٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَدَأَ بِالْأَغْلَظِ
فَالْأَغْلَظِ، وَعُرْفُ الْقُرْآنِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ
الْبِدَايَةُ بِالْأَخَفِّ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ
التَّرْتِيبُ بُدِئَ فِيهِ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ، كَكَفَّارَةِ
الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، أَنَّ الْعُقُوبَاتِ
تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْرَامِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُ
الزَّانِي وَالْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ، وَقَدْ سَوَّوْا بَيْنَهُمْ مَعَ
اخْتِلَافِ جِنَايَاتِهِمْ، وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى مَالِكٍ، فَإِنَّهُ
إنَّمَا اعْتَبَرَ الْجَلْدَ وَالرَّأْيَ دُونَ الْجِنَايَاتِ، وَهُوَ
مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَوْ
وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يُخَيَّرْ الْإِمَامُ فِيهِ،
كَقَطْعِ السَّارِقِ، وَكَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِأَخْذِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ
الْحُدُودَ لِلَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ فِيهَا قَتْلٌ، سَقَطَ مَا
دُونَهُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ وَزَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ، فَجَاءَ نَاسٌ
يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ، فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُهُ، فَنَزَلَ
جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحَدِّ فِيهِمْ، أَنَّ مَنْ قَتَلَ
وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ
الْمَالَ، قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ
يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ» . وَقِيلَ: إنَّهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَهَذَا كَالْمُسْنَدِ، وَهُوَ نَصٌّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ
قَاطِعَ الطَّرِيقِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ خَمْسٍ
(9/146)
الْأُولَى: إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ،
فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَقَتْلُهُ
مُتَحَتِّمٌ لَا يَدْخُلُهُ عَفْوٌ. أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ أَهْلِ
الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ
نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَبِهِ
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلِأَنَّهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ
اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ.
وَهَلْ يُعْتَبَرُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ؟ فِيهِ
رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ، بَلْ يُؤْخَذُ الْحُرُّ
بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وَالْأَبُ بِالِابْنِ؛ لِأَنَّ
هَذَا الْقَتْلَ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ
الْمُكَافَأَةُ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» .
وَالْحَدُّ فِيهِ انْحِتَامُهُ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَابَ قَبْلَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، سَقَطَ الِانْحِتَامُ، وَلَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ.
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا، أَوْ
الْحُرُّ عَبْدًا، أَوْ أَخَذَ مَالَهُ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ
خِلَافٍ، لِأَخْذِهِ الْمَالَ، وَغَرِمَ دِيَةَ الذِّمِّيِّ وَقِيمَةَ
الْعَبْدِ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا غَرِمَ دِيَتَهُ
وَنُفِيَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ إذَا
قَتَلَهُ لِيَأْخُذَ الْمَالَ، وَإِنْ قَتَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، مِثْلَ
أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَهُ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، فَالْوَاجِبُ قِصَاصٌ
غَيْرُ مُتَحَتِّمٍ، وَإِذَا قَتَلَ صُلِبَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] . وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ
أُمُورٍ؛ أَحَدُهَا: فِي وَقْتِهِ، وَوَقْتُهُ بَعْدَ الْقَتْلِ. وَبِهَذَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُصْلَبُ حَيًّا، ثُمَّ يُقْتَلُ
مَصْلُوبًا، يُطْعَنُ بِالْحَرْبَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ عُقُوبَةٌ،
وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ الْحَيُّ لَا الْمَيِّتُ؛ وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى
الْمُحَارَبَةِ، فَيُشْرَعُ فِي الْحَيَاةِ كَسَائِرِ الْأَجْزِيَةِ؛
وَلِأَنَّ الصَّلْبَ بَعْدَ قَتْلِهِ يَمْنَعُ تَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ،
فَلَا يَجُوزُ.
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْقَتْلَ عَلَى الصَّلْبِ
لَفْظًا، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، فَيَجِبُ
تَقْدِيمُ
(9/147)
الْأَوَّلِ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:
158] وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا أُطْلِقَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ، كَانَ
قَتْلًا بِالسَّيْفِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقَتْلَ» . وَأَحْسَنُ
الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ، وَفِي صَلْبِهِ حَيًّا تَعْذِيبٌ
لَهُ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ
تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى
الْمُحَارَبَةِ. قُلْنَا: لَوْ شُرِعَ لِرَدْعِهِ، لَسَقَطَ بِقَتْلِهِ،
كَمَا يَسْقُطُ سَائِرُ الْحُدُودِ مَعَ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا شُرِعَ
الصَّلْبُ رَدْعًا لِغَيْرِهِ، لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُلُ
بِصَلْبِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ. وَقَوْلُهُمْ: يَمْنَعُ تَكْفِينَهُ
وَدَفْنَهُ. قُلْنَا: هَذَا لَازِمٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَهُ
بَعْدَ قَتْلِهِ مَصْلُوبًا. الثَّانِي: فِي قَدْرِهِ وَلَا تَوْقِيتَ
فِيهِ، إلَّا قَدْرَ مَا يَشْتَهِرُ أَمْرُهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يُوَقِّتْ أَحْمَدُ فِي الصَّلْبِ، فَأَقُولُ:
يُصْلَبُ قَدْرَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَالصَّحِيحُ تَوْقِيتُهُ
بِمَا ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ مِنْ الشُّهْرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
يَحْصُلُ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْلَبُ ثَلَاثًا. وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَذَا تَوْقِيتٌ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ، فَلَا يَجُوزُ،
مَعَ أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ يُفْضِي إلَى تَغَيُّرِهِ، وَنَتِنِهِ،
وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ بِرَائِحَتِهِ وَنَظَرِهِ، وَيَمْنَعُ تَغْسِيلَهُ
وَتَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ، فَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. الثَّالِثُ:
فِي وُجُوبِهِ، وَهَذَا وَاجِبٌ حَتْمٌ فِي حَقِّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ
الْمَالَ، لَا يَسْقُطُ بِعَفْوٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ
الرَّأْيِ: إنْ شَاءَ الْإِمَامُ صَلَبَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصْلُبْ.
وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِأَنَّ مَنْ
قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ. وَلِأَنَّهُ شُرِعَ حَدًّا، فَلَمْ
يَتَخَيَّرْ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، كَالْقَتْلِ وَسَائِرِ
الْحُدُودِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا اُشْتُهِرَ أُنْزِلَ،
وَدُفِعَ إلَى أَهْلِهِ، فَيُغَسَّلُ، وَيُكَفَّنُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ،
وَيُدْفَنُ.
(7323) " فَصْلٌ: وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ قَتْلِهِ، لَمْ يُصْلَبْ؛ لِأَنَّ
الصَّلْبَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَقَدْ فَاتَ الْحَدُّ بِمَوْتِهِ،
فَيَسْقُطُ مَا هُوَ مِنْ تَتِمَّتِهِ.
وَإِنْ قَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ بِمُثَقَّلٍ قُتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ
بِمُحَدَّدِ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهِمَا. وَإِنْ
قَتَلَ بِآلَةٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ بِهَا، كَالسَّوْطِ
وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ الصَّغِيرِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ،
أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْعُمُومِ.
الْحَالُ الثَّانِي: قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ فَإِنَّهُمْ
يُقْتَلُونَ وَلَا يُصْلَبُونَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى،
أَنَّهُمْ يُصْلَبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ يَجِبُ قَتْلُهُمْ،
فَيُصْلَبُونَ، كَاَلَّذِينَ أَخَذُوا الْمَالَ. وَالْأُولَى أَصَحُّ؛
لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ فِيهِمْ قَالَ فِيهِ: وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ
يَأْخُذْ الْمَالَ، قُتِلَ ". وَلَمْ يَذْكُرْ صَلْبًا؛ وَلِأَنَّ
جِنَايَتَهُمْ بِأَخْذِ الْمَالِ مَعَ الْقَتْلِ تَزِيدُ
(9/148)
عَلَى الْجِنَايَةِ بِالْقَتْلِ وَحْدَهُ،
فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ، وَلَوْ شُرِعَ الصَّلْبُ
هَاهُنَا لَاسْتَوَيَا، وَالْحُكْمُ فِي تَحَتُّمِ الْقَتْلِ وَكَوْنِهِ
حَدًّا هَاهُنَا، كَالْحُكْمِ فِيهِ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ.
(7324) فَصْلٌ: وَإِذَا جَرَحَ الْمُحَارِبُ جُرْحًا فِي مِثْلِهِ
الْقِصَاصُ، فَهَلْ يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْقِصَاصُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛
إحْدَاهُمَا: لَا يَتَحَتَّمُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَرْعِ
الْحَدِّ فِي حَقِّهِ بِالْجِرَاحِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي
حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ الْقَتْلَ وَالصَّلْبَ وَالْقَطْعَ وَالنَّفْيَ،
فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمُحَارَبَةِ غَيْرُهَا فَلَا يَتَحَتَّمُ،
بِخِلَافِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ حَدٌّ، فَتَحَتَّمَ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ،
فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الْقِصَاصِ. وَالثَّانِيَةُ:
يَتَحَتَّمُ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَ تَابِعَةٌ لِلْقَتْلِ، فَيَثْبُتُ فِيهَا
مِثْلُ حُكْمِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ قَوَدٍ، أَشْبَهَ الْقَوَدَ فِي
النَّفْسِ. وَالْأُولَى أَوْلَى. وَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا لَا قِصَاصَ
فِيهِ، كَالْجَائِفَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الدِّيَةُ. وَإِنْ جَرَحَ
إنْسَانًا وَقَتَلَ آخَرَ، اُقْتُصَّ مِنْهُ لِلْجِرَاحِ، وَقُتِلَ
لِلْمُحَارَبَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ الْجِرَاحُ؛ لِأَنَّ
الْحُدُودَ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا قَتْلٌ، سَقَطَ مَا سِوَى الْقَتْلِ.
وَلَنَا أَنَّهَا جِنَايَةٌ يَجِبُ بِهَا الْقِصَاصُ فِي غَيْرِ
الْمُحَارَبَةِ، فَيَجِبُ بِهَا فِي الْمُحَارَبَةِ، كَالْقَتْلِ، وَلَا
نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْجِرَاحِ حَدٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ قِصَاصٌ
مُتَمَحِّضٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْجُرْحُ فِي غَيْرِ
الْمُحَارَبَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَدٌّ، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ
مَعَ الْقَتْلِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ، كَالصَّلْبِ، وَكَقَطْعِ الْيَدِ
وَالرِّجْلِ عِنْدَهُمْ.
الْحَالُ الثَّالِثُ: أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ
يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ: {مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] . وَإِنَّمَا قَطَعْنَا يَدَهُ
الْيُمْنَى لِلْمَعْنَى الَّذِي قَطَعْنَا بِهِ يُمْنَى السَّارِقِ، ثُمَّ
قَطَعْنَا رِجْلَهُ الْيُسْرَى لِتَتَحَقَّقَ الْمُخَالَفَةُ، وَلِيَكُونَ
أَرْفَقَ بِهِ فِي إمْكَانِ مَشْيِهِ. وَلَا يُنْتَظَرُ انْدِمَالُ الْيَدِ
فِي قَطْعِ الرِّجْلِ، بَلْ يُقْطَعَانِ مَعًا، يُبْدَأُ بِيَمِينِهِ
فَتُقْطَعُ وَتُحْسَمُ، ثُمَّ بِرِجْلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ
بِذِكْرِ الْأَيْدِي. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّهُ
لَا يُقْطَعُ مِنْهُ غَيْرُ يَدٍ وَرِجْلٍ، إذَا كَانَتْ يَدَاهُ
وَرِجْلَاهُ صَحِيحَتَيْنِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مَعْدُومَ الْيَدِ
وَالرِّجْلِ، إمَّا لِكَوْنِهِ قَدْ قُطِعَ فِي قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ
سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ، أَوْ لِمَرَضٍ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ
سُقُوطُ الْقَطْعِ عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ
الْيُسْرَى أَوْ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ
يَذْهَبُ بِمَنْفَعَةِ الْجِنْسِ، إمَّا مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ أَوْ
الْمَشْيِ أَوْ كِلَيْهِمَا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَسْتَوْفِي أَعْضَاءَ السَّارِقِ
الْأَرْبَعَةَ، يُقْطَعُ مَا بَقِيَ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِنْ كَانَتْ
يَدُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَحْدَهَا،
وَلَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ، وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً،
قُطِعَتْ
(9/149)
يُمْنَى يَدَيْهِ، وَلَمْ يُقْطَعْ غَيْرُ
ذَلِكَ. وَجْهًا وَاحِدًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَا نَعْلَمُ
فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي مَحَلِّ الْحَدِّ مَا يُسْتَوْفَى،
فَاكْتُفِيَ بِاسْتِيفَائِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْيَدُ نَاقِصَةً،
بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَإِنْ كَانَ مَا وَجَبَ قَطْعُهُ أَشَلَّ،
فَذَكَرَ أَهْلُ الطِّبِّ أَنَّ قَطْعَهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِهِ، لَمْ
يُقْطَعْ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَعْدُومِ. وَإِنْ قَالُوا: لَا
يُفْضِي إلَى تَلَفِهِ. فَفِي قَطْعِهِ رِوَايَتَانِ. ذَكَرْنَاهُمَا فِي
قَطْعِ السَّارِقِ. الْحَالُ الرَّابِعُ، إذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ،
وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا. الْحَالُ الْخَامِسُ، إذَا
تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَيَأْتِي ذِكْرُ حُكْمِهِمَا، إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[مَسْأَلَةٌ قَطْعُ يَدِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ]
(7325) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُقْطَعُ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ أَخَذَ مَا
يُقْطَعُ السَّارِقُ فِي مِثْلِهِ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ،
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو
ثَوْرٍ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْمُحَارِبِ؛
لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، سَاعٍ فِي الْأَرْضِ
بِالْفَسَادِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا
يُعْتَبَرُ الْحِرْزُ، فَكَذَلِكَ النِّصَابُ. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ
دِينَارٍ» . وَلَمْ يُفَصِّلْ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ تَعَلَّقَتْ
بِهَا عُقُوبَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحَارِبِ، فَلَا تَتَغَلَّظُ فِي
الْمُحَارِبِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، كَالْقَتْلِ يَغْلُظُ
بِالِانْحِتَامِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا تَتَغَلَّظُ بِقَطْعِ الرِّجْلِ
مَعَهَا، وَلَا تَتَغَلَّظُ بِمَا دُونَ النِّصَابِ. وَأَمَّا الْحِرْزُ
فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، فَإِنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوا مَالًا مُضَيَّعًا لَا
حَافِظَ لَهُ، لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ.
وَإِنْ أَخَذُوا مَا يَبْلُغُ نِصَابًا وَلَا تَبْلُغُ حِصَّةُ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، قُطِعُوا، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِنَا فِي
السَّرِقَةِ. وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ،
أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ نِصَابًا. وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ لَا تَكُونَ لَهُمْ شُبْهَةٌ
فِيمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمَالِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي
الْمَسْرُوقِ.
[مَسْأَلَةٌ نَفْيُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ]
(7326) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَنَفْيُهُمْ أَنْ يُشَرَّدُوا، فَلَا
يُتْرَكُوا يَأْوُونَ فِي بَلَدٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ إذَا
أَخَافُوا السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا،
فَإِنَّهُمْ يُنْفَوْنَ مِنْ الْأَرْضِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّ النَّفْيَ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهُوَ قَوْلُ
النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. وَالنَّفْيُ هُوَ
تَشْرِيدُهُمْ عَنْ الْأَمْصَارِ وَالْبُلْدَانِ، فَلَا يُتْرَكُونَ
يَأْوُونَ بَلَدًا. وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ
غَيْرِهِ، كَنَفْيِ الزَّانِي. وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ.
(9/150)
قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كَانَ مَنْفَى
النَّاسِ إلَى بَاضِعَ، مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ أَقْصَى
تِهَامَةِ الْيَمَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُحْبَسُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي
يُنْفَى إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ فِي الزَّانِي. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
نَفْيُهُ حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً. وَنَحْوُ هَذَا قَالَ
الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْحَالِ: يُعَزِّرُهُمْ
الْإِمَامُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَحْبِسَهُمْ حَبَسَهُمْ. وَقِيلَ عَنْهُ:
النَّفْيُ طَلَبُ الْإِمَامِ لَهُمْ لِيُقِيمَ فِيهِمْ حُدُودَ اللَّهِ
تَعَالَى. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ:
يَحْبِسُهُمْ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ.
وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَشْرِيدَهُمْ إخْرَاجٌ لَهُمْ إلَى مَكَان
يَقْطَعُونَ فِيهِ الطَّرِيقَ، وَيُؤْذُونَ بِهِ النَّاسَ، فَكَانَ
حَبْسُهُمْ أَوْلَى. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً
أُخْرَى، مَعْنَاهَا أَنَّ نَفْيَهُمْ طَلَبُ الْإِمَامِ لَهُمْ، فَإِذَا
ظَفِرَ بِهِمْ عَزَّرَهُمْ بِمَا يَرْدَعُهُمْ.
وَلَنَا ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّفْيَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ،
وَالْحَبْسُ إمْسَاكٌ، وَهُمَا يَتَنَافَيَانِ. فَأَمَّا نَفْيُهُمْ إلَى
غَيْرِ مَكَان مُعَيَّنٍ، فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الأَرْضِ} [المائدة: 33] . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ نَفْيَهُ مِنْ جَمِيعِهَا.
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِنَفْيِ الزَّانِي، فَإِنَّهُ يُنْفَى إلَى
مَكَان يُحْتَمَلُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الزِّنَا فِيهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ
أَصْحَابُنَا قَدْرَ مُدَّةِ نَفْيِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَقَدَّرَ
مُدَّتُهُ بِمَا تَظْهَرُ فِيهِ تَوْبَتُهُمْ، وَتَحْسُنُ سِيرَتُهُمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنْفَوْا عَامًا، كَنَفْيِ الزَّانِي.
[مَسْأَلَةٌ تَوْبَةُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ]
(7327) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ
عَلَيْهِمْ، سَقَطَتْ عَنْهُمْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأُخِذُوا
بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ؛ مِنْ الْأَنْفُسِ، وَالْجِرَاحِ،
وَالْأَمْوَالِ، إلَّا أَنْ يُعْفَى لَهُمْ عَنْهَا) لَا نَعْلَمُ فِي
هَذَا خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَالْأَصْلُ فِي
هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[المائدة: 34] . فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ تَحَتُّمُ الْقَتْلِ
وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ
فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحِ، وَغَرَامَةُ الْمَالِ وَالدِّيَةُ لِمَا لَا
قِصَاصَ فِيهِ.
فَأَمَّا إنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ
شَيْءٌ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] .
فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ
الْقُدْرَةِ، فَمَنْ عَدَاهُمْ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ؛
وَلِأَنَّهُ إذَا تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا
تَوْبَةُ إخْلَاصٍ، وَبَعْدَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا تَقِيَّةٌ مِنْ
إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ،
وَإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، تَرْغِيبًا فِي
تَوْبَتِهِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ مُحَارَبَتِهِ وَإِفْسَادِهِ، فَنَاسَبَ
ذَلِكَ الْإِسْقَاطُ عَنْهُ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى
تَرْغِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَجَزَ عَنْ الْفَسَادِ وَالْمُحَارَبَةِ.
(9/151)
[فَصْلٌ فَعَلَ الْمُحَارِبُ مَا يُوجِبُ
حَدًّا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُحَارَبَةِ]
(7328) فَصْلٌ: وَإِنْ فَعَلَ الْمُحَارِبُ مَا يُوجِبُ حَدًّا لَا
يَخْتَصُّ الْمُحَارَبَةَ؛ كَالزِّنَا، وَالْقَذْفِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ،
وَالسَّرِقَةِ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ؛
لِأَنَّهَا حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسَقَطَتْ بِالتَّوْبَةِ، كَحَدِّ
الْمُحَارَبَةِ، إلَّا حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ
حَقُّ آدَمِيٍّ؛ وَلِأَنَّ فِي إسْقَاطِهَا تَرْغِيبًا فِي التَّوْبَةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ الْمُحَارَبَةَ،
فَكَانَتْ فِي حَقِّهِ كَهِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَإِنْ أَتَى حَدًّا
قَبْلَ الْمُحَارَبَةِ، ثُمَّ حَارَبَ وَتَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا يَسْقُطُ
بِهَا الذَّنْبُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ.
[فَصْلٌ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ
وَأَصْلَحَ]
(7329) فَصْلٌ: وَإِنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ
الْمُحَارِبِينَ، وَأَصْلَحَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: يَسْقُطُ
عَنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ
فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:
16] . وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ، ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ
ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّائِبُ
مِنْ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» . وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا
حَدَّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي مَاعِزٍ لَمَّا أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ،
يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى، فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، كَحَدِّ الْمُحَارِبِ. وَالرِّوَايَةُ
الثَّانِيَةُ: لَا يَسْقُطُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ،
وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وَقَطَعَ الَّذِي
أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ
التَّطْهِيرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَهُمْ تَوْبَةً، فَقَالَ فِي
حَقِّ الْمَرْأَةِ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى
سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ» .
وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ سَمُرَةَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي سَرَقْت جَمَلًا لِبَنِي
فُلَانٍ، فَطَهِّرْنِي. وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدَّ عَلَيْهِمْ. وَلِأَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ،
فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ؛
وَلِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ
بِالتَّوْبَةِ، كَالْمُحَارِبِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ
قُلْنَا بِسُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ، فَهَلْ يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ
التَّوْبَةِ، أَوْ بِهَا مَعَ إصْلَاحِ الْعَمَلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛
(9/152)
أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِهَا.
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ مُسْقِطَةٌ
لِلْحَدِّ، فَأَشْبَهَتْ تَوْبَةَ الْمُحَارِبِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ إصْلَاحُ الْعَمَلِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:
16] . وَقَالَ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ
اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ،
يُعْتَبَرُ مُضِيُّ مُدَّةٍ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ تَوْبَتِهِ، وَصَلَاحُ
نِيَّتِهِ، وَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: مُدَّةُ ذَلِكَ سَنَةٌ. وَهَذَا تَوْقِيتٌ،
بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ، فَلَا يَجُوزُ.
[فَصْلٌ حُكْمُ الرِّدْءِ مِنْ الْقُطَّاعِ]
(7330) فَصْلٌ: وَحُكْمُ الرِّدْءِ مِنْ الْقُطَّاعِ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ.
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
لَيْسَ عَلَى الرِّدْءِ إلَّا التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ
بِارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعِينِ، كَسَائِرِ
الْحُدُودِ. وَلَنَا أَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَارَبَةِ،
فَاسْتَوَى فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ، كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ؛
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَنَعَةِ
وَالْمُعَاضَدَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُبَاشِرُ مِنْ
فِعْلِهِ إلَّا بِقُوَّةِ الرِّدْءِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ.
فَعَلَى هَذَا، إذَا قَتَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، ثَبَتَ حُكْمُ الْقَتْلِ فِي
حَقِّ جَمِيعِهِمْ، فَيَجِبُ قَتْلُ جَمِيعِهِمْ. وَإِنْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ
وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ الْمَالَ، جَازَ قَتْلُهُمْ وَصَلْبُهُمْ، كَمَا لَوْ
فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
[فَصْلٌ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ
ذُو رَحِمٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ]
(7331) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ ذُو
رَحِمٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْ غَيْرِهِ،
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَسْقُطُ
الْحَدُّ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَيَصِيرُ الْقَتْلُ لِلْأَوْلِيَاءِ، إنْ
شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجَمِيعِ
وَاحِدٌ، فَالشُّبْهَةُ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ.
وَلَنَا أَنَّهَا شُبْهَةٌ اخْتَصَّ بِهَا وَاحِدٌ، فَلَمْ يَسْقُطْ
الْحَدُّ عَنْ الْبَاقِينَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكُوا فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ.
وَمَا ذَكَرُوهُ لَا أَصْلَ لَهُ. فَعَلَى هَذَا، لَا حَدَّ عَلَى
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ بَاشَرَا الْقَتْلَ وَأَخَذَا الْمَالَ؛
لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْحُدُودِ، وَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ مَا
أَخَذَا مِنْ الْمَالِ فِي أَمْوَالِهِمَا، وَدِيَةُ قَتِيلِهِمَا عَلَى
عَاقِلَتِهِمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الرِّدْءِ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا
لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِلْمُبَاشِرِ، لَمْ يَثْبُتْ لِمَنْ هُوَ تَبَعٌ
لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ غَيْرَهُمَا، لَمْ
يَلْزَمْهُمَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمَا حُكْمُ
الْمُحَارَبَةِ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ الرِّدْءِ ثَبَتَ
بِالْمُحَارَبَةِ.
[فَصْلٌ كَانَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فِيهِمْ امْرَأَةٌ]
(7332) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ امْرَأَةٌ، ثَبَتَ فِي حَقِّهَا
حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ، فَمَتَى قَتَلَتْ وَأَخَذَتْ الْمَالَ، فَحَدُّهَا
حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ.
(9/153)
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَلَا عَلَى مَنْ
مَعَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمُحَارَبَةِ، كَالرَّجُلِ،
فَأَشْبَهَتْ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ. وَلَنَا أَنَّهَا تُحَدُّ فِي
السَّرِقَةِ، فَيَلْزَمُهَا حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ كَالرَّجُلِ،
وَتُخَالِفُ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ؛ وَلِأَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ
يَلْزَمُهَا الْقِصَاصُ وَسَائِرُ الْحُدُودِ، فَلَزِمَهَا هَذَا الْحَدُّ،
كَالرَّجُلِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهَا إنْ بَاشَرَتْ الْقَتْلَ، أَوْ أَخْذَ
الْمَالِ، ثَبَتَ حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ فِي حَقِّ مَنْ مَعَهَا؛
لِأَنَّهُمْ رِدْءٌ لَهَا. وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهَا، ثَبَتَ
حُكْمُهُ فِي حَقِّهَا؛ لِأَنَّهَا رِدْءٌ لَهُ، كَالرَّجُلِ سَوَاءً.
وَإِنْ قَطَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الطَّرِيقَ، أَوْ كَانَ مَعَ
الْمُحَارِبِينَ الْمُسْلِمِينَ ذِمِّيٌّ، فَهَلْ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ
بِذَلِكَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ.
حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ بِكُلِّ حَالٍ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا
يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ. حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ بِمَا نَحْكُمُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ.
[فَصْلٌ أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْمَالَ وَأُقِيمَتْ فِيهِمْ حُدُودُ
اللَّهِ تَعَالَى]
(7333) فَصْلٌ: وَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْمَالَ، وَأُقِيمَتْ
فِيهِمْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ
مَوْجُودَةً، رُدَّتْ إلَى مَالِكِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً أَوْ
مَعْدُومَةً، وَجَبَ ضَمَانُهَا عَلَى آخِذِهَا. وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ: أَنَّهَا إنْ
كَانَتْ تَالِفَةً، لَمْ يَلْزَمْهَا غَرَامَتُهَا، كَقَوْلِهِمْ فِي
الْمَسْرُوقِ إذَا قُطِعَ السَّارِقُ. وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا
تَقَدَّمَ فِي السَّرِقَةِ. وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآخِذِ دُونَ
الرِّدْءِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحَدٍّ، فَلَا يَتَعَلَّقُ
بِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ، كَالْغَصْبِ وَالنَّهْبِ، وَلَوْ تَابَ
الْمُحَارِبُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِمْ
حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ؛ مِنْ الْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ، لَاخْتَصَّ ذَلِكَ
بِالْمُبَاشِرِ دُونَ الرِّدْءِ لِذَلِكَ، وَلَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ فِي
السَّرِقَةِ، لَتَعَلَّقَ بِالْمُبَاشِرِ دُونَ الرِّدْءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا
- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.
[فَصْلٌ اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ]
(7334) فَصْلٌ: إذَا اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ، لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَقْسَامٍ؛ الْقِسَمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ
تَعَالَى، فَهِيَ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ،
مِثْلَ أَنْ يَسْرِقَ، وَيَزْنِيَ وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ،
وَيَقْتُلَ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَهَذَا يُقْتَلُ، وَيَسْقُطُ سَائِرُهَا.
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَالنَّخَعِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي
حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَوْفَى جَمِيعُهَا؛ لِأَنَّ مَا
وَجَبَ مَعَ غَيْرِ الْقَتْلِ، وَجَبَ مَعَ الْقَتْلِ، كَقَطْعِ الْيَدِ
قِصَاصًا.
وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ
عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ حَدَّانِ، أَحَدُهُمَا الْقَتْلُ، أَحَاطَ
الْقَتْلُ بِذَلِكَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ يَكْفِيهِ الْقَتْلُ.
(9/154)
وَقَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا
حَجَّاجٌ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا
مِثْلَ ذَلِكَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ انْتَشَرَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا مُخَالِفٌ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا؛
وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا قَتْلٌ، فَسَقَطَ مَا
دُونَهُ، كَالْمُحَارِبِ إذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، فَإِنَّهُ
يُكْتَفَى بِقَتْلِهِ، وَلَا يُقْطَعُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ
تُرَادُ لِمُجَرَّدِ الزَّجْرِ، وَمَعَ الْقَتْلِ لَا حَاجَةَ إلَى
زَجْرِهِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَلَا يُشْرَعْ. وَيُفَارِقُ الْقِصَاصَ؛
فَإِنَّ فِيهِ غَرَضَ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ
مُجَرَّدُ الزَّجْرِ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ مَا يُوجِبُ
الرَّجْمَ وَالْقَتْلَ لِلْمُحَارَبَةِ، أَوْ الْقَتْلَ لِلرِّدَّةِ، أَوْ
لِتَرْكِ الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ لِلْمُحَارَبَةِ،
وَيَسْقُطَ الرَّجْمُ؛ لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ لِلْمُحَارَبَةِ حَقَّ
آدَمِيٍّ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا أَثَّرَتْ الْمُحَارَبَةُ فِي
تَحْرِيمِهِ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، فَإِنَّ جَمِيعَهَا
يُسْتَوْفَى مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، وَيُبْدَأُ بِالْأَخَفِّ
فَالْأَخَفِّ، فَإِذَا شَرِبَ وَزَنَى وَسَرَقَ، حُدَّ لِلشُّرْبِ
أَوَّلًا، ثُمَّ حُدَّ لِلزِّنَا، ثُمَّ قُطِعَ لِلسَّرِقَةِ. وَإِنْ
أَخَذَ الْمَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ، قُطِعَ لِذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ
الْقَطْعُ لِلسَّرِقَةِ؛ وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْقَطْعَيْنِ وَاحِدٌ،
فَتَدَاخَلَا، كَالْقَتْلَيْنِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبُدَاءَةِ بِحَدِّ الزِّنَا
وَقَطْعِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِنَصِّ
الْقُرْآنِ، ثُمَّ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ. وَلَنَا أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ
أَخَفُّ، فَيُقَدَّمُ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَدَّ
الشُّرْبِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، فِي السُّنَّةِ، وَمُجْمَعٍ عَلَى
وُجُوبِهِ، وَهَذَا التَّقْدِيمُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. وَلَوْ
بَدَأَ بِغَيْرِهِ، جَازَ وَوَقَعَ الْمَوْقِعَ. وَلَا يُوَالِي بَيْنَ
هَذِهِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى تَلَفِهِ، بَلْ مَتَى
بَرِئَ مِنْ حَدٍّ أُقِيمَ الَّذِي يَلِيهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلْآدَمِيِّ، وَهُوَ
الْقِصَاصُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ، فَهَذِهِ تُسْتَوْفَى كُلُّهَا، وَيُبْدَأُ
بِأَخَفِّهَا، فَيُحَدُّ لِلْقَذْفِ، ثُمَّ يُقْطَعُ، ثُمَّ يُقْتَلُ؛
لِأَنَّهَا حُقُوقٌ لِلْآدَمِيِّينَ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا، فَوَجَبَ،
كَسَائِرِ حُقُوقِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْخُلُ مَا دُونَ الْقَتْلِ فِيهِ، احْتِجَاجًا
بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقِيَاسًا عَلَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ
لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَنَا أَنَّ مَا دُونَ الْقَتْلِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ،
فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ كَذُنُوبِهِمْ، وَفَارَقَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى،
فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَجْتَمِعَ حُدُودُ اللَّهِ وَحُدُودُ
الْآدَمِيِّينَ، وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا
يَكُونَ فِيهَا قَتْلٌ، فَهَذِهِ تُسْتَوْفَى كُلُّهَا. وَبِهَذَا قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ حَدَّيْ الشُّرْبِ
وَالْقَذْفِ يَتَدَاخَلَانِ، لِاسْتِوَائِهِمَا، فَهُمَا كَالْقَتْلَيْنِ
وَالْقَطْعَيْنِ. وَلَنَا أَنَّهُمَا حَدَّانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، لَا
يَفُوتُ بِهِمَا الْمَحَلُّ، فَلَمْ يَتَدَاخَلَا، كَحَدِّ الزِّنَا
وَالشُّرْبِ، وَلَا نُسَلِّمُ اسْتِوَاءَهُمَا،
(9/155)
فَإِنَّ حَدَّ الشُّرْبِ أَرْبَعُونَ
وَحَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ، وَإِنْ سُلِّمَ اسْتِوَاؤُهُمَا، لَمْ
يَلْزَمْ تَدَاخُلُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ اقْتَضَى تَدَاخُلَهُمَا،
لَوَجَبَ دُخُولُهُمَا فِي حَدِّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مِمَّا
يَتَدَاخَلُ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ، وَفَارَقَ الْقَتْلَيْنِ
وَالْقَطْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِالْأَوَّلِ، فَيَتَعَذَّرُ
اسْتِيفَاءُ الثَّانِي وَهَذَا بِخِلَافِهِ. فَعَلَى هَذَا، يُبْدَأُ
بِحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ: خِفَّتُهُ،
وَكَوْنُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ شَحِيحٍ إلَّا إذَا قُلْنَا: حَدُّ الشُّرْبِ
أَرْبَعُونَ. فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ؛ لِخِفَّتِهِ، ثُمَّ بِحَدِّ
الْقَذْفِ، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ، فَالْآخَرُ يَلِيهِ، ثُمَّ بِحَدِّ
الزِّنَا؛ فَإِنَّهُ لَا إتْلَافَ فِيهِ، ثُمَّ بِالْقَطْعِ. هَكَذَا
ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُبْدَأُ بِالْقَطْعِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ
حَقُّ آدَمِيٍّ مُتَمَحِّضٌ، فَإِذَا بَرِئَ حُدَّ لِلْقَذْفِ، إذَا
قُلْنَا: هُوَ حَقُّ آدَمِيٍّ ثُمَّ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ فَإِذَا بَرِئَ،
حُدَّ لِلزِّنَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ
لِتَأَكُّدِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ تَجْتَمِعَ حُدُودٌ لِلَّهِ
تَعَالَى وَحُدُودٌ لِآدَمِيٍّ، وَفِيهَا قَتْلٌ فَإِنَّ حُدُودَ اللَّهِ
تَعَالَى تَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ
تَعَالَى، كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا، وَالْقَتْلِ لِلْمُحَارَبَةِ، أَوْ
الرِّدَّةِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّ، فَتُسْتَوْفَى كُلُّهَا. ثُمَّ إنْ كَانَ
الْقَتْلُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، اُسْتُوْفِيَتْ الْحُقُوقُ كُلُّهَا
مُتَوَالِيَةً؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَوَاتِ نَفْسِهِ، فَلَا
فَائِدَةَ فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ،
اُنْتُظِرَ بِاسْتِيفَائِهِ الثَّانِي بُرْؤُهُ مِنْ الْأَوَّلِ
لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا يُحْتَمَلُ
أَنْ تُفَوِّتَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْقِصَاصِ، فَيَفُوتَ حَقُّ الْآدَمِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَفْوَ جَائِزٌ، فَتَأْخِيرُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ
يَعْفُوَ الْوَلِيُّ فَيَحْيَا، بِخِلَافِ الْقَتْلِ حَقًّا لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَّفِقَ الْحَقَّانِ فِي
مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَيَكُونَ تَفْوِيتًا، كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ قِصَاصًا
وَحَدًّا؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى،
كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ،
قُدِّمَ الْقِصَاصُ، لِتَأَكُّدِ حَقِّ الْآدَمِيِّ.
وَإِنْ اجْتَمَعَ الْقَتْلُ لِلْقَتْلِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْقِصَاصُ،
بُدِئَ بِأَسْبَقِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْمُحَارَبَةِ فِيهِ حَقٌّ
لِآدَمِيٍّ أَيْضًا، فَيُقَدَّمُ أَسْبَقُهُمَا، فَإِنْ سَبَقَ الْقَتْلُ
فِي الْمُحَارَبَةِ، اُسْتُوْفِيَ، وَوَجَبَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ
الْآخَرِ دِيَتُهُ فِي مَالِ الْجَانِي، وَإِنْ سَبَقَ الْقِصَاصُ، قُتِلَ
قِصَاصًا، وَلَمْ يُصْلَبْ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ،
وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِالْقِصَاصِ، فَسَقَطَ الصَّلْبُ، كَمَا لَوْ
مَاتَ وَيَجِبُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْمُحَارَبَةِ دِيَتُهُ؛
لِأَنَّ الْقَتْلَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ قِصَاصٌ، فَصَارَ
الْوُجُوبُ إلَى الدِّيَةِ. وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ فِي
الْمُحَارَبَةِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِتَعَذُّرِ
اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ مِنْ الْقَاتِلِ. وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ سَابِقًا،
فَعَفَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، اُسْتُوْفِيَ لِلْمُحَارَبَةِ، سَوَاءٌ
عَفَا مُطْلَقًا، أَوْ إلَى الدِّيَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا الْقَطْعُ: فَإِذَا اجْتَمَعَ وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي يَدٍ أَوْ
رِجْلٍ قِصَاصًا وَحَدًّا، قُدِّمَ الْقِصَاصُ عَلَى الْحَدِّ
الْمُتَمَحِّضِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ
سَبَبُهُ أَوْ تَأَخَّرَ. وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ، اُسْتُوْفِيَ
الْحَدُّ، فَإِذَا قَطَعَ يَدًا وَأَخَذَ
(9/156)
الْمَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ، قُطِعَتْ
يَدُهُ قِصَاصًا، وَيُنْتَظَرُ بُرْؤُهُ، فَإِذَا بَرِئَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ
لِلْمُحَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ دُونَ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ
الْقَطْعَ فِي الْمُحَارَبَةِ حَدٌّ مَحْضٌ، وَلَيْسَ بِقِصَاصٍ،
وَالْقَتْلُ فِيهَا يَتَضَمَّنُ الْقِصَاصَ، وَلِهَذَا لَوْ فَاتَ
الْقَتْلُ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ، وَلَوْ فَاتَ
الْقَطْعُ، لَمْ يَجِبْ لَهُ بَدَلٌ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ
الْقِصَاصُ عَلَى الْقَطْعِ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَقَطَعَ يَدَهُ قِصَاصًا،
فَإِنَّ رِجْلَهُ تُقْطَعُ. وَهَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ الْأُخْرَى؟ نَظَرْنَا؛
فَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ بِالْقِصَاصِ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَطْعَ
بِالْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فِيهِ،
لَمْ يُقْطَعْ أَكْثَرُ مِنْ الْعُضْوِ الْبَاقِي مِنْ الْعُضْوَيْنِ
اللَّذَيْنِ اُسْتُحِقَّ قَطْعُهُمَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْقَطْعِ ذَهَبَ
بِعَارِضٍ حَادِثٍ، فَلَمْ يَجِبْ قَطْعُ بَدَلِهِ، كَمَا لَوْ ذَهَبَتْ
بِعُدْوَانٍ أَوْ بِمَرَضٍ. وَعَلَى هَذَا لَوْ ذَهَبَ الْعُضْوَانِ
جَمِيعًا، سَقَطَ الْقَطْعُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْقَطْعِ قِصَاصًا سَابِقًا عَلَى مُحَارَبَتِهِ،
أَوْ كَانَ الْمَقْطُوعُ غَيْرَ الْعُضْوِ الَّذِي وَجَبَ قَطْعُهُ فِي
الْمُحَارَبَةِ، مِثْلَ أَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي يَسَارِهِ
بَعْدَ وُجُوبِ قَطْعِ يُمْنَاهُ فِي الْمُحَارَبَةِ، فَهَلْ تُقْطَعُ
الْيَدُ الْأُخْرَى لِلْمُحَارَبَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ بِنَاءً عَلَى
الرِّوَايَتَيْنِ فِي قَطْعِ يُسْرَى السَّارِقِ بَعْدَ قَطْعِ يَمِينِهِ،
إنْ قُلْنَا: تُقْطَعُ ثَمَّ. قُطِعَتْ هَاهُنَا وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ
سَرَقَ وَأَخَذَ الْمَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى
لِأَسْبَقِهِمَا، فَإِنْ كَانَتْ الْمُحَارَبَةُ سَابِقَةً، قُطِعَتْ
يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ،
وَحُسِمَتَا. وَهَلْ تُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْهِ لِلسَّرِقَةِ؟ عَلَى
الرِّوَايَتَيْنِ؛ فَإِنْ قُلْنَا: تُقْطَعُ. اُنْتُظِرَ بُرْؤُهُ مِنْ
الْقَطْعِ لِلْمُحَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ. وَإِنْ كَانَتْ
السَّرِقَةُ سَابِقَةً، قُطِعَتْ يُمْنَاهُ لِلسَّرِقَةِ، وَلَا تُقْطَعُ
رِجْلُهُ لِلْمُحَارَبَةِ حَتَّى تَبْرَأَ يَدُهُ. وَهَلْ تُقْطَعُ يُسْرَى
يَدَيْهِ لِلْمُحَارَبَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
[فَصْلٌ سَرَقَ وَقَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ]
(7335) فَصْلٌ: وَإِنْ سَرَقَ وَقَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَلَمْ
يَأْخُذْ الْمَالَ، قُتِلَ حَتْمًا، وَلَمْ يُصْلَبْ، وَلَمْ تُقْطَعْ
يَدُهُ؛ لِأَنَّهُمَا حَدَّانِ فِيهِمَا قَتْلٌ، فَدَخَلَ مَا دُونَ
الْقَتْلِ فِيهِ، وَلَمْ يُصْلَبْ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ مِنْ تَمَامِ حَدِّ
قَاطِعِ الطَّرِيقِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ مَعَ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ،
وَهَذَانِ حَدَّانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ صَاحِبِهِ،
فَإِذَا اجْتَمَعَا تَدَاخَلَا. وَإِنْ قَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ
جَمَاعَةً، قُتِلَ بِالْأَوَّلِ حَتْمًا وَلِلْبَاقِينَ دِيَاتُ
أَوْلِيَائِهِمْ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ اُسْتُحِقَّ بِقَتْلِ الْأَوَّلِ،
وَتَحَتَّمَ بِحَيْثُ لَا يَسْقُطُ، فَتَعَيَّنَتْ حُقُوقُ الْبَاقِينَ فِي
الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ مَاتَ.
[فَصْلٌ شَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ عَلَيْهِمَا
الطَّرِيقَ وَعَلَى فُلَانٍ وَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ]
(7336) فَصْلٌ: إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ
عَلَيْهِمَا الطَّرِيقَ وَعَلَى فُلَانٍ، وَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ، لَمْ
تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا خَصْمَيْنِ لَهُ بِقَطْعِهِ
عَلَيْهِمَا، وَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى
فُلَانٍ، وَأَخَذَ مَتَاعَهُ. قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَمْ
يَسْأَلْهُمَا الْحَاكِمُ: هَلْ قَطَعَ عَلَيْكُمَا مَعَهُ أَمْ لَا؟
لِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمَا مَا لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ عَادَ
الْمَشْهُودُ لَهُ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ عَلَيْهِمَا
الطَّرِيقَ، وَأَخَذَ مَتَاعَهُمَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ
صَارَ عَدُوًّا لَهُ بِقَطْعِهِ الطَّرِيقَ عَلَيْهِ. وَإِنْ شَهِدَ
شَاهِدَانِ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَرَضُوا لَنَا فِي الطَّرِيقِ، وَقَطَعُوهَا
عَلَى فُلَانٍ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ
كَوْنُهُمَا خَصْمَيْنِ بِمَا ذَكَرَاهُ.
(9/157)
|