شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الرهن]
ش: الرهن في اللغة الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن. أي راكد، ونعمة راهنة، أي ثابتة دائمة، وقيل: هو مأخوذ من الحبس، ومنه قوله سبحانه: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] أي حبيس بمعنى محبوس، وهو قريب من الأول، لأن المحبوس ثابت في مكانه لا يزايله، وهو في اصطلاح الفقهاء: توثقة دين بعين - أو بدين على قول - يمكن أخذه من ذلك، إن تعذر الوفاء من غيره، وهو جائز بالإجماع، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
2018 - وفي الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي طعاما، ورهنه درعا من حديد» .
2019 - وفي البخاري «عن عائشة: توفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير» ، والله أعلم.

(4/25)


[اشتراط القبض لصحة الرهن]
قال: ولا يصح الرهن إلا أن يكون مقبوضا.
ش: ظاهر كلام الخرقي، وابن أبي موسى، وابن عقيل في التذكرة، والقاضي في الجامع الصغير، وابن عبدوس أن القبض شرط في صحة الرهن، والمعروف عند الأصحاب أنه إنما هو شرط للزومه، وعلى ذلك حمل القاضي - فيما أظن - وابن الزاغوني وأبو محمد - كلامه، وكذلك قال في الهبة أيضا: إن القبض شرط لصحتها، وهو مقتضى كلام طائفة ثم، وقد جعل القاضي في التعليق القبض في الرهن آكد منه في الهبة، معللا بأن استدامة القبض في الرهن شرط فيه، بخلاف الهبة، وبأن القصد التوثقة، ولا تحصل إلا بالقبض، بخلاف الهبة، إذ القصد منها الملك، قال: وهو يحصل وإن لم تقبض.
إذا عرف هذا فجعل القبض شرطا للصحة أو للزوم إنما هو في غير المعين المفرز، كقفيز من صبرة، ورطل من

(4/26)


زبرة، ونحوهما، أما المعين كالعبد والدار ونحوهما، والمشاع المعلوم بالنسبة من معين، فهل حكمه حكم ما تقدم، يشترط لصحته أو للزومه القبض؟ وهو مقتضى كلام الخرقي، وأبي بكر في التنبيه، وابن أبي موسى، ونصبها أبو الخطاب والشريف وقال في الكافي: إنه المذهب لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وصفها سبحانه بكونها مقبوضة، ولأنه عقد إرفاق أشبه القرض، أو لا يشترط له ذلك، بل يلزم بمجرد العقد وقال في التلخيص: إنه الأشهر، قياسا على البيع؟ على روايتين.
(تنبيه) : حيث اعتبر اللزوم فذلك في حق الراهن، إذ لا لزوم في حق المرتهن، والله أعلم.

[من يصح منه الرهن]
قال: من جائز الأمر.

(4/27)


ش: الجار والمجرور في موضع الحال، أي لا يصح الرهن إلا مقبوضا في حال كونه من جائز الأمر، وصاحب الحال محذوف دل عليه السياق، وتقديره: من مقبض جائز الأمر، وهو المكلف، الرشيد، المختار، فلو رهن وهو كذلك فحجر عليه لجنون، أو سفه، أو فلس لم يصح تقبيضه، بل ويبطل إذنه في القبض إن كان قد أذن، لأنه نوع تصرف، وتصرف هؤلاء غير صحيح، وكذلك إن أغمي عليه، نعم يقوم ولي المجنون والسفيه مقامه في ذلك، وفي المفلس يعتبر إذن الغرماء في القبض، ولو رهن وهو مختار، ثم أكره على القبض لم يصح ذلك، ويستفاد مما تقدم أنه إذا لم يصح التقبيض من هؤلاء - وإن كان قد وجد الرهن - فلأن لا يصح عقد الرهن بطريق الأولى، والله أعلم.

قال: والقبض فيه من وجهين، فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل - كالدور، والأرضين - فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه، لا حائل دونه.

(4/28)


ش: قبض كل شيء بحسبه، على ما جرت العادة فيه، على المشهور والمختار من الروايتين، فقبض ما ينقل - كالصبر ونحوها - بالنقل.
2020 - «قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . متفق عليه، والنهي عن ذلك لعدم قبضه.
2021 - لأن في البخاري عنه أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه» وفي لفظ «حتى يستوفيه» وقبض ما يكال، أو يوزن، أو يعد، أو يذرع، بكيله أو وزنه أو عدده أو ذرعه، نظرا للعرف في ذلك، ولما تقدم.
2022 - وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فكل» رواه أحمد والبيهقي، وللبخاري منه كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير إسناد، وفي رواية للبيهقي «إذا ابتعت كيلا فاكتل، وإذا بعت كيلا فكل» .

(4/29)


2023 - «وعن حكيم بن حزام، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا يجلبان الطعام من أرض قينقاع إلى المدينة، فيبيعانه بكيله، فأتى عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ما هذا؟» قالا: جلبناه من أرض كذا وكذا، ونبيعه بكيله، قال: «لا تفعلا ذلك، إذا اشتريتما طعاما فاستوفياه، فإذا بعتماه فكيلاه» رواه البيهقي في سننه، ولا يشترط مع ذلك نقله على المذهب، لظاهر ما تقدم، وفيه احتمال، وشرط الاعتداد بكيل ذلك أو وزنه ونحوهما حضور المشتري أو وكيله، فلو كيل أو وزن بغير حضوره لم يكن قبضا إلا أن يشتري منه مكيلا بعينه، ويدفع إليه ظرفا ويقول: كله لي. فيفعل، فإنه يصير مقبوضا، قال صاحب التلخيص: وفيه نظر

(4/30)


إذ الفرق بين كيله في ظرف أو غير ظرف بعيد جدا.
وهل يكتفي بعلم كيل ذلك أو وزنه [ونحو ذلك] عن الكيل والوزن ونحوهما؟ نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المكيل على روايتين، كما إذا اشترى مكيلا قد شاهد كيله قبل البيع، ولم يغب عنه، (إحداهما) لا يكتفي بذلك، ولا يكون قبضا صحيحا، وهي اختيار أبي بكر، والقاضي.
2024 - لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع، وصاع المشتري» ، رواه ابن ماجه، والبيهقي. واحتج به أحمد في رواية ابن إبراهيم.
2025 - ورواه البيهقي من رواية أبي هريرة أيضا، وزاد «فيكون للبائع الزيادة، وعليه النقصان» (والثانية) يكتفي بذلك، قبضا صحيحا، إذ المقصود معرفة المقدار وقد حصل، وعلى هذا للمشتري التصرف فيه بذلك، وليس له

(4/31)


مطالبة البائع بكيل، وإن ادعى نقصانه لم يقبل منه، وعلى الأول تنعكس هذه الأحكام، وظاهر كلام المجد، وغيره الاكتفاء بعلم ذلك في غير المكيل، وصاحب التلخيص أجرى ذلك في الوزن أيضا فقال فيما اشتري بكيل أو وزن، وقبض بمعياره، ثم بيع من بائعه، أن فيه الروايتين.
(تنبيه) : فإن كان المبيع في الكيل، وعقد البيع الثاني، ففرغه المشتري الثاني، صح القبض، وأغنى عن الاستئناف، انتهى.
وقبض ما يتناول - كالجواهر، والأثمان، ونحوهما - بالتناول، إذ العرف فيها ذلك، وقبض الحيوان بمشيه من مكانه. وما عدا ذلك - كالدور، والعقار، والثمرة على الشجرة، ونحو ذلك - بالتخلية بينه وبين مرتهنه، من غير حائل بينهما، بأن يفتح له باب الدار، أو يسلم إليه مفتاحها، ونحو ذلك، وإن كان فيها متاع للراهن، وعن أحمد رواية أخرى أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز، قياسا على العقار ونحوه.
ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لم يجعل للقبض إلا وجهين فقط، النقل، والتخلية، فقد يقال في الجواهر

(4/32)


ونحوها: إن تناولها نقل لها، لأنها انتقلت من يد البائع إلى يد المشتري، وكيل المكيل ونحوه نقله من محله إلى محل آخر، وخلاصته أن صفات النقل تختلف، وأحال الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيانها على موقف، ثم إنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض لصفة القبض فيما يعتبر له القبض في البيع، فليعتمد هنا.
وقوله: أخذ من راهنه. إشارة إلى أنه لا بد في القبض من التسليم من الراهن، أو ما يقوم مقامه، وهو إذنه في ذلك، أما إن لم يوجد واحد منهما فإن وجود ذلك كعدمه، على المعروف المجزوم به، وفي التلخيص في الهبة حكاية رواية بصحة قبض ما قبضه المتهب بدون إذن الواهب، فيخرج هنا كذلك، ولا معرج على ذلك، أما على المذهب فلو كان الرهن في يد المرتهن، بإعارة، أو وديعة، ونحو ذلك، ففي اشتراط إذنه له في القبض روايتان، وقيل: وجهان، فإن اشترط فلا بد من مضي زمن يتأتى القبض فيه، فإذا كان المرهون حاضرا بين يدي الراهن، اكتفي بمضي مدة يتأتى قبض ذلك فيها، فاكتياله

(4/33)


أو وزنه، أو نقله حسب ما هو، وإن كان في بيته، أو دكانه، ونحو ذلك، فلا بد من أن يمضي إليه، ويشاهد المرهون، ليتحقق التمكين، ثم بعد ذلك تمضي مدة يمكن القبض فيها على ما ذكر، وإن لم يشترط الإذن ففي اعتبار مضي زمن يتأتى القبض فيه وجهان، والله أعلم.

قال: وإذا قبض الرهن من تشارطا أن يكون الرهن على يده صار مقبوضا.
ش: تصح النيابة في قبض الرهن، لأنه قبض في عقد، فجاز التوكيل فيه كسائر القبوض، فعلى هذا إذا اتفق الراهن والمرتهن حال العقد أو بعده على جعل الرهن في يد إنسان صح، وصار مقبوضا للمرتهن، قاله في المغني، وفيه تساهل، لأنه يوهم أن له أخذه منه، وليس كذلك كما سيأتي.
ثم قول الخرقي: من. يشمل المسلم والكافر، والعدل والفاسق، والذكر والأنثى، والحر والعبد، وغيرهم، وهو كذلك، إلا أنه لا بد أن يقيد بكونه جائز

(4/34)


التبرع، ليخرج الصبي، والمجنون، والعبد بغير إذن سيده، والمكاتب بلا جعل، أما إن أذن السيد، أو جعل للمكاتب جعل، فإنه يجوز، لزوال المانع، وانتفاء التبرع (ويشمل) أيضا الاثنين، والجماعة، وهو كذلك، وليس لواحد منهم الانفراد بحفظه.
وقوله: من تشارطا قوته تقتضي أن يكون غيرهما، فلو استناب المرتهن الراهن في القبض لم يصح، قاله في التلخيص، وعبد الراهن القن، وأم ولده، ومستولدته كهو، نعم يجوز استنابة مكاتبه، وكذلك عبده المأذون له في أصح الوجهين، وفي الآخر لا يجوز إلا أن يكون عليه دين.
وقوله: صار مقبوضا. يقتضي أنه ليس لواحد منهما نقله عن من جعل على يده، وهو كذلك، كما لو كان بيده المرتهن، نعم إن اتفقا على ذلك جاز، وكذلك إن تغيرت

(4/35)


حال المجعول على يده، كأن كان عدلا ففسق ونحوه، كان لكل منهما طلب التحويل إلى آخر، ثم إن اتفقا عليه وإلا جعله الحاكم عند عدل، وكذا لو تغيرت حال المرتهن، فللراهن رفع الأمر إلى الحاكم، ليضعه على يد عدل، والله أعلم.

قال: ولا يرهن مال من أوصي إليه بحفظ ماله إلا من ثقة.
ش: لأن ولي اليتيم إنما يتصرف بالأحسن، قال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] والأحسن بل الحسن أن لا يرهن مال اليتيم إلا عند ثقة، إذ الرهن أمانة، وغير الثقة لا يؤتمن، ولا بد أن يكون الحظ لليتيم في الرهن، كأن يحتاج إلى نفقة على نفسه، أو عقاره المتهدم، ونحو ذلك، وله مال ينتظر وروده، فالأحظ إذا في الاقتراض، ورهن بعض أصول ماله، أما إن لم يكن له مال ينتظر، فلا حظ في الاقتراض، وإذا يبيع بعض أصول

(4/36)


ماله، فإن لم يجد من يقرضه، ووجد من يبيعه نساء، وكان أحظ من بيع ماله، جاز الشراء نساء، ورهن شيء من ماله، قاله في المغني، وظاهره أنه لا ينتقل إلى الشراء نسيئة إلا عند عدم من يقرضه، والذي ينبغي مراعاة الأصلح لليتيم. انتهى.
وحكم الحاكم وأمينه حكم الوصي في ذلك، وكذلك الأب بطريق الأولى، ومن ثم له أن يرتهن من نفسه، بخلاف غيره على المحقق، وفي المغني حكاية رواية بجواز ذلك لغيره، وفيها نظر، إذ أصل ذلك - والله أعلم - البيع، ولا يعرف فيه رواية مطلقة بالجواز، والله أعلم.

قال: وإذا قضاه بعض الحق كان الرهن بحاله على ما بقي.
ش: العين المرهونة رهن بجميع الدين، وبكل [جزء] من أجزائه، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على نحو ذلك، والله أعلم.

(4/37)


قال: وإذا أعتق الراهن عبده المرهون فقد صار حرا.
ش: هذا هو المشهور والمختار من الروايات للأكثرين، لأنه عتق من مالك.
2026 - فشمله مفهوم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عتق فيما لا يملك ابن آدم» . وفارق غيره من التصرفات، لتشوف الشارع إليه، ومن ثم نفذ في ملك الغير، وفي المبيع قبل القبض، وفي الآبق، والمبهم، ونحو ذلك، (والثانية) واختارها الشيرازي: لا ينفذ مطلقا، حذارا من إبطال حق المرتهن من الوثيقة، وأنه لا يجوز، كما لا يجوز بيعه، وهبته، ونحوهما، (والثالثة) ينفذ عتق الموسر لا المعسر، تخريجا على المفلس، إذ الموسر لا ضرر على المرتهن في عتقه،

(4/38)


لإمكان أخذ القيمة منه، بخلاف المعسر، وهذا كله في نفوذ العتق، أما الإقدام عليه فإنه لا يجوز، لما فيه من إدخال الضرر على المرتهن، بإبطال حقه من الوثيقة، نعم إن أذن المرتهن في العتق جاز، ونفذ بلا ريب، لزوال المانع، والله أعلم.

قال: ويؤخذ إن كان له مال بقيمة المعتق فيكون رهنا.
ش: إذا قلنا بنفوذ العتق نظرنا في الراهن، فإن كان له مال أخذت منه قيمة المعتق، لتفويته إياه على المرتهن، فتجعل رهنا، لأنها بدل المرهون والحال هذه، وبدل الشيء يقوم مقامه، وخير أبو بكر في التنبيه المرتهن بين الرجوع بقيمة العبد، أو بعبد مثله، وإن لم يكن له مال بأن كان معسرا، بقيت القيمة في ذمته إلى حين يساره، ولا يستسعى العتيق، فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه كما تقدم، وإن أيسر بعده فلا فائدة في جعل القيمة رهنا، ويؤمر بالوفاء، وتعتبر القيمة حين العتق، لأنه وقت التلف، وإن لم نقل بالنفوذ، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا ينفذ بعد زوال الرهن، ولابن حمدان احتمال بالنفوذ إذا، هذا كله إذا لم يأذن المرتهن، أما إن أذن في العتق فإن حقه يبطل من الوثيقة، ولا قيمة له، والله أعلم.

(4/39)


قال: وإن كانت جارية فأولدها الراهن خرجت أيضا من الرهن.
ش: لأن الإيلاد إتلاف معنوي، فنزل منزلة الإتلاف الحسي، وعامة الأصحاب يجزمون هنا بذلك، بخلاف العتق، لأن الفعل أقوى من القول، بدليل نفوذ إيلاد المجنون، دون عتقه، وظاهر كلامه في التلخيص إجراء الخلاف فيه، فإنه قال: والاستيلاد مرتب على العتق، وأولى بالنفوذ، لأنه فعل، والله أعلم.

قال: وأخذ منه قيمتها تكون رهنا.
ش: أي إذا كان له مال، وإلا بقيت القيمة في ذمته إلى يسرته، على ما تقدم في العتق، والاعتبار في القيمة بيوم الإحبال، قاله في الرعاية، ولا بد أن يلحظ أيضا أن المرتهن لم يأذن في الوطء، قال في التلخيص: وصدقه المرتهن أنها

(4/40)


ولدته من وطئه، أما إن أذن المرتهن في الوطء وحملت، فإن الرهن يبطل، ولا قيمة للمرتهن، بشرط أن يصدقه أن الراهن وطئ، وأنها ولدته لمدة يمكن أن يكون من ذلك الوطء، أما إن صدقه في الإذن، وكذبه في أنه وطئ، أو أنها ولدته أو في المدة، فالقول قوله، والرهن بحاله، لأن الأصل معه، والله أعلم.

[جناية العبد المرهون]
قال: وإذا جنى العبد المرهون، فالمجني عليه أحق برقبته من مرتهنه، حتى يستوفى حقه. فإن اختار سيده أن يفديه وفعل فهو رهن بحاله.
ش: مراد الخرقي - والله أعلم - إذا جنى المرهون على أجنبي، لا على السيد، ولا على عبد السيد، ولا موروثه، إذ بيان ذلك يحتاج إلى بسط وتطويل، لا يليق بمختصره، ولا بهذه التعليق، وجناية العبد على الأجنبي، أو على ماله، تتعلق برقبة العبد.
2027 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» فإن كان مرهونا قدم حق المجني عليه، على حق المرتهن، لأن حقه

(4/41)


ثبت بطريق الاختيار، وحق المجني عليه ثبت لا بطريق الاختيار، فكان أقوى، ثم حق المرتهن يرجع إلى بدل وهو الذمة، فلا يفوت بخلاف حق المجني عليه، فإنه يفوت بفوات العين، ويتفرع على هذا أن المجني عليه أحق برقبة العبد من المرتهن، حتى يستوفي حقه، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فللمجني عليه ذلك، فإن فعل - والجناية على النفس - بطل الرهن، وإن كانت على الطرف فالرهن بحاله، لوجود سببه، وزوال ما يقتضي التقديم، وكذلك إن عفا مجانا، وإن عفا على مال، أو كانت الجناية ابتداء موجبة للمال، فالسيد يخير بين فدائه أو بيعه في الجناية، على إحدى الروايات (والثانية) يخير بين الفداء أو دفعه بالجناية، (والثالثة) : يخير بين الثلاثة، فإن اختار البيع والجناية

(4/42)


مستغرقة لقيمته، بيع فيها وبطل الرهن، وإن لم تستغرق قيمته، فهل يباع جميعه، دفعا لضرر الشريك؟ وإذا يكون باقي ثمنه رهنا، أو لا يباع منه إلا قدر الجناية، ويكون باقيه رهنا، لسلامته من معارض؟ فيه وجهان، فإن اختار السيد فداءه، قبل منه فداؤه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته، على المشهور من الروايتين (والثانية) لا يقبل منه إذا اختار الفداء إلا أرش الجناية كاملة، فإذا فداه فهو رهن بحاله، لزوال ما تعلق به، وإن أراد السيد الدفع في الجناية، واختار المرتهن فداءه فله ذلك، ثم بكم يفديه؟ فيه الروايتان المتقدمتان، وإذا فداه وهو متبرع لم يرجع، وبإذن الراهن يرجع، وبغير إذنه فيه الوجهان في من أدى عن غيره واجبا بغير إذنه، والمشهور ثم الرجوع، وبه قطع القاضي، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وغيرهم هنا، وقيل: لا يرجع هنا، وإن رجع ثم، وهو اختيار أبي البركات، لعدم تحتم الفداء على السيد.
(تنبيه) : إذا شرط المرتهن جعله رهنا بالفداء مع الدين الأول صح، قاله القاضي، لأن الرهن مع الجناية صيرته بمنزلة الجائز، وقيل: لا يصح، لأن رهن المرهون لا يصح، والله أعلم.

(4/43)


قال: وإذا جرح العبد المرهون أو قتل فالخصم في ذلك سيده.
ش: لأنه مالكه ومالك بدله، والمرتهن إنما يملك حبسه، فهو كالمستأجر، نعم إن ترك السيد المطالبة لعذر أو غيره، فللمرتهن المطالبة، لأن حقه يتعلق بموجب الجناية، قاله القاضي، وغير واحد من أصحابه، وفرقوا بينه وبين المودع، على المشهور عندهم، بأن ثم مجرد حفظ وائتمان، بخلاف الرهن والإجارة، فإن له فيها حق الوثيقة والمنفعة، والله أعلم.

قال: وما قبض بسبب ذلك من شيء فهو رهن.
ش: قد تقدم أن العبد المرهون إذا قتل أو جرح أن الخصم في ذلك هو السيد، إلا أنه - على ما قال صاحب التلخيص وغيره - ليس له القصاص إلا أن يأذن الراهن، قال في التلخيص: أو إعطائه قيمة العبد، وجعل ابن حمدان ذلك قولا، فإن اقتص كذلك فلا شيء عليه، وإلا فعليه، أقل الأمرين، من قيمة العبد المرهون، أو قيمة الجاني إن كانت [الجناية على النفس، أو أقل الأمرين من أرش

(4/44)


الجرح، أو قيمة الجاني، إن كانت] على ما دونها، بجعل ذلك رهنا، لتفويته ذلك - باقتصاصه - على المرتهن، أشبه ما لو كانت الجناية موجبة للمال، هذا هو المشهور عند الأصحاب، والمنصوص عن أحمد.
وعن القاضي - وبه قطع ابن الزاغوني في الوجيز، واختاره المجد - لا شيء عليه، لأن الجناية لا توجب مالا، وإن لم يقتص السيد، بل عفا إلى مال، أو مطلقا - وقيل: الواجب أحد شيئين - أو كانت الجناية موجبة للمال ابتداء، ثبت المال، وأخذ فجعل رهنا مكان العبد، لأنه بدله فقام مقامه، وإن عفا إلى غير مال، وقلنا: الواجب القصاص عينا، أو مطلقا، وقلنا كذلك، كان كما لو اقتص، فيه القولان السابقان، قاله أبو محمد، وصحح صاحب التلخيص أنه لا شيء على السيد هنا، مع قطعه ثم بالوجوب كما هو المنصوص، وإن عفا عن المال بعد ثبوته، أو إلى غير مال، وقلنا: الواجب أحد شيئين، فهل يصح عفوه، ويؤخذ منه أرش الجناية، فيجعل رهنا؟ وهو قول أبي الخطاب وصاحب التلخيص، أو لا يصح، ويؤخذ الأرش من قبل الجاني؟ وهو اختيار أبي محمد، أو يصح

(4/45)


بالنسبة إلى الراهن دون المرتهن، فيؤخذ الأرش فيجعل رهنا، فإذا انفك الرهن رد الأرش إلى الجاني؟ وهو قول القاضي، على ثلاثة أقوال، وعلى الثالث لو استوفي الدين من الأرش فهل يرجع الجاني على العافي أم لا؟ فيه احتمالان، والله أعلم.

قال: وإن اشترى منه سلعة على أن يرهنه بها شيئا من ماله يعرفانه، أو على أن يعطيه بالثمن حميلا يعرفانه، فالبيع جائز، فإن أبى تسليم الرهن أو أبى الحميل أن يتحمل، فالبائع مخير في فسخ البيع، وفي إقامته بلا رهن ولا ضمين.
ش: الحميل الضمين فعيل بمعنى فاعل، يقال: ضمين، وحميل، وكفيل، وزعيم، وقبيل، وصبير، بمعنى، فإذا اشترى شيئا وشرط للبائع رهنا أو ضمينا على الثمن، صح البيع والشرط، لأنه شرط واحد، من مصلحة العقد، لما تقدم في قوله: والبيع لا يبطله شرط واحد، ويشترط في الرهن والضمين أن يكونا معينين، فلا يصح اشتراط

(4/46)


أحد هذين العبدين، كما لا يصح بيع أحدهما، ولا ضمان أحد هذين الرجلين، لأن الغرض يختلف، وإذا صح الشرط فإن حصل الوفاء به فلا كلام، وإن لم يحصل الوفاء به - بأن امتنع من عين للضمان منه - إذ هو التزام، فلا يلزمه بدون رضاه، كبقية الالتزامات - أو امتنع المشتري من تسليم الرهن، لأن الشرط لا يوجب عليه ذلك - فإن البائع يخير بين فسخ العقد، لفوات الشرط عليه، وبين إمضائه بلا رهن ولا كفيل، ثم هل له الأرش إذا إلحاقا له بالعيوب، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، ويحكى عن ابن عقيل في العمد، أو لا أرش له، إلحاقا له بالتدليس، وهو ظاهر كلام الخرقي، والقاضي، وأبي الخطاب، وصاحب التلخيص فيه، والسامري، وأبي محمد؟ على

(4/47)


قولين، واتفق الفريقان على وجوب الأرش عند تعذر الرد، على مقتضى قول المجد، والله أعلم.

[الانتفاع بالمرهون]
قال: ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبا أو محلوبا، فيركب ويحلب بقدر العلف.
ش: نماء الرهن ملك للراهن، إذ النماء تابع للملك.
2028 - وعن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه، وعليه غرمه» رواه الشافعي والدارقطني وحسن إسناده، وروي مرسلا عن سعيد، وناهيك بمراسيله،

(4/48)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: غنمه زيادته، وغرمه هلاكه ونقصه، انتهى، وإذا كان النماء للراهن فلا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء، لا من الأصل، ولا من النماء.
2029 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» نعم إن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع، ولم يكن الدين عن قرض جاز لوجود طيب النفس.
2030 - وإن كان الدين عن قرض لم يجز، حذارا من «قرض جر منفعة» .

(4/49)


وهل يستثنى مما تقدم إذا كان الرهن مركوبا أو محلوبا أو لا؟ فيه روايتان (إحداهما) لا، فلا ينتفع المرتهن من ذلك بشيء إلا بإذن مالكه، كما تقدم للحديث.
2031 - وعن إبراهيم النخعي - وذكر له قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن محلوب ومركوب» - فقال: إن كانوا ليكرهون أن يستمتعوا من الرهن بشيء. رواه البيهقي.
(والثانية) : - وهي المشهورة، والمعمول عليها في المذهب - للمرتهن أن يركب ما يركب، ويحلب ما يحلب، بمقدار العلف، متحريا للعدل في ذلك.
2032 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول لله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب

(4/50)


بنفقته إذا كان محلوبا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يشبه قول أبي هريرة أن من رهن ذات ظهر ودر لم يمنع الراهن ظهرها ودرها، لأن له رقبتها.
2033 - يرده ما في المسند «إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته» فجعل المنفق هو المرتهن، فيكون هو المنتفع، ثم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الظهر يركب بنفقته» أي بسبب نفقته، وهو إشارة إلى أن الانتفاع عوض النفقة، وذلك إنما يتأتى في المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه ليسا بسبب المعاوضة، وإنما ذلك بسبب الملك، ولأن ذلك محض مصلحة، من غير مفسدة، ومبنى الشرع على ذلك، وبيانه أن منفعة الركوب لو تركت لذهبت مجانا، وكذلك اللبن لو ترك لفسد، وبيعه أولا

(4/51)


فأولا ربما تعذر، ثم هذا الحيوان لا بد له من نفقة، فأخذها من مالكه ربما أضر به، وربما تعذر أخذها منه، فإن بيع بعض الرهن فيها فقد يفوت الرهن بالكلية، فجوز الشارع للمرتهن الإنفاق والاستيفاء بقدره، إذ لا حرج عليه في ذلك، بل فيه دفع الحرج عنه، وحفظ الرهن، وإذا تحصل المصلحة من الطرفين. انتهى.
ويدخل في المحلوب إذا كانت أمة مرضعة، فإن للمرتهن أن يسترضعها بقدر نفقتها، كما أشار إليه أبو بكر في التنبيه، ونص عليه ابن حمدان، وهل يلحق بالمركوب والمحلوب ما يخدم من عبد أو أمة؟ فيه روايتان (أشهرهما) لا، قصرا للنص على مورده، كما أشار إليه الإمام في رواية الأثرم، إذ الأصل المنع مطلقا.
2034 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» خرج منه ما تقدم (والثانية) نعم، قياسا على ما تقدم، لفهم العلة وهو ذهاب المنفعة.
إذا عرف هذا فشرط الاستيفاء أن يكون بقدر العلف، مع تحري العدل، ولا ينهك ولا يعجف بالركوب والحلاب، حذارا من الضرر المنفي شرعا، ثم إن فضل من اللبن شيء عن النفقة ولم يمكن بقاؤه إلى وقت حلول الدين، فإن المرتهن يبيعه إن أذن له في ذلك، أو الحاكم إن لم يؤذن

(4/52)


له، ويجعل ثمنه رهنا، وإن فضل من النفقة شيء رجع به على الراهن، قاله أبو بكر، وابن أبي موسى، وغيرهما، وظاهر كلامهم الرجوع هنا، وإن لم يرجع إذا أنفق على الرهن في غير هذه الصورة، لكن ينبغي إذا أنفق متطوعا أنه لا يرجع بلا ريب.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لجواز الإنفاق والاستيفاء - فيما تقدم - تعذر النفقة من المالك بامتناعه أو غيبته، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية، وأبي البركات، وطائفة، وصرح به أبو محمد في المغني، نظرا لإطلاق الحديث، وشرط أبو بكر في التنبيه امتناع الراهن من النفقة، والقاضي في الجامع الصغير، وأبو الخطاب في خلافه وصاحب التلخيص وغيرهم غيبة الراهن، وابن عقيل في التذكرة إذا لم يترك له راهنه نفقة، وينبغي أن يكون هذا محل وفاق.
(تنبيه) : قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» في رواية «من صاحبه» الحديث أي لا يستحقه المرتهن، يقال: غلق الرهن إذا لم يوف الراهن الحق، فاستحق المرتهن الرهن، قال زهير:

(4/53)


وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرهن لا يغلق، وقد جاء ذلك صريحا في حديث مرسل.
2035 - فروى البيهقي في سننه بسنده إلى معاوية بن عبد الله بن جعفر، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» وإن رجلا رهن دارا بالمدينة إلى أجل، فلما جاء الأجل قال الذي ارتهن: هي لي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يغلق الرهن» انتهى.
2036 - وقال معمر: قلت للزهري: يا أبا بكر قوله: «الرهن لا يغلق» قال: يقول: إن لم آتك إلى كذا وكذا فهو لك. والله أعلم.
- قال: وغلة الدار وخدمة العبد، وحمل الشاة وغيرها، وثمرة الشجرة المرهونة من الرهن.

(4/54)


ش: نماء الرهن كأجرة الدار والعبد، وما يكتسبه باصطياد ونحوه وثمرة الشجرة وولد الأمة ونحو ذلك تبع للرهن، فيكون مرهونا كالأصل، لأنه حكم ثبت في العين بعقد المالك، فدخل فيه النماء والمنافع كالملك، ولا يرد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: له غنمه لأنا نقول بموجبه، وأن الغنم مال للراهن، ولا يمنع ذلك من تعلق حق المرتهن به كالأصل.
ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز إجارة المرهون في الجملة، مع بقائه على الرهنية واللزوم، لقوله: وغلة الدار. ولا غلة للدار إلا بالإجارة، وهذا اختيار أبي محمد، وإحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص عليها في رواية ابن منصور، فقال: له أن يكريه بإذن الراهن، وتكون الأجرة للراهن.
(والثانية) : يزول لزوم الرهن بذلك، أومأ إليها في رواية ابن منصور أيضا، في رجل ارتهن دارا فأكراها من صاحبها، فلا تكون رهنا حتى ينقضي ذلك، فإذا انقضى كراه رجعت إليه وصارت رهنا، ونحوه نقل ابن ثواب، وهذا اختيار أبي بكر في الخلاف، قال: إن منافع الرهن تعطل، ومبنى الخلاف على ما أشار إليه أبو الخطاب في

(4/55)


الانتصار، أن مقصود الرهن هل هو الاستيفاء من ثمنه، عند تعذر الاستيفاء من الغريم، والاختصاص به دون بقية الغرماء، وذلك لا ينافي إجارته، أو ذلك مع استحقاق حبسه، وكونه تحت اليد على الدوام، والإجارة تخرجه عن يده.
وفي المذهب قول ثالث: إن أجر المرتهن بإذن الراهن فالرهن بحاله، لعدم خروجه عن يد المرتهن وتصرفه، وإن أجر الراهن بإذن المرتهن، خرج من الرهن، لخروجه إلى يد الراهن، وإلى هذا القول ميل أبي الخطاب، ومنصوص أحمد مما يدل على ذلك، ومحل الخلاف إذا اتفقا على الإيجار، أما إن امتنع أحدهما من الإيجار فإن منافعه تعطل على المذهب، واختار ابن حمدان أنها لا تعطل، فيجبر من أبى منهما على الإيجار، والحكم في إعارته كالحكم في إجارته، والله أعلم.

[مؤونة الرهن]
قال: ومؤونة الرهن على الراهن.
ش: مؤونة الرهن من طعام، وكسوة، ومسكن، وغير ذلك على الراهن، لأنه ملكه، فكان ذلك عليه كبقية الأملاك، وقد تقدم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «له غنمه، وعليه غرمه» والمؤونة من الغرم، والله أعلم.

(4/56)


قال: وإن كان عبدا فمات فعليه كفنه.
ش: لأن الكفن من الغرم وهو عليه، والله أعلم.

قال: وإن كان مما يخزن فعليه كراء مخزنه.
ش: لأنه من مؤونته، وهي عليه لما تقدم، والله أعلم.

[تلف الشيء المرهون]
قال: والرهن إذا تلف بغير جناية من المرتهن، رجع المرتهن بحقه عند محله، وكانت المصيبة فيه من راهنه، وإن كان تعدى المرتهن، أو لم يحرزه ضمن.
ش: الرهن أمانة في يد المرتهن، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه، وعليه غرمه» وهذا يدل على أن الغرم على الراهن لا المرتهن، وهذا هو المذهب المعروف. ونقل أبو طالب عن أحمد إذا ضاع الرهن عند المرتهن لزمه. وظاهرها لزوم الضمان له مطلقا، لكن تأول ذلك القاضي على ما إذا تعدى، وأبى ذلك ابن عقيل، جريا على الظاهر.
2037 - وبالجملة استدل لهذه الرواية بما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: الرهن بما فيه رواه الدارقطني والبيهقي، لكنه ضعيف، بل قيل: إنه موضوع. على أنه يحتمل أنه محبوس بما

(4/57)


فيه، وبما روي «عن عطاء أن رجلا رهن فرسا فنفق في يده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرتهن: «ذهب حقه» رواه الدارقطني أيضا وغيره، وهو ضعيف أيضا مع إرساله،

(4/58)


وقد قال أحمد: مرسلات سعيد صحاح، وأما الحسن وعطاء فهي أضعف المرسلات، لأنهما كانا يأخذان عن كل.
2038 - قال الشافعي: ومما يدلك على وهن هذا عند عطاء إن كان رواه أن عطاء يفتي بخلافه، ويقول فيما ظهر هلاكه أمانة، وفيما خفي هلاكه: يترادان الفعل. انتهى.
ويتفرع على المذهب أن المصيبة فيه كأنها حصلت من راهنه، فلو تلف أن نقص كان ذلك على راهنه، وحق المرتهن بحاله، يرجع به عند محله، هذا كله إذا لم يتعد المرتهن ولم يفرط، أما إن تعدى - بأن استعمل الرهن - أو فرط - بأن لم يحرزه حرز مثله ونحو ذلك - فإنه يضمن، كما يضمن المودع ونحوه، والله أعلم.

- قال: وإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه.
ش: حيث لزم المرتهن الضمان، فاختلف هو والراهن في قيمة العين، وهي تالفة أو ناقصة بأن يدعي الراهن مثلا أن قيمتها ثلاثون، ويدعي المرتهن أن قيمتها عشرون، ولا بينة بما قال واحد منهما، فالقول في ذلك قول المرتهن، لأنه

(4/59)


غارم، ومنكر للزيادة، والقول قول المنكر مع يمينه، والله أعلم.
قال: وإن اختلفا في قدر الحق فالقول قول الراهن مع يمينه، إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة.
ش: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق الذي به الرهن، مثل أن يقول الراهن: رهنتك هذا على ألف.
فيقول المرتهن: بل على ألفين. فإذا القول قول الراهن مع يمينه، سواء أقر بالألف الأخرى أو أنكرها، لأنه منكر للرهن بالزيادة التي يدعيها المرتهن، والقول قول المنكر، وكما لو اختلفا في أصل الرهن، وهذا مع عدم البينة، أما إن وجدت، فإن الحكم لها، لأنها تبين الحق وتظهره.
وقول الخرقي: إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة. الشرط راجع لهذه الصورة والتي قبلها، والله أعلم.

قال: والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه، حيا كان الراهن أو ميتا.
ش: لا يختلف المذهب فيما نعلمه أن المرتهن أحق بثمن

(4/60)


الرهن إلى أن يستوفي حقه من بقية الغرماء، في حياة الراهن لترجح حقه على حق غيره، والراجح مقدم، وبيانه أن حقه قد تعلق بالعين والذمة، وحق غيره إنما تعلق بالذمة فقط، فعلى هذا إذا حجر على الراهن لفلس فإن المرتهن يقدم بثمن الرهن، فإن كان وفق حقه فلا كلام، وإن نقص ضرب مع الغرماء بالنقص، وإن زاد رد الفاضل على الغرماء.
أما مع موت الراهن. وضيق التركة عن جميع الديون، فهل المرتهن أسوة الغرماء، لأن التركة انتقلت إلى الورثة، وتعلق حق الغرماء بها تعلقا واحدا، أو يقدم بثمن الرهن كما في حال الحياة، إذ التركة إنما تنتقل إلى الورثة بصفة ما كانت للموروث، وهذا هو المعروف عند الأصحاب؟ على روايتين منصوصتين، ولا يرد على الخرقي إذا جنى العبد المرهون، فإن حق المجني عليه يقدم على الراهن، لأن المجني عليه في الحقيقة ليس غريما للراهن، إذ حقه متعلق بعين الرهن فقط، لا بذمة الراهن، مع أن الخرقي قد ذكر حكم ذلك، والله أعلم.

(4/61)