شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [باب قسم
الفيء والغنيمة والصدقة]
ش: «الفيء» في الأصل مصدر: فاء يفيء فيئة وفيئا: إذا رجع، ثم أطلق على ما
أخذ من الجهات الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى؛ لأن الله تعالى أفاءه على
المسلمين، أي: رده عليهم من الكفار، فإن الأصل: أن الله إنما خلق الأموال
إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، والكافر ليس من أهل
عبادته، فرجوع المال عنه رده إلى أصله. والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الآية.
«والغنيمة» : أصلها من الربح والفضل، والأصل فيها قَوْله تَعَالَى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}
[الأنفال: 41] الآية، أضاف الغنيمة لهم، ثم جعل خمسها لغيرهم، فدل على أن
الأربعة الأخماس الباقية لهم، وقيل: إنها كانت أولا للرسول - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدليل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] وهي من
خصائص هذه الأمة.
2349 - قال: «وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي» متفق عليه.
(4/591)
2350 - وفي الصحيح: «أن النار كانت تنزل من
السماء فتأكلها» .
«والصدقة» هنا المراد بها: الصدقة المفروضة، وهي الزكاة.
قال: والأموال ثلاثة: فيء، وغنيمة، وصدقة.
ش: أي الأموال التي مرجعها للإمام، التي يتولى أخذها وتفريقها، والله أعلم.
[تعريف الفيء والغنيمة]
قال: فالفيء ما أخذ من مال مشرك، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، والغنيمة ما
أوجف عليه.
ش: هذان تعريفان شرعيان للفيء والغنيمة، والركاب: الإبل، والإيجاف أصله
التحريك، والمراد هنا: الحركة في السير إليه.
2351 - قال قتادة في قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا
رِكَابٍ} [الحشر: 6] ما قطعتم واديا، ولا
(4/592)
سيرتم إليها دابة، إنما كانت حوائط بني
النضير، أطعمها الله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحظ الآية الكريمة، كما هو دأبه، فأتى
بألفاظها، فكل ما أخذ من مال مشرك بغير إيجاف، كالذي تركه فزعا من
المسلمين، وكالجزية، والعشر من تاجر أهل الحرب، ونصفه من تاجر أهل الذمة،
ومال من مات منهم ولا وارث له، وخراج أرض صالحناهم عليها.
وما أجاف عليه المسلمون فساروا إليه، وقاتلوا عليه، فهو غنيمة، سواء أخذ
بالسيف، أو بالحصر والاستنزال بأمان.
2352 - فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح حصون خيبر
بعضها عنوة، وبعضها استنزل أهله بأمان، وكلها كانت غنيمة.
(4/593)
[تقسيم خمس
الفيء والغنيمة]
قال: فخمس الفيء والغنيمة مقسوم على خمسة أسهم.
ش: قد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جهة إشارة النص على أن الفيء
والغنيمة يخمسان؛ «أما الغنيمة» : فلا نزاع في تخميسها بحمد الله في
الجملة، وقد دل عليها قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية.
2353 - وفي الترمذي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لوفد عبد القيس: «آمركم أن تؤدوا
خمس ما غنمتم» .
وقد اختلف في أشياء من الغنيمة: هل تخمس كالسلب، والنفل، وأشياء أخر، ونذكر
ذلك إن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع.
«وأما الفيء» : فالمنصوص عن أحمد في رواية أبي طالب أنه لا يخمس، لأن الله
سبحانه قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إلى قوله:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] الآيات، فدل على أنه
كله لهؤلاء، ولم يذكر خمسا.
2354 - وفي النسائي من حديث مالك بن أوس، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
في حديث طويل، فيه أنه قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال: 41] هذا لهؤلاء {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] هذه
(4/594)
لهؤلاء {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا
رِكَابٍ} [الحشر: 6] قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة وكذا {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] و {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] {وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9]
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فاستوعبت هذه الآية
الناس، فلم يبق رجل ممن المسلمين إلا وله من هذا المال حق - أو قال حظ -
إلا بعض من تملكون من أرقائكم، ولئن عشت ليأتين على كل مسلم حقه أو قال
حظه.
ورواه أبو داود عن الزهري قال: قال عمر: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] وذكر مثل رواية النسائي، وهذا من عمر
تفسير للآية الكريمة
(4/595)
وهو كالنص في عدم التخميس، وتفسير الصحابي
إذا وافق ظاهر النص [كان] حجة بلا ريب.
وقال الخرقي: إنه يخمس.
قال القاضي: لم أجد بما قال نصا. ووجهه أنه مال مشرك مظهور عليه، فوجب أن
يخمس كالركاز، والغنيمة، ودل كلامه - من جهة دلالة النص - على أن خمس الفيء
والغنيمة يقسمان على خمسة أسهم، وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]
الآية.
2355 - وسهم الله والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحد، كذا
قال عطاء، والشعبي.
2356 - وعن بعضهم أن ذكر الله تعالى لافتتاح الكلام تبركا به.
2357 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «سمعت عليا يقول: ولاني رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خمس الخمس فوضعته مواضعه حياته،
(4/596)
وحياة أبي بكر، وحياة عمر، فأتي عمر بمال
آخر حياته، فدعاني فقال: خذه. فقلت: لا أريده. فقال: خذه فأنتم أحق به.
قلت: قد استغنينا عنه. فجعله في بيت المال. رواه أبو داود. وفي رواية: إن
رأيت أو تولينا حقنا من هذا الخمس في كتاب الله» . وهذا يدل على أن الخمس
كان يخمس خمسة أسهم، لا أقل منها ولا أكثر.
(تنبيه) : الغنيمة التي تخمس هي: ما وجد بعد دفع السلب لمستحقه، وبعد دفع
ما وجد فيها لمسلم أو معاهد
(4/597)
له، وبعد إعطاء أجرة من حفظها أو نقلها،
وجعل من دل على حصن أو ماء، ونحو ذلك، ولهذه تفاصيل ليس هذا موضع بيانها،
وبعد ما أكل منها من طعام، أو علف، على ما يذكر في موضعه.
واختلف في ما إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب فغنموا، هل يخمس ما غنموه؟
على روايتين.
واختلف أيضا في النفل، كقول الإمام: من جاء بعشرة أرؤس فله منها رأس ونحو
ذلك، فقال أبو البركات: يخمس، وقال أبو محمد: الظاهر أنه لا يخمس. والله
أعلم.
قال: سهم للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصروف في الكراع،
والسلاح، ومصالح المسلمين.
ش: سهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باق بعد موته -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسقط، اعتمادا على الأصل، وهو
ثبوته.
2358 - وفي حديث جبير بن مطعم أنه قال: وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير أنه لم يكن يعطي قربى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عمر يعطيهم، ومن كان
بعده منه مختصرا، رواه البخاري.
(4/598)
2359 - وعن عمرو بن عبسة قال: «صلى بنا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بعير من المغنم، فلما
صلى أخذ وبرة من المغنم ثم قال: «لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس،
والخمس مردود فيكم» . رواه أبو داود، وروى نحوه النسائي عن عبادة بن
الصامت، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهو شامل لحال حياته، وحال وفاته،
ومصرفه مصالح المسلمين، كالفيء على المشهور، ولما تقدم من قوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: وهو مردود فيكم.
(وعن أحمد) رواية أخرى: يصرف في السلاح والكراع والمقاتلة خاصة.
2360 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت أموال بني
النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب،
فكانت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان ينفق على أهله
نفقة سنة -
(4/599)
وفي لفظ: يحبس لأهله قوت سنتهم - ويجعل ما
بقي في الكراع والسلاح عدة في سيبل الله» . متفق عليه.
(تنبيه) : «الوبرة» : واحدة الوبر للإبل، كالصوف للضأن، والشعر للمعز، قال
الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا
وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] .
«والكراع» : الخيل.
قال: وخمس مقسوم في صلبية بني هاشم، وبني المطلب، ابني عبد مناف، حيث
كانوا، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ش: قوله: في صلبية بني هاشم. يعني: أولاد هاشم، دون من يعد منهم من
مواليهم، وحلفائهم، وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على خمس
مسائل:
(إحداها) : أن سهم ذوي القربى ثابت بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا مذهبنا؛ لأنه سبحانه ذكرهم في كتابه من ذوي
السهام، والأصل: البقاء ما لم يعارضه معارض.
(4/600)
2361 - «وعن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا
وعثمان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول
الله أعطيت بني المطلب، وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم
شيء واحد» . وفي رواية: فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا.
وزاد: قال جبير: ولم يقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل شيئا» .
وقال ابن إسحاق: عبد شمس، وهاشم، والمطلب أخوة لأم، وأمهم عاتكة بنت مرة،
وكان نوفل أخاهم لأبيهم. هذه رواية البخاري.
2362 - وفي رواية أبي داود: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم يكن يقسم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل من الخمس شيئا، كما
قسم لبني هاشم وبني المطلب» ، قال: وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عمر يعطيهم ومن بعده.
وفي رواية: وعثمان بعده.
(4/601)
فهذان عمر وعثمان أعطيا بعد موته - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنع أبي بكر لعله لمانع قام عنده، والنسخ
لا يثبت بالاحتمال.
2363 - وعن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن سهم
ذوي القربى لمن هو؟ قال يزيد بن هرمز: فأنا كتبت كتاب ابن عباس إلى نجدة،
كتب إليه: كتبت تسألني عن سهم ذوي القربى لمن هو؟ وهو لنا أهل البيت، وقد
كان عمر دعانا إلى أن ينكح منه أيمنا، ويجدي منه عاملنا، ويقضي منه عن
غارمنا، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا فتركناه عليه. رواه أبو داود، والنسائي،
وأحمد، واحتج به، وهذا لفظه.
(4/602)
(الثانية) : أن ذا القربى بنو هاشم وبنو
المطلب ابني عبد مناف، دون مواليهم، وغير مواليهم، لما تقدم من حديث جبير -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والمعتبر الأب، لأن النسب له، فإن الهاشمي، وإن
لم تكن أمه هاشمية، يستحق، وابن الهاشمية لا يستحق إذا كان أبوه غير هاشمي.
(الثالثة) : أنه يجب تعميمهم، وتفرقته بينهم حيث كانوا حسب الإمكان، لأنه
سهم مستحق بالقرابة، أشبه الميراث، فعلى هذا يبعث الإمام إلى عماله في
الأقاليم، وينظر ما حصل من ذلك، فإن استوت الأخماس فرق كل خمس فيمن قاربه،
وإن اختلفت أمر بحمل الفضل ليدفع إلى مستحقه، قال أبو محمد: والصحيح إن شاء
الله تعالى أنه لا يجب التعميم، لأنه يتعذر أو يشق، فلم
(4/603)
يجب كالمساكين، والإمام ليس له حكم إلا في
قليل من بلاد الإسلام، فعلى هذا يفرقه كل سلطان فيما أمكن من بلاده. قلت:
ولا أظن الأصحاب يخالفون أبا محمد في هذا.
(الرابعة) : أن القسم بينهم يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو إحدى
الروايتين، وبه جزم أبو محمد في المقنع، لأنه سهم استحق بقرابة الأب شرعا،
ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث، وخرج ولد الأم والوصية.
(والرواية الثانية) : يسوى بين ذكرهم وأنثاهم، لأنهم أعطوا باسم القرابة،
والذكر والأنثى فيها سواء، أشبه ما لو وصى لقرابة فلان، يحققه أن الجد يأخذ
مع الأب، وابن الابن يأخذ مع الابن، وهذا خلاف الميراث.
(الخامسة) : أن غنيهم وفقيرهم فيه سواء، على عموم كلام الخرقي، وهو المشهور
المعروف، لعموم قَوْله تَعَالَى: {ولذي القربى} [الأنفال: 41] .
2364 - وفي الصحيحين في حديث طويل أن العباس وعليا جاءا يطلبان أن عمر يقضي
بينهما، فقال عمر: إن الله كان خص رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7]
قال: فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينكم أموال
بني النضير، فوالله ما استأثر بها عنكم، ولا أخذها دونكم. انتهى. والعباس
كان من الأغنياء، وقال
(4/604)
أبو إسحاق بن شاقلا: يختص به فقراؤهم، لما
تقدم عن عمر.
(تنبيه) : «الحرورية» : طائفة من الخوارج، نسبوا إلى «حروراء» اسم بلدة،
تمد وتقصر، كان أول مجتمعهم بها، وتحكيمهم فيها.
«ويحذي» : يعطي.
«والغارم» : المديون.
والاستئثار: الاستبداد بالشيء، والانفراد به، والله أعلم.
قال: والخمس الثالث في اليتامى.
ش: قد شهد النص بذلك، واليتيم من لا أب له، وإن كان له أم، ولم يبلغ الحلم.
2365 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد
البلوغ، ولا صمات يوم إلى الليل» .
(4/605)
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط فقرهم،
وإليه ميل أبي محمد، نظرا لإطلاق الآية الكريمة، واشترطه جمهور الأصحاب،
لأن ذا الأب لا يدفع إليه، والمال أنفع من الأب، قال أبو محمد: قال
الأصحاب: ويفرق على جميع أيتام البلاد، قال: والقول فيه كالقول في سهم ذي
القربى، والله أعلم.
قال: والخمس الرابع في المساكين.
ش: للنص، ويدخل فيهم الفقراء، إذ كل موضع ذكر فيه أحد الصنفين دخل الآخر،
وحيث أريدا ذكرا كما في الزكاة.
(4/606)
قال أبو محمد: قال أصحابنا: ويعم جميعهم في
جميع البلاد. قال: وقد تقدم قولنا في ذلك، والله أعلم.
قال: والخمس الخامس لابن السبيل.
ش: للنص، وسيأتي بيان ابن السبيل إن شاء الله تعالى، فإن اجتمع في واحد
أسباب، كمسكين هو ابن سبيل، يتيم، فإنه يعطى بكل منها، فإن أعطي فزال فقره؛
لم يعط له شيئا، والله أعلم.
قال: وأربعة أخماس الفيء لجميع المسلمين، بالسوية بينهم، غنيهم وفقيرهم فيه
سواء، إلا العبد.
ش: لما قال: إن الفيء يخمس. قال: إن أربعة أخماسه للمسلمين. وعلى المنصوص
جميعه للمسلمين، ولا نزاع أن العبيد لا حق لهم في الفيء، وقد تقدم عن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لم يبق رجل من المسلمين إلا وله في هذا
المال حق، إلا بعض من تملكون من أرقائكم، ومن عدا العبيد من المسلمين لهم
حق في الفيء في الجملة، فيصرف في مصالح المسلمين، إذ نفعها يعود على
جميعهم، ويبدأ بالأهم فالأهم، من سد الثغور، وكفاية أهلها وغيرهم من جند
(4/607)
المسلمين، ثم الأهم فالأهم، من سد البثوق،
وعمل القناطر، وأرزاق القضاة، والمفتين، والمؤذنين، ونحوهم، من كل ذي نفع
عام، وما فضل منه قسم بين المسلمين غنيهم وفقيرهم، على قول الخرقي.
والمشهور، لما تقدم عن عمر أنه قال: لم يبق رجل من المسلمين إلا وله في هذا
المال حق، وقرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إلى
قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وعن أحمد يقدم
ذووا الحاجات.
2366 - لما روى مالك بن أوس قال: [ذكر عمر يوما الفيء، فقال] : ما أنا بأحق
بهذا الفيء منكم، وما منا من أحد بأحق به من أحد إلا أنا على منازلنا من
كتاب الله عز وجل، وقسمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وحاجته، رواه أبو داود.
وقال القاضي: أهل الفيء هم أهل الجهاد، ومن يقوم بمصالحهم، ومن لا يعد نفسه
للجهاد، فلا حق له فيه.
وهل يلتفت إلى أن الفيء كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لحصول النصرة والمصلحة به، فلما مات صارت المصلحة للجند، وما
(4/608)
يحتاج إليه المسلمون، فصار ذلك لهم دون
غيرهم.
2367 - ويشهد لذلك قصة عمر المتقدمة: أن الله تعالى كان خص رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره، فقال
تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] قال: فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر بها عليكم،
ولا أخذها دونكم، حتى بقي هذا المال، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال. وفي
رواية: ثم يجعل ما بقي بجعل مال الله. والأول يلتفت إلى أن الفيء لم يكن
ملكا له، وإنما كان يتصرف فيه بالأمر، فهو لجميع المسلمين.
2368 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم
أضع حيث أمرت» رواه البخاري. انتهى. يبدأ عند العطاء بالمهاجرين، ثم
بالأنصار، ثم
(4/609)
بسائر المسلمين، ويبدأ بالأقرب فالأقرب من
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهل يفاضل بينهم؟ حكى أبو
محمد فيه روايتين، واختار أن ذلك موكول إلى رأي الإمام واجتهاده، وقال أبو
البركات: وفي جواز التفضيل بينهم بالسابقة روايتان. فخص الخلاف.
2369 - وقد روي عن أبي بكر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما سويا،
فيروى أن أبا بكر سوى، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله أتجعل الذين جاهدوا
في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وهجروا ديارهم كمن إنما دخلوا في الإسلام
كرها؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا
بلاغ.
(4/610)
2370 - وعن عمر وعثمان أنهما فضلا.
2371 - وعن نافع أن عمر كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابن
عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة
آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبوه، يقول: ليس هو ممن هاجر بنفسه.
(4/611)
2372 - وعن قيس بن أبي حازم قال: كان عطاء
البدريين خمسة آلاف، خمسة آلاف وقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم. رواهما
البخاري.
2373 - وعن عوف بن مالك قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى الأعزب
حظا. زاد في رواية: فدعينا، وكنت أدعى قبل عمار، فدعيت فأعطاني حظين، وكان
لي أهل، ثم دعي بعدي عمار بن ياسر فأعطي حظا واحدا» . رواه أبو داود، وأحمد
وحسنه، والله أعلم.
قال: وأربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة.
2374 - ش: كذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو إجماع في الجملة،
وقد دل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]
(4/612)
الآية، كما تقدم تقريره، وقوله: لمن شهد
الوقعة، يشمل من قاتل، ومن لم يقاتل، ممن قصده الجهاد، كالتجار، والصناع،
ويستثنى من الشاهدين صور ليس هذا موضع استثنائها.
[سهم الراجل والفارس من الغنيمة]
قال: وللراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، إلا أن يكون الفارس على هجين، فيكون
له سهمان، سهم له وسهم لهجينه.
ش: لما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الغنيمة تخمس، ذكر أن أربعة
أخماسها لشاهدي الوقعة، وذكر بطريق التبع بيان قسمة ذلك، وذكر ذلك في كتاب
الجهاد مستوفى، وهو محله واللائق به، فلنؤخره إلى هناك إن شاء الله تعالى.
[مصارف الصدقة]
قال: والصدقة لا يتجاوز بها الثمانية الأصناف التي سمى الله تعالى.
ش: أي الصدقة المفروضة، وقد تقدمت هذه المسألة في الزكاة، فلا حاجة إلى
إعادتها.
قال: (الفقراء) وهم الزمنى، والمكافيف، الذين لا حرفة لهم، والحرفة الصنعة،
ولا يملكون خمسين درهما، أو قيمتها
(4/613)
من الذهب، (والمساكين) وهم السؤّال وغير
السؤّال، ومن لهم الحرفة إلا أنهم لا يملكون خمسين درهما، أو قيمتها من
الذهب.
ش: لما ذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصدقة لا يجاوز بها الثمانية الأصناف
التي ذكرها الله تعالى طفق يبينها، وقد تقدم أن الفقراء والمساكين صنف واحد
في غير الزكاة، وأنهما في الزكاة صنفان، وقد أشعر كلام الخرقي - بل نصه -
على أن الفقر أشد من المسكنة، لأنه جعل الفقراء هم الزمنى، والمكافيف أي
العميان، الذين لا حرفة لهم، احترازا ممن له منهم حرفة، كمن ينفخ في الكير،
ونحو ذلك، وجعل المساكين السؤال وهو حرفة، أو من له منهم حرفة غير السؤال،
وقد أومأ أحمد إلى ذلك، وعليه الأصحاب، وينقل عن الأصمعي، وابن الأنباري،
وذلك لأن الله سبحانه بدأ بالفقراء، والعادة البداءة بالأهم، لا يقال:
فالغارم أسوأ حالا من الفقير، لأنه
(4/614)
اجتمع عليه الدين مع الفقر، لأنا نقول:
الغارم قد يكون غنيا، كالغارم لإصلاح ذات البين، فلذلك أخر، وأيضا قَوْله
تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي
الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فسماهم مساكين، مع أن لهم سفينة، لا يقال: سماهم
مساكين لضعفهم عن الدفع عن سفينتهم، بدليل {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ
يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] لأنا نقول: إطلاق المساكين
يقتضي الحاجة دون الدفع، فيكون هذا هو الظاهر، والحمل على الظاهر متعين، ما
لم يعارضه ما هو أقوى منه.
2375 - ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعاذ من الفقر.
2376 - وسأل المسكنة فقال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في
زمرة المساكين» .
(4/615)
2377 - وما يقال: إنه إنما استعاذ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فقر القلب، بدليل «ليس الغنى عن كثرة
العرض، وإنما الغنى غنى النفس» ويجاب عنه بما تقدم، والحق أن الظاهر أنه
إنما استعاذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فقر القلب، لأنه هو
المذموم، المطلوب عدمه، إذ من افتقر قلبه لا يزال حزينا ذليلا، وإن حصل له
من الدنيا ما عسى أن يحصل، أما من افتقر في المال، وحصل له غنى النفس، فهو
راض بما أعطاه ربه، محب له، صابر، فهو الفقير الصابر، [وهذا أمر في الحقيقة
مطلوب، فكيف يستعاذ منه، والظاهر أن سؤاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - المسكنة إنما هي الصفة التي يخرج بها عن هيئة المتكبرين،
والمتطاولين، فيكون] خاضعا لربه، ذليلا له، وهو مقام العبودية.
(4/616)
2378 - وفي الأثر أنه سبحانه أوحى إلى
موسى: إذا قمت بين يدي فقم مقام الذليل الحقير. وكذلك أوحى إلى عيسى -
عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. انتهى.
وأيضا فالاشتقاق يناسب ما قلناه، إذ «الفقير» مشتق من: فقر الظهر. فعيل
بمعنى مفعول، أي مفقور، وهو الذي نزعت فقرة ظهره، فانقطع صلبه، «والمسكين»
مفعيل من السكون، وهو الذي أسكنته الحاجة، ومن كسر صلبه أشد حالا من
الساكن، ذكر ذلك ابن الأنباري، وأما قوله سبحانه: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا
مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي: الملتصق بالتراب، المطروح عليه، فقال ابن
الأنباري: لما نعته الله بهذا علمنا أنه ليس كل مسكين بهذه الصفة، بل
الأغلب عليه أن يكون له شيء، فنعته بذلك أخرجه عن بقية المساكين. انتهى.
أو يقال: المراد بالمسكين هنا الفقير، إذ كل منهما يسمى فقيرا ومسكينا نظرا
للحاجة.
إذ تقرر هذا فضابط «الفقير» من لا شيء له أصلا، أو له شيء لا يقع موقعا من
كفايته، كمن كفايته درهمان، ويحصل له نصف درهم، ونحو ذلك، «والمسكين» من
يحصل له ما يقع موقعا من كفايته، كمن يحصل درهما في صورتنا، أو درهما
ونصفا، وشرط جواز الدفع إليهما عند الخرقي أن لا يملكا خمسين درهما، أو
قيمتها من الذهب، بناء على ما
(4/617)
تقدم له من أن من ملك [ذلك فهو غني، والغني
لا تحل له الصدقة، لكن قد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
أن من له حرفة ولا يملك خمسين درهما، أو من يملك، دون الخمسين درهما ولا
حرفة له، أن له أخذ الزكاة، وإن كان ذلك يقوم بكفايته، وليس كذلك، إذ من
حصلت له الكفاية بصناعة أو غيرها، ليس له أخذ الزكاة بلا ريب، وإن لم يملك
شيئا، وكلام الخرقي فيه إيماء لذلك، إذ لفظ «الفقير والمسكين» يشعران
بالحاجة، ومن له كفاية فليس بمحتاج. والله أعلم.
قال: والعاملين عليها وهم الجباة والحافظون لها.
ش: العمال على الزكاة هم الذين يبعثهم الإمام لجباية الصدقة، وحفظها،
وكتابتها، وحسبها، ونقلها، ومن في معناهم، وهم السعاة.
2379 - وقد بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جماعة، فبعث
عمر، ومعاذا، وأبا موسى، ورجلا من بني مخزوم، وغيرهم، وذكر أبو محمد
(4/618)
من العمال الكيال، والوزان، والعداد، وقال
في التلخيص: إن أجرة الكيال والوزان على المالك، وهو حسن، لأن ذلك من تمام
التسليم الواجب على المالك، وقد يقال: مراد أبي محمد إذا احتيج إلى الكيال
والوزان بعد ذلك، ويشترط للعامل البلوغ والعقل، والأمانة، لأنها ضرب من
الولاية، والولاية يشترط فيها ذلك، ولعدم صحة قبض الصبي، والمجنون، وخوف
ذهاب المال في يد الخائن، وفي اشتراط إسلامه، وكونه من غير ذوي القربى
روايتان تقدمتا، ولا يشترط حريته، ولا فقره، ولا فقهه، والله أعلم.
قال: والمؤلفة قلوبهم وهم المشركون المتألفون على الإسلام.
ش: قد تقدم الكلام في المؤلفة، وأن حكمهم باق، وهم
(4/619)
السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم، وهم
ضربان؛ مسلمون ومشركون، وهم قسمان؛ (قسم) يرجى إسلامه، وهو الذي ذكره
الخرقي، فيعطى لتقوى نيته في الإسلام، ويميل إليه.
2380 - فعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه،
قال: فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثيرة بين جبلين، من شاء الصدقة، فرجع
إلى قومه، وقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة» .
رواه أحمد. (وقسم) يخشى شره، فيعطى لكف شره وشر غيره معه.
2381 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن قوما كانوا يأتون
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن أعطاهم مدحوا الإسلام،
وقالوا: هذا دين حسن. وإن منعهم ذموا وعابوا» .
وأما المسلمون فعلى أربعة أضرب:
(الأول) :
(4/620)
قوم من سادات المسلمين، لهم نظراء من
الكفار، إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم فيعطون.
2382 - لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطى عدي بن حاتم والزبرقان
مع حسن نياتهما.
(الثاني) : سادات يرجى بعطيتهم قوة إيمانهم، فيعطون.
2383 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى عيينة بن
حصن، والأقرع بن حابس، وغيرهما.
(4/621)
2384 - وعن عمرو بن تغلب، «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى أناسا، وترك أناسا، فبلغه عن
الذين ترك أنهم عتبوا، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إني
أعطي ناسا، وأدع ناسا، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، أعطي أناسا لما في
قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أناسا لما في قلوبهم من الغنى والخير، منهم
عمرو بن تغلب» .
2385 - وعن أنس قال: «حين أفاء الله على رسوله أموال هوازن، طفق رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي رجالا من قريش مائة من الإبل،
فقال أناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يعطي قريشا ويمنعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر،
أتألفهم» متفق عليه.
(الثالث) : قوم في طرف بلاد الإسلام إذا أعطوا دفعوا عن من يليهم من
المسلمين.
(الرابع) : قوم إذا أعطوا جبوا الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخاف.
(تنبيهان) : «أحدهما» : يقبل قوله في ضعف نيته في الإسلام، ولا يقبل قوله
في أنه مطاع في قومه إلا ببينة.
(4/622)
(الثاني) : «الشاء» جمع شاة «والهلع»
تفسيره في قوله سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:
19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20] {وَإِذَا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] .
2386 - يروى عن الأصمعي أنه سئل عن تفسير الهلوع، فقال للسائل: اقرأ الآية.
«والحديث العهد» بالشيء القريب منه.
قال: وفي الرقاب، وهم المكاتبون، وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ
اللَّهُ - رواية أخرى أنه يعتق منها.
ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المراد بالرقاب، (فروي
عنه) - واختاره الخلال - أنهم المكاتبون فقط، ورجع عن القول بالعتق، قال في
رواية صالح: كنت أذهب إلى أن يعتق ثم جبنت عنه؛ لأنه يجر ولاءه، ويكون له
منفعته، وقال في رواية محمد بن موسى: كنت أقوله ثم هبته.
وقال في رواية ابن القاسم وسندي: قد جبنت. وذلك لأن ظاهر الآية الكريمة
يقتضي كونهم على صفة يوضع
(4/623)
سهمهم فيها، وهذا في المكاتبين، لأن سهمهم
يدفع إليهم، وما يقال من أن تقدير الآية: وفي حرية الرقاب. يقال: هذا فيه
إضمار والأصل عدمه، (وروى عنه) أنه العتق فقط، لأن الظاهر من إطلاق الرقبة
الرقبة الكاملة، وحقيقة ذلك في العتق، لأن المكاتب وجد فيه سبب الحرية،
(وروي عنه) - واختاره القاضي في التعليق وغيره - أن المراد من الرقاب
المكاتبون، وافتداء الأسرى، والعتق، لأن قوله: {وفي الرقاب} [التوبة: 60]
يدخل تحته المكاتبون، والعبد القن.
2387 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس أن يعتق من زكاة
ماله، ذكره عنه أحمد والبخاري.
2388 - وعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: دلني على عمل يقربني من
الجنة، ويباعدني من
(4/624)
النار، فقال: «أعتق النسمة، وفك الرقبة»
فقال: يا رسول الله أوليسا واحدا؟ قال: «لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها،
وفك الرقبة أن تعين في ثمنها» رواه أحمد، والدارقطني، وإذا ثبت الحكم في
المكاتب، والعبد القن، ففي افتداء الأسير بطريق الأولى، لأنه تخليص رقبته
من يد كافر، وهو أولى من تخليص الرقبة من يد مسلم.
وشرط المكاتب أن يكون مسلما، وأن لا يجد وفاء، ويجوز الدفع إليه قبل حلول
النجم، على أشهر القولين، وشرط المعتق أن لا يعتق بالشراء، نص عليه أحمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم.
قال: فما رجع من الولاء رد في مثله.
ش: يعني يعتق به أيضا، وقد تقدم حكم هذه المسألة فيما إذا أعتق عبدا سائبة،
إذ المسألتان حكمهما واحد، والله أعلم.
قال: والغارمين وهم المدينون، العاجزون عن وفاء دينهم.
(4/625)
ش: المدين العاجز عن وفاء دينه غارم بلا
ريب، وشرط الدفع إليه أن يكون غرمه في مباح، أما إذا كان في محرم، فلا يجوز
الدفع إليه قبل التوبة بلا ريب، حذارا من الإعانة على المعصية، وفيما بعد
التوبة وجهان: (الجواز) : وهو المذهب، اختاره القاضي، وابن عقيل، وأبو
البركات، وصاحب التلخيص، وغيرهم، نظرا إلى زوال أثر الذنب بالتوبة، إذ
التوبة تجب ما قبلها.
(والمنع) : حسما للمادة، لاحتمال العود ثقة بالوفاء.
ومن الغارمين ضرب غرم لإصلاح ذات البين، وهو أن يقع بين الحيين أو أهل
القريتين عداوة، يتلف فيها نفس أو مال، ويتوقف صلحهم على من يتحمل ذلك،
فيتحملها إنسان، فيجوز الدفع إليه وإن قدر على الوفاء، لأن إعطاءه
لمصلحتنا.
2389 - وفي مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي «عن قبيصة بن مخارق الهلالي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة
فنأمر لك بها» ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة؛
رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة
اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما عن عيش - أو قال -: سدادا من
عيش - ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت
فلانا فاقة؛ فحلت له المسألة حتى
(4/626)
يصيب قواما من عيش - أو قال: سدادا من عيش
- فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا» . انتهى.
أما من تحمل لضمان أو كفالة، فحكمه حكم من غرم لمصلحة نفسه، فلا يعطى مع
الغنى، وقيل: بل حكمه حكم من غرم لإصلاح ذات البين، فيعطى وإن كان غنيا،
بشرط أن يكون الأصل معسرا.
(تنبيهان) : «أحدهما» : إذا أراد الدفع إلى الغارم فهل يجب الدفع إليه
ليقضي دينه، أو يجوز الدفع إلى غريمه وفاء عن الدين؟ فيه روايتان؛ أنصهما
الجواز.
«الثاني» : «الحمالة» بفتح الحاء، والله أعلم.
قال: وسهم في سبيل الله، وهم الغزاة، يعطون ما يشترون به الدواب والسلاح
وما يتقوون به على العدو، وإن كانوا أغنياء.
ش: لا خلاف أن الغزاة من السبيل، اعتمادا على العرف في ذلك، ونظرا إلى أن
عامة ما ورد في القرآن كذلك، ويجوز الدفع إليهم وإن كانوا أغنياء كما تقدم،
ويشترط كونهم من غير أهل الديوان، ويقبل قوله في إرادة الغزو، وهل يجوز
للمزكي أن يشتري الدواب، والسلاح، ونحوهما، ويدفعها إليه، أو يجب أن يدفع
إليه المال، ليشتري هو بنفسه؟ فيه روايتان، أشهرهما الثانية، والله أعلم.
(4/627)
قال: ويعطى أيضا في الحج، وهو من سبيل الله
تعالى.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية الميموني، والمروذي، وعبد الله، واختاره القاضي
في التعليق وجماعة.
2390 - لما روي «عن أم معقل الأسدية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن زوجها
جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة، فسألت زوجها البكر، فأبى، فأتت
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فأمره أن
يعطيها، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحج
والعمرة في سبيل الله» رواه أحمد.
(4/628)
2391 - وعن أبي لاس الخزاعي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «حملنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- على إبل الصدقة إلى الحج» . رواه أحمد، وذكره البخاري تعليقا.
2392 - وعن ابن عمر أنه قال: الحج من سبيل الله. وعن ابن عباس نحوه. (وعن
أحمد) رواية أخرى: أن الحج ليس من السبيل، اختارها أبو محمد، اعتمادا على
أن العرف في إطلاق السبيل إرادة الغزو، ونظرا إلى أن المعطى من الأصناف إما
لمصلحته؛ كالفقير، والمسكين، والمكاتب والغارم لقضاء دينه، أو لمصلحتنا؛
كالعامل، والغازي، والمؤلف، والغارم
(4/629)
لإصلاح ذات البين، والحج لا نفع للمسلمين
فيه، ولا للفقير، لعدم وجوب الحج عليه، وأجاب القاضي بأن له فيه مصلحة،
لأنه يسقط به فرضا ماضيا أو مستقبلا. انتهى.
وقد يقال: إنه من مصلحتنا، لما فيه من الاهتمام بهذا الشعار العظيم.
(تنبيه) : إذا قلنا: يعطى في الحج؛ فشرط المدفوع إليه الفقر، على ما جزم به
الشيخان وغيرهما، وهو أحد احتمالي صاحب التلخيص، وهل يشترط كون الحج فرضا؟
شرطه أبو الخطاب، وتبعه عليه أبو محمد في المقنع، وهو مقتضى جواب القاضي
المتقدم، ولم يشترطه الأكثرون؛ الخرقي، والقاضي، وصاحب التلخيص، وأبو
البركات، وغيرهم، والله أعلم.
قال: (وابن السبيل) وهو المنقطع به، وله اليسار في بلده، فيعطى من الصدقة
ما يبلغه.
ش: ابن السبيل: المسافر الذي ليس معه ما يوصله إلى بلده، وإن كان له اليسار
في بلده، هـ ذا هو المذهب المنصوص المعروف، اعتمادا على حقيقة اللفظ، إذ
حقيقة اللفظ أن ابن السبيل هو المسافر، لملازمته للسبيل، دون منشئ السفر من
بلده، فإنه إنما يصير ابن السبيل في المآل.
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على جواز الدفع لمن أراد إنشاء
السفر
(4/630)
نظرا إلى أنه إنما يأخذ لسفر مستقبل، إذ
الماضي قد انقضى حكمه، فإن كان ابن السبيل مجتازا، يريد بلدا غير بلده،
فظاهر كلام الخرقي - وهو قول عامة الأصحاب -: أنه يجوز أن يدفع إليه ما
يكفيه في مضيه إلى مقصده، ورجوعه إلى بلده، بشرط كون السفر جائزا، إما قربة
كالحج ونحوه، وإما مباحا كالتجارة ونحوها، ولا يجوز الدفع في سفر المعصية،
وفي سفر النزهة وجهان: (الجواز) ؛ لعدم المعصية، (والمنع) ؛ لعدم الحاجة
إليه، واختار أبو محمد: منع الإعطاء لمن أراد غير بلده، لأن احتياجه إلى
بلده آكد، فلا يلحق به غيره، والله أعلم.
قال: وليس عليه أن يعطي لكل هؤلاء الأصناف، وإن كانوا موجودين، وإنما عليه
أن لا يجاوزهم.
ش: قد تقدمت هذه المسألة، وحكمها في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادته، ونزيد
هنا أنه إذا اجتمع في واحد سببان، جاز له الأخذ بكل منها، كغارم وفقير،
يعطى لغرمه، ثم ما يغنيه، والله أعلم.
قال: ولا يعطى من الصدقة المفروضة لبني هاشم، ولا لمواليهم، ولا للوالدين
وإن علوا، ولا للولد وإن سفل، ولا
(4/631)
للزوج، ولا للزوجة، ولا لمن تلزمه مؤنته،
ولا لكافر، ولا للمملوك، إلا أن يكونوا من العاملين، فيعطون بحق ما عملوا،
ولا لغني، وهو الذي يملك خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب.
ش: قد تقدمت هذه المسائل مستوفاة في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادتها، والله
أعلم.
قال: وإذا تولى الرجل إخراج زكاته سقط العاملون.
ش: قد تقدمت هذه المسألة أيضا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(4/632)
|