شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [باب نكاح أهل الشرك وغيره]
[حكم إسلام الوثني وقد تزوج بأربع وثنيات]
باب نكاح أهل الشرك وغيره قال: وإذا
أسلم الوثني وقد تزوج بأربع وثنيات ولم يدخل بهن بن منه.
ش: لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}
[الممتحنة: 10] ، {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
[الممتحنة: 10] ولأنه اختلاف دين يمنع الإقرار على النكاح، فإذا وجد قبل
الدخول تعلقت به الفرقة في الحال كالردة.
وقول الخرقي: وإذا أسلم الوثني. وكذلك كل كافر وإن كان من أهل الكتاب،
وقوله: وقد تزوج بأربع. لا مفهوم له،
(5/200)
بل لو تزوج بواحدة أو أكثر كان كذلك،
وقوله: وثنيات. وكذلك من في معناهن كالمجوسيات، أما لو كن كتابيات فإن
النكاح لا ينفسخ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
(تنبيه) البينونة هنا فسخ لا طلاق، نص عليه أحمد. والله أعلم.
قال: وكان لكل واحدة منهن نصف ما سمي لها إن كان حلالا، أو نصف صداق مثلها
إن كان ما سمي لها حراما.
ش: إذا بن منه والحال ما تقدم كان لكل واحدة منهن نصف الصداق، على المشهور
من الروايتين، والمختار للأصحاب، الخرقي، وأبي بكر والقاضي وغيرهم، إذ
الفرقة حقيقة من جهته، أشبه ما لو طلقها (والثانية) لا شيء لها، نظرا إلى
أنه قد فعل الواجب عليه، وهي بتأخرها عن الإسلام كأن الفرقة من جهتها،
وحذارا من التنفير عن الإسلام، باجتماع فسخ النكاح عليه، ووجوب المهر، وعلى
المذهب لها نصف المسمى إن كان صحيحا، أو نصف مهر مثلها إن كان فاسدا، وإن
لم يكن مسمى فالمتعة، والله أعلم.
قال: ولو أسلم النساء قبله وقبل الدخول بن منه أيضا.
ش: لما تقدم فيما إذا أسلم الزوج وحذرا من إقرار مسلمة تحت مشرك، والله
أعلم.
قال: ولا شيء عليه لواحدة منهن.
ش: قطع بهذا جمهور الأصحاب، ونص عليه أحمد، معللا
(5/201)
بأن الفرقة جاءت من جهتها، ونقل أبو محمد
عن أحمد رواية أخرى، وزعم أنها اختيار أبي بكر أن لها نصف المهر، نظرا إلى
أن الفرقة جاءت من قبل الزوج، بتأخره عن الإسلام، والمنقول عن أحمد في
رواية الأثرم التوقف، والله أعلم.
قال: فإن كان إسلامه وإسلامهن قبل الدخول معا فهن زوجات.
ش: لأن المحذور وهو اختلاف الدين منتف.
2541 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا جاء مسلما على
عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم جاءت امرأته مسلمة
بعده، فقال: يا رسول الله إنها قد كانت أسلمت معي. فردها عليه» ، رواه أبو
داود والترمذي وصححه، والمعية أن يتلفظا بالإسلام دفعة واحدة، على ظاهر
كلام الخرقي وغيره، وصرح به أبو محمد، وحكى احتمالا بأن المعية أن يسلم
المتأخر منهما في المجلس، نظرا إلى أن حكم المجلس حكم العقد، بدليل
(5/202)
القبض ونحوه، واختار أبو العباس أن المعية
أن يشرع الثاني قبل أن يفرغ الأول، والله أعلم.
قال: فإن كان دخل بهن ثم أسلم فمن لم يسلم منهن قبل انقضاء عدتها حرمت عليه
منذ اختلف الدينان.
ش: هذا هو المشهور من الروايات، قال أبو بكر: رواه عنه نحو من خمسين رجلا،
والمختار لعامة الأصحاب الخرقي والقاضي، وأصحابه، والشيخين وغير واحد.
2542 - لما «روى الزهري أن نساء كن في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات، وأزواجهن حين أسلمن
كفار، منهن بنت الوليد بن المغيرة، وكانت تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم
الفتح، وهرب صفوان من الإسلام، فبعث إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن عمه وهب بن عمير، برداء رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمانا لصفوان، ودعاه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإسلام، وأن يقدم عليه، فإن رضي أمرا
قبله، وإلا سيره شهرين، فلما قدم صفوان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بردائه ناداه على رؤوس الناس، فقال: يا محمد هذا وهب
بن عمير جاءني بردائك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرا
قبلته، وإلا سيرتني شهرين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «انزل أبا وهب» فقال: والله لا أنزل حتى تبين لي؛ فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل لك سير أربعة أشهر» فخرج
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل هوازن بحنين، فأرسل
إلى
(5/203)
صفوان يستعير أداة وسلاحا عنده، فقال
صفوان: أطوعا أم كرها؟ فقال: «بل طوعا» فأعاره الأداة والسلاح التي عنده،
ثم رجع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو كافر، فشهد
حنينا والطائف وهو كافر، وامرأته مسلمة، ولم يفرق رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينه وبين امرأته حتى أسلم صفوان، واستقرت
عنده امرأته بذلك النكاح» ، قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وإسلام
امرأته نحو من شهر.
2543 - وعنه أيضا «أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام - وكانت تحت عكرمة بن أبي
جهل - أسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة من الإسلام، حتى قدم اليمن،
فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم على
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فلما رآه رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثب إليه فرحا، وما عليه رداء،
حتى بايعه فثبتا على نكاحهما» ، رواهما مالك في الموطأ، وهذان وإن كانا
قضية في عين، فيحملان على ما بعد العدة، إذ الظاهر ذلك.
(5/204)
2544 - ولأن في حديث الزهري: ولم يبلغنا أن
امرأة هاجرت إلى الله وإلى رسوله وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت
هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها.
2545 - وقال ابن شبرمة: «كان الناس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما
أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته، فإن أسلم بعد العدة فلا نكاح
بينهما» . وخرج ما قبل الدخول، لعدم العدة، فإن قيل:
2546 - فقد روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «رد رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح
الأول، بعد ست سنين ولم يحدث شيئا» ، رواه أبو داود والترمذي، وقال: ليس
بإسناده بأس، وابن ماجه وقال: بعد سنتين. كذلك قال أبو داود في رواية أخرى،
وصححه الحاكم وغيره.
(5/205)
قيل: قد أجيب عنه بأجوبة (منها) بالطعن
فيه، فإنه من رواية داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو نسخة ضعف أمرها علي بن المديني وغيره، وقال أحمد
في رواية أبي طالب ما أراه يصح، يختلفون فيه.
2547 - ويؤيد ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد،
ونكاح جديد» ، رواه الترمذي وغيره. لكن أهل العلم بالحديث على أن حديث ابن
عباس أصح، قال أحمد: «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رد ابنته بالنكاح الأول» ، فقيل له: يروى أنه ردها بنكاح مستأنف؟ قال: ليس
لذلك أصل. وقال البخاري: حديث ابن عباس أصح من حديث عمرو بن شعيب. وقال
الدارقطني: حديث عمرو هذا لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس (الثاني) وهو
الذي اعتمده الخطابي وغيره أنها قضية
(5/206)
عين، فيحتمل أنها بقيت في عدتها، بأن كانت
حاملا، أو ارتفع حيضها برضاع ونحوه (الثالث) دعوى نسخه بأنه كان قبل نزول
تحريم المسلمات على الكفار (والرواية الثانية) ينفسخ النكاح في الحال، كما
قبل الدخول، اختارها الخلال وصاحبه، لقوله سبحانه: {فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا
أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}
[الممتحنة: 10] والدليل منها من أوجه (أحدها) عموم: {لَا هُنَّ حِلٌّ
لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] (الثاني) قَوْله
تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] فأمر برد المهر ولو
لم تقع الفرقة باختلاف الدين لما أمر برد المهر (الثالث) قوله: {وَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فأباح سبحانه
نكاحهن على الإطلاق (الرابع) قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وعلى هذا فما تقدم يكون منسوخا بهذه الآية
الكريمة وأجيب (عن الأول) بأن المراد: في حال كفرهن، بدليل: {فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]
(5/207)
(وعن الثاني) بأنه كان يجب دفع المهر إلى
الزوج إذا جاء وإن كان قبل انقضاء عدتها، لانتفاء ردها إليه، فإن أسلم قبل
انقضائها سقط وجوب المهر، ووجب تسليمها إليه، ثم نسخ وجوب دفع المهر إليه
(وعن الثالث) بأنه محمول على ما بعد العدة، وكذا الجواب (عن الرابع) جمعا
بين الأدلة (والرواية الثالثة) الوقف بإسلام الكتابية، والانفساخ بغيرها
(والرواية الرابعة) الوقف، قال: أحب إلي الوقف عندنا، وقيل عنه ما يدل (على
خامسة) وهو الأخذ بظاهر حديث زينب، وأنها ترد ولو بعد العدة.
وظاهر كلام الخرقي أن الفرقة حيث تقع، تقع في الحال، ولا يحتاج إلى حاكم،
ولا إلى عرض الزوج على الإسلام، ونص عليه أحمد والأصحاب، وظاهر كلامه أيضا
أنه لا فرق في هذا الحكم بين دار الحرب ودار الإسلام، ونص عليه أحمد
والأصحاب.
2548 - وقد «روي أن أبا سفيان أسلم بمر الظهران، ثم أسلمت امرأته بمكة،
فأقرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نكاحهما» والله
أعلم.
(5/208)
[حكم من أسلم
وتحته أكثر من أربع نسوة]
قال: ولو نكح أكثر من أربع في عقد واحد، أو في عقود متفرقة، ثم أصابهن، ثم
أسلم ثم أسلمت كل واحدة منهن في عدتها، أمسك أربعا منهن، وفارق ما سواهن،
سواء كان من أمسك منهن أول من عقد عليهن أو آخرهن.
2549 - ش: الأصل في هذا ما «روى الحارث بن قيس الأسدي أو قيس بن الحارث
قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اختر منهن
أربعا» رواه أبو داود وابن ماجه، وقد ضعف من قبل محمد بن عبد الرحمن بن أبي
ليلى.
2550 - وعن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن غيلان بن
سلمة أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخير أربعا منهن» . رواه الترمذي وابن
ماجه، وهذا وإن
(5/209)
كان مرسلا على الصحيح عند الأئمة، قاله
الإمام أحمد والبخاري وغيرهما، إلا أنه قد عضده الذي قبله، فصار حجة
بالاتفاق، ولهذا احتج به أحمد في رواية أبي الحارث، وتأويله بأن «اختر
أربعا» بمعنى: اختر أربعا تعقد عليهن عقدا جديدا، مردود بأن في الدارقطني
«أمسك منهن أربعا» والإمساك إنما هو بالعقد الأول، كما في قوله سبحانه:
{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ثم إن تجديد العقد ليس إليه،
والشارع قد فوض الاختيار إليه، وحمله على أنه تزوجهن في عقود، وأنه يختار
الأوائل، بعيد من اللفظ جدا.
2551 - ثم في بعض روايات حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن
رجلا قال: يا رسول الله ما ترى في من أسلم وله عشر نسوة؟ قال: يتخير منهن
أربعا» وهذا يخرج الحديث عن أن يكون واقعة عين.
وقول الخرقي: نكح أكثر من أربع. بيان صورة المسألة، إذ لو نكح أربعا فما
دون والحال ما تقدم ثبت نكاحهن، (وقوله) في عقد واحد أو في عقود متفرقة،
يحترز به عن
(5/210)
مذهب الحنفية، إذ عندهم أنهم إن كانوا في
عقد واحد انفسخ نكاحهن، وإن كانوا في عقود صح نكاح الأوائل، (وقوله) ثم
أصابهن. لأنه لو لم يصبهن انفسخ نكاحهن في الحال، لكون إسلامه قبل الدخول،
نعم لو كان إسلامهن معه تخير، والخرقي إنما صور المسألة فيما إذا وقع
إسلامهن بعد إسلامه، (وقوله) ثم أسلم، ثم أسلمت كل واحدة منهن، يحترز به
عما إذا أسلم أربع منهن فما دون، فإنه لا يخير (وقوله) : في عدتهن. يحترز
به عما إذا تأخر إسلامهن عن العدة، فإن نكاحهن ينفسخ كما تقدم، ولا تخيير،
(وقوله) : أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن، هذا هو الحكم، وهو واجب عليه إن
اختار البقاء على النكاح، وإن اختار ترك نكاح الجميع فله ذلك، لكن يكون في
أربع بطلاق، لأنهن زوجات، وفي الباقيات فسخ، (وقوله) : سواء كان من أمسك
منهن أول من عقد عليهن أو آخرهن. هو من تمام الاحتراز عن مذهب الحنفية،
والضمير في نكح، وفي الأربع، يرجع إلى الوثني أي ولو نكح الوثني أكثر من
أربع وثنيات، فلا يرد عليه إذ أسلم زوج الكتابيات فإنه يتخير منهن، ولا
يشترط إسلامهن.
(5/211)
(تنبيهات) أحدها عموم كلام الخرقي يشمل ما
إذا كان محرما، وقاله أبو محمد، وقال القاضي: لا يختار والحال هذه، ويشبه
هذا الارتجاع في الإحرام (الثاني) لو أسلمت المرأة ولها زوجان أو أكثر،
تزوجاها في عقد واحد، لم يكن لها أن تختار أحدهما، ذكره القاضي وغيره محل
وفاق، لأن البضع حصل بينهما مشتركا، بخلاف ما تقدم، فإن الزوج ملك بضع كل
واحدة. (الثالث) صفة الاختيار والفراق وضابطه أن كل لفظ دل على الاختيار
فهو اختيار، وكل لفظ دل على الفراق فهو فراق، ومثاله أن يقول لأربع من ثمان
مثلا: أمسكت هؤلاء. أو اخترتهن، أو رضيتهن، ونحو ذلك، أو يقول: تركت هؤلاء
الأربع، أو فسخت نكاحهن، فيثبت نكاح الأخر، فإن طلق إحداهن كان اختيارا، إذ
الطلاق لا يكون إلا في زوجته، وكذلك لو أتى بلفظ الفراق أو السراح، ناويا
به الطلاق، وإن أطلق فاحتمالان مبنيان - والله أعلم - على أنهما هل هما
صريحان في الطلاق أو لا، وكذلك لو وطئ على المذهب لتضمنه الرضى بالموطوءة،
ووقع للقاضي في التعليق في باب الرجعة أنه لا يكون اختيارا، وإن ظاهر أو
آلى من إحداهما فوجهان، أشهرهما: لا يكون اختيارا لصحته في غير زوجته،
والثاني يكون اختيارا، لأن حكمه لا يترتب إلا في زوجة، والله أعلم.
(5/212)
[حكم من أسلم
وتحته أختان]
قال: ولو أسلم وتحته أختان منهما واحدة.
2552 - ش: لما «روى ابن فيروز الديلمي عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان؟ فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طلق أيتهما شئت» » رواه أحمد وأبو داود،
وابن ماجه والترمذي، وحسنة ولفظه «اختر أيتهما شئت» وصححه البيهقي، وكذلك
الحكم فيمن يحرم الجمع بينهما، كالمرأة وعمتها، ونحو ذلك، وشرط الاختيار أن
تكونا كتابيتين أو غيرهما، ويسلما معه، أو بعده في العدة إن كانت في عدة،
على المذهب، أما إن لم تكن عدة كقبل الدخول، فإن نكاحهما ينفسخ، فإن أسلمت
إحداهما دون الأخرى، فقبل الدخول يثبت نكاح المسلمة، ويزول نكاح المشركة إن
لم تكن كتابية، فإن كانت كتابية فكذلك على ما أورده ابن حمدان مذهبا: وقيل:
يخير، وهو القياس، وبعد الدخول كذلك على
(5/213)
رواية، وعلى المشهور يقف الفسخ على انقضاء
العدة، فإن أسلمت الأخرى فيها خير، وإلا انفسخ نكاحها، والله أعلم.
قال: ولو كانتا أما وبنتا فأسلم وأسلمتا معا قبل الدخول فسد نكاح الأم، وإن
كان دخل بالأم فسد نكاحهما.
ش: إذا أسلم وتحته اثنتان إحداهما أم الأخرى، فأسلمتا معا قبل الدخول بالأم
فسد نكاح الأم، لأنها أم معقود على ابنتها، فتدخل تحت قَوْله تَعَالَى:
{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وأنكحة الكفار صحيحة أو في حكم
الصحيحة، وإن كان قد دخل بالأم فسد نكاحهما، لأنها إذا ربيبة مدخول بأمها،
فتدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] الآية، ولو لم
يسلم إلا إحداهما فكذلك، إن كانت المسلمة الأم فسد نكاحهما، وكذلك إن كانت
البنت وقد دخل بأمها، وإلا ثبت نكاحها، والله أعلم.
[الحكم لو أسلم العبد وتحته زوجتان]
قال: ولو أسلم عبد وتحته زوجتان، وقد دخل بهما فأسلمتا في العدة، فهما
زوجتاه، ولو كن أكثر اختار منهن اثنتين.
ش: إذا أسلم عبد وتحته زوجتان مدخول بهما، فأسلمتا في العدة ثبت نكاحهما،
لأن له والحال هذه ابتداء نكاحهما، فكذلك استدامته، وسواء كانتا حرتين أو
أمتين أو مختلفتين، نعم هل للحرة والحال هذه خيار الفسخ؟ قال القاضي في
المجرد، وابن عقيل: قياس المذهب لا؛ واختاره أبو محمد، لأنها
(5/214)
رضيت به كذلك، وجعله القاضي في الجامع
كالعيب الحادث، نظرا بأن الرق ليس بنقص، وإن كان عيبا، لكن لا يؤثر في
الكفر، وإنما يؤثر ما ليس بنقص في الكفر في الإسلام، وإن كن أكثر من اثنتين
فأسلمن في العدة لم يكن له أن يختار أكثر من اثنتين، كابتداء النكاح، وله
أن يختار ولو حرة وأمة على الصحيح.
قال: وإذا تزوجها وهما كتابيان، فأسلم قبل الدخول أو بعده فهي زوجته.
ش: لأنه والحال هذه يجوز له ابتداء نكاحها، فكان له استدامته، مع أن هذا قد
حكاه أحمد وابن عبد البر وغيرهما إجماعا والله أعلم.
قال: وإن كانت هي المسلمة قبله وقبل الدخول انفسخ النكاح ولا مهر لها.
ش: أما الفسخ فلأن المسلمة لا تقر تحت مشرك، وأما عدم المهر فلأن الفرقة
جاءت من قبلها، وقد تقدم حكاية رواية أخرى أن لها نصف المهر، ولو كان
إسلامها والحال هذه بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة على المذهب، فإن
أسلم فيها وإلا انفسخ النكاح، ولو أسلما معا فالنكاح بحاله، والله أعلم.
(5/215)
قال: وما سمي لها وهما كافران فقبضته ثم
أسلمت فليس بها غيره، وإن كان حراما، ولو لم تقبضه وهو حرام فلها عليه مهر
مثلها، أو نصف مهر مثلها حيث أوجب ذلك.
ش: إذا سمي الكافران تسمية فاسدة فقبضتها المرأة فلا شيء لها سواها،
لوقوعها الموقع بالقبض، بدليل قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] أمر
سبحانه بترك ما بقي دون ما قبض، وقال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ
مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}
[البقرة: 275] والحكمة في ذلك والله أعلم أن إبطال ما قبض يشق، لتطاول
الزمان، وكثرة تصرفهم في الحرام، ولما في ذلك من التنفير عن الإسلام، ولذلك
لا يجب عليهم قضاء الفرائض ونحوها، وإن لم تقبضه المرأة فلها عليه مهر
مثلها، أو نصف مهر مثلها حيث أوجب ذلك، على المذهب عند الأصحاب بلا ريب،
لأن الممضي للتسمية الفاسدة القبض ولم يوجد، والقاعدة أن التسمية إذا كانت
فاسدة وجب مهر المثل إن دخل بها، أو نصفه إن لم يدخل بها، وخرج القاضي في
تعليقه رواية أخرى في الخمر والخنزير أن لا شيء لها في معينه، لأنه قد تعذر
تسليمه، وخرج عن كونه مالا بالإسلام، ومن أصلنا أن المعين إذا تلف قبل قبضه
سقط، وأن لها في غير المعين قيمته، لأن أحمد قال في رواية الميموني في عاشر
المسلمين: يقوم الخمر عليهم، ويأخذ العشر من ثمنها. انتهى ونقل
(5/216)
عنه ابن منصور في نصراني تزوج نصرانية على
قلة خمر، ثم أسلما: فإن دخل بها فهو جائز، وإن لم يدخل بها فلها صداق
مثلها، وظاهر هذا أن قبل الدخول يجب صداق المثل بكل حال، وإن قبضت المحرم،
قال أبو العباس: وهو قوي؛ إذ تقابض الكفار إنما يمضي على المشهور إذا وجد
عن الطرفين، وهنا البضع لم يقبض.
وقد تضمن كلام الخرقي أن التسمية الصحيحة تمضي بكل حال، وهو واضح، والله
أعلم.
قال: ولو تزوجها وهما مسلمان، فارتدت قبل الدخول انفسخ النكاح ولا مهر لها.
ش: أما فسخ النكاح فلأن المسلم لا يتزوج مرتدة، فلا يستديم نكاحها، ولا عدة
تنتظر، وأما عدم المهر فلأن الفرقة جاءت من قبلها.
قال: ولو كان هو المرتد قبلها فكذلك، إلا أن عليه نصف المهر.
ش: يعني ينفسخ النكاح لما تقدم، ولظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ونحوه، وعليه نصف المهر، لوجود
الفرقة من جهته.
قال: ولو كانت ردتها بعد الدخول فلا نفقة لها.
ش: لأنه قد امتنع بردتها من الاستمتاع، فلا يجب لها النفقة كالناشز.
(5/217)
قال: وإن لم تسلم في عدتها انفسخ النكاح.
ش: لا إشكال في ذلك كما تقدم، أما إن أسلمت في عدتها فمفهوم كلامه ثبوت
النكاح، وهو بناء على مختاره من القول بالوقف، وعلى الرواية الأخرى لا وقف،
فينفسخ النكاح حين ارتدادها، وقد تقدم توجيه الروايتين، والله أعلم.
قال: ولو كان هو المرتد بعد الدخول، فلم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدتها
انفسخ النكاح منذ اختلف الدينان.
ش: حكم الرجل في ارتداده بعد الدخول حكم المرأة في فسخ النكاح وعدمه، أما
في النفقة فتجب، ولهذا سكت عنها الخرقي، ونفاها فيما إذا كانت هي المرتدة،
لأن التسليم منها موجود، والامتناع من جهته بارتداده.
(تنبيه) لم يتعرض الخرقي لما إذا ارتدا معا، والحكم أن النكاح ينفسخ إن كان
قبل الدخول، إذ كل حكم يتعلق بردة أحدهما تعلق بردة معه، أصله استباحة دمه
وماله، ولأن الإنشاء والحال هذه لا يجوز، فكذلك الاستدامة، ويقف على انقضاء
العدة إن كان بعد الدخول على المشهور من الروايتين، وهل يجب نصف المهر إن
كانت الردة قبل الدخول؟ فيه وجهان، إذ الفرقة منهما، فهو كتلاعنهما ونحوه،
وتجب النفقة مع الوقف، لأنها كانت واجبة، ولم تنفرد المرأة بما يسقطها،
والله أعلم.
(5/218)
[نكاح الشغار]
قال: وإذا زوجه وليته، على أن يزوجه الآخر وليته، فلا نكاح بينهما وإن سموا
مع ذلك صداقا.
ش: إذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، فلا يخلو إما أن يسموا مع ذلك
صداقا أو لا، فإن لم يسموا مع ذلك صداقا فلا خلاف عن أحمد نعلمه، ولا نزاع
بين الأصحاب في بطلان النكاح.
2553 - لما روى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشغار، والشغار أن
يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق» . رواه
الجماعة، لكن الترمذي لم يذكر تفسير الشغار، وأبو داود جعله من كلام نافع،
وهو كذلك في رواية متفق عليها.
2554 - وعن ابن عمر أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «لا شغار في الإسلام» رواه مسلم.
2555 - وروي نحوه من حديث عمران بن حصين، وأنس وجابر بن عبد الله - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - وغيرهم، والنهي يدل على فساد المنهي
(5/219)
عنه، والنفي لنفي الحقيقة الشرعية، ويؤيد
ذلك فعل الصحابة.
2556 - قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أنهما فرقا فيه، وكذلك معاوية أمر بذلك.
وخرج أبو الخطاب في هدايته، ومن تبعه رواية ببطلان الشرط، وصحة العقد، من
نصه في رواية الأثرم: إذا تزوجها بشرط الخيار أو إن جاءها بالمهر في وقت
كذا وإلا فلا نكاح، أن النكاح جائز، والشرط باطل، إذ فساد التسمية لا يوجب
فساد العقد، كما لو تزوجها على خمر أو خنزير، فعلى هذا يجب مهر المثل
انتهى.
وإن سموا مع ذلك صداقا فالمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصحة، وعليه
عامة الأصحاب، لما تقدم من حديث ابن عمر إذ هذا التفسير إن كان من الرسول
فواضح، وإن كان من نافع فهو راوي الحديث، وقد فسره بما لا يخالف ظاهره
فيتبع.
2557 - وقد روى البيهقي عن أبي الزبير عن جابر قال: «نهى رسول الله
(5/220)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
الشغار، والشغار أن تنكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه، وبضع هذه
صداق هذه» . وقال الخرقي، وأبو بكر في الخلاف: لا يصح أيضا، وحكاه في
الجامع رواية.
2558 - لما روى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، «أن العباس بن عبد الله بن عباس
أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وقد كانا جعلا
صداقا، فكتب معاوية بن أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى مروان
بن الحكم يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. رواه أحمد وأبو داود،
وأجيب بأن أحمد ضعفه من قبل راويه ابن إسحاق، وبأنه يحمل على أنهما كانا
جعلا مهرا قليلا حيلة.
وحكى أبو البركات قولا ثالثا وصححه أنه إن قيل فيه: وبضع كل واحدة منهما
مهر الأخرى لم يصح، للتصريح بالتشريك المقتضي للبطلان، وإلا صح، لأن غايته
شرط فاسد، فيفسد ويصح النكاح، وقد ذكر أن ابن عمر فسر الشغار بأن يقول:
وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى. لكن هذا التفسير
(5/221)
لا يعرف في الصحاح ولا في السنن.
واعلم أن أبا محمد قال - تبعا للقاضي في الجامع الكبير والمجرد، ولابن عقيل
-: إنه متى صرح بالتشريك لا يصح النكاح قولا واحدا، فهذه الصورة عندهم
مخرجة من محل الخلاف.
(تنبيه) سمي هذا النكاح نكاح الشغار قيل: لقبحه تشبيها برفع الكلب رجله
ليبول في القبح يقال: شغر الكلب. إذا فعل ذلك، وهذا قول ابن الأعرابي، وعن
الأصمعي: الشغار الرفع، كأن كل واحد رفع رجله للآخر عما يريد، وقيل: لا
ترفع رجل بنتي ما لم أرفع رجل ابنتك، وقيل: الشغار البعد، كأنه بعد عن طريق
الحق، وقال أبو العباس: الأظهر أنه من الخلو، يقال: شغر المكان. إذا خلا،
ومكان شاغر أي خال، وشغر الكلب، إذا رفع رجله، لأنه أخلى ذلك المكان من
رجله، وهذا هو العلة عنده في بطلان الشغار
(5/222)
أيضا، قال: لا يعقل له علة مستقيمة إلا
إشغاره عن المهر، قال: وهو الذي يدل عليه قول أحمد، وقدماء أصحابه كالخلال،
وصاحبه، وقد فسره أحمد بأنه فرج بفرج، فالفروج كما أنها لا توهب ولا تورث
بنص القرآن، فلأن لا يعاوض بضع ببضع أولى، وأورد على هذا بأنه إذا ينبغي أن
يصح ويجب مهر المثل، كما لو سميا فاسدا، وأجيب إذا رضيا بنكاح لا مهر فيه،
فما قصداه لم يبحه الشارع، وما أباحه الشارع لم يقصداه، أما إذا سميا فاسدا
فقد قصدا المهر، وأورد أيضا تزويج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بغير مهر، وتزويج الرجل ابنته، والتفويض لا يسمى شغارا، وأجيب
بأن الشغار فعال، فيكون من الطرفين، أي إخلاء بإخلاء، بضع ببضع، وهذا منتف
في هذه المواضع، وعلل القاضي البطلان وجماعة من أتباعه بالتشريك في البضع،
إذ المرأة تملك الصداق، والزوج يملك بضع المرأة، فكان بضع كل واحدة منهما
مشتركا بين الزوج والمرأة، ورد بأن هذا ليس هو المقصود قطعا، وإنما كل من
المرأتين رضيت بأن الزوج يستبيح بضعها بلا مهر لها، بل يكون لوليها، وهو
بضع الأخرى، وعلل القاضي أيضا
(5/223)
البطلان وأبو محمد بأنه جعل كل واحد من
العقدين سلفا في الآخر فلم يصح، كبعتك ثوبي بمائة على أن تبيعني ثوبك
بمائة، وأبو الخطاب جعله من تعليق كل من النكاحين بالآخر، وتعليق النكاح
بالشرط لا يصح، وعلله القاضي أيضا وأبو الخطاب بأنه عقد حصل على وجه جعل
المستباح فيه مهرا، فلم يصح، دليله إذا زوج عبده بحرة، وجعل رقبته صداقها
لأن ما استباحته من الزوج جعل مهرا، فكذلك هنا ما استباح الزوج من الزوجة
جعل مهرا، وقيل غير ذلك وجميعها مستدرك والله أعلم.
[نكاح المتعة]
قال: ولا يجوز نكاح المتعة.
ش: نكاح المتعة، أن يتزوج امرأة إلى مدة، فإذا انقضت زال النكاح، سواء كانت
المدة معلومة كشهر ونحوه، أو مجهولة كنزول المطر ونحوه، وسواء وقع بلفظ
النكاح وبولي وشاهدين أم لا، والمذهب المنصوص المختار للأصحاب بلا ريب
بطلانه.
2559 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية
زمن خيبر» ، وفي رواية: «نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر
الأهلية» متفق عليهما.
(5/224)
2560 - «وعن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى عنها» .
2561 - «وعن سبرة الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه غزا مع النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشر،
فأذن لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في متعة النساء،
وذكر الحديث إلى أن قال: فلم أخرج حتى حرمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وفي رواية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء،
وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله،
ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» رواه أحمد ومسلم، وفي رواية لأحمد وأبي داود
عن سبرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة
الوداع نهى عن نكاح المتعة» . والنهي يدل على فساد المنهي عنه، لا سيما وقد
عضده أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتخلية، والاستدامة
أسهل من الابتداء، ولأن الأحكام المختصة بالنكاح من الطلاق والظهار واللعان
والتوارث وغير ذلك لا تتعلق به، فدل على أنه ليس بنكاح، إذ هي لازمة
(5/225)
للنكاح الصحيح، وانتفاء اللازم يدل على
انتفاء الملزوم، وسأل ابن منصور الإمام أحمد عن متعة النساء: تقول إنها
حرام؟ فقال: يجتنبها أحب إلي. فأثبت ذلك أبو بكر في الخلاف رواية، وأبى ذلك
القاضي في خلافه، وكذلك أبو الخطاب، حاملا لها على أنه سئل: هل للعامي أن
يقلد من يفتي بمتعة النساء؟ فقال: لا، يجتنبها أحب إلي. أي الأولى أن لا
يقلد، وكذلك ابن عقيل، مدعيا أن أحمد رجع عنها، وأبو العباس يقول: توقف عن
لفظ الحرام، ولم ينفه، وبالجملة قد استدل لهذه الرواية بقوله تعالى: {فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] .
فعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأ: (فما استمتعتم به منهن
فآتوهن أجورهن إلى أجل مسمى) .
2562 - «وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نغزو مع النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟
فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد
الله:
(5/226)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الآية»
، متفق عليه.
2563 - «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نستمتع بالقبضة من
التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -» - وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث، رواه مسلم،
وأجيب عن الآية بمنع ثبوت قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم
نسخ الجميع، بدليل ما تقدم.
2564 - وقد روى ابن عدي، عن مؤمل بن إسماعيل قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن
سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «هدم المتعة الطلاق
(5/227)
والعدة والميراث» قال عبد الحق: وعكرمة
إنما يضعف حديثه عن يحيى بن أبي كثير.
(تنبيهان) أحدهما قد تقدم في بعض الأحاديث أن النهي كان يوم خيبر، وفي
بعضها عام الفتح، وأجيب عن ذلك بأجوبة (أحدها) أن في حديث علي تقديما
وتأخيرا، تقديره: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن
لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، ونهى عن متعة النساء» ، ولم يذكر زمن النهي.
2565 - وقد جاء في بعض طرق الحديث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر» ذكره
قاسم بن أصبغ وقال: قال سفيان بن عيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر
الأهلية زمن خيبر، لا عن نكاح المتعة. (الثاني) أن النهي قد وقع عنها يوم
خيبر وعام الفتح جميعا، فسمعه بعض عام الفتح، وبعض زمن خيبر، ورد بأنه أذن
عام الفتح، نعم هذا يجاب به عن النهي عام الفتح، وعام حجة الوداع (الثالث)
حمل ذلك على ظاهره، وأنها كانت مباحة، ثم
(5/228)
نسخت يوم خيبر، ثم أبيحت ثم حرمت عام
الفتح، قال الشافعي: لا أعلم شيئا أحله الله ثم حرمه، ثم أحله ثم حرمه، إلا
المتعة.
(الثاني) هل يجب الحد فيها؟ يتلخص للأصحاب فيها وجهان، والله أعلم.
قال: ولو تزوجها على أن يطلقها في وقت بعينه لم ينعقد النكاح.
ش: لأنه شبيه بالمتعة، والشبيه بالشيء يعطى حكمه، بيان الشبه أنه ألزم نفسه
فراقها في وقت بعينه، والمتعة النكاح يزول فيها في وقت بعينه، قال أحمد في
رواية أبي داود إذا تزوجها على أن يحملها إلى خراسان، ومن رأيه إذا حملها
[إلى خراسان] خلى سبيلها، قال: لا، هذا يشبه المتعة، حتى يتزوجها ما حييت،
وفي هذا النص إشعار بتعليل آخر، وهو أن وضع النكاح الدوام، وهذا الشرط
ينافيه، وأن النية كافية في المنع، وقال أيضا في رواية عبد الله: إذا
تزوجها ومن نيته أنه
(5/229)
يطلقها، أكرهه، هذه متعة، وعلى هذا جمهور
الأصحاب، القاضي في خلافه، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي،
لما علل به أحمد من أن هذا في معنى المتعة، وجزم أبو محمد في مغنيه بالصحة،
وقال: إنه لا بأس به، كما لو نوى إن وافقته وإلا طلقها، قال أبو العباس:
ولم أر أحدا من الأصحاب صرح أنه لا بأس به، وما قاس عليه لا ريب أنه موجب
العقد، بخلاف ما تقدم، فإنه ينافيه، لقصده التأقيت والله أعلم.
[نكاح التحليل]
قال: وكذلك إذا شرط عليه أن يحلها لزوج كان قبله.
ش: يعني فإذا أحلها طلقها، وهذا هو نكاح
التحليل، والمذهب المنصوص والمختار بلا نزاع بطلانه.
2566 - لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لعن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلل والمحلل له» . رواه أحمد
والنسائي، والترمذي وصححه.
(5/230)
2567 - وللخمسة إلا النسائي عن علي مثله.
2568 - ولأحمد عن أبي هريرة مثله.
2569 - ولابن ماجه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟» قالوا: بلى يا رسول
الله. قال: «هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له» فلعن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على
(5/231)
ذلك، ولا يلعن على فعل جائز، فدل ذلك على
تحريمه، وفساده وتسميته محللا لقصده الحل في موضع لا يحصل فيه الحل.
2569 - م - كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما آمن
بالقرآن من استحل محارمه» .
وقال تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] .
2570 - وعن قبيصة بن جابر: سمعت عمر يخطب الناس وهو يقول: والله إني لا
أوتى بمحلل ولا بمحلل له إلا رجمتهما. رواه الأثرم.
2571 - وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: من يخدع الله يخدعه.
(5/232)
2572 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة، قال: وإن كنا لنعده على
عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفاحا.
وخرج القاضي وأبو الخطاب رواية ببطلان الشرط، وصحة العقد، من مسألة اشتراط
الخيار، وكذلك ابن عقيل، لكنه خرجها من الشروط الفاسدة.
فعلى الأول - وهو المذهب بلا ريب - لو نوى ذلك الزوج بقلبه، فهو كما لو
شرطه بلسانه، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب، لدخوله في عموم: «لعن الله
المحلل والمحلل له» الحديث.
2573 - ويؤيده ما روى ابن شاهين في غرائب السنن، «عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن نكاح المحلل، فقال: «لا نكاح إلا
نكاح رغبة، لا نكاح دلسة» » ونقل حرب عن أحمد: إذا تزوج امرأة وفي
(5/233)
نفسه طلاقها؟ فكرهه، فأخذ من ذلك الشريف
وأبو الخطاب ومن تبعهما رواية بالصحة مع الكراهة، وهو مقتضى قول شيخهما،
ومنع ذلك أبو العباس، إذ رواية حرب في من نوى الطلاق، وذلك إنما يكون في من
له رغبة في النكاح والمحلل لا رغبة له في النكاح أصلا، ومن هنا قال القاضي
وأصحابه - كالشريف، وأبي الخطاب، الشيرازي وغيرهم -: إنه إذا نوى التطليق
في وقت بعينه، هو كنية التحليل. ونص أحمد يشهد لهم كما تقدم.
وإطلاق كلام الخرقي يشمل ما إذا شرط التحليل حال العقد أو قبله، ولم يرجع
عنه، وهذا ينبني على أن الشرط السابق كالمقارن، إلا أن هنا النية كافية في
المنع، فغايته أنها أكدت بالشرط السابق، نعم لو شرط قبل العقد، ثم نوى في
العقد نكاح الرغبة، فأبو محمد يصحح هذا.
2574 - ويحمل عليه حديث ذي الرقعتين، فإنه يروى عنه أنه أحل امرأة لزوجها،
وبلغ ذلك عمر فلم ينكره، وأبو العباس يقول: إن
(5/234)
الشرط المتقدم كالمقارن، فالشرط والحال هذه
لا يلزم معه العقد.
وأما حديث ذي الرقعتين فقال أحمد: ليس له إسناد. وأبو عبيد أجاب بجوابين
(أحدهما) أنه مرسل، فأين هو من الذين سمعوه يخطب على المنبر: لا أوتى بمحلل
ولا بمحلل له إلا رجمتهما، (والثاني) كقول أبي محمد، والله أعلم.
[نكاح المحرم]
قال: وإذا عقد المحرم نكاحا لنفسه أو لغيره، أو عقد أحد نكاحا لمحرم، أو
على محرمة فالنكاح فاسد.
ش: لا يصح أن يعقد المحرم نكاحا لنفسه. بلا نزاع نعلمه عندنا.
2575 - لما روى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح»
وفي رواية ولا يخطب رواه الجماعة إلا البخاري (فإن قيل) :
(5/235)
2576 - فقد روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة
وهو محرم» ، رواه البخاري، وأبو داود والترمذي، والنسائي، وإذا فيحمل نهيه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الكراهة، جمعا بين الدليلين.
2577 - قيل: هذا معارض بما روى يزيد بن الأصم، «عن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، قالت: تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- ونحن حلالان بسرف؛» رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
2578 - «وعن أبي رافع قال: تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما»
. رواه أحمد والترمذي وحسنه، وإذا تعارضت الروايتان طلب الترجيح،
(5/236)
ولا ريب أن من روى أنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وهو حلال، يترجح بأمور (أحدها) بكثرة رواته،
قال أبو عمر النمري: الرواية «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو حلال» ، متواترة عن ميمونة، وعن أبي رافع مولى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعن سليمان بن يسار
مولاها، وعن يزيد بن الأصم وهو ابن أختها انتهى، ولا ريب أن الحمل على
الفرد، أولى من الحمل على الجماعة.
2579 - وقد قال أبو داود قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال أحمد في رواية أبي الحارث: هذا الحديث خطأ، يعني
حديث ابن عباس (الثاني) أن ميمونة هي صاحبة القصة، وأبا رافع هو الرسول
بينهما، ولا يخفى أنهما أعرف وأخبر بالواقعة من غيرهما، وقد أشار أحمد إلى
(5/237)
ذلك في رواية المروذي، لا سيما وابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صغير، لا يحضر مثله الوقائع، فلعله روى عن غيره.
2580 - مع أنه قد قيل: إن من مذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
أن من قلد الهدي صار محرما، فلعله رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قلد الهدي، فاعتقد أنه محرم (الثالث) أن رواية ميمونة توافق
رواية عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعمل الصحابة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2581 - فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فرق في ذلك، رواه مالك
الموطأ.
2582 - وعن ابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نهى عن ذلك وقال: إن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك. رواه أحمد، وهو
قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (الرابع) أنه متى تعارض دليلا
الحظر والإباحة
(5/238)
كان دليل الحظر مقدما، ثم لو قدر التعارض
في فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيسلم نهيه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رواية عثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -، ثم لو سلم ترجيح رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
فهي فعله، وذاك قوله، والقول مقدم على الفعل، لا سيما وهو - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اختص في النكاح بخصائص لم يشاركه فيها غيره، فلعل
هذا منها، ثم لو سلم عدم الاختصاص فلعل فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وارد على مباح الأصل، ولا يلزم نسخ قوله، ودعوى أن المراد
بالنهي الكراهة مخالف لظاهر النهي، ولعمل الصحابة، ويلزم منه أنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل المكروه، ولا يقال فعله لتبيين الجواز،
لأنا نقول تبيينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله، ولا يقال:
المراد بلا ينكح لا يطأ، ولا ينكح لا يمكن من الوطء، لأنا نقول: غالبا
استعمال الشرع للعقد، فيحمل عليه، مع أن قوله في الحديث «ولا يخطب» قرينة
على ذلك.
2583 - ثم في الدارقطني عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا
(5/239)
يتزوج المحرم ولا يزوج» وهذا نص ويؤيده أن
الصحابة فهمت ذلك.
2584 - ففي الموطأ عن أبي غطفان المري أن أباه طريفا تزوج امرأة وهو محرم،
فرد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نكاحه.
2585 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من تزوج وهو محرم
نزعناها منه، ولم نجز نكاحه.
2586 - وعن مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم، ففرق زيد - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - بينهما، رواهما أبو بكر النيسابوري. والله أعلم.
وهل له أن ينكح لغيره، كما إذا كان وليا أو وكيلا في النكاح؟ فيه روايتان،
أشهرهما لا، لعموم الحديث (والثانية) نعم، اختارها أبو بكر، كما لو حلق
المرحم رأس حلال ونحوه، وقيل: إن أصل هذه الرواية من قول أحمد: إن زوج
المحرم لم أفسخ النكاح. وقيل: هذا لا يثبت به رواية، لاحتمال أنه منع الفسخ
للاختلاف فيه، ولهذا قال: هو والإمام مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -:
لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. انتهى.
(5/240)
فعلى المذهب إذا أحرم الإمام الأعظم منع من
تزويج أقاربه، وهل يمنع من التزويج بالولاية العامة؟ فيه احتمالان، (المنع)
نظرا للعموم، فعلى هذا يزوج خلفاؤه، قاله القاضي، دفعا للحرج، ولأنهم لا
ينعزلون بموته على الأشهر (والجواز) واختاره ابن عقيل، لأن ولاية الحكم
يجوز فيها ما لا يجوز بولاية النسب، بدليل الكافرة يزوجها الإمام، لا وليها
المناسب المسلم، واعلم أن القاضي قال: إنه لا يعرف الرواية عن أصحابنا في
هذا الفرع، إذ إحرامه بالنسبة إلى النكاح كموته، انتهى، وإذا عقد أحد سواء
كان حلالا أو محرما نكاحا لمحرم، أو على محرمة، فالنكاح فاسد، لأنه يصدق
على المحرم أنه نكح وتزوج، فيدخل في الحديث.
وقد خرج من كلام الخرقي ما إذا وكل المحرم حلالا، فلم يعقد له النكاح حتى
حل أنه يصح، ودخل في كلامه ما إذا وكله وهو حلال، فلم يعقد له حتى أحرم أن
النكاح لا يصح، وهو صحيح، صرح به أبو محمد، فالاعتبار بحال العقد وهو
المشهور، والله أعلم.
[العيوب التي توجب الخيار في النكاح]
قال: وأي الزوجين وجد بصاحبه جنونا أو جذاما، أو برصا أو كانت المرأة رتقاء
أو قرناء أو عفلاء، أو فتقاء، أو الرجل
(5/241)
مجبوبا، فلمن وجد ذلك منهما بصاحبه الخيار
في فسخ النكاح.
ش: أما ثبوت الخيار بالجنون والجذام والبرص لكل من الزوجين.
2587 - فلما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أيما امرأة غر
بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها، وصداق الرجل
على من غره، رواه مالك في الموطأ والدارقطني، وفي لفظ للدارقطني قضى عمر في
البرصاء، والجذماء، والمجنونة، إذا دخل بها فرق بينهما، ولها الصداق بمسيسه
إياها وهوله عليها.
2588 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: أربع لا يجري
في بيع ولا نكاح، المجنونة، والمجذومة، والبرصاء، والقلفاء، رواه
الدارقطني.
2589 - وفي المسند عن كعب بن زيد أو زيد بن كعب «أن رسول الله
(5/242)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها ووضع ثوبه، وقعد على الفراش أبصر
بكشحها بياضا، فانحاز عن الفراش، ثم قال: «خذي عليك ثيابك» ولم يأخذ مما
آتاها شيئا» ، ورواه سعيد في سننه عن زيد بن كعب بن عجرة، ولم يشك، ورده -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها فسخ للنكاح، لا يقال: يحتمل أنه
طلقها أو كنى بالرد عن الطلاق، لأنا نقول: لم ينقل في الحديث طلاق، والرد
صريح في الفسخ، فالحمل عليه أولى، وإذا ثبت هذا في أحد الزوجين ثبت في
الآخر، والمعنى في ذلك أن الجنون تنفر النفس منه، وتخاف جنايته، والجذام
والبرص يخشى تعديهما إلى الولد وإلى النفس، ويثيران نفرة تمنع القربان،
وأما ثبوت الخيار للرجل إذا كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء أو فتقاء،
فلأن ذلك يمنع معظم المعقود عليه في النكاح، وهو
(5/243)
الاستمتاع فأثبت الخيار كالعنة، إذ المرأة
أحد الزوجين، فيثبت الخيار بالعيب فيها كالرجل، وأما ثبوت الخيار للمرأة
إذا كان الرجل مجبوبا، فلأن ذلك يمنع المقصود من النكاح وهو الاستمتاع،
أشبه العنة بل أولى للإياس من زواله، بخلاف العنة، ودليل الأصل قول الصحابة
- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.
وقد دخل في كلام الخرقي ما إذا وجد أحدهما بصاحبه عيبا به مثله، كأن كان
مجذوما وهي جذماء ونحوه، وهو أحد الوجهين، نظرا إلى أن الإنسان يعاف عيب
غيره، ولا يعاف عيب نفسه (والثاني) لا يثبت خيار والحال هذه، لتساويهما،
ويدخل في كلامه أيضا ما إذا حدث العيب بعد العقد، وكذا حكاه عنه القاضي،
معتمدا على قوله بعد: فإن جب قبل الدخول فلها الخيار في وقتها، وهذا اختيار
القاضي في تعليقه الجديد، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي،
لأنه معنى يثبت به الخيار مقارنا، فيثبت به طارئا، كالإعسار بالنفقة
وكالرق، واختار أبو بكر في الخلاف، وابن حامد، والقاضي في التعليق القديم،
والمجرد، وابن البنا أن الخيار لا يثبت والحال هذه، لأنه عيب حدث بالمعقود
عليه بعد لزوم العقد، فلم يثبت الخيار، كالحادث بالمبيع المعين
(5/244)
بعد البيع، وفرق بأن النكاح يستوفى شيئا
فشيئا، فهو في معنى الإجازة، بخلاف المبيع.
وظاهر كلام الخرقي أن الخيار لا يثبت بغير هذه، فلا يثبت بالبخر في الفم،
ولا في الفرج، ولا بالقروح السيالة في الفرج، ولا بالباسور ولا بالناصور،
ولا بالاستحاضة، ولا باستطلاق البول أو النجو، ولا بالخصاء، وهو قطع
الخصيتين، ولا بالوجاء وهو رضهما، ولا بالسل وهو سلهما، ولا بكون أحدهما
خنثى غير مشكل، وهو أحد الوجهين في الجميع، ولا يثبت الخيار بما عدا ذلك
كالعمى، والعرج، وقطع اليد، أو الرجل، وكون المرأة نضوة الخلق يخاف عليها
الجناية بالجماع، وكون الذكر كبيرا والفرج صغيرا ونحو ذلك، على المذهب بلا
ريب، واختار ابن عقيل ثبوت الخيار بنضو الخلق كالرتق، واختار ابن حمدان في
كبر الذكر وصغر الفرج ثبوت الخيار، وعن أبي البقاء العكبري ثبوت الخيار بكل
عيب يرد به في البيع وهو غريب.
(تنبيهان) أحدهما (الجنون) معروف وهو زوال العقل، ولا فرق فيه بين المطبق
أي الدائم، والخانق أي الذي يخنق
(5/245)
في وقت دون وقت، فإن زال العقل بمرض فهو
إغماء، لا يثبت به خيار، فإن دام بعد المرض فهو جنون، (والجذام والبرص)
داآن معروفان، نسأل الله العافية منهما ومن كل داء، فإن ظهر أمرهما فواضح،
وإن أشكل كأن يتفرق شعر الحاجب، أو يكون به بياض يحتمل أنه برص أو بهق، فمع
الاتفاق من الزوجين لا كلام، ومع الاختلاف القول قول المنكر، نظرا للأصل،
فإن أقام المدعي بما ادعاه شاهدين حكم بذلك، وخرج قبول واحد كالموضحة، فإن
أقام كل منهما بينة بدعواه تعارضتا ولا فسخ، (والجب) القطع، والحكم هنا
مرتب على قطع الذكر، أو على قطع بعضه بحيث لا يمكن الجماع بالباقي (والرتق)
بفتح الراء والتاء مصدر رتقت بكسر التاء، ترتق رتقا، بفتح التاء فيهما -
التحام الفرج، قاله الجوهري (والقرن) مصدر قرنت المرأة بكسر الراء تقرن
قرنا بفتحها فيهما، إذا كان في فرجها قرن بسكون الراء، وهو عظم أو غدة تمنع
من ولوج الذكر، (والعفل) نتنة تخرج في فرج المرأة وحيا الناقة شبيه بالأدرة
التي للرجال في الخصية، والقاضي في الخلاف جعل هذه الثلاثة لحما
(5/246)
ينبت في الفرج، وفي المجرد جعل الرتق السد،
والقرن والعفل اللحم، وتبعه على ذلك أبو الخطاب وابن عقيل، وأبو حفص فسر
العفل برغوة في الفرج كزبد البعير، وإذا في ثبوت الخيار به وجهان (والفتق)
انخراق ما بين السبيلين، وقيل انخراق ما بين مخرج البول والمني، وإذا في
ثبوت الخيار به وجهان.
(الثاني) يفتقر الفسخ في هذه إلى حكم حاكم، لأنه أمر مختلف فيه، فاحتاج إلى
حاكم، كالفسخ للإعسار بالنفقة، وفارق خيار المعتقة، للاتفاق عليه، ولا يرد
خيار المعتقة بعد ثلاث، والمعتقة تحت حر، وخيارات البيع، فإنها وإن اختلف
فيها فإن أصلها متفق عليه، والمراد بحكم الحاكم أن يحكم بالفسخ، أو يأذن
فيه أو يفسخ، ولا يختار إلا بطلب من له الفسخ، وحيث يقع الفسخ كان فسخا
وليس بطلاق، نص عليه، والله أعلم.
قال: وإذا فسخ قبل المسيس فلا مهر.
ش: سواء كان الفاسخ الزوج أو المرأة، لأنها إن كانت هي الفاسخة فالفرقة من
جهتها، أشبه ما لو أرضعت زوجة له أخرى، وإن كان هو الفاسخ فهو بسببها، إذ
هو لعيبها، فإن قيل: فهلا جعل فسخها لعيبه كأنه منه، لأنه بسببه؟ قيل: أجاب
عنه أبو محمد بأن العوض من الزوج في مقابلة
(5/247)
بضعها، فإذا اختارت الفسخ مع سلامة المعقود
عليه رجع العوض إلى العاقد، وليس من جهتها عوض في مقابلة بضع الزوج، وإنما
يثبت لها الخيار دفعا للضرر اللاحق بها، لا لتعذر ما استحقت في مقابلته
عوضا، والله أعلم.
قال: فإن كان بعده وادعى أنه ما علم وحلف، كان له أن يفسخ، وعليه المهر
يرجع به على من غره.
ش: شرط ثبوت الخيار فيما تقدم من العيوب أن لا يعلم بها وقت العقد، ولا
بعده ويرضى، أما إن علم بها وقت العقد، أو بعده فرضي، أو وجد منه ما يدل
على الرضى فلا خيار له، لأنه قد دخل على بصيرة، أو أسقط حقه، أشبه مشتري
المعيب إذا علم بالعيب وقت البيع، أو بعده فرضي، فعلى هذا إن تصادقا على
عدم العلم بالعيب، وأنكرته المرأة فالقول قوله، إذ الأصل عدم العلم، وعليه
اليمين، لأن ما ادعي عليه محتمل، ولا فرق في ذلك كله بين قبل الدخول وبعده،
وإن كان كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوهم خلاف ذلك، إذا تقرر هذا
وفسخ بعد الدخول كان عليه المهر بما استحل من فرجها.
وظاهر كلام الخرقي أنه المسمى لتعريفه المهر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد،
واختيار الشيخين وغيرهما، لظاهر ما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وعليه اعتمد أحمد، قال: إذا
(5/248)
تزوجها جذماء برصاء مجنونة أو بكرا فخرجت
ثيبا، يقول عمر: يلزمهم المهر الذي أعطاهم (والرواية الأخرى) الواجب مهر
المثل، إذ الزوج إنما بذل المسمى مع تمام النكاح، فإذا فسخ لم يرض ببذل
إنما رضيت بالمسمى لرجل سليم، وإذا فات الرضى رجع إلى مهر المثل، وبنى
القاضي في المجرد، وابن عقيل في الفصول هاتين الروايتين على الروايتين في
النكاح الفاسد، هل الواجب فيه المسمى أو مهر المثل؟ لأن الفسخ لمعنى قارن
العقد، فإنه لم ينعقد، وقيد أبو البركات رواية مهر المثل بما إذا كان
الفاسخ الزوج، لشرط أو عيب قديم، لأنه إنما رضي بالمسمى في مقابلة عين
صحيحة، أو بشرط وقد فات ذلك، فيفوت الرضى بالمسمى، وإذا يرجع إلى مهر
المثل، أما إن حدث العيب بها بعد العقد فالمسيس قابل عينا صحيحة فيجب،
وكذلك إن كانت هي الفاسخة لعيب فيه، أو لفوات شرط، لأن ما بذل فيه المسمى
قد وجد فيستقر، لكن قد يقال: ينبغي أن يجب لها مهر المثل إن كان أزيد، إذ
رضاها منوط بالشرط وبسليم، وقد يجاب بأن مهر المثل لا يختلف بخلقة الرجل
وصفاته، وفيه شيء، ومن رأينا كلامه من الأصحاب على إطلاق هذه الرواية،
ولهذا جعل ابن حمدان
(5/249)
تقييد المجد قولا.
وفي المذهب (قول ثالث) في أصل المسألة في الزوج إذا اطلع على عيب، أو فاته
شرط، ينسب قدر نقص مهر المثل لأجل العيب أو الشرط، إلى مهر المثل كاملا،
فيحط عنه من المسمى بنسبة النقص إلى المهرين، سواء فسخ أو أمضى، وهو قياس
البيع، مثاله أن يقال: كم مهر هذه بهذا العيب أو مع هذا الشرط؟ فيقال:
ثمانون مثلا. وبلا عيب ولا شرط مائة، فنسبة ما بينهما الخمس، فيرجع من
المسمى بالخمس، وهذا قول ابن عقيل وأبي بكر، قالاه فيما إذا شرطها بكرا
فبانت ثيبا، ووافق أبو بكر الأصحاب في أن الواجب المسمى في الفسخ لعيبها،
وإذا (هذا قول رابع) انتهى.
ويرجع الزوج بما غرمه على من غره على المشهور المختار من الروايتين، لما
تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
2590 - (والرواية الثانية) لا يرجع بشيء، اختارها أبو بكر في الخلاف، وهو
قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذلك لأنه ضمن ما استوفى بدله، فلم
يرجع به على غيره، كالمبيع المعيب، إذا أكله ثم علم عيبه، وقد روي عن أحمد
أنه رجع عن هذه الرواية، قال في رواية ابن الحكم: كنت أذهب إلى قول علي رضي
الله
(5/250)
عنه، ثم هبته فملت إلى قول عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، قال عمر: إذا تزوجها فرأى جذاما أو برصا فلها المهر
بمسيسه، ووليها ضامن للصداق.
وقول الخرقي يشمل الولي والوكيل والمرأة، وصرح به غيره فعلى هذا أيهم انفرد
بالغرور ضمن، فلو أنكر الولي علمه بذلك ولا بينة فثلاثة أوجه، (أحدها)
القول قوله مع يمينه، اختاره أبو محمد، إذ الأصل عدم علمه بذلك (والثاني)
القول قول الزوج إلا في عيوب الفرج، إذ الظاهر أن الولي لا يخفى عليه ذلك
أما عيوب الفرج فلا اطلاع له عليها «والثالث» إن كان مما يخفى عليه أمرها
كأباعد العصبات فكالأول، وإلا فكالثاني، قاله القاضي وابن عقيل، أما الوكيل
فينبغي أن يكون القول قوله بلا خلاف.
وشرط تضمين المرأة أن تكون عاقلة، قاله ابن عقيل، ليوجد قصد الغرور منها
وشرط مع ذلك أبو عبد الله ابن تيمية بلوغها، ليوجد تغرير محرم، فعلى هذا
حكمها إذا ادعت عدم العلم بعيب نفسها واحتمل ذلك، حكم الولي على ما تقدم،
ولو وجد الغرور من المرأة والولي فالضمان على الولي، على مقتضى قول القاضي
وابن عقيل وأبي محمد وغيرهم، لأنه المباشر، وقال أبو محمد فيما إذا كان
الغرور من المرأة والوكيل الضمان
(5/251)
عليهما نصفان، فيكون في كل من الولي
والوكيل قولان، والله أعلم.
قال: ولا سكنى لها ولا نفقة، لأن السكنى والنفقة لمن يجب لزوجها عليها
الرجعة.
ش: لا نفقة للمفسوخ نكاحها، لأنها بائن، أشبهت البائن بطلاق ثلاث، وهو قسم
من أقسام البائن فلا نفقة لها ولا سكنى لها على المشهور، هذا إن كانت
حائلا، فإن كانت حاملا فلها النفقة عند أبي محمد، لأنها بائن من نكاح صحيح
في حال حملها، أشبهت المختلعة، وفي السكنى روايتان، وقال القاضي وابن عقيل
إن قلنا: إن النفقة للحمل، وجبت لها، وإن قلنا لها من أجله لم تجب،
كالمعتدة من نكاح فاسد، ولعل هذا أوفق لقول الخرقي، لأنه هنا لم يستثن
الحامل، وثم استثناها، وأصل ذلك والدليل عليه يأتي إن شاء الله في النفقات،
والله أعلم.
[تخيير العبد والأمة المزوجين حال الرق]
قال: وإذا أعتقت الأمة وزوجها عبد فلها الخيار في فسخ النكاح.
ش: هذا إجماع، حكاه ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما.
2591 - وقد «قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كان في بريرة ثلاث
سنن، خيرت على زوجها حين عتقت» . مختصر، متفق عليه.
(5/252)
2592 - وعن القاسم بن محمد، «عن عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن بريرة خيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وكان زوجها عبدا» . رواه مسلم وأبو داود، والنسائي.
2593 - وعن عروة «عن عائشة في قصة بريرة قالت: كان زوجها عبدا، فخيرها رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاختارت نفسها، ولو كان حرا لم
يخيرها» . رواه مسلم، وأبو داود والترمذي، والنسائي.
2594 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن زوج بريرة كان عبدا
أسود، يسمى مغيثا، فخيرها يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وأمرها أن تعتد» . رواه أبو داود، والترمذي والنسائي والبخاري مختصرا.
ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا عتقت وزوجها حر فلا خيار لها، وهو المذهب
المنصوص والمختار بلا ريب، لما تقدم، إذ الأصل لزوم النكاح إلا حيث قام
الدليل على جوازه، ونقل عن
(5/253)
أحمد فيمن زوج أم ولده ثم مات فقد عتقت
وتخير، فأخذ من ذلك أبو الخطاب رواية بثبوت الخيار لمن زوجها حر، لإطلاق
أحمد.
2595 - وذلك لما روى الأسود «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن زوج
بريرة كان حرا حين أعتقت، وأنها خيرت فقالت: ما أحب أن أكون معه، وإن كان
لي كذا وكذا» . رواه الجماعة إلا مسلما، وتحمل رواية العبدية على أنه كان
عبدا، جمعا بينهما، ورجح الأول بأمور (أحدها) بأن قوله: كان حرا. هو من قول
الأسود، وقع مدرجا في الحديث، كذا جاء مفسرا.
2596 - فروى ابن المنذر عن إبراهيم أنه قال: فقال الأسود: وكان زوجها حرا.
وقال البخاري: قول الأسود منقطع.
2597 - (الثاني) أنه قد روي عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
أن
(5/254)
زوجها كان عبدا، فإذا تتعارض روايتا
الأسود، وتسلم رواية غيره (الثالث) لو سلم اتصال رواية الحرية وترجيحها،
فقد عارضها رواية الجم الغفير عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه كان
عبدا.
2598 - فروى القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، ومجاهد، وعمرة بنت عبد
الرحمن، كلهم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه كان عبدا، والقاسم
هو ابن أخي عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعروة هو ابن أختها، وكانا
يدخلان عليها بلا حجاب، وعمرة كانت في حجرها، ولا ريب أن رواية الجم الغفير
الخصيص، أولى من الفرد البعيد.
2599 - قال إبراهيم بن أبي طالب خالف الأسود الناس في زوج بريرة، فقال: إنه
حر، وقال الناس: إنه عبد.
2600 - ويؤيد هذا أن مذهب عائشة أنه لا يثبت الخيار تحت الحر، ثم لو قدر
تساوي روايته لرواية غيره فتتعارض روايتا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
-، وتسلم رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ودعوى أنه كان عبدا
مجاز، والأصل الحقيقة.
(5/255)
2601 - مع أنه قد روى الإمام أحمد في
المسند عن القاسم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن بريرة كانت تحت
عبد، فلما أعتقتها قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «اختاري، فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد، وإن شئت أن تفارقيه» » قال
بعض الحفاظ: وإسناده جيد. وهذا تصريح بعبوديته في الحال.
ومفهوم كلام الخرقي أيضا أنهما إذا عتقا معا أنه لا خيار لها أيضا، وهو
إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر والشيخين وغيرهما، وقال القاضي في بعض
كتبه: إنها قياس المذهب، لنص أحمد على أن عتقه قبل اختيارها يسقط خيارها،
فأولى أن لا يثبت لها إذا عتقا معا وذلك لأن السبب المقتضي للفسخ قارنه ما
يقتضي إلغاءه، وهو حرية الزوج، فمنع إعماله (والرواية الثانية) - وهي
أنصهما، وصححها القاضي في الروايتين - يثبت لها الخيار، لأنها كملت بالحرية
تحت من لم تسبق له حرية، فملكت الفسخ، كما لو عتقت قبل الزوج.
2602 - وقد روى أبو داود والنسائي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -،
أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها زوج، قال: فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة» ، والظاهر أن ذلك
حذارا من ثبوت
(5/256)
الخيار لها بعتقهما معا، وأجيب بأن الأمر
بذلك خشية أن تبدأ بعتق المرأة.
(تنبيه) ولا يفتقر الفسخ هنا إلى حكم حاكم، لأنه مجمع عليه، والله أعلم.
قال: فإن أعتق قبل أن تختار أو وطئها بطل خيارها، علمت أن لها الخيار أو لم
تعلم.
ش: أما بطلان خيارها بعتقه قبل أن تختار فلأن الخيار لدفع الضرر بالرق، وقد
زال فيسقط كالمبيع إذا زال عيبه وكما لو تزوجته وبه جنون ونحوه، فزال قبل
أن تختار، وقيل: إنه وقع للقاضي وابن عقيل ما يقتضي أنه لا يسقط، كما لو
عتقا معا، والأول المذهب المصرح به عند القاضي وغيره، وعليه لو أعتق بعضه
فالخيار بحاله، كما هو مقتضى كلام الخرقي.
2603 - وأما بطلان خيارها بوطئها في الجملة فلما روت عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - «أن بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أعتقت وهي عند
مغيث، عبد لآل أحمد، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وقال لها: «إن قربك فلا خيار لك» » رواه أبو داود، ولا فرق في بطلان
خيارها بالوطء بين أن
(5/257)
تعلم أن لها الخيار أو لم تعلم، وهو أنص
الروايتين، واختيار الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي في الجامع والمجرد،
لعموم الحديث، ولأن الجهل بالأحكام لا يعذر به، إذ يلزمه السؤال والتعلم.
(والرواية الثانية) : لا يبطل خيارها والحال هذه، حكاها أبو محمد في المغني
عن القاضي وأصحابه، وفي الكافي عن القاضي وأبي الخطاب، إذ بطلان الخيار
يعتمد الرضى، ومع عدم العلم بثبوت الخيار لا رضى، فعلى هذا تقبل دعواها
الجهل، قاله أبو محمد، إذ لا يعرف ذلك إلا الخواص، وقيده ابن عقيل بأن يكون
مثلها يجهله، أما المتفقهة فلا تقبل دعواها، وحكم مباشرته لها حكم وطئها،
وكذلك تقبيلها له، إذ مناط المسألة ما يدل على الرضى.
(تنبيه) تقبل دعواها الجهل بالعتق فيما إذا وطئها، نظرا للأصل وهو عدم
العلم، وإذا لا رضى، فالخيار بحاله، هذا هو المذهب المشهور المختار لعامة
الأصحاب، وعن القاضي في الجامع الكبير: يبطل خيارها، لعموم الحديث، فعلى
الأول شرط القبول أن يكون مما يخفى عليها، كأن يكون العتق في غير
(5/258)
بلدها ونحو ذلك، أما إن كان في بلدها ولا
يخفى عليها لاشتهاره، أو لكونه في داره ونحو ذلك، لم يقبل قولها، لأن قرينة
الحال تكذبها، انتهى ولم يعتبر الأصحاب العلم بأن الوطء مبطل، فلو علمت
العتق وعلمت ثبوت الخيار به، ومكنت جاهلة بحكم الوطء، بطل خيارها والله
أعلم.
قال: وإن كانت لنفسين فأعتق أحدهما فلا خيار لها إذا كان المعتق معسرا.
ش: إذا كانت الأمة لنفسين، فأعتق أحدهما نصيبه وهو معسر، فلا خيار لها، على
المختار من الروايتين، اختارها ابن أبي موسى والقاضي وأبو محمد وغيرهم،
لأنه لا نص فيها، ولا يصح قياسها على المنصوص، لأن كاملة الحرية أكمل من
ناقصتها، وعلله أحمد بأن النكاح صحيح، فلا يفسخ بالمختلف، (والرواية
الثانية) لها الخيار، اختارها أبو بكر في الخلاف، لأنها قد صارت أكمل منه،
فيثبت لها الخيار، كما لو عتق جميعها، وقوله: إذا كان معسرا. يحترز عما إذا
كان موسرا، فإن العتق يسري، ويثبت لها الخيار بلا ريب، وقد علم من هذا أن
هذا الخلاف على قولنا
(5/259)
بعدم الاستسعاء، أما إن قلنا به، وأن العتق
يتنجز فيثبت لها الخيار، والله أعلم.
قال: وإن اختارت المقام معه قبل الدخول أو بعده فالمهر للسيد.
ش: أما قبل الدخول فلأنه قد وجب للسيد بالعقد، ولم يوجد له مسقط، وكذلك بعد
الدخول بل أولى، لاستقراره بذلك، والله أعلم.
قال: وإن اختارت الفسخ قبل الدخول فلا مهر.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد وغيره، نظرا إلى أن الفرقة جاءت
من جهتها، أشبه ما لو ارتدت (والثانية) : يجب لسيدها نصف المهر، اختارها
أبو بكر، نظرا إلى أن المهر وجب للسيد، فلا يسقط بفعل غيره، وأجاب أبو محمد
بأنه وإن وجب له لكن بواسطتها، ويرد بالأمة الزانية على المذهب، وقيل عنه:
يجب كله. وبعد، انتهى، فلو كانت مفوضة فلا متعة على الأول، وعلى الثاني تجب
للسيد، والله أعلم.
قال: وإن اختارته بعد الدخول فالمهر للسيد.
ش: إذا اختارت الفسخ بعد الدخول فالمهر للسيد، لما تقدم من استقرار المهر
بالدخول، والله أعلم.
(5/260)
|