شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [باب الوليمة]
قال: باب الوليمة ش: حكى ابن عبد البر عن ثعلب وغيره من أهل اللغة أن الوليمة اسم لطعام العرس خاصة، لا يقع على غيره، قال أبو محمد: وقال بعض الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: الوليمة تقع على كل طعام لسرور حادث، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر، قال: وقول أهل اللغة أقوى، لأنهم أهل اللسان، وأعرف بموضوعات اللغة انتهى، وقال السامري: سميت دعوة العرس وليمة لاجتماع الزوجين، ووليمة الشيء كماله وجمعه، والله أعلم.

قال: ويستحب لمن تزوج أن يولم ولو بشاة.
2640 - ش: في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: «ما هذا؟» قال: يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، قال: «فبارك الله لك، أولم ولو بشاة» ؛ والشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حمل هذا الأمر على الاستحباب، موافقة لجمهور العلماء، لأنه طعام لسرور حادث، أشبه سائر الأطعمة، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولو بشاة التنكير هنا - والله أعلم - للتقليل، أي ولو بشيء قليل كشاة، فيستفاد من هذا أنه يجوز الوليمة بدون شاة.

(5/327)


2641 - وقد جاء عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ما أولم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة» . متفق عليه.
2642 - وجاء في البخاري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولم على بعض نسائه بمدين من شعير» . ويستفاد من الحديث أن الأولى الزيادة على الشاة، لأنه جعل ذلك قليلا، والخرقي تبع لفظ الحديث، والحكم جار عليه، والله أعلم.

قال: وعلى من دعي إليها أن يجيب.
ش: يعني إلى وليمة العرس، وهذا هو المذهب المعروف في الجملة، وقول عامة العلماء، حتى أن ابن عبد البر وغيره قال: لا خلاف في ذلك.
2643 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها» متفق عليه، في عدة أحاديث سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى، وقيل: إنها فرض كفاية، لأنها

(5/328)


إكرام وموالاة أشبه برد السلام، وقيل: إنها سنة كفعلها، والعمل على الأول، لكن يشترط للوجوب شروط (أحدهما) (أن يعين) الداعي المدعو بالدعوى، فلو لم يعينه كقوله: يا أيها الناس أجيبوا إلى الوليمة، ونحو ذلك لم تجب الإجابة بل تستحب، لأن الإجابة معللة بما فيها من كسر قلب الداعي، وإذا عمم فلا كسر. (الثاني) أن يدعوه في اليوم الأول، لأن مطلق الأمر يحصل به.
2644 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمع سمع الله به» رواه الترمذي وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث زياد بن عبد الله، وهو كثير الغرائب المناكير، قال بعض الحفاظ: وزياد روى له البخاري مقرونا بغيره، ومسلم ويستحب

(5/329)


في اليوم الثاني، قاله أبو محمد وابن حمدان، ولا يستحب في الثالث قاله أبو محمد، وقال ابن حمدان: يكره، وقال أحمد: الأول يجب، والثاني: إن أحب، والثالث فلا. (الشرط الثالث) أن يكون مسلما، فلا تجب الإجابة بدعوة الذمي، لأن الإجابة للمسلم للإكرام والموالاة، وتأكيد المودة، وذلك منتف في أهل الذمة، وتجوز إجابتهم، قاله أبو محمد.
2645 - وفي الحديث «أن يهوديا دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خبز شعير، وإهالة سنخة، فأجابه» (وعن أحمد) في جواز تهنئتهم وتعزيتهم

(5/330)


وعيادتهم روايتان، فيخرج في إجابتهم كذلك، وقد خرجها أبو العباس في تسميتهم. (الشرط الرابع) : أن يكون المسلم ممن لا يجوز هجره، فإن كان ممن يجوز هجره - كالمبتدع ونحوه - لم تجب إجابته، لما تقدم في الذمي. (الشرط الخامس) : أن لا يكون في الدعوة منكر، فإن كان فيها منكر - كالزمر والخمر - ولم يقدر على إزالته لم يحضر، وإن قدر على إزالته وجب عليه الحضور والإنكار، للتمكن من الإتيان بالفرض، مع التمكن من الإتيان بفرض آخر (وقيل: يشترط) مع ذلك أن لا يخص بها الأغنياء، وأن لا يخاف المدعو الداعي ولا يرجوه، وأن لا يكون في المحل، من يكرهه المدعو، أو لا يليق به مجالسته، أو يكره هو المدعو.
2646 - وقد جاء عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» رواه مسلم وأكثر الأصحاب لا يشترطون هذا، والله أعلم.

(5/331)


قال: فإن لم يحب أن يطعم دعا وانصرف.
ش: الواجب الإجابة، أما الأكل فغير واجب.
2647 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك» رواه أحمد ومسلم وأبو داود، ثم لا يخلو إما أن يكون صائما أو مفطرا، فإن كان مفطرا استحب له الأكل، لأنه أبلغ في إكرام الداعي وجبر قلبه.
2648 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم» رواه مسلم، وفي لفظ له أيضا: «إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم» ، وإن كان صائما فإن

(5/332)


كان صومه واجبا لم يفطر، حذارا من ترك واجب لما ليس بواجب، وإن كان متنفلا فقيل: يستحب الأكل مطلقا، لما فيه من إدخال السرور على قلب الداعي، مع جواز الخروج من الصوم.
2649 - وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في دعوة ومعه جماعة فاعتزل رجل من القوم ناحية: فقال: إني صائم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعاكم أخوكم، وتكلف لكم، كل ثم صم يوما مكانه إن شئت» » ، وقيل: إن لم ينكسر قلب الداعي بعدم الأكل فإتمام الصوم أولى، لظاهر ما تقدم، ويستحب أن يعلمهم ويدعو لهم لما تقدم، إذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليصل» أي يدعو.
2650 - وقد جاء عن ابن عمر أنه حضر وهو صائم، وقال: إني صائم. والله أعلم.

قال: ودعوة الختان لا يعرفها المتقدمون.
ش: يعني السلف الصالح، كالصحابة والتابعين.
2651 - وقد روي عن عثمان بن أبي العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه دعي إلى ختان فأبى أن يجيب، فقيل له، فقال: إنا كنا لا نأتي الختان

(5/333)


على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا ندعى إليه. رواه أحمد لكنه ضعف، وظاهر كلام الخرقي أنها غير مستحبة، وقد نص أحمد والقاضي، وعامة أصحابه على أنها مباحة لا تكره، ولا تستحب لهذا الأثر وخالفهم أبو محمد في كتبه الثلاثة، فقطع باستحبابها، لما فيها من إطعام الطعام، وهو مندوب إليه في الجملة، وهذان القولان في سائر الطعام، وحكى ابن حمدان قولا بكراهة دعوة الختان خاصة، ويحتمله كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم.

قال: ولا على من دعي إليها أن يجيب، وإنما وردت السنة في إجابة من دعي إلى وليمة تزويج.
ش: ظاهر هذا أن الإجابة إلى دعوة الختان مباحة، وهو منصوص أحمد، وقول القاضي وجماعة من أصحابه كعملها، ولحديث عثمان، وقال أبو محمد بالاستحباب، وهو الظاهر،

(5/334)


بل لو قيل بالوجوب لكان متجها.
2652 - لعموم «إذا دعي أحدكم للوليمة فليأتها» «إذا دعي أحدكم فليجب، إذا دعي إلى طعام» .
2653 - وفي مسلم في حديث ابن عمر: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب، عرسا كان أو نحوه» ، وهذان القولان أيضا في سائر الولائم، والله أعلم.

[النثار في العرس]
قال: والنثار مكروه، لأنه شبيه بالنهبة، وقد يأخذه من غيره أحب إلى صاحب النثار منه.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، لما علل به الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنه يأخذه من غيره أحب إلى صاحب الطعام منه، ولا يكون طيب القلب بأخذه، وذلك يورث شبهة، وبأنه شبيه بالنهبة والشبيه بالشيء يعطى حكمه.

(5/335)


2654 - ودليل الأصل ما روى عبد الله بن يزيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المثلة والنهبى» . رواه أحمد والبخاري.
2655 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من انتهب فليس منا» رواه أحمد والترمذي وصححه. (والثانية) لا يكره، اختارها أبو بكر.
2656 - لأنه قد «جاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضر ملاك رجل من الأنصار الحديث، وفيه: وأقبلت السلال فيها الفاكهة والسكر، فنثر عليهم، فأمسك القوم ولم ينتهبوا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا تنتهبون؟» قالوا: يا رسول الله نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا، قال: «إنما نهيتكم عن نهبة العساكر، ولم أنهكم عن نهبة الولائم» رواه العقيلي، وضعفه عبد الحق الإشبيلي.

(5/336)


2657 - واعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البدنات لما نحرهن: «من شاء اقتطع» وحكم الالتقاط حكم النثار، والله أعلم.

قال: فإن قسم على الحاضرين فلا بأس بأخذه، لما روي عن أبي عبد الله أن بعض أولاده حذق، فقسم على الصبيان الجوز.

(5/337)


ش: لانتفاء المفسدة السابقة، مع أن فيه إطعام الطعام، وجبر قلب الصبي وتنشيطه، وتنشيط أمثاله، وذلك مصلحة محضة، ولذلك حسنه أبو محمد.
(تنبيه) : الأطعمة التي يدعى إليها عشرة (أحدها) : الوليمة طعام العرس؛ (والثاني) : الحذاق وهو الطعام عند حذاق الصبي؛ (والثالث) : العذيرة والإعذار للختان، وهذه الثلاثة ذكرها الخرقي؛ (والرابع) : الخرسة والخرس، لطعام الولادة؛ (والخامس) : الوكيرة، لدعوة البناء؛ (والسادس) : النقيعة لقدوم الغائب؛ (والسابع) : العقيقة، الذبح لأجل الولد؛ (الثامن) : المأدبة، كل دعوة لسبب كانت أو غيره؛ (التاسع) : الوضيمة، طعام المأتم؛ (العاشر) : التحفة، طعام القادم، والله سبحانه أعلم.

(5/338)