شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب القسامة]
ش: القسامة الأيمان يقسم بها أولياء الدم على استحقاق دم صاحبهم، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، وهو مصدر يقال: أقسم يقسم قسامة إذا حلف.
3026 - والأصل فيها ما «روى سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا، فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة وحويصة ابنا مسعود، إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: «كبر كبر» وهو أحدث القوم، فسكت فتكلما، فقال: «أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم» ؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا» فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده» ، وفي رواية فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» . قالوا: يا رسول الله قوم كفار» . رواه الجماعة.
3027 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، «عن

(6/190)


أناس من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما كانت في الجاهلية، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر.» رواه مسلم وغيره.
(تنبيه) : «يتشحط في دمه» أي يضطرب، «وكبر كبر» أي ليتكلم الأكبر، «وبرمته» يقال: أخذت الشيء برمته، إذا أخذته جميعه، والرمة الحبل، كأنه أعطاه بحبله الذي يكون فيه يقاد به.
قال: وإذا وجد قتيل فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة بينهم ولا لوث، ولم تكن لهم بينة، لم يحكم لهم بيمين ولا غيرها.
ش: غير اليمين القصاص، أو الدية، ولا نزاع عندنا أنه لا يحكم لهم والحال هذه بذلك.
3028 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم وغيره، وظاهره أنه ليس على المدعى عليه غير اليمين، ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يثبت شغلها إلا بدليل ولم يوجد، واختلف عن أحمد

(6/191)


- رَحِمَهُ اللَّهُ - هل يحكم لهم باليمين على المدعى عليه. (فعنه) - وهو اختيار الخرقي - لا يحكم لهم بذلك، لأنها دعوى لا يقضى فيها بالنكول، فلم يستحلف فيها كالحدود، وإنما لم يقض فيها بالنكول حذارا من قتل نفس بأمر محتمل. (وعنه) - وهو اختيار أبي محمد وهو الحق - يحكم لهم بذلك، لعموم الحديث المتقدم، لا سيما والدماء مذكورة في أوله، وذلك قرينة دخولها في اللفظ العام، ولأنه حق لآدمي، فاستحلف فيه كبقية الحقوق، وعدم القضاء بالنكول ليس هو العلة في عدم الحلف في الحدود، وإنما العلة تمحض حقيقته لله تعالى، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى فعلى هذه هل يحلف المدعى عليه يمينا واحدة، اعتمادا على ظاهر الحديث وكبقية الحقوق، وهو اختيار أبي محمد، وابن البنا، وأبي الخطاب، أو خمسين يمينا، لأنها دعوى في قتيل، فكان المشروع فيها خمسين يمينا، كما لو كان بينهما لوث؟ على روايتين، وحيث حلف المدعى عليه فلا كلام، وحيث امتنع لم يقض عليه بالقود، بلا نزاع عندنا، حذارا مما تقدم، وهل يقضى عليه بالدية؟ فيه روايتان، وإذا لم يقض فهل يخلى سبيله، أو يحبس؟ على وجهين. واعلم أن محل الخلاف في أصل المسألة في قتل العمد، أما قتل الخطأ فيستحلف فيه رواية واحدة، لأن موجبه مال. وقول الخرقي: وإذا وجد قتيل، وادعى أولياؤه على قوم. شرط هؤلاء القوم أن يكونوا معينين، فلو كانت الدعوى على

(6/192)


أهل مدينة ونحو ذلك لم تسمع، قياسا على سائر الدعاوي، وقوله: لا عداوة بينهم ولا لوث. يحترز عما لو كان بينهم ذلك كما سيأتي. . . وقوله: ولم تكن لهم بينة. يحترز عما لو كانت بينة، فإنها تبين الحق وتظهره، فيعمل بمقتضاها، والله أعلم.

قال: وإن كان بينهم عداوة ولوث، وادعى أولياؤه على واحد منهم، وأنكر المدعى عليه، ولم يكن للأولياء بينة، حلف الأولياء خمسين يمينا على قاتله، واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمدا.
ش: الأصل في هذه الجملة من جهة الإجمال ما تقدم من حديث سهل بن أبي حثمة، فإن القتيل كان من الأنصار، ولا ريب أن الأنصار ويهود خيبر كانوا متعادين، ولما ادعى أولياء الأنصاري القتل على اليهود، وأنكروا ذلك، ولم تكن لأولياء الأنصاري بينة، قال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتحلفون وتستحقون قاتلكم» ، وفي لفظ قال: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الأولياء يقسمون على القاتل ويستحقونه. أما من جهة التفصيل فقول الخرقي: وإن كان بينهم عداوة ولوث تنبيه على أن القسامة المذكورة من شرطها ذلك، وهو كذلك بلا ريب، لأن الحديث ورد على مثل ذلك، وهو

(6/193)


المثبت للقسامة، فلا يتعداه، ولأنه مع العداوة ونحوها يغلب على الظن صدق المدعين، فتكون اليمين في جهتهم، إذ اليمين في جنبة أقوى المتداعيين، ولا نزاع عن إمامنا وأصحابنا أن الحكم يثبت بالعداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار وأهل خيبر، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر، وكما بين أهل البغي وأهل العدل، وبين الشرطة واللصوص، ونحو ذلك، نظرا إلى واقعة الحديث، وما في معناها، من حيث أن لا فارق، فهو كقياس الشيرج على السمن، والأمة على العبد. واختلف عن إمامنا هل يقتصر على ذلك، وبه قطع جماعة من الأصحاب، وقال أبو الخطاب: إنه اختيار عامتهم، اقتصارا على مورد النص وما في معناه، أو يتعدى ذلك إلى كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى، كتفرق جماعة عن قتيل، ووجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم، وشهادة من لا يثبت القتل بشهادته، كالعدل الواحد، أو النساء أو الصبيان، أو الفساق ونحو ذلك، إناطة بغلبة الظن، لأن ذلك معنى مناسب، ولأن كثيرا من الأحكام يناط بها؟ على روايتين ثم قول الخرقي: عداوة ولوث، ظاهره أنه لا بد من الجمع بينهما، فيحتمل أن يريد أنه لا يكتفى بمجرد العداوة، بل لا بد من قدر

(6/194)


زائد، وهو (إما) ظهور العداوة كما تقدم، وعبر عن ذلك باللوث، (وإما) أن لا يكون في الموضع الذي وقع به القتل غير العدو، كما هو رأي القاضي في موضع، لكن منصوص أحمد أن ذلك لا يشترط، وكذلك وقع للقاضي في موضع، قال في قوم ازدحموا في مضيق، فافترقوا عن قتيل: إن كان في القوم من بينه وبينه عداوة، وأمكن أن يكون هو قتله، لكونه يقر به فهو لوث، (وإما) أن يكون بالقتيل مع العداوة أثر القتل. وقد اختلف عن أحمد هل فقد الأثر قادح في اللوث لضعف غلبة الظن إذا، إذ القتل لا يخلو غالبا من أثر، ولأن الواقعة التي وقعت في الأنصاري كان به أثر القتل، لأنه كان يتشحط في دمه قتيلا - وهذا اختيار أبي بكر - أو ليس بقادح، لأن القتل لا يستلزم الأثر، لأنه قد يغمه أو يعصر خصيتيه، ونحو ذلك - وهو اختيار القاضي وجماعة من أصحابه، الشريف وابن البنا، وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم؟ على روايتين (وإما) أن الواو بمعنى أو، ويكون مختاره الرواية الثانية، انتهى. وقوله: وادعى أولياؤه، ظاهره أنه لا بد من اتفاق جميع الأولياء في الدعوى على المتهم بقتله. فلو ادعى أحدهم أنه قتل، وقال آخر: بل مات حتف أنفه، أو ادعى أحدهم أن زيدا قتله، وآخر أن عمرا قتله، لم

(6/195)


تشرع القسامة، إذ مع ذلك تضعف غلبة الظن أو تزول، ومن ثم قال أبو البركات: إن ذلك قادح في اللوث، انتهى. وقوله: على واحد منهم، يحترز عما لو ادعوا القتل على جماعة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وقوله: وأنكر المدعى عليه، ولم تكن للأولياء بينة. لأن مع الإقرار أو البينة يثبت الحق وتزول القسامة. وقوله: حلف الأولياء، فيه أمران (أحدهما) أن البادئ باليمين هم أولياء المقتول، وهذا مذهبنا، لحديث سهل بن أبي حثمة، وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» غايته عموم فيتخصص بذلك.
3029 - وقول عبد الرحمن بن بجيد أن سهلا والله أوهم الحديث، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى يهود: «أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه» فكتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا: ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده بمائة ناقة» .
3030 - وكذلك حديث «أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن رجل من الأنصار، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لليهود وبدأ بهم: «يحلف منكم خمسون رجلا» فأبوا، فقال

(6/196)


للأنصار: «استحقوا» ، قالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله، فجعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية على اليهود، لأنه وجد بين أظهرهم» . رواهما أبو داود، لا يقاومان حديث سهل، لاتفاق الأئمة على إخراجه وصحته، ودعوى الوهم الأصل عدمه، لا سيما وسهل ممن حضر الواقعة وعرفها. قال في الصحيح: «فبعث إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة ناقة حمراء، حتى أدخلت عليهم الدار، فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء» . فإن قيل: ففي بعض الروايات عن سهل، عن رجال من كبراء قومه، وهذا يدل على أنه لم يشهد الواقعة، قيل: يجمع بين الروايات بأن يكون ابتداء القصة كان عن إخبار، ثم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحويصة ومحيصة ولليهود كان عن مشاهدة، ثم لو ثبت أن الجميع كان عن غير مشاهدة، فسهل صحابي، ومراسيل الصحابة حجة، وقد قال: عن رجال من كبراء قومه، لا ريب أنهم من الصحابة، ثم حديث عبد الرحمن بن بجيد، والرجل الذي من الأنصار متعارضان،

(6/197)


إذ في حديث عبد الرحمن أن اليهود كتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وداه، وفي حديث الأنصاري أن اليهود أبوا أن يحلفوا، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الدية عليهم.
3031 - وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» رواه الدارقطني، وهذا نص يقطع النزاع إن ثبت. (الأمر الثاني) من هم الأولياء؟ فيه عن أحمد روايتان. .
(إحداهما) - وهي اختيار ابن حامد، وزعم أبو محمد أنه ظاهر قول الخرقي، من قوله: إذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم، وليس بالبين - أنهم الرجال الوراث، من ذوي الفروض أو العصبات، دون غيرهم، لأنهم المستحقون للقتل، المطالبون به، فاختصت اليمين بهم، كبقية الدعاوي ويؤيد هذا حديث عمرو بن شعيب المتقدم: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» ، فظاهره أن في القسامة اليمين على المدعي، والمدعي هو المستحق للدم.

(6/198)


(والثانية) : واختارها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا وشيخهم فيما أظن، أنهم العصبة وراثا كانوا أو غير وراث، لحديث سهل: «يقسم خمسون منكم» ، والظاهر أنه لم يكن له من الورثة خمسون رجلا، وفي الحديث قال: «فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن؛ «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» قالوا: لا.» وهذا تصريح بأن الخطاب والجواب وقع لعصبة غير وراث، وهما حويصة ومحيصة، إذ هما ابنا عم القتيل. ولا نسلم أن الدعوى في القسامة إنما تكون من المستحقين للدم، بل تكون للعصبة مطلقا، بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منع عبد الرحمن من الكلام، وأذن لحويصة ومحيصة، ففي الحديث: فذهب عبد الرحمن ليتكلم، لمكانه من أخيه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كبر كبر» ، فتكلم حويصة ومحيصة، وكأن المعنى فيها والله أعلم طلب الثأر، وذلك لا يختص الورثة، وهذا ظاهر لا خفاء به، ومن الغريب جزم أبي البركات بالرواية الأولى، مع مخالفتها لظاهر الحديث، وعلى هذه الرواية يبدأ من العصبة بالمستحقين للدم، فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبات، الأقرب فالأقرب، فإن لم يوجد من نسبه خمسون رددت الأيمان عليهم، وقسمت بينهم، انتهى. وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أنهم العصبة الوراث.

(6/199)


وقول الخرقي: خمسين يمينا؛ للحديث وفيه لفظان، يقسم خمسون منكم، أتحلفون خمسين يمينا؛ وقوله: على قاتله، قد يقال: إنه يشمل القاتل عمدا أو خطأ، وقول الخرقي بعد: واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمدا؛ أي وإن كانت غير عمد فالدية، لما تقرر أن الواجب في غير العمد الدية، وهذا منصوص أحمد، وقول الأصحاب: لأنها دعوى قتل، فشرعت فيها القسامة كالعمد، وأخذ أبو محمد في المغني من هذه المسألة، ومما يأتي بعد، أن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع في الخطأ، وقطع بذلك عنه في المقنع، فقال: وذكر الخرقي أن من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمدا، ومال هو أيضا إلى ذلك، لأن من شرط القسامة اللوث، واللوث على الصحيح عندهم هو العداوة، وتبعد التهمة مع الخطأ، وهذا نظر حسن إلا أن كلام الخرقي ليس بالبين في ذلك، ولذلك لم أر أحدا من الأصحاب عرج عليه، وقول أبي البركات، وقيل: لا قسامة في الخطأ؛ يشير إلى قول أبي محمد، ولو اتضح له أن ذلك ظاهر كلام الخرقي أو نصه لصرح بذلك عنه، وبالجملة القول بالقسامة في الخطأ واضح إن قيل: اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي، أما إذا قيل: اللوث هو العداوة فقط ففي القسامة في الخطأ نظر انتهى. وقوله: واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمدا. هذا مذهبنا

(6/200)


أن القسامة قد توجب القصاص، لما تقدم في الحديث: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» .
3032 - وفي لفظ لأحمد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ثم نسلمه» .
3033 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء على شط لية، فقال القاتل والمقتول منهم» ، رواه أبو داود.
3034 - وقول أبي قلابة في صحيح البخاري: «ما قتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في إحدى ثلاث خصال، رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنا بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله» ، وإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قال: أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم مردود بحديث سهل، وهو صحابي، وأعرف منه بالقصة لحضورها، ثم هو مثبت، والمثبت مقدم على النافي.
(تنبيه) : «الجريرة» الذنب والجرم الذي يجنيه الإنسان، «وبحرة الرغاء» البلدة.
قال: فإن لم يحلف الأولياء حلف المدعى عليه خمسين

(6/201)


يمينا وبرئ.
ش: هذا هو المذهب المعروف، لحديث سهل «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي يتبرؤون منكم، وفي لفظ: «فتحلف لكم يهود» ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه، فبرئ بها كسائر الأيمان، وحكي (عن أحمد) رواية أخرى أنهم يحلفون ويغرمون الدية، لحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار المتقدم، وهو إن صح لا يدل، لأن اليهود لم يحلفوا، فعلى المذهب لو نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب عليه القود، وهل تجب عليه الدية - وهو اختيار أبي بكر والشريف، وأبي الخطاب وأبي محمد - كبقية الدعاوي، أو لا تجب بل تكون في بيت المال؟ على روايتين، وعلى الثانية. . . هل يخلى سبيله، أو يحبس حتى يقر أو يحلف؟ على روايتين.
قال: فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، فداه الإمام من بيت المال.
ش: لما تقدم من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى عبد الله بن سهل لما لم يرض الأولياء بيمين اليهود، فإن تعذر الفداء من بيت المال لم يجب على المدعى عليه شيء، إذ الواجب عليه اليمين، ومستحقها امتنع من استيفائها. قال: وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال: دمي عند فلان. فليس ذلك بموجب للقسامة ما لم يكن لوث.
ش: لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس

(6/202)


بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» ولأنه خصم، فلم تكن مجرد دعواه لوثا كالخصم، والله أعلم.

قال: والنساء والصبيان لا يقسمون.
ش: لا نزاع أن الصبيان لا يقسمون، سواء كانوا من أهل القتيل أو مدعى عليهم، لأن الأيمان حجة للحالف، والصبي لا يثبت بقوله حجة، حتى إنه لو أقر على نفسه لم يقبل، فعلى هذا إذا كان مستحق الدم بالغا وصبيا فهل تشرع القسامة في حق البالغ، وهو المشهور، أو لا تشرع حتى يبلغ الصبي، وهو اختيار أبي محمد؟ فيه وجهان، وعلى المذهب يحلف البالغ ويستحق نصف الدية، وهل يحلف خمسين يمينا، قاله أبو بكر في الخلاف، أو خمسا وعشرين، وهو اختيار ابن حامد؟ فيه وجهان، وعلى الوجهين إذا بلغ الصبي حلف خمسا وعشرين، واستحق بقية الدية، وفيه وجه آخر أنه يحلف خمسين يمينا، كالبالغ ابتداء في وجه قوي، والحكم في المجنون والغائب، والناكل عن اليمين، كالحكم في الصبي. وأما النساء فلا يقسمون أيضا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما خاطب الرجال فقال: «يقسم خمسون منكم» الحديث، وزعم أبو محمد أن في الحديث «يقسم خمسون رجلا منكم» ولم أره، ولأن الأيمان في القسامة من المدعين نزلت

(6/203)


منزلة الشهادة، ولا مدخل للنساء في شهادة القتل، فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء أقسم الرجال، وسقط حكم النساء، فإن كان الجميع نساء فهو كما لو نكل الورثة وقد تقدم.
(تنبيه) : هل للخنثى المشكل مدخل في القسامة؟ فيه وجهان (أحدهما) نعم، وهو ظاهر كلام الخرقي، لأن سبب القسامة وهو الاستحقاق قد وجد، والمانع مشكوك فيه.
(والثاني) لا، إذ القتل لا يثبت بشهادته فهو كالمرأة.
قال: وإذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم، وحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا.
ش: لما تقدم للخرقي أن النساء لا مدخل لهن في القسامة، أشار إلى أنها تشرع في حق الرجال الوارثين، وأنها تقسم بينهم على قدر إرثهم - ومن هنا قال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي أنها تختص بالوراث، وقد تقدم، فعلى هذا إذا خلف المقتول ابنين، حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا، ولا كسر، وإن خلف ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم، فحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا، إذ تكميل الخمسين واجب، ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم عن بعض، حذارا من الترجيح بلا مرجح، فوجب تكميل اليمين المكسورة على الجميع، نظرا إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب.
قال: وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا. حرا أو عبدا، إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل، لأن

(6/204)


القسامة توجب القود، إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية.
ش: أما المسلم الحر فلا نزاع فيه، لورود الحديث فيه، وأما الكافر والعبد ففي معناه، إذ المقتضى للقسامة اللوث، وهو موجود في قتلهما، وعلى هذا يحلف سيد العبد، ويستحق القصاص أو قيمته، ثم إن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع إلا فيما يوجب القصاص، كذا فهم أبو محمد، واختار ذلك، فعلى هذا لا تشرع في غير العمد المحض، ولا في قتل غير المكافئ ونحو ذلك، والمشهور مشروعية القسامة في جميع ذلك، حتى إني لم أر الأصحاب عرجوا على كلام الخرقي، والذي يظهر مشروعيتها في غير الخطأ، لوجود اللوث المقتضي لها، بخلاف الخطأ، فإن اللوث وهو العداوة على المشهور لا يتأتى، والله أعلم.

قال: وليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد.
ش: لا نزاع عندنا أن القسامة [عندنا] لا تشرع على أكثر من واحد، إذا كانت الدعوى موجبة للقصاص، اعتمادا على الحديث، وهو قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» وحذارا من أخذ أنفس بنفس واحدة، ببينة ضعيفة، وبيان ضعفها أن الحق هنا ثبت بقول المدعي مع يمينه، مع التهمة في حقه، وقيام العداوة المانعة من صحة شهادته على عدوه في حق لغيره، فما بالك في حق لنفسه، وفارق البينة، فإنها قوية بالعدد، وعدالة الشهود، وانتفاء التهمة في حقهم، لأنهم لا يثبتون لأنفسهم حقا، ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه، واختلف عن إمامنا هل تشرع القسامة على أكثر من

(6/205)


واحد، إذا كانت الدعوى موجبة للدية؟ (فعنه) - وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر والقاضي، وجماعة من أصحابه، الشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي وابن البنا، وابن عقيل - لا تشرع، اقتصارا على مورد النص (وعنه) تشرع، لأنها بمنزلة البينة في إثبات القود، فكذلك في القسامة على أكثر من واحد، وإنما تركنا ذلك فيما إذا كانت موجبة للقصاص، للمحذور السابق، وقد انتفى هنا، فعلى هذا هل يحلف كل واحد من المدعى عليهم خمسين يمينا، أو قسطه منها؟ على وجهين.

[كفارة القتل الخطأ]
قال: ومن قتل نفسا محرمة، أو شارك فيها، أو ضرب بطن امرأة، حرة كانت أو أمة، فألقت جنينا ميتا، وكان القتل خطأ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، توبة من الله عز وجل. . . وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على أن على قاتل العمد أيضا تحرير رقبة.
ش: الأصل في كفارة القتل في الجملة الإجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية.

(6/206)


إذا تقرر هذا فقول الخرقي: من قتل، يشمل الذكر والأنثى، والحر والعبد، والمكلف وغير المكلف، والمسلم والكافر، والآية الكريمة صالحة لدخول جميع ذلك فيها إلا غير المكلف، فإنه لا يتناوله الخطاب التكليفي، فإذا وجوب الكفارة في ماله بضرب من القياس، وهو أن الكفارة حق مالي يتعلق بالقتل، فتعلقت بغير المكلف كالدية، وفيه شيء، إذ الدية لا تتعلق به، إنما تتعلق بالعاقلة على المذهب. وقوله: نفسا، يشمل الذكر والأنثى، والحر والعبد، والمسلم والكافر، والمكلف وغير المكلف، حتى لو قتل نفسه، أو عبده، أو إنسانا بإذنه، والكتاب العزيز شامل لجميع ذلك، إذ يدخل في {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] الذكر والأنثى بعرف الشرع، والحر والعبد، والمكلف وغير المكلف، إذ الصبي ونحوه مؤمن حكما، وعبده والأجنبي بإذنه، وكذلك قد تدخل نفسه، ونازع في ذلك أبو محمد، واختار أن الكفارة لا تجب في قتله نفسه، وقال: الآية أريد بها إذا قتله غيره، بدليل قوله سبحانه: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقاتل نفسه لا تجب فيه دية.
3035 - بدليل عامر بن الأكوع، فإنه قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه بكفارة ولا دية، وفيه نظر، إذ هذه واقعة عين،

(6/207)


فيجوز أن يكون الحكم كان مقررا معروفا عندهم، ثم غايته أنه لم ينقل إلينا ذلك، وعدم النقل لا يدل على العدم. ويشمل كلام الخرقي أيضا القتل بمباشرة أو سبب، والآية صالحة لذلك، إذ المتسبب يصلح نسبة القتل إليه، وقوله: محرمة، يخرج منه القتل المباح، كقتل الحربي، والباغي، والزاني المحصن، والمستحق قتله قصاصا، ونحو ذلك، أما الحربي ونحوه فلا يدخل في الآية الكريمة، لخروجه من قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] وعدم دخوله في قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] الآية، وأما من عداه فبالنظر إلى المعنى، إذ الكفارة وجبت ماحية أو زاجرة، وقتل من ذكر أمر مطلوب، فلا شيء يمحى ولا يزجر عنه. ويشمل كل نفس محرمة، وقد استثنى أبو محمد من ذلك نساء أهل الحرب وصبيانهم، ومن لم تبلغه الدعوة، إذ لا إيمان لهم ولا أمان، فلم يدخلوا في مقتضى الكتاب العزيز، وقد يقال: إن كلام الخرقي يخرج منه قتل الخطأ، فإنه على الصحيح لا يوصف بتحريم ولا إباحة، ويجاب بأنه لم يصف القتل بأنه محرم، بل وصف النفس بكونها محرمة، ولا ريب أن المقتول خطأ نفسه محرمة الإزالة، وأبو البركات كأنه استشعر ذلك فعدل عن «محرمة» إلى: بغير حق.
وقوله: أو شارك فيها، هذا هو المذهب المشهور أن

(6/208)


الكفارة تتعدد بتعدد القاتلين، لأنها من موجب قتل الآدمي، فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص، (وعن أحمد) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة، وهي أظهر من جهة الدليل، للآية الكريمة، إذ هي تتناول الواحد والجماعة، والله سبحانه جعل الواجب كفارة واحدة، وكون القصاص يجب على كل واحد من المشتركين ممنوع، ولو سلم فذلك سدا للذريعة، وحسما للمادة، وقتل الخطأ ونحوه لا يقصد، فلا سد، ثم هو منقوض بالدية، فإنها لا تكمل في حق كل واحد من الشركاء على المذهب.
(تنبيه) : قال أبو محمد في المغني فيما إذا رمى ثلاثة بالمنجنيق، فرجع الحجر فقتل رجلا أن على كل واحد منهم عتق رقبة، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، لأن كل واحد منهم مشارك في قتل آدمي معصوم، والكفارة لا تتبعض، وغفل عن رواية أن على الجميع كفارة واحدة، مع أنه حكاه هنا عن أبي ثور، قال: وحكي عن الأوزاعي، وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي.
(وقوله) : أو ضرب بطن امرأة حرة كانت أو أمة، فألقت جنينا ميتا. قد تقدم ذلك في دية الجنين، فلينظر ثم، (وقوله) وكان القتل خطأ. يخرج العمد وشبهه، ولا نزاع أن في قتل العمد روايتان (إحداهما) - وهي

(6/209)


اختيار أبي بكر وابن حامد، والقاضي وولده أبي الحسين، والشريف وأبي الخطاب، والشيرازي وابن البنا - لا كفارة فيه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] الآية. . . إلى قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] فإنه سبحانه قسم القتل إلى قسمين قسم أوجب فيه الدية والكفارة، وقسم جعل الجزاء فيه جهنم، وظاهر ذلك أنه لا كفارة فيه، يرشح ذلك أن الكفارة وجبت محوا لما حصل من ذهاب نفس مستحقة للبقاء، والعمد أعظم من أن يمحى ما حصل فيه من الإثم بذلك.
3036 - ولأن ذلك قول ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (والثانية) فيه الكفارة.
3037 - لما «روى واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب لنا أوجب يعني النار بالقتل، فقال: «أعتقوا عنه، يعتق

(6/210)


الله بكل عضو منه عضوا من النار» رواه أحمد وأبو داود، ولأنه أعظم جرما، فالحاجة إلى تكفيره أبلغ، وهذه الرواية زعم القاضي والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما أنها اختيار الخرقي، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، بل تقديمه يشعر بخلافه، وقد حكى أبو محمد عن القاضي أنه قال: يلزم الشهود والكفارة، سواء قالوا: أخطأنا أو تعمدنا. قال أبو محمد: وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال، ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد، قال أبو محمد: لأنه وإن قصد به القتل فهو جار مجرى الخطأ، في أنه لا يجب به القصاص. (قلت) : وهذا ذهول عن المسألة، بل متى قالت الشهود: تعمدنا القتل، وجب القصاص.
(تنبيه) : قال أبو محمد: ولا فرق بين العمد الموجب للقصاص وغيره، كقتل الوالد ولده، والسيد عبده، والمسلم الكافر ونحو ذلك، نظرا للعمدية، انتهى.
أما شبه العمد فوقع لأبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المقنع إجراء الروايتين فيه، وهو ذهول، فقد قال في المغني: لا

(6/211)


أعلم لأصحابنا فيه قولا، ومقتضى الدليل وجوب الكفارة فيه، لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص، وحمل العاقلة ديته وغير ذلك، فكذلك في الكفارة. قلت: وقد نص على وجوب الكفارة في شبه العمد الشيرازي وابن البنا، والسامري وأبو البركات، وبالله التوفيق.
ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما فرغ من ذكر من تجب عليه الكفارة بين صفة الكفارة فقال: إنها عتق رقبة مؤمنة. وذلك بنص الكتاب العزيز، فمن لم يجدها في ملكه فاضلا عن حاجته، ولم يجد ثمنها فاضلا عن كفايته، فعليه صيام شهرين متتابعين، بنص الكتاب العزيز أيضا، فإن لم يستطع فهل يلزمه إطعام ستين مسكينا، ككفارة الظهار، والوطء في نهار رمضان، أو لا يلزمه، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي الخطاب، والشريف في خلافيهما؟ فيه روايتان، ثم إن كلام الخرقي هنا يشمل العبد، وهو مستثنى من ذلك، فإن كفارته الصيام، لعجزه عما سواه، نعم إن أذن له السيد في التكفير بالمال فهل يملك ذلك مطلقا، أو إن قلنا: يملك؟ على طريقتين قد تقدمتا، وحيث ملك ذلك فله التكفير بالإطعام، وفي العتق روايتان.

[ما يثبت به القصاص]
قال: وما أوجب القصاص فلا يقبل فيه إلا عدلان.

(6/212)


ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار من الروايتين.
3038 - لما روى «رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك له، فقال: «لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟» قالوا: يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين، وإنما هم يهود، وقد يجترون على أعظم من هذا، قال: «فاختاروا منهم خمسين فأستحلفهم» فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده» ، رواه أبو داود.
3039 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، «أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقم الشاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» وذكر الحديث رواه النسائي وهو يدل بمنطوقه على الاكتفاء بشاهدين، وبمفهومه على أنه لا يكتفى بغير ذلك، فلا يقبل رجل وامرأتان، ولا رجل ويمين المدعي، وقد قال أبو محمد: إنه لا يعلم في ذلك خلافا، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: لا يقبل في ذلك إلا أربعة، كشهادة الزنا، والجامع حصول القتل منهما، وهي مردودة بما تقدم.
قال: وما أوجب من الجنايات المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان، أو رجل عدل مع يمين الطالب.

(6/213)


ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي، والشيرازي، وابن البنا، وأبي محمد، لأنها شهادة على ما يقصد به المال على الخصوص، فوجب أن يقبل فيه ذلك، كالشهادة على البيع، وفارق قتل العمد، فإنه موجب العقوبة، فلذلك احتيط له.
(والثانية) : لا يقبل فيه إلا رجلان، اختارها أبو بكر، وابن أبي موسى، لأنها شهادة على قتل، فلم تسمع من النساء، كالقتل العمد، فعلى الأول لو كان القصاص في بعضها، كالهاشمة والمأمومة، فهل يغلب جانب القصاص، فلا يقبل إلا رجلان، أو جانب المال، فيقبل رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي؟ على روايتين.

(6/214)


[باب قتال أهل البغي]
ش: الأصل في جواز قتالهم في الجملة قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] الآية. . . إلى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] .
3040 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكون أمتي فرقتين، فيخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم أولاهما بالحق» رواه مسلم وغيره.
3041 - وقد قاتل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهل الجمل وأهل صفين.
قال: وإذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه حوربوا.
ش: الأصل في هذا ما تقدم.

(6/215)


3042 - وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته ميتة جاهلية» متفق عليه.
3043 - وعن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» .
3044 - وعن عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» . رواهما أحمد ومسلم.
3045 - «وعن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا

(6/216)


كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان» متفق عليه، إذ تقرر هذا فالإمام الذي هذا حكمه هو من اتفق المسلمون على إمامته كأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعوا على إمامته وبيعته، أو عهد الإمام الذي قبله إليه كما عهد أبو بكر الصديق إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأجمع الصحابة على قبول ذلك، وفي معنى ذلك لو خرج رجل على الإمام فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له، وأذعنوا لطاعته وبايعوه، كعبد الملك بن مروان، فإنه حرج على ابن الزبير فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بويع طوعا وكرها، فإنه يصير إماما، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره.

[أنواع البغي]
(تنبيه) : الخارجون على الإمام أربعة أصناف (أحدها) قوم امتنعوا من طاعته، وخرجوا عن قبضته بلا تأويل، أو بتأويل غير سائغ، فهؤلاء قطاع الطريق، يأتي حكمهم إن شاء الله تعالى.
(الثاني) قوم خرجوا عن قبضة الإمام أيضا، ولهم

(6/217)


تأويل سائغ، إلا أنهم غير ممتنعين لقلتهم، فحكى أبو الخطاب فيهم روايتين (إحداهما) وصححها، وكذلك صححها الشريف، وحكاها أبو محمد عن الأكثرين - حكمهم حكم قطاع الطريق أيضا (والثانية) - وحكاها أبو محمد عن أبي بكر - حكمهم حكم البغاة (الثالث) الخوارج الذين يكفرون بالذنب، ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم، فهؤلاء فيهم عن أحمد روايتان، حكاهما القاضي في تعليقه (إحداهما) أنهم كفار، فعلى هذا حكمهم حكم المرتدين، تباح دماؤهم وأموالهم، وإن تحيزوا في مكان، وكانت لهم منعة وشوكة، صاروا أهل حرب، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كالمرتدين، فإن تابوا وإلا قتلوا.
3046 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول) «سيخرج قوم في آخر الزمان، حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» متفق عليه.

(6/218)


3047 - «وعن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق، فقال: كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] إلى آخر الآية. . . فقيل له: أنت سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه. .» . رواه الترمذي وحسنه.
(والثانية) لا يحكم بكفرهم.
3048 - لما روى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق» رواه البخاري وغيره.
قال أبو عمر بن عبد البر قوله: يتمارى في الفوق، يدل على أنه لم يكفرهم، لأنهم علقوا من الإسلام بشيء، بحيث يشك في خروجهم منه.

(6/219)


3049 - ولعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» فعلى هذه قال أبو محمد في المغني ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة، حكمهم حكمهم. وحكى ذلك في الكافي عن فقهاء الأصحاب، واختار هو أنه يجوز قتلهم ابتداء، والإجازة على جريحهم، لما تقدم من مروقهم من الدين، وأنهم كلاب النار، وأن في قتلهم أجرا لمن قتلهم.
3050 - وفي الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال فيهم: «لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» » وهذا توسط حسن، وهو اختيار أبي العباس، بل قال: إن الذي عليه أئمة الحديث كالأوزاعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، الفرق بين البغاة وبين الخوارج، وأن قتال علي الخوارج كان ثابتا بالنصوص الصريحة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالاتفاق، وأما القتال يوم صفين ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة، بل امتنع منه أكابرهم، كسعد بن أبي وقاص، الذي لم يكن بعد علي مثله، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة رضي الله

(6/220)


عنهم، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب الإصلاح بين الطائفتين لا القتال.
3051 - ففي البخاري «أنه خطب الناس والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معه فقال: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين» ، فأصلح الله تعالى به بين أهل العراق وأهل الشام، فنزل عن الأمر لمعاوية.
3052 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم،

(6/221)


والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي» وذلك نحو ما وقع لأهل الجمل، وهذا ظاهر في أن الذي فعله الحسن هو الذي كان يحبه الله ورسوله، وأن الإصلاح بين الطائفتين ما أمكن أولى من القتال، وهذا بخلاف الخوارج، فإن الذي يحبه الله ورسوله كما دلت عليه الأحاديث هو قتالهم.
(الصنف الرابع) : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه، لتأويل سائغ، وإن كان صوابا، وقيل: لا بد وأن يكون خطأ، ولهم منعة وشوكة، فهؤلاء البغاة المبوب لهم بلا ريب، وكلام الخرقي يقتضي أن كل من طلب موضع الإمام فإنه يحارب، وقرينة «حوربوا» تقتضي أن لهم منعة وشوكة، والله أعلم.
(تنبيه) : «جثمان إنس» ، «يريد أن يشق عصاكم» ، «المنشط» الأمر الذي تنشط له وتخف إليه، وتؤثر فعله، «والمكره» الأمر الذي تكرهه وتتثاقل عنه، «والأثرة» الاستئثار بالشيء والانفراد، والمراد في الحديث إن منعنا حقنا من الغنيمة والفيء، وأعطي غيرنا، نصبر على ذلك،

(6/222)


«والكفر البواح» الجهار، «والبرهان» الحجة والدليل، و «الرمية» و «الفوق والقدح» .

[طرق دفع البغي]
قال: ودفعوا عن ذلك بأسهل ما يعلم أنهم يندفعون به.
ش: البغاة إذا خرجوا على الإمام فإنه يراسلهم، ويسألهم ما ينقمون منه؟ فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ادعوا شبهة كشفها، لما تقدم من قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، فأمر سبحانه بالإصلاح أولا.
3053 - ويروى أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل، ثم أمر أصحابه أن لا يبدؤوهم بالقتال، ثم قال: إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة، ثم سمعهم يقولون:

(6/223)


الله أكبر يا ثارات عثمان، فقال: اللهم أكب قتلة عثمان لوجوههم. فإن رجعوا وإلا خوفهم بالقتال، ومتى أمكن دفعهم بغير القتل لم يجز قتلهم، إذ المقصود كف شرهم، وإن لم يمكن قاتلهم، وعلى رعيته معونته، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره، وصرح أبو محمد، والقاضي في جامعه، بأنه يجب قتالهم، وهو ظاهر حديث عرفجة، وظاهر الآية الكريمة: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] وظاهر قصة الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستكون فتنة» ونحو ذلك يقتضي أن القتال لا يجب، وكيف يجب وقد امتنع منه مَنْ تقدم من الصحابة، وأشار الحسن على أبيه بترك القتال، وعلى هذا فللإمام أن يترك الأمر الذي في يده للذي خرج عليه إن لم يخف مفسدة، كما فعل الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويجوز له القتال، كما فعل الإمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويجب إذا على رعيته معونته بلا ريب، وعلى ذلك تحمل الآية الكريمة والحديث، فإنه متى ترك الإمام الأمر الذي في يده حصل

(6/224)


الإصلاح، فإذًا لا حاجة إلى القتال، وإن لم يترك فهو محق وغيره متعد عليه، فيجب قتاله، وكف شره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] وقوله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وحديث عرفجة وغير ذلك، والله أعلم.

قال: فإن آل ما دعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع.
ش: يعني أنهم إذا دفعوا بالأسهل فالأسهل، فآل ما دفعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع، من إثم ولا ضمان، لأنه فعل مأذون فيه شرعا، أشبه قتال الكفار ونحوهم، وكذلك بطريق الأولى ما أتلفه العادل على الباغي حال الحرب من المال، والله أعلم.

[حكم القتيل من أهل العدل]
قال: وإن قتل الدافع فهو شهيد.
ش: لأنه قتل في قتال مأمور به، أشبه قتيل الكفار، والله أعلم.

[الآثار المترتبة على قتال البغاة]
قال: وإذا اندفعوا لم يتبع لهم مدبر، ولم يجيزوا على جريح.
3054 - ش: لما روي عن مروان بن الحكم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتلن مدبر، ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن. رواه سعيد، ويروى نحوه عن عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن

(6/225)


المقصود كف شرهم وقد حصل، فأشبهوا الصائل، وعموم كلام الخرقي، يقتضي أنه لا فرق بين أن تكون لهم فئة ممتنعة يلجؤون إليها، أو لم تكن، وهو كذلك.
قال: ولم يقتل لهم أسير.
ش: لأن شره قد اندفع بأسره.
3055 - «وعن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا ابن أم عبد ما حكم من بغى على أمتي؟» قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: «لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم» » ، ذكره القاضي في شرحه.

(6/226)


(تنبيه) : «ولا يجاز على جريحهم» أي لا يقتل، «ولا يذفف» .
قال: ولم يغنم لهم مال.
ش: لحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3056 - وعن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون موليا، ولا يسلبون قتيلا، ولأنهم معصومون، أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم، فيبقى ما عداه على أصل التحريم.
قال: ولم تسب لهم ذرية.
ش: لما تقدم في التي قبلها، ولأنهم كالصائل لا يستباح منهم إلا ما حصل به ضرورة دفعهم.
3057 - ويروى أن مما نقمت الخوارج على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنهم قالوا: إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن حلت له دماؤهم، فقد حلت له أموالهم، وإن حرمت عليه أموالهم، فقد حرمت عليه دماؤهم. فقال لهم ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتسبون أمكم يعني عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -؟ أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فإن قلتم: ليست أمكم فقد كفرتم، وإن قلتم: إنها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم.

(6/227)


قال: ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه.
ش: يعني من البغاة، وذلك لأنهم مسلمون، وغايته أنهم مخطئون، فيجري عليهم حكم المسلمين.
3058 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» قال أبو محمد: ولم يفرق أصحابنا بين الخوارج

(6/228)


وغيرهم، وظاهر كلام أحمد أنه لا يصلى على الخوارج، قال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم، وقال: الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم، قد ترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة بأقل من هذا.
3059 - وذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يقاتل في خيبر من ناحية من نواحيها، فقاتل رجل من تلك الناحية وقتل، فلم يصل عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قال: وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم.
ش: لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه.

(6/229)


3060 - وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا أتاه ساعي نجدة الحروري دفع إليه زكاته، وكذلك سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن في الرجوع عليهم تنفيرا لهم عن الرجوع إلى الطاعة، ومن ثم قلنا: لا يضمنون ما أتلفوه في حال الحرب على المذهب، وفي الرجوع على أرباب الأموال ضرر عظيم، ومشقة عظيمة، وإنهما منتفيان شرعا، وحكم الجزية حكم الخراج، ويقبل قول أرباب الصدقات في أنهم قد أخذوا الصدقة منهم بغير يمين، ولا يقبل مجرد قول أهل الذمة، لأنهم غير مأمونين، وقيل: يقبل بعد مضي الحول، إذ الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم، فكان الظاهر معهم، وهل يقبل مجرد قول من عليه الخراج إن كان مسلما في دفع الخراج إليهم، لأنه حق على مسلم، فهو كالزكاة، أو لا يقبل، لأنه عوض فهو كالجزية؟ على وجهين.
قال: ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره.
ش: هذا مبني على أصل، وهو أن البغاة إذا لم يكونوا مبتدعين لا يفسقون، لأن لهم تأويلا سائغا، أشبه اختلاف الفقهاء، فعلى هذا إذا نصبوا قاضيا فحكمه حكم قاضي أهل العدل، إن حكم بما يخالف نص كتاب أو سنة أو إجماع،

(6/230)


كأن يحكم على أهل العدل بضمان ما أتلفوه في الحرب، أو على أهل البغي بنفي ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب، نقض حكمه، وإن حكم بمختلف فيه لم ينقض، كأن حكم بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوه في الحرب، ونحو ذلك، وإن كتب إلى قاضي أهل العدل قبل كتابه لما تقدم، والأولى عند أبي محمد عدم القبول، كسرا لقلوبهم، وإن كان البغاة مبتدعين لم يجز قضاء من ولوه، لانتفاء شرط القضاء وهو العدالة، ولأبي محمد احتمال بصحة القضاء، ونفوذ الأحكام، حذارا من الضرر بفساد العقود المدة الطويلة، والله أعلم.

(6/231)