شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الأقضية]
قال: وإذا هلك رجل وخلف ولدين ومائتي درهم، فأقر أحدهما بمائة درهم دينا على أبيه لأجنبي، دفع إلى المقر له نصف ما في يده من إرثه عن أبيه، إلا أن يكون المقر عدلا فيشاء الغريم أن يحلف مع شهادة الابن، ويأخذ مائة، وتكون المائة الباقية بين الابنين.
ش: وضع هذه المسألة إذا أقر بعض الورثة بدين على مورثهم، فإن عندنا يلزمه من الدين بقدر إرثه، ففي مسألة الخرقي إرثه النصف، فيلزمه نصف الدين، ولو كان إرثه الثلث، لزمه ثلث الدين، ولو كان إرثه الثمن كما لو كان المقر والحال ما تقدم زوجة، لزمها ثمن الدين وعلى هذا، لأن إقراره تضمن أن المقر له يستحق من أصل التركة هذا المبلغ، وفي يده مثلا نصفها، فيلزمه نصفه، وأن إقراره تضمن حقا عليه وحقا على غيره، فيسمع على نفسه، ولم يسمع على غيره، فإن كان المقر عدلا فالغريم مخير، إن شاء استشهده على ذلك، فإذا أتى بلفظ الشهادة حلف مع شهادته واستحق الباقي، إذ لا تهمة في حق المقر، لأنه لا يجر إلى نفسه بالشهادة نفعا، ولا

(7/369)


يدفع بها ضررا والحال هذه، وإن شاء لم يستشهده، واقتصر على ما حصل له بالإقرار، ولو كان المقر عدلين فأكثر وشهدا بذلك، ثبت الدين بشهادتهما، ولزمه قضاؤه من أصل التركة.
واعلم أن في كلام كثير من الأصحاب في المسألة تساهلا يعرف مما أصلوه، وهو أن قولهم: يلزمه من الدين بقدر إرثه.
يشمل ما لو كان الدين المقر به مثلا ألف درهم، وإرثه النصف، وهو مائة درهم، فإن إطلاقهم يقتضي أنه يلزمه خمسمائة درهم لأنها قدر إرثه، وليس كذلك، وإنما تركوا التنبيه على ذلك لأنه أصلوا أولا أن الدين إنما يلزم قضاؤه من التركة، ولا يلزم الورثة شيء زائد عليها، والله أعلم.

قال: وإذا هلك رجل عن ابنين، وله حق بشاهد، وعليه من الدين ما يستغرق ماله، فأبى الوارثان أن يحلفا مع الشاهد، لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت ويستحق.
ش: إنما لم يكن للغريم الذي هو صاحب الدين أن يحلف مع الشاهد ويستحق، لأن الحق ليس له، إنما هو للميت أو للورثة، فأشبه ما لو لم يستغرق حقه الدين، وقد أشعر كلام

(7/370)


الخرقي بأنه لا يجب على الورثة أن يحلفوا، وهو كذلك، لأنهم قد يقوم عندهم شبهة تمنعهم من اليمين، والإنسان لا يجب عليه أن يضر نفسه لنفع غيره.
وقوله: فأبى الوارثان أن يحلفا. يعلم منه أن الحق لا يثبت إلا بيمين جميع الورثة، وهو كذلك، نعم إذا حلف بعضهم ثبت له من الحق بقدر إرثه، ولا يشاركه فيه صاحبه، ويتعلق به من الدين بقدر ما ثبت له.

قال فإن حلف الوارثان مع الشاهد حكم بالدين ودفع إلى الغريم.
ش: هذا مبني على ما تقدم من أن الحقوق المالية تثبت بشاهد ويمين الطالب، وإذا إذا حلف الورثة مع الشاهد حكم بالدين، فصار تركة، ودفع إلى الغريم، لوجوب قضاء الدين قبل الإرث والوصية.
واعلم أن في كلام الخرقي ما يشعر بأن الدين يمنع نقل التركة إلى الورثة لأنه قال أولا: ولو هلك رجل عن ابنين وله حق بشاهد.
إلى آخر المسألة، فأضاف الحق إلى الميت، والأصل في الإضافة الحقيقية، وقد اختلفت الرواية في هذه المسألة، والمنصوص المشهور المختار للأصحاب أن الدين لا يمنع نقل التركة إلى الورثة (وعن أحمد) رواية أخرى أنه يمنع في قدره، وعلى هذه يكون نماء التركة حكمه حكمها، وما تحتاج إليه من المؤونة منها، ولا يصح تصرفهم فيها، لعدم ملكهم لها، وعلى

(7/371)


المذهب هل يصح تصرفهم فهيا؟ فيه خلاف مبني على أن تعلق حق الغرماء بالتركة هل هو كتعلق حق المرتهن بالرهن، وهو الذي ذكره القاضي في تعليقه في الزكاة في موضعين استطرادا، فعلى هذا لا يصح تصرفهم، أو كتعلق حق المجني عليه بالعبد الجاني؟ وهو الذي أورده أبو محمد في المغني مذهبا، وقال ابن حمدان: إنه الأقيس، وعلى هذا يصح تصرفهم، ثم إن قضوا الدين وإلا نقض، قاله أبو محمد في المغني، وحكى ابن حمدان قولا آخر على هذا القول أن الوارث لا يتصرف قبل الوفاء بدون إذن الغريم، أو التوثيق برهن يفي بالحق، أو كفيل مليء، وينبني أيضا على الخلاف في التعلق حكم النماء، فإن قيل كتعلق المرتهن بالرهن، تعلق الدين بالنماء، وإن قيل كتعلق حق المجني عليه بالجاني؛ اختصت الورثة بالنماء، والله أعلم.

قال: ومن ادعى دعوى على رجل، وذكر أن بينته بالبعد منه فحلف المدعى عليه، ثم أحضر المدعي بينته حكم بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق.
ش: لأن البينة تبين الحق وتظهره ولعموم قول: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة لمن ادعى» وهذا قد ادعى وأقام البينة، فيكون له،

(7/372)


واليمين لا تزيل الحق، ولا تبطل الحكم بالبينة، لأن أثرها عند عدم البينة، أما مع وجودها فالحكم لها.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر المسألة في البعد، ولم يتعرض لحد البعد، وكذا أبو محمد في المغني، وظاهر الإطلاق يقتضي مسافة القصر، ومقتضاه أنها لو كانت قريبة لم يكن الحكم كذلك، فيحتمل أنه لا يملك تحليف المدعى عليه، ويحتمل أنه إذا أحلفه ثم أحضر بينة لم يحكم بها، وأبو الخطاب قال: إذا قال: لي بينة وأريد تحليفه. فهل يحلف له؟ يحتمل وجهين، وقيد في المغني الوجهين بما إذا كانت حاضرة، وفصل في الكافي فقال: إن قال مع الحضور: أحلفوه ثم أقيم بينتي، لم يستحلف، وإن قال: ولا أقيمها. أحلف، ثم هل يمكن من إقامة البينة بعد؟ فيه وجهان، وفصل أبو البركات تفصيلا آخر فقال: إن كانت البينة غائبة عن البلد ملك تحليفه، ثم إقامة البينة، وإن كانت حاضرة في مجلس الحكم لم يملك إلا أحدهما.
(إقامة) البينة من غير تحليف أو (تحليفه) ولا تسمع البينة، وإن كانت غائبة عن المجلس حاضرة في غير مجلس الحكم فوجهان، الذي أورده مذهبا ملكهما، وحكى ابن حمدان فيما إذا كانت حاضرة ثلاثة أوجه، (يملكهما) (يملك) أحدهما فقط، (لا يملك) إلا إقامة البينة.

(7/373)


[اليمين التي يبرأ بها المدعى عليه]
قال: واليمين التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله عز وجل.
ش: لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وقال سبحانه {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] .
3861 - وعن عبد الله بن أنيس الجهني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن من الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وما حلف حالف بالله يمين صبر، فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعل الله نكتة في قلبه إلى يوم القيامة» رواه أحمد والترمذي.
3862 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض

(7/374)


فليس من الله» رواه ابن ماجه.
(تنبيه) الحالف بصفات الله حالف بالله، فحكمه حكمه، والله أعلم.

قال: وإن كان الحالف كافرا إلا أنه إن كان يهوديا قيل له: قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى، وإن كان نصرانيا قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وإن كان لهم مواضع يعظمونها، ويتقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها.
ش: يعني أن حكم الكافر حكم المسلم، في أنه يبرأ إذا حلف بالله سبحانه فقط، لإطلاق ما تقدم، ولقول الله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وزاد أنه إن كان يهوديا قيل له: قل والله الذي أنزل التوراة على موسى.
3863 - لما روي «عن عكرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له - يعني لابن صوريا: - «أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون، وأقطعكم البحر، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل التوراة على موسى، أتجدون في كتابكم الرجم؟» قال: ذكرتني بعظيم،

(7/375)


ولا يسعني أن أكذبك» رواه أبو داود.
وإن كان نصرانيا قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى. قياسا على اليهودي.
وظاهر كلام الخرقي أن التغليظ لا يشرع إلا في حق أهل الكتاب، لقضية النص المتقدم، وإلى هذا ميل أبي محمد، ويحتمل أن ميله إلى عدم مشروعيته مطلقا، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، مع تصريحه بالكراهة، لكنه استثنى القسامة واللعان، ولا يستثنيان، لأن صفتهما كذلك، إذ لو لم يكرر الأيمان في القسامة واللعان، ولو يأت باللعنة والغضب لم

(7/376)


يجزه.
والخلاف إنما هو في تغليظ زائد على المجزئ، وجوزه أبو الخطاب وأتباعه إن رآه الحاكم، ويتلخص ثلاثة أوجه المشروعية، وعدمها، والمشروعية في حق أهل الذمة فقط، وحيث قيل به فظاهر كلام أبي البركات جوازه مطلقا، وكذا الخرقي، وخصه أبو الخطاب بما له خطر كالجنايات، والطلاق، والحدود، واللعان ونحو ذلك، وكذا في المال لكنه هل من شرطه أن يبلغ نصاب الزكاة، أو يكتفى ببلوغه نصاب السرقة؟ فيه وجهان، ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر التغليظ باللفظ والمكان، والنص في اليهود إنما ورد باللفظ فقط.
3864 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل حلفه «احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء» » يعني للمدعي، رواه أبو داود وكذا وقع لأحمد في رواية الميموني، قال: يقال للمجوسي: والله الذي خلقني ورزقني، ولم يتعرض للمكان، وزاد أبو الخطاب على المكان الزمان، كبعد العصر، وبين الأذانين.

(7/377)


واعلم أنه لا نزاع عندنا فيما علمت في عدم الاستحباب، وإنما النزاع في المشروعية، وإذا لم يستحب لم يجب بلا ريب، وقد حكي الإجماع على ذلك، ولا عبرة بوجه حكاه بعض الشافعية بالوجوب، وأنكره بعضهم، ومن ثم لو بذل الحالف اليمين بالله تعالى، وأبى التعظيم والتغليظ، لم يكن ناكلا، ولو قيل بالاستحباب في اللفظ كان حسنا، لحديثي عكرمة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو ظاهر كلام الخرقي بل والإمام.

قال: ويحلف الرجل فيما عليه على البت.
ش: معنى البت القطع والجزم، والذي عليه يشمل الإثبات كقوله: والله لقد بعتك داري، أو أقرضتك ألفا؛ أو لقد باعك أبي داره، أو أقرضك ألفا.
ونحو ذلك، والنفي كقوله: والله ما اشتريت هذا العبد، ولا له علي هذا الألف.
ونحو ذلك، والمذهب في جميع ذلك أن اليمين على الجزم والقطع، لحديث [ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء» وهو خرج بيانا لمجمل اليمين، وحكي عن أحمد (رواية أخرى) أن اليمين في ذلك كله على نفي العلم.

(7/378)


3865 - واستشهد له أحمد بحديث] الشيباني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا ما لا يعلمون» وأبو البركات خص هذه الرواية بما إذا كانت الدعوى في النفي وهو أقرب، (وعن أحمد) رواية أخرى في البائع يحلف لنفي عيب السلعة على نفي العلم بذلك، لأنه فعل الغير، والله أعلم.

قال: ويحلف الوارث على دين الميت على نفي العلم.
ش: هذا مما لا أظن فيه خلافا في المذهب، وهو أن الحالف على فعل الغير يحلف على نفي العلم، وعليه يحمل حديث القاسم بن عبد الرحمن، والمعنى أنه لا يمكنه الإحاطة بفعل الغير، بخلاف فعل نفسه.
3866 - وقد روي «أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن أرضي اغتصبها أبو هذا، وهي في يده، قال: «هل لك بينة؟» قال: لا ولكن أحلفه والله ما يعلم أنها أرضي، اغتصبها أبوه،

(7/379)


فتهيأ الكندي لليمين» ، رواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحكم نفي الدعوى على الغير كذلك، كما إذا ادعى عليه أنه ادعى على أبيه ألفا، فأقر له بشيء فأنكر الدعوى، ونحو ذلك، فإن يمينه على نفي العلم على المذهب.
(تنبيه) حيث قيل: إنها على البت لم تجزه على نفي العلم، وحيث قيل: إنها على نفي العلم أجزأ الحلف على البت، وكان التقدير فيه العلم، كما في الشاهد إذا شهد بعدد الورثة، وقال ليس له وارث غيره، سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه والله أعلم.

[حكم اختلاف شهود الزنا]
قال: وإذا شهد من الأربعة اثنان أن هذا زنا بهذه في هذا البيت، وشهد الآخران أنه زنا بها في البيت الآخر، فالأربعة قذفة وعليهم الحد.
ش: هذا مبني على أصل أشعر به كلام المصنف، وهو أن شهادتهم لا تكمل على ذلك، وهو المذهب بلا ريب، لأن أحد

(7/380)


الفريقين كاذب ولا بد، إذ لا يمكن أن يكون زنا واحدا في موضعين، ولأنهما لما تعارضا تساقطا، وصارا كالعدم (وعن أحمد) رواية أخرى - واختارها أبو بكر - تكمل شهادتهم، لأنهم جاءوا أربعة على زنا واحد، فدخلوا تحت قوله سبحانه: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] ونحو ذلك، وقد استبعد أبو الخطاب هذه الرواية، وجعلها غلطا، وعليها يحد المشهود عليه، ولا حد على الشهود، وأما على المذهب فلا حد على المشهود عليه، أما الشهود فهل هم قذفة فيجب عليهم الحد - وهو الذي قاله الخرقي، وهو المذهب - أم لا فلا حد عليهم؟ على روايتين، ولعل مبناهما على الخلاف في مجيء القاذف مجيء الشاهد، هل يندفع عنه الحد بذلك، أم لا وفيه شيء انتهى.
وحكم الاختلاف في البلد واليوم حكم الاختلاف في الموضع.
(تنبيه) محل الخلاف في أصل المسألة إذا شهدوا بزنا واحد، أما إن شهدوا بزنائين، فلا ريب أن الشهادة لا تكمل، وأن الشهود قذفة، إذ لا يمكن جعل الفعلين فعلا واحدا، كذا حققه أبو البركات.
ومقتضى كلام أبي محمد جريان الخلاف وإن شهدوا بزنائين، وليس بشيء.

(7/381)


قال: ولو جاء الأربعة متفرقين، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبلت شهادتهم، فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في الحدود فلا حاجة إلى إعادتها.

[حكم الرجوع عن الشهادة]
قال: ومن حكم بشهادتهما بجرح أو بقتل ثم رجعا فقالا عمدنا، اقتص منهما، وإن قالا: أخطأنا، غرما الدية أو أرش الجرح.
ش: أما إذا حكم بالشهادة واستوفي فلا شيء على المشهود له، كما تضمنه كلام الخرقي، وأما الشهود فإن رجعوا وقالوا: عمدنا القتل بذلك، اقتص منهما، لأن هذا سبب قوي يفضي إلى القتل غالبا، أشبه المباشرة بالقتل.
3867 - وقد روى سعيد في سننه فيما أظن أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه، ثم عادا وقالا: أخطأنا ليس هذا هو السارق.
فقال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما.

(7/382)


وإن قالا: أخطأنا وظننا أن هذا هو القاتل، وليس هو القاتل، فعليهما الدية إن كان المشهود به مما تجب به الدية، أو أرش الجرح إن كان دون ذلك، لأن قولهما محتمل، وهو مما لا يعلم إلا من جهتهما، ولا شيء على العاقلة، لأن ذلك ثبت باعترافهما، وإن قالا: عمدنا الشهادة عليه، ولم نعلم أنه يقتل بمثل هذا.
وهما ممن يجهلان ذلك فكما تقدم، لكن تكون دية ذلك دية شبه العمد، لقصدهما الجناية، أما إذا حكم بالشهادة ولم تستوف ثم رجعوا فالمذهب المجزوم به عند أبي محمد في مغنيه - وأورده أبو البركات مذهبا - أنه لا يستوفى، لأن الرجوع والحال هذه شبهة، والعقوبات تدرأ بالشبهات، وقيل - ويحتمله كلام الخرقي - إن كان الحق لآدمي استوفى، لأن الحق تعلق بالحكم فلا يسقط بالرجوع كما في المال، والحكم في الشهود كما تقدم.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لو لم يحكم بالشهادة لم يكن الحكم كذلك وهو صحيح، إذ لا يجوز الحكم، وتلغى الشهادة، لأن الشهادة شرط الحكم، وقد زالت قبله، فأشبه ما لو فسقوا انتهى، وحكم الحد فيما تقدم حكم القود، والله أعلم.

(7/383)


قال: وإن كانت شهادتهما بمال غرماه.
ش: لأنهما أقرا أنهما حالا بينه وبين ماله بغير حق، فأشبه ما لو أتلفاه، والله أعلم.

قال: ولا يرجع به على المحكوم له، سواء كان المال قائما أو تالفا.
ش: لأن المحكوم له حقه وجب بالحكم، فلا يسقط بقولهما، إذ ليس قولهما الثاني بأولى من الأول، وفارق إذا بانا كافرين، لتبين زوال شرط الحكم وهو العدالة، وهنا لم يتبين، لجواز كونهما عدلين في شهادتهما، وإنما كذبا في رجوعهما، وكلام الخرقي يشمل ما إذا قبض المال، وما إذا لم يقبض، وهو كذلك، ومن ثم قلنا إن ظاهر كلام الخرقي أن القود يستوفى إذا كان الرجوع بعد الحكم والله أعلم.

قال: وكذلك إن كان المحكوم به عبدا أو أمة غرما قيمته.
ش: العبد والأمة مال من الأموال، فيجري عليهما حكم المال، ثم تارة يشهدان بعتق ذلك، وتارة يشهدان به لشخص، والحكم فيهما واحد، وكأن الخرقي إنما أفرد ذلك عن بقية الأموال ليبين أن الواجب فيه قيمة لا مثل، ومتى كان الرجوع في جميع ذلك قبل الحكم لغت الشهادة كما تقدم، والله أعلم.

[ظهور كفر الشاهدين أو فسقهما بعد تنفيذ الحكم]
قال: وإذا قطع الحاكم يد السارق بشهادة اثنين، ثم علم

(7/384)


أنهما كافران أو فاسقان، كانت دية اليد في بيت المال.
ش: هذا مبني على أن خطأ الحاكم والإمام في بيت المال، لأنه وكيل عن المسلمين، ونائب منابهم، فكان خطؤه عليهم كالأجير الخاص خطؤه في حق مستأجره عليه، ولأن خطأهما يكثر لكثرة تصرفاتهما، فإيجابه على عاقلتيهما يفضي إلى حرج ومشقة، وإنهما منفيان شرعا، وهذا إحدى الروايتين.
(والرواية الثانية) أن خطأهما على عاقلتيهما كغيرهما.
3868 - ويشهد له ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة ذكرت عنده بسوء، فأرسل إليها فأجهضت جنينها، فبلغ ذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فشاور الصحابة فقال بعضهم: لا شيء عليك، إنما أنت مؤدب.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عليك الدية.
فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك.
يعني قريشا لأنهم عاقلته.

(7/385)


وقد تضمن كلام الخرقي أنه لا شيء على الشهود وهو كذلك، لأنهما مقيمان على أنهما صادقان، وإنما الشرع منع من قبول شهادتهم، وبذلك فارقوا الراجعين، لاعترافهم بالكذب، واعلم أن كلام الخرقي (مبني) على أن الحكم ينقض والحال هذه (وعن أحمد) رواية أخرى: لا ينقض إذا بانا فاسقين، وإذًا لا ضمان، (ومبني) أيضا على أنه لا تزكية له، أما إن كان ثم تزكية فهل الضمان على المزكين، لأنهم الذين ألجئوا الحاكم إلى الحكم، وهو اختيار أبي محمد، أو على الحاكم على ما تقدم، وهو قول القاضي، وظاهر إطلاق الخرقي، أو على أيهما شاء المستحق، والقرار على المزكين، أو على الشهود، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الصغير؟ (على أربعة أقوال)

(7/386)


والحكم فيما إذا بان الشهود عبيدا حكم ما إذا بانوا كفارا عند أبي محمد في مغنيه، وقال أبو البركات: للحاكم والحال هذه نقضه إذا كان لا يرى قبولهم في ذلك، وعلى هذا إن لم ينقضه فلا ضمان، وإن نقضه كان ما تقدم.
(تنبيه) لو كان المحكوم به قودا ثم بان ما تقدم، فمقتضى كلام أبي محمد في مغنيه أن الحكم كذلك، وقال أبو البركات: يرجع ببدل القود المستوفى على المحكوم له.

قال: وإذا ادعى العبد أن سيده أعتقه، وأقام شاهدا حلف مع شاهده وصار حرا.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، والرواية الثانية لا يثبت إلا بشاهدين، اختارها الشريف أبو الخطاب في خلافيهما، وغيرهما، واختلف اختيار القاضي، فتارة اختار الأول، وتارة اختار الثاني، كأنه آخر قوليه، ومنشأ الخلاف أن من نظر إلى أن العتق إتلاف مال في الحقيقة قال بالأول كبقية الإتلافات، ومن نظر إلى أن العتق نفسه ليس بمال، وإنما المقصود به تكميل الأحكام قال بالثاني: وصار ذلك كالطلاق والقصاص ونحوهما، والله أعلم.

[حكم شهادة الزور]
قال: ومن شهد شهادة زور أدب، وأقيم للناس في المواضع التي يشتهر بها أنه شاهد زور إذا تحقق تعمده لذلك.

(7/387)


3869 - ش: أما أدبه فاتباعا لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة، تضر بالناس، فأشبه السب بل أولى، ويؤدب بما يراه الحاكم من جلد أو حبس، أو كشف رأس ونحو ذلك، وأما قيامه للناس في المواضع التي يشتهر فيها فليعرفه الناس فيجتنبوه، فيؤتى به في سوقه أو في قبيلته ونحو ذلك، فيطاف به ويقال: هذا شاهد زور فاجتنبوه.
وهذا كله إذا تحقق تعمده لشهادة الزور، وذلك إما بإقراره أو بما يلزم ذلك منه قطعا، بأن يشهد على رجل بعقد في مصر، ويعلم أنه في ذلك الوقت في الشام، أو يشهد بقتل رجل وهو حي ونحو ذلك، أما إذا لم يتحقق كما في تعارض

(7/388)


البينتين، أو ظهور فسق ونحو ذلك فلا، لأن الفاسق قد يكون صادقا، والتعارض لا يعلم به كذب إحدى البينتين بعينها.
وقد علم من كلام الخرقي أن شهادة الزور حرام، ولا ريب في ذلك، بل هي من أعظم الكبائر أو أعظمها، وقد قرنها الله سبحانه بالأوثان فقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] .
3870 - وفي الصحيحين عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكبائر، أو ذكر الكبائر فقال: «الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين» وقال «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو قال شهادة الزور» .
3871 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار» رواه ابن ماجه.

(7/389)


وكيف لا يكون كذلك وهو من الساعين في الأرض بالفساد، بل هو أعظم من المحاربين، لإمكان الاحتراز منهم، وهذا لا يمكن الاحتراز منه، وعلى هذا فينبغي المبالغة في تعزيره بما يردعه ويكف شره، ولكي يرتدع أمثاله، والله أعلم.

قال: وإن غير العدل شهادته بحضرة الحاكم، فزاد فيها أو نقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته.
ش: وذلك بأن يقول فيما إذا شهد بمائة ثم قال: بل هي مائة وعشرة؛ أو بل هي خمسون ونحو ذلك، وذلك لاحتمال دخول السهو والغلط عليه الذي لا يسلم منه إنسان، والفرض أنه عدل غير متهم، فقبلت زيادته أو نقصه، كما لو تم على

(7/390)


الأولى، وقوله: ما لم يحكم بشهادته. احترازا مما إذا حكم بها فإنه لا تقبل زيادته ولا نقصه، لثبوت الحق الحكم، والله أعلم.

قال: وإذا شهد شاهد بألف، وآخر بخمسمائة حكم لمدعي الألف بخمسمائة، وحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب.
ش: أما كونه يحكم لمدعي الألف بخمسمائة فلحصول الاتفاق عليها من الشاهدين، وأما كونه يحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب فمبني على الحكم بشاهد ويمين وقد تقدم ذلك، وهذا مع الإطلاق كما صوره الخرقي، أو مع الاتفاق على السبب أو الصفة، أما مع الاختلاف، كأن يشهد أحدهما بألف من قرض، والآخر بخمسمائة من ثمن مبيع، أو أحدهما بألف بيض، والآخر بخمسمائة سود ونحو ذلك، فإن البينة لا تكمل على شيء، ويكون للمدعي بما ادعاه منهما شاهد واحد، فيحلف معه إن أحب، والله أعلم.

قال: ومن ادعى شهادة عدل فأنكر العدل أن تكون عنده، ثم شهد بها بعد ذلك، وقال: كنت قد أنسيتها. قبلت منه. ولم ترد شهادته.

(7/391)


ش: لأن الفرض أنه عدل، وما ادعاه من النسيان محتمل، فلا يرد قوله مع احتمال صدقه، وعدم تحقق قادح في عدالته.

قال: ومن شهد شهادة تجر إلى نفسه نفعا بطلت شهادته في الكل.
ش: وذلك بأن يشهد على زيد بدار له ولعمرو، ونحو ذلك، لأنها شيء واحد، فإذا بطل بعضه بطل كله، إذ الشيء يفوت بفوات جزئه، وخرج أبو محمد قولا آخر أن البطلان يختص بما هو متهم فيه، قال: من قولنا في عبد بين ثلاثة، اشترى نفسه منهم بثلاثمائة درهم، فادعى أنهم قبضوها منه، فأنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا، فأقر له اثنان وشهدا على المنكر بالقبض، فإن شهادتهما تقبل عليه في عتق حصته، وبراءة المكاتب منه على المنصوص، والله أعلم.

قال: وإذا مات رجل وخلف ابنا وألف درهم، فادعى رجل على الميت ألف درهم، فصدقة الابن، وادعى آخر مثل ذلك وصدقة الابن، فإن كان في مجلس واحد كانت الألف بينهما، وإن كانا في مجلسين كانت الألف للأول، ولا شيء للثاني.
ش: وضع هذه المسألة إذا مات رجل وخلف وارثا وتركة، فأقر الوارث لشخص بدين على مورثه يستغرق التركة، ثم أقر

(7/392)


لآخر، فإن كان في مجلسين فهي للأول بالإقرار، ولا شيء للثاني، لأنه إقرار على الغير وإنه غير مقبول، ولأن إقراره الأول منع من تصرفه في التركة تصرفا يضر بالأول، فلم يقبل إقراره عليه، كإقرار الراهن بجناية عبده المرهون، وإن كان في مجلس واحد فهل هي للأول لتعلق حقه بمجرد الإقرار له، أو يتشاركان فيها وهو قول الخرقي، وجزم به أبو محمد، لأن حال المجلس كحالة العقد، فهو كما لو أقر لهما معا، أو إن تواصل الإقراران تشاركا وإلا اختص الأول بها، وهو ظاهر كلام أحمد وهو حسن؟ على ثلاثة أقوال.
(تنبيه) لو كان الإقرار بعين التركة أولا، ثم أقر بها ثانيا، فإنها تكون للأول ثم يغرمها للثاني، لأنه حال بإقراره بينه وبينها.

قال: وإذا ادعى على مريض دعوى فأومأ برأسه أي نعم لم يحكم بها عليه حتى يقول بلسانه.
ش: ملخصه أنه لا يصح الإقرار بالإشارة من الناطق، وإن عجز عن الكلام في الحالة الراهنة، لأنه ناطق بالقوة، فأشبه الناطق بالفعل، ويخرج لنا صحة إقرار من اعتقل لسانه، وأيس من نطقه، كما في لعانه في وجه، وتعليل أبي محمد يقتضيه،

(7/393)


لأنه علل المسألة بأنه غير ميئوس من نطقه، فأشبه الصحيح، وقوله: على مريض: يخرج الصحيح، وهو على ضربين، من لا يصح إقراره بالإشارة بلا ريب، وهو القادر على النطق، ومن يصح إقراره بالإشارة إن فهمت وهو الأخرس، والله أعلم.

قال: ومن ادعى دعوى وقال: لا بينة لي. ثم أتى بعد ذلك ببينة لم تقبل، لأنه مكذب لبينته.
ش: هذا منصوص أحمد، وبه جزم أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في مغنيه وكافيه، وغيرهما، لما علل به الخرقي من أنه مكذب لبينته، لإخباره بأنه لا بينة له، وقيل - وهو احتمال لأبي محمد في المقنع - يقبل سواء أحلفه الحاكم أو لم يحلفه، لاحتمال أن تكون البينة سمعت ذلك من غير أن يعلم، فأشبه ما لو قال: لا أعلم لي بينة. أو لاحتمال أن يكون قال ذلك عن نسيان، والله أعلم.

قال: وإذا شهد الوصي على من هو موصى عليهم قبلت شهادته.
ش: هذا والله أعلم اتفاق، لأنه غير متهم في ذلك، وقد يخرج عدم القبول من رواية عدم قبول شهادة عمودي

(7/394)


النسب بعضهم على بعض، والله أعلم.

قال: وإن شهد لهم لم تقبل إذا كانوا في حجره.
ش: لأنه متهم في ذلك، لجواز ذلك عند الحاجة إليه، ولأنه هو الذي يخاصم لهم، فلم تقبل شهادته لهم، كما لو شهد لنفسه، وقوله: إذا كانوا في حجرة. يحترز عما لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم، فإن شهادته إذا تقبل لزوال المقتضي للمنع، والحكم في أمين الحاكم يشهد ليتيم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء، ونص الخرقي على هذه المسألة يؤيد أن قوله ثم: ولا تقبل شهادة خصم. أن مراده العدو.

قال: وإذا شهد من يخنق في الأحيان قبلت شهادته في حال إفاقته.
ش: حكى ابن المنذر هذا إجماعا ممن يحفظ عنه من أهل العلم، ويشهد له أن الاعتبار في الشهادة بحال أدائها، بدليل الصبي إذا كبر، وهذه العبارة تشعر بأن الغالب عليه الإفاقة، وهي عبارة الشيخين، ونحوها عبارة ابن حمدان قال:

(7/395)


تقبل ممن يصرع في شهر مرتين. قال: وقيل ممن، يخنق أحيانا في حال إفاقته، وكل هؤلاء لم يشترطوا أن يتحمل حال إفاقته، بل التعليل السابق - وهو لأبي محمد - يقتضي عدم اشتراط ذلك، وفيه نظر.

[شهادة الطبيب العدل في الموضحة]
قال: وتقبل شهادة الطبيب العدل في الموضحة، إذا لم يقدر على طبيبين، وكذلك البيطار في داء الدابة.
ش: هذا منصوص أحمد، للحاجة الداعية إلى ذلك، إذ لا يمكن كل أحد أن يشهد به، بل يختص بنوع خاص، فأشبه العيوب تحت الثياب، وكذلك الحكم في كل ما يختص بمعرفته الأطباء، والله سبحانه أعلم.

(7/396)


كتاب الدعوى والبينات
ش: الدعوى - قال ابن عقيل - الطلب، قال الله سبحانه: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] وزاد ابن أبي الفتح عليه: زاعما ملكه، وكأنهما يريدان لغة، وقال أبو محمد في المغني: الدعوى أي في اللغة إضافة الإنسان إلى نفسه شيئا ملكا أو استحقاقا أو صفة أو نحو ذلك، قال: وفي الشرع إضافته إلى نفسه استحقاق شيء في يده غيره أو في ذمته، والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق شيء عليه، وقيل: المدعي من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته، والمدعى عليه من ينكر ذلك. وهو قريب من الذي قبله، وقال الشيخان في مختصريهما: المدعي من إذا سكت ترك. قال ابن حمدان وقيل: مع إمكان صدقه. ولا بد من هذا القيد - والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك. وقد يكون كل من الخصمين مدعيا ومدعى عليه، كما في الاختلاف في قدر الثمن.
3872 - والأصل في الدعوى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى

(7/397)


عليه» متفق عليه. وشرط المدعي والمدعى عليه التكليف والرشد، وجواز التبرع، قاله ابن حمدان، وهو أخص من قول أبي محمد: ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف، والله أعلم.

[حكم من ادعى زوجية امرأة فأنكرته]
قال: ومن ادعى زوجية امرأة فأنكرته، ولم تكن له بينة، فرق الحاكم بينهما ولم تحلف.
ش: إذا ادعى إنسان زوجية امرأة فلا يخلو إما أن تقر له أو تنكر، (فإن أقرت) له فهل يسمع إقرارها؟ وهو ظاهر كلام الخرقي، وصححه أبو البركات، لأنها غير متهمة في ذلك، لتمكنها من إنشاء العقد بشروطه، أو لا يسمع إقرارها؟ لأن ذلك مما لا يستباح بالبذل، وهو مفتقر إلى شرائطه ولم يعلم حصولها، أو إن ادعى زوجيتها واحد قبل، لأنه لا معارض له، وإن ادعاها اثنان لم تقبل للمعارضة، وهي التي قطع بها في المغني، مع أنه حكى الخلاف في مختصره؟ (على ثلاث روايات) (وإن أنكرته) وثم بينة عمل بها بلا ريب، وإن لم يكن بينة فرق بينهما، لعدم ثبوت الزوجية، ولم تحلف الزوجة على المذهب المشهور المعروف، حتى قال أبو محمد: إنه رواية

(7/398)


واحدة، لأنه مما لا يباح بالبذل، فلم تستحلف فيه كالحد (وعنه) ما يدل على الاستحلاف فيه، وجعله أبو محمد تخريجا، لعموم «ولكن اليمين على المدعى عليه» فعلى هذه هل يقضى فيه بالنكول؟ على روايتين.
(تنبيه) إطلاق الخرقي يقتضي أن من ادعى الزوجية سمع منه وإن لم يذكر شرائط النكاح، وهو قويل قاله في المقنع تبعا للهداية، لأنه نوع ملك، فأشبه ملك العبد ونحوه على المذهب، والمذهب - وبه جزم في المغني وأبو البركات وغيرهما - أنه لا بد من ذكر الشروط، احتياطا للنكاح، لا سيما وقد وقع الاختلاف في شروط كثيرة، وبهذا فارق غيره من الأملاك، والله أعلم.

[حكم من ادعى دابة في يد رجل فأنكره]
قال: ومن ادعى دابة في يد رجل فأنكره، وأقام كل منهما بينة، حكم بها للمدعي ببينته، ولم يلتفت إلى بينة المدعى عليه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باستماع بينة المدعي، أو يمين المدعى عليه، وسواء شهدت بينة المدعي أنها له، أو قالت: ولدت في ملكه.

(7/399)


ش: إذا ادعى إنسان دابة أو شيئا في يد إنسان، فإن أقر له فلا كلام، وإن أنكره وأقام كل واحد منهما بينة فالمشهور من الروايات - والمختار للأصحاب - تقديم بينة المدعي مطلقا، لما استدل به الخرقي من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باستماع بينة المدعي، أو يمين المدعى عليه.
3873 - «فعن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «شاهداك أو يمينه» مختصر متفق عليه.
3874 - وعن وائل بن حجر قال: «جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، أزرعها، ليس له فيها حق. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي «ألك بينة؟» قال: لا. قال: «فلك يمينه» » مختصر رواه مسلم وغيره. وظاهر هذا أنه جعل البينة للمدعي مطلقا.

(7/400)


3875 - ويرشحه ما روي أيضا في الحديث «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» وظاهر هذا الحصر، وأيضا فإن شهادة المدعى عليه يجوز أن يكون مستندها اليد والتصرف، فتصير بمنزلة اليد المفردة، وإذا تقدم بينة المدعي (وعنه) رواية ثانية، تقدم بينة المدعى عليه مطلقا، أثبتها أبو الخطاب وأتباعه، ونفاها القاضي، لأن البينتين لما تعارضتا تساقطتا وصارا كمن لا بينة لهما، وإذا القول قول المدعى عليه، أو يقال: لما تعارضتا ترجحت بينة المدعى عليه، [لموافقتها الأصل (وعنه) رواية ثالثة: تقدم بينة المدعي إلا أن تختص بينة المدعى عليه] بسبب، كأن تشهد بأنها له، نتجت في ملكه. أو أقطعها له الإمام ونحو ذلك، أو سبق، كأن تشهد بأنها له منذ سنتين، وتقول بينة المدعي: منذ سنة. فتقدم بينة المدعى عليه، لأنه بذلك يزول أن مستند البينة اليد.
3876 - ولما «روي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير، وأقام كل واحد منهما البينة، أنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي هي في يده» . إلا أن أحمد قال في رواية محمد بن الحكم: أصحاب أبي

(7/401)


حنيفة يروون في النتاج حديثا ضعيفا، لم يجب الأخذ به (وعنه) رواية رابعة عكس الثالثة، تقدم بينة المدعى عليه إلا أن تختص بينة المدعي بسبب أو سبق، وعلى هاتين الروايتين هل يكفي مطلق السبب، كالشراء، أو الهبة ونحو ذلك، أو لا بد من إفادته للسبق كالنتاج والإقطاع؟ على روايتين، وللمسألة تفاريع أخر ليس هذا موضعها.
واعلم أن بينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل، وبينة المدعي تسمى بينة الخارج، لأنه جاء من خارج، ينازع الداخل، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يمين على المدعي مع البينة، وهو كذلك، وكذلك لا يمين على المدعى عليه إن

(7/402)


قدمت بينته، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض لما إذا اختص أحدهما بالبينة لوضوحه، ولا ريب أن يحكم له بذلك، لأن البينة تبين الحق وتوضحه، ثم إن كانت البينة للمدعي فلا يمين عليه، قال أبو محمد: بغير خلاف في المذهب. ثم قال: قال أصحابنا: ولا فرق بين الحاضر والغائب، والحي والميت، والصغير والكبير والمجنون، والمكلف، وقال الشافعي: إن كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه حلف المشهود له أنه لم يقض، ولم يبر لتزول الشبهة، وهذا حسن. انتهى، وهذا عجيب، فإن في مختصره ومختصر غيره أن الدعوى إذا كانت على غير حاضر أو غير مكلف وثم بينة حكم بها، وهل يحلف المدعي مع بينته أنه لم يقض ولم يبر؟ على روايتين وهذه هي المسألة بعينها، فكيف يقول: بلا خلاف في المذهب. وأن الأصحاب لم يفرقوا بين الحاضر وغيره، ولا بين المكلف وغيره. انتهى. وإن كانت البينة للمدعى عليه فلا يمين عليه على المذهب، وفيه احتمال لأبي محمد، لاحتمال أن يكون مستند البينة اليد والتصرف، فيصير وجودها كالعدم، والله أعلم.

قال: ولو كانت الدابة في أيديهما، فأقام أحدهما البينة أنها له، وأقام الآخر البينة أنها له نتجت في ملكه، أسقطت

(7/403)


البينتان، وكانا كمن لا بينة لهما، وجعلت بينهما نصفين، وكانت اليمين لكل واحد منهما على الآخر في النصف المحكوم به له.
ش: إذا كانت الدابة أو العين في أيديهما فتداعياها، وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه، فإن البينتين تتعارضان، وإذا هل يتساقطان - وهو قول الخرقي، واختيار كثير من الأصحاب، - أو يستعملان؟ على روايتين، ولعل مبناهما إذا تعارض الدليلان، هل يتوقف المجتهد أو يتخير في العمل بأحدهما؟ فيه خلاف وإذا قلنا: باستعمالهما فهل ذلك بقسمة لتساويهما في البينة، أو بقرعة، [لأنها تبين المستحق؟ على روايتين، فعلى رواية القرعة من خرجت له حلف أنها له، لجواز خطأ

(7/404)


القرعة] ، أما على رواية القسمة فلا يمين، لأنا أعملنا البينة، فلو أوجبنا اليمين لجمعنا بين البينة واليمين وإنه ممنوع أما على رواية التساقط التي هي المشهورة فإنهما يصيران كمن لا بينة لهما، وإذًا تقسم العين بينهما، لتساويهما في اليد، ويجب لكل واحد منهما اليمين على صاحبه فيما حكم له به كما قال الخرقي، فاليمين تارة تجب بلا نزاع، وتارة لا تجب بلا نزاع، وفي المغني: واختلفت الرواية هل يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به - وهو الذي ذكره الخرقي - أو لا يحلف وهي أصح؟ على روايتين، وظاهر هذا أن في اليمين روايتين، سواء قلنا باستعمال البينتين أو بإلغائهما.
وقول الخرقي: أنها نتجت في ملكه، ينبه به على أن ذلك ليس بمرجح لإحدى البينتين على الأخرى وقد تقدم ذلك وأن في الترجيح بذلك، وكذلك في الترجيح بالسبق روايتين، ومختار القاضي وجماعة من أصحابه الترجيح بذلك، عكس ظاهر كلام الخرقي، وإذا قيل بالترجيح بالسبب فهل يكتفى بمطلق السبب، أو لا بد من إفادته للسبق؟ على روايتين.
3877 - واعلم أنه قد ورد في الباب حديث عن أبي موسى، «أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث كل واحد منهما

(7/405)


بشاهدين، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما نصفين» . رواه أبو داود، وهذا قد يستدل به على إلغاء البينتين، وقسمة العين بينهما، وعلى إعمالهما بالقسمة وهو أرجح، لعدم ذكر اليمين فيه، ومن ثم رجح أبو محمد عدم وجوب اليمين.
(تنبيه) قد تقدم لنا رواية بالقرعة، فيحتمل أنها بين البينتين، وهو ظاهر ما في روايتي القاضي، ويحتمل أنها بين المتداعيين وهو الذي حكاه عنه الشريف فقال: وعنه يقرع بينهما، إلا أن شيخنا كان يقول: يقرع بين المتداعيين لا بين البينتين، واللفظ

(7/406)


محتمل، والله أعلم.

قال: ولو كانت الدابة في يد غيرهما، واعترف أنه لا يملكها، وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا، أقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه.
ش: إذا تداعيا دابة أو عينا في يد غيرهما، فاعترف أنه لا يملكها، وأنها لأحدهما لا يعرف عينه، فإنه يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه، لتساويهما في الدعوى، وعدم البينة واليد، والقرعة تميز المستحق عند التساوي، بدليل عتق المريض عبيده الذي لا مال له سواهم.
3878 - وعلى هذا يحمل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلين تدارأا في دابة، ليس لواحد منهما بينة، فأمرهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها» ، رواه أحمد وأبو داود.

(7/407)


ولم يتعرض الخرقي لوجوب اليمين على المقر، وكذلك أحمد في رواية ابن منصور إذا قال: أودعني أحدهما لا أعرفه عينا، أقرع بينهما، فمن تقع عليه القرعة حلف أنها له وأعطي، وحمل هذا القاضي وغيره على ما إذا صدقاه في عدم العلم، وأما إن كذباه فقال القاضي والشيخان وغيرهم: لهما عليه يمين واحدة أنه لا يعرف العين، ولو أقام كل واحد منهما بينة والحال هذه، فالحكم على ما تقدم في التي قبلها، هل تتساقط البينتان، ويصيران كمن لا بينة لهما كما تقدم - وهو ظاهر إطلاق الخرقي، لأنه لم يفصل، وقياس قوله في التي قبلها، واختيار جماعة من الأصحاب - أو تستعملان؟ على روايتين، ثم في كيفية استعمالهما روايتان (إحداهما) يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها، قاله أبو الخطاب وأبو البركات، وعلى هذه تستوي رواية الاستعمال ورواية التساقط، وقال أبو محمد: من غير يمين (والثانية) تقسم بينهما بغير يمين كما تقدم.

(7/408)


وقول الخرقي: واعترف أنه لا يملكها. يخرج ما إذا ادعى ملكها، فإن القول قوله مع يمينه بلا ريب، وقوله وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا، يخرج ما إذا أقر بها لأحدهما بعينه، فإنها تكون لمن أقر له مع يمينه، لأن بذلك تصير اليد له، ومن له اليد القول قوله مع يمينه ما لم يكن بينة، ويحلف المقر للآخر على المذهب، وللمسألة تقاسيم أخر ليس هذا محلها، والله أعلم.

[حكم من كان في يده دار فادعاها رجل وأقر بها لغيره]
قال: وإذا كان في يده دار فادعاها رجل وأقر بها لغيره، فإن كان المقر له بها حاضرا جعل الخصم فيها، وإن كان غائبا وكانت للمدعي بينة حكم له بها ببينته، كان الغائب على خصومته متى حضر.
ش: إذا كانت في يده دار أو عين فادعاها إنسان، فأقر بها من هي في يده لغيره، نظر في المقر له، فإن كان حاضرا مكلفا جعل كأنه الخصم فيها، لأن اليد بصدد أن تصير له، وإذا يسأل فإن صدق المقر ثبتت اليد له، وصار الخصم فيها حقيقة، فإن لم يكن بينة حكم بها له مع يمينه لليد، وللمدعي اليمين على المقر أيضا على المذهب، وإن كان للمقر له أو للمدعي بينة عمل على ذلك، وإن كان لكل منهما بينة انبنى على بينة الداخل والخارج كما تقدم، وإن لم يصدق المقر في

(7/409)


إقراره وقال: ليست لي، ولا أعلم لمن هي، فهل تسلم للمدعي بلا يمين، لأنه يدعيها ولا منازع له، وهو اختيار أبي محمد في المغني وقال: إنه الأقوى، أو مع اليمين بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه، أو يحفظها أمين الحاكم، لأنه مال لم يثبت مستحقه أشبه المال الضال، وهو الذي ذكره القاضي، أو تقر في يد رب اليد لأن اليد كانت له، ولم يعلم ما يزيلها، وهو المذهب قاله أبو البركات، مع أن أبا محمد لم يذكره في المغني؟ على أربعة أوجه، فعلى الوجه الأخير لو عاد المقر فادعاها لنفسه سمع، لأنه إقرار على ما في يده، بخلاف ما قبله لزوال يده.
وإن كان المقر له غائبا ومثله الصبي والمجنون ولا بينة أقرت في يد المقر لعدم ثبوت المزيل لها، وللمدعي أن يحلف المقر أنه لا يستحق تسليمها إليه، إلا أن يقيم المقر بينة أنها لمن سماه فلا يحلف، وإن كان للمدعي بينة حكم بها له، بناء على ما تقدم من القضاء على الغائب، ثم إذا قدم الغائب، أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، فهم على حججهم من القدح في بينة المدعي، أو إقامة بينة تشهد بانتقال الملك إليهم من المدعي، فإن أقاموا بينة بالملك فقط انبنى على بينة الداخل

(7/410)


والخارج، أما مع عدم الحضور والتكليف فإذا كان مع المقر بينة تشهد لمن سماه فإن الحاكم يسمعها، لزوال التهمة عن المقر، وسقوط اليمين عنه كما تقدم، ولا يحكم بها لعدم الدعوى من الغائب، أو وكيله، وخرج القضاء بها على صفة ما تقدم، بناء على أن للمودع وغيره المخاصمة فيما في يده، وإن أقر بها المدعى عليه لمجهول - وهذه الصورة لم يذكرها الخرقي - قيل له: عرفه وإلا فأنت ناكل عن الجواب، فإن عاد فادعاها لنفسه فهل تسمع دعواه كما لو عين المقر له، إذ قد يعني بالمجهول نفسه، أو لا تسمع - وجزم به في المغني - كما لو أقر بها لغائب ونحوه؟ على وجهين. والله أعلم.

[حكم من مات وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى كل منهما أنه على دينه]
قال: ولو مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا، فادعى المسلم أن أباه مات مسلما، وادعى الكافر أن أباه مات كافرا، فالقول قول الكافر مع يمينه، لأن المسلم باعترافه بأخوة الكافر مقر بأن أباه كان كافرا مدع لإسلامه، وإن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر، ولم تكن بينة بأخوته كان الميراث بينهما نصفين، لتساوي أيديهما.

(7/411)


ش: إذا مات إنسان وخلف ابنين أحدهما مسلم، والآخر كافر، فادعى كل واحد من الابنين أن أباه مات على دينه فلا يخلو إما أن يعترف المسلم بأخوة الكافر أو لا، فإن اعترف بأخوته فالميراث للكافر في إحدى الروايتين، واختاره الخرقي، لما علل به من أن المسلم باعترافه بأخوة الكافر يعترف ظاهرا بأن أباه كان كافرا، وأنه أسلم، وإذا دعوى أخيه على وفق الأصل، وهو يدعي زوال ذلك، والأصل البقاء، وإنما قلنا: إنه معترف بأن أباه كان كافرا، لأنه إن لم يعترف بذلك بل ادعى أنه مسلم الأصل، فإذا أولاده تبع له، فيلزم أن أخاه ارتد، والأصل عدم ذلك، والظاهر أيضا يكذبه، إذ الظاهر أن المرتد لا يقر على ردته في دار الإسلام (والرواية الثانية) المال بينهما، لأنهما تنازعا عينا في أيديهما فتقسم بينهما، وهو ظاهر كلام القاضي في الجامع الصغير، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وقال القاضي أظنه في المجرد: قياس المذهب أن التركة إن كانت في أيديهما قسمت بينهما، وإن لم تكن في أيديهما أقرع بينهما، فمن قرع حلف واستحقها، كما إن تداعيا عينا في يد غيرهما، وقال أبو محمد: ومقتضى كلامه أنها إذا كانت في يد أحدهما أنها له مع يمينه، قال: ولا يصح، لاعترافهما بأن التركة للميت، وأن استحقاقهما بالإرث، فلا حكم لليد. انتهى.
ولأبي الخطاب احتمال أن الأمر يقف حتى يظهر أصل دينه أو

(7/412)


يصطلحان، ولأبي محمد احتمال وهو اختياره في العمدة، أن القول قول المسلم، لأن حكم الميت حكم المسلمين في غسله، والصلاة عليه، ودفنه، فكذلك في إرثه.
وإن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر فالمشهور أنه بينهما، لتساويهما في الدعوى، وقيد ذلك الشيرازي بما إذا كانت أيديهما على التركة، وفيه ما تقدم من الخلاف، إلا رواية أن القول قول الكافر، هذا كله إذا لم يعرف أصل دينه، أما إن عرف أصل دينه فالذي جزم به القاضي في الجامع الشريف وأبو الخطاب وأبو البركات - وقال: رواية واحدة - أن القول قول من يدعيه، لأن دعواه ترجحت بموافقة الأصل، وأجرى ابن عقيل في التذكرة كلام الخرقي على إطلاقه، فحكى عنه أن الميراث للكافر والحال هذه، ويقدم كما تقوله الجماعة، وشذ الشيرازي فحكى فيه الروايتين اللتين قدمناهما فيما إذا اعترف المسلم بالأخوة، ولم يعرف أصل الدين.

قال: وإن أقام الكافر بينة أن أباه مات كافرا، وأقام المسلم بينة أن أباه مات مسلما، أسقطت البينتان، وكانا كمن لا بينة

(7/413)


لهما، وإن قال شاهدان: نعرفه كان كافرا، وقال شاهدان: نعرفه كان مسلما. حكم بالميراث للمسلم، لأن الإسلام يطرأ على الكفر، إذا لم يؤرخ الشهود معرفتهم.
ش: إذا أقام المسلم والحال ما تقدم بينة أن أباه مات مسلما، وأقام الكافر بينة أن أباه مات كافرا، أو قالت بينة: نعرفه مسلما، وبينة: نعرفه كافرا، ولم يؤرخا (فعن أحمد) ما يدل على تقديم بينة الإسلام بكل حال في الصورتين، وهو اختيار أبي محمد في العمدة، وظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية لترجحها بالدار، ولذلك حكم للميت بأحكام المسلمين، من الغسل والدفن، ونحو ذلك، ولما أشار إليه الخرقي من أن الإسلام يطرأ على الكفر، فيدل على تأخره، والكفر لا يطرأ على الإسلام، لعدم الإقرار عليه في دار الإسلام، وفرق الخرقي - وتبعه الشيرازي - بين الصورتين فاختار في الصورة الثانية تقديم بينة الإسلام لما تقدم، واختار في الأولى التعارض، لأن قول البينة: مات مسلما، ومات كافرا، ظاهره أنه مات ناطقا بذلك، وإذا يتعارضان، لأن النطق بالإسلام يعارضه النطق بالكفر، وسوى القاضي وجماعة بين الصورتين، وقالوا فيهما: إن

(7/414)


عرف أصل دينه قدمت البينة الناقلة عنه، لأنها تشهد بزيادة، فهو كبينة الجرح مع بينة التعديل، وإن لم يعرف تعارضتا، وأبو محمد في المغني يوافق الخرقي في الصورة الثانية، ويوافق القاضي ومن دان بقوله في الأولى، ولو أرخ البينتان معرفتهما، فإن كان بتأريخين مختلفين عمل بالآخر منهما، لأنه ثبت بالبينة أنه انتقل عما كان عليه أولا، وإن اتحد التأريخ فقال أبو محمد: إن لم يعرف أصل دينه تعارضتا، وإن عرف قدم الناقلة عنه.
(تنبيه) لو قالت بينة: مات ناطقا بكلمة الإسلام، وبينة: مات ناطقا بكلمة الكفر. فقال الشيخان وغيرهما: تتعارضان سواء علم أصل دينه أو لم يعلم، ولم يذكروا خلافا، وشذ ابن عقيل في التذكرة فقال: إن عرف أصل دينه فالقول قول من يدعي نفيه، لأنه يدعي أمرا طارئا، وحيث قيل بالتعارض هنا وفيما تقدم فهل يتساقطان، ويصيران كمن لا بينة لهما على ما تقدم - وهو الذي قاله الخرقي، جريا على قاعدته - أو يستعملان بقسمة أو قرعة كما تقدم، على الروايتين المتقدمتين، وفيه نظر إن عرف أن أصل دينه الإسلام، لأن بينة الكفر يلزم منها أن يكون قد ارتد، فيكون المنازع في النصف أو الكل أهل الفيء، وقد يقال: إن البينة ألغت اعتبار الأصل، والله أعلم.

(7/415)


قال: ولو ماتت امرأة وابنها فقال زوجها: ماتت قبل ابني فورثناها، ثم مات ابني فورثته، وقال أخوها: مات ابنها فورثته، ثم ماتت فورثناها. ولا بينة لأحدهما، حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه، وكان ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين.
ش: إنما حلف كل واحد منهما والحال هذه على إبطال دعوى صاحبه، لأن كل واحد منهما ينكر ما ادعى عليه به، والمنكر عليه اليمين، وإنما كان ميراث الابن لأبيه، لأنه وارثه الحي المتيقن، وغيره مشكوك فيه، وإنما كان ميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين لأنهما اللذان يرثانها يقينا، وغيرهما مشكوك فيه، وهذا منصوص أحمد، واختيار أبي البركات، وقال ابن أبي موسى: يعين السابق بالقرعة، كما لو قال: أول ولد تلدينه فهو حر. فولدت ولدين، وأشكل السابق منهما عين بالقرعة، كذلك هنا: وقال أبو الخطاب ومن تبعه: يرث كل واحد منهما من صاحبه من تلاد ماله دون ما ورثه عن الميت معه، كما لو جهل الورثة موتهما، فيقدر أن المرأة ماتت أولا فورثها زوجها وابنها أرباعا، ثم يؤخذ ما ورثه الابن فيدفع لورثته الأحياء وهم الأب، فيجتمع له جميع مالها، ثم يقدر أن الابن

(7/416)


مات أولا، فورثه أبواه أثلاثا، ثم يؤخذ ثلث الأم، ويقسم بين ورثتها الأحياء، وهم أخوها وزوجها نصفين، فلا يحصل للأخ إلا سدس مال الابن. انتهى.
وقال أبو بكر: يحتمل أن المال بينهما نصفان، قال: وهذا اختياري. قال: لأن كل رجلين ادعيا مالا، يمكن صدقهما فيه فهو بينهما، وظاهر هذا الذي قاله أن ماله ومالها بينهما نصفين، وأبطله أبو محمد، بأنه يفضي إلى أن يعطى الأخ ما لا يدعيه ولا يستحقه يقينا، لأنه لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه ولا يمكن أن يستحق أكثر منه، وذكر احتمالات أخر لقوله كلها تخالف ظاهره، والله أعلم.

قال: ولو شهد شاهدان على رجل أنه أخذ من صبي ألفا، وشهد شاهدان على رجل آخر أنه أخذ من الصبي ألفا، كان على ولي الصبي أن يطالب أحدهما بالألف، إلا أن تكون كل بينة لم تشهد بالألف التي شهدت بها الأخرى، فيأخذ الولي الألفين.
ش: المسألة الأولى شهدت البينة على ألف بعينها، يدل عليه ما ذكره في الثانية، وإنما كان على الولي المطالبة بذلك، لأنه

(7/417)


المطالب باستيفاء حقوق الصبي والقيام بأمره، وقد ثبت له بالبينة حق، فيجب على الولي استيفاؤه، وإنما كان له أن يطالب أيهما شاء إذا شهدت البينة بألف معينة فلأنه قد ثبت بالبينة أن كل واحد أخذ الألف فإن كان باقيا في يده فواضح، وإن كان دفعه إلى الصبي لم يبرأ بذلك، لأنه ليس له قبض صحيح فقد فرط، وإن دفعه إلى أجنبي فكذلك، لأنه ليس له الدفع إليه، وإنما كان له أن يطالب بالألفين إذا شهدت البينة بألف غير معين، لأن كل واحد من الرجلين ثبت أنه أخذ ألفا، فيلزمه أداؤه، والله أعلم.

قال: ولو أن رجلين حربيين جاءانا من أرض الحرب مسلمين، فذكر كل واحد منهما أنه أخو صاحبه جعلناهما أخوين.
ش: لأن ذلك إقرار، ولا ضرر على أحد فيه فقبل، كالمسلمين إذا أقر كل واحد منهما بأخوة صاحبه بشرطه، وكالإقرار بالحقوق المالية، والله أعلم.

قال: ولو كانا سبيا فادعيا ذلك بعد أن أعتقا فميراث كل واحد منهما لمعتقه إذا لم يصدقهما، إلا أن تقوم بما ادعياه من الأخوة بينة من المسلمين، فيثبت بها النسب، فيورث كل

(7/418)


واحد منهما من أخيه.
ش: يعني إذا كان الأخوان سبيا فادعيا ذلك قبل عتقهما فقد تقدم، وإن ادعياه بعد أن أعتقا وصدقهما المولى، ثبت نسبهما وإرثهما، لأن الحق للمولى، ومن له حق يقبل إقراره عليه، وإن لم يصدقهما وأقاما بذلك بينة من المسلمين ثبت النسب وتوارثا، لأن البينة تبين الحق وتظهره، وإن لم تكن لهما بينة معتبرة لم تقبل إقرارهما، حذارا من إضرار المولى بتفويت حقه من الولاء، وإذا يكون إرث كل منهما لمعتقه، وخرج أبو البركات قبول إقرارهما، ولعله مما إذا أقرا بمعتق لهما، فإنه يقبل وإن أسقطا به وارثا معروفا.
وقول الخرقي: بينة من المسلمين. يحترز به عن البينة من الكفار، فإنها لا تقبل في ذلك، وقد تقدم عن أبي حفص قبول قولهما والحال هذه، وحكاه أبو محمد هنا رواية، والله أعلم.

[الحكم لو افترق الزوجان وادعى كل منهما أن ما في البيت له]
قال: وإذا كان الزوجان في البيت فافترقا أو ماتا، فادعى كل واحد منهما ما في البيت أنه له أو ورثته، حكم بما كان يصلح للرجال للرجل، وبما كان يصلح للنساء للمرأة، وبما كان يصلح أن يكون لهما فهو بينهما نصفين.

(7/419)


ش: ما يصلح للرجال كالعمائم، والأقبية، والطيالسة ونحو ذلك، وما يصلح للنساء كحليهن، ومغازلهن، ومقانعهن، وقمصهن ونحو ذلك، وما يصلح لهما كالمفارش والأواني ونحو ذلك، والذي قاله الخرقي هو المنصوص في رواية الجماعة، وسواء كانا حرين أو رقيقين، أو أحدهما، وسواء كان في أيديهما من طريق الحكم أو المشاهدة، اختلفا في حال الزوجية أو بعدها، أو اختلف ورثتهما لأن اليد لكل منهما على البيت، بدليل لو نازعهما غيرهما فإن القول قولهما، ثم إن لم تقم قرينة لأحدهما تساويا، وإن قامت قرينة لأحدهما ترجحت دعواه بها، وصار كما لو تنازعا دابة، أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها، ونحو ذلك، وقال القاضي: إن كانت أيديهما عليه من طريق الحكم فكذلك، وإن كانت أيديهما عليه من طريق المشاهدة قسم بينهما نصفين، وإن كانت اليد المشاهدة عليه لأحدهما فهو له مع يمينه، وإن لم يصلح له، لأن اليد المشاهدة أقوى من القرينة.
وقوله: إذا كان الزوجان في البيت، يريد بذلك أن لهما يدا حكمية أو حسية، ويخرج بذلك ما لو لم تكن لهما يد حكمية، وتنازعا في عين، فإنه لا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له، بل

(7/420)


إن كانت في أيديهما فهي بينهما، وإن كانت في يد أحدهما فهي له، وإن كانت في يد غيرهما اقترعا عليها، فمن قرع حلف واستحق كما تقدم، والله أعلم.

[حكم من كان له على أحد حق فمنعه منه فقدر له على مال]
قال: ومن كان له على أحد حق فمنعه منه فقدر له على مال، لم يأخذ منه مقدار حقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» .
ش: من كان له على أحد حق فمنعه، ولم يقدر على أخذه منه بالحاكم، وقدر له على مال، لم يكن له في الباطن أن يأخذ قدر حقه على المذهب المنصوص المشهور.
3879 - لما استدل به الخرقي، وهو ما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وإذا لم يخن من خانه فمن لم يخنه أولى.

(7/421)


3880 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
وخرج أبو الخطاب قولا بالأخذ من قول أحمد في المرتهن: يركب ويحلب بقدر ما ينفق، والمرأة تأخذ مؤونتها، والبائع للسلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضاه، وخرجه أبو البركات من تنفيذ الوصي الوصية مما في يده إذا كتم الورثة بعض التركة، وهو أظهر في التخريج، وحكى ابن عقيل هذا القول عن المحدثين من الأصحاب.
3881 - وذلك لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن هند قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، فجوز لها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأخذ في مقابلة حقها بغير علمه.
3882 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا

(7/422)


كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه البخاري وغيره، فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرتهن ينفق ويأخذ عوض حقه وهو نفقة المركوب، ويجاب عن هذا بأن المرتهن لم يكن له حق قبل الراهن، وإنما الشارع جوز له المعاوضة عملا بالأصلح، لئلا يفوت الركوب على الراهن مجانا، وأما حديث هند فإن أحمد أجاب عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت، يعني أن جواز الأخذ لها كان دفعا للحرج والمشقة عنها، لأن حقها يتجدد كل يوم، فلو لم يجز ذلك لأفضى إلى المحاكمة في كل وقت والمخاصمة، وفي ذلك حرج عظيم، وأجاب أبو بكر بجواب ثان، وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة، فكأن الحق صار معلوما بعلم قيام مقتضيه، وفيه شيء، لأن المسألة وإن علم ثبوت الحق، ولأبي محمد (جواب ثالث) وهو أن للمرأة من التبسط في مال الزوج ما يؤثر في إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف، بخلاف الأجنبي (وجواب الرابع) وهو أن النفقة تراد لإحياء النفس، ولا سبيل إلى تركها، فلذلك جاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة، بخلاف الدين، ومن ثم قلنا: لو صارت

(7/423)


النفقة ماضية لم يكن لها أخذها، وكذلك لو كان لها دين آخر، قلت: وهذا الفرع يرد جوابه الثالث، ويندفع هو أيضا بأنها لو وجدت ما تندفع به حاجتها من مالها جاز لها الأخذ، انتهى.
فعلى المذهب إن أخذ لزمه الرد مع البقاء، ووجب المثل أو القيمة مع التلف، ثم إن كان من جنس حقه تقاصا وتساقطا، وإلا لزمه غرمه (وعلى القول الآخر) إن وجد جنس حقه أخذ منه قدر حقه، ولا يأخذ من غيره مع قدرته عليه، وإن لم يجد إلا من غير جنس حقه أخذ منه قيمة حقه، متحريا للعدل في ذلك، جزم به أبو البركات، وأبو الخطاب في الهداية وغيرهما، وهو أحد احتمالي أبي محمد كما في الرهن (والاحتمال الثاني) ليس له ذلك، لإفضائه إلى بيع مال غيره من نفسه بغير إذن له في ذلك، وهذه المسألة تلقب بمسألة الظفر، وقول الخرقي: فمنعه منه، يخرج ما لم يمنعه، فإنه ليس له الأخذ اتفاقا، فإن أخذ لزمه الرد، وإن كان قدر الحق ومن جنسه، لأنه قد يكون للإنسان غرض في عين من أعيان ماله، فلا يجوز

(7/424)


تملكها عليه بغير رضاه إلا لضرورة، وإن تلف ذلك صار دينا في ذمته، فإن كان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا، وكذلك لو لم يمنعه وقدر على الأخذ بالحاكم، فإنه لا يجوز له الأخذ، ولا بد أن يلحظ أن المنع ممنوع، إذ لو كان مباحا كما لو كان الدين مؤجلا، أو المدين معسرا فإنه لا يجوز الأخذ أيضا بلا خلاف، فإن أخذ رده مع البقاء، وعوضه مع التلف، ولا تقاصص هنا، لأن الدين لم يستحق أخذه في الحال، بخلاف التي قبلها، والله أعلم.

(7/425)