مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى

[بَابُ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ]
(بَابُ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ) وَهُمْ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ وَالْخَائِفُ وَنَحْوُهُمْ
وَالْأَعْذَارُ: جَمْعُ عُذْرٍ، كَأَقْفَالٍ: جَمْعُ قُفْلٍ (يَلْزَمُ فَرْضُ) الصَّلَاةِ (الْمَرِيضَ قَائِمًا) إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، (وَلَوْ) كَانَ (كَرَاكِعٍ أَوْ) كَانَ (مُعْتَمِدًا) فِي قِيَامِهِ عَلَى شَيْءٍ، (أَوْ) كَانَ (مُسْتَنِدًا) إلَى شَيْءٍ (أَوْ) كَانَ (بِأُجْرَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا) ، لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. زَادَ النَّسَائِيّ «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا» . وَحَدِيثِ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ؛ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
(فَإِنْ عَجَزَ) عَنْ الْقِيَامِ كَذَلِكَ (أَوْ شَقَّ) عَلَيْهِ الْقِيَامُ (لِضَرَرٍ شَدِيدٍ) يَلْحَقُهُ بِهِ (أَوْ) لِ (زِيَادَةِ مَرَضٍ أَوْ بُطْءِ بُرْءٍ وَنَحْوِهِ) كَمَا لَوْ كَانَ الْقِيَامُ يُوهِنُهُ حَيْثُ جَازَ، تَرْكُ الْقِيَامِ، (فَ) إنَّهُ يُصَلِّي (قَاعِدًا) لِلْخَبَرِ. (مُتَرَبِّعًا نَدْبًا، وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ فِي رُكُوعٍ وَسُجُودٍ كَمُتَنَفِّلٍ) ، وَكَيْفَ قَعَدَ جَازَ، وَأَسْقَطَ الْقَاضِي بِضَرَرٍ مُتَوَهَّمٍ وَأَنَّهُ لَوْ تَحَمَّلَ الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ حَتَّى ازْدَادَ مَرَضُهُ، أَثِمَ.
(فَإِنْ عَجَزَ) عَنْ الْقُعُودِ، (أَوْ شَقَّ) عَلَيْهِ الْقُعُودُ (وَلَوْ بِتَعَدِّيهِ بِضَرْبِ سَاقِهِ) أَوْ تَعَدِّي الْحَامِلِ بِضَرْبِ بَطْنِهَا حَتَّى نَفِسَتْ، (فَ) إنَّهُ

(1/706)


يُصَلِّي (عَلَى جَنْبٍ) لِمَا تَقَدَّمَ. (وَ) الْجَنْبُ (الْأَيْمَنُ أَفْضَلُ) ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْجُدَ، أَوْمَأَ وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، صَلَّى مُسْتَلْقِيًا رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ
فَإِنْ صَلَّى عَلَى الْأَيْسَرِ فَظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ جَوَازُهُ، لِظَاهِرِ خَبَرِ عِمْرَانَ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: يُكْرَهُ مَعَ قُدْرَةٍ عَلَى الْأَيْمَنِ.

(وَتُكْرَهُ) صَلَاةُ مَرِيضٍ عَجَزَ عَنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ (عَلَى ظَهْرِهِ وَرِجْلَاهُ لِلْقِبْلَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ) أَنْ يُصَلِّيَ (عَلَى جَنْبِهِ) ، وَتَصِحُّ، (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ مَرِيضٌ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنْبِهِ، (تَعَيَّنَ) أَنْ يُصَلِّيَ (عَلَى ظَهْرِهِ) وَرِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَتَقَدَّمَ. (وَيُومِئُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ) عَاجِزٍ عَنْهُمَا مَا أَمْكَنَهُ نَصًّا، (وَيَجْعَلُهُ) ، أَيْ: السُّجُودَ (أَخْفَضَ) لِلْخَبَرِ وَلِلتَّمَيُّزِ، (وَإِنْ سَجَدَ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ) السُّجُودَ بِالْأَرْضِ (عَلَى شَيْءٍ رُفِعَ) لَهُ، وَانْفَصَلَ عَنْ الْأَرْضِ، (كُرِهَ) لَهُ ذَلِكَ لِلِاخْتِلَافِ فِي إجْزَائِهِ، (وَأَجْزَأَ) نَصًّا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْهُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْمَأَ (قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ: الْإِيمَاءُ أَحَبُّ إلَيَّ) مِنْ رَفْعِ شَيْءٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ.
(وَإِنْ رَفَعَ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ، أَجْزَأَهُ) .
انْتَهَى. (وَلَا بَأْسَ بِهِ) ، أَيْ: السُّجُودِ (عَلَى نَحْوِ وِسَادَةٍ) مَوْضُوعَةٍ بِالْأَرْضِ لَمْ تُرْفَعْ عَنْهَا، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِفِعْلِ أُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا.
قَالَ: وَنَهَى عَنْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَلَا يَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَيْهَا، وَيُومِئُ غَايَةَ مَا يُمْكِنُهُ. (فَإِنْ عَجَزَ) عَنْ إيمَاءٍ بِرَأْسِهِ (أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ) ، أَيْ: عَيْنِهِ (نَاوِيًا مُسْتَحْضِرًا) تَفْسِيرٌ لَهُ (الْفِعْلَ) عِنْدَ إيمَائِهِ (بِقَلْبِهِ، وَكَذَا) نَاوِيًا (الْقَوْلَ) إذَا أَوْمَأَ لَهُ (إنْ عَجَزَ عَنْهُ بِلِسَانِهِ) ، لِحَدِيثِ «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ

(1/707)


مَا اسْتَطَعْتُمْ» (يُجَدِّدُ لِكُلِّ فِعْلٍ وَرُكْنٍ قَصْدًا) ، لِتَمْيِيزِ الْأَفْعَالِ وَالْأَرْكَانِ (كَأَسِيرٍ خَائِفٍ) أَنْ يَعْلَمُوا بِصَلَاتِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ لَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ مَعَ عَقْلِهِ، وَفِي " التَّبْصِرَةِ ": صَلَّى بِقَلْبِهِ أَوْ طَرْفِهِ، وَفِي " الْخِلَافِ ": أَوْمَأَ بِعَيْنِهِ وَحَاجِبِهِ أَوْ قَلْبِهِ.

(وَلَا تَسْقُطُ) الصَّلَاةُ عَنْ مُكَلَّفٍ (مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا) ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيمَاءِ مَعَ النِّيَّةِ بِقَلْبِهِ، وَلِعُمُومِ أَدِلَّةِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ.

(وَلَا يَنْقُصُ أَجْرُ نَحْوِ مُضْطَجِعٍ عَنْ أَجْرِ صَحِيحٍ) ، لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَتَقَدَّمَ.

(وَمَنْ قَدَرَ عَلَى وَاجِبٍ أَوْ رُكْنٍ مِنْ نَحْوِ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ) فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، (انْتَقَلَ إلَيْهِ) لِتَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ - وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ - وَأَتَمَّهَا.
؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ الْعَجْزُ وَقَدْ زَالَ، وَمَا صَلَّاهُ قَبْلُ كَانَ الْعُذْرُ مَوْجُودًا فِيهِ.
وَمَا بَقِيَ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْوَاجِبِ فِيهِ، (فَيَقُومُ) الْعَاجِزُ عَنْ الْقِيَامِ، (أَوْ يَقْعُدُ) مَنْ كَانَ عَجَزَ عَنْ الْقُعُودِ، (وَيَرْكَعُ بِلَا قِرَاءَةٍ مَنْ) كَانَ (قَرَأَ) حَالَ عَجْزِهِ لِحُصُولِهَا فِي مَحَلِّهَا، (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَقْرَأْ حَالَ عَجْزِهِ؛ (قَرَأَ) بَعْدَ قِيَامِهِ أَوْ قُعُودِهِ، لِيَأْتِيَ بِفَرْضِهَا.
وَإِنْ كَانَ قَرَأَ الْبَعْضَ، أَتَى بِالْبَاقِي.
(وَإِنْ أَبْطَأَ مُتَثَاقِلًا) حَالٌ مِنْ (مَنْ) فَاعِلُ أَبْطَأَ (أَطَاقَ الْقِيَامَ) فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْهُ (فَعَادَ الْعَجْزُ) فِي الصَّلَاةِ. (وَيَتَّجِهُ: أَوْ لَمْ يَعُدْ) ، شُمُولُ الْحُكْمِ لِمَنْ لَمْ يَعُدْ عَجْزُهُ (أَوْلَى) مِمَّنْ عَادَ عَجْزُهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (فَإِنْ كَانَ) إبْطَاؤُهُ (بِمَحَلِّ قُعُودٍ) مِنْ صَلَاتِهِ (كَتَشَهُّدٍ، صَحَّتْ) صَلَاتُهُ، لِأَنَّ جُلُوسَهُ بِمَحَلِّهِ، (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بِمَحَلِّ قُعُودٍ: (بَطَلَتْ صَلَاتُهُ) لِزِيَادَتِهِ فِعْلًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، (وَ) بَطَلَتْ (صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ

(1/708)


وَلَوْ جَهِلُوا) ، لِارْتِبَاطِ صَلَاتِهِمْ بِصَلَاتِهِ، وَكَمَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ.

(وَيَتَّجِهُ: وَمُصَلٍّ مُضْطَجِعًا) أَبْطَأَ مُتَثَاقِلًا بَعْدَ أَنْ أَطَاقَ الْجُلُوسَ أَوْ الْقِيَامَ (تَبْطُلُ) صَلَاتُهُ (بِلَا تَفْصِيلٍ) ؛ لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ لَيْسَ لَهُ مَحَلٌّ مِنْ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.

(وَيَبْنِي مَنْ) ابْتَدَأَهَا قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا، ثُمَّ (عَجَزَ فِيهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ، لِوُقُوعِهِ صَحِيحًا كَالْآمِنِ يَخَافُ.

(وَتُجْزِئُ الْفَاتِحَةُ) مَنْ كَانَ يُصَلِّي قَائِمًا، ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ، (إنْ أَتَمَّهَا فِي) حَالِ (انْحِطَاطِهِ) ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى مِنْ الْقُعُودِ الَّذِي صَارَ فَرْضَهُ، وَ (لَا) تُجْزِئُ الْفَاتِحَةُ (مَنْ) صَلَّى قَاعِدًا عَجْزًا، ثُمَّ (صَحَّ) فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، (فَأَتَمَّهَا) ، أَيْ: الْفَاتِحَةَ (فِي) حَالِ (ارْتِفَاعِهِ) ، أَيْ: نُهُوضِهِ، كَقِرَاءَةِ الصَّحِيحِ حَالَ نُهُوضِهِ.

(وَمَنْ قَدَرَ عَلَى قِيَامٍ وَقُعُودٍ دُونَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَوْمَأَ وُجُوبًا بِرُكُوعٍ قَائِمًا) ؛ لِأَنَّ الرَّاكِعَ كَالْقَائِمِ فِي نَصْبِ رِجْلَيْهِ، (وَ) أَوْمَأَ بِ (سُجُودٍ قَاعِدًا) ؛ لِأَنَّ السَّاجِدَ كَالْجَالِسِ فِي جَمْعِ رِجْلَيْهِ، وَلِيَحْصُلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِيمَاءَيْنِ.

وَمَنْ قَدَرَ أَنْ يَحْنِيَ رَقَبَتَهُ دُونَ ظَهْرِهِ حَنَاهَا، وَإِذَا سَجَدَ قَرَّبَ وَجْهَهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى سُجُودٍ عَلَى صُدْغَيْهِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ.

(وَمَنْ قَدَرَ) أَنْ (يَقُومَ) فِي الصَّلَاةِ (مُنْفَرِدًا، وَ) قَدَرَ أَنْ (يَجْلِسَ فِي جَمَاعَةٍ؛ خُيِّرَ) بَيْنَ الصَّلَاةِ قَائِمًا مُنْفَرِدًا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ جَالِسًا فِي جَمَاعَةٍ

(1/709)


عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، قَطَعَ بِهِ فِي " الْكَافِي "، وَالْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ " وَ " مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ " وَالرِّعَايَةِ الصُّغْرَى " وَ " الْحَاوِي الصَّغِيرِ " وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": لِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَاجِبًا وَيَتْرُكُ وَاجِبًا (وَاخْتَارَ جَمْعٌ) مِنْهُمْ أَبُو الْمَعَالِي (يُصَلِّي مُنْفَرِدًا قَائِمًا، وَصَوَّبَهُ فِي " الْإِنْصَافِ ") وَقَالَ: لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَادِرٌ، وَالْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا، وَقُعُودُهُمْ خَلْفَ إمَامِ الْحَيِّ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ.
انْتَهَى.

(وَلِمَرِيضٍ وَأَرْمَدَ يُطِيقُ قِيَامًا الصَّلَاةُ مُسْتَلْقِيًا لِمُدَاوَاةٍ بِقَوْلِ طَبِيبٍ) سُمِّيَ بِهِ لِحِذْقِهِ وَفِطْنَتِهِ (مُسْلِمٍ ثِقَةٍ) وَهُوَ: الْعَدْلُ الضَّابِطُ (حَاذِقٍ فَطِنٍ) ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ كَافِرٌ، وَلَا فَاسِقٌ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى جَالِسًا حِينَ جُحِشَ شِقُّهُ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِعَجْزِهِ عَنْ الْقِيَامِ، بَلْ فَعَلَهُ إمَّا لِلْمَشَقَّةِ، أَوْ لِوُجُودِ الضَّرَرِ، وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ.
وَأُمُّ سَلَمَةَ تَرَكَتْ السُّجُودَ لِرَمَدٍ بِهَا. (وَيَكْفِي مِنْهُ) ، أَيْ: الطَّبِيبِ (غَلَبَةُ ظَنٍّ) لِتَعَذُّرِ الْيَقِينِ.

(وَ) لِلْمَرِيضِ أَنْ (يُفْطِرَ بِقَوْلِهِ) ، أَيْ: الطَّبِيبِ الْمُسْلِمِ الثِّقَةِ (إنَّ الصَّوْمَ مِمَّا يُمَكِّنُ الْعِلَّةَ) ، أَيْ: الْمَرَضَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .

(وَلَا تَصِحُّ مَكْتُوبَةٌ بِسَفِينَةٍ قَاعِدًا لِقَادِرٍ عَلَى قِيَامٍ) لِقُدْرَتِهِ عَلَى رُكْنِ الصَّلَاةِ، كَمَنْ بِغَيْرِ سَفِينَةٍ.

(وَيَدُورُ) رَاكِبُ السَّفِينَةِ (لِقِبْلَةٍ كُلَّمَا انْحَرَفَتْ، وَيُصَلُّونَ بِهَا) ، أَيْ: السَّفِينَةِ (جَمَاعَةً، وَلَوْ عَجَزُوا عَنْ قِيَامٍ) بِهَا وَخُرُوجٍ مِنْهَا، صَلُّوا جُلُوسًا، وَدَارُوا إلَى الْقِبْلَةِ كُلَّمَا انْحَرَفَتْ.

(وَتَصِحُّ) الْمَكْتُوبَةُ (عَلَى رَاحِلَتِهِ) وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً (لِتَأَذٍّ بِوَحَلٍ

(1/710)


وَمَطَرٍ وَنَحْوِهِ) كَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، لِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى إلَى مَضِيقٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبَلَّةُ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ؛ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِهِمْ، يُومِئُ إيمَاءً، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: الْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفَعَلَهُ أَنَسٌ.
ذَكَرَهُ أَحْمَدُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ. (وَ) تَصِحُّ عَلَيْهَا أَيْضًا لِ (خَوْفِ انْقِطَاعٍ عَنْ رُفْقَةٍ) بِنُزُولِهِ، (أَوْ) خَوْفٍ (عَلَى نَفْسِهِ) إنْ نَزَلَ (مِنْ نَحْوِ عَدُوٍّ) كَسَيْلٍ وَسَبُعٍ، (أَوْ عَجَزَ عَنْ رُكُوبِهِ إنْ نَزَلَ) لِلصَّلَاةِ، فَإِنْ قَدَرَ، وَلَوْ بِأُجْرَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا؛ نَزَلَ.

وَالْمَرْأَةُ إنْ خَافَتْ تَبَرُّزًا وَهِيَ خَفِرَةٌ؛ صَلَّتْ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَكَذَا مَنْ خَافَ حُصُولَ ضَرَرٍ بِالْمَشْيِ، ذَكَرَهُمَا فِي " الِاخْتِيَارَاتِ ".

(وَعَلَيْهِ) ، أَيْ: يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِعُذْرِ (الِاسْتِقْبَالِ) ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، (وَ) عَلَيْهِ فِعْلُ (مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ) مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَإِيمَاءٍ بِهِمَا وَطُمَأْنِينَةٍ، لِحَدِيثِ «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .

(وَلَا تَصِحُّ) مَكْتُوبَةٌ عَلَى رَاحِلَةٍ (لِمَرَضٍ فَقَطْ) نَصًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ ضَرَرُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ؛ لَكِنْ إنْ عَجَزَ عَنْ رُكُوبٍ إنْ نَزَلَ، أَوْ خَافَ انْقِطَاعًا وَنَحْوَهُ، جَازَ لَهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا كَالصَّحِيحِ وَأَوْلَى.

(وَمَنْ أَتَى بِكُلِّ فَرْضٍ وَشَرْطٍ) لِمَكْتُوبَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ (وَصَلَّى عَلَيْهَا) ، أَيْ: عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَوْ صَلَّى (بِنَحْوِ سَفِينَةٍ) كَهَوْدَجٍ وَمِحَفَّةٍ (سَائِرَةٍ أَوْ وَاقِفَةٍ) وَلَوْ (بِلَا عُذْرٍ) مِنْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِ

(1/711)


مَطَرٍ، أَوْ مَعَ إمْكَانِ خُرُوجٍ مِنْ نَحْوِ سَفِينَةٍ؛ (صَحَّتْ) صَلَاتُهُ لِاسْتِيفَائِهَا مَا يُعْتَبَرُ لَهَا. (وَمَنْ بِمَاءٍ وَطِينٍ) لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ (يُومِئُ) بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ (كَمَصْلُوبٍ وَمَرْبُوطٍ) ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ إمْكَانِهِ (وَيَسْجُدُ غَرِيقٌ عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ) ، أَيْ: ظَهْرِهِ، (وَلَا إعَادَةَ فِي الْكُلِّ) لِلْخَبَرِ، وَتَقَدَّمَ. (وَيُعْتَبَرُ الْمَقَرُّ لِأَعْضَاءِ السُّجُودِ) لِحَدِيثِ «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» (فَلَوْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ مَثَلًا عَلَى نَحْوِ قُطْنٍ) ، كَصُوفٍ (مَنْفُوشٍ) وَوَبَرٍ وَشَعْرٍ (وَلَمْ يَنْكَبِسْ) ؛ لَمْ تَصِحَّ.

(أَوْ صَلَّى مُعَلَّقًا) أَوْ فِي أُرْجُوحَةٍ (بِلَا ضَرُورَةٍ) تَمْنَعُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْأَرْضِ؛ (لَمْ تَصِحَّ) صَلَاتُهُ، لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ عُرْفًا، وَعَدَمِ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ.

(وَتَصِحُّ) الصَّلَاةُ (إنْ حَاذَى صَدْرَهُ) ، أَيْ: الْمُصَلِّي (نَحْوَ رَوْزَنَةٍ) وَهِيَ: الْكُوَّةُ، قَالَهُ فِي " الْقَامُوسِ ".
وَنَحْوُ الرَّوْزَنَةِ: الشُّبَّاكُ وَمَا لَا يُجْزِئُ سُجُودُهُ عَلَيْهِ.

(وَ) تَصِحُّ أَيْضًا (عَلَى نَحْوِ صُوفٍ حَائِلٍ) كَشَعْرٍ وَوَبَرٍ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ، وَلَا كَرَاهَةَ، لِحَدِيثِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى عَلَى فَرْوٍ مَدْبُوغَةٍ» . (وَ) تَصِحُّ أَيْضًا عَلَى (مَا مَنَعَ صَلَاتُهُ الْأَرْضَ) كَفِرَاشٍ مَحْشُوٍّ بِنَحْوِ قُطْنٍ، (وَ) عَلَى (مَا تُنْبِتُهُ) الْأَرْضُ لِاسْتِقْرَارِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ عَلَيْهِ.

[فَصْلٌ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ]
(فَصْلٌ فِي الْقَصْرِ) (قَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّة) جَائِزٌ إجْمَاعًا، وَسَنَدُهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] الْآيَةَ، عَلَّقَ الْقَصْرَ عَلَى الْخَوْفِ؛ «لِأَنَّ غَالِبَ أَسْفَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَخْلُ مِنْهُ. وَقَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ

(1/712)


مَا لَنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا؟ فَقَالَ: سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «صَحِبْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ كَذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ؛ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، مَعْنَاهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ.
وَهُوَ (أَفْضَلُ) مِنْ الْإِتْمَامِ نَصًّا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاءَهُ دَاوَمُوا عَلَيْهِ
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» .

(وَلَا يُكْرَهُ إتْمَامُ) مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ، لِحَدِيثِ يَعْلَى؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: «أَتَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصَرَ» قَالَ الشَّافِعِيُّ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَصَحَّحَهُ.

وَيَجُوزُ الْقَصْرُ (لِمَنْ نَوَى سَفَرًا) ، أَيْ: شَرَعَ فِيهِ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ مُسْتَحَبًّا، كَسَفَرِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ وَالْعُمْرَةِ، فَالسَّفَرُ لِلْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَلِلْمَنْدُوبِ مِنْهُ مَنْدُوبٌ، وَكَالسَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَزِيَارَةِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَالْوَالِدَيْنِ، أَوْ ابْتَدَأَ سَفَرًا (مُبَاحًا) ، أَيْ: لَيْسَ حَرَامًا وَلَا مَكْرُوهًا، (وَلَوْ عَصَى فِيهِ) ، أَيْ: السَّفَرِ الْمُبَاحِ، (أَوْ) كَانَ لِ (زِيَارَةِ قُبُورٍ وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ) ، أَيْ: السَّفَرَ لِزِيَارَتِهَا (قُرْبَةً) ، فَإِنْ اعْتَقَدَهُ قُرْبَةً؛ فَلَا يَقْصُرُ، لِحَدِيثِ «لَا تَشُدُّوا الرِّحَالَ» . . . إلَى آخِرِهِ.
(أَوْ) كَانَ (نُزْهَةً أَوْ فُرْجَةً)

(1/713)


بِتَثْلِيثِ الْفَاءِ: الرَّاحَةُ مِنْ الْغَمِّ، (أَوْ) كَانَ الْمُسَافِرُ (تَاجِرًا مُكَاثِرًا) فِي الدُّنْيَا.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: اتَّفَقُوا أَنَّ الِاتِّسَاعَ فِي الْمَكَانِ وَالْمَبَانِي مِنْ حِلٍّ إذَا أَدَّى جَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَهُ؛ مُبَاحٌ، وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ التَّكَاثُرَ. (أَوْ) كَانَ السَّفَرُ (الْمُبَاحُ أَكْثَرَ قَصْدِهِ) ، كَتَاجِرٍ قَصَدَ التِّجَارَةَ، وَقَصَدَ مَعَهَا أَنْ يَشْرَبَ مِنْ خَمْرِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ؛ فَإِنْ تَسَاوَى الْقَصْدَانِ، أَوْ غَلَبَ الْحَظْرُ، أَوْ سَافَرَ لِيَقْصُرَ فَقَطْ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ.
(يَبْلُغُ) ، أَيْ: السَّفَرُ (سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا تَقْرِيبًا) لَا تَحْدِيدًا، صَحَّحَهُ فِي " الْإِنْصَافِ " (يَقِينًا) لَا ظَنًّا. (بَرًّا أَوْ بَحْرًا) لِلْعُمُومَاتِ. (وَهِيَ) ، أَيْ: السِّتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا (يَوْمَانِ قَاصِدَانِ) ، أَيْ: مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ طُولًا وَقِصَرًا (فِي زَمَنٍ مُعْتَدِلِ) الْحَرِّ وَالْبَرْدِ (بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ، وَهِيَ: أَرْبَعَةُ بُرُدٍ) جَمْعُ: بَرِيدٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «يَا أَهْلَ مَكَّةَ؛ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ.
قَالَ الْخَطَّابِيِّ: هُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، خُصُوصًا إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ.
(وَالْبَرِيدُ: أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ) جَمْعُ: فَرْسَخٍ. (وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ هَاشِمِيَّةٍ) نِسْبَةً إلَى هَاشِمٍ جَدِّ

(1/714)


النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَبِأَمْيَالِ بَنِي أُمَيَّةَ: مِيلَانِ وَنِصْفُ) مِيلٍ. (وَ) الْمِيلُ (الْهَاشِمِيُّ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ) ، وَهِيَ: (سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ) بِذِرَاعِ الْيَدِ، وَهِيَ: (أَرْبَعَةُ آلَافِ خُطْوَةٍ، وَالذِّرَاعُ: أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ إصْبَعًا مُعْتَرِضَةً مُعْتَدِلَةً، كُلُّ إصْبَعٍ) مِنْهَا عَرْضُهَا (سِتُّ حَبَّاتِ شَعِيرٍ بُطُونُ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، عَرْضُ كُلِّ شَعِيرَةٍ سِتُّ شَعَرَاتٍ بِرْذَوْنَ) : بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَرُبَّمَا قَالُوا فِي الْأُنْثَى بِرْذَوْنَةُ. قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: الْبِرْذَوْنُ: التُّرْكِيُّ مِنْ الْخَيْلِ، وَهُوَ مَا أَبَوَاهُ نَبَطِيَّانِ عَكْسُ الْعِرَابِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ ": الذِّرَاعُ الَّذِي ذُكِرَ قَدْ حُرِّرَ بِذِرَاعِ الْحَدِيدِ الْمُسْتَعْمَلِ الْآنَ فِي مِصْرَ وَالْحِجَازِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، يَنْقُصُ عَنْ ذِرَاعِ الْحَدِيدِ بِقَدْرِ الثُّمُنِ، فَعَلَى هَذَا؛ فَالْمِيلُ بِذِرَاعِ الْحَدِيدِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ خَمْسَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا. قَالَ: وَهَذِهِ فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ قَلَّ مَنْ يُنَبِّهُ عَلَيْهَا. (أَوْ تَابَ فِيهِ) ، أَيْ: فِي سَفَرٍ غَيْرِ مُبَاحٍ. (وَيَتَّجِهُ: أَوْ أَفَاقَ) مَجْنُونٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَقَدْ بَقِيَتْ) الْمَسَافَةُ قَصَرَ خِلَافًا لِمَا فِي الْإِقْنَاعِ " فَإِنَّهُ أَبَاحَ الْقَصْرَ وَلَوْ بَقِيَ دُونَ الْمَسَافَةِ، وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ

(1/715)


فَإِنْ لَمْ تَبْقَ لَمْ يَقْصُرْ. (أَوْ أُكْرِهَ) عَلَى سَفَرٍ (كَأَسِيرٍ، أَوْ غُرِّبَ) زَانٍ حُرٌّ غَيْرُ مُحْصَنٍ، (أَوْ شُرِّدَ) إذَا أَخَافَ السَّبِيلَ، وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ

(1/716)


يَأْخُذْ مَالًا، لِأَنَّ سَفَرَهُمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبِهَا.

وَ (لَا) يَقْصُرُ (هَائِمٌ) ، أَيْ: خَارِجٌ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، (وَ) لَا (تَائِهٌ) وَهُوَ: مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ، (وَ) لَا (سَائِحٌ) لَا يَقْصِدُ مَكَانًا مُعَيَّنًا، لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ قَصْدُ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ.

(وَتُكْرَهُ سِيَاحَةٌ لِغَيْرِ مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، وَلَوْ قَطَعَهَا فِي سَاعَةٍ) ، لِحَدِيثِ «لَا سِيَاحَةَ فِي الْإِسْلَامِ» .
وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَتْ السِّيَاحَةُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلَا هِيَ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ.
وَقَالَ فِي " الِاخْتِيَارَاتِ ": السِّيَاحَةُ فِي الْبِلَادِ لِغَيْرِ قَصْدٍ شَرْعِيٍّ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَمْرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَأَمَّا السِّيَاحَةُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ؛ فَهِيَ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا.

(إذَا فَارَقَ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ الْعَامِرَةِ) مُسَافِرًا (وَلَوْ) كَانَتْ (خَارِجَ سُورٍ وَقَبْلَهَا خَرَابٌ) قَائِمَةٌ حِيطَانُهُ أَوْ لَا (أَوْ اجْتَمَعُوا) ، أَيْ: الْمُسَافِرُونَ بِمَكَانٍ (لِانْتِظَارِ بَعْضِهِمْ) يُنْشِئُونَ السَّفَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ فَلَهُمْ الْقَصْرُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ، لِأَنَّهُمْ ابْتَدَءُوا السَّفَرَ وَفَارَقُوا قَرْيَتَهُمْ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ " قُلْت: إنْ لَمْ يَنْوُوا الْإِقَامَةَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ صَلَاةٍ، أَوْ تَكُونُ الْعَادَةُ عَدَمَ اجْتِمَاعِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ (بَعْدَ فُرْقَةِ عَامِرٍ) ، أَيْ: فَيَقْصُرُ مَنْ فَارَقَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ وَلِيَهَا بُيُوتٌ خَارِبَةٌ أَوْ الْبَرِّيَّةُ، فَإِنْ وَلِيَهَا بُيُوتٌ خَارِبَةٌ، ثُمَّ بُيُوتٌ عَامِرَةٌ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ الْعَامِرَةِ الَّتِي تَلِي الْخَارِبَةَ. (أَوْ) إذَا فَارَقَ (خِيَامَ قَوْمِهِ) إنْ اسْتَوْطَنُوا الْخِيَامَ بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُفَارَقَةِ بِنَوْعٍ مِنْ الْبُعْدِ عُرْفًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ لِمَنْ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ، وَقَبْلَ مُفَارَقَتِهِ مَا ذُكِرَ لَا يَكُونُ ضَارِبًا فِيهَا، وَلَا مُسَافِرًا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحَدُ طَرَفَيْ السَّفَرِ، أَشْبَهَ حَالَةَ الِانْتِهَاءِ. (أَوْ) إذَا فَارَقَ مُسْتَوْطِنٌ قُصُورَ وَبَسَاتِينَ. (مَا) ، أَيْ: مَحَلًّا (نُسِبَ إلَيْهِ) ذَلِكَ

(1/717)


الْمَحَلُّ (عُرْفًا كَسُكَّانِ قُصُورٍ وَبَسَاتِينَ) يَسْكُنُهُ أَهْلُهُ، وَلَوْ فِي فَصْلٍ مِنْ الْفُصُولِ لِلنُّزْهَةِ. (وَمَحَلَّتُهُ بِبَلَدٍ لَهُ مَحَالٌّ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِبَعْضِهَا، وَبُقْعَةٌ لِمُقِيمٍ بِمَفَازَةٍ) وَأَهْلِ عِزَبٍ مِنْ نَحْوِ قَصَبٍ، فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يُفَارِقَهَا.
ذَكَرَ مَعْنَاهُ أَبُو الْمَعَالِي، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي " الْفُرُوعِ "؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْعَامِرَةِ.
وَلَوْ كَانَتْ قَرْيَتَانِ مُتَدَانِيَتَيْنِ، وَاتَّصَلَ بِنَاءُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى؛ فَهُمَا كَالْوَاحِدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ؛ فَلِكُلِّ قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا.

وَمَحَلُّ إبَاحَةِ الْقَصْرِ: (إنْ لَمْ يَنْوِ عَوْدًا) قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الْمَسَافَةِ، (أَوْ) لَمْ (يَعُدْ قَبْلَ) بُلُوغِ (مَسَافَةٍ) إلَى وَطَنِهِ، (فَإِنْ نَوَاهُ) ، أَيْ: الْعَوْدَ عِنْدَ خُرُوجِهِ (أَوْ) لَمْ يَنْوِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ، بَلْ (تَجَدَّدَتْ نِيَّتُهُ) لِلْعَوْدِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ (لِحَاجَةٍ بَدَتْ) لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، (فَلَا) قَصْرَ إنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعُهُ سَفَرًا طَوِيلًا (حَتَّى يَرْجِعَ) إلَى وَطَنِهِ. (وَيُفَارِقُ بِشَرْطِهِ) ، وَهُوَ: أَنْ لَا يَنْوِيَ الْعَوْدَ، (أَوْ تَنْثَنِيَ نِيَّتُهُ) عَنْ الْعَوْدِ، (وَيَسِيرُ) فِي سَفَرِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ، وَنِيَّتُهُ لَا تَكْفِي بِدُونِ وُجُودِهِ، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، (إلَّا إنْ كَانَ مَا رَجَعَ إلَيْهِ غَيْرَ وَطَنٍ) لَهُ (وَلَا أَهْلَ) لَهُ بِهِ (وَلَا مَالَ لَهُ بِهِ وَلَمْ يَنْوِ فِي عَوْدَةٍ) إلَيْهِ (أَنْ يُقِيمَ مَا) ، أَيْ: زَمَنًا (يَمْنَعُ الْقَصْرَ) ، وَهُوَ فَرْضُ عِشْرِينَ صَلَاةٍ فَأَكْثَرَ. (قَالَهُ فِي " الْمُغْنِي ") وَهُوَ الْمَذْهَبُ، (وَفِي " التَّلْخِيصِ " وَإِنْ رَجَعَ لِأَجْلِ شَيْءٍ نَسِيَهُ؛ لَمْ يَقْصُرْ فِي رُجُوعِهِ لِوَطَنِهِ إلَّا إذَا رَجَعَ لِبَلَدٍ كَانَ بِهِ غَرِيبًا، فَيَتَرَخَّصُ عَلَى الْأَصَحِّ انْتَهَى) كَلَامُ " التَّلْخِيصِ ".

وَأَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ دُونَ الْمَسَافَةِ مِنْهَا إذَا ذَهَبُوا إلَى عَرَفَةَ، فَلَيْسَ لَهُمْ قَصْرٌ وَلَا جَمْعٌ لِلسَّفَرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُسَافِرِينَ، لِعَدَمِ الْمَسَافَةِ، فَهُمْ فِي اعْتِبَارِ الْمَسَافَةِ كَغَيْرِهِمْ، لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَمِثْلُهُمْ مَنْ يَنْوِي الْإِقَامَةَ

(1/718)


بِمَكَّةَ فَوْقَ عِشْرِينَ صَلَاةٍ، كَأَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ، فَلَيْسَ لَهُمْ قَصْرٌ وَلَا جَمْعٌ بِمَكَّةَ وَلَا مِنًى وَلَا مُزْدَلِفَةَ، لِانْقِطَاعِ سَفَرِهِمْ بِدُخُولِ مَكَّةَ، إذْ الْحَجُّ: قَصْدُ مَكَّةَ لِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ كَمَا يَأْتِي.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَإِنْ كَانَ الَّذِي خَرَجَ إلَى عَرَفَةَ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ إذَا رَجَعَ؛ لَمْ يَقْصُرْ بِعَرَفَةَ.

(وَقَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ فِيمَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ لِلْحَجِّ، وَيُرِيدُ) أَنْ (يَرْجِعَ لِمَكَّةَ فَلَا يُقِيمُ بِهَا) ، أَيْ: أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ: (فَهَذَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بِعَرَفَةَ) ، أَيْ: وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى؛ (لِأَنَّهُ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ أَنْشَأَ السَّفَرَ لِبَلَدِهِ) بِخُرُوجِهِ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهِ، (وَلَا يُعِيدُ مَنْ قَصَرَ) بِشَرْطِهِ (ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ) اسْتِكْمَالِ (الْمَسَافَةِ) ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ نِيَّةُ الْمَسَافَةِ لَا حَقِيقَتُهَا.

(وَ) يَجُوزُ أَنْ (يَقْصُرَ مَنْ أَسْلَمَ) بِسَفَرٍ مُبِيحٍ (أَوْ بَلَغَ) بِسَفَرٍ مُبِيحٍ، (أَوْ طَهُرَتْ) مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ (بِسَفَرٍ مُبِيحٍ) لِلْقَصْرِ (وَيَتَّجِهُ أَوْ أَفَاقَ مَنْ جُنَّ) ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ (بِأَثْنَائِهِ) أَيْ: السَّفَرِ الْمُبِيحِ لِلْقَصْرِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَوْ بَقِيَ) بَعْدَ إسْلَامٍ أَوْ بُلُوغٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ طُهْرٍ (دُونَ الْمَسَافَةِ) ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَكْلِيفِهِ فِي أَوَّلِ السَّفَرِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي تَرْكِ الْقَصْرِ فِي آخِرِهِ، إذْ عَدَمُ التَّكْلِيفِ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ الْقَصْرِ، بِخِلَافِ مَنْ أَنْشَأَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ تَابَ، وَقَدْ بَقِيَ دُونَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْقَصْرِ فِي ابْتِدَائِهِ، (كَجَاهِلِ الْمَسَافَةِ ثُمَّ عَلِمَهَا) فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ، (أَوْ) كَجَاهِلِ (جَوَازِ الْقَصْرِ ابْتِدَاءً ثُمَّ عَلِمَهُ) ، فَيَقْصُرُ.

(وَمَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ ضَالٍّ) كَآبِقٍ وَشَارِدٍ، (نَاوِيًا أَنْ يَرْجِعَ أَيْنَ وَجَدَهُ، لَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَ الْمَسَافَةَ) ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ الْمُبِيحَ لِلْقَصْرِ، قَالَهُ

(1/719)


فِي الْإِقْنَاعِ " وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ، وَفِي " شَرْحِ الْمُنْتَهَى ": فِي أَوَّلِ الْقَصْرِ مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ ضَالَّةٍ أَوْ آبِقٍ حَتَّى جَاوَزَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ، لِعَدَمِ نِيَّتِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
انْتَهَى.
وَفِي " الشَّرْحِ ": وَلَوْ خَرَجَ طَالِبًا لِعَبْدٍ آبِقٍ لَا يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ، أَوْ مُنْتَجِعًا عُشْبًا أَوْ كَلَأً مَتَى وَجَدَهُ أَقَامَ، أَوْ سِلْكِيًّا فِي الْأَرْضِ لَا يَقْصِدُ مَكَانًا، لَمْ يُبَحْ لَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ سَارَ أَيَّامًا.

(وَ) يَجُوزُ أَنْ (يَقْصُرَ مَنْ) نَوَى بَلَدًا بِعَيْنِهِ يَبْلُغُ الْمَسَافَةَ، وَ (عَلِمَهَا) ابْتِدَاءً، (ثُمَّ نَوَى) فِي سَفَرِهِ (إنْ وَجَدَ عَزِيمَةً) فِي طَرِيقِهِ (رَجَعَ) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ انْعَقَدَ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالنِّيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ.

(وَقِنٌّ) سَافَرَ مَعَ سَيِّدِهِ (وَزَوْجَةٌ) سَافَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا (وَجُنْدِيٌّ) بِضَمِّ الْجِيمِ، سَافَرَ مَعَ أَمِيرِهِ، يَكُونُونَ (تَبَعًا لِسَيِّدٍ وَزَوْجٍ وَأَمِيرٍ فِي سَفَرٍ وَنِيَّتِهِ) ، أَيْ: السَّفَرِ فَإِنْ نَوَى سَيِّدٌ وَزَوْجٌ وَأَمِيرٌ سَفَرًا مُبَاحًا يَبْلُغُ الْمَسَافَةَ، جَازَ لِلْقِنِّ وَالزَّوْجَةِ وَالْجُنْدِيِّ الْقَصْرُ، وَإِلَّا فَلَا لِتَبَعِيَّتِهِمْ لَهُ.

(وَ) عَبْدٌ (مُشْتَرَكٌ) بَيْنَ مُسَافِرٍ وَمُقِيمٍ، (فَلَا) يَقْصُرُ (إنْ لَمْ يُسَافِرْ سَيِّدَاهُ) لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، (أَوْ يَنْوِي) الْمُقِيمُ فِيهِمَا السَّفَرَ، وَلَوْ لَمْ يُسَافِرْ مَعَ شَرِيكِهِ، فَلِلْعَبْدِ حِينَئِذٍ الْقَصْرُ تَبَعًا لِمَنْ سَافَرَ مَعَهُ، وَتَغْلِيبًا لِجَانِبِ السَّفَرِ.

(وَشُرِطَ مَعَ مَسَافَةٍ نِيَّةُ قَصْرٍ عِنْدَ

(1/720)


إحْرَامٍ) بِمَقْصُورَةٍ، لِأَنَّ الْإِتْمَامَ الْأَصْلُ، وَإِطْلَاقُ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ.
كَمَا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا انْصَرَفَ إلَى الِانْفِرَادِ. (وَ) شُرِطَ أَيْضًا

(1/721)


(عِلْمُهُ بِهَا) ، أَيْ: النِّيَّةِ (إذَنْ) ، أَيْ: عِنْدَ الْإِحْرَامِ، هَكَذَا فِي " الْفُرُوعِ ".
قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ: وَلَمْ نَعْلَمْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْعِلْمُ بِهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَعْنَاهُ الْعِلْمُ بِالنِّيَّةِ فِيمَا إذَا تَقَدَّمَتْ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَقْصُورَةِ فَإِنَّهُ يَكْفِي اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ حُكْمًا لَا ذِكْرًا عِنْدَ التَّكْبِيرِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ " قُلْت: وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ نَوَى الْقَصْرَ فِي ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِ بِأَنْ لَا يَطْرَأَ عَلَيْهِ شَكٌّ، هَلْ نَوَاهُ؟ فَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. (وَ) شُرِطَ أَيْضًا عِلْمُهُ حَالَ الصَّلَاةِ (بِسَفَرِ إمَامِهِ وَلَوْ بِأَمَارَةٍ) وَعَلَامَةٍ كَهَيْئَةِ لِبَاسٍ إقَامَةً لِلظَّنِّ مَجْرَى الْعِلْمِ، لَا عِلْمُهُ أَنَّ إمَامَهُ نَوَى الْقَصْرَ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ.

(وَسُنَّ قَوْلُهُ) ، أَيْ: الْإِمَامِ الْمُسَافِرِ (لِمُقِيمِينَ: أَتِمُّوا فَأَنَا سَفْرٌ) بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، لِلْحَدِيثِ، وَلِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَى الْجَاهِلِ عَدَدُ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ.

(فَإِنْ أَتَمَّ) إمَامُ مُسَافِرِينَ بِهِمْ (سَهْوًا وَعَلِمُوا ذَلِكَ سَبَّحُوا بِهِ وَلَمْ يُتَابِعُوهُ) لِنِيَّتِهِمْ الْقَصْرَ وَلِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ سَهْوًا لَغْوٌ. (فَإِنْ) لَمْ يَرْجِعْ عَالِمًا عَمْدًا وَ (تَابَعُوهُ، فَوَجْهَانِ) ، أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ بِمُتَابَعَتِهِ قَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " وَالْإِنْصَافِ " وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ " وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ. (وَإِنْ شَكُّوا أَقَامَ) إمَامُهُمْ إلَى ثَالِثَةٍ (سَهْوًا أَمْ عَمْدًا لَزِمَ) الْمَأْمُومِينَ (مُتَابَعَتُهُ) ، لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ، وَلِحَدِيثِ «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» .

(وَلَا يَقْصُرُ مَنْ مَرَّ بِوَطَنِهِ) سَوَاءٌ كَانَ وَطَنَهُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَاضِي، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ طَرِيقُهُ إلَى بَلَدٍ يَطْلُبُهُ، بِخِلَافِ مَنْ أَقَامَ فِي أَثْنَاءِ طَرِيقِهِ إقَامَةً تَمْنَعُ الْقَصْرَ بِمَوْضِعٍ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ وَلَمْ يَقْصِدْ إقَامَةً بِهِ تَمْنَعُهُ.
(أَوْ) مَرَّ بِ (بَلَدٍ لَهُ بِهِ امْرَأَةٌ) وَلَوْ

(1/722)


لَمْ يَكُنْ وَطَنَهُ حَتَّى يُفَارِقَهُ، (أَوْ) مَرَّ بِبَلَدٍ (تَزَوَّجَ فِيهِ) ، فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يُفَارِقَ الْبَلَدَ الَّذِي تَزَوَّجَ فِيهِ، لِحَدِيثِ عُثْمَانَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ بِبَلَدٍ، فَلِيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ بَعْدَ فِرَاقِ الزَّوْجَةِ.
وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ بِهِ أَقَارِبُ كَأُمٍّ وَأَبٍ وَمَاشِيَةٍ أَوْ مَالٍ، لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ الْقَصْرُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا سَبَقَ.

(أَوْ دَخَلَ وَقْتُ صَلَاةٍ عَلَيْهِ حَضَرًا) ثُمَّ سَافَرَ، فَلَا يَقْصُرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّهَا صَلَاةُ حَضَرٍ وَجَبَتْ تَامَّةً، (أَوْ دَخَلَهُ) ، أَيْ: وَطَنَهُ أَوْ مَكَانًا نَوَى إقَامَةً فِيهِ تَمْنَعُ الْقَصْرَ (قَبْلَ إتْمَامِ) صَلَاةٍ أَحْرَمَ بِهَا (كَرَاكِبِ سَفِينَةٍ) أَحْرَمَ فِيهَا بِصَلَاةٍ مَقْصُورَةٍ، فَوَصَلَتْ إلَى وَطَنِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ اجْتَمَعَ فِيهَا حُكْمُ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَضَرِ.

(أَوْ ذَكَرَ صَلَاةَ حَضَرٍ بِسَفَرٍ وَعَكْسَهُ) بِأَنْ ذَكَرَ صَلَاةَ سَفَرٍ بِحَضَرٍ، فَلَا يَقْصُرُ.

(أَوْ ائْتَمَّ) مُسَافِرٌ (بِمُقِيمٍ فِي غَيْرِ صَلَاةِ خَوْفٍ، أَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ) ، فَيُتِمُّ نَصًّا.
لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «تِلْكَ السُّنَّةُ» .
وَسَوَاءٌ ائْتَمَّ بِهِ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْضِهَا عَلِمَهُ مُقِيمًا أَوْ لَا، وَيَشْمَلُ كَلَامُهُ لَوْ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ فَاسْتَخْلَفَ لِعُذْرٍ مُقِيمًا، لَزِمَ الْمَأْمُومَ الْإِتْمَامُ دُونَ الْإِمَامِ الْمُسْتَخْلَفِ.

(أَوْ) ائْتَمَّ مُسَافِرٌ (بِمَنْ يَشُكُّ فِيهِ) أَيْ: فِي كَوْنِهِ مُسَافِرًا (بِلَا قَرِينَةٍ) ، لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، (وَإِنْ تَبَيَّنَ قَصْرَهُ) ، أَيْ: وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ، لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا عِنْدَ الْإِحْرَامِ (وَيَكْفِي عِلْمُهُ) ، أَيْ: الْمَأْمُومِ (بِسَفَرِهِ) ، أَيْ: الْإِمَامِ (بِعَلَامَةِ) سَفَرٍ كَلِبَاسٍ، (فَيَنْوِيهِ) ، أَيْ: الْقَصْرَ وَيَأْتِي، (فَإِنْ قَصَرَ إمَامُهُ قَصَرَ مَعَهُ) ، لِوُجُودِ النِّيَّةِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ (أَوْ) ، أَيْ: وَإِنْ (أَتَمَّ) الْإِمَامُ (تَابَعَهُ) الْمَأْمُومُ وَلَغَتْ نِيَّةُ الْقَصْرِ.

(وَصَحَّ لَوْ نَوَى) مَأْمُومٌ عِنْدَ اقْتِدَائِهِ بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا (إنْ قَصَرَ

(1/723)


قَصَرْت، وَ) إنْ (أَتَمَّ أَتْمَمْت وَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ) ، أَيْ: الْمُسَافِرِ (أَنَّ إمَامَهُ نَوَاهُ) ، أَيْ: الْقَصْرَ (إذَنْ) أَيْ: حِينَ اقْتِدَائِهِ بِهِ (عَمَلًا بِالظَّنِّ) لِتَعَذُّرِ الْعِلْمِ، (خِلَافًا " لِلْمُنْتَهَى " فِيمَا يُوهِمُ) مِنْ عِبَارَتِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَوْ جَهِلَ أَنَّ إمَامَهُ نَوَاهُ، أَيْ: فَيُتِمُّ.
وَتَفْسِيرُ الْبُهُوتِيِّ فِي شَرْحِهِ " الْجَهْلُ بِالشَّكِّ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْجَهْلَ لَا يَضُرُّ فِي النِّيَّةِ، فَيَقْصُرُ مَعَهُ إنْ قَصَرَ، وَيُتِمُّ إنْ أَتَمَّ، (أَوْ شَكَّ) إمَامٌ أَوْ غَيْرُهُ (فِي أَثْنَائِهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةِ (أَنَّهُ نَوَاهُ) أَيْ: الْقَصْرَ (عِنْدَ إحْرَامِهَا) أَيْ: الصَّلَاةِ، (ثُمَّ ذَكَرَ) بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ نَوَاهُ، لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ، وَإِطْلَاقُ النِّيَّةِ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ. (وَيَتَّجِهُ) : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ (وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ) مَعَ الشَّكِّ (عَمَلًا) ، فَإِنْ عَمِلَ مَعَ الشَّكِّ عَمَلًا، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ وَسُجُودُ السَّهْوِ أَيْضًا، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ بَابِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَمْ يَنْوِهِ) ، أَيْ: الْقَصْرَ (عِنْدَ إحْرَامٍ) ؛ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، فَإِطْلَاقُ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، (أَوْ نَوَاهُ) ، أَيْ: الْقَصْرَ عِنْدَ إحْرَامٍ (ثُمَّ، رَفَضَهُ فِيهَا) وَنَوَى الْإِتْمَامَ، لَزِمَ أَنْ يُتِمَّ لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ

(1/724)


إلَى التَّعْيِينِ فَبَقِيَتْ النِّيَّةُ مُطْلَقَةً.

(وَإِنْ) نَوَى مُسَافِرٌ الْقَصْرَ ثُمَّ (أَتَمَّ سَهْوًا؛ فَفَرْضُهُ الرَّكْعَتَانِ وَسَجَدَ لَهُ) ، أَيْ: لِسَهْوِهِ (وُجُوبًا) ، قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، (لَا نَدْبًا خِلَافًا لَهُ) ، أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ " حَيْثُ صَرَّحَ بِنَدْبِيَّةِ السُّجُودِ لِلزِّيَادَةِ.

(وَإِنْ ذَكَرَ) مَنْ سُهَى أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ رَكْعَةً (ثَالِثَةً؛ عَادَ) إلَى التَّشَهُّدِ، (وَسَلَّمَ إنْ شَاءَ) وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، (أَوْ نَهَضَ بِنِيَّةِ إتْمَامٍ) ؛ أَتَمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا وَصَحَّتْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِتْمَامُ وَقَدْ رَجَعَ إلَيْهِ عَمْدًا، فَكَانَ كَمَنْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ عَمْدًا؛ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَغَيْرِ الْمُسَافِرِ

. (أَوْ نَوَى) الْمُسَافِرُ (إقَامَةً مُطْلَقَةً) ، أَيْ: غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِزَمَنٍ، وَلَوْ بِمَفَازَةٍ لَا تُقَامُ بِهَا، أَوْ دَارِ حَرْبٍ لَا تُقَامُ فِيهَا الصَّلَاةُ، أَتَمَّ لِزَوَالِ السَّفَرِ الْمُبِيحِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ.

(أَوْ) نَوَى إقَامَةً (أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ صَلَاةٍ) ؛ أَتَمَّ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةِ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ بِهَا الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ،

(1/725)


وَصَلَّى الصُّبْحَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى مِنًى» ، وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَى إقَامَتِهَا، وَقَالَ أَنَسٌ: أَقَمْنَا بِمَكَّةَ عَشْرًا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ كَلَامٌ لَيْسَ يَفْقَهُهُ كُلُّ أَحَدٍ، أَيْ: لِأَنَّهُ حَسَبَ مُقَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ وَمِنًى، وَيُحْسَبُ يَوْمُ الدُّخُولِ وَيَوْمُ الْخُرُوجِ مِنْ الْمُدَّةِ.

(وَلَوْ) نَوَى الْإِقَامَةَ (بِبَادِيَةٍ) أَتَمَّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ.

(وَلَوْ بَدَا لَهُ السَّفَرُ وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ) فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِ إقَامَتِهِ، لِأَنَّهُ مَحَلٌّ ثَبَتَ لَهُ فِيهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ، أَشْبَهَ وَطَنَهُ، فَيُتِمُّ إلَى أَنْ يَشْرَعَ فِي السَّفَرِ، وَيُفَارِقَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ كَمَا تَقَدَّمَ.

(أَوْ) نَوَى إقَامَةً (لِحَاجَةٍ، وَظَنَّ أَنْ لَا تَنْقَضِيَ) الْحَاجَةُ (قَبْلَهَا) ، أَيْ: الْأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَلْ بَعْدَهَا؛ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ.

(أَوْ شَكَّ) مُسَافِرٌ (فِي نِيَّةِ مُدَّةِ إقَامَةٍ) ، أَيْ: فِي كَوْنِهِ نَوَى إقَامَةً أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ صَلَاةٍ، أَوْ لَا لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ مَعَ الشَّكِّ فِي مُبِيحِ الرُّخْصَةِ.

(أَوْ نَوَى) مُسَافِرٌ (فِي صَلَاتِهِ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ) بِأَنْ قَلَبَ السَّفَرَ لِلْمَعْصِيَةِ؛ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ تَغْلِيبًا لَهُ، لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ.
وَ (لَا) يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ إنْ نَوَى فِي صَلَاتِهِ فِعْلَ (مَعْصِيَةٍ) فِي ذَلِكَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي السَّفَرِ لَا تَمْنَعُ التَّرَخُّصَ، بِخِلَافِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ.

(أَوْ) نَوَى (الْإِقَامَةَ) بِأَنْ عَزَمَ عَلَيْهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ قَبْلَهَا لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الرُّجُوعَ، وَمُدَّةُ رُجُوعِهِ لَا يُبَاحُ فِيهَا الْقَصْرُ. (أَوْ أَعَادَ) صَلَاةً (فَاسِدَةً) ، أَيْ: فَسَدَتْ (فِي أَثْنَاءِ) هَا (لَزِمَ إتْمَامُهَا) لِفَسَادِهَا، (كَ) مَا لَوْ صَلَّى (خَلْفَ مُقِيمٍ) فَأَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ؛ فَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا تَامَّةً بِلَا خِلَافٍ. (وَ) كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِ (نِيَّةِ إتْمَامٍ) فَأَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ؛ فَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا تَامَّةً، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً تَامَّةً،

(1/726)


فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَادَ مَقْصُورَةً.

وَ (لَا) يَلْزَمُهُ إتْمَامُ صَلَاةٍ (فَاسِدَةٍ ابْتِدَاءً كَمُحْدِثٍ) جَهِلَ حَدَثَ نَفْسِهِ، فَائْتَمَّ بِمُقِيمٍ، وَنَوَى الْقَصْرَ، ثُمَّ عَلِمَ حَدَثَ نَفْسِهِ، فَلَهُ الْقَصْرُ فِي الْمُعَادَةِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ تَنْعَقِدْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ، وَنَوَى الْقَصْرَ، ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ كَمَا تَقَدَّمَ.

(أَوْ أَخَّرَهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةَ (بِلَا عُذْرٍ) مِنْ نَحْوِ نَوْمٍ (حَتَّى ضَاقَ وَقْتُهَا عَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ فِعْلِهَا كُلِّهَا مَقْصُورَةً، لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَاصِيًا بِتَأْخِيرِهَا مُتَعَمِّدًا بِلَا عُذْرٍ.

(أَوْ تَابَ) مِنْ مَعْصِيَةٍ سَافَرَ لِأَجْلِهَا وَهُوَ (فِيهَا) ، أَيْ الصَّلَاةِ (وَنَوَاهُ) ، أَيْ: الْقَصْرَ (فِي أَثْنَاءِ) تِلْكَ الصَّلَاةِ؛ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَامَّةً. (وَلَا تَبْطُلُ) الصَّلَاةُ (مِنْ جَاهِلٍ) تَابَ فِي أَثْنَائِهَا وَمَضَى فِيهَا مَقْصُورَةً، وَلَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ، بَلْ تَقَعُ نَفْلًا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّهُ أَتَى بِهَا مَقْصُورَةً، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُهَا، وَلَمْ يَفْعَلْهُ جَهْلًا مِنْهُ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ إنْ عَلِمَ قَرِيبًا لِتَرْكِهِ وَاجِبًا.
فَهَذِهِ إحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْمُسَافِرِ الْإِتْمَامُ.

(وَمَنْ نَوَاهُ) ، أَيْ: الْقَصْرَ (عِنْدَ إحْرَامٍ حَيْثُ لَمْ يُبَحْ) لَهُ الْقَصْرُ (كَ) مَا لَوْ صَلَّى (خَلْفَ مُقِيمٍ، وَمُعْتَقِدٍ تَحْرِيمَ) الْقَصْرِ
كَمَا لَوْ نَوَاهُ بِسَفَرِ مَعْصِيَةٍ، أَوْ سَفَرٍ لَا يَبْلُغُ الْمَسَافَةَ (عَالِمًا) عَدَمَ إبَاحَتِهِ لَهُ؛ (لَمْ تَنْعَقِدْ) صَلَاتُهُ، (كَمَا نَوَاهُ) ، أَيْ: الْقَصْرَ (مُقِيمٌ) لِتَلَاعُبِهِ.

(1/727)


(وَيَتَّجِهُ: وَ) لَوْ نَوَى الْقَصْرَ مَنْ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْقَصْرُ (جَهْلًا) مِنْهُ عَدَمَ جَوَازِهِ؛ (تَنْعَقِدُ) صَلَاتُهُ، وَتَقَعُ (نَفْلًا) ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ إنْ عَلِمَ قَرِيبًا، وَهُوَ مُتَّجَهٌ.

(وَيَقْصُرُ مَنْ) ، أَيْ: مُسَافِرٌ (سَلَكَ أَبْعَدَ طَرِيقَيْنِ) إلَى بَلَدٍ قَصَدَهُ يَبْلُغُ الْمَسَافَةَ، وَالْقَرِيبُ لَا يَبْلُغُهَا، وَلَوْ لَمْ يَسْلُكْ الْبَعِيدَ إلَّا (لِيَقْصُرَ) الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا يَبْلُغُهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ مَخُوفًا، أَوْ مُشِقًّا، فَعَدَمُ الْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَضُرُّ. (أَوْ ذَكَرَ صَلَاةَ سَفَرٍ) فِي ذَلِكَ السَّفَرِ، أَوْ (فِي) سَفَرٍ، (آخَرَ وَلَمْ يَذْكُرْهَا حَضَرًا) ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا وَفِعْلَهَا وُجِدَا فِي السَّفَرِ، فَأَشْبَهَ أَدَاءَهَا
فَإِنْ ذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ، أَوْ قَضَى بَعْضَهَا فِي الْحَضَرِ أَتَمَّ

، (أَوْ أَقَامَ لِحَاجَةٍ وَلَوْ) كَانَتْ إقَامَتُهُ لَهَا (بِمُنْتَهَى قَصْدِهِ بِلَا نِيَّةِ إقَامَةِ عِشْرِينَ صَلَاةٍ) فَأَكْثَرَ (لَا يَدْرِي مَتَى تَنْقَضِي) ، فَإِنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا تَنْقَضِي فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ أَتَمَّ.
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَإِنْ ظَنَّ أَنْ الْحَاجَةَ لَا تَنْقَضِي إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْقَصْرِ؛ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ. (أَوْ حُبِسَ ظُلْمًا، أَوْ) حُبِسَ (بِنَحْوِ مَرَضٍ) كَثَلْجٍ وَجَلِيدٍ (وَمَطَرٍ) ، أَيْ: فَيَقْصُرُ أَبَدًا؛؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ تَفَرَّدَ مَعْمَرٌ بِرِوَايَتِهِ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ مُرْسَلًا.
«وَلَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ أَقَامَ

(1/728)


بِهَا تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَنَسٌ: «أَقَامَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَامِ هُرْمُزَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ يَقْصُرُ مَا لَمْ يُجْمِعْ إقَامَةً، وَلَوْ أَتَى عَلَيْهِ سُنُونَ، وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُجْمِعْ، أَيْ: مَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ وَيَنْوِيهَا.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَان سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَقَدْ حَالَ الثَّلْجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ "، فَإِنْ حُبِسَ بِحَقٍّ؛ لَمْ يَقْصُرْ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " يَقْصُرُ الَّذِي يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ، أَخْرُجُ غَدًا، شَهْرًا " وَ " عَنْ سَعِيدٍ أَنَّهُ أَقَامَ فِي بَعْضِ قُرَى الشَّامِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.

وَ (لَا) يَقْصُرُ مَنْ حُبِسَ (بِأَسْرٍ) عِنْدَ الْعَدُوِّ تَبَعًا لِإِقَامَتِهِمْ كَسَفَرِهِمْ، (أَوْ نَوَى إقَامَةً بِشَرْطِ لُقِيِّ غَرِيمِهِ) ، كَأَنْ يَقُولَ: إنْ لَقِيت فُلَانًا بِهَذَا الْبَلَدِ؛ أَقَمْت فِيهِ، (وَإِلَّا فَلَا) ، فَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ؛ فَلَهُ حُكْمُ السَّفَرِ، لِعَدَمِ الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ الْإِقَامَةَ، وَإِنْ لَقِيَهُ بِهِ: صَارَ مُقِيمًا لِاسْتِصْحَابِهِ حُكْمَ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، إنْ لَمْ يَكُنْ فَسَخَ نِيَّةَ الْأَوَّلِ قَبْلَ لِقَائِهِ، أَوْ حَالَ لِقَائِهِ، فَإِنْ فَسَخَهَا إذَنْ، فَلَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ فَسَخَهَا بَعْدَ لِقَائِهِ، فَهُوَ كَمُسَافِرٍ نَوَى إقَامَةً مَانِعَةً مِنْ الْقَصْرِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ السَّفَرُ قَبْلَ إتْمَامِهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِ إقَامَتِهِ حَتَّى يَشْرَعَ فِي السَّفَرِ.

(أَوْ) نَوَى إقَامَةً لَا تَمْنَعُ الْقَصْرَ (بِبَلَدٍ دُونَ مَقْصِدِهِ بِنِيَّةٍ) ، أَيْ: بَلَدِ إقَامَتِهِ الْمَذْكُورَةِ (وَبَيْنَ بَلَدِ نِيَّتِهِ الْأُولَى دُونَ الْمَسَافَةِ) ، فَلَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ سَفَرًا طَوِيلًا، وَتِلْكَ الْإِقَامَةُ لَا أَثَرَ لَهَا.

(وَلَا يَتَرَخَّصُ مَلَّاحٌ) ، أَيْ: صَاحِبُ سَفِينَةٍ (مَعَهُ أَهْلُهُ) فِي السَّفِينَةِ (أَوْ لَا أَهْلَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ نِيَّةُ إقَامَةٍ بِبَلَدٍ) نَصًّا،

(1/729)


لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَاعِنٍ عَنْ وَطَنِهِ وَأَهْلِهِ، أَشْبَهَ الْمُقِيمَ، فَلَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ بِرَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِيهِ فِي السَّفَرِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي فِطْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَهْلُهُ، جَازَ لَهُ التَّرَخُّصُ عَلَى الْمَذْهَبِ. (وَمِثْلُهُ) ، أَيْ: الْمَلَّاحِ (مُكَارٍ) يَحْمِلُ النَّاسَ وَالْمَتَاعَ عَلَى دَوَابِّهِ بِأُجْرَتِهِ، (وَرَاعٍ) يَرْعَى الْبَهَائِمَ (مَعَهُمَا أَهْلُهُمَا، وَفَيْجٌ: بِالْجِيمِ، وَهُوَ رَسُولُ السُّلْطَانِ وَنَحْوُهُمْ) كَسَاعٍ وَبَرِيدٍ، فَلَا يَتَرَخَّصُونَ إذَا كَانَ مَعَهُمْ أَهْلُهُمْ، وَلَمْ يَنْوُوا الْإِقَامَةَ بِبَلَدٍ نَصًّا.
وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَهْلٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَهْلٌ وَلَيْسُوا مَعَهُمْ، فَلَهُمْ التَّرَخُّصُ

[فَرْعٌ لَا يُتَرَخَّصُ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ وَمَكْرُوهٍ بِقَصْرٍ وَلَا فِطْرٍ]
(فَرْعٌ: لَا يُتَرَخَّصُ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ وَمَكْرُوهٍ بِقَصْرٍ وَ) لَا (فِطْرٍ) ، وَتَقَدَّمَ. (وَلَا) يُتَرَخَّصُ بِ (أَكْلِ مَيْتَةٍ) نَصًّا؛ لِأَنَّهَا رُخَصٌ، فَلَا تُنَاطُ بِالْمَعَاصِي (فَإِنْ خَافَ) مُسَافِرٌ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ (عَلَى نَفْسِهِ) الْهَلَاكَ إنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَيْتَةِ، (قِيلَ لَهُ تُبْ وَكُلْ) ، لِتَمَكُّنِهِ مِنْ التَّوْبَةِ كُلَّ وَقْتٍ، فَلَا يُعْذَرُ بِتَرْكِهَا

، (وَكُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ وَالْفِطْرُ) لِوُجُودِ مُبِيحِهَا، وَهُوَ السَّفَرُ الطَّوِيلُ، (وَلَا عَكْسَ) ، أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ، وَالْجَمْعُ أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ مِمَّنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَالْجَمْعُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي إتْمَامِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ.
وَقَدْ يَنْوِي الْمُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ وَيَقْطَعُهَا مِنْ الْفَجْرِ إلَى الزَّوَالِ مَثَلًا، فَيُفْطِرُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصُرْ، إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَلَاةٌ يَقْصُرُهَا أَوْ يُتِمُّهَا.

(وَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِطَوِيلِ سَفَرٍ مُبَاحٍ) خَمْسَةٌ: (جَمْعٌ وَقَصْرٌ وَمَسْحٌ) عَلَى خُفٍّ وَنَحْوِهِ (ثَلَاثَةَ) أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا، (وَفِطْرٌ) بِرَمَضَانَ، (وَسُقُوطُ جُمُعَةٍ) ، وَأَمَّا أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ إلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، فَلَا تَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ.

(1/730)


تَتِمَّةٌ: مَنْ عَزَمَ عَلَى إقَامَةٍ طَوِيلَةٍ فِي رُسْتَاقٍ يَنْتَقِلُ فِيهِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ لَا يَعْزِمُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا مُدَّةً تُبْطِلُ حُكْمُ السَّفَرِ، فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ، «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ عَشْرًا بِمَكَّةَ وَعَرَفَةَ وَمِنًى يَقْصُرُ» وَتَقَدَّمَ

[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ]
(فَصْلٌ) فِي حُكْمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ (الْجَمْعُ بَيْنَ ظُهْرٍ وَعَصْرٍ) بِوَقْتِ إحْدَاهُمَا، (وَ) بَيْنَ (مَغْرِبٍ وَعِشَاءٍ بِوَقْتِ إحْدَاهُمَا) ، أَيْ: إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ (جَائِزٌ) ؛ فَلَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ، (وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ) مِنْ فِعْلِهِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، (غَيْرَ جَمْعَيْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ) ، فَيُسَنُّ بِشَرْطِهِ فَفِي عَرَفَةَ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِوَقْتِ الظُّهْرِ، وَفِي مُزْدَلِفَةَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِوَقْتِ الْعِشَاءِ.
أَمَّا الْمَكِّيُّ وَمَنْ نَوَى إقَامَةً بِمَكَّةَ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَلَا يَجْمَعُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسَافِرٍ سَفَرَ قَصْرٍ. (وَيَتَّجِهُ: وَ) غَيْرُ (خَائِفٍ فَوْتَ جَمَاعَةٍ بِتَرْكِهِ) أَيْ: الْجَمْعِ، فَيُسَنُّ لَهُ الْجَمْعُ حِينَئِذٍ مُحَافَظَةً عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، عَبَّرَ عَنْهُ صَاحِبُ الْفَرْعِ " بِ: قِيلَ؛ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِهِ. (وَيُحْتَمَلُ

(1/731)


وُجُوبُهُ) ، أَيْ: الْجَمْعِ (لِمَنْ لَمْ يَبْقَ وُضُوءُهُ لِوَقْتِ) صَلَاةٍ (ثَانِيَةٍ، وَلَا يَجِدُ مَا يَتَطَهَّرُ بِهِ) ، كَذَا قَالَ، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، إذْ لَا يُخَاطَبُ الْمُكَلَّفُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُهَا وَوَجَدَ مَا يَتَطَهَّرُ بِهِ اسْتَعْمَلَهُ، وَإِلَّا صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ.
وَأَمَّا فِعْلُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ خَشْيَةَ عَدَمِ مُطَهِّرٍ؛ فَلَا قَائِلَ بِهِ.
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ " بَعْدَ عَدِّهِ الْمَسَائِلَ الْآتِيَةَ: فَائِدَةٌ: لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ سِوَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. (وَإِنَّمَا يُبَاحُ) الْجَمْعُ فِي ثَمَانِ حَالَاتٍ.
إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ (بِسَفَرٍ جَازَ فِيهِ قَصْرُ) رُبَاعِيَّةٍ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَكْرُوهٍ وَلَا حَرَامٍ، وَيَبْلُغَ يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ، لِمَا رَوَى مُعَاذٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ «إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إلَى الْعَصْرِ يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ سَارَ، وَكَانَ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَنَسٍ مَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَظَاهِرُهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَازِلًا أَوْ سَائِرًا فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ أَوْ التَّأْخِيرِ. (فَلَا جَمْعَ لِمَكِّيٍّ بِعَرَفَةَ) وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى، قَالَ فِي " شَرْحِ الْمُنْتَهَى ": أَمَّا الْمَكِّيُّ وَمَنْ هُوَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ عَرَفَةَ وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ وَاَلَّذِي يَنْوِي

(1/732)


الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ فَوْقَ عِشْرِينَ صَلَاةٍ؛ فَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ الْجَمْعُ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُسَافِرِينَ سَفَرَ قَصْرٍ. (إنْ لَمْ يُخَلِّفْهُ) ، أَيْ: الْمَكِّيَّ عُذْرٌ (غَيْرُهُ) ، أَيْ: غَيْرُ السَّفَرِ مِنْ الْأَعْذَارِ الْآتِيَةِ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ عُذْرٌ غَيْرُهُ؛ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ.
(وَ) الثَّانِيَةُ: (لِمَرِيضٍ يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ) ، أَيْ: الْجَمْعِ (مَشَقَّةٌ) وَضَعْفٌ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَلَا عُذْرَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا الْمَرَضُ، وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمْعِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ وَهِيَ نَوْعُ مَرَضٍ، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ الْمَرَضَ أَشَدُّ مِنْ السَّفَرِ «وَاحْتَجَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْغُرُوبِ، ثُمَّ تَعَشَّى، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا» . (وَ) الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: لِ (مُرْضِعٍ لِمَشَقَّةِ كَثْرَةِ نَجَاسَةٍ) ، أَيْ: مَشَقَّةِ تَطْهِيرِهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: هِيَ كَمَرِيضٍ.
(وَ) الرَّابِعَةُ: ل (نَحْوِ مُسْتَحَاضَةٍ) كَذِي سَلَسٍ وَجُرْحٍ لَا يَرْقَأُ دَمُهُ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَمْنَةَ حِينَ اسْتَفْتَتْهُ فِي الِاسْتِحَاضَةِ: وَإِنْ قَوِيت عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ، وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ فَتَغْتَسِلِينَ، ثُمَّ تُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ تُؤَخِّرِي الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِي الْعِشَاءَ. ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ فَافْعَلِي» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَيُقَاسُ عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّلَسِ وَنَحْوُهُ. (وَ) الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: لِ (عَاجِزٍ عَنْ طَهَارَةٍ) بِمَاءٍ (أَوْ تَيَمُّمٍ) بِتُرَابٍ (لِكُلِّ صَلَاةٍ) ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ.

(1/733)


وَالْحَالَةُ السَّادِسَةُ: الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (أَوْ) عَاجِزٌ عَنْ (مَعْرِفَةِ وَقْتٍ كَأَعْمَى) وَمَطْمُورٍ، أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ. (وَ) الْحَالَةُ السَّابِعَةُ: (لِعُذْرٍ) يُبِيحُ تَرْكَ جُمُعَةٍ وَجَمَاعَةٍ، كَخَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ وَالْحَالَةُ الثَّامِنَةُ: ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ: (أَوْ شُغْلٍ يُبِيحُ تَرْكَ جُمُعَةٍ وَجَمَاعَةٍ) ؛ كَمَنْ يَخَافُ بِتَرْكِهِ ضَرَرًا بِمَعِيشَةٍ يَحْتَاجُهَا. (وَاسْتَثْنَى جَمْعٌ) ، مِنْهُمْ: صَاحِبُ " الْوَجِيزِ ": (النُّعَاسَ)
وَفِعْلُ الْجَمْعِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً أَوْلَى مِنْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، لِعُمُومِ حَدِيثِ «خَيْرُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» بَلْ تَرْكُ الْجَمْعِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ، إذْ السُّنَّةُ أَنْ تُصَلَّى الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ مُفَرَّقَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الْجَمْعَ، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَعْذَارَ السَّابِقَةَ تُبِيحُ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ.

ثُمَّ أَشَارَ لِلْأَعْذَارِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعِشَاءَيْنِ وَهِيَ سِتَّةٌ فَقَالَ: (وَيَخْتَصُّ جَمْعٌ) بَيْنَ (مَغْرِبٍ وَعِشَاءٍ بِثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَجَلِيدٍ وَوَحَلٍ وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ بَارِدَةٍ) ظَاهِرَةٍ: وَإِنْ لَمْ تَكُنْ اللَّيْلَةُ مُظْلِمَةً، وَيُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ كَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ شَدِيدَةً بِلَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَارِدَةً. (وَمَطَرٍ يَبُلُّ الثِّيَابَ وَتُوجَدُ مَعَهُ مَشَقَّةٌ) ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَرِدْ بِالْجَمْعِ لِذَلِكَ إلَّا فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ؛ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
وَرَوَى النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ. وَفَعَلَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَأَمَرَ عُمَرُ مُنَادِيهِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَنَادَى: الصَّلَاةَ فِي الرِّحَالِ» وَالْوَحَلُ أَعْظَمُ مَشَقَّةً مِنْ الْبَرَدِ؛ فَيَكُونُ أَوْلَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ:

(1/734)


«جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ» وَلَا وَجْهَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الْمَرَضِ إلَّا الْوَحَلُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ الْعُذْرِ وَالنَّسْخِ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى فَائِدَةٍ، فَإِنْ بَلَّ الْمَطَرُ النَّعْلَ فَقَطْ، أَوْ الْبَدَنَ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ مَعَهُ مَشَقَّةٌ؛ فَلَا، وَلَهُ الْجَمْعُ لِمَا سَبَقَ. (وَلَوْ صَلَّى بِبَيْتِهِ، أَوْ) صَلَّى (بِمَسْجِدٍ طَرِيقُهُ تَحْتَ سَابَاطٍ وَنَحْوِهِ) كَمُجَاوِرٍ بِالْمَسْجِدِ؛ فَالْمُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَا لِكُلِّ فَرْدِ مِنْ الْمُصَلِّينَ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ الْعَامَّةَ يَسْتَوِي فِيهَا حَالُ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِهَا كَالسَّفَرِ.

(وَالْأَفْضَلُ) لِمَنْ يَجْمَعُ (فِعْلُ الْأَرْفَقِ) (مِنْ تَأْخِيرِ) الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ، أَوْ الْمَغْرِبِ إلَى الْعِشَاءِ (أَوْ تَقْدِيمٍ) ، أَيْ: تَقْدِيمِ الْعَصْرِ وَقْتَ الظُّهْرِ، أَوْ الْعِشَاءِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ، (حَتَّى جَمْعَيْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ) ، فَيُفْعَلُ فِيهِمَا الْأَرْفَقُ أَيْضًا مِنْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، (خِلَافًا لَهُمَا) ، أَيْ: " لِلْمُنْتَهَى " وَالْإِقْنَاعِ " (فِيمَا يُوهِمُ) مِنْ قَوْلَيْهِمَا: سِوَى جَمْعَيْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، لَكِنَّ صَاحِبَ: " الْمُنْتَهَى " قَالَ: إنْ عُدِمَ - يَعْنِي: الْأَرْفَقُ - فَلَا وَهْمَ فِي عِبَارَتِهِ، وَأَمَّا عِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ " فَهِيَ صَرِيحَةٌ بِالْمُخَالَفَةِ، فَلَوْ أَشَارَ إلَيْهِ لَكَانَ أَوْلَى، مَعَ أَنَّ عِبَارَةَ الْإِقْنَاعِ مُوَافِقَةٌ لِعِبَارَاتِ مُعْظَمِ أَصْحَابِنَا، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَحَقُّ بِالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا، لِتَفَرُّدِهِ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُ " الْمُنْتَهَى " إنْ عُدِمَ؛ تَبِعَ فِيهِ الْمُنَقِّحَ، وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْحَجَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ " وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي جَمْعِ عَرَفَةَ التَّقْدِيمُ، وَلَوْ كَانَ التَّأْخِيرُ فِيهِ أَرْفَقُ، وَفِي جَمْعِ مُزْدَلِفَةَ التَّأْخِيرُ، وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيمُ فِيهِ أَرْفَقَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَاقْتِصَارًا عَلَى الْوَارِدِ،

(1/735)


(فَإِنْ اسْتَوَيَا) ، أَيْ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْأَرْفَقِيَّةِ، (فَتَأْخِيرٌ أَفْضَلُ) ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، (سِوَى جَمْعِ عَرَفَةَ) ؛ فَالتَّقْدِيمُ فِيهِ مُطْلَقًا أَفْضَلُ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(وَشُرِطَ لِصِحَّةِ جَمْعٍ مُطْلَقًا) تَقْدِيمًا كَانَ أَوْ تَأْخِيرًا (تَرْتِيبٌ) بَيْنَ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، (وَلَا يَسْقُطُ) التَّرْتِيبُ (بِنِسْيَانٍ) عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، (خِلَافًا لَهُ) ، أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ حَيْثُ قَالَ: فَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا كَالتَّرْتِيبِ فِي الْفَوَائِتِ، فَيَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ.

(وَ) شُرِطَ (لِجَمْعٍ بِوَقْتِ أُولَى) الْمَجْمُوعَتَيْنِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: (نِيَّةٌ) ، أَيْ: الْجَمْعِ (عِنْدَ إحْرَامِهَا) ، أَيْ: الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّيَّةِ كَنِيَّةِ الْجَمَاعَةِ. (وَ) الثَّانِي: (أَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا) ، أَيْ: الْمَجْمُوعَتَيْنِ (وَلَوْ سَهْوًا وَنَحْوَهُ) كَالْجَهْلِ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا سَهْوًا أَوْ جَهْلًا؛ بَطَلَ الْجَمْعُ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ (إلَّا بِقَدْرِ إقَامَةٍ وَوُضُوءٍ خَفِيفٍ) ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُقَارَنَةُ وَالْمُتَابَعَةُ، وَلَا يَحْصُلُ مَعَ تَفْرِيقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّ كَلَامٌ يَسِيرٌ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَكْبِيرٍ عِيدًا وَغَيْرَهُ، وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ وَلَوْ بَعْدَ سَلَامِ الْأُولَى (فَيَبْطُلُ) جَمْعٌ (بِرَاتِبَةٍ) صَلَّاهَا (بَيْنَهُمَا) ، أَيْ: الْمَجْمُوعَتَيْنِ. (وَ) الثَّالِثُ: (وُجُودُ عُذْرٍ) مُبِيحٍ لِلْجَمْعِ (عِنْدَ افْتِتَاحِهِمَا) ، أَيْ: الْمَجْمُوعَتَيْنِ (وَ) عِنْدَ (سَلَامِ أُولَى) ، لِأَنَّ افْتِتَاحَ الْأُولَى مَوْضِعُ النِّيَّةِ وَسَلَامِهَا، وَافْتِتَاحُ الثَّانِيَةِ مَوْضِعُ الْجَمْعِ. (وَ) الرَّابِعُ: (اسْتِمْرَارُهُ فِي غَيْرِ جَمْعِ مَطَرٍ وَنَحْوِهِ) كَبَرَدٍ، (لِفَرَاغِ ثَانِيَةٍ) مِنْ مَجْمُوعَتَيْنِ، (فَلَوْ أَحْرَمَ بِأُولَى) نَاوِيًا الْجَمْعَ (لِمَطَرٍ، فَانْقَطَعَ) الْمَطَرُ (وَلَمْ يَعُدْ؛ فَإِنْ حَصَلَ وَحَلَّ؛ صَحَّ) الْجَمْعُ،

(1/736)


لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْ الْمَطَرِ، وَهُوَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ الْمَطَرُ. (وَإِلَّا) ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ وَحَلَّ؛ (بَطَلَ) الْجَمْعُ؛ وَلَوْ خَلَّفَهُ مَرَضٌ أَوْ نَحْوُهُ لِزَوَالِ مُبِيحِهِ، فَيُؤَخِّرُ الثَّانِيَةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُهَا. (وَيَتَّجِهُ: كَوَحَلٍ) فِي صِحَّةِ الْجَمْعِ حُدُوثُ (نَحْوِ ثَلْجٍ) كَبَرَدٍ (وَرِيحٍ) بَارِدَةٍ شَدِيدَةٍ؛ لِأَنَّ مَشَقَّةَ ذَلِكَ كَمَشَقَّةِ الْوَحَلِ وَأَبْلَغُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.

(وَإِنْ انْقَطَعَ سَفَرٌ بِأُولَى) الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِأَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ، أَوْ أَرْسَتْ بِهِ السَّفِينَةُ عَلَى وَطَنِهِ؛ (بَطَلَ جَمْعٌ وَقَصْرٌ) ، لِانْقِطَاعِ السَّفَرِ (وَلَوْ خَلَّفَهُ نَحْوُ مَرَضٍ) ؛ كَثَلْجٍ (وَمَطَرٍ) وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُتَجَدِّدَ غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَلَا يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، (وَيُتِمُّهَا) ، أَيْ: الْأُولَى (وَتَصِحُّ فَرْضًا) ، لِأَنَّهَا فِي وَقْتِهَا، وَيُؤَخِّرُ الثَّانِيَةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُهَا (وَ) إنْ انْقَطَعَ سَفَرٌ (بِثَانِيَةٍ؛ بَطَلَ جَمْعٌ وَقَصْرٌ فِي حَقِّهَا) ، أَيْ: الثَّانِيَةِ لِمَا تَقَدَّمَ.
(وَيُتِمُّهَا) ، أَيْ: الثَّانِيَةَ (نَفْلًا) لَكِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ ظَانًّا دُخُولَ وَقْتِهَا فَبَانَ عَدَمُهُ، وَالْأُولَى وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا، وَإِنْ انْقَطَعَ بَعْدَهُمَا؛ فَلَا إعَادَةَ. (وَمَرِضَ فِي جَمْعٍ كَسَفَرٍ إذَا بَرِئَ) الْمَرِيضُ (بِأُولَى) الْمَجْمُوعَتَيْنِ؛ أَتَمَّهَا وَصَحَّتْ فَرْضًا، (أَوْ) بَرِئَ (بِثَانِيَةٍ) ؛

(1/737)


صَحَّتْ نَفْلًا، لِوُقُوعِ الْأُولَى مَوْقِعَهَا.
وَإِنْ بَرِئَ بَعْدَهُمَا؛ أَجْزَأَتَا.

(وَشُرِطَ لِجَمْعٍ بِوَقْتِ ثَانِيَةٍ) وَهُوَ جَمْعُ التَّأْخِيرِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: (نِيَّةٌ) ، أَيْ: الْجَمْعِ (بِوَقْتِ أُولَى) الْمَجْمُوعَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ مُبِيحِهِ، (مَا لَمْ يَضِقْ) ، وَقْتُ الْأُولَى (فَعَلَهَا) ، فَإِنْ ضَاقَ، عَنْهُ؛ (فَلَا يَصِحُّ) الْجَمْعُ لِفَوَاتِ فَائِدَتِهِ، وَهِيَ التَّخْفِيفُ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، (وَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهَا) إلَى أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ، وَيُنَافِيَ تَأْخِيرُهَا الرُّخْصَةَ، وَهِيَ: الْجَمْعُ. (وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ) ضَعِيفٍ: إنَّمَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ جَمْعٍ ثَانِيَةٍ بِوَقْتِ أُولَى إنْ كَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ (غَيْرِ نَحْوِ نَائِمٍ) كَمُغْمًى عَلَيْهِ بِوَقْتٍ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يُفِقْ مِنْ نَوْمِهِ وَنَحْوِهِ حَتَّى ضَاقَ وَقْتُ الْأُولَى عَنْ فِعْلِهَا فَلَهُ فِعْلُهَا، مَجْمُوعَةً؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِذَلِكَ، كَذَا قَالَ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَقَاءُ مَا يَسَعُ التَّكْبِيرَةَ لِلْإِحْرَامِ، وَهُوَ وَاهٍ جِدًّا؛ نَعَمْ قَيَّدَ الْمَجْدُ بِبَقَاءِ مَا يَسَعُ الصَّلَاةَ كُلَّهَا.

(1/738)


(وَ) الثَّانِي: (بَقَاءُ عُذْرٍ) مِنْ نِيَّةِ جَمْعٍ بِوَقْتِ أُولَى، (لِدُخُولِ وَقْتِ ثَانِيَةٍ) ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ لِلْجَمْعِ الْعُذْرُ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَمِرَّ إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، زَالَ الْمُقْتَضِي لِلْجَمْعِ فَامْتَنَعَ، كَمَرِيضٍ بَرِئَ وَمُسَافِرٍ قَدِمَ.
وَ (لَا) يُشْتَرَطُ (غَيْرُ) مَا مَرَّ مِنْ الشُّرُوطِ، كَنِيَّةِ الْجَمْعِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَلَا اسْتِمْرَارُ الْعُذْرِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُمَا صَارَتَا وَاجِبَتَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِمَا، ولَا اتِّحَادُ إمَامٍ أَوْ مَأْمُومٍ. (وَلَا أَثَرَ لِزَوَالِهِ) ، أَيْ: الْعُذْرِ (بَعْدَ) دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ، (وَلَا بَأْسَ بِتَطَوُّعٍ بَيْنَهُمَا) ، أَيْ: الْمَجْمُوعَتَيْنِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ (نَصًّا) ، بِخِلَافِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ، فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُوَالَاةُ.

(وَصَحَّ إنْ صَلَّاهُمَا) ، أَيْ: الْمَجْمُوعَتَيْنِ (خَلْفَ إمَامَيْنِ، أَوْ) صَلَّاهُمَا خَلْفَ (مَنْ لَمْ يَجْمَعْ، أَوْ) أَمَّ فِيهِمَا أَوْ إحْدَاهُمَا (بِمَنْ لَمْ يَجْمَعْ، أَوْ) صَلَّى (إحْدَاهُمَا مُنْفَرِدًا، وَ) صَلَّى (الْأُخْرَى جَمَاعَةً، أَوْ) صَلَّى (بِمَأْمُومٍ الْأُولَى وَ) صَلَّى (بِ) مَأْمُومٍ (آخَرَ الثَّانِيَةَ) ، لِعَدَمِ الْمَانِعِ. (وَيَتَّجِهُ: أَوْ كَانَ إمَامًا بِإِحْدَاهُمَا وَمَأْمُومًا بِالْأُخْرَى) ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي " الْفُرُوعِ ".

[فَرْعٌ بَانَ فَسَادُ الصَّلَاةِ الْأُولَى بَعْدَ الْجَمْعِ]
(فَرْعٌ) : إذَا بَانَ فَسَادُ الْأُولَى بَعْدَ الْجَمْعِ، كَمَا (لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ نَسِيَ مِنْ الْأُولَى رُكْنًا) أَوْ شَرْطًا، بَطَلَ الْجَمْعُ وَأَعَادَهُمَا مُرَتَّبَتَيْنِ، (أَوْ) ذَكَرَ أَنَّهُ نَسِيَ رُكْنًا (مِنْ إحْدَاهُمَا وَنَسِيَهَا) ، فَلَا يَدْرِي أَهُوَ مِنْ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةِ: (أَعَادَهُمَا مُرَتِّبًا) فِي الْوَقْتِ إنْ بَقِيَ، وَإِلَّا قَضَاهُمَا مُرَتِّبًا. (وَ) لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ نَسِيَ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا (مِنْ ثَانِيَةٍ، أَعَادَهَا فَقَطْ) ، وَلَا يَبْطُلُ جَمْعُ تَأْخِيرٍ مُطْلَقًا، وَلَا جَمْعُ تَقْدِيمٍ إنْ أَعَادَهَا قَرِيبًا بِحَيْثُ لَا تَفُوتُهُ الْمُوَالَاةُ.

(1/739)


[فَصْلٌ صَلَاةِ الْخَوْفِ]
(فَصْلٌ) فِي (صَلَاةِ الْخَوْفِ) وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] . . . الْآيَةَ.
وَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ ثَبَتَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْخِطَابِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْحُكْمِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] .
وَبِالنِّسْبَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهَا، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى فِعْلِهَا وَصَلَّاهَا، عَلِيٌّ وَأَبُو مُوسَى وَحُذَيْفَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يُصَلِّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ، أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. (تَصِحُّ) صَلَاةُ الْخَوْفِ (بِقِتَالٍ مُبَاحٍ) ؛ لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ، فَلَا تُسْتَبَاحُ بِالْقِتَالِ الْمُحَرَّمِ، كَقِتَالٍ مِنْ أَهْلِ بَغْيٍ وَقُطَّاعِ طَرِيقٍ (وَلَوْ حَضَرًا) ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ الْخَوْفُ لَا السَّفَرُ. (مَعَ خَوْفِ هَجْمِ عَدُوٍّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . (وَتَأْثِيرُهُ) ، أَيْ: الْخَوْفِ (فِي تَغْيِيرِ هَيْأَتِهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةِ (وَصِفَاتِهَا لَا فِي) تَغْيِيرِ (عَدَدِ رَكَعَاتِهَا) ، فَلَا يُغَيِّرُهُ الْخَوْفُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ فِي مَنْعِ الْوَجْهِ السَّابِعِ الْآتِي: وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْإِمَامِ، فَيُؤَثِّرُ أَيْضًا فِي عَدَدِهَا كَمَا فِي الْوَجْهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ

(وَتَصِحُّ) صَلَاةُ الْخَوْفِ (سَفَرًا عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ: صَحَّتْ) صَلَاةُ الْخَوْفِ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَوْ سِتَّةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٍ، كُلُّهَا جَائِزَةٌ) ، قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَقُولُ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا،

(1/740)


أَوْ تَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْهَا؟ قَالَ: أَنَا أَقُولُ: كُلُّ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهَا كُلِّهَا فَحَسَنٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ، فَأَنَا أَخْتَارُهُ. (أَحَدُهَا) ، أَيْ: الْوُجُوهِ: (إذَا كَانَ الْعَدُوُّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يُرَى) لِلْمُسْلِمِينَ (وَلَمْ يُخَفْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، فِيهِمَا (كَمِينٌ) يَأْتِي مِنْ خَلْفِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ: قَوْمٌ يَكْمُنُونَ فِي الْحَرْبِ، (صَلَّى بِهِمْ الْإِمَامُ صَلَاةَ) النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي (عُسْفَانَ) : بَلَدٌ تَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ نَحْوَ مَرْحَلَتَيْنِ، (فَيَصُفُّهُمْ) الْإِمَامُ (خَلْفَهُ صَفَّيْنِ فَأَكْثَرَ حَضَرًا) كَانَ الْخَوْفُ (أَوْ سَفَرًا، وَيُحْرِمُ بِالْجَمِيعِ) مِنْ الصُّفُوفِ، (فَإِذَا سَجَدَ) الْإِمَامُ (سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، وَحَرَسَ) الصَّفُّ (الْآخَرُ حَتَّى يَقُومَ إمَامٌ لِ) رَكْعَةٍ (ثَانِيَةٍ، فَيَسْجُدُ) الصَّفُّ الْحَارِسُ (وَيَلْحَقُهُ) ، أَيْ: الْإِمَامَ، (ثُمَّ الْأُولَى تَأَخُّرُ) الصَّفِّ (الْمُقَدَّمِ) السَّاجِدُ مَعَ الْإِمَامِ (وَتَقَدُّمُ) الصَّفُّ (الْمُؤَخَّرُ) السَّاجِدُ بَعْدَهُ، لِيَحْصُلَ التَّعَادُلُ بَيْنَهُمَا فِي فَضِيلَةِ الْمَوْقِفِ. (ثُمَّ بِثَانِيَةٍ) يَسْجُدُ فِيهَا الْحَارِسُ فِي الْأُولَى، وَ (يَحْرُسُ سَاجِدًا مَعَهُ أَوَّلًا) ، أَيْ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، (ثُمَّ يَلْحَقُهُ) ، أَيْ: الْإِمَامَ (بِتَشَهُّدٍ، فَيُسَلِّمُ) الْإِمَامُ (بِجَمِيعِهِمْ) . هَذِهِ الصِّفَةُ رَوَاهَا جَابِرٌ، قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْآخَرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ وَقَامَ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ

(1/741)


وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَسَجَدَ، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ، وَرَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: «فَصَلَّاهَا النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِعُسْفَانَ، وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ» . (وَيَجُوزُ جَعْلُهُمْ) ، أَيْ: الْمُسْلِمِينَ (صَفًّا) وَاحِدًا، (وَحَرَسَ بَعْضُهُ) فِي الْأُولَى، وَالْبَاقِي فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الصَّفِّ لَا أَثَرَ لَهُ فِي حِرَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا فِي إنْكَارِ الْعَدُوِّ. وَ (لَا) يَجُوزُ (حَرَسُ صَفٍّ فِي الرَّكْعَتَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ بِتَرْكِهِمْ السُّجُودَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَوْ حَرَسَ الصَّفُّ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِتَخَلُّفِهِ عَنْ الْإِمَامِ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ. الْوَجْهُ (الثَّانِي: إذَا كَانَ الْعَدُوُّ بِغَيْرِ جِهَتِهَا) ، أَيْ: جِهَةِ الْقِبْلَةِ، (أَوْ كَانَ بِهَا) ، أَيْ: جِهَةِ الْقِبْلَةِ (وَلَمْ يُرَ) ، أَيْ: لَمْ يَرَهُ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، أَوْ بِهَا وَيُرَى وَخِيفَ كَمِينٌ، (قَسَمَهُمْ) ، أَيْ: الْمُسْلِمِينَ الْإِمَامُ (طَائِفَتَيْنِ، وَيُحْرِمُ بِهِمَا) جَمِيعًا، (وَهِيَ صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ شَدُّوا الْخِرَقَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ لِفَقْدِ النِّعَالِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جَبَلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَدِينَةِ فِيهِ حُمْرَةٌ وَسَوَادٌ وَبَيَاضٌ كَأَنَّهَا خِرَقٌ، وَقِيلَ: هِيَ غَزْوَةُ غَطَفَانَ، وَقِيلَ: كَانَتْ نَحْوَ نَجْدٍ. (تَكْفِي كُلُّ طَائِفَةٍ الْعَدُوَّ) زَادَ أَبُو الْمَعَالِي: بِحَيْثُ يَحْرُمُ فِرَارُهَا، وَمَتَى خَشِيَ اخْتِلَالَ حَالِهِمْ، وَاحْتِيجَ إلَى مَعُونَتِهِمْ بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى

(1/742)


فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْهَضَ إلَيْهِمْ بِمَنْ مَعَهُ، وَيَبْنُوا عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ. (فَإِنْ فَرَّطَ) الْإِمَامُ (فِي ذَلِكَ) بِأَنْ كَانَتْ الطَّائِفَةُ لَا تَكْفِي الْعَدُوَّ، (أَوْ) فَرَّطَ (فِيمَا فِيهِ حَظٌّ لَنَا، أَثِمَ) وَيَكُونُ إثْمُهُ صَغِيرَةً لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ إنْ قَارَنَهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَخْتَصُّ شَرْطَ الصَّلَاةِ. (وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَسَقَ وَلَوْ لَمْ يَتَكَرَّرْ) ، قَالَهُ فِي الْإِقْنَاعِ " وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ فِي " تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ ": الْمَذْهَبُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ، وَتَبِعَهُ فِي الْمُنْتَهَى؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَعُدْ إلَى شَرْطِ الصَّلَاةِ، بَلْ إلَى الْمُخَاطَرَةِ، كَتَرْكِ حَمْلِ السِّلَاحِ مَعَ حَاجَةٍ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ ": قُلْتُ: وَفِي الْفِسْقِ مَعَ التَّعَمُّدِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ صَغِيرَةٌ.
وَصَرَّحَ بِهِ فِي " الْمُبْدِعِ ".
وَالصَّغِيرَةُ لَا يَفْسُقُ بِتَعَمُّدِهَا بَلْ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَفْسُقُ، فَيَكُونُ (كَوَصِيٍّ وَأَمِينٍ فَرَّطَا فِي أَمَانَةٍ) ، أَيْ: فَيَفْسُقَانِ، وَتَصِيرُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِمَا كَمَا يَأْتِي فِي مَحَلِّهِ، (طَائِفَةٌ) تَذْهَبُ (تَحْرُسُ) الْمُسْلِمِينَ (وَهِيَ) ، أَيْ: الطَّائِفَةُ الْحَارِسَةُ (مُؤْتَمَّةٌ بِهِ) ، أَيْ: الْإِمَامِ حُكْمًا (فِي كُلِّ صَلَاتِهِ) ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حِينَ تَرْجِعُ مِنْ الْحِرَاسَةِ وَتُحْرِمُ لَا تُفَارِقُ الْإِمَامَ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهَا، وَالْمُرَادُ: بَعْدَ دُخُولِهَا مَعَهُ لَا قَبْلَهُ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَجَّاوِيُّ فِي حَاشِيَةِ التَّنْقِيحِ " فَ (تَسْجُدُ مَعَهُ) ، أَيْ: الْإِمَامِ (لِسَهْوِهِ) وَلَوْ فِي الْأُولَى قَبْلَ دُخُولِهَا، وَ (لَا) تَسْجُدُ هِيَ (لِسَهْوِهَا) إنْ سَهَتْ، لِتَحَمُّلِ الْإِمَامِ لَهُ (وَطَائِفَةٌ) يُحْرِمُ بِهَا، وَ (يُصَلِّي بِهَا رَكْعَةً) وَهِيَ الْأُولَى مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ تُفَارِقُهُ كَمَا يَأْتِي. (وَهِيَ) ، أَيْ: الطَّائِفَةُ الَّتِي يُصَلِّي بِهَا الرَّكْعَةَ الْأُولَى (مُؤْتَمَّةٌ) بِهِ (فِيهَا) ، أَيْ: الرَّكْعَةِ الْأُولَى (فَقَطْ) ؛ لِأَنَّهَا تُفَارِقُهُ بَعْدَهَا، فَ (تَسْجُدُ لِسَهْوِهِ) ، أَيْ: الْإِمَامِ (فِيهَا) ، أَيْ: الرَّكْعَةِ الْأُولَى (إذَا فَرَغَتْ) ، أَيْ: أَتَمَّتْ صَلَاتَهَا، (فَإِذَا اسْتَتَمَّ) الْإِمَامُ (قَائِمًا لِ) رَكْعَةٍ (ثَانِيَةٍ نَوَتْ) الطَّائِفَةُ الَّتِي صَلَّى بِهَا الرَّكْعَةَ الْأُولَى (الْمُفَارَقَةَ)

(1/743)


لَهُ (وُجُوبًا؛ لِبُطْلَانِ صَلَاةِ تَارِكِ مُتَابَعَةِ) الْإِمَامِ (بِلَا نِيَّةِ مُفَارَقَةٍ، وَأَتَمَّتْ) صَلَاتَهَا (لِنَفْسِهَا) مُنْفَرِدَةً، (وَسَلَّمَتْ وَمَضَتْ تَحْرُسُ) مَكَانَ الطَّائِفَةِ الْحَارِسَةِ قَبْلَهَا. (وَيُبْطِلُهَا) ، أَيْ: صَلَاةَ الطَّائِفَةِ الَّتِي صَلَّى بِهَا الرَّكْعَةَ الْأُولَى (مُفَارَقَتُهُ) ، أَيْ: الْإِمَامِ (قَبْلَ قِيَامِهِ) إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (بِلَا عُذْرٍ) ، لِتَرْكِهَا الْمُتَابَعَةَ. (وَيُطِيلُ) الْإِمَامُ (قِرَاءَتَهُ) فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (حَتَّى تَحْضُرَ) الطَّائِفَةُ (الْأُخْرَى) الَّتِي كَانَتْ تَحْرُسُ، (فَتُصَلِّي مَعَهُ) بَعْدَ إحْرَامِهِ الرَّكْعَةَ (الثَّانِيَةَ) ، وَلَا يَرْكَعُ بَعْدَ إحْرَامِهَا حَتَّى تَقْرَأَ قَدْرَ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ، وَيَكْفِي إدْرَاكُهَا الرُّكُوعَ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْقِرَاءَةِ إلَى مَجِيئِهَا، (وَ) إذَا فَرَغَ مِنْهَا وَجَلَسَ، انْتَظَرَهَا، (يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ حَتَّى تَأْتِيَ بِرَكْعَةٍ، وَ) حَتَّى (تَشَهَّدَ، فَيُسَلِّمَ بِهَا) وَلَا يُسَلِّمُ قَبْلَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُمْ كُلَّهَا مَعَهُ، وَتَحْصُلُ الْمُعَادَلَةُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ، وَالثَّانِيَةَ فَضِيلَةَ السَّلَامِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ «حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتُ بْنِ جُبَيْرٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِاَلَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ» وَصَحَّ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَثْمَةَ مَرْفُوعًا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ أَحْمَدُ أَنَّهُ اخْتَارَهُ؛ لِأَنَّهُ إنْكَاءٌ لِلْعَدُوِّ، وَأَقَلُّ فِي الْأَفْعَالِ، وَأَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ وَالْحَرْبِ.

(1/744)


(وَإِنْ أَحَبَّ) الْإِمَامُ (ذَا الْفِعْلِ) ، أَيْ: الصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ (مَعَ رُؤْيَةِ الْعَدُوِّ، جَازَ) نَصًّا، لِعُمُومِ الْآيَةِ. (وَإِنْ انْتَظَرَهَا) ، أَيْ: الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ الْإِمَامُ (جَالِسًا بِلَا عُذْرٍ) فِي الْجُلُوسِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ زَادَ جُلُوسًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. (وَ) إنْ (ائْتَمَّتْ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ) بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ (بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ) ، أَيْ: لَمْ تَنْعَقِدْ؛ لِاقْتِدَائِهِمْ فِي صَلَاةٍ بَاطِلَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَظَاهِرُهُ تَصِحُّ لَهُمْ لِلْعُذْرِ. (وَيَجُوزُ تَرْكُ) طَائِفَةٍ (حَارِسَةٍ الْحِرَاسَةَ) بِلَا إذْنِ الْإِمَامِ، وَتَأْتِي تُصَلِّي مَعَهُ (لِمَدَدٍ تَحَقَّقَتْ غِنَاهُ) ، أَيْ: أَجْزَأَهُ عَنْهَا لِحُصُولِ الْغَرَضِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا الْغَنَاءُ أَوْ شَكَّ فِيهِ، لَمْ يَجُزْ، قَالَهُ فِي " تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ " (وَلَوْ خَاطَرَ أَقَلُّ مِمَّنْ شَرَطْنَا) بِأَنْ كَانَتْ طَائِفَةٌ لَا تَكْفِي الْعَدُوَّ (وَتَعَمَّدُوا الصَّلَاةَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، صَحَّتْ) صَلَاتُهُمْ. (وَحَرُمَ مُخَاطَرَةٌ) قَوْله تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَإِنَّمَا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ مَعَ تَحْرِيمِ الْمُخَاطَرَةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَعُدْ إلَى شَرْطِ الصَّلَاةِ، بَلْ إلَى الْمُخَاطَرَةِ بِهِمْ، كَتَرْكِ حَمْلِ السِّلَاحِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. (وَيُصَلِّي) إمَامُ (الْمَغْرِبَ بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَ) (بِ) الطَّائِفَةِ (الْأُخْرَى رَكْعَةً) ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَفْضِيلٍ، فَالْأُولَى أَحَقُّ بِهِ، وَمَا فَاتَ الثَّانِيَةَ يَنْجَبِرُ بِإِدْرَاكِهَا مَعَهُ بِالسَّلَامِ.
(وَلَا تَتَشَهَّدُ) الثَّانِيَةُ بَعْدَ صَلَاتِهَا (مَعَهُ) الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ (عَقِبَهَا) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ تَشَهُّدِهَا، بَلْ تَقُومُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهَا. (وَيَصِحُّ عَكْسُهَا) ، أَيْ: أَنْ يُصَلِّيَ (بِالْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ) نَصًّا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ؛ لِأَنَّ الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ، فَيُجْبِرُ الثَّانِيَةَ بِزِيَادَةِ

(1/745)


الرَّكَعَاتِ، لَكِنَّ الْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَفْعَلُ جَمِيعَ صَلَاتِهَا فِي حُكْمِ الِائْتِمَامِ، وَالْأُولَى فِي حُكْمِ الِانْفِرَادِ. (وَ) يُصَلِّي إمَامٌ (الرُّبَاعِيَّةَ التَّامَّةَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ) تَعْدِيلًا بَيْنَهُمَا، مَعَ إتْيَانِ كُلِّ طَائِفَةٍ بِرَكْعَتَيْنِ، فَتَكُونُ تَامَّةً فِي حَقِّ إمَامٍ وَمَأْمُومٍ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُنَا وَالْوَجْهِ الْخَامِسِ. (وَيَصِحُّ) أَنْ يُصَلِّيَ الرُّبَاعِيَّةَ التَّامَّةَ (بِطَائِفَةٍ) مِنْهُمْ (رَكْعَةً، وَبِ) طَائِفَةٍ (أُخْرَى ثَلَاثًا) ، لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الصَّلَاةِ بِالطَّائِفَتَيْنِ. (وَتُفَارِقُهُ) الطَّائِفَةُ (الْأُولَى) إنْ صَلَّى بِهَا رَكْعَتَيْنِ مَغْرِبًا أَوْ رُبَاعِيَّةً تَامَّةً (بَعْدَ فَرَاغِ تَشَهُّدِهِ) الْأَوَّلِ (وَتُتِمُّ لِنَفْسِهَا) الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ فِي الْمَغْرِبِ، وَالرَّكْعَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ التَّامَّةِ وَتُسَلِّمُ. (وَيَنْتَظِرُ) الطَّائِفَةَ (الثَّانِيَةَ جَالِسًا يُكَرِّرُهُ) - أَيْ: التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ - إلَى أَنْ تَحْضُرَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ، (فَإِذَا أَتَتْ قَامَ) لِتُدْرِكَ مَعَهُ جَمِيعَ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ أَخَفُّ عَلَى الْإِمَامِ؛ وَلِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الثَّالِثَةِ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: يُحْرِمُ بِهِمْ، ثُمَّ تَنْهَضُ مَعَهُ. (وَيَصِحُّ انْتِظَارُهَا) ، أَيْ: الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ (قَائِمًا) ؛ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ يُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُهُ؛ وَلِأَنَّ ثَوَابَ الْقَائِمِ أَكْثَرُ، قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ. (فَإِذَا صَلَّتْ) الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ (مَعَهُ) ، أَيْ: مَعَ الْإِمَامِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، (وَجَلَسَ لِتَشَهُّدٍ أَخِيرٍ) تَشَهَّدَتْ مَعَهُ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ كَالْمَسْبُوقِ، ثُمَّ قَامَتْ (وَ) هُوَ جَالِسٌ (يُكَرِّرُهُ) فَاسْتَفْتَحَتْ وَتَعَوَّذَتْ (وَأَتَتْ بِمَا بَقِيَ، وَ) تَقْرَأُ (سُورَةً مَعَ الْفَاتِحَةِ) ؛ لِأَنَّ مَا تَقْضِيهِ أَوَّلُ صَلَاتِهَا، فَإِذَا أَدْرَكَتْهُ فِي التَّشَهُّدِ تَشَهَّدَتْ، وَسَلَّمَ بِهِمْ، وَلَا يُسَلِّمُ قَبْلَهُمْ، لِمَا تَقَدَّمَ. (وَإِنْ فَرَّقَهُمْ) الْإِمَامُ، أَيْ: الْمُصَلِّينَ (أَرْبَعًا،

(1/746)


وَصَلَّى) الرُّبَاعِيَّةَ التَّامَّةَ (بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً) أَوْ فَرَّقَهُمْ ثَلَاثًا، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، أَوْ بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، وَبِالْبَاقِيَتَيْنِ رَكْعَةً رَكْعَةً مِنْ رُبَاعِيَّةٍ، (صَحَّتْ صَلَاةُ) الطَّائِفَتَيْنِ (الْأُولَيَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُمَا فَارَقَتَاهُ قَبْلَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِالِانْتِظَارِ الثَّالِثِ لِلطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ لِتَدْخُلَ مَعَهُ، لِعَدَمِ وُرُودِهِ، وَ (لَا) تَصِحُّ صَلَاةُ (الْإِمَامِ) ؛ لِأَنَّهُ زَادَ انْتِظَارًا ثَالِثًا لَمْ يَرِدْ بِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ خَوْفٍ. (وَ) لَا صَلَاةُ الطَّائِفَتَيْنِ (الْأُخْرَيَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُمَا ائْتَمَّتَا بِمَنْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، (إلَّا إنْ جَهِلُوا) ، أَيْ: الْإِمَامُ وَالطَّائِفَتَانِ (الْبُطْلَانَ) ، أَيْ: بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنْ جَهِلَ الْمَأْمُومُونَ، صَحَّتْ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى.
وَكَمَنْ ائْتَمَّ بِمُحْدِثٍ لَا يَعْلَمُ حَدَثَهُ، وَيَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا.
الْوَجْهُ (الثَّالِثُ: أَنْ) يَقْسِمَهُمْ طَائِفَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، طَائِفَةٌ تَحْرُسُ، وَ (يُصَلِّي) الْإِمَامُ (بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً، ثُمَّ تَمْضِي) فَتَحْرُسُ مَكَانَ الْأُخْرَى، (ثُمَّ) يُصَلِّي (بِالْأُخْرَى) الْحَارِسَةِ إذَا أَتَتْ (رَكْعَةً، ثُمَّ تَمْضِي) فَتَحْرُسُ، (وَيُسَلِّمُ) إمَامٌ (وَحْدَهُ، ثُمَّ تَأْتِي) الطَّائِفَةُ (الْأُولَى) الَّتِي صَلَّتْ مَعَ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى، (فَتُتِمُّ صَلَاتَهَا بِقِرَاءَةِ) سُورَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَتُسَلِّمُ وَتَمْضِي لِتَحْرُسَ. (ثُمَّ) تَأْتِي (الْأُخْرَى) ، فَتَفْعَلُ (كَذَلِكَ وَإِنْ أَتَمَّتْهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةَ الطَّائِفَةُ (الثَّانِيَةُ عَقِبَ مُفَارَقَتِهَا) إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ (وَمَضَتْ) تَحْرُسُ، (ثُمَّ أَتَتْ الْأُولَى فَأَتَمَّتْ) صَلَاتَهَا، (كَانَ) ذَلِكَ (أَوْلَى) ، لِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوَّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ، فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1/747)


الْوَجْهُ (الرَّابِعُ: أَنْ يُصَلِّيَ) الْإِمَامُ (بِكُلِّ طَائِفَةٍ) مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ (صَلَاةً مَقْصُورَةً أَوْ تَامَّةً وَيُسَلِّمُ بِهَا) ، أَيْ: بِكُلِّ طَائِفَةٍ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا، وَالشَّافِعِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا. (وَهُنَا صَحَّ) صَلَاةُ (فَرْضٍ خَلْفَ نَفْلٍ) وَهُوَ مُغْتَفَرٌ هُنَا، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ (الْخَامِسُ: أَنْ يُصَلِّيَ) الْإِمَامُ (الرُّبَاعِيَّةَ الْجَائِزَ قَصْرُهَا) ، لِكَوْنِهِمْ مُسَافِرِينَ، (تَامَّةً بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ بِلَا قَضَاءٍ) مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ (فَتَكُونُ لَهُ) ، أَيْ: الْإِمَامِ (تَامَّةً، وَلَهُمْ) ، أَيْ: الْمَأْمُومِينَ (مَقْصُورَةً) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ قَالَ، فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ (السَّادِسُ:) " صَلَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ نَجْدٍ. (وَ) كَيْفِيَّتُهَا: (أَنْ يُحْرِمَ) الْإِمَامُ (بِالطَّائِفَتَيْنِ) مَعًا، وَتَقُومَ طَائِفَةٌ (وَاحِدَةٌ تِجَاهَ الْعَدُوِّ وَظُهْرُهَا لِلْقِبْلَةِ، وَ) تَقُومَ الطَّائِفَةُ (الْأُخْرَى مَعَهُ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَةً) وَاحِدَةً (فَإِذَا قَامَ لِ) رَكْعَةٍ (ثَانِيَةٍ ذَهَبَتْ) الَّتِي صَلَّتْ مَعَهُ لِتَقِفَ (لِلْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ) الطَّائِفَةُ (الْأُخْرَى، فَرَكَعَتْ وَسَجَدَتْ) لِأَنْفُسِهَا، (وَلَحِقَتْهُ) بِالرَّكْعَةِ (الثَّانِيَةِ، فَإِذَا جَلَسَ بِهَا لِتَشَهُّدٍ أَتَتْ) الطَّائِفَةُ (الَّتِي) وَقَفَتْ (تِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَرَكَعَتْ وَسَجَدَتْ) وَتَشَهَّدَتْ، (وَسَلَّمَ بِالْجَمِيعِ) " أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَنَقَلَهُ الْأَصْحَابُ مُقِرِّينَ لَهُ.
الْوَجْهُ (السَّابِعُ: وَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُ) مِنْ الْأَصْحَابِ (أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ

(1/748)


طَائِفَةٍ رَكْعَةً بِلَا قَضَاءٍ) عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ كَصَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمْ.
صَحَّ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهَا صِحَاحٌ، ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: رَكْعَةً رَكْعَةً، إلَّا أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَانِ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَلِلْخَوْفِ وَالسَّفَرِ اجْتِمَاعُ مُبِيحَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: الْخَوْفُ، وَالْآخَرُ: السَّفَرُ.
قَالَ فِي " الْكَافِي ": كَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوُجُوهِ الْجَائِزَةِ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا: لَا تَأْثِيرَ لِلْخَوْفِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَحَمَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ عَلَى شِدَّةِ الْخَوْفِ.

[فَصْلٌ تَصِحُّ جُمُعَةٌ بِخَوْفٍ حَضَرًا]
(فَصْلٌ)
(وَتَصِحُّ جُمُعَةٌ بِخَوْفٍ حَضَرًا) لَا سَفَرًا (بِشَرْطِ كَوْنِ كُلِّ طَائِفَةٍ أَرْبَعِينَ) رَجُلًا (فَأَكْثَرَ) مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا، لِاشْتِرَاطِ الْعَدُوِّ وَالِاسْتِيطَانِ، (وَ) يُشْتَرَطُ أَيْضًا (أَنْ يُحْرِمَ بِمَنْ حَضَرَتْ الْخُطْبَةَ) مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ، لِاشْتِرَاطِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِمَنْ لَمْ تَحْضُرْ الْخُطْبَةَ، لَمْ تَصِحَّ حَتَّى يَخْطُبَ لَهَا كَغَيْرِ الْخَوْفِ. (وَيُسِرَّانِ) ، أَيْ: الطَّائِفَتَانِ (الْقِرَاءَةَ بِقَضَاءٍ) ، أَيْ: قَضَاءِ الرَّكْعَةِ كَالْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ مِنْهَا.

(وَيُصَلَّى اسْتِسْقَاءً) فِي الْخَوْفِ إذَا ضَرَّ الْجَدْبُ (كَمَكْتُوبَةٍ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
(وَ) صَلَاةَ (كُسُوفٍ وَ) صَلَاةَ (عِيدٍ) مَعَ خَوْفٍ (آكَدَ مِنْ اسْتِسْقَاءٍ، لِمَا تَقَدَّمَ) أَنَّ الْكُسُوفَ آكَدُ مِنْ الِاسْتِسْقَاءِ.
وَأَمَّا الْعِيدُ، فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ.

(وَسُنَّ) فِي صَلَاةِ خَوْفٍ (حَمْلُ) مُصَلٍّ (مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُثْقِلُهُ، كَسَيْفٍ وَسِكِّينٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]

(1/749)


وَلِمَفْهُومِ قَوْلِهِ {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] ، وَالْأَمْرُ بِهِ لِلرِّفْقِ بِهِمْ وَالصِّيَانَةِ لَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِيجَابِ.
وَلَا يُكْرَهُ حَمْلُ السِّلَاحِ بِلَا حَاجَةٍ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، ذَكَرَهُ فِي " الْفُرُوعِ ".

(وَكُرْهِ) لِمُصَلٍّ حَمْلُ (مَا مَنَعَ إكْمَالَهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةِ (كَمِغْفَرٍ) بِوَزْنِ مِنْبَرٍ، (وَهُوَ زَرَدٌ مِنْ الدِّرْعِ يُلْبَسُ تَحْتَ الْقَلَنْسُوَةِ) ، أَوْ حِلَقٌ يَتَقَنَّعُ بِهَا الْمُتَسَلِّحُ، ذَكَرَهُ فِي " الْقَامُوسِ ". (أَوْ) ، أَيْ: وَيُكْرَهُ حَمْلُ مَا (ضَرَّ غَيْرَهُ) ، أَيْ: غَيْرَ حَامِلِهِ (كَرُمْحٍ مُتَوَسِّطٍ) صَاحِبُهُ (بَيْنَهُمْ) ، أَيْ: بَيْنَ الْقَوْمِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَاشِيَةِ لَمْ يُكْرَهْ. (أَوْ) ، أَيْ: وَيُكْرَهُ حَمْلُ مَا (أَثْقَلَهُ كَجَوْشَنٍ، وَهُوَ: الدِّرْعُ) وَالصَّدْرُ قَالَهُ فِي " الْقَامُوسِ ".

(وَجَازَ) فِي صَلَاةِ خَوْفٍ (لِحَاجَةٍ حَمْلُ نَجَسٍ) لَا يُعْفَى عَنْهُ فِي غَيْرِهَا، (وَلَا يُعِيدُ) مَا صَلَّاهُ فِي الْخَوْفِ مَعَ النَّجَسِ الْكَثِيرِ لِلْعُذْرِ. (وَإِذَا اشْتَدَّ خَوْفٌ) ، أَيْ: تَوَاصَلَ الطَّعْنُ وَالضَّرْبُ وَالْكَرُّ وَالْفَرُّ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَفْرِيقُ الْقَوْمِ وَصَلَاتُهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ، (صَلَّوْا رِجَالًا وَرُكْبَانًا لِلْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: " فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
زَادَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ نَافِعٌ: " لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا. (وَلَا يَلْزَمُ) مُصَلَّيَا إذَنْ (افْتِتَاحُهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةِ (إلَيْهَا) ، أَيْ: الْقِبْلَةِ (وَلَوْ أَمْكَنَ) الْمُصَلِّي ذَلِكَ كَبَقِيَّةِ الصَّلَاةِ (وَلَا) يَلْزَمُ

(1/750)


(سُجُودٌ) عَلَى ظَهْرِ (دَابَّةٍ) لِمَا تَقَدَّمَ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يُؤَخِّرَهَا) ؛ لِأَنَّهُ صَحِيحٌ قَادِرٌ.

(وَتَجِبُ جَمَاعَةٌ) فِي شِدَّةِ خَوْفٍ كَغَيْرِهَا نَصًّا (مَعَ إمْكَانِ مُتَابَعَةٍ) ، فَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ الْمُتَابَعَةَ، لَمْ تَجِبْ، بَلْ وَلَا تَنْعَقِدُ.

(وَلَا يَضُرُّ تَقَدُّمُ مَأْمُومٍ) عَلَى إمَامِهِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، (وَلَا) يَضُرُّ (تَلْوِيثُ سِلَاحٍ بِدَمٍ) ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، (وَلَا) يَضُرُّ (كَرٌّ) عَلَى عَدُوٍّ (وَ) لَا (فَرٌّ) مِنْهُ (لِمَصْلَحَةٍ وَلَوْ كَثُرَ) الْكَرُّ وَالْفَرُّ.

(وَكَذَا) ، أَيْ: كَشِدَّةِ الْخَوْفِ فِيمَا تَقَدَّمَ (حَالَةُ هَرَبٍ مِنْ عَدُوٍّ هَرَبًا مُبَاحًا) بِأَنْ كَانَ الْكُفَّارُ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ، (أَوْ) هَرَبٍ مِنْ (سَيْلٍ أَوْ سَبُعٍ) : حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ مُفْتَرِسٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، (أَوْ) هَرَبٍ مِنْ (نَارٍ أَوْ غَرِيمٍ ظَالِمٍ) ، فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ، لَمْ يَجُزْ، (أَوْ) لَمْ يَكُنْ هَرَبٌ، لَكِنْ صَلَّى كَذَلِكَ (خَوْفُ فَوْتِ عَدُوٍّ) يَطْلُبُهُ، لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٌ: «بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ، فَرَأَيْتُهُ وَقَدْ حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَقُلْتُ: إنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا أُصَلِّي، أُومِئُ إيمَاءً نَحْوَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَلِأَنَّ فَوْتَ عَدُوِّهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، فَأُبِيحَتْ لَهُ صَلَاةُ الْخَوْفِ كَحَالِ لِقَائِهِ.

(أَوْ) خَوْفُ فَوْتِ (وَقْتِ وُقُوفٍ بِعَرَفَةَ) إنْ صَلَّى آمِنًا فَيُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ مَاشِيًا حِرْصًا عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ، لِمَا يَلْحَقُهُ بِفَوَاتِهِ مِنْ الضَّرَرِ.

(أَوْ) خَوْفٌ (عَلَى نَفْسِهِ) صَلَّى صَلَاةَ أَمْنٍ، (أَوْ) خَوْفٌ عَلَى (أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ ذَبُّهُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ (عَنْ ذَلِكَ) ، أَيْ: دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ، فَيُصَلِّي صَلَاةَ خَائِفٍ. (وَ) كَذَا ذَبُّهُ (عَنْ نَفْسِ)

(1/751)


غَيْرِهِ (وَأَهْلِ) غَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، (وَ) أَمَّا مَنْ ذَبَّ عَنْ (مَالِ غَيْرِهِ) ، فَيُصَلِّي صَلَاةَ خَائِفٍ عَلَى قَوْلٍ مَرْجُوحٍ.
وَذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُنْتَهَى ".
أَنَّهُ إذَا ذَبَّ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ يُصَلِّي صَلَاةَ خَائِفٍ، وَقَالَ: صَحَّحَهُ فِي " الْإِنْصَافِ " وَهُوَ سَهْوٌ مِنْهُ، إذْ صَاحِبُ " الْإِنْصَافِ " لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ.

(فَإِنْ كَانَتْ) صَلَاةُ الْخَوْفِ صَلَّيْت (لِسَوَادٍ) ، أَيْ: شَخْصٍ (ظَنَّهُ عَدُوًّا) فَتَبَيَّنَ عَدَمَهُ، أَعَادَ، (أَوْ) صَلَّاهَا لِعَدُوٍّ، ثُمَّ تَبَيَّنَ (دُونَهُ مَانِعٌ) كَبَحْرٍ يَحُولُ بَيْنَهُمَا، (أَعَادَ) ، لِعَدَمِ وُجُودِ الْمُبِيحِ، وَنُدْرَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، بِخِلَافِ مَنْ تَيَمَّمَ لِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ، لِعُمُومِ الْبَلْوَى فِي الْأَسْفَارِ.

وَ (لَا) يُعِيدُ (إنْ) صَلَّى صَلَاةَ خَوْفٍ

(1/752)


لِعَدُوٍّ، ثُمَّ (بَانَ يَقْصِدُ غَيْرَهُ) لِوُجُودِ سَبَبِ الْخَوْفِ، وَهُوَ الْعَدُوُّ يَخْشَى هَجْمَهُ (كَ) مَا لَا يُعِيدُ (مَنْ خَافَ عَدُوًّا إنْ تَخَلَّفَ عَنْ رُفْقَتِهِ) ، وَصَلَّى صَلَاةَ آمِنٍ (فَصَلَّاهَا) ، أَيْ: صَلَاةَ الْخَوْفِ (ثُمَّ بَانَ أَمْنِ طَرِيقٍ) ، لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ. (أَوْ خَافَ بِتَرْكِهَا) ، أَيْ: صَلَاةِ الْخَوْفِ (كَمِينًا) يَكْمُنُ لَهُ فِي طَرِيقِهِ، (أَوْ) خَافَ بِتَرْكِهَا (مَكِيدَةً أَوْ مَكْرُوهًا، كَهَدْمِ سُورٍ أَوْ طَمِّ خَنْدَقٍ) إنْ اشْتَغَلَ بِصَلَاةِ آمِنٍ، صَلَّى صَلَاةَ خَائِفٍ.
قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ الطَّمَّ وَالْهَدْمَ لَا يَتِمُّ لِلْعَدُوِّ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، صَلَّوْا صَلَاةَ آمِنٍ.

(وَمَنْ خَافَ) فِي صَلَاةٍ شَرَعَ فِيهَا آمِنًا، انْتَقَلَ وَبَنَى لِوُجُودِ الْمُبِيحِ (أَوْ أَمِنَ فِي صَلَاةٍ) ابْتَدَأَهَا خَائِفًا، (انْتَقَلَ) ، لِزَوَالِ الْمُبِيحِ (وَبَنَى) عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ، كَعُرْيَانَ وَجَدَ سُتْرَةً قَرِيبَةً.

(وَلَا يَزُولُ خَوْفٌ إلَّا بِانْهِزَامِ) الْعَدُوِّ (الْكُلِّ) ؛ لِأَنَّ انْهِزَامَ بَعْضِهِ قَدْ يَكُونُ خَدِيعَةً. (وَكَفَرْضِ تَنَفُّلٍ) شَرَعَتْ لَهُ الْجَمَاعَةُ أَوَّلًا، فَيُصَلِّي كَمَا تَقَدَّمَ (وَلَوْ مُنْفَرِدًا) ، لِعُمُومِ مَا سَبَقَ. (وَلَا تَبْطُلُ) الصَّلَاةُ (بِطُولِ كَرٍّ وَفَرٍّ) ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. (وَتَبْطُلُ) الصَّلَاةُ (بِفِعْلٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِقِتَالٍ) كَنُزُولٍ عَنْ دَابَّةٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَأَخْذِ مَالٍ لَقِيَهُ، وَسَلْبِ كَافِرٍ ثِيَابَهُ. (وَ) تَبْطُلُ أَيْضًا بِ (كَلَامٍ) أَجْنَبِيٍّ مِنْهَا، كَصِيَاحٍ عَلَى عَدُوٍّ، أَوْ تَحْرِيضِ أَقْرَانِهِ عَلَى الْقِتَالِ، فَمَتَى صَاحَ فَبَانَ حَرْفَانِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، إذْ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ، بَلْ السُّكُوتُ أَهْيَبُ فِي نُفُوسِ الْأَقْرَانِ.

[تَتِمَّةٌ إذَا خَافَ الْأَسِيرُ عَلَى نَفْسِهِ وَالْمُخْتَفِي بِمَوْضِعٍ يَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ]
ِ صَلَّى كُلٌّ مِنْهُمَا كَيْفَ مَا أَمْكَنَهُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا وَمُسْتَلْقِيًا إلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا بِالْإِيمَاءِ حَضَرًا وَسَفَرًا.

(1/753)