مطالب
أولي النهى في شرح غاية المنتهى [كِتَابُ الْجَنَائِزِ]
ِ بِفَتْحِ الْجِيمِ: جَمْعُ جِنَازَةٍ، بِكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ لُغَةٌ،
وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ: لِلْمَيِّتِ، وَبِالْكَسْرِ: لِلنَّعْشِ عَلَيْهِ
مَيِّتٌ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَيِّتٌ، فَلَا
يُقَالُ: نَعْشٌ، وَلَا جِنَازَةٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: سَرِيرٌ. وَهِيَ
مُشْتَقَّةٌ مِنْ جَنَزَ، مِنْ بَابِ: ضَرَبَ إذَا سَتَرَ.
وَكَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ يُذْكَرَ بَيْنَ الْوَصَايَا
وَالْفَرَائِضِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَهَمَّ مَا يُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ
الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، أَعْقَبَهُ لِلصَّلَاةِ. (يُشْرَعُ) ، أَيْ: يُسَنُّ
(الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ بِتَوْبَةٍ مِنْ مَعَاصٍ وَخُرُوجٍ مِنْ
مَظَالِمِ) الْعِبَادِ، إمَّا بِرَدِّهَا، أَوْ الِاسْتِحْلَالِ مِنْ
أَرْبَابِهَا، (وَزِيَادَةِ عَمَلٍ صَالِحٍ) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا}
[الكهف: 110] .
(وَمَنْ عَرَفَ الْمَوْتَ هَانَتْ عَلَيْهِ مَصَائِبُ الدُّنْيَا) ، إذْ
لَا مُصِيبَةَ أَعْظَمُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] . (وَسُنَّ إكْثَارٌ مِنْ ذِكْرِهِ) ،
أَيْ: الْمَوْتِ، لِحَدِيثِ: «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ،
فَمَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ إلَّا قَلَّلَهُ، وَلَا فِي قَلِيلٍ إلَّا
كَثَّرَهُ» قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: مَعْنَاهُ: مَتَى ذُكِرَ فِي قَلِيلِ
الرِّزْقِ، اسْتَكْثَرَهُ الْإِنْسَانُ، لِاسْتِقْلَالِ مَا بَقِيَ مِنْ
عُمْرِهِ، وَمَتَى ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ قَلَّلَهُ، لِأَنَّ كَثِيرَ
الدُّنْيَا إذَا عُلِمَ انْقِطَاعُهُ بِالْمَوْتِ، قَلَّ عِنْدَهُ.
وَهَاذِمُ اللَّذَّاتِ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: الْمَوْتُ
(1/828)
(وَ) سُنَّ (عِيَادَةُ) مَرِيضٍ (مُسْلِمٍ)
، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ
عَلَى أَخِيهِ: رَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةُ
الدَّعْوَةِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
(غَيْرِ مُبْتَدِعٍ يَجِبُ هَجْرُهُ، كَرَافِضِي) دَاعِيَةٍ أَوْ لَا،
قَالَ فِي " النَّوَادِرِ ": تَحْرُمُ عِيَادَتُهُ. (أَوْ يُسَنُّ)
هَجْرُهُ، (كَمُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةٍ) ، فَلَا تُسَنُّ عِيَادَتُهُ إذَا
مَرِضَ، لِيَرْتَدِعَ وَيَتُوبَ.
وَنَقَلَ حَنْبَلٌ: إذَا عَلِمَ مِنْ رَجُلٍ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى
مَعْصِيَةٍ، لَمْ يَأْثَمْ إنْ هُوَ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَإِلَّا،
كَيْفَ يُبَيِّنُ لِلرَّجُلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُرَ مُنْكِرًا
عَلَيْهِ وَلَا جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ.
وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ يُعَادُ، (قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَتُكْرَهُ عِيَادَةُ رَجُلٍ لِامْرَأَةٍ غَيْرِ
مَحْرَمٍ) لَهُ، (أَوْ تَعُودُهُ) هِيَ، (وَأَطْلَقَ غَيْرُهُ) جَوَازَ
(عِيَادَتِهَا) إذَا كَانَتْ مُسْتَتِرَةً، (وَحَمَلَ) هَذَا الْإِطْلَاقَ
(عَلَى مَنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً) ، وَهُوَ مَحْمَلٌ حَسَنٌ. (وَيُعَادُ
مِنْ وَجَعِ ضِرْسٍ، وَرَمَدٍ، وَدُمَّلٍ) لِحَدِيثِ «زَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ، قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَادَهُ لِمَرَضٍ كَانَ بِعَيْنِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَحَّحَهُ
الْحَاكِمُ. (قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ فَرْضُ
كِفَايَةٍ قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (الَّذِي يَقْتَضِيهِ
النَّصُّ وُجُوبُ ذَلِكَ) ، كَرَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ،
(وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ) ، مِنْهُمْ: الشِّيرَازِيُّ، كَمَا فِي "
الْمُبْدِعِ " وَقَالَ: تَبَعًا لِجَدِّهِ، (وَالْمُرَادُ: مَرَّةً) ،
وَاخْتَارَهُ الْآجُرِّيُّ. (وَسُنَّ كَوْنُ عِيَادَتِهِ) ، أَيْ:
الْمَرِيضِ (غِبًّا) قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَوَجَّهُ اخْتِلَافُهُ
بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَالْعَمَلُ بِالْقَرَائِنِ وَظَاهِرِ الْحَالِ.
وَتَكُونُ الْعِيَادَةُ (مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ) ، لِحَدِيثِ: " وَإِذَا
مَرِضَ فَعُدْهُ ".
وَتَكُونُ (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ، لِلْخَبَرِ قَالَ أَحْمَدُ عَنْ قُرْبِ
وَسَطِ النَّهَارِ:
(1/829)
لَيْسَ هَذَا وَقْتَ عِيَادَةٍ. (وَ)
تَكُونُ (فِي رَمَضَانَ لَيْلًا) نَصًّا؛ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالْعَائِدِ.
(وَ) سُنَّ لِعَائِدٍ (تَذْكِيرُهُ) - أَيْ: الْمَرِيضِ، مَخُوفًا كَانَ
مَرَضُهُ أَوْ لَا - (تَوْبَةً) ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ إلَيْهَا مِنْ
غَيْرِهِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَفِي
كُلِّ وَقْتٍ، (وَ) تَذْكِيرُهُ (وَصِيَّةً، وَلَوْ) كَانَ (بِ) مَرَضٍ
(غَيْرِ مَخُوفٍ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَا حَقُّ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي بِهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا
وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (وَيَدْعُو لَهُ)
، أَيْ: لِلْمَرِيضِ، (بِعَافِيَةٍ وَصَلَاحٍ، وَيَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ)
، نَحْوَ: كَيْفَ أَجِدُكَ؟ (وَيُنَفِّسُ لَهُ فِي الْأَجَلِ بِمَا
يُطَيِّبُ نَفْسَهُ) إدْخَالًا لِلسُّرُورِ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ،
فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ» لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، كَمَا قَالَهُ فِي "
الْفُرُوعِ ". تَتِمَّةٌ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ
، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ عُمَرَ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ،
مَرْفُوعًا: «سَلُوهُ الدُّعَاءَ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ
الْمَلَائِكَةِ» .
(وَلَا يُطِيلُ) الْعَائِدُ (الْجُلُوسَ) عِنْدَ الْمَرِيضِ خَوْفًا مِنْ
الضَّجَرِ، (إلَّا إنْ أَنِسَ بِهِ) ، أَيْ: الْعَائِدِ (مَرِيضٌ) ، فَلَا
بَأْسَ بِتَطْوِيلِهِ عِنْدَهُ جَبْرًا لِقَلْبِهِ، (وَيَقُولُ فِي
دُعَائِهِ: أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي،
لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ) ، أَيْ: يَتْرُكُ
(سَقَمًا وَيَقُولُ: " أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ، رَبَّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ، أَنْ يَشْفِيَكَ وَيُعَافِيك " سَبْعَ مَرَّاتٍ) ، لِحَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا، وَفِي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إسْقَاطُ: " وَيُعَافِيك ".
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَهُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " وَمَا
يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ " وَأَنْ يَقْرَأَ عِنْدَهُ سُورَةَ
الْإِخْلَاصِ،
(1/830)
وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَقَدْ ثَبَتَ
ذَلِكَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى أَبُو دَاوُد
أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا جَاءَ رَجُلٌ
يَعُودُ مَرِيضًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأُ لَكَ
عَدُوًّا، أَوْ يَمْشِي لَكَ إلَى صَلَاةٍ» وَصَحَّ «أَنَّ جِبْرِيلَ عَادَ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ
أَرْقِيَكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ
عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيَكَ، بِاسْمِهِ أَرْقِيَكَ» «وَأَنَّهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَى مَنْ
يَعُودُهُ، قَالَ: لَا بَأْسَ طَهُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ» . (وَلَا بَأْسَ
بِوَضْعِ) الْعَائِدِ (يَدَهُ عَلَيْهِ) ، أَيْ: عَلَى الْمَرِيضِ.
وَفِي " الْفُنُونِ ": إنْ سَأَلَكَ وَضْعَ يَدِكَ عَلَى رَأْسِهِ
لِلتَّشَفِّي، فَجَدِّدْ تَوْبَةً، لَعَلَّهُ يَتَحَقَّقُ ظَنُّهُ فِيكَ،
وَقَبِيحٌ تَعَاطِيكَ مَا لَيْسَ لَكَ، وَإِهْمَالُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ
يُعْمِي الْقُلُوبَ، وَيُخَمِّرُ الْعُيُونَ، وَيَعُودُ بِالرِّيَاءِ.
(وَ) لَا بَأْسَ بِ (إخْبَارِ مَرِيضٍ بِمَا يَجِدُ بِلَا شَكْوَى بَعْدَ
حَمْدِ اللَّهِ) ، لِحَدِيثِ: «إذَا كَانَ الشُّكْرُ قَبْلَ الشَّكْوَى،
فَلَيْسَ بِشَاكٍ» وقَوْله تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {لَقَدْ
لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] «وَقَوْلُهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ: أَجِدُنِي مَغْمُومًا
أَجِدُنِي مَكْرُوبًا» وَلَا بَأْسَ بِشَكْوَاهُ لِخَالِقِهِ. (وَسُنَّ
لَهُ) ، أَيْ: الْمَرِيضِ (صَبْرٌ) ، وَكَذَا كُلُّ مُبْتَلًى لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} [النحل: 127] وقَوْله
تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
[الزمر: 10] وَحَدِيثُ: «الصَّبْرُ ضِيَاءٌ» . (وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ:
صَبْرٌ بِلَا شَكْوَى لِمَخْلُوقٍ) قَالَ الزَّجَّاجُ:
(1/831)
إنَّ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ لَا جَزَعَ
فِيهِ وَلَا شَكْوَى لِلنَّاسِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] مِنْ
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَكَا إلَى اللَّهِ لَا مِنْهُ،
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الدُّعَاءَ، بِمَعْنَى: يَا رَبِّ
ارْحَمْ أَسَفِي عَلَى يُوسُفَ، وَمِنْ الشَّكْوَى إلَى اللَّهِ تَعَالَى
قَوْلُ أَيُّوبَ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] وَقَوْلُ يَعْقُوبَ: {إِنَّمَا أَشْكُو
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] قَالَ سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَا إلَى النَّاسِ، وَهُوَ فِي شَكْوَاهُ
رَاضٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَزَعًا، «لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجِبْرِيلَ: أَجِدُنِي مَغْمُومًا،
أَجِدُنِي مَكْرُوبًا وَقَوْلِهِ: بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ» .
(وَيَنْبَغِي) لِلْمَرِيضِ (أَنْ يُحْسِنَ ظَنَّهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى) ،
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي "
زَادَ أَحْمَدُ: «إنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا، فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ بِي شَرًّا،
فَلَهُ» وَعَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ
أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ
لِقَاءَهُ» . (وَيُغَلِّبُ) مَرِيضٌ (الرَّجَاءَ) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] (وَقِيلَ: يَجِبُ)
تَغْلِيبُ الرَّجَاءِ طَمَعًا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَنَصَّ)
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: (يَكُونُ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَاحِدًا،
فَأَيُّهُمَا غَلَبَ صَاحِبَهُ، هَلَكَ قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ:
(هَذَا الْعَدْلُ) ؛ لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الْخَوْفِ،
أَوْقَعَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، إمَّا فِي نَفْسِهِ،
وَإِمَّا فِي أُمُورِ النَّاسِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الرَّجَاءِ
بِلَا
(1/832)
خَوْفٍ، أَوْقَعَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ
الْأَمْنِ لِمَكْرِ اللَّهِ، إمَّا فِي نَفْسِهِ، وَإِمَّا فِي النَّاسِ.
وَالرَّجَاءُ بِحَسَبِ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ يَجِبُ
تَرْجِيحُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي،
فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا» وَأَمَّا الْخَوْفُ فَيَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى
تَفْرِيطِ الْعَبْدِ وَتَعَدِّيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَأْخُذُ
إلَّا بِالذَّنْبِ. (وَكُرِهَ أَنِينٌ) ؛ لِأَنَّهُ يُتَرْجِمُ عَنْ
الشَّكْوَى، مَا لَمْ يَغْلِبْهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الصَّبْرُ وَالرِّضَى
بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الثَّوَابَ فِي الْمَصَائِبِ عَلَى
الصَّبْرِ عَلَيْهَا، لَا عَلَى الْمُصِيبَةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا
لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَى كَسْبِهِ، وَالرِّضَى
بِالْقَضَاءِ فَوْقَ الصَّبْرِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ رِضَاءَ اللَّهِ
تَعَالَى.
(وَ) كُرِهَ (تَمَنِّي الْمَوْتِ) ، نَزَلَ بِهِ ضَرَرٌ أَوْ لَا،
وَحَدِيثُ: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ،
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا
كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ
خَيْرًا لِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ
أَحْوَالِ النَّاسِ. (إلَّا لِخَوْفِ فِتْنَةٍ) فِي دِينِهِ، لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ
فِتْنَةً، فَاقْبِضْنِي إلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» (أَوْ) إلَّا (لِ)
تَمَنِّي (شَهَادَةٍ) ، فَلَا يُكْرَهُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ، لَا سِيَّمَا
عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِهَا، لِمَا فِي الصَّحِيحِ: «مَنْ تَمَنَّى
الشَّهَادَةَ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ مَنَازِلَ
الشُّهَدَاء» .
(وَ) كُرِهَ (كَيٌّ) ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
" وَلَا أَفْعَلُهُ " (وَحَرَّمَهُ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (لِغَيْرِ
تَدَاوٍ) ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ شِعَارِ الْفُسَّاقِ. (وَ) كُرِهَ (قَطْعُ
بَاسُورٍ) : دَاءٌ مَعْرُوفٌ، (وَمَعَ خَوْفِ تَلَفٍ بِقَطْعِهِ، يَحْرُمُ)
قَطْعُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ لِنَفْسِهِ لِلْهَلَكَةِ، (وَمَعَ خَوْفِ
تَلَفٍ بِتَرْكِهِ) بِلَا قَطْعٍ، (يُبَاحُ) قَطْعُهُ؛ لِأَنَّهُ تَدَاوٍ.
(وَلَا يَجِبُ تَدَاوٍ) مِنْ مَرَضٍ، (وَلَوْ ظَنَّ نَفْعَهُ) ، إذْ
النَّافِعُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالضَّارُّ
(1/833)
هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالدَّوَاءُ لَا
يَنْجَحُ بِذَاتِهِ، وَلَيْسَ فِعْلُهُ مُنَافِيًا لِلتَّوَكُّلِ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ خَلَقَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ. (وَتَرَكَهُ) ، أَيْ: التَّدَاوِي
(فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لَا رَقِيقِهِ، فَيُسَنُّ، (أَفْضَلُ) نَصًّا؛
لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى التَّوَكُّلِ، وَلِخَبَرِ الصِّدِّيقِ، وَحَدِيثِ
«إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، فَتَدَاوَوْا، وَلَا
تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ» الْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِرْشَادِ. (وَيَحْرُمُ)
تَدَاوٍ (بِمُحَرَّمٍ أَكْلًا وَشُرْبًا وَسَمَاعًا) لِصَوْتِ مَلْهَاةٍ
وَغِنَاءٍ مُحَرَّمٍ، لِعُمُومِ «وَلَا تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَالرَّبِيعِ، وَأَبِي
حَارِثَةَ عَنْ عُمَرَ " أَنَّهُ كَتَبَ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ:
إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُدَلِّكُ بِالْخَمْرِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ
حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهَا، وَقَدْ حَرَّمَ مَسَّ الْخَمْرِ،
كَمَا حَرَّمَ شُرْبَهَا، فَلَا تُمِسُّوهَا أَجْسَادَكُمْ فَإِنَّهَا
نَجَسٌ ".
تَتِمَّةٌ: لَوْ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِشُرْبِ دَوَاءٍ بِخَمْرٍ، وَقَالَ:
أُمَّكَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ تَشْرَبْهُ، حَرُمَ شُرْبُهُ.
نَقَلَهُ هَارُونُ الْحَمَّالُ، لِحَدِيثِ «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي
مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . (وَ) يَحْرُمُ تَدَاوٍ (بِسُمٍّ) لِإِفْضَائِهِ
إلَى الْهَلَاكِ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
(وَ) تَحْرُمُ (تَمِيمَةٌ، وَهِيَ: خَرَزَةٌ أَوْ خَيْطٌ وَنَحْوُهُ) ،
كَعُوذَةٍ (يَتَعَلَّقُهَا) ، فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْهُ، وَدَعَا عَلَى
فَاعِلِهِ، وَقَالَ «لَا يَزِيدُكَ إلَّا وَهْنًا، انْبِذْهَا عَنْكَ، لَوْ
مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ، مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا» رَوَى ذَلِكَ أَحْمَدُ
وَغَيْرُهُ، وَالْإِسْنَادُ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ حَمْلُ الْأَخْبَارِ عَلَى حَالَيْنِ:
فَنَهْيٌ، إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا النَّافِعَةُ لَهُ،
وَالدَّافِعَةُ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّافِعَ هُوَ
اللَّهُ.
وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَجَازَهُ: إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ
النَّافِعُ الدَّافِعُ، وَلَعَلَّ هَذَا خَرَجَ عَلَى عَادَةِ
الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَعْتَقِدُ أَنَّ الدَّهْرَ يُغَيِّرُهُمْ،
فَكَانُوا يَسُبُّونَهُ
(1/834)
(وَكُرِهَ أَنْ يَسْتَطِبَّ) مُسْلِمٌ
(ذِمِّيًّا بِلَا ضَرُورَةٍ) .
وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَوَاءً لَمْ يُبَيِّنْ مُفْرَدَاتِهِ
الْمُبَاحَةَ.
(وَ) كُرِهَ (نَفْخٌ) فِي رُقْيَةٍ لِعَدَمِ وُرُودِهِ، (وَتَفْلٌ فِي
رُقْيَةٍ) نَصًّا، لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْرَةِ نَفْسِ الْمَنْفُولِ لَهُ،
(وَاسْتَحَبَّهُ) ، أَيْ: النَّفْخَ وَالتَّفْلَ (بَعْضُهُمْ) فِي رُقْيَةٍ
بِقُرْآنٍ.
لِقِصَّةِ اللَّدِيغِ الَّذِي رَقَاهُ الصَّحَابِيُّ، وَيَأْتِي فِي
الْإِجَارَةِ.
(وَيَجُوزُ تَدَاوٍ بِبَوْلِ إبِلٍ نَصًّا) ، لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ.
(وَكَذَا) يَجُوزُ تَدَاوٍ بِ (بَوْلِ مَأْكُولِ لَحْمٍ) ، لِطَهَارَتِهِ،
وَقِيَاسًا عَلَى بَوْلِ الْإِبِلِ. (وَ) يَجُوزُ تَدَاوٍ
(1/835)
(بِمَا فِيهِ سُمٌّ مِنْ نَبَاتٍ، إنْ
غَلَبَتْ سَلَامَتُهُ) ، وَرُجِيَ نَفْعُهُ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ
مِنْهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ. (وَلَا بَأْسَ بِحِمْيَةٍ) نَقَلَهُ
حَنْبَلٌ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " وَيَتَوَجَّهُ: أَنَّهَا مَسْأَلَةُ
التَّدَاوِي، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عَلِيُّ لَا تَأْكُلْ مِنْ هَذَا وَكُلْ مِنْ
هَذَا، فَإِنَّهُ أَوْفَقُ لَكَ» وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ مَا
ظُنَّ ضَرَرُهُ
وَفِي " الْمُسْتَوْعِبِ " وَ " التَّرْغِيبِ ": يَجُوزُ بِدِفْلَى
وَنَحْوِهَا لَا تَضُرُّ، نَقَلَ ابْنُ هَانِئٍ وَالْفَضْلُ فِي حَشِيشَةٍ
تُسْكِرُ: تُسْحَقُ وَتُطْرَحُ مَعَ دَوَاءٍ لَا بَأْسَ، أَمَّا مَعَ
الْمَاءِ، فَلَا. (وَ) لَا بَأْسَ بِ (كَتْبِ قُرْآنٍ وَذِكْرٍ بِإِنَاءٍ
لِحَامِلٍ، لِعُسْرِ وِلَادَةٍ وَمَرِيضٍ، وَيُسْقَيَانِهِ) ، أَيْ:
الْحَامِلُ وَالْمَرِيضُ، نَصًّا لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
[فَصْلٌ إذَا اُحْتُضِرَ إنْسَانٌ فَمَا الْحُكْمُ]
(فَصْلٌ) (وَإِذَا اُحْتُضِرَ) - بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ - أَيْ:
حَضَرَ الْمَلَكُ لِقَبْضِ رُوحِ الْمَرِيضِ، (سُنَّ تَعَاهُدُ بَلِّ
حَلْقِهِ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ، وَ) تَعَاهُدُ (تَنْدِيَةِ شَفَتَيْهِ
بِقُطْنَةٍ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْفِئُ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ الشِّدَّةِ،
وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ النُّطْقَ، بِالشَّهَادَةِ، (وَتَوْلِيَةُ أَرْفَقِ
أَهْلِهِ بِهِ، وَأَعْرَفِهِمْ بِمُدَارَاتِهِ، وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ)
تَعَالَى. (وَ) سُنَّ (تَلْقِينُهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مَرَّةً
نَصًّا) ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «لَقِّنُوا
مَوْتَاكُمْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَأُطْلِقَ عَلَى الْمُحْتَضَرِ
مَيِّتًا بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.
وَعَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ: لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ:
صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَاقْتُصِرَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهَا
إقْرَارٌ بِالْأُخْرَى، وَفِيهِ شَيْءٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُلَقَّنُ الشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ
الثَّانِيَةَ تَبَعٌ، فَلِهَذَا اقْتَصَرَ فِي الْخَبَرِ عَلَى الْأُولَى.
(1/836)
وَلَمَّا حَضَرَ ابْنَ الْمُبَارَكِ
الْمَوْتُ، لَقَّنَهُ رَجُلٌ الشَّهَادَةَ فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
إذَا قُلْتُ مَرَّةً، فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ أَتَكَلَّمْ.
(وَاخْتَارَ الْأَكْثَرُ) ، أَيْ: أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ تَلْقِينَهُ
ذَلِكَ (ثَلَاثًا) ، قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": الصَّحِيحُ مِنْ
الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُلَقَّنُ ثَلَاثًا. (وَلَمْ يَزِدْ) عَلَى ثَلَاثٍ
(إلَّا إنْ تَكَلَّمَ) بَعْدَهَا، (فَيُعَادُ) التَّلْقِينُ، لِيَكُونَ
آخِرَ كَلَامِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.
وَيَكُونُ (بِرِفْقٍ) ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا
أَوْلَى بِهِ.
(وَكُرِهَ تَلْقِينُ وَرَثَةٍ) ، أَيْ: أَحَدِهِمْ لِلْمُحْتَضَرِ، (بِلَا
عُذْرٍ) ، بِأَنْ حَضَرَهُ غَيْرُهُ، (قَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي) ،
وَلِمَا فِيهِ مِنْ تُهْمَةِ الِاسْتِعْجَالِ، وَلَا يُزَادُ عَلَى
ثَلَاثٍ؛ لِئَلَّا يُضْجِرَهُ، مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ، كَمَا تَقَدَّمَ.
(وَسُنَّ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، وَ " يَاسِينَ " عِنْدَهُ) ، أَيْ:
الْمُحْتَضَرِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ سُورَةَ: يَاسِينَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَابْنُ مَاجَهْ.
وَلِمَا فِيهَا مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ، وَالْبُشْرَى بِالْجَنَّةِ
لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَغِبْطَةِ مَنْ مَاتَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {يَا
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26] {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 27]
فَتَسْتَبْشِرُ الرُّوحُ بِذَلِكَ، فَيُحِبُّ لِقَاءَ اللَّهِ، فَيُحِبُّ
اللَّهُ لِقَاءَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ قَلْبُ الْقُرْآنِ، وَلَهَا
خَاصِّيَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ.
قَالَ فِي " الْمُسْتَوْعِبِ ": وَيَقْرَأُ: " تَبَارَكَ " وَلِأَنَّهُ
يُسَهِّلُ خُرُوجَ الرُّوحِ.
(وَ) سُنَّ (تَوْجِيهُهُ لِلْقِبْلَةِ) قَبْلَ النُّزُولِ بِهِ،
«لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبَيْتِ
الْحَرَامِ: قِبْلَتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَيَكُونُ تَوْجِيهُهُ (عَلَى جَنْبٍ أَيْمَنَ مَعَ سَعَةِ مَكَان) ،
رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ
(1/837)
بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا قَالَتْ لِأُمِّ رَافِعٍ: " اسْتَقْبِلِي
بِي الْقِبْلَةَ، ثُمَّ قَامَتْ فَاغْتَسَلَتْ أَحْسَنَ مَا تَغْتَسِلُ،
وَلَبِسَتْ ثِيَابًا جُدُدًا. وَقَالَتْ: إنِّي الْآنَ مَقْبُوضَةٌ، ثُمَّ
اسْتَقْبَلَتْ الْقِبْلَةَ مُتَوَسِّدَةً يَمِينَهَا ". (وَيَتَّجِهُ) :
الْأَفْضَلُ تَوْجِيهُهُ لِلْقِبْلَةِ مَعَ سِعَةِ مَكَان (وَعَدَمِ
مَشَقَّةٍ) ، فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ ضَيِّقًا، أَوْ كَانَ فِي
تَوْجِيهِهِ مَشَقَّةٌ، فَلَا يُوَجَّهُ.
وَهُوَ مُتَّجِهٌ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَإِلَّا) يَكُنْ الْمَكَانُ
وَاسِعًا، (فَ) يُوَجَّهُ (عَلَى ظَهْرِهِ) ، أَيْ: مُسْتَلْقِيًا عَلَى
قَفَاهُ، وَأَخْمَصَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ، كَالْمَوْضُوعِ عَلَى
الْمُغْتَسَلِ، (قَالَ جَمَاعَةٌ) مِنْ الْأَصْحَابِ: (وَيُرْفَعُ
رَأْسُهُ) إذَا كَانَ مُسْتَلْقِيًا (قَلِيلًا) لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إلَى
الْقِبْلَةِ دُونَ السَّمَاءِ. (وَاسْتَحَبَّ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ
تَطْهِيرَ ثِيَابِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ؛ «لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمَّا
حَضَرَهُ الْمَوْتُ، دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا، وَقَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:
الْمَيِّتُ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا» رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: الْمُرَادُ
بِثِيَابِهِ: عَمَلُهُ، قَالَ: وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ
الْأَكْثَرُ.
(وَيَنْبَغِي) لِلْمَرِيضِ (اشْتِغَالُهُ بِنَفْسِهِ) بِأَنْ يَسْتَحْضِرَ
فِي نَفْسِهِ بِأَنَّهُ حَقِيرٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ
تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَاتِهِ وَطَاعَاتِهِ، وَأَنْ لَا يَطْلُبَ
الْعَفْوَ وَالْإِحْسَانَ إلَّا مِنْهُ، وَأَنْ يُكْثِرَ مَا دَامَ حَاضِرَ
الذِّهْنِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ، وَأَنْ يُبَادِرَ إلَى أَدَاءِ
الْحُقُوقِ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالْوَدَائِعِ
(1/838)
وَالْعَوَارِيِّ: وَاسْتِحْلَالُ نَحْوِ
زَوْجَةٍ وَوَلَدٍ، وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَصَاحِبٍ، وَمَنْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ، وَيُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ.
وَاجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ.
وَيَصْبِرُ عَلَى مَشَقَّةِ ذَلِكَ، (وَيَجْتَهِدُ فِي خَتْمِ عُمُرِهِ
بِأَكْمَلِ حَالٍ) وَيَتَعَاهَدُ نَفْسَهُ بِتَقْلِيمِ ظُفْرٍ وَأَخْذِ
عَانَةٍ وَشَارِبٍ وَإِبْطٍ، (وَيَعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ) تَعَالَى
(فِيمَنْ يُحِبُّ) مِنْ بَنِيهِ وَغَيْرِهِمْ، (وَيُوصِي) بِقَضَاءِ
دُيُونِهِ، وَتَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ وَنَحْوِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ
عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِ بَالِغٍ رَشِيدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ (لِلْأَرْجَحِ
فِي نَظَرِهِ) مِنْ قَرِيبٍ وَأَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لِلْمَصْلَحَةِ
، (فَإِذَا مَاتَ: سُنَّ تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَغْمَضَ أَبَا سَلَمَةَ، وَقَالَ: إنَّ
الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلِئَلَّا يَنْفَتِحَ نَظَرُهُ، وَيُسَاءَ بِهِ الظَّنُّ. (وَلَهُ
تَغْمِيضُ ذَاتِ مَحْرَمٍ) كَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَأُمِّ زَوْجَتِهِ
وَأُخْتِهِ مِنْ رَضَاعٍ. (وَلَهَا) أَيْ: الْمَرْأَةِ (تَغْمِيضُ
مَحْرَمِ) هَا، كَأَبِيهَا وَأَخِيهَا، وَتَغْمِيضُ مِثْلِهَا وَصَبِيٍّ
(وَكُرِهَ) التَّغْمِيضُ (مِنْ حَائِضٍ وَجُنُبٍ، وَأَنْ يَقْرَبَاهُ) ،
أَيْ: الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ، لِحَدِيثِ «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ
بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ» . (وَ) سُنَّ عِنْدَ تَغْمِيضٍ (قَوْلُ: بِسْمِ
اللَّهِ وَعَلَى وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ) نَصَّ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ وَلَفْظُهُ: "
وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ".
(وَ) سُنَّ (شَدُّ لَحْيَيْهِ) بِعِصَابَةٍ أَوْ نَحْوِهَا تَجْمَعُ
لَحْيَيْهِ، وَيَرْبِطُهَا فَوْقَ رَأْسِهِ، لِئَلَّا يَبْقَى فَمُهُ
مَفْتُوحًا، فَتَدْخُلُهُ الْهَوَامُّ وَيَتَشَوَّهُ خَلْقُهُ. (وَ) سُنَّ
(تَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ) بِرَدِّ ذِرَاعَيْهِ إلَى عَضُدَيْهِ.
ثُمَّ رَدِّهِمَا، وَرَدِّ أَصَابِعِ يَدَيْهِ إلَى كَفَّيْهِ، ثُمَّ
يَبْسُطُهُمَا، وَرَدُّ فَخِذَيْهِ إلَى بَطْنِهِ، وَسَاقَيْهِ إلَى
فَخْذَيْهِ، ثُمَّ يَمُدُّهُمَا لِسُهُولَةِ الْغُسْلِ، لِبَقَاءِ
الْحَرَارَةِ فِي الْبَدَنِ عَقِبَ الْمَوْتِ، وَلَا يُمْكِنُ تَلْيِينُهَا
بَعْدَ بُرُودَتِهِ. (وَ) سُنَّ (خَلْعُ ثِيَابِهِ) ، لِئَلَّا يُحْمَى
جَسَدُهُ، فَيُسْرِعَ إلَيْهِ الْفَسَادُ،
(1/839)
وَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ
فَلَوَّثَهَا. (وَ) سُنَّ (سَتْرُهُ بِثَوْبٍ) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ
«أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تُوُفِّيَ، سُجِّيَ
بِثَوْبٍ حِبَرَةٍ» وَاحْتِرَامًا لَهُ، وَصَوْنًا عَنْ الْهَوَامِّ،
وَيَنْبَغِي جَعْلُ أَحَدِ طَرَفَيْهِ تَحْتَ رَأْسِهِ، وَالْآخَرِ تَحْتَ
رِجْلَيْهِ، لِئَلَّا يَنْكَشِفَ. (وَ) سُنَّ (وَضْعُ حَدِيدَةٍ أَوْ
نَحْوِهَا) ، كَمِرْآةٍ وَسَيْفٍ وَسِكِّينٍ وَقِطْعَةِ طِينٍ (عَلَى
بَطْنِهِ) ، لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ " أَنَّهُ مَاتَ مَوْلًى لِأَنَسٍ
عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ أَنَسٌ: ضَعُوا عَلَى بَطْنِهِ حَدِيدًا
" وَلِئَلَّا يَنْتَفِخَ بَطْنُهُ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِنَحْوِ
عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
وَيُصَانُ عَنْهُ مُصْحَفٌ، وَكُتُبُ فِقْهٍ وَحَدِيثٍ وَعِلْمٍ نَافِعٍ.
(وَ) سُنَّ (وَضْعُهُ عَلَى سَرِيرِ غُسْلِهِ) بُعْدًا لَهُ عَنْ
الْهَوَامِّ وَنَدَاوَةِ الْأَرْضِ، (مُتَوَجِّهًا) إلَى الْقِبْلَةِ،
(مُنْحَدِرًا نَحْوَ رِجْلَيْهِ) ، فَيَكُونُ رَأْسُهُ أَعْلَى،
لِيَنْصَبَّ عَنْهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَمَاءُ غُسْلِهِ.
(وَ) سُنَّ (إسْرَاعُ تَجْهِيزِهِ) ، لِحَدِيثِ «لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ
مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ» رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد.
وَصَوْنًا لَهُ عَنْ التَّغْيِيرِ (إنْ مَاتَ غَيْرَ فُجَاءَةٍ) أَيْ:
بَغْتَةً.
(وَ) سُنَّ إسْرَاعُ (تَفْرِيقِ وَصِيَّتِهِ) ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيلِ
أَجْرِهِ
(وَيَجِبُ إسْرَاعٌ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ لِلَّهِ) تَعَالَى لِحَجٍّ، (أَوْ
آدَمِيٍّ) كَرَدِّ غَصْبٍ وَعَارِيَّةٍ الْوَدِيعَةٍ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ
مَعَ الْقُدْرَةِ ظُلْمٌ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِحَدِيثِ
عَلِيٍّ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» وَأَمَّا تَقْدِيمُهَا فِي الْآيَةِ
عَلَى الدَّيْنِ؛ فَلِأَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتْ الْمِيرَاثَ بِكَوْنِهَا
بِلَا عِوَضٍ، كَانَ فِي إخْرَاجِهَا مَشَقَّةٌ عَلَى الْوَارِثِ،
فَقُدِّمَتْ حَثًّا عَلَى إخْرَاجِهَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَلِذَلِكَ جِيءَ بِكَلِمَةِ " أَوْ " الَّتِي
تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، أَيْ: فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاهْتِمَامِ
وَعَدَمِ التَّضْيِيعِ، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا، وَيَكُونُ
قَضَاءُ دَيْنِهِ، وَإِبْرَاءُ ذِمَّتِهِ، وَتَفْرِيقُ وَصِيَّتِهِ
(1/840)
(قَبْلَ صَلَاةٍ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا
وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالتَّجْهِيزِ،
يُؤَيِّدُهُ «عَدَمُ صَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» .
(فَإِنْ تَعَذَّرَ وَفَاءُ) دَيْنِهِ فِي الْحَالِ، لِغَيْبَةِ الْمَالِ
وَنَحْوِهَا، (اُسْتُحِبَّ لِوَارِثِهِ أَوْ غَيْرِهِ تَكَفُّلٌ بِهِ)
عَنْهُ لِرَبِّهِ، بِأَنْ يَضْمَنَهُ عَنْهُ أَوْ يَدْفَعَ بِهِ رَهْنًا،
لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَخْذِ فِي أَسْبَابِ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، وَإِلَّا،
فَلَا تَبْرَأُ قَبْلَ وَفَائِهِ، كَمَا يَأْتِي.
(وَلَا بَأْسَ بِانْتِظَارِ مَنْ يُحْضِرُهُ مِنْ وَلِيٍّ) ، أَيْ:
وَارِثٍ، (وَكَثْرَةِ جَمْعٍ إنْ قَرُبَ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ) ، أَيْ:
الْمَيِّتِ (أَوْ يَشُقُّ عَلَى الْحَاضِرِينَ) ، نَصَّ عَلَيْهِ، لِمَا
يُؤْمَلُ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ. (وَيُنْتَظَرُ مَنْ
مَاتَ فُجَاءَةً) ، أَيْ: بَغْتَةً (بِنَحْوِ صَعْقَةٍ) أَوْ خَوْفٍ مِنْ
حَرْبٍ، أَوْ سَبُعٍ أَوْ تَرَدٍّ مِنْ جَبَلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، (أَوْ
شُكَّ فِي مَوْتِهِ حَتَّى يُعْلَمَ) مَوْتُهُ يَقِينًا (بِانْخِسَافِ
صُدْغَيْهِ وَمَيْلِ أَنْفِهِ، وَغَيْبُوبَةِ سَوَادِ عَيْنَيْهِ) فِي
الْبَالِغِينَ، وَهُوَ أَقْوَاهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَرَضَ لَهُ
سَكْتَةٌ، وَقَدْ يُفِيقُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا.
(وَيُعْلَمُ مَوْتُ غَيْرِهِ) ، أَيْ: غَيْرِ مَنْ مَاتَ فُجَاءَةً أَوْ
شُكَّ فِي مَوْتِهِ (بِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ، (وَ) يُعْلَمُ (بِغَيْرِهِ،
كَانْفِصَالِ كَفَّيْهِ) ، أَيْ: انْخِلَاعِهِمَا عَنْ ذِرَاعَيْهِ بِأَنْ
تَسْتَرْخِيَ عَصَبَةُ الْيَدِ، فَتَبْقَى كَأَنَّهَا مُنْفَصِلَةٌ فِي
جِلْدِهَا عَنْ عَظْمَةِ الزَّنْدِ، (وَاسْتِرْخَاءِ رِجْلَيْهِ) كَذَلِكَ،
وَكَذَا امْتِدَادُ جِلْدَةِ وَجْهِهِ، وَتَقَلُّصُ خُصْيَتَيْهِ إلَى
فَوْقُ، مَعَ تَدَلِّي الْجِلْدَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ دَالَّةٌ
عَلَى الْمَوْتِ تَعْيِينًا.
(وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (وَالنَّظَرِ إلَيْهِ)
مِمَّنْ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ، (وَلَوْ بَعْدَ تَكْفِينِهِ)
نَصًّا، «لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ،
حَتَّى رَأَيْتُ الدُّمُوعَ تَسِيلُ» صَحَّحَهُ فِي " الشَّرْحِ ".
(وَكُرِهَ نَعْيٌ، وَهُوَ:
(1/841)
النِّدَاءُ بِمَوْتِهِ) نَصَّ عَلَيْهِ.
وَنَقَلَ صَالِحٌ: لَا يُعْجِبُنِي، لِحَدِيثِ «إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ،
فَإِنَّ النَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.
وَالنَّعْيُ الْمَعْرُوفُ تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ،
كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
(وَ) كُرِهَ (تَرْكُهُ فِي بَيْتٍ يَبِيتُ وَحْدَهُ) بَلْ يَبِيتُ مَعَهُ
أَهْلُهُ، (قَالَ الْآجُرِّيُّ) قَالَ النَّخَعِيّ: كَانُوا لَا
يَتْرُكُونَهُ فِي بَيْتٍ وَحْدَهُ خَشْيَةَ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِهِ.
[فَائِدَةٌ عَرْضُ الْأَدْيَانِ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ الْمَوْتِ]
ِ لَيْسَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا مَنْفِيًّا عَنْ كُلِّ أَحَدٍ،
بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْأَدْيَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ
لَا تُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِتْنَةُ الْمَحْيَا،
وَالشَّيْطَانُ أَحْرَصُ مَا يَكُونُ عَلَى إغْرَاءِ بَنِي آدَمَ وَقْتَ
الْمَوْتِ، ذَكَرَهُ فِي " الِاخْتِيَارَاتِ "
(وَلَا بَأْسَ بِإِعْلَامِ أَقَارِبِهِ وَإِخْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ)
«لِإِعْلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ
بِالنَّجَاشِيِّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَفِيهِ كَثْرَةُ الْمُصَلِّينَ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ ثَوَابٌ وَنَفْعٌ
لِلْمَيِّتِ.
[فَرْعٌ مَوْتُ الْفُجَاءَةِ]
(فَرْعٌ: مَوْتُ الْفُجَاءَةِ رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ
لِلْفَاجِرِ) ، لِلْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ.
(وَالرُّوحُ: جِسْمٌ لَطِيفٌ لَا يَفْنَى أَبَدًا) قَالَ الْحَجَّاوِيُّ
فِي حَاشِيَتِهِ ": مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الرُّوحَ هِيَ
النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الْمُسْتَعِدَّةُ لِلْبَيَانِ وَفَهْمِ الْخِطَابِ،
وَلَا تَفْنَى بِفَنَاءِ الْجَسَدِ، وَهِيَ جَوْهَرٌ لَا عَرَضٌ. انْتَهَى.
وَتَجْتَمِعُ أَرْوَاحُ الْمَوْتَى، فَيَنْزِلُ الْأَعْلَى إلَى
الْأَدْنَى، وَلَا عَكْسَ.
وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: أَنَّ الْعَذَابَ
وَالنَّعِيمَ يَحْصُلُ لِرُوحِ الْمَيِّتِ وَبَدَنِهِ، وَأَنَّ الرُّوحَ
تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً، وَأَيْضًا
تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانًا، فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ
أَوْ
(1/842)
الْعَذَابُ، هَذَا فِي أَرْوَاحِ
الْمُكَلَّفِينَ، وَأَمَّا الْبَهَائِمُ فَإِنَّهَا تُحَاسَبُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: " كُونِي تُرَابًا " فَالظَّاهِرُ
فَنَاءُ أَرْوَاحِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ غُسْلُ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ]
(فَصْلٌ) (وَغُسْلُ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ) كَانَ (مَجْهُولَ
إسْلَامٍ بِدَارِنَا، أَوْ) كَانَ مَجْهُولَ إسْلَامٍ (لَا) بِدَارِنَا،
(وَ) لَكِنْ (عَلَيْهِ عَلَامَتُنَا) مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خِتَانٍ
وَلِبَاسٍ (مَرَّةً) ، بِحَيْثُ يَجْرِي الْمَاءُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ
بَعْدَ إزَالَةِ مَا يَمْنَعُ وُصُولَهُ، (أَوْ يُيَمَّمُ لِعُذْرٍ) مِنْ
الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّيَمُّمِ، (فَرْضُ كِفَايَةٍ) إجْمَاعًا
عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ، «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ،
وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ. وَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ، فَلَوْ أَوْصَى بِإِسْقَاطِهِ لَمْ
يَسْقُطْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَّا وَاحِدٌ. تَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
(وَيَلْزَمُ الْوَارِثَ) أَوْ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ غُسْلُهُ (قَبُولُ
مَاءٍ وُهِبَ لِ) غُسْلِ (مَيِّتٍ) ؛ لِأَنَّهُ لَا مِنَّةَ عَلَى قَابِلِ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَهُ لِغَيْرِهِ، وَ (لَا) يَلْزَمُهُ قَبُولُ
(ثَمَنِهِ) ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمِنَّةِ، (وَيَنْتَقِلُ) ثَوَابُ
غُسْلِهِ (لِثَوَابِ فَرْضِ عَيْنٍ مَعَ جَنَابَةِ) مَيِّتٍ (أَوْ حَيْضٍ)
، أَوْ نِفَاسٍ وَنَحْوِهِ كَانَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ تَعَيَّنَ عَلَى
الْمَيِّتِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَاَلَّذِي يَتَوَلَّى غَسْلَهُ يَقُومُ
مَقَامَهُ فِيهِ، فَيَكُونُ ثَوَابُهُ كَثَوَابِهِ، هَكَذَا حَمَلَ صَاحِبُ
" الْمُنْتَهَى " قَوْلَ " التَّنْقِيحِ "، وَيَتَعَيَّنُ مَعَ جَنَابَةٍ
أَوْ حَيْضٍ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى تَعْيِينِ
غُسْلِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ لِسُقُوطِهِ بِوَاحِدٍ.
(وَيَسْقُطَانِ) ، أَيْ: غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ (بِهِ) ؛ أَيْ:
بِغُسْلِ الْمَيِّتِ. (وَيَتَّجِهُ: لَا) يَسْقُطُ (هُوَ) ، أَيْ: غُسْلُ
الْمَيِّتِ (بِهِمَا) ، أَيْ:
(1/843)
بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ،
وَهَذَا الِاتِّجَاهُ مُسَلَّمٌ إذَا نَوَى الْغَاسِلُ رَفْعَ حَدَثِ
الْجَنَابَةِ أَوْ الْحَيْضِ فَقَطْ، دُونَ غُسْلِ الْمَوْتِ، وَأَمَّا
إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ، أَوْ اجْتَمَعَتْ أَحْدَاثٌ تُوجِبُ وُضُوءًا
أَوْ غُسْلًا، وَنَوَى أَحَدَهَا لَا عَلَى أَنْ لَا يَرْتَفِعَ غَيْرُهُ؛
ارْتَفَعَ سَائِرُهَا، وَتَقَدَّمَ.
(وَكُرِهَ أَخْذُ أُجْرَةٍ عَلَيْهِ) ، أَيْ: عَلَى غُسْلِ الْمَيِّتِ،
إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا، فَيُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ
تَعَذَّرَ أُعْطِيَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ. (وَ) كَذَا يُكْرَهُ أَخْذُ
أُجْرَةٍ (عَلَى صَلَاةٍ وَتَكْفِينٍ وَحَمْلٍ وَدَفْنٍ) ؛ لِأَنَّهُ
قُرْبَةٌ. (وَيَتَّجِهُ) : أَنَّهُ (يَحْرُمُ أَخْذُهَا) أَيْ: الْأُجْرَةِ
(فِي غُسْلِ) مَيِّتٍ (وَصَلَاةٍ) عَلَيْهِ، لِمَا يَأْتِي فِي بَابِ
الْإِجَارَةِ: أَنَّ مَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ
الْقُرْبَةِ، لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، كَالصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ، وَهَذَا مِنْهُ، وَهُوَ اتِّجَاهٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ
لِلْقَوَاعِدِ.
(وَكُرِهَ، وَلَا يَحْرُمُ)
(1/844)
جَزَمَ بِهِ فِي " التَّنْقِيحِ "،
وَتَبِعَهُ فِي الْمُنْتَهَى " (خِلَافًا لَهُ) ، أَيْ: لِصَاحِبِ "
الْإِقْنَاعِ " تَبَعًا لِلتَّبْصِرَةِ " - (غُسْلُ شَهِيدِ مَعْرَكَةٍ) ،
وَهُوَ: الْمَقْتُولُ بِأَيْدِي الْكُفَّارِ وَقْتَ قِيَامِ الْقِتَالِ،
فَلَا يُغَسَّلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وَالْحَيُّ لَا يُغَسَّلُ، «وَقَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلَى أُحُدٍ: لَا تُغَسِّلُوهُمْ،
فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ، أَوْ كُلَّ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَهَذِهِ
الْعِلَّةُ تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ، فَلَا يُقَالُ: إنَّهُ خَاصٌّ بِهِمْ،
وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، أَوْ لِقِيَامِهِ
بِشَهَادَةِ الْحَقِّ حَتَّى قُتِلَ، وَنَحْوُهُ مِمَّا قِيلَ فِيهِ.
(وَمَقْتُولٌ ظُلْمًا) ، كَمَنْ قَتَلَهُ نَحْوُ لِصٍّ، أَوْ أُرِيدَ
مِنْهُ الْكُفْرُ فَقُتِلَ دُونَهُ، أَوْ أُرِيدَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ
مَالِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ، فَقَاتَلَ دُونَ ذَلِكَ فَقُتِلَ، لِحَدِيثِ
سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا «مَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ
شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ
مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ. وَلِأَنَّهُمْ
مَقْتُولُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَشْبَهُوا قَتْلَ الْكُفَّارِ؛ فَلَا
يُغَسَّلُونَ، بِخِلَافِ نَحْوِ الْمَطْعُونِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيقِ
وَنَحْوِهِمْ. (وَيَتَّجِهُ: لَا) يُكْرَهُ غُسْلُ مَقْتُولٍ (خَطَأً) ،
فَيُغَسَّلُ، سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ أَوْ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً،
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ. (وَ) يَتَّجِهُ: (أَنَّهُ مَعَ)
وُجُودِ (دَمٍ عَلَيْهِمَا) ، أَيْ: الشَّهِيدِ وَالْمَقْتُولِ ظُلْمًا
(يَحْرُمُ) تَغْسِيلُهُمَا، (لِزَوَالِهِ) ، أَيْ: الدَّمَ عَنْهُمَا،
لِعُمُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ بِدِمَائِهِمْ،
(1/845)
وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ. وَلَمْ يُصَلِّ
عَلَيْهِمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَيُغَسَّلَانِ) .
أَيْ: شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ.
وَالْمَقْتُولُ ظُلْمًا وُجُوبًا. (كَغَيْرِهِمَا) مِمَّنْ لَمْ يَمُتْ
شَهِيدًا (مَعَ وُجُوبِ غُسْلٍ عَلَيْهِمَا، قَبْلَ مَوْتٍ بِجَنَابَةٍ
أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ) ، سَوَاءٌ انْقَطَعَ دَمُهُمَا، أَوْ لَا؛
فَيُغَسَّلُ مَنْ ذُكِرَ غُسْلًا وَاحِدًا، لِمَا تَقَدَّمَ، فِي
الْجُنُبِ؛ وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ وَاجِبٌ لِغَيْرِ الْمَوْتِ، فَلَمْ
يَسْقُطْ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ. (وَكَذَا) لَوْ طَرَأَ (إسْلَامٌ) عَلَى
شَخْصِ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فَاسْتُشْهِدَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَجَبَ
غُسْلُهُ كَالْجُنُبِ وَنَحْوِهِ، قَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " وَ "
الْإِنْصَافِ "، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى " (خِلَافًا لَهُ) ، أَيْ:
لِلْإِقْنَاعِ " حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ اُسْتُشْهِدَ قَبْلَ
غُسْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُغَسَّلْ.
(وَشُرِطَ) لِصِحَّةِ غُسْلِهِ: (طَهُورِيَّةُ مَاءٍ وَإِبَاحَتُهُ) ،
كَبَاقِي الْأَغْسَالِ (وَتَمْيِيزُ غَاسِلٍ) ، لِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ إذْ
مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ لَا نِيَّةَ لَهُ، (وَعَقْلُهُ) لِتَأَهُّلِهِ
لِلنِّيَّةِ، (وَنِيَّتُهُ) ، لِحَدِيثِ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ» ، (وَإِسْلَامُهُ) ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ.
وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِهَا. (غَيْرُ نَائِبٍ عَنْ مُسْلِمٍ
نَوَاهُ) .
أَيْ: الْمُسْلِمُ، فَيَصِحُّ.
لِوُجُودِ النِّيَّةِ مِنْ أَهْلِهَا، كَمَنْ نَوَى رَفْعَ حَدَثِهِ،
وَأَمَرَ كَافِرًا بِغَسْلِ أَعْضَائِهِ، (وَلَوْ) كَانَ مَنْ غَسَّلَ
الْمَيِّتَ (جُنُبًا، أَوْ حَائِضًا أَوْ فَاسِقًا) ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُشْتَرَطُ فِي الْغَاسِلِ الطَّهَارَةُ، وَلَا الْعَدَالَةُ.
(وَالْأَفْضَلُ) أَنْ يُخْتَارَ لِغُسْلِهِ (ثِقَةٌ عَارِفٌ بِأَحْكَامِ
غُسْلٍ) احْتِيَاطًا لَهُ. (وَالْأَوْلَى بِهِ) ، أَيْ: غُسْلِهِ
(وَصِيُّهُ الْحُرُّ الْعَدْلُ) ،
(1/846)
"؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوْصَى أَنْ
تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ وَأَنَسٌ أَوْصَى أَنْ يُغَسِّلَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ "؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، فَقُدِّمَ
فِيهِ وَصِيُّهُ عَلَى غَيْرِهِ. (وَيَتَّجِهُ: وَلَوْ) كَانَ وَصِيُّهُ
(مُمَيِّزًا) ، لِصِحَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، فَصَحَّ أَنْ
يَتَوَلَّى غُسْلَ غَيْرِهِ، لِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ، وَقَوْلُهُمْ:
يُكْرَهُ الْغُسْلُ مِنْ مُمَيِّزٍ؛ مَحَلُّهُ: إذَا لَمْ يَكُنْ وَصِيًّا،
وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (فَأَبُوهُ) إنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ، لِاخْتِصَاصِهِ
بِالْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ، (وَإِنْ عَلَا) ، لِمُشَارَكَةِ الْجَدِّ
الْأَبَ فِي الْمَعْنَى، (فَابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ) لِقُرْبِهِ، (ثُمَّ
الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ عِصَابَةً نَسَبًا) ، فَيُقَدَّمُ الْأَخُ
لِأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لِأَبٍ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ، ثُمَّ
لِأَبٍ، ثُمَّ عَمٌّ لِأَبَوَيْنِ، ثُمَّ عَمٌّ لِأَبٍ، وَهَكَذَا، (ثُمَّ)
الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ عَصَبَاتِهِ (فَعَمَّةٌ) ، فَيُقَدَّمُ
الْمُعْتَقُ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، (ثُمَّ ذَوُو
أَرْحَامِهِ) ، كَالْأَخِ لِأُمِّ، وَالْجَدِّ لَهَا، وَالْعَمِّ لَهَا،
وَابْنِ الْأُخْتِ وَنَحْوِهِمْ، (كَمِيرَاثِ الْأَحْرَارِ فِي الْجَمِيعِ)
، أَيْ: جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ.
فَلَا تَقْدِيمَ لِرَقِيقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ، (ثُمَّ الْأَجَانِبُ)
مِنْ الرِّجَالِ. (فَيُقَدَّمُ صَدِيقٌ) عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ".:
فَيَتَوَجَّهُ مِنْهُ تَقْدِيمُ الْجَارِ عَلَى غَيْرِهِ، (فَأُدِينَ)
حَيْثُ كَانَ أَعْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، لِحَدِيثِ «لِيَلِهِ أَقْرَبُكُمْ
إنْ كَانَ يَعْلَمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ؛ فَمَنْ تَرَوْنَ
عِنْدَهُ حَظًّا مِنْ وَرَعٍ وَأَمَانَةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَالْأَوْلَى (بِ) غُسْلِ (أُنْثَى وَصِيَّتُهَا) ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي
الرَّجُلِ، (فَأُمُّهَا، وَإِنْ عَلَتْ) أَيْ: ثُمَّ أُمُّ أُمِّهَا، ثُمَّ
أُمُّ أُمِّ أُمِّهَا.
وَهَكَذَا. (فَبِنْتُهَا، وَإِنْ
(1/847)
نَزَلَتْ) ، أَيْ: فَبِنْتُ بِنْتِهَا،
فَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتِهَا، وَهَكَذَا.
(فَبِنْتُ ابْنِهَا وَإِنْ نَزَلَ) ، أَيْ: بِنْتَ ابْنِ ابْنِهَا،
وَهَكَذَا. (ثُمَّ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى، كَمِيرَاثٍ) ، فَتُقَدَّمُ
أُخْتُ شَقِيقَتِهِ، ثُمَّ لِأَبٍ، ثُمَّ لِأُمٍّ وَهَكَذَا. (وَعَمَّةٌ
وَخَالَةٌ) سَوَاءٌ، (أَوْ بِنْتَا أَخٍ وَأُخْتٌ سَوَاءٌ) ،
لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُرْبِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ، أَشْبَهَا
الْعَمَّتَيْنِ أَوْ الْخَالَتَيْنِ، وَحُكْمُ تَقَدُّمِهِنَّ كَرِجَالٍ،
فَيُقَدَّمُ مِنْهُنَّ مَنْ يُقَدَّمُ مِنْ رِجَالٍ لَوْ كُنَّ رِجَالًا.
(وَأَجْنَبِيٌّ وَأَجْنَبِيَّةٌ أَوْلَى مِنْ زَوْجَةٍ وَزَوْجٍ) ، أَيْ:
إذَا مَاتَ رَجُلٌ؛ فَالْأَجْنَبِيُّ أَوْلَى بِغُسْلِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ،
أَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ فَالْأَجْنَبِيَّةُ أَوْلَى بِغُسْلِهَا مِنْ
زَوْجِهَا، لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ. (وَزَوْجٌ وَزَوْجَةٌ أَوْلَى مِنْ
سَيِّدٍ وَأُمِّ وَلَدٍ) ، أَيْ: إذَا مَاتَتْ رَقِيقَةٌ مُزَوَّجَةٌ؛
فَزَوْجُهَا أَوْلَى بِغُسْلِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، لِإِبَاحَةِ
اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا إلَى حِينِ مَوْتِهَا، بِخِلَافِ سَيِّدِهَا.
أَوْ مَاتَ رَجُلٌ لَهُ زَوْجَةٌ وَأُمُّ وَلَدٍ؛ فَزَوْجَتُهُ أَوْلَى
بِغُسْلِهِ مِنْ أُمِّ وَلَدِهِ، لِبَقَاءِ عَلَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ
الِاعْتِدَادِ وَالْإِحْدَادِ
وَعُلِمَ مِنْهُ جَوَازُ تَغْسِيلِ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ،
لِقَوْلِ عَائِشَةَ: " لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ
مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا
نِسَاؤُهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.
" وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ،
فَغَسَّلَتْهُ ". وَ " غَسَّلَ أَبُو مُوسَى زَوْجَتَهُ أُمَّ عَبْدِ
اللَّهِ " ذَكَرُهُمَا أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَ " أَوْصَى جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُهُ " وَ "
أَوْصَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ امْرَأَتَهُ أَنْ تُغَسِّلَهُ
" رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
فَلَهَا تَغْسِيلُهُ إذَا لَمْ تَكُنْ ذِمِّيَّةً. (وَلَوْ) كَانَتْ
(غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، أَوْ مُطَلَّقَةً رَجْعِيًّا، وَانْقَضَتْ
عِدَّتُهَا عَقِبَ مَوْتِهِ بِوَضْعٍ، وَلَمْ تَتَزَوَّجْ) الْمَرْأَةُ
الَّتِي وَضَعَتْ عَقِبَ مَوْتِ زَوْجِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ؛ فَلَا
تُغَسِّلُهُ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّزَوُّجِ صَارَتْ صَالِحَةً لَأَنْ
تُغَسِّلَ
(1/848)
الثَّانِيَ لَوْ مَاتَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ غَاسِلَةً لِزَوْجَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا لَوْ وُطِئَتْ
بَعْدَ مَوْتِهِ بِشُبْهَةٍ، أَوْ وَطِئَ أُخْتَهَا بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ
مَاتَ لَمْ تُغَسِّلْهُ، إلَّا أَنْ تَضَعَ عَقِبَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ
الْمُبَانَةُ، وَلَوْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ الْمَخُوفِ فِرَارًا،
لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنَّمَا وَرِثَتْ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ
بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا.
وَيُنْظَرُ مَنْ غَسَّلَ مِنْ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ غَيْرَ الْعَوْرَةِ
وِفَاقًا لِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، قَالَهُ فِي " الْفُرُوعِ "
(وَلِسَيِّدٍ غَسْلُ أَمَتِهِ وَلَوْ أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ غَيْرَ مُبَاحَةٍ
لَهُ، كَمُزَوَّجَةٍ وَمُعْتَدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ وَمُسْتَبْرَأَةٍ) مِنْهُ
أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، (خِلَافًا لَهُ) ،
أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ " فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا يُغَسِّلُ أَمَتَهُ
الْمُزَوَّجَةَ، وَلَا الْمُعْتَدَّةَ مِنْ زَوْجٍ، إلَى أَنْ قَالَ: وَلَا
مَنْ هِيَ فِي اسْتِبْرَاءٍ وَاجِبٍ
وَمَا قَالَهُ تَبِعَ فِيهِ صَاحِبَ الْفُرُوعِ " وَاسْتَشْكَلَهُ فِي "
الْإِنْصَافِ ". (وَيَتَّجِهُ: لَا) يُبَاحُ لِسَيِّدٍ غُسْلُ أَمَةٍ
(مُشْتَرَكَةٍ) ، لِحُرْمَتِهَا قَبْلَ مَوْتِهَا، وَمِثْلُهَا الْمُعْتَقُ
بَعْضُهَا، وَلَا تُغَسِّلُهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَيُغَسِّلُ) السَّيِّدُ
(مُكَاتَبَتَهُ مُطْلَقًا) ، أَيْ: سَوَاءً شَرَطَ وَطْأَهَا فِي عَقْدِ
الْكِتَابَةِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَنُهَا وَمُؤْنَةُ
تَجْهِيزِهَا وَدَفْنِهَا، (وَتُغَسِّلُهُ) هِيَ (إنْ شَرَطَ وَطْأَهَا)
لِإِبَاحَتِهَا لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ؛ لَمْ تُغَسِّلْهُ،
لِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ.
(وَلَيْسَ لِآثِمٍ بِقَتْلٍ حَقٌّ فِي غُسْلِ) مَقْتُولٍ، (وَ) لَا فِي
(صَلَاةٍ) عَلَى مَقْتُولٍ، (وَ) لَا فِي (دَفْنِ مَقْتُولٍ) ، وَلَوْ
كَانَ أَبًا أَوْ ابْنًا لَهُ، كَمَا لَا يَرِثُهُ، وَ (لَا) يَسْقُطُ
حَقُّهُ مِنْ غُسْلٍ إنْ كَانَ غَيْرَ آثِمٍ، وَلَوْ لَمْ يَرِثْ؛ كَمَا
لَوْ قَتَلَهُ (خَطَأً، خِلَافًا لَهُ) ، أَيْ: لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ "
(1/849)
حَيْثُ سَوَّى بَيْنَ الْعَمْدِ
وَالْخَطَأِ تَبَعًا لِأَبِي الْمَعَالِي، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
هُوَ الْمَذْهَبُ.
(وَلَيْسَ لَرَجُلٍ غُسْلُ ابْنَةِ سَبْعِ) سِنِينَ فَأَكْثَرَ إنْ لَمْ
تَكُنْ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّ لِعَوْرَتِهَا حُكْمًا. (وَلَا
لَهَا) ، أَيْ: الْمَرْأَةِ، (غُسْلُ ابْنِ سَبْعِ) سِنِينَ فَأَكْثَرَ،
غَيْرَ زَوْجِهَا وَسَيِّدِهَا، لِمَا تَقَدَّمَ. (وَلَهُمَا) ، أَيْ:
الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، (غُسْلُ مَنْ دُونَ ذَلِكَ) ، أَيْ: السَّبْعِ
سِنِينَ، (وَلَوْ بِلَحْظَةٍ) مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى؛ لِأَنَّهُ: لَا
حُكْمَ لِعَوْرَتِهِ، وَابْنُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
إبْرَاهِيمُ غَسَّلَهُ النِّسَاءُ (مَعَ حِلِّ نَظَرٍ وَمَسِّ عَوْرَتِهِ)
، أَيْ: مَنْ لَهُ دُونَ السَّبْعِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ: أَنَّ
الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ مِنْ غَيْرِ سُتْرَةٍ،
وَتَمَسُّ عَوْرَتَهُ وَتَنْظُرُ إلَيْهَا. (وَحَرُمَ ذَلِكَ) ، أَيْ:
نَظَرٌ وَمَسُّ عَوْرَةٍ (مِمَّنْ بَلَغَ سَبْعًا) مِنْ السِّنِينَ،
(وَلَوْ لِزَوْجٍ وَزَوْجَةٍ) ، وِفَاقًا.
(وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نِسَاءٍ) لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ، مِمَّنْ (لَا
يُبَاحُ لَهُنَّ غُسْلُهُ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ زَوْجَةٌ، وَلَا
أَمَةٌ لَهُ: يُيَمَّمُ، (أَوْ عَكْسُهُ) بِأَنْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ بَيْنَ
رِجَالٍ مِمَّنْ لَا يُبَاحُ لَهُمْ غُسْلُهَا، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ
زَوْجُهَا وَلَا سَيِّدُهَا؛ يُمِّمَتْ، لِمَا رَوَى تَمَّامٌ فِي
فَوَائِدِهِ عَنْ وَاثِلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرِّجَالِ لَيْسَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ مَحْرَمٌ؛ تُيَمَّمُ كَمَا يُيَمَّمُ الرِّجَالُ» .
(أَوْ) مَاتَ (خُنْثَى مُشْكِلٌ) لَهُ سَبْعُ سِنِينَ فَأَكْثَرَ، (وَلَمْ
تَحْضُرْ أَمَةٌ لَهُ؛ يُمِّمَ) لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ
بِالْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ تَنْظِيفٌ وَلَا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ،
بَلْ رُبَّمَا كَثُرَتْ. (وَحَرُمَ) أَنْ يُيَمِّمَ مَنْ ذُكِرَ (بِدُونِ
حَائِلٍ عَلَى غَيْرِ مَحْرَمٍ) فَيَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً عَلَيْهَا
تُرَابٌ، فَيُيَمِّمُهُ بِهَا، فَإِنْ كَانَ مَحْرَمٌ، فَلَهُ أَنْ
يُيَمِّمَهُ بِلَا حَائِلٍ. (وَرَجُلٌ أَوْلَى بِتَيَمُّمِ خُنْثَى)
مُشْكِلٍ مِنْ امْرَأَةٍ، فَيُيَمِّمُ
(1/850)
إذَا كَانَ ثَمَّةَ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ،
وَلِفَضْلِهِ بِالذُّكُورِيَّةِ. (وَمُمَيِّزٌ وَمُمَيِّزَةٌ بِلَا
شَهْوَةٍ، يَحِلُّ لَهُمَا غُسْلُ ذَلِكَ) .
أَيْ مَنْ مَاتَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى حَيْثُ أَطَاقَا
ذَلِكَ.
وَعَلَّمَهُمَا مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِلْغُسْلِ.
وَبَاشَرَاهُ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، قَالَ الْمَجْدُ فِي
شَرْحِهِ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
قَالَ فِي " شَرْحِ الْإِقْنَاعِ " قُلْتُ: وَكَذَا الْخُنْثَى يَمُوتُ
مَعَ رِجَالٍ أَوْ نِسْوَةٍ فِيهِنَّ صَغِيرٌ أَوْ صَغِيرَةٌ تُطِيقُهُ.
(وَيَتَّجِهُ) : لَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ. أَوْ رَجُلٌ
بَيْنَ نِسَاءٍ (مَعَ) وُجُودِ مَحْرَمٍ فِيهِمْ أَوْ فِيهِنَّ. وَ (عَدَمِ
تُرَابٍ " صَالِحٍ لِلتَّيَمُّمِ) وُجُوبُ غُسْلِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ (فِي
حَائِلٍ) ، لِقَوْلِ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُغَسِّلُ
أُخْتَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ نِسَاءً؟ قَالَ: لَا.
قُلْت: فَكَيْف يَصْنَعُ؟ قَالَ: تُغَسَّلُ وَعَلَيْهَا ثِيَابُهَا؟
يُصَبُّ الْمَاءُ صَبًّا.
انْتَهَى.
فَظَاهِرُ نَصِّ الْإِمَامِ: جَوَازُ الْغُسْلِ بِحَائِلٍ إنْ أُمِنَ مَسُّ
الْبَشَرَةِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَسُنَّ بَدَاءَةٌ بِتَجْهِيزِ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ) الْفَسَادُ
بِتَأْخِيرِهِ إذَا مَاتَ جَمَاعَةٌ، بِنَحْوِ هَدْمٍ أَوْ حَرِيقٍ. (ثُمَّ
بِذِي أَقَارِبَ) مَاتُوا بِهَدْمٍ أَوْ طَاعُونٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً:
فَيُبْدَأُ بِمَنْ يُخْشَى فَسَادُهُ.
فَإِنْ اسْتَوَوْا: سُنَّ بَدَاءَةٌ
(1/851)
(بِأَبٍ، ثُمَّ بِأَقْرَبَ، ثُمَّ
بِأَفْضَلَ، ثُمَّ) بِ (أَسَنَّ، ثُمَّ فَرْعِهِ) إنْ تُسَاوَوْا؛
لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ إذَنْ غَيْرُهَا.
[فَرْعٌ تَغْسِيل الْكَافِر وَتَكْفِينَهُ وَالصَّلَاة عَلَيْهِ
وَاتِّبَاعَ جِنَازَته]
(فَرْعٌ: حَرُمَ أَنْ يَعُودَ) مُسْلِمٌ كَافِرًا كَبُدَاءَتِهِ
بِالسَّلَامِ.
لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمٍ، (أَوْ يُغَسِّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا، أَوْ
يُكَفِّنَهُ أَوْ يُصَلِّي عَلَيْهِ. أَوْ يَتْبَعَ جِنَازَتَهُ، وَلَوْ
ذِمِّيًّا قَرِيبًا) قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَهَذَا الْمَذْهَبُ فِي
ذَلِكَ كُلِّهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة: 13] .
(بَلْ يُوَارِي وُجُوبًا، لِعَدَمِ) مَنْ يُوَارِيهِ مِنْ الْكُفَّارِ.
كَمَا فُعِلَ بِكُفَّارِ بَدْرٍ، وَارَوْهُمْ فِي الْقَلِيبِ، وَلَا فَرْقَ
بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ.
وَالْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُرْتَدِّ فِي ذَلِكَ.
؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمُوَارَاةِ مُثْلَةٌ بِهِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا.
(وَكَذَا كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ) كَالْجَهْمِيَّةِ.
أَصْحَابِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ.
وَالْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ: لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ وُقُوعِهِ،
وَعِلْمُهُ تَعَالَى حَادِثٌ لَا فِي مَحَلٍّ، وَلَا يُوصَفُ بِمَا يُوصَفُ
بِهِ غَيْرُهُ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَالْجَنَّةُ
وَالنَّارُ يَفْنَيَانِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ أَهْلِ
الْإِفْكِ وَالضَّلَالِ.
وَلِهَذَا. (قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ: الْجَهْمِيَّةُ) لَا يُصَلَّى
عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَيْسَتْ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ
أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ: إنَّا لَنَحْكِي قَوْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ.
فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ
بِالتَّعْطِيلِ. (وَ) غُلَاةُ (الرَّافِضَةِ) عَلَى اخْتِلَافِ
أَنْوَاعِهِمْ الْمُقَرَّرَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ (لَا يُصَلَّى
عَلَيْهِمْ) .
وَلَا تُتَّبَعُ جَنَائِزُهُمْ. (قَالَ) .
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: (أَهْلُ الْبِدَعِ) .
وَهُمْ: الِاثْنَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً (إنْ مَرِضُوا فَلَا
تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ)
لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ.
(1/852)
[فَصْلٌ إذَا شُرِعَ فِي غُسْلِهِ وَجَبَ
سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ]
(فَصْلٌ) (وَإِذَا أُخِذَ) ، أَيْ: شُرِعَ (فِي غُسْلِهِ؛ وَجَبَ سَتْرُ
مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ) ، قَالَهُ فِي " الْمُبْدِعِ "
وَغَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ:
«لَا تُبْرِزْ فَخِذَكَ، وَلَا تَنْظُرْ إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (فِي غَيْرِ مَنْ) سِنُّهُ (دُونَ سَبْعِ) سِنِينَ،
فَلَا بَأْسَ بِغُسْلِهِ مُجَرَّدًا. (وَسُنَّ تَجْرِيدُهُ) ، أَيْ:
الْمَيِّتِ (مِنْ ثِيَابِهِ) لِلْغُسْلِ.
لِأَنَّهُ أَمْكَنُ فِي تَغْسِيلِهِ، وَأَصْوَنُ لَهُ مِنْ التَّنْجِيسِ،
وَلِفِعْلِ الصَّحَابَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: " أَنُجَرِّدُ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ
لَا؟ " (إلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
فَإِنَّهُمْ " لَمَّا اخْتَلَفُوا: هَلْ يُجَرِّدُونَهُ أَوْ لَا؟ أَوْقَعَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلَّا
وَذَقَنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ
الْبَيْتِ، لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: أَنْ غَسِّلُوا رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ. فَقَامُوا إلَى
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَسَّلُوهُ
وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ. يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ،
وَيُدَلِّكُونَ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو
دَاوُد.
وَلِأَنَّ فَضَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّهَا
طَاهِرَةٌ.
فَلَمْ يُخْشَ تَنْجِيسُ قَمِيصِهِ.
(وَ) سُنَّ (سَتْرُهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ حَالَ الْغُسْلِ (عَنْ
الْعُيُونِ)
لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بِهِ عَيْبٌ يَسْتُرُهُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ
تَظْهَرُ عَوْرَتُهُ (تَحْتَ سِتْرٍ أَوْ سَقْفٍ) فِي خَيْمَةٍ أَوْ بَيْتٍ
إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ، وَلِئَلَّا يَسْتَقْبِلَ بِعَوْرَتِهِ
السَّمَاءَ.
(وَكُرِهَ حُضُورُ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فِي غُسْلِهِ) ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا
كَانَ بِالْمَيِّتِ مَا يُكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ، وَالْحَاجَةُ
غَيْرُ دَاعِيَةٍ إلَى حُضُورِهِ (غَيْرَ وَلِيٍّ) ، فَلَهُ
(1/853)
الدُّخُولُ عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ.
قَالَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ. (وَ) كُرِهَ (تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ)
نَصًّا وِفَاقًا. (وَ) كُرِهَ (نَظَرٌ) إلَى (بَقِيَّةِ بَدَنِهِ لِغَيْرِ
حَاجَةٍ، وَلَوْ غَاسِلًا) فَلَا يُنْظَرُ إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ،
(قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لِأَنَّ جَمِيعَهُ صَارَ عَوْرَةً) إكْرَامًا لَهُ،
(فَلِذَا شُرِعَ سَتْرُ جَمِيعِهِ) بِالْكَفَنِ. (انْتَهَى) .
قَالَ: فَيَحْرُمُ نَظَرُهُ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَهُ إلَّا مَنْ يُعِينُ فِي أَمْرِهِ، نَقَلَهُ
عَنْهُ فِي " الْمُبْدِعِ ". (ثُمَّ يَرْفَعُ) غَاسِلٌ (فِي أَوَّلِ غُسْلِ
رَأْسِ) مَيِّتٍ، (غَيْرِ حَامِلٍ إلَى قُرْبِ جُلُوسِهِ) ، بِحَيْثُ
يَكُونُ كَالْمُحْتَضَنِ فِي صَدْرِ غَيْرِهِ. (وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ
بِرِفْقٍ) لِيَخْرُجَ الْمُسْتَعِدُّ لِلْخُرُوجِ، لِئَلَّا يَخْرُجَ
بَعْدَ الْأَخْذِ فِي الْغُسْلِ، فَتَكْثُرُ النَّجَاسَةُ، (وَيَكُونُ
ثَمَّ) ، أَيْ: هُنَاكَ (بَخُورٌ) - بِوَزْنِ رَسُولٍ - دَفْعًا
لِلتَّأَذِّي بِرَائِحَةِ الْخَارِجِ، (وَيَكْثُرُ صَبُّ مَاءٍ حِينَئِذٍ)
، لِيَدْفَعَ مَا يَخْرُجُ بِالْعَصْرِ، وَالْحَامِلُ لَا يُعْصَرُ
بَطْنُهَا، لِئَلَّا يَتَأَذَّى الْوَلَدُ، وَلِحَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ
مَرْفُوعًا «إذَا تُوُفِّيَتْ الْمَرْأَةُ، فَأَرَادُوا غُسْلَهَا:
فَلْيُبْدَأْ بِبَطْنِهَا، فَلْتُمْسَحْ مَسْحًا رَفِيقًا إنْ لَمْ تَكُنْ
حُبْلَى. وَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى فَلَا تُحَرِّكْهَا» رَوَاهُ الْخَلَّالُ.
(ثُمَّ يَلُفُّ) الْغَاسِلُ (عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً خَشِنَةً، فَيُنْجِيهِ
بِهَا) أَيْ: الْخِرْقَةِ.
كَمَا تُسَنُّ بَدَاءَةُ الْحَيِّ بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ قَبْلَ
الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، (وَالْأَوْلَى لِكُلِّ فَرْجٍ خِرْقَةٌ) ؛
لِأَنَّ كُلَّ خِرْقَةٍ خَرَجَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ، لَا
يُعْتَدُّ بِهَا إلَّا أَنْ تُغْسَلَ.
(وَيَجِبُ غُسْلُ نَجَاسَةٍ بِهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ بِغُسْلِهِ تَطْهِيرُهُ حَسَبَ الْإِمْكَانِ، وَظَاهِرُهُ:
وَلَوْ بِالْمُخْرَجِ، فَلَا يُجْزِئُ فِيهَا الِاسْتِجْمَارُ. (وَ) يَجِبُ
(أَنْ لَا يَمَسَّ عَوْرَةُ مَنْ بَلَغَ سَبْعًا) مِنْ السِّنِينَ، لِأَنَّ
الْمَسَّ أَعْظَمُ مِنْ النَّظَرِ.
كَحَالِ الْحَيَاةِ.
وَرُوِيَ " أَنَّ عَلِيًّا حِينَ غَسَّلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفَّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً حِينَ غَسَلَ فَرْجَهُ "
(1/854)
ذَكَرَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ.
(وَإِنْ) كَانَ (مَحْرَمًا) مِنْ الْمَيِّتِ.
كَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّطْهِيرَ يُمْكِنُ بِدُونِ مَسٍّ
وَلَا نَظَرٍ. (وَسُنَّ أَنْ لَا يُمَسَّ) الْغَاسِلُ (سَائِرُهُ) ، أَيْ:
بَاقِي بَدَنِ الْمَيِّتِ (إلَّا بِخِرْقَةٍ) ، لِفِعْلِ عَلِيٍّ مَعَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحِينَئِذٍ يَعُدُّ
الْغَاسِلُ ثَلَاثَ خِرَقٍ: خِرْقَتَيْنِ لِلسَّبِيلَيْنِ، وَخِرْقَةٍ
لِبَقِيَّةِ بَدَنِهِ، (ثُمَّ يَنْوِي) الْغَاسِلُ (غُسْلَهُ) فَقَطْ،
أَيْ: دُونَ رَفْعِ الْحَدَثِ عَنْهُ، أَوْ رَفْعِ حَدَثِ الْمَوْتِ؛
لِأَنَّ غُسْلَهُ تَعَبُّدِيٌّ، فَإِنْ عَلِمَ الْغَاسِلُ بِجَنَابَةٍ أَوْ
نَحْوِهَا: نَوَاهُمَا جَمِيعًا، (وَيُسَمِّي) وُجُوبًا، وَتَسْقُطُ
سَهْوًا كَغُسْلِ الْحَيِّ. (وَسُنَّ أَنْ يُدْخِلَ) الْغَاسِلُ بَعْدَ
غُسْلِ كَفَّيْ الْمَيِّتِ نَصًّا ثَلَاثًا (إبْهَامَهُ وَسَبَّابَتَهُ،
عَلَيْهِمَا خِرْقَةٌ مَبْلُولَةٌ بِمَا بَيْنَ شَفَتَيْهِ) ، أَيْ:
الْمَيِّتِ (فَيَمْسَحُ) بِهَا (أَسْنَانَهُ، وَ) يُدْخِلُهُمَا (فِي
مَنْخِرَيْهِ فَيُنَظِّفُهُمَا) ، فَيَقُومُ مَقَامَ الْمَضْمَضَةِ
وَالِاسْتِنْشَاقِ، لِحَدِيثِ «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ
مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، (ثُمَّ يُوَضِّئُهُ) اسْتِحْبَابًا كَامِلًا،
لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ مَرْفُوعًا فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ: «ابْدَأْنَ
بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
وَكَغُسْلِ الْجَنَابَةِ. (وَلَا يُدْخِلُ) غَاسِلٌ (مَاءً فِي أَنْفِهِ
وَ) لَا (فَمِهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ خَشْيَةَ تَحْرِيكِ النَّجَاسَةِ
بِدُخُولِ الْمَاءِ إلَى جَوْفِهِ، (ثُمَّ يُضْرَبُ نَدْبًا نَحْوَ سِدْرٍ)
، كَخِطْمِيٍّ، (فَيُغْسَلُ بِرَغْوَتِهِ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ فَقَطْ،
فِي كُلِّ غَسْلَةٍ) ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَلِهَذَا
جُعِلَ كَشْفُهُ شِعَارَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ
الشَّرِيفَةِ.
وَالرَّغْوَةُ تُزِيلُ الدَّرَنَ.
وَلَا تَتَعَلَّقُ بِالشَّعْرِ، فَنَاسَبَ أَنْ تُغْسَلَ بِهَا
اللِّحْيَةُ، لِتَزُولَ الرَّغْوَةُ بِمُجَرَّدِ جَرْيِ الْمَاءِ
عَلَيْهَا، بِخِلَافِ تَفْلِ السِّدْرِ، (ثُمَّ يُغْسَلُ بِمَاءٍ بَارِدٍ،
فَيُكْرَهُ) مَاءٌ (حَارٌّ) ؛ لِأَنَّهُ يُرْخِي الْجَسَدَ، فَيُسْرِعُ
الْفَسَادُ إلَيْهِ، وَالْمَاءُ الْبَارِدُ يُصْلِبُهُ، وَيُبْعِدُهُ عَنْ
الْفَسَادِ. (شِقَّهُ الْأَيْمَنَ بِتَفْلِ) السِّدْرِ (مِنْ
(1/855)
رَأْسِهِ لِرِجْلِهِ) ، يُبْدَأُ
بِصَفْحَةِ عُنُقِهِ إلَى الرِّجْلِ، (ثُمَّ) يُغْسَلُ شِقَّهُ
(الْأَيْسَرَ كَذَلِكَ) ، لِحَدِيثِ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا»
وَكَغُسْلِ الْحَيِّ، وَلَا يَكُبُّهُ عَلَى وَجْهِهِ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ
إلَيْهِ، فَيُغْسَلُ ظَهْرُهُ وَوَرِكُهُ، وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ، (ثُمَّ
يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ) لِيَعُمَّهُ الْغُسْلُ،
(وَيُثَلِّثُ ذَلِكَ) ، أَيْ: يُكَرِّرُهُ ثَلَاثًا (نَدْبًا) كَغُسْلِ
الْحَيِّ، (فَيُكْرَهُ اقْتِصَارٌ فِي غُسْلٍ عَلَى مَرَّةٍ) ، «لِقَوْلِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي غَسَّلْنَ
ابْنَتَهُ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا، إنْ
رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» ، (وَلَا يُعَادُ وُضُوءٌ لِكُلِّ
مَرَّةٍ) ، إنْ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ، (يُمِرُّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَدَهُ
عَلَى بَطْنِهِ) بِرِفْقٍ إخْرَاجًا لِمَا تَخَلَّفَ، وَأَمْنًا مِنْ
فَسَادِ الْغُسْلِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدُ، (وَلَا يَجِبُ فِعْلُ
ذَلِكَ) ، أَيْ: مُبَاشَرَةُ الْغُسْلِ كَالْحَيِّ، (فَلَوْ تُرِكَ)
الْمَيِّتُ (تَحْتَ نَحْوِ مِيزَابٍ، وَحَضَرَ أَهْلٌ) يَصْلُحُ
(لِغُسْلِهِ) وَهُوَ: الْمُسْلِمُ الْمُمَيِّزُ، (وَنَوَى) غُسْلَهُ
وَسَمَّى، (وَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ غُسْلُهُ فِيهِ) ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ
عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْمَاءَ عَمَّهُ؛ (كَفَى) فِي أَدَاءِ فَرْضِ
الْغُسْلِ. (فَإِنْ لَمْ يُنَقَّ) الْمَيِّتُ (بِثَلَاثِ) غَسَلَاتٍ؛
(زَادَ إلَى سَبْعِ) غَسَلَاتٍ، (فَإِنْ لَمْ يُنَقَّ) بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ،
(فَالْأَوْلَى غَسْلُهُ حَتَّى يُنَقَّى) ، لِلْخَبَرِ، وَتَقَدَّمَ (مِنْ
غَيْرِ إعَادَةِ وُضُوءٍ) ، فَإِنَّهُ فِي الْأُولَى خَاصَّةً، (وَإِنْ
خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ) مِنْ السَّبِيلَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا (بَعْدَ
الثَّلَاثِ؛ أُعِيدَ وُضُوءُهُ) وُجُوبًا، قَالَ فِي " الْمُبْدِعِ "
وَتَبِعَهُ فِي " شَرْحِ الْمُنْتَهَى ": لِتَكُونَ طَهَارَتُهُ كَامِلَةً.
(وَوَجَبَ غُسْلُهُ كُلَّمَا خَرَجَ) مِنْهُ شَيْءٌ (إلَى سَبْعٍ) لِمَا
سَبَقَ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا كَرَّرَ الْأَمْرَ بِغُسْلِهَا مِنْ
أَجْلِ تَوَقُّعِ النَّجَاسَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ غُسْلِ
الْمَيِّتِ أَنْ يَكُونَ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ الطَّهَارَةَ الْكَامِلَةَ،
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْتَ جَرَى مَجْرَى زَوَالِ الْعَقْلِ.
(وَيَتَّجِهُ) بِ (احْتِمَالٍ) قَوِيٍّ وُجُوبُ إعَادَةِ غُسْلِهِ، (وَلَوْ
خَرَجَ)
(1/856)
شَيْءٌ (مِنْ غَيْرِ سَبِيلٍ) ، إذْ لَا
فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَهَا) ، أَيْ:
السَّبْعِ شَيْءٌ؛ (حُشِيَ) مَحَلُّ الْخُرُوجِ (بِقُطْنٍ) أَوْ مُلْجَمٍ
بِهِ.
كَمَا تَفْعَلُ الْمُسْتَحَاضَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا، (فَإِنْ لَمْ
يَسْتَمْسِكْ) بِالْحَشْوِ بِقُطْنٍ وَنَحْوِهِ؛ (فَ) يُحْشَى (بِطِينٍ
حَرٍّ) خَالِصٍ، يَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ تَمْسِكُ الْمَحَلِّ لِيَمْنَعَ
الْخَارِجَ، (ثُمَّ يَغْسِلُ الْمَحَلَّ) الْمُتَنَجِّسَ بِالْخَارِجِ
وُجُوبًا، (وَيُوَضَّأُ وُجُوبًا) ، كَجُنُبٍ أَحْدَثَ بَعْدَ غُسْلِهِ،
(وَلَا غُسْلَ) بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ. (وَإِنْ خِيفَ
خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مَنَافِذِ وَجْهِهِ) كَفَمِهِ وَأَنْفِهِ وَأُذُنِهِ؛
(فَلَا بَأْسَ أَنْ تُحْشَى بِقُطْنٍ) وَنَحْوِهِ، (وَإِنْ خَرَجَ) مِنْهُ
(شَيْءٌ) قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ (بَعْدَ تَكْفِينِهِ وَلَفِّهِ؛ لَمْ يُعَدْ
وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ مُطْلَقًا) ، أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّابِعَةِ
أَوْ قَبْلَهَا، قَلِيلًا كَانَ الْخَارِجُ أَوْ كَثِيرًا، دَفْعًا
لِلْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهِ وَإِعَادَةِ غُسْلِهِ،
وَتَطْهِيرِ اللِّفَافَةِ وَتَجْفِيفِهَا أَوْ إبْدَالِهَا، فَيَتَأَخَّرُ
دَفْنُهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، ثُمَّ لَا يُؤْمَنُ مِثْلٌ
بَعَدِهِ، وَإِنْ وُضِعَ عَلَى الْكَفَنِ، وَلَمْ يُلَفَّ، ثُمَّ خَرَجَ
مِنْهُ شَيْءٌ؛ أُعِيدَ غُسْلُهُ، قَالَهُ ابْنُ تَمِيمٍ
(وَسُنَّ قَطْعُ) عَدَدِ غَسَلَاتِهِ (عَلَى وِتْرٍ) ، لِحَدِيثِ
«اغْسِلْنَهَا وِتْرًا» ، (وَ) سُنَّ (جَعْلُ كَافُورٍ وَسِدْرٍ فِي
غَسْلَةٍ أَخِيرَةٍ) نَصًّا؛ لِأَنَّ الْكَافُورَ يَصْلُبُ الْجَسَدَ،
وَيُبَرِّدُهُ وَتَطْرُدُ رَائِحَتُهُ الْهَوَامَّ، وَلِحَدِيثِ «اجْعَلْنَ
فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لَا إنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْرِمًا، فَيُجَنَّبُ الْكَافُورُ؛ لِأَنَّهُ
مِنْ الطِّيبِ.
(1/857)
(وَ) سُنَّ (خِضَابُ لِحْيَةِ رَجُلٍ
وَرَأْسِ امْرَأَةٍ بِحِنَّاءٍ وَقَصُّ شَارِبِ غَيْرِ مُحْرِمٍ،
وَتَقْلِيمُ أَظْفَارِهِ إنْ طَالَا) ، أَيْ: الشَّارِبُ وَالْأَظْفَارُ
(وَأَخْذُ شَعْرِ إبِطَيْهِ) نَصًّا؛ لِأَنَّهُ تَنْظِيفٌ لَا يَتَعَلَّقُ
بِقَطْعِ عُضْوٍ، أَشْبَهَ إزَالَةَ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ، وَيُعَضِّدُهُ
عُمُومَاتُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ. (وَجَعَلَهُ) ، أَيْ: الْمَأْخُوذَ مِنْ
شَعْرٍ وَظُفْرٍ (مَعَهُ) - أَيْ: الْمَيِّتِ - فِي كَفَنِهِ بَعْدَ
إعَادَةِ غُسْلِهِ (نَدْبًا كَعُضْوٍ أَصْلِيٍّ سَقَطَ) ، لِمَا رَوَى
أَحْمَدُ فِي مَسَائِلِ صَالِحٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: " تُغْسَلُ
رَأْسُ الْمَيِّتَةِ؛ فَمَا سَقَطَ مِنْ شَعْرِهَا فِي أَيْدِيهِمْ
غَسَلُوهُ؛ ثُمَّ رَدُّوهُ فِي رَأْسِهَا "؛ وَلِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
دَفْنُ ذَلِكَ مِنْ الْحَيِّ، فَالْمَيِّتُ أَوْلَى، وَتُلَفَّقُ
أَعْضَاؤُهُ إنْ قُطِعَتْ بِالتَّغْمِيطِ وَالطِّينِ الْحُرِّ حَتَّى لَا
يَتَبَيَّنَ تَشْوِيهُهُ، وَمَا فُقِدَ مِنْهَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ شَكْلٌ
مِنْ طِينٍ وَلَا غَيْرِهِ.
(وَحَرُمَ حَلْقُ رَأْسِ) مَيِّتٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ لِنُسُكٍ
أَوْ زِينَةٍ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مَحَلًّا لَهُمَا. (وَ) حَرُمَ (أَخْذُ)
شَعْرِ (عَانَةٍ) ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَسِّ الْعَوْرَةِ وَنَظَرِهَا،
وَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَلَا يُرْتَكَبُ لِمَنْدُوبٍ. (كَ) مَا يَحْرُمُ
(خَتْنُ) مَيِّتٍ أَقْلَفَ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ بَعْضِ عُضْوٍ مِنْهُ، وَقَدْ
زَالَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ. (وَكُرِهَ خِلَالٌ) إنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ
لِشَيْءٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، (وَ) كُرِهَ (إشْنَانٌ إنْ
لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ) لِوَسَخٍ كَثِيرٍ بِهِ، لِمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ
اُحْتِيجَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُكْرَهْ، وَيَكُونُ الْخِلَالُ إذَنْ
مِنْ شَجَرَةٍ لَيِّنَةٍ كَالصَّفْصَافِ.
(وَ) كُرِهَ (تَسْرِيحُ شَعْرِهِ) - أَيْ: الْمَيِّتِ - رَأْسًا كَانَ أَوْ
لِحْيَةً، نَصًّا؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ،
وَعَنْ عَائِشَةَ " أَنَّهَا مَرَّتْ بِقَوْمٍ يُسَرِّحُونَ شَعْرَ مَيِّتٍ
فَنَهَتْهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ؟ "
أَيْ: تُسَرِّحُونَهُ. (وَسُنَّ أَنْ يُظَفَّرَ، شَعْرُ أُنْثَى ثَلَاثَةَ
قُرُونٍ وَسَدْلُهُ) ، أَيْ: إلْقَاؤُهُ (وَرَاءَهَا) نَصًّا، لِقَوْلِ
أُمِّ عَطِيَّةَ: " فَظَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ،
وَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(1/858)
(وَ) سُنَّ (تَنْشِيفُ) مَيِّتٍ بِثَوْبٍ.
كَمَا فُعِلَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِئَلَّا
يَبْتَلَّ كَفَنُهُ فَيَفْسُدَ.
وَلَا يُنَجِّسُ مَا نُشِّفَ بِهِ.
(وَقِيلَ لِ) الْإِمَامِ (أَحْمَدَ: الْعَرُوسُ تَمُوتُ فَتُجْلَى،
فَأَنْكَرَهُ شَدِيدًا) ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ تُهَيِّجُ
الْمُصِيبَةِ. (وَلَا بَأْسَ بِغُسْلِهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (فِي
حَمَّامٍ) نَصًّا كَحَيٍّ
(وَ) لَا بَأْسَ بِ (مُخَاطَبَةِ غَاسِلٍ لَهُ حَالَ غُسْلِهِ بِنَحْوِ:
انْقَلِبْ يَرْحَمْكَ اللَّهُ) ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ لَمَّا لَمْ يَجِدْ
مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَجِدُهُ مِنْ سَائِرِ
الْمَوْتَى: " يَا رَسُولَ اللَّهِ طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا " وَقَوْلِ
الْفَضْلِ وَهُوَ مُحْتَضِنُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "
أَرْضِي أَرْضِي، فَقَدْ قَطَعْت وَتِينِي، إنِّي أَجِدُ شَيْئًا يَنْزِلُ
عَلَيَّ " وَالْوَتِينُ: عِرْقٌ فِي الْقَلْبِ إذَا انْقَطَعَ مَاتَ
صَاحِبُهُ.
(وَمُحْرِمٌ) بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (مَيِّتٌ كَ) مُحْرِمٍ (حَيٍّ) فِيمَا
يُمْنَعُ مِنْهُ، (يُغَسَّلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ لَا طِيبَ فِيهِ) وَلَا
كَافُورَ، (وَلَا يَلْبَسُ ذَكَرٌ الْمِخْيَطَ) نَحْوَ قَمِيصٍ، (وَلَا
يُغَطَّى رَأْسُهُ) ، أَيْ: الْمُحْرِمِ، (وَلَا) يُغَطَّى (وَجْهُ
أُنْثَى) مُحْرِمَةٍ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا ظُفْرِهِ،
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فِي مُحْرِمٍ مَاتَ: «اغْسِلُوهُ
بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا
تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (وَلَا فِدْيَةَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِهِ) .
أَيْ: الْمَيِّتِ الْمُحْرِمِ، كَتَطْيِيبِهِ وَإِلْبَاسِهِ الْمِخْيَطَ
وَنَحْوَهُ، (وَلَا تُمْنَعُ مُعْتَدَّةٌ) مَاتَتْ غَيْرَ مُحْرِمَةٍ (مِنْ
طِيبٍ) ، لِسُقُوطِ الْإِحْدَادِ بِمَوْتِهَا.
(وَتُزَالُ اللَّصُوقُ) بِفَتْحِ اللَّام - أَيْ: مَا يُلْصَقُ عَلَى
الْبَدَنِ، يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ لِيَصِلَ إلَى الْبَشَرَةِ
كَالْحَيِّ. (وَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (شَيْءٌ)
بِإِزَالَةِ لَصُوقٍ، (بَقِيَتْ وَمُسِحَ عَلَيْهَا) كَجَبِيرَةِ حَيٍّ.
(وَيُزَالُ نَحْوُ خَاتَمٍ) كَسِوَارٍ وَحَلْقَةٍ (وَلَوْ بِبُرْدِهِ) ،
لِأَنَّ تَرْكَهُ مَعَهُ إضَاعَةُ مَالٍ بِلَا مَصْلَحَةٍ، وَ (لَا)
يُزَالُ (أَنْفٌ مِنْ ذَهَبٍ) .
لِمَا فِيهِ مِنْ
(1/859)
الْمُثْلَةِ، (وَيُحَطُّ ثَمَنُهُ، إنْ
لَمْ يُؤْخَذْ) ، أَيْ: إنْ لَمْ يَكُنْ بَائِعُهُ أَخَذَهُ مِنْ
الْمَيِّتِ (مِنْ تَرِكَتِهِ) كَسَائِرِ دُيُونِهِ، (فَإِنْ عُدِمَتْ)
تَرِكَةُ الْمَيِّتِ (أُخِذَ) الْأَنْفُ (إذَا بُلِيَ مَيِّتٌ) ، لِعَدَمِ
الْمَانِعِ إذَنْ.
[فَرْعٌ فَرْضُ الْكِفَايَةِ]
(فَرْعٌ: فَرْضُ الْكِفَايَةِ) مِنْ حَيْثُ هُوَ مُهِمٌّ يُقْصَدُ مِنْ
قِبَلِ الشَّرْعِ، حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ بِالذَّاتِ إلَى
فَاعِلِهِ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ فَرْضُ الْعَيْنِ، وَسُنَّةُ الْعَيْنِ،
وَيَدْخُلُ نَحْوُ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَفَرْضُ الْكِفَايَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ، (إذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ) مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ،
(سَقَطَ) الطَّلَبُ الْجَازِمُ عَنْ الْجَمِيعِ، فَلَا يُطْلَبُ بَعْدَ
ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ فِعْلُهُ، (فَإِنْ فَعَلَهُ جَمْعٌ) مِنْ النَّاسِ
(مَعًا؛ كَانَ كُلُّهُ فَرْضًا) ، أَيْ: أُثِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
عَلَى فِعْلِهِ ثَوَابَ الْفَرْضِ، لِعَدَمِ مَا يَقْتَضِي تَمْيِيزَ
بَعْضِهِمْ، (وَذَكَرَهُ) عَلِيُّ (بْنُ عَقِيلٍ مَحَلَّ وِفَاقٍ) مِمَّنْ
يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ،، (وَفِي فِعْلِ بَعْضٍ) لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ
(بَعْدَ بَعْضٍ وَجْهَانِ) : أَصَحُّهُمَا: أَنَّ فَاعِلَهُ الْأَوَّلَ
قَامَ بِالْفَرْضِيَّةِ، وَأُثِيبَ عَلَيْهَا، وَمَنْ فَعَلَهُ بَعْدَهُ،
وَقَعَ مِنْهُ نَفْلًا، وَأُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ النَّفْلِ.
(1/860)
[فَصْلٌ الشَّهِيدُ يَجِبُ بَقَاءُ دَمِهِ
عَلَيْهِ]
ِ) لِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَفْنِ شُهَدَاءِ
أُحُدٍ بِدِمَائِهِمْ. (فَإِنْ خَالَطَتْهُ) ، أَيْ: دَمَ الشَّهِيدِ
(نَجَاسَةٌ؛ غُسِلَ) الدَّمُ (مَعَهَا) - أَيْ: النَّجَاسَةِ - لِأَنَّ
دَرْءَ الْمَفَاسِدِ، وَمِنْهُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ، مُقَدَّمٌ عَلَى
جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَمِنْهُ إبْقَاءُ دَمِ الشَّهِيدِ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ.
(وَ) يَجِبُ (دَفْنُهُ) ، أَيْ: الشَّهِيدِ (بِثِيَابِهِ الَّتِي قُتِلَ
فِيهَا) فَقَطْ، وَظَاهِرُهُ: (وَلَوْ) كَانَتْ (حَرِيرًا) ، قَالَ فِي "
الْمُبْدِعِ ": وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ. (وَيَتَّجِهُ) : لَا بَأْسَ
بِدَفْنِهِ فِي الثِّيَابِ الْحَرِيرِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، (إنْ كَانَ
لُبْسُهُ) إيَّاهَا (فِي حَالٍ يُبَاحُ) كَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ
وَنَحْوِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (بَعْدَ نَزْعٍ لَأْمَةِ حَرْبٍ، وَنَحْوِ
فَرْوٍ وَخُفٍّ) نَصًّا، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «أُمِرَ
بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ
يُدْفَنُوا بِثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ
مَاجَهْ.
فَإِنْ سُلِبَ ثِيَابُهُ؛ كُفِّنَ فِي غَيْرِهَا.
(1/861)
(وَيَتَّجِهُ) : نَزْعُ مَا عَلَى
الشَّهِيدِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْفَرْوَ وَالْجُلُودِ (وُجُوبًا) ؛
لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَا يُزَادُ فِي ثِيَابِهِ) ، أَيْ: الشَّهِيدِ
(وَلَا يُنْقَصُ) مِنْهَا (وَلَوْ لَمْ يَحْصُلُ الْمَسْنُونُ) بِهَا
لِنَقْصِهَا أَوْ زِيَادَتِهَا، (فَإِنْ كَانَ) الشَّهِيدُ (قَدْ
سَلَبَهَا) أَيْ: الثِّيَابَ (دُفِنَ) بَعْدَ تَكْفِينِهِ (بِغَيْرِهَا)
بِلَا خِلَافٍ. (وَيَتَّجِهُ) : تَكْفِينُهُ بِغَيْرِهَا (نَدْبًا،
وَسِتْرُ عَوْرَتِهِ وُجُوبًا) قَالَ فِي " الْإِقْنَاعِ " وَشَرْحِهِ:
كُفِّنَ بِغَيْرِهَا وُجُوبًا كَغَيْرِهِ.
انْتَهَى.
وَهُوَ أَظْهَرُ كَمَا لَا يَخْفَى.
(وَإِنْ سَقَطَ) حَاضِرُ صَفِّ الْقِتَالِ (مِنْ شَاهِقٍ) ، أَيْ: مَكَان
مُرْتَفَعٍ كَجَبَلٍ وَنَحْوِهِ، (أَوْ) سَقَطَ مِنْ (دَابَّةٍ لَا
بِفِعْلِ عَدُوٍّ) ، فَمَاتَ (أَوْ مَاتَ بِرَفْسَةِ) دَابَّةٍ، (أَوْ)
مَاتَ (حَتْفَ أَنْفِهِ) ، أَيْ: لَا بِفِعْلِ أَحَدٍ، (أَوْ وُجِدَ
مَيِّتًا، وَلَا أَثَرَ) قَتْلٍ (بِهِ) ، فَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرٌ؛ لَمْ
يُغَسَّلْ، (أَوْ عَادَ سِلَاحُهُ عَلَيْهِ) فَقُتِلَ، فَكَغَيْرِهِ
يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ نَصًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِفِعْلِ
الْعَدُوِّ مُبَاشَرَةً، وَلَا تَسَبُّبًا، أَشْبَهَ مَنْ مَاتَ مَرِيضًا،
وَالْأَصْلُ وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، فَلَا يَسْقُطُ
(1/862)
بِالشَّكِّ فِي مَسْقَطِهِ. (أَوْ حُمِلَ)
بَعْدَ جُرْحِهِ (فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَامَ أَوْ بَالَ أَوْ
تَكَلَّمَ أَوْ عَطَسَ أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفًا؛ فَ) هُوَ (كَغَيْرِهِ
مِنْ وُجُوبِ غُسْلٍ وَتَكْفِينٍ وَصَلَاةٍ) عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا
يَكُونُ إلَّا مِنْ ذِي حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وَالْأَصْلُ وُجُوبُ
الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ: وَظَاهِرُهُ: أَنْ
تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ بَعْدَ حَمْلِهِ، فَأَمَّا إنْ أَكَلَ أَوْ
شَرِبَ بَعْدَ جُرْحِهِ، وَهُوَ فِي الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ مَاتَ فِيهَا،
فَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ، فَلَا
يُغَسَّلُ، إلَّا أَنْ يَطُولَ مُكْثُهُ فِيهَا؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ
يُغَسَّلَ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ أَقَامَ فِيهَا إلَى
اللَّيْلِ، أَيْ: فَحُكْمُهُ (كَشَهِيدٍ مَطْعُونٍ وَمَبْطُونٍ وَغَرِيقٍ
وَشَرِيقٍ وَحَرِيقٍ وَصَاحِبِ هَدْمٍ وَذَاتِ الْجَنْبِ وَالسُّلِّ)
بِضَمِّ السِّين وَكَسْرِهَا (وَاللَّقْوَةِ) : دَاءٌ فِي الْوَجْهِ
(وَصَابِرٍ بِطَاعُونٍ، وَمُتَرَدٍّ بِشَاهِقٍ) لَا بِفِعْلِ كُفَّارٍ
(وَدَابَّةٍ وَمَيِّتٍ بِسَبِيلِ اللَّهِ، وَمُرَابِطٍ وَطَالِبِ شَهَادَةٍ
بِصِدْقِ نِيَّةٍ، وَمَجْنُونٍ وَنُفَسَاءَ وَلَدِيغٍ وَفَرِيسِ سَبُعٍ) ،
وَمَنْ بَاتَ عَلَى طَهَارَةٍ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ. (وَيَتَّجِهُ:
وَطَالِبُ عِلْمٍ) مُعَلِّمًا كَانَ أَوْ مُتَعَلِّمًا؛ لِأَنَّ
الْعُلَمَاءَ أُمَنَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ.
(وَمِنْ أَغْرَبِهَا) ، أَيْ: الشَّهَادَةِ: (مَوْتُ غَرِيبٍ) ، لِمَا
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَالدَّارَقُطْنِيّ،
وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَوْتُ الْغَرِيبِ
شَهَادَةٌ» : (وَأَغْرَبُ مِنْهُ) مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ
الْمُنَجَّا وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: (عَاشِقُ عَفٍّ وَكَتْمٍ) أَشَارَ
إلَى الْخَبَرِ الْمَرْفُوعِ: «مَنْ عَشِقَ وَعَفَّ وَكَتَمَ فَمَاتَ،
مَاتَ شَهِيدًا» ، وَهَذَا الْخَبَرُ مَذْكُورٌ فِي تَرْجَمَةِ سُوَيْد
بْنِ سَعِيدٍ فِيمَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ. قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ
وَالْبَيْهَقِيُّ.
(وَيَتَّجِهُ) : أَنَّ كِتْمَانَ الْعَاشِقِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُطَالِبِ
الْمُفْضِيَةِ إلَى بُلُوغِ الْمَأْرَبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا
أَذَاعَ سِرَّهُ كَثُرَتْ عُذَّالُهُ، وَبَاءَ بِالْحِرْمَانِ،
(1/863)
فَيَنْبَغِي لِمَنْ اُبْتُلِيَ بِهَذِهِ
الْحَالِ أَنْ يَتَدَرَّعَ مِنْ الصَّبْرِ جِلْبَابًا، وَيَلْبَسَ مِنْ
الْعِفَّةِ وَالْكِتْمَانِ ثِيَابًا، وَيَكُونَ عِشْقُهُ لِلَّهِ، لَا
يَشُوبَهُ بِشَهْوَةٍ حَيَوَانِيَّةٍ.
وَ (لَا) يَلْزَمُ كِتْمَانُهُ (عَنْ مَعْشُوقِهِ) لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ
بِالذَّاتِ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَلَا يَخْلُو مَعَهُ، لِئَلَّا
يَتَلَاعَبَ بِهِ الشَّيْطَانُ فَيُوقِعَهُ فِي غَضَبِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ
اتِّجَاهٌ جَيِّدٌ.
(وَسَقَطَ) - بِتَثْلِيثِ السِّينِ - (لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فَأَكْثَرَ
(كَمَوْلُودٍ حَيًّا) ، يُغَسَّلُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ نَصًّا، لِحَدِيثِ
الْمُغِيرَةِ مَرْفُوعًا «وَالسَّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: «وَالطِّفْلُ
يُصَلَّى عَلَيْهِ» وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَذَكَرُهُ أَحْمَدُ
وَاحْتَجَّ بِهِ
؛ وَلِأَنَّهُ نَسَمَةٌ نُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ وَ (لَا) يُغَسَّلُ، وَلَا
يُصَلَّى عَلَيْهِ لَوْ سَقَطَ (قَبْلَهَا) ، أَيْ: الْأَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ، (وَلَوْ بَانَ فِيهِ خَلْقُ إنْسَانٍ) إذْ الْمُعْتَبَرُ نَفْخُ
الرُّوحِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ. (وَسُنَّ تَسْمِيَتُهُ) ،
أَيْ: الطِّفْلِ (وَإِنْ) وُلِدَ (لِدُونِ ذَلِكَ) ، أَيْ: الْأَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ
أَحْمَدَ، فَيُسَمَّى لِيُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاسْمِهِ. (وَمَعَ
جَهْلِ ذُكُورَةٍ وَأُنُوثَةٍ يُسَمَّى بِصَالِحٍ
(1/864)
لَهُمَا كَطَلْحَةَ وَهِبَةِ اللَّهِ) .
قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ. (وَسَقَطَ مِنْ كَافِرَيْنِ حُكِمَ
بِإِسْلَامِهِ) بِأَنْ مَاتَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ بِدَارِنَا، (كَمُسْلِمٍ)
يُغَسَّلُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا وُلِدَ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
فَأَكْثَرَ.
وَإِلَّا فَلَا.
وَيُصَلَّى عَلَى طِفْلٍ مِنْ كَافِرَيْنِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِمَوْتِ
أَحَدِ أَبَوَيْهِ بِدَارِنَا.
أَوْ سَبْيِهِ مُنْفَرِدًا عَنْهُمَا، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا.
وَكَذَا مَجْنُونٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا سَبَقَ.
(وَعَلَى غَاسِلٍ سَتْرُ شَرٍّ) رَآهُ؛ لِأَنَّ فِي إظْهَارِهِ إذَاعَةً
لِلْفَاحِشَةِ، وَفِي الْخَبَرِ مَرْفُوعًا: «لِيُغَسِّلْ مَوْتَاكُمْ
الْمَأْمُونُونَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا، وَأَدَّى فِيهِ
الْأَمَانَةَ، وَلَمْ يُفْشِ عَيْبَهُ؛ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ
وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ
الْجُعْفِيِّ. (كَطَبِيبٍ فِي سَتْرِ عَيْبٍ) رَآهُ بِجَسَدٍ مَطْبُوبٍ،
فَيَجِبُ عَلَيْهِ سَتْرُهُ.
فَلَا يُحَدِّثُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِيهِ، وَمِثْلُهُ الْجَرَائِحِيُّ.
(وَسُنَّ) لِلْغَاسِلِ (إظْهَارُ خَيْرٍ) رَآهُ مِنْ الْمَيِّتِ
لِيُتَرَحَّمَ عَلَيْهِ (قَالَ جَمْعٌ مُحَقِّقُونَ: إلَّا عَلَى مَشْهُورٍ
بِبِدْعَةٍ أَوْ فُجُورٍ وَنَحْوِهِ) .
كَكَذِبٍ، (فَيُسَنُّ إظْهَارُ شَرِّهِ وَسَتْرُ خَيْرِهِ) لِيَرْتَدِعَ
نَظِيرُهُ. (وَنَرْجُو لِلْمُحْسِنِ، وَنَخَافُ عَلَى الْمُسِيءِ وَلَا
نَشْهَدُ) بِجَنَّةٍ أَوْ نَارٍ (إلَّا لِمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَالْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ
بِالْجَنَّةِ، وَكَحَاتِمٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ ذُكِرَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ فِي النَّارِ. (قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ
الدِّينِ: (أَوْ تَتَّفِقُ الْأُمَّةِ عَلَى الثَّنَاءِ) عَلَيْهِ:
كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، (أَوْ) تَتَّفِقُ الْأُمَّةِ عَلَى
(الْإِسَاءَةِ عَلَيْهِ) كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، وَالْجَعْدِ بْنِ
دِرْهَمٍ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَلَعَلَّ مُرَادَهُ الْأَكْثَرُ، وَأَنَّهُ
الْأَكْثَرُ دِيَانَةً، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ أَفْعَالُ
الْمَيِّتِ مُوَافِقَةً لِقَوْلِهِمْ.
وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ عَلَامَةً مُسْتَقِلَّةً.
انْتَهَى.
(1/865)
وَمَنْ جُهِلَ إسْلَامُهُ، وَوُجِدَ
عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ؛ وَجَبَ غُسْلُهُ وَالصَّلَاةُ
عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَقْلَفَ بِدَارِنَا لَا بِدَارِ حَرْبٍ.
وَلَا عَلَامَةَ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ.
وَنَقَلَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ يُسْتَدَلُّ بِثِيَابٍ وَخِتَانٍ.
[فَرْعٌ سُوءُ الظَّنِّ بِمُسْلِمٍ ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ]
(فَرْعٌ: يَحْرُمُ سُوءُ) الـ (ظَّنِّ) بِاَللَّهِ تَعَالَى وَ (بِمُسْلِمٍ
ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ) ، قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. (وَيُسْتَحَبُّ
ظَنُّ الْخَيْرِ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ) وَيَجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ
بِاَللَّهِ تَعَالَى، (وَحُسْنُ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ حَسَنٌ) .
وَلَا يَنْبَغِي تَحْقِيقُ ظَنِّهِ بِرِيبَةٍ. (وَلَا حَرَجَ بِظَنِّ
السُّوءِ لِمَنْ ظَاهِرُهُ الشَّرُّ) . وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -
«إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» - مَحْمُولٌ
عَلَى الظَّنِّ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَمْ يُعَضِّدْهُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ
عَلَى صِدْقِهِ.
وَحَدِيثُ «احْتَرِسُوا مِنْ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ» ، الْمُرَادُ بِهِ
الِاحْتِرَاسُ فِي حِفْظِ الْمَالِ، كَغَلْقِ الْبَابِ خَوْفَ السُّرَّاقِ،
هَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْقَاضِي.
[فَصْلٌ تَكْفِينُ مَنْ يُغَسِّلُ]
(فَصْلٌ) (وَتَكْفِينُ مَنْ فَرْضُ كِفَايَةٍ) عَلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ.
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَكَفِّنُوهُ فِي
ثَوْبَيْهِ» (وَيَجِبُ لِحَقِّهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (وَحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ثَوْبٌ) وَاحِدٌ (لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ
يَسْتُرُ جَمِيعَهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ، لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ، (فَلَا
تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِدُونِهِ) ، أَيْ: لَوْ وَصَّى بِثَوْبٍ لَا يَسْتُرُ
جَمِيعَ بَدَنِهِ، لَمْ تُسْمَعْ وَصِيَّتُهُ لِتَضَمُّنِهَا إسْقَاطَ
حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (مِنْ مَلْبُوسٍ مِثْلَهُ فِي جُمُعَةٍ وَعِيدٍ) .
لِأَمْرِ الشَّارِعِ بِتَحْسِينِهِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَلِأَنَّهُ لَا إجْحَافَ فِيهِ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِ، (مَا لَمْ يُوصِ بِدُونِهِ) .
أَيْ: مَلْبُوسِ مِثْلِهِ فَتُتْبَعُ وَصِيَّتُهُ لِإِسْقَاطِهِ حَقَّهُ
مِمَّا زَادَ.
(وَيُكْرَهُ) أَنْ يُكَفَّنَ فِي (أَعْلَى) مِنْ
(1/866)
مَلْبُوسِ مِثْلِهِ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ؛
لِأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ، وَلِلنَّهْيِ عَنْ التَّغَالِي فِي الْكَفَنِ.
(وَيَتَّجِهُ) كَرَاهَةُ تَكْفِينِهِ بِالْأَعْلَى (إنْ كَانَ مِنْ
تَرِكَتِهِ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ إجْحَافًا عَلَى الْوَرَثَةِ، أَمَّا لَوْ
تَبَرَّعَ بِهِ مُتَبَرِّعٌ أَوْ رَضُوا كُلُّهُمْ صَرِيحًا؛ فَلَا
يُكْرَهُ. (وَ) يَتَّجِهُ: (أَنَّهُ لَوْ وَرِثَهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتَ
(غَيْرُ مُكَلَّفٍ حَرُمَ) تَكْفِينُهُ بِأَعْلَى مِنْ مَلْبُوسِ مِثْلِهِ،
وَهَذَا مُتَّجِهٌ.
وَقَوْلُهُ: (وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةٌ بِهِ) ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ
الْإِضْرَارِ بِغَيْرِ الْمُكَلَّفِ فِيهِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُمْتَنَعُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ لِفَاسِقٍ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَعِينُ
بِهَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
(وَتَجِبُ مُؤْنَةُ تَجْهِيزٍ) مِنْ أُجْرَةِ مُغَسِّلٍ وَحَمَّالٍ
وَحَفَّارٍ وَنَحْوِهِ (بِمَعْرُوفٍ) لِمِثْلِهِ، وَ (لَا) يَجِبُ (حَنُوطٌ
وَطِيبٌ) كَحَالِ الْحَيَاةِ، (بَلْ يُسَنُّ) لِلْخَبَرِ وَيَأْتِي. (وَلَا
بَأْسَ بِ) جَعْلِ (مِسْكٍ فِيهِ) - أَيْ: الْكَفَنِ - نَصًّا. (وَمَنْ
أَخْرَجَ فَوْقَ) مَا جَرَتْ (عَادَةٌ) بِإِخْرَاجِهِ عَلَى طَرِيقِ
الْمُرُوءَةِ (مِنْ طِيبٍ وَحَوَائِجَ، وَفَوْقَ أُجْرَةِ حَمَّالٍ
وَحَفَّارٍ، أَوْ أَعْطَى قَارِئًا بَيْنَ يَدَيْ جِنَازَةٍ؛
فَمُتَبَرِّعٌ) إنْ كَانَ مِنْ مَالِهِ، (وَإِنْ كَانَ مِنْ تَرِكَةٍ
فَمِنْ نَصِيبِهِ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا، ذَكَرَهُ
فِي " الْفُصُولِ ".
وَكَذَا مَا يُعْطَى لِمَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ مَعَ الْجِنَازَةِ
بِالذِّكْرِ وَنَحْوِهِ، وَمَا يُصْرَفُ فِي طَعَامٍ وَنَحْوِهِ لَيَالِي
جَمْعٌ، وَمَا يُصْنَعُ فِي أَيَّامِهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَحْدَثَةِ
(1/867)
خُصُوصًا إذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ
غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
(وَيُقَدَّمُ مَا وَجَبَ لِلْمَيِّتِ) مِنْ ثَوْبٍ يَسْتُرُ جَمِيعَهُ.
وَمُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ بِمَعْرُوفٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ (عَلَى دَيْنٍ
بِرَهْنٍ وَأَرْشِ جِنَايَةِ وَارِثٍ وَنَحْوِ كَفَّارَةٍ) كَزَكَاةٍ
وَحَجٍّ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ سُتْرَتَهُ
وَاجِبَةٌ فِي الْحَيَاةِ.
فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَلِأَنَّ حَمْزَةَ وَمُصْعَبًا لَمْ يُوجَدْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إلَّا
ثَوْبٌ، فَكُفِّنَ فِيهِ.
وَلِأَنَّ لِبَاسَ الْمُفْلِسِ يُقَدَّمُ عَلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ.
فَكَذَا كَفَنُ الْمَيِّتِ، وَلَا يُنْتَقَلُ لِوَارِثٍ مِنْ مَالِ مَيِّتٍ
إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ.
(فَإِنْ عُدِمَ مَالُهُ) - أَيْ الْمَيِّتِ - بِأَنْ لَمْ يَخْلُفْ
تِرْكَةً. أَوْ تَلِفَتْ قَبْلَ تَجْهِيزِهِ. (فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُ) - أَيْ الْمَيِّتِ - حَالَ حَيَاتِهِ (بِقَدْرِهَا) - أَيْ:
النَّفَقَةِ - فَمَنْ لَهُ أَخَوَانِ تَلْزَمُهُمَا نَفَقَتُهُ.
فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ مُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ (إلَّا الزَّوْجُ،
فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) مِنْ الْكَفَنِ وَمُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ.
وَلَوْ مُوسِرًا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فِي النِّكَاحِ
وَجَبَتْ لِلتَّمْكِينِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ.
وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ وَالْبَيْنُونَةِ.
وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ.
فَأَشْبَهَتْ الْأَجْنَبِيَّةَ.
وَفَارَقَتْ الْعَبْدَ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ بِالْمِلْكِ لَا
بِالِانْتِفَاعِ.
وَلِذَلِكَ تَجِبُ نَفَقَةُ الْآبِقِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ؛ فَعَلَى مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا مِنْ
أَقَارِبِهَا أَوْ مُعْتَقِيهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً.
(ثُمَّ) إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ: وَجَبَ
كَفَنُهُ وَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ (مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) إنْ كَانَ
الْمَيِّتُ مُسْلِمًا.
لِأَنَّهُ لِلْمَصَالِحِ وَهَذَا مِنْ أَهَمِّهَا.
فَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَلَوْ ذِمِّيًّا فَلَا؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ
إنَّمَا أَوْجَبَتْ عِصْمَتَهُمْ.
فَلَا نُؤْذِيهِمْ لِلْإِرْفَاقِ بِهِمْ. (ثُمَّ) إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ
مَالٍ أَوْ تَعَذَّرَ الْأَخْذُ مِنْهُ.
فَكَفَنُهُ وَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ (عَلَى مُسْلِمٍ عَالِمٍ بِهِ) - أَيْ:
الْمَيِّتِ - كَكِسْوَةِ الْحَيِّ. (وَإِنْ تَبَرَّعَ بِهِ بَعْضُ
وَرَثَةٍ: لَمْ يَلْزَمْ بَقِيَّتَهُمْ قَبُولُهُ) .
لِمَا فِيهِ مِنْ الْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمَيِّتِ، وَكَذَا لَوْ
تَبَرَّعَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ، فَأَبَى الْوَرَثَةُ أَوْ
(1/868)
بَعْضُهُمْ؛ (لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ) ،
أَيْ: الْوَرَثَةِ، (سَلْبُهُ) ، أَيْ: الْكَفَنِ الَّذِي تَبَرَّعَ بِهِ
بَعْضُهُمْ أَوْ غَيْرُهُمْ (مِنْهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ، (بَعْدَ
دَفْنِهِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا إسْقَاطَ لِحَقِّ أَحَدٍ فِي تَبْقِيَتِهِ.
(وَمَنْ نُبِشَ وَسُرِقَ كَفَنُهُ؛ كُفِّنَ مِنْ تَرِكَتِهِ) نَصًّا
(ثَانِيًا وَثَالِثًا فَقَطْ، وَلَوْ قُسِّمَتْ) تِرْكَتُهُ كَمَا لَوْ
قُسِّمَتْ قَبْلَ تَكْفِينِهِ الْأَوَّلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَارِثٍ
لِلْكَفَنِ بِنِسْبَةِ حِصَّتِهِ مِنْ التَّرِكَةِ (مَا لَمْ تُصْرَفْ)
تِرْكَتُهُ (فِي دَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ) ، فَإِنْ صُرِفَتْ فِي ذَلِكَ،
أَوْ لَمْ تَكُنْ؛ (فَيُتْرَكُ) الْمَيِّتُ (بِحَالِهِ حَيْثُ لَا
مُتَبَرِّعَ) ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُتَبَرِّعٌ فَعَلَ، وَإِلَّا فَلَا
يَلْزَمُ أَحَدًا مِنْ الْوَرَثَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، (وَإِنْ أُكِلَ) -
بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ - أَيْ: أَكَلَ الْمَيِّتَ سَبُعٌ وَنَحْوُهُ،
(أَوْ بَلِيَ) بِأَنْ صَارَ تُرَابًا (وَبَقِيَ كَفَنُهُ فَمَا) ، أَيْ:
الْكَفَنُ الَّذِي (مِنْ مَالِهِ تِرْكَةٌ) يُقَسَّمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ،
(وَمَا تَبَرَّعَ بِهِ) مِنْ وَارِثٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ، (فَ) هُوَ
(لِمُتَبَرِّعٍ) ؛ لِأَنَّ تَكْفِينَهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ إبَاحَةٍ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَهُ لِلْوَرَثَةِ فَكَفَّنُوهُ بِهِ فَيَكُونُ
لَهُمْ. (وَمِمَّا فَضَلَ مِمَّا جُنِيَ) مِنْ أَجْلِ تَكْفِينٍ بَعْدَ
صَرْفِ مَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ؛ فَهُوَ لِرَبِّهِ إنْ عَلِمَ؛ لِأَنَّهُ
إبَاحَةٌ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَيُرَدُّ إلَيْهِ، (فَإِنْ جُهِلَ)
رَبُّهُ أَوْ اخْتَلَطَ مَا جُبِيَ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ مَا لِكُلِّ
إنْسَانٍ؛ (فَفِي كَفَنٍ آخَرَ) يُصْرَفُ إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ
مَا بُذِلَ لَهُ. (فَإِنْ تَعَذَّرَ) صَرْفُهُ فِي كَفَنٍ آخَرَ؛
(تَصَدَّقَ بِهِ) ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا بَذَلَهُ فِيهِ. (وَلَا
يُجْبَى كَفَنٌ، لِعَدَمِ) يُكَفَّنُ بِهِ مَيِّتٌ (إنْ سُتِرَ) .
أَيْ: أَمْكَنَ سَتْرُهُ (بِحَشِيشٍ وَنَحْوِهِ) كَوَرَقِ شَجَرٍ،
لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِلَا إهَانَةٍ. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) مِنْ
أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ (مَا يَسْتُرُ جَمِيعَهُ؛ سَتَرَ عَوْرَتَهُ)
لِتَقَدُّمِهَا عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، (ثُمَّ) إنْ بَقِيَ شَيْءٌ سُتِرَ
بِهِ (رَأْسُهُ) وَمَا يَلِيَهُ، (وَجُعِلَ عَلَى بَاقِيهِ حَشِيشٌ
(1/869)
أَوْ وَرَقٌ) .
لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُصْعَبًا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ
شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إلَّا نَمِرَةٌ، فَكَانَتْ إذَا وُضِعَتْ عَلَى
رَأْسِهِ بَدَتْ رِجْلَاهُ. وَإِذَا وُضِعَتْ عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ
رَأْسُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ
يُغَطَّى رَأْسُهُ، وَيُجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرُ» رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ (وَإِنْ وُجِدَ ثَوْبٌ) وَاحِدٌ (فَقَطْ وَ) ثَمَّ جَمَاعَةٌ
(مَوْتَى؛ جُمِعَ فِيهِ مِنْهُمْ مَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ) ، جَزَمَ بِهِ فِي
" الْإِفَادَاتِ " فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ
حَاجِزًا مِنْ عُشْبٍ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ، قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ
": يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحَبَّ هَذَا.
(وَكُرِهَ) التَّكْفِينُ بِثَوْبٍ (رَقِيقٍ يَحْكِي الْهَيْئَةَ)
لِرِقَّتِهِ نَصًّا، وَلَا يُجْزِئُ مَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ. (وَ) كُرِهَ
كَفَنٌ (مِنْ شَعْرٍ وَ) مِنْ (صُوفٍ) ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ فِعْلِ
السَّلَفِ (وَ) كُرِهَ كَفَنٌ (مُزَعْفَرٌ وَمُعَصْفَرٌ وَمَنْقُوشٌ وَلَوْ
لِأُنْثَى) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْحَالِ.
(وَحَرُمَ بِجِلْدٍ) ، «لِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِنَزْعِ الْجُلُودِ عَنْ الشُّهَدَاءِ» . (وَكَذَا) يَحْرُمُ تَكْفِينٌ
(بِحَرِيرٍ وَمُذَهَّبٍ) وَمُفَضَّضٍ (وَلَوْ لِأُنْثَى بِلَا ضَرُورَةٍ) ،
فَإِنْ كَانَ ثَمَّ ضَرُورَةٌ، بِأَنْ عُدِمَ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَهُ
مِنْ غَيْرِهِ: جَازَ التَّكْفِينُ بِنَحْوِ الْحَرِيرِ؛ لِأَنَّ
الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ، وَالْأُنْثَى إنَّمَا أُبِيحَ لَهَا ذَلِكَ
حَالَ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ زِينَةٍ وَشَهْوَةٍ، وَقَدْ زَالَ
ذَلِكَ بِمَوْتِهَا.
(وَسُنَّ تَكْفِينُ رَجُلٍ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ بِيضٍ، وَ) كَوْنُهَا
(مِنْ قُطْنٍ وَجَدِيدٍ أَفْضَلُ) ، لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ قَالَتْ: كُفِّنَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ
بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، جُدُدٍ يَمَانِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا
عِمَامَةٌ أُدْرِجَ فِيهَا إدْرَاجًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، زَادَ مُسْلِمٌ
فِي رِوَايَةٍ: " وَأَمَّا الْحُلَّةُ فَاشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهَا
اُشْتُرِيَتْ لِيُكَفَّنَ فِيهَا، فَتُرِكَتْ الْحُلَّةُ، وَكُفِّنَ فِي
ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سُحُولِيَّةٍ ". (وَكُرِهَ) تَكْفِينُ رَجُلٍ
(1/870)
(فِي أَكْثَرَ) مِنْ ثَلَاثٍ، قَالَهُ فِي
" الْمُسْتَوْعِبِ " وَ " الشَّرْحِ " وَغَيْرِهِمَا مَا فِيهِ مِنْ
إضَاعَةِ الْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. (وَ) كُرِهَ (تَعْمِيمُهُ) ،
أَيْ: الْمَيِّتِ.
صَوَّبَهُ فِي " تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ " (تُبْسَطُ) ، أَيْ: الثَّلَاثُ
لَفَائِفَ (عَلَى بَعْضِهَا) وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى لِيُوضَعَ
الْمَيِّتُ عَلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً (بَعْدَ تَبْخِيرِهَا) بِعُودٍ
وَنَحْوِهِ ثَلَاثًا، قَالَهُ فِي " الْكَافِي " وَغَيْرِهِ بَعْدَ
رَشِّهَا بِنَحْوِ مَاءِ وَرْدٍ، وَلِتَعْلَقَ رَائِحَةُ الْبَخُورِ بِهَا
إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ مُحْرِمًا. (وَتُجْعَلُ) اللِّفَافَةُ
(الظَّاهِرَةُ) وَهِيَ السُّفْلَى مِنْ الثَّلَاثِ (أَحْسَنَهَا كَعَادَةِ
حَيٍّ) ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الْحَيِّ جَعْلُ الظَّاهِرِ مِنْ ثِيَابِهِ
أَفْخَرَهَا، فَكَذَا الْمَيِّتُ. (وَ) يُجْعَلُ (الْحَنُوطُ، وَهُوَ:
أَخْلَاطٌ مِنْ طِيبٍ) ، وَلَا يُقَالُ فِي غَيْرِ طِيبِ الْمَيِّتِ
(فِيمَا بَيْنَهَا) ، أَيْ: يَذَرُ بَيْنَ اللَّفَائِفِ، (ثُمَّ يُوضَعُ)
الْمَيِّتُ (عَلَيْهَا) ، أَيْ: اللَّفَائِفِ مَبْسُوطَةً (مُسْتَلْقِيًا)
؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ لِإِدْرَاجِهِ فِيهَا، وَيَجِبُ سَتْرُهُ حَالَ
حَمْلِهِ بِثَوْبٍ، وَيُوضَعُ مُتَوَجِّهًا نَدْبًا، (وَيَحُطُّ مِنْ
قُطْنٍ مُحَنَّطٍ) ، أَيْ: فِيهِ حَنُوطٌ (بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ) ، أَيْ:
الْمَيِّتِ (وَيُشَدُّ فَوْقَهُ) ، أَيْ: الْقُطْنِ (خِرْقَةٌ مَشْقُوقَةُ
الطَّرَفِ كَالتُّبَّانِ) ، وَهُوَ السَّرَاوِيلُ بِلَا أَكْمَامٍ، قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: التُّبَّانُ بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ: سِرْوَالٌ صَغِيرٌ
مِقْدَارُ شِبْرٍ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ فَقَطْ، يَكُونُ
لِلْمَلَّاحِينَ (تَجْمَعُ) الْخِرْقَةُ (أَلْيَتَيْهِ وَمَثَانَتَهُ) -
أَيْ: الْمَيِّتِ - لِرَدِّ الْخَارِجِ، وَإِخْفَاءِ مَا ظَهَرَ مِنْ
الرَّوَائِحِ، (وَيُجْعَلُ الْبَاقِي) مِنْ قُطْنٍ مُحَنَّطٍ (عَلَى
مَنَافِذِ وَجْهِهِ) كَعَيْنَيْهِ وَفَمِهِ وَأَنْفِهِ وَعَلَى أُذُنَيْهِ،
(وَ) يُجْعَلُ مِنْهُ عَلَى (مَوَاضِعِ سُجُودِهِ) جَبْهَتِهِ وَيَدَيْهِ
وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافِ قَدَمَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا، وَكَذَا
مَغَابِنُهُ كَطَيِّ رُكْبَتَيْهِ، وَتَحْتَ إبِطَيْهِ وَسُرَّتِهِ؛
لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَتَتَبَّعُ مَغَابِنَ الْمَيِّتِ
وَمَرَافِقَهُ بِالْمِسْكِ (وَ) بِطِيبِ (رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَإِنْ
طُيِّبَ) الْمَيِّتُ (كُلُّهُ فَحَسَنٌ) ؛ لِأَنَّ أَنَسًا طُلِيَ
بِالْمِسْكِ، وَطَلَى ابْنُ عُمَرَ
(1/871)
مَيِّتًا بِالْمِسْكِ، وَذَكَرَ
السَّامِرِيُّ: يُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِالصَّنْدَلِ
وَالْكَافُورِ لِدَفْعِ الْهَوَامِّ. (وَكُرِهَ) تَطْيِيبٌ (دَاخِلَ
عَيْنَيْهِ) نَصًّا؛ لِأَنَّهُ يُفْسِدُهُمَا، (كَ) مَا يُكْرَهُ
تَطْيِيبُهُ (بِوَرْسٍ وَزَعْفَرَانٍ) ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ غَيْرُ
جَارِيَةٍ بِالتَّطَيُّبِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ لِغِذَاءٍ أَوْ
زِينَةٍ، (وَ) كُرِهَ (طَلْيُهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (بِمَا يُمْسِكُهُ
كَصَبِرٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَتُسَكَّنُ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ
(مَا لَمْ يُنْقَلْ) الْمَيِّتُ لِحَاجَةٍ دَعَتْ إلَيْهِ، فَيُبَاحُ
لِلْحَاجَةِ، (ثُمَّ يُرَدُّ طَرَفُ) اللِّفَافَةِ (الْعُلْيَا مِنْ
الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ) لِلْمَيِّتِ (عَلَى شِقٍّ أَيْمَنَ، ثُمَّ)
يُرَدُّ (طَرَفُهَا الْأَيْمَنُ عَلَى الْأَيْسَرِ) كَعَادَةِ الْحَيِّ،
(ثُمَّ) يُرَدُّ لِفَافَةٌ (ثَانِيَةٌ) كَذَلِكَ، (ثُمَّ) يُرَدُّ "
(ثَالِثَةٌ كَذَلِكَ) فَيُدْرِجُهُ فِيهَا إدْرَاجًا، (وَيُجْعَلُ أَكْثَرُ
فَاضِلٍ) مِنْ اللَّفَائِفِ (مِمَّا عِنْدَ رَأْسِهِ) لِشَرَفِهِ عَلَى
الرِّجْلَيْنِ، (ثُمَّ يَعْقِدُهَا إنْ خِيفَ انْتِشَارٌ، وَتُحَلُّ)
الْعُقَدُ (بِقَبْرٍ) ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إذَا أَدْخَلْتُمْ
الْمَيِّتَ اللَّحْدَ فَحُلُّوا الْعُقَدَ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ.
وَلِأَمْنِ انْتِشَارِهَا، فَإِنْ نَسِيَ الْمُلْحِدُ أَنْ يَحِلَّهَا
نُبِشَ، وَلَوْ بَعْدَ تَسْوِيَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ قَرِيبًا وَحُلَّتْ؛
لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، ذَكَرَهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ. (وَكُرِهَ
تَخْرِيقُهَا) ، أَيْ: اللَّفَائِفِ؛ لِأَنَّهُ إفْسَادٌ وَتَقْبِيحٌ
لِلْكَفَنِ مَعَ الْأَمْرِ بِتَحْسِينِهِ. قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ: (وَلَوْ
خِيفَ نَبْشُهُ، خِلَافًا لِأَبِي الْمَعَالِي) .
وَ (لَا) يُكْرَهُ (تَكْفِينُهُ) ، أَيْ: الرَّجُلِ (فِي قَمِيصٍ
وَمِئْزَرٍ وَلِفَافَةٍ) ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَمِيصَهُ لَمَّا مَاتَ» رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عَمْرو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ الْمَيِّتَ يُؤَزَّرُ، وَيُقَمَّصُ
وَيُلَفُّ بِالثَّالِثَةِ. (وَيُجْعَلُ نَدْبًا مِئْزَرٌ مِمَّا يَلِي
جَسَدَهُ) ، ثُمَّ يُلْبَسُ الْقَمِيصَ، ثُمَّ يُلَفُّ كَمَا يَفْعَلُ
الْحَيُّ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَمِيصُ بِكُمَّيْنِ
(1/872)
وَدَخَارِيصَ كَقَمِيصِ الْحَيِّ نَصًّا،
وَلَا يَحِلُّ الْإِزَارُ فِي الْقَبْرِ، وَلَا يُكْرَهُ تَكْفِينُ رَجُلٍ
فِي ثَوْبَيْنِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحْرِمِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ» (وَلَا
يُزَرُّ قَمِيصٌ) عَلَى الْمَيِّتِ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ، (وَ) لَا تُزَرُّ
(لِفَافَةٌ فَوْقَهُ) ، أَيْ: الْقَمِيصِ، بَلْ تُعْقَدُ كَمَا تَقَدَّمَ.
(وَسُنَّ لِأُنْثَى وَخُنْثَى) بَالِغَيْنِ (خَمْسَةُ أَثْوَابٍ بِيضٍ مِنْ
قُطْنٍ) تُكَفَّنُ فِيهَا: (إزَارٍ وَخِمَارٍ وَقَمِيصٍ) ، وَهُوَ:
الدِّرْعُ، (وَلِفَافَتَيْنِ) ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ مَنْ
نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ
فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ. (وَلَا بَأْسَ بِنِقَابِ) الْمَرْأَةِ، ذَكَرَهُ
ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ
(وَ) سُنَّ (لِصَبِيٍّ ثَوْبٌ) وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ دُونَ الرَّجُلِ،
(وَيُبَاحُ) أَنْ يُكَفَّنَ صَبِيٌّ (فِي ثَلَاثَةٍ مَا لَمْ يَرِثْهُ
غَيْرُ مُكَلَّفٍ) رَشِيدٍ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ سَفِيهٍ
فَلَا، وَسُنَّ لِصَغِيرَةٍ قَمِيصٌ وَلِفَافَتَانِ نَصًّا.
(وَسُنَّ تَغْطِيَةُ نَعْشٍ) ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي سَتْرِ
الْمَيِّتِ (وَكُرِهَ) تَغْطِيَتُهُ (بِغَيْرِ أَبْيَضَ) كَأَحْمَرَ
وَأَسْوَدَ وَأَصْفَرَ، وَيَحْرُمُ بِحَرِيرٍ وَمُذَهَّبٍ وَنَحْوِهِ،
(وَيُسْتَحَبُّ إنْ كَانَ) الْمَيِّتُ (امْرَأَةً أَنْ يُسْتَرَ) النَّعْشُ
(بِمِكَبَّةٍ تُعْمَلُ مِنْ خَشَبٍ أَوْ جَرِيدٍ أَوْ قَصَبٍ مِثْلِ
قُبَّةٍ) ، وَيُجْعَلُ (فَوْقَهَا) ، أَيْ: الْمِكَبَّةِ (ثَوْبٌ)
أَبْيَضُ، لَكِنْ يُكْشَفُ جَانِبُهَا فِي مَحَلِّ الصَّلَاةِ، لِيَظْهَرَ
بَعْضُ الْمَيِّتِ، لِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى مَيِّتٍ فِي
نَحْوِ صُنْدُوقٍ لَا تَصِحُّ. (وَ) سُنَّ أَنْ (يُوضَعَ مَيِّتٌ عَلَى
نَعْشٍ مُسْتَلْقِيًا) عَلَى قَفَاهُ.
[فَرْعٌ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْدَادِ كَفَنٍ لِحَلٍّ مِنْ إحْرَامٍ فِيهِ
أَوْ عِبَادَةٍ فِيهِ]
(فَرْعٌ: لَا بَأْسَ بِاسْتِعْدَادِ كَفَنٍ لِحَلٍّ) مِنْ إحْرَامٍ فِيهِ
(أَوْ عِبَادَةٍ فِيهِ) ، أَيْ: الْكَفَنِ، كَمَا لَوْ صَلَّى أَوْ
اعْتَكَفَ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ أَعَدَّهُ لِلتَّكْفِينِ، (قِيلَ لِأَحْمَدَ:
يُصَلِّي فِيهِ) ، أَيْ: الثَّوْبِ، (ثُمَّ يَغْسِلُهُ وَيَضَعُهُ
لِكَفَنِهِ؟ فَرَآهُ حَسَنًا) ، لِمَا فِيهِ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ،
(وَأَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ
(1/873)
مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِتَحْرِيمِ
كِتَابَةِ قُرْآنٍ عَلَى كَفَنِ) الْمَيِّتِ (خَوْفَ تَنْجِيسٍ)
بِتَفَسُّخِ الْمَيِّتِ (وَقَوَاعِدُنَا) مَعْشَرَ الْحَنَابِلَةِ
(تَقْتَضِيهِ) ، أَيْ: تَحْرِيمَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْكَفَنِ لِمَا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّنْجِيسِ الْمُؤَدِّي لِامْتِهَانِ
الْقُرْآنِ (وَحَيٌّ مُضْطَرٌّ لِكَفَنِ مَيِّتٍ مِنْ نَحْوِ بَرْدٍ)
مُزْعِجٍ أَوْ حَرٍّ (أَحَقُّ بِهِ) ، أَيْ: كَفَنِ الْمَيِّتِ،
فَيَأْخُذُهُ (بِثَمَنِهِ) ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ آكَدُ. (قَالَ
الْمَجْدُ وَغَيْرُهُ) : لِلْحَيِّ أَخْذُ الْكَفَنِ بِثَمَنِهِ (إنْ
خَشِيَ التَّلَفَ) ، وَإِلَّا فَلَا، (وَ) إنْ كَانَ الْحَيُّ مُحْتَاجًا
لِكَفَنِ الْمَيِّتِ (لِحَاجَةِ صَلَاةٍ) فِيهِ؛ (فَالْمَيِّتُ أَحَقُّ
بِكَفَنِهِ) ، وَلَوْ كَانَ لِفَافَتَيْهِ، وَيُصَلِّي الْحَيُّ عُرْيَانًا
عَلَى الْمَيِّتِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: يُصَلِّي
عَلَيْهِ عَادِمٌ فِي إحْدَى لِفَافَتَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ
فِي ذَلِكَ.
[تَتِمَّةٌ إذَا مَاتَ مُسَافِرٌ فَلِرَفِيقِهِ تَكْفِينُهُ مِنْ مَالِهِ]
ِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ؛ فَمِنْهُ، وَيَأْخُذُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ أَوْ مِمَّنْ
تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إنْ نَوَى الرُّجُوعَ وَلَا حَاكِمَ، فَإِنْ وُجِدَ
حَاكِمٌ وَأَذِنَ فِيهِ؛ رَجَعَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ وَنَوَى الرُّجُوعَ
رَجَعَ.
[فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ]
(فَصْلٌ)
فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ: (وَالصَّلَاةُ عَلَى مَنْ قُلْنَا
يُغَسَّلُ) مِنْ الْمَوْتَى (أَوْ يُيَمَّمُ) مِنْهُمْ (فَرْضُ كِفَايَةٍ)
، لِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا فِي غَيْرِ
حَدِيثٍ كَقَوْلِهِ: «صَلُّوا عَلَى أَطْفَالِكُمْ فَإِنَّهُمْ
أَفْرَاطُكُمْ» ، وَقَوْلُهُ فِي الْغَالِّ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» ،
وَقَوْلُهُ: «إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا
فَصَلُّوا عَلَيْهِ» ، وَقَوْلُهُ: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ» ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ
عَلِمَ بِالْمَيِّتِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ بِهِ
مَعْذُورٌ، (فَتُكْرَهُ) الصَّلَاةُ
(1/874)
(عَلَى شَهِيدِ) مَعْرَكَةٍ. وَمَقْتُولٍ
ظُلْمًا فِي حَالٍ لَا يُغَسَّلَانِ فِيهَا، (وَتَسْقُطُ) الصَّلَاةُ عَلَى
الْمَيِّتِ، أَيْ: يَسْقُطُ وُجُوبُهَا (بِ) صَلَاةِ (مُكَلَّفٍ، وَلَوْ)
كَانَ (أُنْثَى) أَوْ خُنْثَى، وَظَاهِرُهُ: لَا تَسْقُطُ بِمُمَيِّزٍ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ. (وَيُقَدَّمُ مِنْهُنَّ) - أَيْ:
النِّسَاءِ - لِلْإِمَامَةِ (مَنْ يُقَدَّمُ مِنْ رِجَالٍ) عَلَى
التَّفْصِيلِ الْآتِي، (وَتَقِفُ) إمَامَتُهُنَّ (فِي وَسَطِهِنَّ، كَ)
وُقُوفِهَا فِي صَلَاةٍ (مَكْتُوبَةٍ) بِلَا فَرْقٍ. (وَتُسَنُّ)
الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ (جَمَاعَةً) ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ،
وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، (إلَّا
عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَلَا) ، أَيْ:
فَلَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ (تَعْظِيمًا لَهُ وَاحْتِرَامًا) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " دَخَلَ النَّاسُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَالًا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا
فَرَغُوا أَدْخَلُوا النِّسَاءَ، حَتَّى إذَا فَرَغُوا أَدْخَلُوا
الصِّبْيَانِ، وَلَمْ يَؤُمَّ النَّاسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي
الْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ " أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَصِيَّةٍ مِنْهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَ) سُنَّ (أَنْ لَا تَنْقُصُ
الصُّفُوفُ عَنْ ثَلَاثَةٍ) ، لِحَدِيثِ «مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ: كَانَ
إذَا صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ جَزَّأَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ، ثُمَّ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ
صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنْ النَّاسِ فَقَدْ أُوجِبَتْ»
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى
شَرْطِ مُسْلِمٍ، قَالَ فِي " النِّهَايَةِ ": يُقَالُ: أَوْجَبَ
الرَّجُلُ؛ إذَا فَعَلَ فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُ بِهِ الْجَنَّةُ أَوْ
النَّارُ.
انْتَهَى.
فَإِنْ كَانُوا سِتَّةً فَأَكْثَرَ جَعَلَ كُلَّ اثْنَيْنِ صَفًّا، وَإِنْ
كَانُوا أَرْبَعَةً؛ جَعَلَهُمْ صَفَّيْنِ. (وَلَا تَصِحُّ) الصَّلَاةُ
(لِفَذٍّ) ، خِلَافًا لِابْنِ عَقِيلٍ وَالْقَاضِي فِي " التَّعْلِيقِ ".
(1/875)
(وَيَتَّجِهُ: فَإِنْ كَبَّرَ) مَأْمُومٌ
خَارِجَ الصَّفِّ تَكْبِيرَةً (وَاحِدَةً) بَعْدَ تَكْبِيرَةِ
الْإِحْرَامِ، ثُمَّ دَخَلَ الصَّفَّ (فَ) هُوَ (فَذٌّ) تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ صَلَاةَ رَكْعَةٍ مِمَّا تُشْرَعُ لَهُ
الْجَمَاعَةُ خَلْفَ الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَا
يُطَافُ بِجِنَازَةٍ) عَلَى أَهْلِ الْأَمَاكِنِ (لِيُصَلَّى عَلَيْهَا،
بَلْ هِيَ) أَيْ: الْجِنَازَةُ (كَإِمَامٍ يُقْصَدُ) - بِالْبِنَاءِ
لِلْمَفْعُولِ - لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، (وَلَا يَقْصِدُ) ، بِالْبِنَاءِ
لِلْفَاعِلِ.
(وَالْأَوْلَى بِهَا) ، أَيْ: بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ إمَامًا
(وَصِيُّهُ الْعَدْلُ) ، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ مَا
زَالُوا يُوصُونَ بِذَلِكَ، وَيُقَدِّمُونَ الْوَصِيَّ؛ فَأَوْصَى أَبُو
بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عُمَرُ، وَأَوْصَى عُمَرُ أَنْ يُصَلِّيَ
عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، وَأَوْصَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا
سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَوْصَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ
أَبُو بَرْزَةَ، حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ أَحْمَدُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: عَائِشَةُ أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا أَبُو
هُرَيْرَةَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ
الزُّبَيْرُ؛ وَلِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تُسْتَفَادُ بِالنَّسَبِ، فَصَحَّ
الْإِيصَاءُ بِهَا كَالْمَالِ وَتَفْرِقَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ
فَاسِقًا لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ.
(وَتَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةِ عَلَيْهِ (لِاثْنَيْنِ)
مُكَلَّفَيْنِ. (وَيَتَّجِهُ: وَيُقَدَّمُ) مِنْهُمَا (أَفْضَلُ) ، أَيْ:
مَنْ كَانَ أَوْلَى بِإِمَامَةٍ (وَيَقْتَرِعَانِ مَعَ تَسَاوٍ) فِي
الْفَضِيلَةِ، فَمَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ قُدِّمَ،
(1/876)
وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (فَسَيِّدٌ بِرَقِيقِهِ)
؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ، (فَالسُّلْطَانُ) ، لِحَدِيثِ: «لَا يُؤَمَّنَّ
الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ.» الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
خَرَجَ مِنْهُ الْوَصِيُّ وَالسَّيِّدُ لِمَا تَقَدَّمَ، فَيَبْقَى فِيمَا
عَدَاهُمَا عَلَى الْعُمُومِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا يُصَلُّونَ
عَلَى الْمَوْتَى، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ
اسْتَأْذَنَ الْوَصِيَّ.
وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: شَهِدْت حُسَيْنًا حِينَ مَاتَ الْحَسَنُ،
وَهُوَ يَدْفَعُ فِي قَفَاءِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ،
وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي
أَنَّهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُسَنُّ لَهَا الِاجْتِمَاعُ، فَإِذَا حَضَرَهَا
السُّلْطَانُ كَانَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، (فَنَائِبُهُ الْأَمِيرُ) فِي
بَلَدِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، (فَ) نَائِبُهُ (الْحَاكِمُ)
وَهُوَ: الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ (فَالْأَوْلَى) بِالْإِمَامَةِ
عَلَيْهِ الْأَوْلَى (بِغُسْلِ رَجُلٍ) ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى
فَيُقَدَّمُ أَبٌ فَأَبُوهُ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ ابْنٌ، ثُمَّ ابْنُهُ
وَإِنْ نَزَلَ، ثُمَّ عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، (فَزَوْجٌ) يُقَدَّمُ
(بَعْدَ ذَوِي الْأَرْحَامِ) ؛ لِأَنَّ لَهُ مَزِيَّةً عَلَى بَاقِي
الْأَجَانِبِ، وَيُقَدَّمُ حُرٌّ بَعِيدٌ عَلَى عَبْدٍ قَرِيبٍ،
وَيُقَدَّمُ عَبْدٌ مُكَلَّفٌ عَلَى صَبِيٍّ حُرٍّ، لِعَدَمِ صِحَّةِ
إمَامَتِهِ لِلْبَالِغِينَ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَيْضًا لِعَدَمِ صِحَّةِ
إمَامَتِهَا لِلرِّجَالِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيمَ
وَاجِبٌ.، (ثُمَّ مَعَ تَسَاوٍ) فِي الْقُرْبِ كَابْنَيْنِ وَشَقِيقَيْنِ،
يُقَدَّمُ (الْأَوْلَى) مِنْهُمَا (بِإِمَامَةٍ) لِمَزِيَّةِ فَضِيلَتِهِ،
(ثُمَّ) مَعَ تُسَاوِيهِمَا فِي كُلِّ شَيْءٍ (يُقْرَعُ) بَيْنَهُمَا،
لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ غَيْرِهَا.
(1/877)
(وَتُكْرَهُ إمَامَةُ غَيْرِ الْأَوْلَى
بِلَا إذْنِهِ مَعَ حُضُورِهِ) ؛ لِأَنَّهُ افْتِئَاتٌ عَلَيْهِ،
(وَيَسْقُطُ بِهِ) - أَيْ: بِمَنْ كَانَ غَيْرَ الْأَوْلَى، وَصَلَّى بِلَا
إذْنِ الْأَوْلَى - (فَرْضٌ، وَ) يَسْقُطُ بِهِ (حُكْمُ تَقْدِيمٍ) ؛
لِأَنَّ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ، وَقَدْ حَصَلَ،
وَلَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ افْتِئَاتٍ تَشُحُّ بِهِ الْأَنْفُسُ عَادَةً،
بِخِلَافِ النِّكَاحِ، (فَإِنْ صَلَّى) الْوَلِيُّ (خَلْفَهُ صَارَ إذْنًا)
لِدَلَالَتِهِ عَلَى رِضَاهُ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ قَدَّمَهُ لِلصَّلَاةِ،
(وَإِلَّا) ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْوَلِيُّ وَرَاءَهُ، (فَلَهُ
أَنْ يُعِيدَهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةَ (لِأَنَّهَا حَقُّهُ) ، وَيُسَنُّ
لِمَنْ صَلَّى أَنْ يُعِيدَ تَبَعًا لَهُ، وَلَوْ مَاتَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ؛
فَقَالَ فِي " الْفُصُولِ ": يُقَدَّمُ أَقْرَبُ أَهْلِ الْقَافِلَةِ إلَى
الْخَيْرِ وَالْأَشْفَقُ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَالْمُرَادُ
كَالْإِمَامَةِ. (وَمَنْ قَدَّمَهُ وَلِيٌّ) بِمَنْزِلَتِهِ مَعَ
أَهْلِيَّتِهِ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَ (لَا) يَكُونُ مَنْ قَدَّمَهُ
(وَصِيٌّ بِمَنْزِلَتِهِ) ، أَيْ: الْوَصِيِّ، لِتَفْوِيتِهِ عَلَى
الْمُوصِي مَا أَمَّلَهُ فِي الْوَصِيِّ مِنْ الْخَيْرِ، فَإِنْ لَمْ
يُصَلِّ الْوَصِيُّ (انْتَقَلَتْ إلَى مَنْ بَعْدَهُ) .
(وَتُبَاحُ) صَلَاةٌ عَلَى مَيِّتٍ (بِمَسْجِدٍ مَعَ أَمْنِ تَلْوِيثٍ)
«لِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَهْلِ
بْنِ بَيْضَاءَ فِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.
وَجَاءَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ صُلِّيَ عَلَيْهِمَا فِي الْمَسْجِدِ،
وَكَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنْ خِيفَ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ بِنَحْوِ
انْفِجَارِهِ؛ حَرُمَ إدْخَالُهُ إيَّاهُ صِيَانَةً لَهُ مِنْ
النَّجَاسَةِ.
(وَسُنَّ قِيَامُ إمَامٍ وَ) قِيَامُ (مُنْفَرِدٍ عِنْدَ صَدْرِ رَجُلٍ) ،
أَيْ: ذَكَرٍ، (وَوَسَطِ امْرَأَةٍ) - أَيْ: أُنْثَى - نَصًّا (وَ)
قِيَامُهُمَا (بَيْنَ ذَلِكَ) ، أَيْ: الصَّدْرِ وَالْوَسَطِ (مِنْ
خُنْثَى) مُشْكِلٍ، لِتَسَاوِي الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِ
(وَ) سُنَّ (أَنْ يَلِيَ إمَامًا) إذَا اجْتَمَعَ مَوْتَى (مِنْ كُلِّ
نَوْعٍ أَفْضَلُ) أَفْرَادِ ذَلِكَ النَّوْعِ لِفَضِيلَتِهِ «لِتَقْدِيمِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
(1/878)
الْقَبْرِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ قُرْآنًا»
فَيُقَدَّمُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ الْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ.
فَعَبْدٌ كَذَلِكَ.
فَصَبِيٌّ كَذَلِكَ، ثُمَّ خُنْثَى ثُمَّ امْرَأَةٌ كَذَلِكَ، وَتُقَدَّمُ.
(فَأَسُنُّ فَأَسْبَقُ) إنْ اسْتَوَوْا، (ثُمَّ يُقْرَعُ) مَعَ
الِاسْتِوَاءِ فِي الْكُلِّ.
وَإِذَا سَقَطَ فَرْضُهَا؛ سَقَطَ التَّقْدِيمُ. (وَجَمْعُهُمْ) ، أَيْ:
الْمَوْتَى مَعَ التَّعَدُّدِ (بِصَلَاةٍ) وَاحِدَةٍ (أَفْضَلُ) مِنْ
إفْرَادِ كُلٍّ بِصَلَاةٍ؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ وَأَبْلُغُ فِي تَوْفِيرِ
الْجَمْعِ. (وَيُقَدَّمُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ) لِلْإِمَامَةِ عَلَيْهِمْ
(أَوْلَاهُمْ) بِإِمَامَةٍ (كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ) ، وَكَمَا لَوْ
اسْتَوَى وَلِيَّانِ لِوَاحِدٍ، (وَلِوَلِيِّ كُلٍّ) مِنْهُمْ (أَنْ
يَنْفَرِدَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ) ، أَيْ: مَيِّتِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا
فِي تَوَلِّيهِ. (وَيُجْعَلُ وَسَطُ أُنْثَى حِذَاءَ صَدْرِ رَجُلٍ، وَ)
يُجْعَلُ (خُنْثَى) بَيْنَهُمَا (لِيَقِفَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ
مَوْقِفَهُ) مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، (وَيُسَوَّى بَيْنَ رُءُوسِ
كُلِّ نَوْعٍ) ؛ لِأَنَّ مَوْقِفَ النَّوْعِ وَاحِدٌ.
(وَلَا يَجِبُ أَنْ يُسَامِتَ الْإِمَامُ الْمَيِّتَ) بَلْ يُسْتَحَبُّ
اقْتِدَاءٌ بِفِعْلِ السَّلَفِ، (فَإِنْ لَمْ يُسَامِتْهُ) الْإِمَامُ،
بِأَنْ تَأَخَّرَ، وَتَحَوَّلَ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، (كُرِهَ) لَهُ
ذَلِكَ فَإِنْ فَحُشَ تَحَوُّلُهُ عَنْهُ بِحَيْثُ غَابَ عَنْ نَظَرِهِ،
أَوْ جَعَلَهُ عَلَى عُلُوٍّ: أَوْ فِي بِئْرٍ لَمْ تَصِحَّ لِاشْتِرَاطِ
حُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
(وَالْأَوْلَى) لِمُصَلٍّ (مَعْرِفَةُ ذُكُورَةِ مَيِّتٍ وَأُنُوثَتِهِ)
وَاسْمِهِ (وَتَسْمِيَتُهُ) أَيْ: الْمَيِّتِ (فِي دُعَائِهِ) لَهُ (وَلَا
بَأْسَ بِإِشَارَةٍ إلَيْهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (حَالَ دُعَاءٍ) نَصًّا.
(وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ عَيْنِ مَيِّتٍ) ، لِعَدَمِ تَوَقُّفِ
الْمَقْصُودِ عَلَى ذَلِكَ، (فَيَنْوِي) الصَّلَاةَ عَلَى (الْحَاضِرِ)
أَوْ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَإِنْ نَوَى أَحَدَ الْمَوْتَى
اُعْتُبِرَ تَعْيِينُهُ) إزَالَةً لِلْجَهَالَةِ.
(1/879)
(فَإِنْ) عَيَّنَ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ
عَلَى زَيْدٍ. فَ (بَانَ) الْمَيِّتُ (غَيْرَهُ، لَمْ تَصِحَّ) الصَّلَاةُ.
(جَزَمَ بِهِ أَبُو الْمَعَالِي وَقَالَ: إنْ نَوَى عَلَى هَذَا الرَّجُلِ.
فَبَانَ امْرَأَةً أَوْ عَكَسَ) ، بِأَنْ نَوَى عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ،
فَبَانَتْ رَجُلًا: (فَالْقِيَاسُ الْإِجْزَاءُ) لِقُوَّةٍ التَّعْيِينِ،
قَالَهُ فِي " الْفُرُوعِ ": وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ غَيْرِهِ.
(وَيَتَّجِهُ: لَوْ) نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى جَمَاعَةٍ (ظَنَّهُمْ سَبْعًا)
فَقَطْ (فَبَانُوا تِسْعًا؛ لَا) تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَلَيْهِمْ
لِاقْتِصَارِهِ فِي النِّيَّةِ عَلَى سَبْعٍ، وَخُرُوجِ الِاثْنَيْنِ مَعَ
ظَنِّهِ دُخُولَهُمَا، (وَعَكْسُهُ) : بِأَنْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى
مَوْتَى ظَنَّهُمْ تِسْعًا فَبَانُوا سَبْعًا، (نَعَمْ) تُجْزِئُ
صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ التِّسْعَ سَبْعٌ وَزِيَادَةٌ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(ثُمَّ يُكَبِّرُ) مُصَلٍّ (أَرْبَعًا يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ
تَكْبِيرَةٍ) يُحْرِمُ بِ التَّكْبِيرَةِ (الْأُولَى) بَعْدَ النِّيَّةِ،
فَيَقُولُ قَائِمًا مَعَ الْقُدْرَةِ: اللَّهُ أَكْبَرُ.
لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى النِّيَّةِ
هُنَا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ.
لِحَدِيثِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَيَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى
شِمَالِهِ.
وَيَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ، (وَلَا يَسْتَفْتِحُ) لِأَنَّهَا
مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ (وَيَتَعَوَّذُ وَيُسَمِّي وَيَقْرَأُ
الْفَاتِحَةَ فَقَطْ) ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ سُورَةٍ (سِرًّا، وَلَوْ
لَيْلًا) .
(1/880)
لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ «السُّنَّةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى
الْجِنَازَةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بِأُمِّ
الْقُرْآنِ مُخَافَتَةً. ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَالسَّلَامُ» وَلَا
تُقَاسُ عَلَى الْمَكْتُوبَةِ.
؛ لِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ، وَالْجِنَازَةَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ. (وَيُصَلِّي
عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِ) تَكْبِيرَةٍ
(ثَانِيَةٍ) سِرًّا، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْأَثْرَمُ
بِإِسْنَادِهِمَا «عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أَنَّ السُّنَّةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَنْ يُكَبِّرَ
الْإِمَامُ، ثُمَّ يَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ
الْأُولَى سِرًّا فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُخْلِصَ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ
يُسَلِّمَ» . وَتَكُونُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ (كَفِي تَشَهُّدٍ) ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَأَلُوهُ كَيْفَ
نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ عَلَّمَهُمْ ذَلِكَ. (وَيَدْعُوَ) لِلْمَيِّتِ (بِ)
تَكْبِيرَةٍ (ثَالِثَةٍ) ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ
الدُّعَاءَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. (وَلَا يَتَعَيَّنُ)
دُعَاءٌ (فِيهَا) .
أَيْ: الثَّالِثَةِ. (فَيُجْزِئُ بَعْدَ) تَكْبِيرَةٍ (رَابِعَةٍ) ، نَصَّ
عَلَيْهِ. (وَيَدْعُو بِأَحْسَنِ مَا يَحْضُرُهُ وَسُنَّ) دُعَاؤُهُ
(بِمَا) وَرَدَ. (وَمِنْهُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا
وَشَاهِدِنَا) - أَيْ: حَاضِرِنَا (وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا
وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا إنَّك تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا) - أَيْ
مُنْصَرَفَنَا - (وَمَثْوَانَا) - أَيْ: مَأْوَانَا - (وَأَنْتَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ
عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ
عَلَيْهِمَا ") رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: " اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا
تَفْتِنَّا بَعْدَهُ " وَفِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ.
قَالَ الْحَاكِمُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ عَلَى
(1/881)
شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، لَكِنْ زَادَ فِيهِ
الْمُوَفَّقُ: " وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " وَلَفْظُ
السُّنَّةِ: (" اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ
عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ) - بِضَمِّ الزَّايِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ
قِرَاءَةُ - (وَأَوْسِعْ مَدْخَلَهُ) - بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَوْضِعَ
الدُّخُولِ، وَبِضَمِّهَا، الْإِدْخَالَ - (وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ
وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) - بِالتَّحْرِيكِ: الْمَطَرُ الْمُنْعَقِدُ -
(وَنَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ
الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ،
وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ) - يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لِمَنْ
لَهُ زَوْجَةٌ - (وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ ") رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ
بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى جِنَازَةٍ حَتَّى تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ الْمَيِّتَ، وَفِيهِ: وَأَبْدِلْهُ أَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ»
وَزَادَ الْمُوَفَّقُ لَفْظَ " مِنْ الذُّنُوبِ " وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ
وَغَيْرُهُ. (وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ) ؛
لِأَنَّهُ لَائِقٌ بِالْحَالِ.
زَادَ الْخِرَقِيِّ وَالْمَجْدُ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمْ: (اللَّهُمَّ
إنَّهُ عَبْدُكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ
بِهِ) ، إنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا، فَإِنْ كَانَ امْرَأَةً؛ قَالَ:
اللَّهُمَّ إنَّهَا أَمَتُكَ ابْنَةُ أَمَتِكِ، نَزَلَتْ بِكَ وَأَنْتَ
خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ.
زَادَ بَعْضُهُمْ: وَلَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ
وَغَيْرُهُ: وَلَا يَقُولُ إلَّا إنْ عَلِمَ خَيْرًا، وَإِلَّا أَمْسَكَ
عَنْهُ حِذَارًا مِنْ الْكَذِبِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ،
فَيَشْهَدُ لَهُ ثَلَاثُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ؛ إلَّا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي فِيمَا
عَلِمُوا، وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. (اللَّهُمَّ
إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَجَازِهِ بِإِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا
فَتَجَاوَزْ عَنْهُ) زَادَ فِي " الْمُبْدِعِ ": اللَّهُمَّ إنَّا جِئْنَا
شُفَعَاءَ لَهُ فَشَفِّعْنَا فِيهِ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ، وَاغْفِرْ
لَنَا وَلَهُ، إنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (وَإِنْ كَانَ) الْمَيِّتُ
(1/882)
(صَغِيرًا، أَوْ بَلَغَ مَجْنُونًا
وَاسْتَمَرَّ) عَلَى جُنُونِهِ حَتَّى مَاتَ (قَالَ) بَعْدُ: وَمَنْ
تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِمَا، (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ
ذُخْرًا لِوَالِدَيْهِ وَفَرَطًا) أَيْ: سَابِقًا لِمَصَالِحِ أَبَوَيْهِ
فِي الْآخِرَةِ، سَوَاءٌ مَاتَ فِي حَيَاتِهِمَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمَا
(وَأَجْرًا وَشَفِيعًا مُجَابًا، اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا،
وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا، وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إبْرَاهِيمَ، وَقِه
بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيمِ) ، لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
مَرْفُوعًا: «السَّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ
بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ» وَفِي لَفْظٍ: " بِالْعَافِيَةِ
وَالرَّحْمَةِ " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُسَنَّ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ شَافِعٌ غَيْرُ
مَشْفُوعٍ فِيهِ، وَلَا جَرَى عَلَيْهِ قَلَمٌ، فَالْعُدُولُ إلَى
الدُّعَاءِ لِوَالِدَيْهِ أَوْلَى مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ
الدُّعَاءِ لَائِقٌ بِالْمَحَلِّ، مُنَاسِبٌ لِمَا هُوَ فِيهِ، فَشَرَعَ
فِيهِ كَالِاسْتِغْفَارِ لِلْبَالِغِ، وَقَوْلُهُ: فِي كَفَالَةِ
إبْرَاهِيمَ؛ يُشِيرُ بِهِ إلَى مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانُ قَالَ:
إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: طُوبَى، كُلُّهَا ضُرُوعٌ،
فَمَنْ مَاتَ مِنْ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ يَرْضَعُونَ رَضَعَ مِنْ طُوبَى،
وَحَاضِنُهُمْ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ إسْلَامَ
وَالِدَيْهِ دَعَا لِمَوَالِيهِ) ، فَيَقُولُ: ذُخْرًا لِمَوَالِيهِ. إلَى
آخِرِهِ. (وَيُؤَنَّثُ الضَّمِيرُ عَلَى أُنْثَى، وَلَا يَقُولُ:
وَأَبْدِلْهَا زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهَا) فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ،
قَالَهُ فِي " الْفُرُوعِ ": (وَيُشِيرُ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمَا) ، أَيْ:
الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي صَلَاةٍ (عَلَى خُنْثَى) ، فَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِهَذَا الْمَيِّتِ وَنَحْوِهِ. (وَيَقِفُ بَعْدَ)
تَكْبِيرَةٍ (رَابِعَةٍ قَلِيلًا، وَلَا يَدْعُوَ) بَعْدَهَا (حَيْثُ دَعَا
أَوَّلًا) لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ، نَصَّ عَلَيْهِ. (وَيُسَلِّمُ بِلَا
تَشَهُّدٍ) وَلَا تَسْبِيحٍ - نَصَّ عَلَيْهِ - تَسْلِيمَةً (وَاحِدَةً
عَنْ يَمِينِهِ) نَصًّا، وَقَالَ: عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ،
وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/883)
«وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمَ» فَيَجْهَرُ
بِهَا الْإِمَامُ كَالْمَكْتُوبَةِ، (وَيَجُوزُ) أَنْ يُسَلِّمَ (تِلْقَاءَ
وَجْهِهِ) مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ نَصًّا. (وَ) يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ
تَسْلِيمَةً (ثَانِيَةً) عَنْ يَسَارِهِ، لِمَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ عَنْ
ابْنِ أَبِي أَوْفَى تَسْلِيمَتَيْنِ، وَاسْتَحَبَّهُ الْقَاضِي، وَيَجُوزُ
وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ؛ لَكِنْ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ
أَوْلَى، (وَسُنَّ وُقُوفُهُ) ، أَيْ: الْمُصَلِّي (حَتَّى تُرْفَعَ)
الْجِنَازَةُ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ، قَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَنْفَضُّ الصُّفُوفُ حَتَّى تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ.
(وَأَرْكَانُهَا) ، أَيْ: صَلَاةِ الْجِنَازَةِ سَبْعَةٌ: أَحَدُهَا:
(قِيَامُ قَادِرٍ فِي فَرْضِهَا) ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ قَاعِدٍ، وَلَا
رَاكِبٍ رَاحِلَةً بِلَا عُذْرٍ، لِفَوَاتِ رُكْنِهَا، وَهُوَ الْقِيَامُ،
وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ نَفْلَهَا يَصِحُّ مِنْ الْقَاعِدِ كَنَفْلِ سَائِرِ
الصَّلَوَاتِ، وَمِنْ الرَّاكِبِ وَالْمُسَافِرِ. (وَ) الثَّانِي:
(تَكْبِيرَاتٌ أَرْبَعٌ) ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ
وَجَابِرٌ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَبَّرَ
أَرْبَعًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، (فَإِنْ تَرَكَ غَيْرُ
مَسْبُوقٍ تَكْبِيرَةً) مِنْ الْأَرْبَعِ (عَمْدًا؛ بَطَلَتْ) صَلَاتُهُ
لِتَرْكِهِ رُكْنًا، (وَ) إنْ تَرَكَهَا (سَهْوًا يُكَبِّرُهَا) كَمَا لَوْ
سَلَّمَ قَبْلَ إتْمَامِهَا سَهْوًا (مَا لَمْ يُطِلْ فَصْلٌ، فَإِنْ
طَالَ) فَصْلٌ عُرْفًا؛ اسْتَأْنَفَهَا (أَوْ وَجَدَ مُنَافٍ) لِلصَّلَاةِ
مِنْ كَلَامٍ أَوْ غَيْرِهِ (اسْتَأْنَفَ) الصَّلَاةَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ
قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا " صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، فَكَبَّرَ عَلَيْهَا
ثَلَاثًا، وَتَكَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّمَا كَبَّرْت ثَلَاثًا؛ فَرَجَعَ
فَكَبَّرَ أَرْبَعًا رَوَاهُ حَرْبٌ فِي مَسَائِلِهِ وَالْخَلَّالُ فِي
جَامِعِهِ، وَعَوْدُهُ إلَى ذَلِكَ لَمَّا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ
عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ.
(وَ) الثَّالِثُ: (قِرَاءَةُ) الـ (فَاتِحَةِ عَلَى غَيْرِ مَأْمُومٍ)
وَهُوَ الْإِمَامُ
(1/884)
وَالْمُنْفَرِدُ، وَلِحَدِيثِ: «لَا
صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَيَتَحَمَّلُهَا
الْإِمَامُ عَنْ الْمَأْمُومِ. (وَ) الرَّابِعُ: الـ (صَّلَاةُ عَلَى
مُحَمَّدٍ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ: «لَا
صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ» ، ذَكَرَهُ فِي "
الْمُبْدِعِ ". (وَ) الْخَامِسُ: (أَدْنَى دُعَاءٍ لِمَيِّتٍ) ؛ لِأَنَّهُ
الْمَقْصُودُ، فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ. (وَيَتَّجِهُ) : أَنَّهُ
لَا بُدَّ مِنْ أَنْ (يَخُصَّهُ) ، أَيْ: يَخُصَّ الْمُصَلِّي الْمَيِّتَ
(بِهِ) ، أَيْ: الدُّعَاءِ، فَلَا يَكْفِي قَوْلُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَإِنْ دَخَلَ فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ (بِنَحْوِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ) لِتَتِمَّ
فَائِدَةُ الصَّلَاةِ. (وَ) السَّادِسُ: الـ (سَلَّامٍ) ؛ لِأَنَّهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى الْجِنَازَةِ.
(وَ) السَّابِعُ: الـ (تَّرْتِيبُ) عَلَى هَذَا النَّمَطِ، (لَكِنْ لَا
يَتَعَيَّنُ) الـ (دُعَاءُ) لِلْمَيِّتِ (بِ) تَكْبِيرَةٍ (ثَالِثَةٍ
لِجَوَازِهِ بَعْدَ) تَكْبِيرَةٍ (رَابِعَةٍ) ، نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ
عَنْ الْأَصْحَابِ.
(وَشُرُوطُهَا) ، أَيْ: صَلَاةِ الْجِنَازَةِ كَمَكْتُوبَةٍ: (إسْلَامُ)
مُصَلٍّ وَمُصَلًّى عَلَيْهِ، وَعَقْلُ مُصَلٍّ، (وَطَهَارَةٌ) وَلَوْ
بِتُرَابٍ لِعُذْرٍ، (وَسَتْرُ عَوْرَةِ مُصَلٍّ، وَمُصَلًّى عَلَيْهِ مَعَ
قُدْرَةٍ) عَلَى ذَلِكَ (وَنِيَّةٌ وَتَكْلِيفُ مُصَلٍّ) شَرْطٌ
لِسُقُوطِهَا، بِخِلَافِ الْمُمَيِّزِ فَتَصِحُّ مِنْهُ، وَلَا تَسْقُطُ
بِهِ (وَاجْتِنَابُهُ) ، أَيْ: الْمُصَلِّي (النَّجَاسَةَ وَاسْتِقْبَالُهُ
الْقِبْلَةَ) ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ (وَحُضُورُ)
الـ (مَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْهِ) ؛ أَيْ: الْمُصَلِّي (فَلَا
(1/885)
تَصِحُّ) الصَّلَاةُ (عَلَى جِنَازَةٍ
مَحْمُولَةٍ) ؛ لِأَنَّهَا كَالْإِمَامِ، (وَلَا) تَصِحُّ (مِنْ وَرَاءَ
حَائِلٍ قَبْلَ دَفْنِ) الْمَيِّتِ (كَحَائِطٍ) وَنَحْوِهِ، (وَلَا)
تَصِحُّ الصَّلَاةُ (عَلَى مَنْ فِي تَابُوتٍ مُغَطًّى) ، فَيَكْشِفُهُ
وَيُصَلِّي عَلَيْهَا، (وَقَالَ: ابْنُ حَامِدٍ: يَصِحُّ) أَنْ يُصَلَّى
عَلَى مَنْ فِي التَّابُوتِ (كَالْمُكِبَّةِ) وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ
صِحَّتِهَا فِي التَّابُوتِ، وَتَحْتَ الْمُكِبَّةِ، وَفِي النَّعْشِ
الْمُغَطَّى، قَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ ".
(وَيُصَلَّى عَلَى غَائِبٍ عَنْ) الـ (بَلَدِ وَلَوْ) كَانَ (دُونَ
مَسَافَةِ قَصْرٍ أَوْ فِي غَيْرِ قِبْلَتِهِ) - أَيْ: الْمُصَلِّي -
فَتَصِحُّ مِنْ الْإِمَامِ وَالْآحَادِ نَصًّا، لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي
«صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى
النَّجَاشِيِّ وَأَمْرِهِ أَصْحَابَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ. (وَ) يُصَلَّى (عَلَى غَرِيقٍ وَأَسِيرٍ وَنَحْوِهِ) ،
وَيَسْقُطُ شَرْطُ الْحُضُورِ وَالْغُسْلِ لِلْحَاجَةِ (إلَى شَهْرٍ) مِنْ
مَوْتِهِ (بِالنِّيَّةِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ
تَلَاشٍ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ فِي جَانِبٍ مِنْ
الْبَلَدِ وَالْمُصَلِّي فِي الْآخَرِ؛ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ،
لِإِمْكَانِ الْحُضُورِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى قَبْرِهِ،
أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَا فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ
الصَّلَاةُ عَلَى قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا
يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
(وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُزَادَ) فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ (عَلَى أَرْبَعِ
تَكْبِيرَاتٍ) لِجَمْعِ عُمَرَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ تَدُلُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ، وَغَيْرِهَا
يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ. (وَيُتَابَعُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ
(إمَامٌ زَادَ) عَلَى تَكْبِيرَةٍ رَابِعَةٍ (إلَى سَبْعِ) تَكْبِيرَاتٍ
(فَقَطْ) ، قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ،
قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى
حَمْزَةَ سَبْعًا» رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينِ.
«وَكَبَّرَ عَلَى أَبِي قَتَادَةَ سَبْعًا، وَعَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ
(1/886)
سِتًّا» ، وَقَالَ: إنَّهُ يُرْوَى أَنَّ
عُمَرَ جَمَعَ النَّاسَ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَبَّرَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْعًا، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: أَرْبَعًا، فَجَمَعَ النَّاسَ عُمَرُ عَلَى أَرْبَعِ
تَكْبِيرَاتٍ، وَقَالَ: هُوَ أَطْوَلُ الصَّلَاةِ يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ
تَكْبِيرَةٍ عَلَى الْجِنَازَةِ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ ذَاتِ
الرُّكُوعِ، وَأَطْوَلُ الْمَكْتُوبَاتِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، (مَا لَمْ
تُظَنَّ بِدْعَتُهُ) ، أَيْ: الْإِمَامُ (أَوْ) يُظَنَّ (رَفْضُهُ، فَلَا
يُتَابَعَ) فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، لِمَا فِي مُتَابَعَتِهِ مِنْ
إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ، (وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَبَّحَ بِهِ) - أَيْ:
الْإِمَامِ - إذَا جَاوَزَ السَّبْعَ (بَعْدَ) تَكْبِيرَةٍ (سَابِعَةٍ) ،
لِاحْتِمَالِ سَهْوِهِ، وَقَبْلَهَا لَا يُسَبَّحُ بِهِ، قَالَ فِي "
الْفُرُوعِ ": (وَلَا يَدْعُو مَأْمُومٌ فِي مُتَابَعَةِ) إمَامِهِ
(بَعْدَ) تَكْبِيرَةٍ (رَابِعَةٍ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لَهُ فِي
أَصْلِ الصَّلَاةِ. (وَلَا تَبْطُلُ) صَلَاةُ الْجِنَازَةِ (بِمُجَاوَزَةِ
سَبْعِ) تَكْبِيرَاتٍ، وَلَوْ (عَمْدًا) ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ قَوْلٍ
مَشْرُوعٍ فِي أَصْلِهِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ، أَشْبَهَ تَكْرَارَ
الْفَاتِحَةِ وَالتَّشَهُّدِ، وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، أَوْ نَقُولُ:
تَكْرَارُ تَكْبِيرَةٍ أَشْبَهَ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَعَكْسُهُ
زِيَادَةُ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ أَفْعَالٍ، وَلِهَذَا لَوْ
زَادَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ. (وَيَحْرُمُ) عَلَى
مَأْمُومٍ أَنْ يُتَابَعَ فِيمَا زَادَ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ (سَلَامٌ
قَبْلَهُ) ، أَيْ: قَبْلَ إمَامِهِ نَصًّا، (وَإِنْ جَاوَزَ سَبْعًا) ؛
لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَلَا يُقْطَعُ مِنْ أَجْلِهِ
الْمُتَابَعَةُ كَإِطَالَةِ الدُّعَاءِ. (وَيُخَيَّرُ مَسْبُوقٌ) سَلَّمَ
إمَامُهُ (بَيْنَ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ، وَ) بَيْنَ (سَلَامٍ مَعَهُ) ،
أَيْ: الْإِمَامِ، لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إنِّي أُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُ
التَّكْبِيرِ، قَالَ: مَا سَمِعْتِ فَكَبِّرِي، وَمَا فَاتَكِ فَلَا
قَضَاءَ عَلَيْكِ» وَيُسْتَحَبُّ إحْرَامُ
(1/887)
مَسْبُوقٍ مَعَهُ فِي أَيِّ حَالٍ
صَادَفَهُ، وَلَا يُنْتَظَرُ تَكْبِيرُهُ كَبَاقِي الصَّلَوَاتِ
(وَلَوْ كَبَّرَ) إمَامٌ أَوْ مُنْفَرِدٌ عَلَى جِنَازَةٍ (فَجِيءَ بِ)
جِنَازَةٍ (أُخْرَى كَبَّرَ) تَكْبِيرَةً (ثَانِيَةً وَنَوَاهُمَا) ، أَيْ:
الْجِنَازَتَيْنِ، (فَإِنْ جِيءَ بِ) جِنَازَةٍ (ثَالِثَةٍ كَبَّرَ)
تَكْبِيرَةً (ثَالِثَةً وَنَوَى الْجَنَائِزَ الثَّلَاثَ، فَإِنْ جِيءَ بِ)
جِنَازَةٍ (رَابِعَةٍ كَبَّرَ) تَكْبِيرَةً (رَابِعَةً وَنَوَى)
الْجَنَائِزَ (الْكُلَّ، فَيَصِيرُ مُكَبِّرًا عَلَى الْأُولَى أَرْبَعًا
وَعَلَى ثَانِيَةٍ ثَلَاثًا وَعَلَى ثَالِثَةٍ ثِنْتَيْنِ، وَعَلَى
الرَّابِعَةِ وَاحِدَةً، فَيَأْتِي بِثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ أُخَرَ)
تَتِمَّةَ السَّبْعِ، (فَيُتِمُّ) تَكْبِيرَهُ (سَبْعًا يَقْرَأُ)
الْفَاتِحَةَ (فِي خَامِسَةٍ، وَيُصَلِّي) عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِسَادِسَةٍ، وَيَدْعُوَ) لِلْمَوْتَى
(بِسَابِعَةٍ) ، ثُمَّ يُسَلِّمُ (فَيَصِيرُ مُكَبِّرًا عَلَى)
الْجِنَازَةِ (الْأُولَى سَبْعًا، وَ) عَلَى (ثَانِيَةٍ سِتًّا، وَ) عَلَى
(ثَالِثَةٍ خَمْسًا، وَ) عَلَى (رَابِعَةٍ أَرْبَعًا، فَإِنْ جِيءَ) بَعْدَ
التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ (بِ) جِنَازَةٍ (خَامِسَةٍ لَمْ يَنْوِهَا،
بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهَا بَعْدَ سَلَامِهِ) لِئَلَّا يُؤَدِّيَ
تَنْقِيصُهَا عَنْ أَرْبَعِ أَوْ زِيَادَةُ مَا قَبْلَهَا عَلَى سَبْعٍ،
وَكِلَاهُمَا مَحْظُورٌ، (وَكَذَا لَوْ جِيءَ بِ) جِنَازَةٍ (ثَانِيَةٍ
عَقِبَ تَكْبِيرَةٍ رَابِعَةٍ) لَمْ يَجُزْ إدْخَالُهَا فِي الصَّلَاةِ
(لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ) التَّكْبِيرَاتِ (السَّبْعِ أَرْبَعٌ) بَلْ
ثَلَاثٌ فَيُؤَدِّي إلَى مَا سَبَقَ (وَيَقْضِي مَسْبُوقٌ نَدْبًا) إذَا
سَلَّمَ إمَامُهُ (مَا فَاتَهُ عَلَى صِفَتِهِ) ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ
يَحْكِي الْأَدَاءَ كَبَاقِي الصَّلَوَاتِ، فَيُتَابِعُ إمَامَهُ فِيمَا
أَدْرَكَهُ فِيهِ، ثُمَّ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ كَبَّرَ، وَقَرَأَ
الْفَاتِحَةَ؛ لِأَنَّ مَا أَدْرَكَ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَمَا يَقْضِيهِ
أَوَّلُهَا، (وَإِنْ) كَانَ الْمَقْضِيُّ (بَعْدَ) تَكْبِيرَةٍ (رَابِعَةٍ)
، بِأَنْ زَادَ الْإِمَامُ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، فَيُقْضَى عَلَى
صِفَةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، (فَإِنْ أَدْرَكَهُ) الْمَسْبُوقُ (بِدُعَاءٍ
تَابَعَهُ فِيهِ) ، أَيْ: الدُّعَاءِ، (فَإِذَا سَلَّمَ إمَامٌ كَبَّرَ
وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ) بَعْدَ التَّعَوُّذِ وَالْبَسْمَلَةِ، (ثُمَّ
كَبَّرَ وَصَلَّى) عَلَى النَّبِيِّ،
(1/888)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(ثُمَّ كَبَّرَ وَسَلَّمَ) ، لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَقْضِيَّ أَوَّلَ
صَلَاتِهِ فَيَأْتِي فِيهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، لِعُمُومِ حَدِيثِ: «وَمَا
فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَ الدُّعَاءُ بَعْدَ
الرَّابِعَةِ، أَوْ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَا
لِنَوْمٍ أَوْ سَهْوٍ وَنَحْوِهِ، وَإِلَّا لِزَامٌ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ
عَلَى أَرْبَعٍ، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ، فَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي
الدُّعَاءِ، وَكَبَّرَ الْأَخِيرَةَ مَعَهُ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ
كَبَّرَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ؛
لِأَنَّ الْأَرْبَعَ تَمَّتْ. تَتِمَّةٌ: مَتَى أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي
التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، فَكَبَّرَ وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ
كَبَّرَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهَا؛ تَابَعَهُ وَقَطَعَ
الْقِرَاءَةَ، كَالْمَسْبُوقِ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ إذَا أَدْرَكَ
الْإِمَامَ قَبْلَ إتْمَامِهِ الْقِرَاءَةَ، (فَإِنْ خَشِيَ) الْمَسْبُوقُ
(رَفْعَهَا) ، أَيْ: الْجِنَازَةِ (تَابَعَ) ، أَيْ: وَالَى بَيْنَ
(التَّكْبِيرِ) مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ وَصَلَاةٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا دُعَاءٍ، (رُفِعَتْ) الْجِنَازَةُ
(أَوْ لَا) ، قَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " وَحَكَاهُ نَصًّا. (وَإِنْ
سَلَّمَ) مَسْبُوقٌ عَقِبَ إمَامِهِ (وَلَمْ يَقْضِ) مَا فَاتَهُ؛
(صَحَّتْ) صَلَاتُهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَتَقَدَّمَ. (وَلَا تُوضَعُ)
الْجِنَازَةُ بَعْدَ أَنْ صُلِّيَ عَلَيْهَا (لِصَلَاةِ أَحَدٍ بَعْدَ
رَفْعِهَا) عَنْ الْأَرْضِ تَحْقِيقًا لِلْمُبَادَرَةِ إلَى مُوَارَاةِ
الْمَيِّتِ.
[فَصْلٌ إعَادَة صَلَاة الْجِنَازَةِ]
(فَصْلٌ) (وَكُرِهَ لِمَنْ صَلَّى) عَلَى الْجِنَازَةِ (إعَادَتُهَا) ،
أَيْ: الصَّلَاةِ، قَالَ فِي " الْفُصُولِ ": لَا يُصَلِّيهَا مَرَّتَيْنِ
كَالْعِيدِ (إلَّا إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (بِلَا إذْنِ
الْأَوْلَى بِهَا) ، أَيْ: بِالصَّلَاةِ مِنْ الْمُصَلِّي (مَعَ حُضُورِهِ)
- أَيْ: الْأَوْلَى - وَعَدَمِ إذْنِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ،
(فَتُعَادُ) الصَّلَاةُ عَلَيْهِ (تَبَعًا) لِلْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهَا
حَقُّهُ، ذَكَرَهُ أَبُو الْمَعَالِي
(1/889)
(وَتُسَنُّ إعَادَتُهَا لِمَنْ صُلِّيَ
عَلَيْهِ غَائِبًا) بِالنِّيَّةِ (ثُمَّ حَضَرَ) فَيُسْتَحَبُّ أَنْ
يُصَلَّى عَلَيْهِ ثَانِيًا.
(وَ) تُسَنُّ الصَّلَاةُ (عَلَى بَعْضِ مَيِّتٍ) بِشَرْطِهِ الْآتِي
(صُلِّيَ عَلَى جُمْلَتِهِ دُونَهُ) ، أَيْ: دُونَ ذَلِكَ الْبَعْضِ،
فَتُسَنُّ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ بَعْدَ تَغْسِيلِهِ
وَتَكْفِينِهِ وُجُوبًا.
(وَلِمَنْ فَاتَتْهُ) صَلَاةُ الْجِنَازَةِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ
الصَّلَاةُ اسْتِحْبَابًا (وَلَوْ جَمَاعَةً قَبْلَ دَفْنِ) الْمَيِّتِ
(وَبَعْدَهُ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (بِقَبْرِهِ) -
أَيْ: عَلَى قَبْرِهِ - جَاعِلًا لَهُ (بَيْنَ يَدَيْهِ) كَالْإِمَامِ،
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ
الْمَسْجِدَ، أَوْ شَابًّا، فَفَقَدَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فَقَدَهُ، فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ؛
فَقَالُوا: مَاتَتْ، أَوْ: مَاتَ، فَقَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي
قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ، فَقَالَ:
دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا، أَوْ عَلَى قَبْرِهِ فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى
عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهِ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «انْتَهَى رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى قَبْرٍ رَطْبٍ
فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَصَفُّوا خَلْفَهُ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِمَا.
قَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ يَشُكُّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ؟ رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سِتَّةِ
وُجُوهٍ كُلُّهَا حِسَانٌ. (إلَى شَهْرٍ مِنْ دَفْنِهِ، لَا) مِنْ
(مَوْتِهِ) ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
«أَنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - غَائِبٌ، فَلَمَّا قَدِمَ صَلَّى عَلَيْهَا، وَقَدْ مَضَى
لِذَلِكَ شَهْرٌ» وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، قَالَ أَحْمَدُ: أَكْثُرُ مَا
سَمِعْتُ هَذَا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ،
فَتَقَيَّدَ بِهِ (وَ) إلَى (زِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ) عَلَى الشَّهْرِ قَالَ
الْقَاضِي: (كَيَوْمَيْنِ) فَقَطْ، (وَيَحْرُمُ) أَنْ يُصَلَّى عَلَى
قَبْرٍ (بَعْدَهَا) ، أَيْ: بَعْدَ الزِّيَادَةِ الْيَسِيرَةِ نَصَّ
عَلَيْهِ، قَالَ فِي " الْمُبْدِعِ ": فَأَمَّا إذَا لَمْ يُدْفَنْ؛
فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ مَضَى أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ
(وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُ مَيِّتٍ تَحْقِيقًا) بِأَنْ
(1/890)
تَحَقَّقَ الْمَوْتُ، وَكَانَ الْمَيِّتُ
(لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) ، وَهُوَ (غَيْرُ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَسِنٍّ)
فَحُكْمُهُ (كَكُلِّهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (مِنْ وُجُوبِ غُسْلٍ
وَتَكْفِينٍ وَصَلَاةٍ) عَلَيْهِ "؛ لِأَنَّ أَبَا أَيُّوبَ صَلَّى عَلَى
رِجْلِ إنْسَانٍ " قَالَهُ أَحْمَدُ.
" وَصَلَّى عُمَرُ عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ
عَلَى رُءُوسٍ " رَوَاهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بِإِسْنَادِهِ،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَلْقَى طَائِرٌ يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ
الْجَمَلِ عُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ، وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَتَّابِ بْنِ أَسِيد، فَصَلَّى عَلَيْهَا أَهْلُ مَكَّةَ.
وَلِأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ مَيِّتٍ، فَثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْجُمْلَةِ،
فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ صُلِّيَ عَلَيْهِ؛ غُسِّلَ مَا وُجِدَ، وَكُفِّنَ
وُجُوبًا، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ نَدْبًا، وَإِنْ كَانَ مَا وُجِدَ شَعْرًا
أَوْ سِنًّا أَوْ ظُفْرًا؛ فَلَا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ
حَالَ الْحَيَاةِ، (وَيَنْوِي بِهَا) ، أَيْ: الصَّلَاةِ عَلَى (ذَلِكَ
الْبَعْضِ) الْمَوْجُودِ (فَقَطْ) ؛ لِأَنَّهُ الْحَاضِرُ (وَكَذَا إنْ
وُجِدَ الْبَاقِي) مِنْ الْمَيِّتِ فَيُغَسَّلُ، وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى
عَلَيْهِ، (وَيُدْفَنُ بِجَنْبِهِ) ، أَيْ: الْقَبْرِ، قَالَ فِي "
الْمُغْنِي ": أَوْ نُبِشَ بَعْضُ الْقَبْرِ، وَدُفِنَ فِيهِ، وَلَا
حَاجَةَ إلَى كَشْفِ الْمَيِّت. (وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِّيَ عَلَى
جُمْلَتِهِ) - أَيْ: الْمَيِّتِ - دُونَ مَا وُجِدَ؛ (وَجَبَ غُسْلُ
وَتَكْفِينُ) ذَلِكَ الْبَعْضِ، (وَسُنَّ صَلَاةٌ) عَلَيْهِ، (وَتَقَدَّمَ)
فِي قَوْلِهِ: عَلَى بَعْضِ مَيِّتٍ صُلِّيَ عَلَى جُمْلَتِهِ دُونَهُ.
(وَلَا يُصَلَّى عَلَى بَعْضِ حَيٍّ) كَيَدٍ قُطِعَتْ فِي سَرِقَةٍ أَوْ
أُكْلَةٍ (فِي وَقْتٍ لَوْ وُجِدَتْ فِيهِ الْجُمْلَةُ) - أَيْ:
الْبَقِيَّةُ - لَمْ تُغَسَّلْ، وَ (لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهَا) لِبَقَاءِ
حَيَاتِهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ وَشَفَاعَةٌ
لِيَخِفَّ عَنْهُ، وَهَذَا عُضْوٌ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الثَّوَابِ
وَالْعِقَابِ، وَكَذَا إنْ شَكَّ فِي مَوْتِ الْبَقِيَّةِ. (وَلَا)
يُصَلَّى (عَلَى مَأْكُولٍ بِبَطْنِ آكِلٍ) مِنْ سَبُعٍ أَوْ غَيْرِهِ،
وَلَوْ مَعَ مُشَاهَدَةِ الْآكِلِ، (وَ) لَا عَلَى (مُسْتَحِيلٍ بِنَحْوِ
إحْرَاقٍ) كَمُصَبَّنَةٍ
(1/891)
وَمُمَلَّحَةٍ بِأَنْ صَارَ رَمَادًا أَوْ
صَابُونًا أَوْ مِلْحًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ مَا يُصَلَّى
عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ شَرْطَ الصَّلَاةِ مِنْ الْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ
مَفْقُودٌ فِي الْمُسْتَحِيلِ.
(وَلَا يُسَنُّ لِلْإِمَامِ، الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَ) لَا لِ (إمَامِ
كُلِّ قَرْيَةٍ، وَهُوَ وَالِيهَا فِي الْقَضَاءِ الصَّلَاةُ عَلَى غَالٍّ)
نَصًّا، وَهُوَ مَنْ كَتَمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا لِيَخْتَصَّ بِهِ «؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْتَنَعَ مِنْ
الصَّلَاةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى
صَاحِبِكُمْ، فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ الْقَوْمِ، فَقَالَ: إنَّ صَاحِبَكُمْ
غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا فِيهِ
خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ.» رَوَاهُ
الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ.
(وَ) لَا عَلَى (قَاتِلِ نَفْسِهِ عَمْدًا) ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ
جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ
يُصَلِّ عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ، قَالَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمَّا أَنَا فَلَا أُصَلِّي
عَلَيْهِ " وَالْمَشَاقِصُ: جَمْعُ مِشْقَصٍ، قَالَ فِي " الْقَامُوسِ ":
وَالْمِشْقَصُ: كَمِنْبَرٍ: نَصْلٌ عَرِيضٌ أَوْ سَهْمٌ فِيهِ ذَلِكَ
النَّصْلُ الطَّوِيلُ، أَوْ سَهْمٌ فِيهِ ذَلِكَ يُرْمَى بِهِ الْوَحْشُ.
انْتَهَى.
فَامْتَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ
الصَّلَاةِ عَلَى الْغَالِّ، وَقَاتِلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ الْإِمَامُ،
وَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا، وَأَلْحَقَ بِهِ مَنْ
سَاوَاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ ثَبَتَ فِي حَقِّ
غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ دَلِيلٌ. (وَإِنْ
صَلَّى) الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوْ نَائِبُهُ (عَلَيْهِمَا) ، أَيْ:
عَلَى الْغَالِّ وَقَاتِلِ نَفْسِهِ عَمْدًا، (فَلَا بَأْسَ) ؛ لِأَنَّ
امْتِنَاعَهُ مِنْ ذَلِكَ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لَا لِتَحْرِيمِهِ
(وَيُصَلَّى عَلَى كُلِّ عَاصٍ؛ كَسَارِقٍ وَشَارِبِ خَمْرٍ) وَمَقْتُولٍ
قِصَاصًا أَوْ حَدًّا، (وَعَلَى مَدِينٍ لَمْ يَخْلُفْ وَفَاءً) . وَتَرْكُ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ عَلَيْهِ
كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ.
(وَإِنْ اخْتَلَطَ) مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ (أَوْ اشْتَبَهَ
مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ
(1/892)
بِغَيْرِهِ) كَأَنْ اخْتَلَطَ مَوْتَى
مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ، وَلَمْ يَتَمَيَّزُوا بِانْهِدَامِ سَقْفٍ بِهِمْ
وَنَحْوِهِ؛ (صُلِّيَ عَلَى الْجَمِيعِ، يَنْوِي) بِالصَّلَاةِ (مَنْ
يُصَلَّى عَلَيْهِ) مِنْهُمْ، وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ
عَلَيْهِمْ، وَلَا طَرِيقَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ (وَغُسِّلُوا وَكُفِّنُوا)
كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ لَا تُمْكِنُ إلَّا بِذَلِكَ،
إذْ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا تَصِحُّ حَتَّى يُغَسَّلَ وَيُكَفَّنَ
مَعَ الْقُدْرَةِ، وَسَوَاءٌ كَانُوا بِدَارِ إسْلَامٍ أَوْ حَرْبٍ، قَلَّ
الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ أَوْ كَثُرُوا، (وَإِنْ) (أَمْكَنَ عَزْلُهُمْ)
عَنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ دُفِنُوا مُنْفَرِدِينَ،
(وَإِلَّا) يُمْكِنُ عَزْلُهُمْ (فَ) يُدْفَنُونَ (مَعَنَا) ؛ لِأَنَّ
الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ مَنْ يُعْهَدُ
ذِمِّيًّا، فَشَهِدَ عَدْلٌ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا؛ حُكِمَ بِهَا فِي
الصَّلَاةِ عَلَيْهِ دُونَ تَوْرِيثِ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ مِنْهُ.
[فَرْعٌ لِمُصَلٍّ عَلَى جِنَازَةٍ قِيرَاطٌ مِنْ أَجْرٍ]
(فَرْعٌ: لِمُصَلٍّ عَلَى جِنَازَةٍ قِيرَاطٌ) مِنْ (أَجْرِ وَهُوَ) ،
أَيْ: الْقِيرَاطُ: (أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى) ، وَذَكَرَ
ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ قِيرَاطُ نِسْبَةٍ مِنْ أَجْرِ صَاحِبِ
الْمُصِيبَةِ، (وَلَهُ بِتَمَامِ دَفْنِهَا) قِيرَاطٌ (آخَرُ بِشَرْطِ أَنْ
لَا يُفَارِقَهَا) بَلْ يَكُونَ مَعَهَا (حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مِنْ
الصَّلَاةِ) عَلَيْهَا (حَتَّى تُدْفَنَ) ، لِحَدِيثِ: «فَكَانَ مَعَهَا
حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا» (وَفِي الْحَدِيثِ)
: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ،
وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ؛ فَلَهُ قِيرَاطَانِ قِيلَ: (وَمَا
الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» وَفِي)
صَحِيحِ (مُسْلِمٍ: " أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ " قَالَ الشَّيْخُ)
تَقِيُّ الدِّينِ: (وَلَا يُصَلَّى كُلَّ يَوْمٍ عَلَى غَائِبٍ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يُنْقَلْ) وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ يَذْهَبُ إلَى مُصَلَّى
الْجَنَائِزِ فَيَجْلِسُ فِيهِ مُتَصَدِّيًا لِلصَّلَاةِ عَلَى مَنْ
يَحْضُرُ مِنْ الْجَنَائِزِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ":
وَكَأَنَّهُ يَرَى إذَا تَبِعَهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَهُوَ أَفْضَلُ، قَالَ
فِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ صَعْدَةَ: وَمَنْ تَبِعَهَا مِنْ أَهْلِهَا -
يَعْنِي: مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَتَبِعَهَا مِنْ أَهْلِهَا - فَلَهُ
قِيرَاطٌ.
(1/893)
[فَصْلٌ حَمْلُ الْجِنَازَةِ]
(فَصْلٌ)
(وَحَمْلُهَا) - أَيْ: الْجِنَازَةِ إلَى مَحَلِّ دَفْنِهَا (فَرْضُ
كِفَايَةٍ) إجْمَاعًا، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى ": وَيُكْرَهُ أَخَذَ
الْأَجْرِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْغُسْلِ وَنَحْوِهِ. (وَسُنَّ تَرْبِيعٌ
فِيهِ) ، أَيْ: الْحَمْلِ (بِحَمْلِ أَرْبَعَةٍ) ، لِمَا رَوَى سَعِيدٌ
وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «مَنْ اتَّبَعَ جِنَازَةً فَلْيَحْمِلْ بِجَوَانِبِ
السَّرِيرِ كُلِّهَا فَإِنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ، ثُمَّ إنْ شَاءَ
فَلْيَتَطَوَّعْ وَإِنْ شَاءَ فَلْيَدَعْ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، إلَّا أَنَّ
أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ.
(بِأَنْ يَضَعَ قَائِمَةَ نَعْشٍ يُسْرَى مُقَدَّمَةً) حَالَ السَّيْرِ،
لِأَنَّهَا تَلِي يَمِينَ الْمَيِّتِ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ (عَلَى كَتِفٍ
يُمْنَى، ثُمَّ) يَدَعُهَا لِغَيْرِهِ وَ (يَنْتَقِلُ لِمُؤَخِّرَةِ)
الْقَوَائِمِ، فَيَضَعُهَا عَلَى كَتِفِهِ الْيُمْنَى أَيْضًا ثُمَّ
يَدَعُهَا لِغَيْرِهِ، (ثُمَّ) يَنْتَقِلُ إلَى (يُمْنَى مُقَدَّمَةٍ) مِنْ
الْقَوَائِمِ، وَهِيَ الَّتِي عَلَى يَسَارِ الْمَيِّتِ، فَيَضَعُهَا
(عَلَى كَتِفٍ يُسْرَى، ثُمَّ) يَدَعُهَا لِغَيْرِهِ، وَ (يَنْتَقِلُ
لِمُؤَخِّرَةِ) قَوَائِمِ السَّرِيرِ الْيُمْنَى، فَيَضَعُهَا عَلَى
كَتِفِهِ الْيُسْرَى أَيْضًا، فَيَكُونُ الْبَدْءُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ
بِالرَّأْسِ وَالْخَتْمُ مِنْهُمَا بِالرِّجْلَيْنِ، كَغُسْلِهِ، وَلَا
يَقُولُ فِي حَمْلِ السَّرِيرِ مُسْلِمٌ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ
بِدْعَةٌ؛ بَلْ بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ،
وَيَذْكُرُ اللَّهَ إذَا نَاوَلَ السَّرِيرَ نَصًّا. (وَكَرِهَ
الْآجُرِّيُّ وَغَيْرُهُ التَّرْبِيعَ) فِي الْحَمْلِ (مَعَ زِحَامٍ) عَلَى
الْجِنَازَةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَمْلِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ.
(وَلَا يُكْرَهُ) الـ (حَمْلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ) ، أَيْ: قَائِمَتَيْ
السَّرِيرِ، (كُلِّ) عَمُودٍ (عَلَى عَاتِقٍ) نَصًّا، لِمَا رُوِيَ
«أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ
بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ» وَأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ
حَمَلَ جِنَازَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ،
وَيَبْدَأُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ، كَمَا فِي الرِّعَايَةِ " (وَالْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا) ، أَيْ: بَيْنَ التَّرْبِيعِ وَالْحَمْلِ بَيْنَ
(1/894)
الْعَمُودَيْنِ (أَوْلَى) قَالَهُ فِي "
الْفُرُوعِ " وَ " التَّنْقِيحِ " وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي
الْحَاشِيَةِ: وَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا هَذَا إذَا
قُلْنَا: لَيْسَ التَّرْبِيعُ أَفْضَلَ، وَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَيُمْكِنُ
الْجَوَابُ بِأَنَّ أَفْضَلِيَّةَ التَّرْبِيعِ عَلَى الْحَمْلِ بَيْنَ
الْعَمُودَيْنِ لَا تَمْنَعُ أَفْضَلَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى
التَّرْبِيعِ، كَمَا ذَكَرُوا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَاءَ أَفْضَلُ
مِنْ الْحَجَرِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَاءِ
وَلِهَذَا تَبِعَ الْمُصَنِّفُ صَاحِبَ الْفُرُوعِ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
(وَلَا) بَأْسَ بِحَمْلِ الْمَيِّتِ (بِأَعْمِدَةٍ لِحَاجَةٍ) كَجِنَازَةِ
ابْنِ عُمَرَ
(وَلَا) بَأْسَ بِحَمْلِهِ (عَلَى دَابَّةٍ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ) كَبُعْدِ
قَبْرِهِ، وَسِمَنِ جُثَّتِهِ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " وَ " الْمُبْدِعِ
": وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يَحْرُمُ عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ أَوْ
هَيْئَةٍ يُخَافُ مَعَهَا سُقُوطُهَا.
(وَلَا) يُكْرَهُ حَمْلُ (طِفْلٍ عَلَى يَدَيْهِ)
وَيُسْتَحَبُّ سَتْرُ نَعْشِ الْمَرْأَةِ بِالْمِكَبَّةِ، ذَكَرَهُ فِي "
الْفُصُولِ " وَ " الْمُسْتَوْعِبِ " وَكَذَا مَنْ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُهُ
عَلَى نَعْشٍ إلَّا بِمُثْلَةٍ كَحَدَبٍ وَفِي " الْفُصُولِ ":
الْمُقَطَّعُ تُلَفَّقُ أَعْضَاؤُهُ بِطِينِ حَرٍّ وَنَفْطٍ حَتَّى لَا
يَتَبَيَّنَ تَشْوِيهُهُ، فَإِنْ ضَاعَتْ؛ لَمْ يُعْمَلْ شَكْلُهَا مِنْ
طِينٍ، قَالَ: وَالْوَاجِبُ جَمْعُ أَعْضَائِهِ فِي كَفَنٍ وَاحِدٍ
وَقَبْرٍ وَاحِدٍ.
(وَسُنَّ مَعَ تَعَدُّدِ جَنَائِزَ تَقْدِيمُ أَفْضَلِهَا إمَامًا
بِمَسِيرٍ) ، فَيَكُونُ مَتْبُوعًا لَا تَابِعًا.
(وَ) سُنَّ (إسْرَاعٌ بِهَا) ، أَيْ: الْجِنَازَةِ، لِحَدِيثِ: «أَسْرِعُوا
بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُنْ صَالِحَةً؛ فَخَيْرٌ تَقْدَمُونَهَا
إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ
رِقَابِكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ الْإِسْرَاعُ (دُونَ
الْخَبَبِ) نَصًّا، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «أَنَّهُ مُرَّ
عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ تُمْخَضُ مَخْضًا، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ
فِي جَنَائِزِكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّهُ يَمْخُضُهَا وَيُؤْذِي
حَامِلَهَا وَمُتَّبِعَهَا، وَالْخَبَبُ، خَطْوٌ فَسِيحٌ دُونَ الْعَنَقِ،
وَفَوْقَ الرَّمَلِ.
(مَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ
(1/895)
(مِنْهُ) ، أَيْ: الْإِسْرَاعِ، فَيَمْشِي
بِهِ الْهُوَيْنَا.
(وَ) سُنَّ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ: «أَمَرَنَا
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِ
الْجَنَائِزِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَكَوْنُ مَاشٍ) مَعَهَا (أَمَامَهَا) ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:
«رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا
بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ،
وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُ. (وَ) سُنَّ كَوْنُ (رَاكِبٍ وَلَوْ سَفِينَةً
خَلْفَهَا) لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا: «الرَّاكِبُ
خَلْفَ الْجِنَازَةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(وَكُرِهَ لَهُ) ، أَيْ: لِمُتَّبِعِ الْجِنَازَةِ رَاكِبًا أَنْ يَكُونَ
(أَمَامَهَا) ، قَالَ الْمَجْدُ: (كَ) كَرَاهَتِهِ لِحَدِيثِ «ثَوْبَانَ
قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى نَاسًا رُكْبَانًا، فَقَالَ: أَلَا
تَسْتَحْيُونَ، إنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَأَنْتُمْ
عَلَى ظَهْرِ الدَّوَابِّ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. (لِغَيْرِ حَاجَةٍ)
كَمَرَضٍ (وَ) لِغَيْرِ (عَوْدٍ) فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ عَائِدًا
مُطْلَقًا لَمْ يُكْرَهْ، لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبِعَ جِنَازَةَ ابْنِ
الدَّحْدَاحِ مَاشِيًا، وَرَجَعَ عَلَى فَرَسٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ:
صَحِيحٌ. (وَقُرْبُ) مُتَّبِعِ الْجِنَازَةِ (مِنْهَا أَفْضَلُ) ،
لِأَنَّهَا كَالْإِمَامِ
(وَكُرِهَ تَقَدُّمُهَا لِمَوْضِعِ صَلَاةٍ) عَلَيْهَا. وَ (لَا) يُكْرَهُ
تَقَدُّمُهَا (لِمَقْبَرَةٍ، وَ) كُرِهَ (جُلُوسُ تَابِعِهَا حَتَّى
تُوضَعَ بِأَرْضٍ لِدَفْنٍ) نَصًّا، لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
مَرْفُوعًا «إذَا تَبِعْتُمْ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى
تُوضَعَ» قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الثَّوْرِيُّ عَنْ
سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ فِيهِ: " حَتَّى تُوضَعَ
بِالْأَرْضِ " (إلَّا لِمَنْ بَعُدَ) ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ الْجُلُوسُ
قَبْلَ وَضْعِهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ.
(وَ) كُرِهَ (قِيَامٌ لَهَا) ، أَيْ: الْجِنَازَةِ (إنْ جَاءَتْ أَوْ
مَرَّتْ بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ) ،
(1/896)
لِحَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: «رَأَيْنَا
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُمْنَا تَبَعًا
لَهُ، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا تَبَعًا لَهُ، يَعْنِي: فِي الْجِنَازَةِ»
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " قَامَ
ثُمَّ قَعَدَ " رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
(وَ) كُرِهَ (مَسْحُهُ بِيَدِهِ) عَلَى الْجِنَازَةِ، (أَوْ) مَسْحُهُ
(بِشَيْءٍ عَلَيْهَا تَبَرُّكًا) ، لِعَدَمِ وُرُودِهِ، قَالَ أَبُو
الْمَعَالِي: هُوَ بِدْعَةٌ يُخَافُ مِنْهُ عَلَى الْمَيِّتِ، قَالَ:
وَهُوَ قَبِيحٌ فِي الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، لِمَا رَوَى
الْخَلَّالُ فِي أَخْلَاقِ أَحْمَدَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ
الطَّيَالِسِيَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى أَحْمَدَ، ثُمَّ مَسَحَهَا عَلَى
يَدَيْهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ، فَغَضِبَ شَدِيدًا، وَجَعَلَ يَنْفُضُ يَدَهُ،
وَيَقُولُ: عَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا؟ وَأَنْكَرَهُ.
(وَ) كُرِهَ (رَفْعُ صَوْتٍ) عِنْدَ رَفْعِهَا وَ (مَعَهَا) ، أَيْ:
الْجِنَازَةِ، (وَلَوْ بِقِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ) ، لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ.
(وَسُنَّ) لِمُتَّبِعِيهَا قِرَاءَةُ قُرْآنٍ وَذِكْرُ اللَّهِ (سِرًّا) .
(وَ) كُرِهَ (أَنْ تَتَّبِعَهَا امْرَأَةٌ) ، لِحَدِيثِ «أُمِّ عَطِيَّةَ
نَهَانَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا»
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. أَيْ: لَمْ يُحَتِّمْ عَلَيْنَا تَرْكَ اتِّبَاعِهَا،
(أَوْ تُتَّبَعَ بِمَاءِ وَرْدٍ وَنَحْوِهِ) كَمَطْعُومٍ وَمَشْرُوبٍ،
(أَوْ) تُتَّبَعَ (بِنَارٍ) لِلْخَبَرِ، قِيلَ: سَبَبُ الْكَرَاهَةِ:
كَوْنُهُ مِنْ شِعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ
الْمَالِكِيُّ: تَفَاؤُلًا بِالنَّارِ (إلَّا لِحَاجَةِ ضَوْءٍ) كَمَا لَوْ
دُفِنَتْ بِاللَّيْلِ، فَلَا يُكْرَهُ وَلِلِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا.
(وَمِثْلُهُ تَبْخِيرٌ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ) ، فَيُكْرَهُ فِي ظَاهِرِ
كَلَامِهِمْ، (وَحَرُمَ أَنْ يَتَّبِعَهَا مَعَ مُنْكَرٍ نَحْوَ صُرَاخٍ
وَنَوْحٍ عَاجِزٌ عَنْ إزَالَتِهِ) ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِمَاعِ
مَحْظُورٍ وَرُؤْيَتِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ، (وَيَلْزَمُ
الْقَادِرَ إزَالَتُهُ) لِلْخَبَرِ. (وَضَرْبُهُنَّ) ، أَيْ: النِّسَاءِ
(بِدُفٍّ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَلْقٌ وَلَا صُنُوجٌ (مُنْكَرٌ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ اتِّفَاقًا)
(وَقَوْلُ الْقَائِلِ مَعَهَا) ، أَيْ: الْجِنَازَةِ: (اسْتَغْفِرُوا لَهُ،
وَنَحْوُهُ،
(1/897)
بِدْعَةٌ) عِنْدَ أَحْمَدَ، وَكَرِهَهُ
(وَحَرَّمَهُ أَبُو حَفْصٍ) نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ: وَمَا يُعْجِبُنِي،
وَرَوَى سَعِيدٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَا
لِقَائِلِ ذَلِكَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ.
(وَسُنَّ كَوْنُ تَابِعِهَا) ، أَيْ: الْجِنَازَةِ (مُتَخَشِّعًا
مُتَفَكِّرًا فِي مَآلِهِ) أَيْ: أَمْرِهِ الَّذِي يَئُولُ إلَيْهِ
وَيَرْجِعُ (مُتَّعِظًا بِالْمَوْتِ وَبِمَا يَصِيرُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ) ،
قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: مَا اتَّبَعْتُ جِنَازَةً فَحَدَّثْتُ نَفْسِي
بِغَيْرِ مَا هُوَ مَفْعُولٌ بِهَا.
[فَرْعٌ اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ]
(فَرْعٌ: اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ) عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ
الْمَذْهَبِ كَحَدِيثِ الْبَرَاءِ: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَهُوَ) ، أَيْ: اتِّبَاعُهَا (حَقٌّ لِلْمَيِّتِ وَأَهْلِهِ) ، قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَوْ قَدَّرَ لَوْ انْفَرَدَ الْمَيِّتُ لَمْ
يَسْتَحِقَّ هَذَا الْحَقَّ لِمُزَاحِمٍ أَوْ لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ
تَبِعَهُ، لِأَجْلِ أَهْلِهِ إحْسَانًا إلَيْهِمْ لِتَأَلُّفٍ أَوْ
مُكَافَأَةٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ.
(وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ أَنَّ مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَتَّبِعَهَا لِقَضَاءِ
حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ) ، قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَاتِّبَاعُ
الْجِنَازَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُصَلِّيَ
عَلَيْهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّبِعَهَا إلَى الْقَبْرِ، ثُمَّ يَقِفَ حَتَّى
تُدْفَنَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقِفَ بَعْدَ الدَّفْنِ فَيَسْتَغْفِرَ لَهُ
وَيَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ التَّثْبِيتَ، وَيَدْعُوَ لَهُ بِالرَّحْمَةِ.
(وَنَقَلَ حَنْبَلٌ) ، وَهُوَ عَمُّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: (لَا بَأْسَ
بِقِيَامِهِ عَلَى الْقَبْرِ حَتَّى تُدْفَنَ جَبْرًا وَإِلْزَامًا)
وَوَقَفَ عَلِيٌّ عَلَى قَبْرٍ، فَقِيلَ: أَلَا تَجْلِسُ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: قَلِيلٌ عَلَى أَخِينَا قِيَامُنَا عَلَى
قَبْرِهِ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ مُحْتَجًّا بِهِ. (وَكَانَ) الْإِمَامُ
(أَحْمَدُ إذَا حَضَرَ جِنَازَةً هُوَ وَلِيُّهَا لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى
تُدْفَنَ) ، نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ.
(1/898)
[فَصْلٌ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ]
(فَصْلٌ) فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ (وَدَفْنُهُ بِ) مَحَلٍّ (مَحْفُورٍ) مِنْ
نَحْوِ أَرْضٍ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ قَابِيلَ إلَى
دَفْنِ أَخِيهِ هَابِيلَ، وَأَبَانَ ذَلِكَ بِبَعْثِ غُرَابٍ يَبْحَثُ فِي
الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْف يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى:
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً
وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] ، أَيْ: جَامِعَةً لِلْأَحْيَاءِ فِي
ظَهْرِهَا بِالْمَسَاكِنِ، وَالْأَمْوَاتِ فِي بَطْنِهَا فِي الْقُبُورِ،
وَالْكَفْتُ: الْجَمْعُ، وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}
[عبس: 21] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَكْرَمَهُ بِدَفْنِهِ.
(وَيَسْقُطُ هُوَ) ، أَيْ: الدَّفْنُ (وَتَكْفِينٌ وَحَمْلٌ) لِمَيِّتٍ
(بِ) فِعْلِ (كَافِرٍ) ، لِأَنَّ فَاعِلَهَا لَا يَخْتَصُّ بِكَوْنِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرْبَةِ. (وَ) يَسْقُطُ أَيْضًا بِ (غَيْرِ مُكَلَّفٍ،
وَيُقَدَّمُ بِتَكْفِينِ) ذَكَرٍ وَأُنْثَى (مَنْ يُقَدَّمُ بِغُسْلِ) هَا،
وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ، (وَنَائِبُهُ كَهُوَ) فَيُقَدَّمُ النَّائِبُ عَلَى
مَنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مُسْتَنِيبُهُ. (وَيَتَّجِهُ: غَيْرُ وَصِيٍّ) ،
أَيْ: فَلَيْسَ نَائِبُ الْوَصِيِّ كَهُوَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ
لِلْمُوصِي غَرَضٌ فِي تَغْسِيلِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَكَذَا فِي صَلَاةٍ
عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَدْ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَالْأَوْلَى) لِغَاسِلٍ (تَوَلِّيهِ) ، أَيْ: التَّكْفِينِ (بِنَفْسِهِ)
دُونَ نَائِبِهِ مُحَافَظَةً عَلَى تَقْلِيلِ الِاطِّلَاعِ عَلَى
الْمَيِّتِ.
(وَ) يُقَدَّمُ (بِدَفْنِ رَجُلٍ) ، أَيْ: ذَكَرٍ (مَنْ يُقَدَّمُ
بِغُسْلِهِ) " لِأَنَّهُ،
(1/899)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَلْحَدَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَأُسَامَةُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى سَتْرِ أَحْوَالِهِ، وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ
عَلَيْهِ، (فَالْأَجَانِبُ) مِنْ الرِّجَالِ يَقُومُونَ بِدَفْنِهِ عَلَى
أَقَارِبِهِ مِنْ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُنَّ يَضْعُفْنَ عَنْ إدْخَالِهِ
الْقَبْرَ، وَلِأَنَّ الْجِنَازَةَ يَحْضُرُهَا جُمُوعُ الرِّجَالِ
غَالِبًا، وَفِي نُزُولِ النِّسَاءِ الْقَبْرَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
تَعْرِيضٌ لَهُنَّ بِالْهَتْكِ وَالْكَشْفِ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ،
(فَمَحَارِمُهُ) مِنْ (النِّسَاءِ، فَالْأَجْنَبِيَّاتُ) لِلْحَاجَةِ إلَى
دَفْنِهِ، وَعَدَمِ غَيْرِهِنَّ.
(وَ) الْأَوْلَى (بِدَفْنِ امْرَأَةٍ مَحَارِمُهَا الرِّجَالُ) الْأَقْرَبَ
فَالْأَقْرَبَ، لِأَنَّ امْرَأَةَ عُمَرَ لَمَّا تُوُفِّيَتْ قَالَ
لِأَهْلِهَا: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا، وَلِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ
بِوِلَايَتِهَا حَالَ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، (فَزَوْجٌ) ،
لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَحْرَمِهَا مِنْ النَّسَبِ مِنْ الْأَجَانِبِ،
(فَأَجَانِبُ) «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حِينَ مَاتَتْ ابْنَتُهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ، فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا»
وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَارِمَهَا كُنَّ هُنَاكَ
كَأُخْتِهَا فَاطِمَةَ، وَلِأَنَّ تَوَلِّيَ النِّسَاءِ لِذَلِكَ لَوْ
كَانَ مَشْرُوعًا لَفُعِلَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَصْرِ خُلَفَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ،
(فَمَحَارِمُهَا النِّسَاءُ) الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى مِنْهُنَّ
كَالرِّجَالِ، (وَيُقَدَّمُ مِنْ رِجَالٍ) فِي دَفْنِ امْرَأَةٍ (خَصِيٌّ،
فَشَيْخٌ، فَأَفْضَلُ دِينًا وَمَعْرِفَةً، وَمَنْ بَعُدَ عَهْدُهُ
بِجِمَاعٍ أَوْلَى مِمَّنْ قَرُبَ) عَهْدُهُ بِهِ، قَالَ فِي شَرْحِ
الْإِقْنَاعِ ": قُلْتُ: وَالْخُنْثَى كَامْرَأَةٍ فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا.
(وَلَا يُكْرَهُ لِرِجَالٍ) أَجَانِبَ (دَفْنُ امْرَأَةٍ وَثَمَّ مَحْرَمٌ)
لَهَا، نَصَّ عَلَيْهِ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ.
(وَكُرِهَ دَفْنٌ عِنْدَ طُلُوعِ شَمْسٍ وَقِيَامِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا)
وَتَقَدَّمَ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ.
وَ (لَا) يُكْرَهُ الدَّفْنُ (لَيْلًا) قَالَ أَحْمَدُ فِي الدَّفْنِ
بِاللَّيْلِ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ أَبُو بَكْرٍ دُفِنَ لَيْلًا، وَعَلِيٌّ
دَفَنَ فَاطِمَةَ لَيْلًا، وَالدَّفْنُ نَهَارًا أَوْلَى، لِأَنَّهُ
أَسْهَلُ عَلَى مُتَّبِعِهَا، وَأَكْثَرُ لِلْمُصَلِّينَ، وَأَمْكَنُ
(1/900)
لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي دَفْنِهِ.
(وَلَحْدٌ) أَفْضَلُ مِنْ شَقٍّ، وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَالضَّمُّ
لُغَةٌ؛ أَنْ يَحْفِرَ فِي أَسْفَلِ حَائِطِ الْقَبْرِ حُفْرَةً تَسَعُ
الْمَيِّتَ، وَأَصْلُهُ: الْمَيْلُ. (وَكَوْنُهُ) ، أَيْ: اللَّحْدِ
(مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ) أَفْضَلُ، فَيَكُونُ ظَهْرُهُ إلَى جِهَةِ
مُلْحِدِهِ. (وَنَصْبُ لَبِنٍ) ، أَيْ: طُوبٍ غَيْرِ مَشْوِيٍّ (عَلَيْهِ)
، أَيْ: اللَّحْدِ (أَفْضَلُ) مِنْ نَصْبِ حِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا،
لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ «سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ فِي مَرَضِهِ
الَّذِي مَاتَ فِيهِ: أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ
اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَيَجُوزُ بِبَلَاطٍ، (وَكُرِهَ شَقُّ قَبْرٍ) قَالَ
أَحْمَدُ: لَا أُحِبُّ الشَّقَّ لِحَدِيثِ: «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ
لِغَيْرِنَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا،
لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ. (وَهُوَ) ، أَيْ: الشَّقُّ (حَفْرُ وَسَطِهِ) ، أَيْ:
الْقَبْرِ (كَحَوْضٍ، أَوْ بِنَاءُ جَانِبَيْهِ بِنَحْوِ لَبِنٍ لِيُوضَعَ
مَيِّتٌ فِيهِ) ، وَيُسْقَفُ عَلَيْهِ بِبَلَاطٍ وَنَحْوِهِ (بِلَا عُذْرٍ)
كَرَخَاوَةِ أَرْضٍ، فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ وَاحْتِيجَ إلَى الشَّقِّ
لِكَوْنِ التُّرَابِ يَنْهَالُ، وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِنَصْبِ لَبِنٍ
وَلَا حِجَارَةٍ وَنَحْوِهِ؛ لَمْ يُكْرَهْ الشَّقُّ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ
يَجْعَلَ شِبْهَ اللَّحْدِ مِنْ الْجَنَادِلِ وَالْحِجَارَةِ وَاللَّبِنِ،
جَعَلَ نَصًّا، وَلَمْ يَعْدِلْ إلَى الشَّقِّ.
(وَ) كُرِهَ (إدْخَالُهُ) إلَى الْقَبْرِ (خَشَبًا إلَّا لِضَرُورَةٍ وَ)
إدْخَالُهُ (مَا مَسَّتْهُ نَارٌ) كَآجُرٍّ وَلَوْ لِضَرُورَةٍ.
(وَ) كُرِهَ (دَفْنٌ بِتَابُوتٍ وَلَوْ امْرَأَةً) ، قَالَ إبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيّ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ، وَيَكْرَهُونَ الْخَشَبَ،
وَلَا يَسْتَحِبُّونَ الدَّفْنَ فِي تَابُوتٍ، لِأَنَّهُ خَشَبٌ، لِمَا
فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَرْضُ أَنْشَفُ
لِفَضَلَاتِهِ، وَتَفَاؤُلًا أَنْ لَا يَمَسَّ الْمَيِّتَ نَارٌ.
(وَسُنَّ أَنْ يُعَمَّقَ) قَبْرٌ (وَيُوَسَّعَ قَبْرٌ بِلَا حَدٍّ) ،
«لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلَى أُحُدٍ:
احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَأَعْمِقُوا»
(1/901)
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَلِأَنَّ التَّعْمِيقَ أَبْعَدُ لِظُهُورِ الرَّائِحَةِ، وَأَمْنَعُ
لِلْوُحُوشِ، وَالتَّوْسِيعُ: الزِّيَادَةُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ،
وَالتَّعْمِيقُ: بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: الزِّيَادَةُ فِي النُّزُولِ.
(وَيَكْفِي مَا) ، أَيْ: تَعْمِيقٌ (يَمْنَعُ السِّبَاعَ وَالرَّائِحَةَ) ،
لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَسَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ.
(وَ) سُنَّ (أَنْ يُسْجَى) ، أَيْ: يُغَطَّى قَبْرٌ حِينَ الدَّفْنِ
(لِأُنْثَى) وَلَوْ صَغِيرَةً، لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ (وَ) لِ (خُنْثَى) ،
لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً.
(وَكُرِهَ) أَنْ يُسْجَى قَبْرٌ (لِرَجُلٍ إلَّا لِعُذْرٍ) مِنْ (نَحْوِ
مَطَرٍ) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ " أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ وَقَدْ
دَفَنُوا مَيِّتًا وَبَسَطُوا عَلَى قَبْرِهِ الثَّوْبَ، فَجَذَبَهُ
وَقَالَ: إنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا إلَى النِّسَاءِ " وَلِأَنَّ الرَّجُلَ
لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَفِي فِعْلِ ذَلِكَ لَهُ تَشَبُّهٌ بِالنِّسَاءِ.
(وَسُنَّ أَنْ يُدْخَلَ) ، أَيْ: الْقَبْرَ (مَيِّتٌ مِنْ عِنْدِ
رِجْلَيْهِ) ، أَيْ: الْقَبْرِ بِأَنْ يُوضَعَ النَّعْشُ آخِرَ الْقَبْرِ،
فَيَكُونُ رَأْسُ الْمَيِّتِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ
رِجْلَاهُ إذَا دُفِنَ، ثُمَّ يُسَلُّ الْمَيِّتُ فِي الْقَبْرِ سَلًّا
رَفِيقًا، فَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ بِرَأْسِهِ (لَا بِرِجْلَيْهِ)
، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَالْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ» (إنْ كَانَ) ذَلِكَ (أَسْهَلَ)
بِالْمَيِّتِ (وَإِلَّا) يَكُنْ إدْخَالُهُ، مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ
أَسْهَلُ (فَ) يُدْخِلُهُ (مِنْ حَيْثُ سَهُلَ) إدْخَالُهُ مِنْهُ، إذْ
الْمَقْصُودُ الرِّفْقُ بِالْمَيِّتِ، (ثُمَّ) إنْ اسْتَوَتْ
الْكَيْفِيَّاتُ فِي السُّهُولَةِ؛ فَهُوَ (سَوَاءٌ) لِعَدَمِ
الْمُرَجِّحِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّهُ
صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ عِنْدِ رِجْلِ
الْقَبْرِ، وَقَالَ: هَذَا مِنْ السُّنَّةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ.
(وَمَنْ) مَاتَ (بِسَفِينَةٍ وَخِيفَ) بِإِبْقَائِهِ (فَسَادُهُ، يُلْقَى
بِبَحْرٍ بَعْدَ) غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَ
(تَثْقِيلِهِ بِشَيْءٍ) لِيَسْتَقِرَّ فِي قَرَارِ
(1/902)
الْبَحْرِ، وَيَكُونُ إلْقَاؤُهُ فِي
الْبَحْرِ (كَإِدْخَالِهِ الْقَبْرَ) ، وَإِنْ كَانُوا بِقُرْبِ السَّاحِلِ
وَأَمْكَنَهُمْ دَفْنُهُ فِيهِ وَجَبَ.
(وَ) سُنَّ (قَوْلُ مُدْخِلِهِ) الْقَبْرَ: (بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى
مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ: «إذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقَبْرِ، فَقُولُوا:
بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ
(وَإِنْ أَتَى) عِنْدَ إلْحَادِهِ (بِذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ يَلِيقُ) ، أَوْ
قَرَأَ آيَةً نَحْوَ {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:
55] الْآيَةَ (فَلَا بَأْسَ) ، لِأَنَّهُ لَائِقٌ بِالْحَالِ.
(وَ) سُنَّ (أَنْ يُلْحَدَ) مَيِّتٌ (عَلَى شِقٍّ أَيْمَنَ) ، لِأَنَّهُ
يُشْبِهُ النَّائِمَ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ، (وَيُفْضَى بِخَدِّهِ لِلْأَرْضِ)
، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِكَانَةِ، (فَيُرْفَعُ الْكَفَنُ
لِيُلْصَقَ) خَدُّهُ (بِهَا) ، أَيْ: الْأَرْضِ، لِقَوْلِ عُمَرَ: إذَا
أَنَا مِتَّ فَأَفْضُوا بِخَدِّي إلَى الْأَرْضِ.
(وَ) سُنَّ أَنْ (يُسْنَدُ خَلْفَهُ) - أَيْ: الْمَيِّتِ - بِتُرَابٍ،
لِئَلَّا يَسْقُطَ عَلَى قَفَاهُ، (وَ) يُسْنَدَ (أَمَامُهُ بِتُرَابٍ،
لِئَلَّا يَسْقُطَ) فَيَنْكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُدْنَى
مِنْ الْحَائِطِ.
(وَ) سُنَّ: أَنْ يُجْعَلَ (تَحْتَ رَأْسِهِ) شَيْءٌ لِيَرْتَفِعَ عَنْ
الْأَرْضِ، (وَأَفْضَلُهُ لَبِنَةٌ) ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ (فَحَجَرٌ) ،
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ (فَتُرَابٌ) ، لِأَنَّهُ شِبْهُ الْمِخَدَّةِ
لِلنَّائِمِ، وَلِئَلَّا يَمِيلَ رَأْسُهُ، (وَتُكْرَهُ مِخَدَّةٌ)
تُجْعَلُ تَحْتَ رَأْسِهِ نَصًّا، لِأَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْحَالِ،
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ.
(وَ) تُكْرَهُ (مِضْرَبَةٌ وَقَطِيفَةٌ تَحْتَهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ،
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُلْقَى تَحْتَ
الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ شَيْءٌ. ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَعَنْ أَبِي
مُوسَى: لَا تَجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْئًا،
وَالْقَطِيفَةُ الَّتِي وُضِعَتْ تَحْتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا
وَضَعَهَا شُقْرَانُ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْ اتِّفَاقٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
(وَ) يُكْرَهُ (جَعْلُ
(1/903)
حَدِيدٍ فِيهِ) ، أَيْ: اللَّحْدِ (وَلَوْ
أَنَّ الْأَرْضَ رِخْوَةٌ) تَفَاؤُلًا بِأَنْ لَا يُصِيبَهُ عَذَابٌ،
لِأَنَّهُ آلَتُهُ.
(وَيَجِبُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهِ) - أَيْ: الْمَيِّتِ - (الْقِبْلَةَ)
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَعْبَةِ: "
قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا " وَلِأَنَّهُ طَرِيقَةُ
الْمُسْلِمِينَ بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ.
(وَيَتَعَاهَدُ) مُلْحِدُهُ (خِلَالَ اللَّبِنِ بِسَدِّهِ بِمَدَرٍ
وَنَحْوِهِ) كَأَحْجَارٍ صِغَارٍ، (ثُمَّ يُطَيِّنُ فَوْقَهُ) لِئَلَّا
يُنْتَخَلَ عَلَيْهِ التُّرَابُ.
(وَسُنَّ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ حَثْوُ تُرَابٍ عَلَيْهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ
(ثَلَاثًا بِالْيَدِ ثُمَّ يُهَالُ) عَلَيْهِ التُّرَابُ، لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ فِيهِ: " فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ
ثَلَاثًا " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى مَعْنَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ
مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَزَادَ: " وَهُوَ قَائِمٌ ". وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُوضَعَ عَلَيْهِ
جِبَالٌ مِنْ تُرَابٍ، أَوْ يُبْنَى عَلَيْهِ بِنَاءٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ
بِدَفْنٍ.
(وَ) سُنَّ (رَشُّهُ) ، أَيْ: الْقَبْرِ (بِمَاءٍ) ، لِمَا رَوَى جَعْفَرُ
بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ مَاءً، وَوَضَعَ
عَلَيْهِ الْحَصْبَاءَ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.
(وَ) سُنَّ (رَفْعُهُ) ، أَيْ: الْقَبْرِ عَنْ الْأَرْضِ (قَدْرَ شِبْرٍ)
لِيُعْرَفَ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَيُتَوَقَّى وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُفِعَ قَبْرُهُ عَنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ»
(وَ) سُنَّ (وَضْعُ حَصًى صِغَارٍ عَلَيْهِ لِحِفْظِ تُرَابِهِ) - أَيْ:
الْقَبْرِ - لِئَلَّا يَنْدَرِسَ فَيُوطَأَ بِالْأَقْدَامِ.
(وَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ) : أَيْ: مَنْ حَثَى التُّرَابَ حِينَ فِعْلِهِ
(أَوَّلَ حَثْيَةٍ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] وَبِثَانِيَةٍ:
{وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] وَبِثَالِثَةٍ: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ}
[طه: 55] الْآيَةَ) ، أَيْ: يَقُولُ ذَلِكَ
(1/904)
إلَى آخِرِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا تُنَاسِبُ
الْحَالَ.
(وَلَا) بَأْسَ (بِتَطْيِينِهِ) - أَيْ: الْقَبْرِ - لِمَا رَوَى أَبُو
دَاوُد عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: يَا
أُمَّهْ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ
قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ
الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ» ، أَيْ مَجْعُولٍ عَلَيْهَا الْحَصْبَاءُ.
(وَ) لَا بَأْسَ بِ (تَعْلِيمِهِ بِنَحْوِ حَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ
وَكَلَوْحٍ) " لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَبْرِ
عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَلَّمَهُ بِحَجَرٍ وُضِعَ عِنْدَ رَأْسِهِ،
وَقَالَ: أُعَلِّمُ قَبْرَ أَخِي حَتَّى أَدْفِنَ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ
أَهْلِي " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.
(وَتَسْنِيمُ) الْقَبْرِ (أَفْضَلُ) مِنْ تَسْطِيحِهِ، لِقَوْلِ سُفْيَانَ
التَّمَّارِ: رَأَيْتُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مُسَنَّمًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ، وَلِأَنَّ التَّسْطِيحَ أَشْبَهَ بِبِنَاءِ
أَهْلِ الدُّنْيَا، (إلَّا) مَنْ دُفِنَ (بِدَارِ حَرْبٍ) إنْ تَعَذَّرَ
نَقْلُهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.
(وَيَتَّجِهُ: أَوْ) إلَّا إذَا دُفِنَ بِدَارِ (عَدُوٍّ) وَخِيفَ
نَبْشُهُ، وَالتَّمْثِيلُ بِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ، (إنْ تَعَذَّرَ
نَقْلُهُ) مِنْهَا، (فَتَسْوِيَتُهُ) ، أَيْ: الْقَبْرِ (بِأَرْضٍ
وَإِخْفَاؤُهُ أَوْلَى) مِنْ إظْهَارِهِ وَتَسْنِيمِهِ. وَفِي بَعْضِ
النُّسَخِ: (وَيَتَّجِهُ: وَمَعَ عِلْمِ) دَافِنِيهِ (بِأَنَّ الْعَدُوَّ
يَنْبُشُهُ) ، أَيْ: الْقَبْرَ (يَجِبُ تَسْوِيَتُهُ وَإِخْفَاؤُهُ)
صَوْنًا لَهُ عَنْ هَتْكِ الْحُرْمَةِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(1/905)
(وَيُسْتَحَبُّ جَمْعُ الْأَقَارِبِ)
الْمَوْتَى فِي مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ فِي تَعْلِيمِ قَبْرِ
عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ. وَلِأَنَّهُ أَسْهَلُ لِزِيَارَتِهِمْ.
(وَ) يُسْتَحَبُّ الدَّفْنُ فِي (الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ) ، لِحَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَنَّ مُوسَى - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ
يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةَ حَجَرٍ، قَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كُنْتُ ثَمَّ
لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ» وَقَالَ عُمَرُ: "
اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي
بَلَدِ رَسُولِكَ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. (وَمُجَاوَرَةُ الصَّالِحِينَ)
لِتَنَالَهُ بَرَكَتُهُمْ. (وَدَفْنٌ بِصَحْرَاءَ أَفْضَلُ) مِنْ دَفْنٍ
بِعُمْرَانٍ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ
يَدْفِنُ أَصْحَابَهُ بِالْبَقِيعِ، وَلَمْ تَزَلْ الصَّحَابَةُ
وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُقْبِرُونَ فِي الصَّحَارَى،
وَلِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِمَسَاكِنِ الْآخِرَةِ (سِوَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَدُفِنَ بِبَيْتِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: "
لِئَلَّا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِمَا
رُوِيَ: " دَفْنُ الْأَنْبِيَاءِ حَيْثُ يَمُوتُونَ " وَصِيَانَةً لَهُ
عَنْ كَثْرَةِ الطُّرَّاقِ، وَتَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ. (وَاخْتَارَ
صَاحِبَاهُ) أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ (الدَّفْنَ عِنْدَهُ تَشَرُّفًا
وَتَبَرُّكًا) بِهِ. (وَلَمْ يُزَدْ) عَلَيْهِمَا (لِأَنَّ الْخَرْقَ)
بِدَفْنِ غَيْرِهِمَا عِنْدَهُ (يَتَّسِعُ وَالْمَكَانُ ضَيِّقٌ، وَجَاءَتْ
أَخْبَارٌ تَدُلُّ عَلَى دَفْنِهِمْ كَمَا وَقَعَ) فَلَا يُنْكِرُهُ إلَّا
بِدْعِيٌّ ضَالٌّ.
(فَمَنْ وَصَّى بِدَفْنِهِ بِدَارٍ) فِي مِلْكِهِ، (أَوْ) فِي (أَرْضٍ
بِمِلْكِهِ؛ دُفِنَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ) . لِأَنَّهُ يَضُرُّ
بِالْوَرَثَةِ، قَالَهُ أَحْمَدُ، أَيْ: بِسَبَبِ تَذَكُّرِهِ كُلَّمَا
رَأَوْا الْقَبْرَ. لَا بِسَبَبِ تَصَرُّفِهِمْ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ
عَلَيْهِمْ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِمْ كَيْفَ شَاءُوا. (وَيُدْفَنُ)
مَيِّتٌ (بِمُسَبَّلَةٍ وَلَوْ
(1/906)
بِقَوْلِ بَعْضِ وَرَثَتِهِ) . لِأَنَّهُ
أَقَلُّ ضَرَرًا، وَلَا مِنَّةَ فِيهِ. (وَعَكْسُهُ الْكَفَنُ) . أَيْ
فَيُكَفَّنُ مِنْ تَرِكَتِهِ. وَلَوْ كَانَ ثَمَّ أَكْفَانُ وَقْفٍ.
(وَيُقَدَّمُ فِيهَا) ، أَيْ: الْمُسَبَّلَةِ عِنْدَ ضِيقٍ (بِسَبْقٍ) .
لِأَنَّهُ سَبْقٌ إلَى مُبَاحٍ، (ثُمَّ) مَعَ تَسَاوٍ فِي سَبْقٍ؛
يُقَدَّمُ بِ (قُرْعَةٍ) ، لِأَنَّهَا لِتَمْيِيزِ مَا أُبْهِمَ. (وَحَرُمَ
حَفْرٌ فِيهَا) ، أَيْ: الْمُسَبَّلَةِ (قَبْلَ حَاجَةٍ) إلَيْهِ، ذَكَرَهُ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَوَجَّهُ هُنَا مَا
فِي الْمُصَلَّى الْمَفْرُوشِ.
(وَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ مَوْضِعَ قَبْرِهِ وَيُوصِي بِدَفْنِهِ فِيهِ)
فَعَلَهُ عُثْمَانُ وَعَائِشَةُ.
(وَيَصِحُّ بَيْعُ) وَارِثٍ (مَا دُفِنَ فِيهِ) الْمَيِّتُ (مِنْ مِلْكِهِ
مَا لَمْ يُجْعَلْ) ، أَيْ: يَصِيرُ (مَقْبَرَةً) نَصًّا، لِبَقَاءِ
مِلْكِهِمْ، فَإِنْ جُعِلَتْ مَقْبَرَةً: صَارَتْ وَقْفًا.
[فَرْعٌ الدُّعَاءُ لِمَيِّتٍ عِنْدَ الْقَبْر بَعْدَ دَفْنِهِ]
(فَرْعٌ: يُسَنُّ دُعَاءٌ لِمَيِّتٍ عِنْدَ قَبْرٍ بَعْدَ دَفْنِهِ
وَاقِفًا) نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ فَعَلَهُ عَلِيُّ وَالْأَحْنَفُ
بْنُ قَيْسٍ، لِحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ
وَقَفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ
التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَقِفُ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَمَا يُسَوِّي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ نَزَلَ بِكَ صَاحِبُنَا، وَخَلَّفَ الدُّنْيَا خَلْفَ ظَهْرِهِ
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ، وَلَا تَبْتَلِهِ فِي
قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ» رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ.
وَالْأَخْبَارُ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَالَهُ أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
[التوبة: 84] مَعْنَاهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ
الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَادَةَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْلِمِينَ.
وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبِ النَّجَّارُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ فِي
(1/907)
جِنَازَةٍ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَقُمْنَا
نَاحِيَتَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ دَفْنِهِ، وَانْقَضَى
الدَّفْنُ؛ جَاءَ إلَى الْقَبْرِ، وَأَخَذَ بِيَدِي، وَجَلَسَ وَوَضَعَ
يَدَهُ عَلَى الْقَبْرِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك قُلْتَ فِي كِتَابِكَ:
{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة: 88] {فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] وَقَرَأَ إلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ وَإِنَّا نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مَا
كَذَّبَ بِكَ، وَلَقَدْ كَانَ يُؤْمِنُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، فَاقْبَلْ
شَهَادَتَنَا لَهُ، وَدَعَا لَهُ وَانْصَرَفَ.
(وَاسْتَحَبَّ الْأَكْثَرُ تَلْقِينَهُ إذَنْ فَيَقُومُ عِنْدَ رَأْسِهِ
بَعْدَ تَسْوِيَةِ تُرَابٍ) عَلَيْهِ، (فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ بْنُ
فُلَانَةَ، ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ اسْمَ أُمِّهِ نَسَبَهُ إلَى
حَوَّاءَ، ثُمَّ يَقُولُ: اُذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا
شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ
دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا، وَبِالْكَعْبَةِ
قِبْلَةً، وَبِالْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ،
وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)
، لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ
فَسَوَّيْتُمْ عَلَيْهِ التُّرَابَ؛ فَلْيَقُمْ عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ،
ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانَةَ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ وَلَا
يُجِيبُ، ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانَةَ ثَانِيَةً، فَإِنَّهُ
يَسْتَوِي قَاعِدًا، ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانَةَ،
فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَرْشِدْنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلَكِنْ لَا
تَسْمَعُونَ، فَيَقُولُ: اُذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا
شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ
دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا، فَإِنَّ مُنْكَرًا
وَنَكِيرًا يَقُولَانِ: مَا يُقْعِدُنَا عِنْدَهُ وَقَدْ لُقِّنَ
حُجَّتَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ
اسْمَ أُمِّهِ؟ قَالَ: فَلْيَنْسُبْهُ إلَى حَوَّاءَ» قَالَ أَبُو
الْخَطَّابِ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي
الشَّافِعِيِّ " وَلِلطَّبَرَانِيِّ
(1/908)
أَوْ لِغَيْرِهِ فِيهِ: " وَأَنَّ
الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ،
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ
مَنْ فِي الْقُبُورِ " وَفِيهِ: " وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِالْإِسْلَامِ
دِينًا، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً، وَبِالْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا " وَقَالَ
الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا الَّذِي يَصْنَعُونَ
إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ يَقِفُ الرَّجُلُ وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ بْنُ
فُلَانَةَ اُذْكُرْ مَا فَارَقْتَ عَلَيْهِ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا فَعَلَ هَذَا إلَّا أَهْلُ
الشَّامِ حِينَ مَاتَ أَبُو الْمُغِيرَةِ؛ جَاءَ إنْسَانٌ فَقَالَ ذَاكَ،
وَكَانَ أَبُو الْمُغِيرَةِ يَرْوِي فِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ مَرْيَمَ
عَنْ أَشْيَاخِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ (قَالَ أَبُو
الْمَعَالِي: فَلَوْ انْصَرَفُوا قَبْلَهُ لَمْ يَعُودُوا) ، لِأَنَّ
الْخَبَرَ يُلْقُونَهُ قَبْلَ انْصِرَافِهِمْ لِيَتَذَكَّرَ حُجَّتَهُ.
(وَهَلْ يُلَقَّنُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ؟) وَجْهَانِ: وَهَذَا الْخِلَافُ
(مَبْنِيٌّ عَلَى نُزُولِ الْمَلَكَيْنِ إلَيْهِ وَمَيْلُ جَمْعٍ) مِنْهُمْ
الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ، وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ: (لَا) يَنْزِلُ
الْمَلَكَانِ لِغَيْرِ الْمُكَلَّفِ فَلَا يُلَقَّنُ، (وَفِي " تَصْحِيحِ
الْفُرُوعِ ": وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْأَمْصَارِ.
انْتَهَى. وَرَجَحَ جَمْعٌ) مِنْهُمْ أَبُو حَكِيمٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ
عَبْدُوسٍ عَنْ الْأَصْحَابِ النُّزُولَ، وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ
" أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ " الْمُنْتَهَى " (وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ)
تَقِيُّ الدِّينِ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى طِفْلٍ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً
قَطُّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ قِه عَذَابَ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ»
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْجَزْمِ بِنَفْيِ
التَّعْذِيبِ، فَقَدْ يَكُونُ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرَى الْوَقْفَ فِيهِمْ.
انْتَهَى. وَكَذَلِكَ أَجَابَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ
بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ فِيهِ عُقُوبَةَ
الطِّفْلِ قَطْعًا، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِلَا ذَنْبٍ
عَمِلَهُ، بَلْ الْمُرَادُ: الْأَلَمُ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ
بِسَبَبِ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُقُوبَةً عَلَى عَمَلٍ عَمِلَهُ،
قَالَ: وَقَالَ الْآخَرُونَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ:
السُّؤَالُ إنَّمَا
(1/909)
يَكُونُ لِمَنْ يَعْقِلُ الرَّسُولَ
وَالْمُرْسِلَ، فَيُسْأَلُ: هَلْ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَصَدَّقَ بِهِ أَمْ
لَا؟ فَأَمَّا الطِّفْلُ الَّذِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ بِوَجْهٍ، فَيُقَالُ
لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟
وَلَوْ رُدَّ إلَيْهِ عَقْلُهُ فِي الْقَبْرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ
عَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالْعِلْمِ بِهِ، فَلَا
فَائِدَةَ فِي هَذَا السُّؤَالِ. (قَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: يُسْأَلُ
الْأَطْفَالُ عَنْ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ حِينَ الذُّرِّيَّةِ) ، يُشِيرُ
بِهِ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ
سُؤَالُ تَكْرِيمٍ، وَسُؤَالُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - إنْ ثَبَتَ فَهُوَ سُؤَالُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، كَمَا
أَنَّ التَّكَالِيفَ فِي دَارِ الدُّنْيَا الْبَعْضُ تَكْرِيمٌ،
وَالْبَعْضُ امْتِحَانٌ وَنَكَالٌ.
(وَالْكِبَارُ يُسْأَلُونَ عَنْ مُعْتَقِدِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَ) عَنْ
(إقْرَارِهِمْ الْأَوَّلِ) حِينَ الذُّرِّيَّةِ، (وَاَللَّهُ) سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى (أَعْلَمُ)
[فَصْلٌ رَفْعُ الْقَبْر فَوْقَ شِبْرٍ]
(كُرِهَ رَفْعُ قَبْرٍ فَوْقَ شِبْرٍ) ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: «لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ،
وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
وَالْمُشْرِفُ: مَا رُفِعَ كَثِيرًا، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدٍ " لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ ".
(وَ) كُرِهَ (زِيَادَةُ تُرَابِهِ) ، أَيْ: الْقَبْرِ (بِلَا حَاجَةٍ) ،
لِحَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «نُهِيَ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ، أَوْ
يُزَادَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
(وَ) كُرِهَ (تَزْوِيقُهُ) ، أَيْ: الْقَبْرِ (وَتَخْلِيقُهُ وَنَحْوُهُ)
كَطَلْيِهِ بِمَغْرَةٍ وَزَعْفَرَانٍ.
(وَتَجْصِيصُهُ وَتَقْبِيلُهُ وَتَبْحِيرُهُ وَكِتَابَةُ رِقَاعٍ)
وَإِرْسَالُهَا (إلَيْهِ وَدَسُّهَا فِيهِ، وَاسْتِشْفَاءٌ بِهِ مِنْ
(1/910)
سَقَمٍ) ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ
الْبِدَعِ (وَاتِّكَاءٌ إلَيْهِ وَمَبِيتٌ) عِنْدَهُ، (وَحَدِيثٌ) عِنْدَهُ
(بِأَمْرِ دُنْيَا وَتَبَسُّمٌ عِنْدَهُ، وَضَحِكٌ أَشَدُّ) مِنْهُ
كَرَاهَةً، (وَكِتَابَةٌ) عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
(وَجُلُوسٌ) عَلَيْهِ لِمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَجْلِسُوا
عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ
ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ
عَلَى قَبْرٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وَ) كُرِهَ (وَطْءٌ) عَلَيْهِ، لِقَوْلِ الْخَطَّابِيِّ: ثَبَتَ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ تُوطَأَ
الْقُبُورُ»
(وَ) كُرِهَ (مَشْيٌ عَلَيْهِ) ، أَيْ: الْقَبْرِ، يَعْنِي: الْمَشْيَ
بَيْنَ الْقُبُورِ (بِنَعْلٍ) ، لِلْخَبَرِ (حَتَّى بِالتُّمُشْكِ: بِضَمِّ
تَاءٍ فَمِيمٍ) مَضْمُومَةٍ، (فَسُكُونِ شِينٍ) مُعْجَمَةٍ: نَوْعٌ مِنْ
النِّعَالِ. وَ (لَا) يُكْرَهُ الْمَشْيُ بَيْنَهَا (بِخُفٍّ) لِمَشَقَّةِ
نَزْعِهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَعْلٍ، رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ
كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ لِلْجِنَازَةِ لَبِسَ خُفَّيْهِ.
(وَسُنَّ خَلْعُهُ) ، أَيْ: النَّعْلِ إذَا دَخَلَ الْمَقْبَرَةَ،
لِحَدِيثِ «بَشِيرِ ابْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُمَاشِي
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَجُلٌ
يَمْشِي فِي الْقُبُورِ عَلَيْهِ نَعْلَانِ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ
السِّبْتِيَّتَيْنِ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ، فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَلَمَّا
عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَعَهُمَا
فَرَمَى بِهِمَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ أَحْمَدُ: إسْنَادُهُ
جَيِّدٌ. وَاحْتِرَامًا لِأَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ (إلَّا خَوْفَ نَحْوِ
نَجَاسَةٍ وَشَوْكٍ) وَحَرَارَةِ أَرْضٍ وَبُرُودَتِهَا، فَلَا يُكْرَهُ
لِلْعُذْرِ.
(وَكَرِهَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ الْفُسْطَاطَ وَالْخَيْمَةَ عَلَى
الْقَبْرِ) ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَوْصَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ "
أَنْ لَا تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي
مُسْنَدِهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: " وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ
(1/911)
فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلَامُ؛ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ
عَمَلُهُ "، وَلِأَنَّ الْخِيَامَ بُيُوتُ أَهْلِ الْبَرِّ، فَكُرِهَتْ
كَمَا كُرِهَتْ بُيُوتُ أَهْلِ الْمُدُنِ.
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (فِي كِسْوَةِ الْقَبْرِ
بِالثِّيَابِ: اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا مُنْكَرٌ إذَا
فُعِلَ بِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ؟
،) وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: تَغْشِيَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالصَّالِحِينَ لَيْسَ مَشْرُوعًا فِي الدِّينِ.
(وَيَتَّجِهُ: وَيَحْرُمُ) أَنْ يُكْسَى الْقَبْرُ (بِحَرِيرٍ) لِأَنَّهُ
سَرَفٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمَيِّتِ،
وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَيُكْرَهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ) ، أَيْ: الْقَبْرِ (سَوَاءٌ لَاصَقَ
الْأَرْضَ أَوْ لَا، وَلَوْ فِي مِلْكِهِ مِنْ قُبَّةٍ وَغَيْرِهَا،
لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ) لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ
يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ: " وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ " وَقَالَ: حَسَنٌ
صَحِيحٌ. (وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي) كِتَابِهِ (إغَاثَةِ
اللَّهْفَانِ) فِي مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ ": (يَجِبُ هَدْمُ الْقِبَابِ
الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ، لِأَنَّهَا أُسِّسَتْ عَلَى مَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ. انْتَهَى) . (وَهُوَ) ، أَيْ: الْبِنَاءُ (بِ) مَقْبَرَةٍ
(مُسَبَّلَةٍ أَشَدُّ كَرَاهَةً) ، لِأَنَّهُ تَضْيِيقٌ بِلَا فَائِدَةٍ،
وَاسْتِعْمَالٌ لِلْمُسَبَّلَةِ فِيمَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ، (وَعَنْهُ) ،
أَيْ: الْإِمَامِ أَحْمَدَ (مَنْعُ الْبِنَاءِ فِي وَقْفٍ عَامٍّ) ،
وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَالَ: رَأَيْتُ الْأَئِمَّةَ
بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يُبْنَى. وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
هُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ تَمِيمٍ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": فَظَاهِرُ
مَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ
(1/912)
أَنَّ الْأَشْهَرَ لَا يُمْنَعُ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَنْقُولَ فِي هَذَا مَا سَأَلَهُ أَبُو طَالِبٍ
عَمَّنْ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَقْبَرَةِ قَالَ: لَا يُدْفَنُ فِيهَا،
وَالْمُرَادُ: لَا تَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ كَغَيْرِهِ. (قَالَ الشَّيْخُ)
تَقِيُّ الدِّينِ: مَنْ بَنَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَ (هُوَ غَاصِبٌ) ،
وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ أَبُو
الْمَعَالِي: فِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ: فِي مِلْكِهِ
إسْرَافٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ، وَكُلٌّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَ (قَالَ أَبُو
حَفْصٍ: تَحْرُمُ الْحُجْرَةُ بَلْ تُهْدَمُ، وَهُوَ) ، أَيْ: الْقَوْلُ
بِتَحْرِيمِ الْبِنَاءِ فِي الْمُسَبَّلَةِ (الصَّوَابُ) ، لِمَا يَأْتِي
فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ يَجِبُ صَرْفُهُ لِلْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا
الْوَاقِفُ.
(وَحَرُمَ إسْرَاجُ قُبُورٍ) ، لِحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ
الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذَاتِ عَلَيْهِنَّ الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ إضَاعَةُ
مَالٍ بِلَا فَائِدَةٍ وَمُغَالَاةٌ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْوَاتِ، يُشْبِهُ
تَعْظِيمَ الْأَصْنَامِ.
(وَكَذَا) يَحْرُمُ (طَوَافٌ بِهَا) ، أَيْ: الْقُبُورِ، (خِلَافًا لَهُ) ،
لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ " (هُنَا) حَيْثُ صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ، وَفِي
مَوْضِعٍ آخَرَ صَرَّحَ بِالْحُرْمَةِ.
(وَحَرُمَ تَخَلٍّ) عَلَى قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا، لِحَدِيثِ:
«لَأَنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ سَيْفٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ
أَطَأَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ، وَلَا أُبَالِي أَوَسْطَ الْقَبْرِ قَضَيْتُ
حَاجَتِي أَوْ وَسْطَ السُّوقِ» رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَابْنُ مَاجَهْ.
(وَ) حَرُمَ (جَعْلُ مَسْجِدٍ عَلَيْهَا وَبَيْنَهَا) ، أَيْ: الْقُبُورِ،
لِلْخَبَرِ، (وَتَتَعَيَّنُ إزَالَتُهُ) - أَيْ: الْمَسْجِدِ - قَالَ فِي "
الْهَدْيِ ": لَوْ وَضَعَ الْمَسْجِدَ وَالْقَبْرَ مَعًا؛ لَمْ يَجُزْ،
وَلَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ، وَلَا الصَّلَاةُ.
(وَ) حَرُمَ (حَفْرُ) قَبْرٍ فَأَكْثَرَ (بِمُسَبَّلَةٍ قَبْلَ حَاجَةٍ)
إلَيْهِ.
(وَ) حَرُمَ (دَفْنُ حُلِيٍّ أَوْ ثِيَابٍ مَعَ مَيِّتٍ) ، لِأَنَّهُ
إضَاعَةُ مَالٍ بِلَا فَائِدَةٍ.
(وَ) حَرُمَ
(1/913)
(حَرْقُ مَالَهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ
(وَتَكْسِيرُ نَحْوِ آنِيَةٍ) لَهُ كَآلَةِ صِنَاعَةٍ، وَتَعْطِيلُ مَحَلٍّ
كَانَ يَسْكُنُهُ بِتَسْكِيرِهِ، أَوْ هَدْمِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ
الْجَاهِلِيَّةِ.
(وَ) حَرُمَ (قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ أَطْرَافِهِ) كَيَدِهِ وَنَحْوِهَا
(وَإِحْرَاقُهُ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ) ، أَيْ: بِفِعْلِ شَيْءٍ مِمَّا
ذُكِرَ، (وَلَا ضَمَانَ فِيهِ) عَلَى فَاعِلِهِ، لِامْتِثَالِهِ أَمْرَ
الْمُوصِي؛ لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ لِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ
الْوَارِثِ، (وَلِوَلِيِّهِ) ، أَيْ: وَلِيِّ الْمَيِّتِ (الدَّفْعُ
عَنْهُ) ، أَيْ: دَفْعُ مُرِيدِ فِعْلِ ذَلِكَ بِأَطْرَافِ الْمَيِّتِ أَوْ
مَالِهِ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ، (وَإِنْ آلَ) الدَّفْعُ (لِإِتْلَافِ
طَالِبِ) شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَأَتْلَفَهُ؛ (فَلَا ضَمَانَ) عَلَى
الْوَلِيِّ كَمَا فِي دَفْعِ الصَّائِلِ.
(وَحَرُمَ دَفْنُ غَيْرِهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (مَعَهُ أَوْ عَلَيْهِ)
وَلَوْ كَانَ مَحْرَمًا لَهُ (حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ) ، أَيْ: الْأَوَّلَ
(صَارَ تُرَابًا) ، فَيَجُوزُ نَبْشُهُ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الْبِقَاعِ وَالْبِلَادِ وَالْهَوَاءِ، وَهُوَ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ
أَسْرَعُ مِنْهُ فِي الْبَارِدَةِ، وَإِنْ شَكَّ فِي أَنَّهُ بَلِيَ
وَصَارَ تُرَابًا رَجَعَ فِيهِ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ، ثُمَّ إنْ
وُجِدَ فِيهِ عِظَامٌ لَمْ يَجُزْ دَفْنُ آخَرَ عَلَيْهِ نَصًّا، (إلَّا
لِحَاجَةٍ) ، كَكَثْرَةِ مَوْتَى بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ دَفْنُ
اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ لِلْعُذْرِ، (وَسُنَّ حَجْزٌ
بَيْنَهُمَا بِتُرَابٍ) يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَكْفِي الْكَفَنُ.
(وَ) سُنَّ (أَنْ يُقَدَّمَ لِلْقِبْلَةِ مَنْ يُقَدَّمُ لِإِمَامٍ) لَوْ
جُمِعَتْ
(1/914)
جَنَائِزُهُمْ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ،
لِحَدِيثِ «هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: شُكِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثْرَةُ الْجِرَاحَاتِ يَوْمَ
أُحُدٍ، فَقَالَ: احْفِرُوا وَوَسِّعُوا وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا
الِاثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ
قُرْآنًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ
أَحْمَدُ: وَلَوْ جَعَلَ لَهُمْ شِبْهَ النَّهْرِ، وَجَعَلَ رَأْسَ
أَحَدِهِمْ عِنْدَ رِجْلِ الْآخَرِ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا مِنْ
تُرَابٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ.
(وَحَرُمَ عِمَارَةُ قَبْرٍ دَثَرَ) وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بِلَى
صَاحِبِهِ، (لِمَنْعِ دَفْنِ) النَّاسِ (فِيهِ) خُصُوصًا مَعَ
الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ، (وَلَعَلَّ الْمُرَادَ) مِنْ تَحْرِيمِ عِمَارَةِ
قَبْرٍ دَثَرَ إذَا كَانَ (بِمُسَبَّلَةٍ) ، لِئَلَّا يُتَصَوَّرَ
بِصُورَةِ الْجَدِيدِ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْحَفْرِ فِيهَا قَبْلَ
الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
(وَإِذَا صَارَ الْمَيِّتُ تُرَابًا؛ جَازَ حَرْثُ قَبْرِهِ لِزَرْعٍ
وَغَيْرِهِ) كَبِنَاءٍ، قَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي. (وَالْمُرَادُ)
بِقَوْلِ أَبِي الْمَعَالِي: إذَا كَانَ الْقَبْرُ (بِغَيْرِ مُسَبَّلَةٍ)
أَمَّا فِيهَا؛ فَلَا.
(وَحَرُمَ دَفْنٌ بِمَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ) كَمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ،
لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ لَهُ، (وَيُنْبَشُ) مَنْ دُفِنَ بِهِ، وَيُخْرَجُ
نَصًّا. (وَيَتَّجِهُ) : أَنَّهُ يُنْبَشُ (وُجُوبًا) وَيُدْفَنُ فِي
مُسَبَّلَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ إنْ أَذِنَ مَالِكُهَا، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَيَجِبُ نَبْشُ مَنْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ) وَقَدْ (أَمْكَنَ) تَغْسِيلُهُ
قَبْلَ دَفْنِهِ تَدَارُكًا لِلْوَاجِبِ، فَيُخْرَجُ وَيُغَسِّلُهُ، مَا
لَمْ يُخْشَ تَفَسُّخُهُ.
(وَيَتَّجِهُ: أَوْ) ، أَيْ: وَيَجِبُ نَبْشُ مَيِّتٍ إنْ كَانَ أَمْكَنَ
تَيَمُّمُهُ وَدُفِنَ بِلَا (تَيَمُّمٍ) ، كَمَنْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ،
وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(أَوْ) دُفِنَ بِلَا
(1/915)
(صَلَاةٍ) عَلَيْهِ فَيُخْرَجُ، وَيُصَلَّى
عَلَيْهِ، ثُمَّ يُرَدُّ إلَى مَضْجَعِهِ نَصًّا مَا لَمْ يُخْشَ
تَفْسَخُهُ، لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَقْصُودَةٌ.
(أَوْ) دُفِنَ بِلَا (كَفَنٍ) ، فَيُخْرَجُ وَيُكَفَّنُ نَصًّا
اسْتِدْرَاكًا لِلْوَاجِبِ، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وُجُوبًا،
لِعَدَمِ سُقُوطِ الْفَرْضِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عُرْيَانًا.
(أَوْ) دُفِنَ (لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ) ، فَيُنْبَشُ وَيُوَجَّهُ
لِلْقِبْلَةِ (مَعَ أَمْنِ تَفَسُّخِهِ، أَوْ) أَمْنِ (تَغَيُّرِهِ فِي
الْجَمِيعِ) ، أَيْ: جَمِيعِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ.
(وَيَتَّجِهُ: وَإِلَّا) يُؤْمَنْ تَفَسُّخُهُ أَوْ تَغَيُّرُهُ؛ (صُلِّيَ
عَلَيْهِ بِقَبْرٍ كَ) مَا يُصَلَّى (عَلَى غَرِيقٍ) ، وَهُوَ اتِّجَاهٌ
جَيِّدٌ.
(وَكَذَا) يُنْبَشُ وُجُوبًا (إنْ كُفِّنَ بِغَصْبٍ) وَيُرَدُّ الْكَفَنُ
إلَى مَالِكِهِ إنْ تَعَذَّرَ غُرْمُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِلَّا لَمْ
يُنْبَشْ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ مَعَ إمْكَانِ دَفْعِ التَّضَرُّرِ
بِدُونِهَا، (أَوْ) كَانَ الْمَيِّتُ (بَلَعَ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا إذْنِهِ
وَتَبْقَى مَالِيَّتُهُ) كَالذَّهَبِ وَنَحْوِهِ، (وَطَلَبَهُ رَبُّهُ)
لَمْ يُنْبَشْ، وَغَرِمَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ
عَدَمِ الضَّرَرِ، كَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبِقَ؛ تَجِبُ قِيمَتُهُ
لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمَالِ وَرَبِّهِ، (وَ) إنْ (تَعَذَّرَ غُرْمُهُ
مِنْ تَرِكَتِهِ) لِعَدَمِهَا؛ فَيُنْبَشُ (وَيُشَقُّ جَوْفُهُ) وَيُدْفَعُ
الْمَالُ لِرَبِّهِ تَخْلِيصًا لِلْمَيِّتِ مِنْ إثْمِهِ. (قَالَ
الْمَجْدُ: يَضْمَنُهُ) ، أَيْ: الْكَفَنَ (مَنْ كَفَّنَهُ) بِهِ
(عَالِمًا) أَنَّهُ مَغْصُوبٌ، لِمُبَاشَرَتِهِ الْإِتْلَافَ، (وَ) إنْ
كَانَ كَفَّنَهُ بِهِ (جَهْلًا) بِكَوْنِهِ مَغْصُوبًا؛ (فَالْقَرَارُ) ،
أَيْ: قَرَارُ الضَّمَانِ (عَلَى الْغَاصِبِ) جَزَمَ بِهِ فِي مَجْمَعِ
الْبَحْرَيْنِ " وَالرِّعَايَةِ الصُّغْرَى " وَ " الْحَاوِيَيْنِ " (وَ)
إنْ بَلَعَهُ (بِإِذْنِهِ) ، أَيْ: إذْنِ مَالِكِهِ أَخَذَهُ (إذَا بَلِيَ)
الْمَيِّتُ، لِأَنَّ مَالِكَهُ هُوَ الْمُسَلَّطُ لَهُ عَلَى مَالِهِ
بِالْإِذْنِ لَهُ، (أَوْ بَلَعَ مَالَ نَفْسِهِ) لَمْ يُنْبَشْ قَبْلَ أَنْ
يَبْلَى، لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ لِمَالِ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ،
أَشْبَهَ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ، إلَّا أَنْ يَمُوتَ (وَعَلَيْهِ دَيْنٌ) ،
فَيُنْبَشُ وَيُشَقُّ
(1/916)
جَوْفُهُ، فَيُخْرَجُ وَيُوَفَّى دَيْنُهُ،
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ مِنْ
الدَّيْنِ.
(أَوْ وَقَعَ وَلَوْ بِفِعْلِ رَبِّهِ فِي الْقَبْرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ
عُرْفًا، وَطَلَبَهُ) رَبُّهُ؛ نُبِشَ وَأُخِذَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ
الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَضَعَ خَاتَمَهُ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: خَاتَمِي، فَدَخَلَ
وَأَخَذَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أَقْرَبُكُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا
نَسِيَ الْحَفَّارُ مِسْحَاتَهُ فِي الْقَبْرِ؛ جَازَ أَنْ يَنْبُشَ.
(وَيَجُوزُ نَبْشُ) مَيِّتٍ (لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَتَحْسِينِ كَفَنٍ) ،
لِحَدِيثِ جَابِرٍ: «أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ فَنَفَثَ
فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (وَ) لِ
(إبْدَالِ كَفَنٍ حَرِيرٍ) أَوْ مَنْسُوجٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ
لِتَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهِ.
(وَ) يَجُوزُ نَبْشُهُ (لِإِفْرَادِ مَدْفُونٍ مَعَ غَيْرِهِ) ، لِحَدِيثِ
جَابِرٍ قَالَ: " دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى
أَخْرَجْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ " رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
(وَ) يُنْبَشُ (مَدْفُونٌ لِعُذْرٍ بِلَا غُسْلٍ وَحَنُوطٍ) ، فَيُغْسَلُ
وَيُحَنَّطُ وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ.
(وَيَتَّجِهُ: وَ) يُنْبَشُ مَيِّتٌ (مَدْفُونٌ عَلَى جَنْبِهِ
الْأَيْسَرِ) ، لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ (أَوْ لَحِقَتْهُ نَدَاوَةُ)
الْأَرْضِ فَيُنْبَشُ، لِئَلَّا يُسْرِعَ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَهَذَا
مُتَّجِهٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (أَوْ بَلَعَ مَالَ نَفْسِهِ وَلَهُ وَارِثٌ)
(1/917)
فَفِيهِ مَا فِيهِ، بِدَلِيلِ تَصْرِيحِ
الْأَصْحَابِ بِأَنَّ لِلْوَارِثِ أَخْذَ الْمَالِ إذَا بَلِيَ الْمَيِّتُ
لَا قَبْلَهُ
، (وَ) يَجُوزُ نَبْشُهُ (لِنَقْلِهِ لِبُقْعَةٍ شَرِيفَةٍ وَمُجَاوَرَةِ
صَالِحٍ) ، لِمَا فِي الْمُوَطَّأِ " لِمَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ غَيْرَ
وَاحِدٍ يَقُولُ: إنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ
مَاتَا بِالْعَقِيقِ فَحُمِلَا إلَى الْمَدِينَةِ، وَدُفِنَا بِهَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَاتَ ابْنُ عُمَرَ هَهُنَا، وَأَوْصَى
أَنْ لَا يُدْفَنَ هَا هُنَا، وَأَنْ يُدْفَنَ بِسَرِفٍ.
ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
(وَيَتَّجِهُ: لَا) يَجُوزُ نَبْشُهُ (فِي زَمَنِ تَغَيُّرِهِ، بَلْ)
يُنْبَشُ (قَبْلَهُ) ، أَيْ: التَّغْيِيرِ (أَوْ بَعْدَهُ) ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ. (إلَّا شَهِيدًا دُفِنَ بِمَصْرَعِهِ، فَيَحْرُمُ نَبْشُهُ
لِنَقْلِهِ) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي
مَصَارِعِهِمْ» . (وَدَفْنُهُ) ، أَيْ: الشَّهِيدِ (بِهِ) ، أَيْ:
بِمَصْرَعِهِ (سُنَّةٌ) ، لِلْخَبَرِ (فَيُرَدُّ) الشَّهِيدُ (إلَيْهِ) ،
أَيْ: إلَى مَصْرَعِهِ (لَوْ نُقِلَ) مُوَافَقَةً لِلسُّنَّةِ، قَالَ أَبُو
الْمَعَالِي: يَجِبُ نَقْلُهُ لِضَرُورَةٍ نَحْوِ كَوْنِهِ بِدَارِ حَرْبٍ
أَوْ مَكَان يُخَافُ نَبْشُهُ وَتَحْرِيقُهُ، أَوْ الْمُثْلَةُ بِهِ،
(وَلِمَالِكٍ نَبْشُ مَنْ دُفِنَ تَعَدِّيًا بِمِلْكِهِ، وَلَهُ إلْزَامُ
دَافِنِهِ بِنَقْلِهِ) لِتَفْرِيغِ مِلْكِهِ،
(1/918)
(وَالْأَوْلَى) لَهُ (تَرْكُهُ) لِئَلَّا
يَهْتِكَ حُرْمَتَهُ.
(وَ) الْمَيِّتُ (الْمُتَعَذَّرُ إخْرَاجُهُ مِنْ بِئْرٍ إلَّا
مُتَقَطِّعًا وَنَحْوُهُ) كَمُمَثَّلٍ بِهِ (وَثَمَّ حَاجَةٌ إلَيْهَا) .
أَيْ: الْبِئْرِ (أُخْرِجَ) مُتَقَطِّعًا، لِأَنَّهُ أَخَفُّ ضَرَرًا مِنْ
طَمِّهَا، (وَإِلَّا) يَكُنْ ثَمَّ حَاجَةٌ إلَى الْبِئْرِ؛ (طُمَّتْ)
عَلَيْهِ، فَتَصِيرُ قَبْرَهُ دَفْعًا لِلتَّمْثِيلِ بِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ
إخْرَاجُهُ بِلَا تَقَطُّعٍ بِمُعَالَجَةٍ بِأَكْسِيَةٍ وَنَحْوِهَا
تُدَارُ فِيهَا تَجْتَذِبُ الْبُخَارَ أَوْ بِكَلَالِيبَ وَنَحْوِهَا بِلَا
مُثْلَةٍ؛ وَجَبَ لِتَأْدِيَةِ فَرْضِ غُسْلِهِ، وَيُعْرَفُ زَوَالُ
بُخَارِهَا بِبَقَاءِ السِّرَاجِ وَنَحْوِهِ بِهَا، فَإِنَّ النَّارَ لَا
تَبْقَى عَادَةً إلَّا فِيمَا يَعِيشُ فِيهِ الْحَيَوَانُ.
(وَيَتَّجِهُ: وَيُصَلَّى عَلَيْهِ بِهَا) كَغَرِيقٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَحَرُمَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ) الْمُتَقَدِّمَ (نَبْشُ) مَيِّتٍ (مُسْلِمٍ
مَعَ بَقَاءِ رِمَّتِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ) ، كَظُهُورِ مَوْضِعِ الْقَبْرِ
مُسْتَحَقًّا لِلْغَيْرِ. (وَيَتَّجِهُ)
(وَكَذَا) يَحْرُمُ نَبْشُ مَيِّتٍ (ذِمِّيٍّ) دُفِنَ (بِ) أَرْضٍ
مُنْفَكَّةٍ عَنْ الِاخْتِصَاصَاتِ (غَيْرِ) أَرْضِ (الْحَرَمِ) ، فَلَا
يُنْبَشُ مَعَ بَقَاءِ رِمَّتِهِ، (لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ) ، وَأَمَّا إذَا
دُفِنَ بِالْحَرَمِ فَيُنْبَشُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَيُبَاحُ نَبْشُ قَبْرِ حَرْبِيٍّ لِمَصْلَحَةٍ كَجَعْلِهِ) ، أَيْ:
قَبْرِ الْحَرْبِيِّ (مَسْجِدًا) ، لِأَنَّ مَوْضِعَ مَسْجِدِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قُبُورًا لِلْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَ
بِنَبْشِهَا وَجَعْلِهَا مَسْجِدًا، (وَلِمَالٍ فِيهِ) ، أَيْ: قَبْرِ
الْحَرْبِيِّ، لِحَدِيثِ
(1/919)
هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَآيَةُ
ذَلِكَ أَنَّ مَعَهُ غُصْنًا مِنْ ذَهَبٍ، إنْ رَأَيْتُمْ نَبَشْتُمْ
عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ
".
[فَصْلٌ مَاتَتْ حَامِلٌ بِمَنْ تُرْجَى حَيَاتُهُ]
(فَصْلٌ)
(وَإِنْ مَاتَتْ حَامِلٌ) بِمَنْ تُرْجَى حَيَاتُهُ (حَرُمَ شَقُّ
بَطْنِهَا) مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً،
لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، لِإِبْقَاءِ حَيَاةٍ
مَوْهُومَةٍ، إذْ الْغَالِبُ وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ.
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ
عَظْمِ الْحَيِّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ
رِوَايَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَزَادَ: " فِي الْإِثْمِ ".
(وَأَخْرَجَ نِسَاءٌ لَا رِجَالٌ مَنْ تُرْجَى حَيَاتُهُ) ، بِأَنْ كَانَ
يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً قَوِيَّةً، وَانْتَفَخَتْ الْمَخَارِجُ، وَلَهُ
سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، (فَإِنْ تَعَذَّرَ) عَلَيْهِنَّ إخْرَاجُهُ
(لَمْ تُدْفَنْ حَتَّى يَمُوتَ) الْحَمْلُ لِحُرْمَةٍ، وَلَا يُشَقُّ
بَطْنُهَا، قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَهَذَا الْمَذْهَبُ نَصَّ
عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ.
(وَيَتَّجِهُ: إلَّا مَعَ حَرَكَةٍ يُظَنُّ بِهَا حَيَاتُهُ بَعْدَ
شَقِّهِ) ، أَيْ: بَطْنِهَا فَيُشَقُّ، وَيُخْرَجُ الْوَلَدُ، اخْتَارَهُ
ابْنُ هُبَيْرَةَ، وَجَعَلَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَجْهًا، وَقَالَ فِي
الْإِنْصَافِ ": قُلْتُ: وَهُوَ أَوْلَى، فَعَلَى الْمَذْهَبِ يُتْرَكُ،
وَلَا تُدْفَنُ حَتَّى يَمُوتَ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": هَذَا
الْأَشْهَرُ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَالْمُوَفَّقِ، وَصَاحِبُ "
التَّلْخِيصِ " وَغَيْرُهُمْ. (وَلَا يُوضَعُ عَلَيْهِ مَا يُمَوِّتُهُ) ،
لِعُمُومِ النَّوَاهِي عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلَا
يُخْرِجُهُ الرِّجَالُ،
(1/920)
لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهَا.
(وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ) ، أَيْ: الْحَمْلِ (حَيًّا؛ شُقَّ) بَطْنُهَا
(لِ) خُرُوجِ (بَاقٍ) ، لِتَيَقُّنِ حَيَاتِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ
مَوْهُومَةً، (فَلَوْ مَاتَ) الْحَمْلُ (قَبْلَهُ) ، أَيْ: شَقِّ بَطْنِهَا
(أُخْرِجَ) لِيُغَسَّلَ وَيُكَفَّنَ، وَلَا يُشَقُّ بَطْنُهَا، (فَإِنْ
تَعَذَّرَ) إخْرَاجُهُ؛ (غُسِّلَ مَا خَرَجَ) مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ
السَّقْطِ، (وَلَا يُيَمَّمُ لِبَاقٍ) ، لِأَنَّهُ حَمْلٌ، (وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ) - أَيْ: الْحَمْلِ - خَرَجَ بَعْضُهُ أَوْ لَا (مَعَهَا) - أَيْ:
أُمِّهِ الْمُسْلِمَةِ - بِأَنْ يَنْوِيَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا (إنْ
تَمَّ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ) فَأَكْثَرُ، وَإِلَّا فَيُصَلَّى
عَلَيْهَا دُونَهُ، (فَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُصَلَّ
عَلَيْهِ) ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْلُودٍ، وَلَا سَقْطٍ.
(وَيَتَّجِهُ) : لَا يُصَلَّى عَلَى حَمْلٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ،
(وَلَوْ تَخَلَّقَ الْحَمْلُ) بِأَنْ مَضَى لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ،
(أَوْ) كَانَ (بِبَطْنِ مُسْلِمَةٍ) لِلشَّكِّ فِي وُجُودِهِ، قَالَهُ
ابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ، (خِلَافًا لَهُ) ، أَيْ:
لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ " حَيْثُ قَالَ: وَيُصَلَّى عَلَى مُسْلِمَةٍ
حَامِلٍ وَحَمْلِهَا بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنِ تَصْوِيرِهِ وَإِلَّا عَلَيْهَا
دُونَهُ. انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ " هُوَ الْمَذْهَبُ
الْأَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ.
(وَإِنْ مَاتَتْ كَافِرَةٌ) ذِمِّيَّةٌ أَوْ حَرْبِيَّةٌ (حَامِلٌ
بِمُسْلِمٍ؛ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) بِبَطْنِهَا، كَمَبْلُوعٍ بِبَطْنِ
بَالِعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ،
لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمَوْتِهَا، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ
حَامِلٌ مِنْ مُسْلِمٍ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُهَا وَمَوْتُ وَلَدِهَا فِي
بَطْنِهَا مَعًا فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مُسْلِمٍ لَمْ يُحْكَمْ
(1/921)
بِإِسْلَامِهِ، (مَا لَمْ يَخْرُجْ
بَعْضُهُ كَمَا مَرَّ) آنِفًا، (وَدَفْنُهَا) ، أَيْ الْكَافِرَةِ
الْحَامِلِ بِمُسْلِمٍ (مُسَلَّمٌ) مِنْ أَجْلِ حَمْلِهَا (مُفْرَدَةً)
عَنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ نَصًّا، وَحَكَاهُ عَنْ
وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ (إنْ أَمْكَنَ) إفْرَادُهَا، (وَإِلَّا)
يُمْكِنْ إفْرَادُهَا (فَ) إنَّهَا تُدْفَنُ (مَعَنَا) ، لِئَلَّا يُدْفَنَ
الْجَنِينُ الْمُسْلِمُ مَعَ الْكُفَّارِ، وَتُدْفَنُ (عَلَى جَنْبِهَا
الْأَيْسَرِ مُسْتَدْبِرَةً الْقِبْلَةَ) ، لِيَكُونَ الْجَنِينُ عَلَى
جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ ظَهْرَهُ لِوَجْهِ
أُمِّهِ.
(وَلَا يَجُوزُ دَفْنُ) مَيِّتٍ (مُسْلِمٍ بِمَقْبَرَةِ كُفَّارٍ) ،
لِتَأَذِّيهِ بِمُجَاوَرَتِهِمْ، (وَلَا) يَجُوزُ (عَكْسُهُ) ، أَيْ:
دَفْنُ كَافِرٍ بِمَقْبَرَةِ مُسْلِمِينَ، لِئَلَّا يَنْزِلَ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ فَيُصِيبُهُمْ بِسَبَبِهِ
(وَيَجُوزُ جَعْلُ مَقْبَرَةِ كُفَّارٍ مُنْدَرِسَةٍ مَقْبَرَةً
لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ بَقِيَ عَظْمٌ) مِنْ عِظَامِ الْكُفَّارِ (دُفِنَ
بِمَوْضِعٍ آخَرَ، وَغَيْرُهَا) ، أَيْ: غَيْرُ مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ
(أَوْلَى) مِنْهَا، لِأَنَّهَا بُقْعَةٌ مَغْضُوبٌ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ
مَنْ كَانَ فِيهَا
[فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْمُصَابِ]
(فَصْلٌ) فِي أَحْكَامِ الْمُصَابِ (يُسَنُّ لِمُصَابٍ) بِمَوْتِ نَحْوِ
قَرِيبٍ (قَوْلُ: إنَّا لِلَّهِ) ، أَيْ: نَحْنُ عَبِيدُهُ يَفْعَلُ بِنَا
مَا يَشَاءُ، (وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ) ، أَيْ: نَحْنُ مُقِرُّونَ
بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ لِلْآيَةِ، (اللَّهُمَّ
أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا) أْجُرْنِي
مَقْصُورٌ، وَقِيلَ: مَمْدُودٌ، وَأَخْلِفْ: بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ قَالَ
الْآجُرِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، قَالَ فِي "
الْفُرُوعِ ": وَهُوَ مُتَّجِهٌ، فَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] (وَ) أَنْ
(يَصْبِرَ) عَلَى الْمُصِيبَةِ (نَدْبًا) وَالصَّبْرُ:
(1/922)
الْحَبْسُ قَوْله تَعَالَى: {وَاصْبِرُوا
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَوْتِ
الْوَلَدِ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، مِنْهَا مَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنْ
الْوَلَدِ فَتَمَسُّهُ النَّارُ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» يُشِيرُ إلَى
قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71]
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ جَزَاءٌ إذَا
قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا
الْجَنَّةُ»
قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى ": وَاعْلَمْ أَنَّ الثَّوَابَ فِي
الْمَصَائِبِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا لَا عَلَى الْمُصِيبَةِ نَفْسِهَا،
فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَى كَسْبِهِ،
وَالصَّبْرُ مِنْ كَسْبِهِ، وَالرِّضَى بِالْقَضَاءِ فَوْقَ الصَّبْرِ،
فَإِنَّهُ يُوجِبُ رِضَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
(وَيَجِبُ مِنْهُ) ، أَيْ: الصَّبْرِ (مَا يَمْنَعُ عَنْ مُحَرَّمٍ) ، إذْ
النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، (وَلَا يَلْزَمُ الرِّضَى
بِمَرَضٍ وَفَقْرٍ وَعَاهَةٍ) تُصِيبُهُ، وَهِيَ عَرَضٌ مُفْسِدٌ لِمَا
أَصَابَهُ، لِأَنَّهَا مِنْ الْمَقْضِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِي الرِّضَى عَنْ
اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ الْجُنَيْدُ: رَفْعُ الِاخْتِيَارِ، وَقَالَ
الْمُحَاسِبِيُّ: سُكُونُ النَّفْسِ تَحْتَ مَجَارِي الْقَدَرِ، وَقَالَ
النَّوَوِيُّ: السُّرُورُ بِمُرُورِ الْقَضَاءِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
فَالْأَوَّلَانِ: تَعْرِيفٌ لِمُبْتَدَئِهِ، وَالثَّالِثُ: تَعْرِيفٌ
لِمُنْتَهَاهُ، (بَلْ يُسْتَحَبُّ) الرِّضَى بِذَلِكَ وَالصَّبْرُ
عَلَيْهِ، لِيَنَالَ أَجْرَهُ عَلَى الْكَمَالِ.
(وَيَحْرُمُ) الرِّضَى (بِفِعْلِهِ الْمَعْصِيَةَ) ، ذَكَرَهُ ابْنُ
عَقِيلٍ إجْمَاعًا، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ إذَا
نَظَرَ إلَى إحْدَاثِ الرَّبِّ لِذَلِكَ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا
وَيَرْضَاهَا رَضِيَ لِلَّهِ بِمَا رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ،
(1/923)
فَيَرْضَاهُ وَيُحِبُّهُ مَفْعُولًا
مَخْلُوقًا لِلَّهِ وَيُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ فِعْلًا لِلْمُذْنِبِ
الْمُخَالِفِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَهَذَا كَمَا نَقُولُ فِيمَنْ خَلَقَهُ
مِنْ الْأَجْسَامِ الْخَبِيثَةِ، قَالَ: فَمَنْ فَهِمَ هَذَا الْمَوْضِعَ
انْكَشَفَ لَهُ حَقِيقَةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَارَتْ فِيهِ
الْعُقُولُ.
(وَكُرِهَ لِمُصَابٍ تَغْيِيرُ حَالِهِ) ، أَيْ: حَصِيلَتِهِ (مِنْ خَلْعِ
رِدَاءٍ وَنَحْوِهِ) كَعِمَامَةٍ، (وَغَلْقِ حَانُوتِهِ وَتَعْطِيلِ
مَعَاشِهِ) ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ الْجَزَعِ، قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي
الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] اعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَا قُضِيَ
لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ قَلَّ حُزْنُهُ وَفَرَحُهُ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ
الْحَرْبِيُّ: اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أَنَّ مَنْ لَمْ
يَتَمَشَّ مَعَ الْقَدَرِ لَمْ يَهْنَأْ بِعَيْشٍ.
وَ (لَا) يُكْرَهُ (جَعْلُ عَلَامَةٍ عَلَيْهِ لِيُعْرَفَ فَيُعَزَّى) ،
أَيْ: لِتَتَيَسَّرَ التَّعْزِيَةُ الْمَسْنُونَةُ لِمَنْ أَرَادَهَا.
(وَلَا) يُكْرَهُ (هَجْرُهُ) ، أَيْ: الْمُصَابِ (لِزِينَةٍ وَحُسْنِ
ثِيَابٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) ، لِمَا يَأْتِي فِي الْإِحْدَادِ وَسُئِلَ
أَحْمَدُ يَوْمَ مَاتَ بِشْرٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا
يَوْمَ جَوَابٍ، هَذَا يَوْمُ حُزْنٍ.
(وَلَا) يُكْرَهُ (بُكَاءٌ عَلَى مَيِّتٍ قَبْلَ مَوْتٍ وَبَعْدَهُ)
لِلْأَخْبَارِ، وَأَخْبَارُ النَّهْيِ مَحْمُولَةٌ عَلَى بُكَاءٍ مَعَهُ
نَدْبٌ وَنِيَاحَةٌ، قَالَ الْمَجْدُ: وَإِنَّهُ كُرِهَ كَثْرَةُ
الْبُكَاءِ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً، (بَلْ اسْتِحْبَابُ
الْبُكَاءِ رَحْمَةً لِلْمَيِّتِ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ) ، لِمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا
فَاضَتْ عَيْنَاهُ، لَمَّا رُفِعَ لَهُ ابْنُ بِنْتِهِ، وَنَفْسُهُ
تَتَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ - أَيْ: لَهَا صَوْتٌ وَحَشْرَجَةٌ
كَصَوْتِ مَا أُلْقِيَ فِي قِرْبَةٍ بَالِيَةٍ - قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا
هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي
قُلُوبِ
(1/924)
عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ
مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» قَالَ جَمَاعَةُ: وَالصَّبْرُ عَنْهُ
أَجْمَلُ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " التُّحْفَةِ
الْعِرَاقِيَّةِ ": الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ
حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الرِّضَى بِخِلَافِ الْبُكَاءِ
عَلَيْهِ لِفَوْتِ حَظِّهِ مِنْهُ، وَقَالَ فِي " الْفُرْقَانِ ":
الصَّبْرُ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرِّضَى
قَوْلَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ
عَلَى الْمُصِيبَةِ، لِمَا يَرَى مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهَا.
(وَحَرُمَ نَدْبٌ، وَهُوَ بُكَاءٌ مَعَ تَعْدِيدِ مَحَاسِنِهِ) - أَيْ:
الْمَيِّتِ - بِلَفْظِ النِّدَاءِ بِوَاوٍ مَعَ زِيَادَةِ أَلِفٍ وَهَاءٍ
فِي آخِرِهِ، كَقَوْلِ: وَا سَيِّدَاه وَا جَبَلَاه، وَا انْقِطَاعَ
ظَهْرَاه.
(وَ) حَرُمَ (نَوْحٌ، وَهُوَ: رَفْعُ صَوْتٍ بِذَلِكَ بِرَنَّةٍ) ، لِمَا
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «أَخَذَ عَلَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبَيْعَةِ
أَنْ لَا نَنُوحَ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ» (وَ)
حَرُمَ (شَقُّ ثَوْبٍ) لِمَا يَأْتِي، (وَكُرِهَ اسْتِدَامَةُ لُبْسِ)
ثَوْبٍ (مَشْقُوقٍ، وَحَرُمَ لَطْمُ خَدٍّ وَخَمْشُهُ) وَتَسْوِيدُهُ
(وَصُرَاخٌ وَنَتْفُ شَعْرٍ وَنَشْرُهُ وَحَلْقُهُ) ، لِحَدِيثِ: «لَيْسَ
مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى
الْجَاهِلِيَّةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ
وَالشَّاقَّةِ»
فَالصَّالِقَةُ: الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ،
وَيُقَالُ: السَّالِقَةُ: بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْحَالِقَةُ:
الَّتِي تَحْلِقُ شَعْرَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالشَّاقَّةُ: الَّتِي
تَشُقُّ ثِيَابَهَا.
وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ الْجَزَعِ، وَعَدَمِ الرِّضَى بِقَضَاءِ
اللَّهِ، وَالسَّخَطِ مِنْ فِعْلِهِ، وَفِي شَقِّ الْجُيُوبِ إفْسَادٌ
لِلْمَالِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
(وَفِي " الْفُصُولِ " يَحْرُمُ نَحِيبٌ وَتَعْدَادُ) مَحَاسِنِ مَيِّتٍ
وَمَزَايَاهُ، (وَإِظْهَارُ جَزَعٍ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ مِنْ
الظَّالِمِ، وَهُوَ عَدْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِي خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ، لِأَنَّهُمْ مِلْكُهُ.
(1/925)
(وَيَتَّجِهُ: وَمِثْلُهُ) ، أَيْ: مِثْلُ
مَا تَقَدَّمَ فِي الْحُرْمَةِ بَلْ أَفْظَعُ مِنْهُ (إلْقَاءُ تُرَابٍ
عَلَى رَأْسٍ، وَ) أَقْبَحُ مِنْهُ (دُعَاءٌ بِوَيْلٍ وَثُبُورٍ) ،
لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الْخَبَرِ: «مَنْ
تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: " إنَّ
أَهْلَ الْمَيِّتِ إذَا دَعَوْا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ؛ وَقَفَ مَلَكُ
الْمَوْتِ بِعَتَبَةِ الْبَابِ، وَقَالَ: إنْ كَانَ صَيْحَتُكُمْ عَلَيَّ
فَإِنِّي مَأْمُورٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَيِّتِكُمْ فَإِنَّهُ
مَقْبُورٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى رَبِّكُمْ فَالْوَيْلُ لَكُمْ
وَالثُّبُورُ، وَإِنَّ لِي فِيكُمْ لَعَوْدَاتٌ ثُمَّ عَوْدَاتٌ " وَهُوَ
مُتَّجِهٌ. (وَيُبَاحُ يَسِيرُ نُدْبَةِ) الصِّدْقِ (إذَا لَمْ تَخْرُجْ
مَخْرَجَ نَوْحٍ نَحْوِ) قَوْلِهِ: (يَا أَبَتَاهُ يَا وَلَدَاهُ) ،
لِفِعْلِ فَاطِمَةَ لَمَّا أَخَذَتْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ قَبْرِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَتْهَا عَلَى
عَيْنِهَا، ثُمَّ قَالَتْ:
مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ ... أَنْ لَا يَشُمَّ مَدَى
الزَّمَانِ غَوَالِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا ... صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ
عُدْنَ لَيَالِيَا
(وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ بِتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِنَوْحٍ
وَبُكَاءٍ عَلَيْهِ) ، فَحَمَلَهُ ابْنُ حَامِدٍ عَلَى مَنْ أَوْصَى بِهِ،
لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ الْوَصِيَّةُ بِفِعْلِهِ، فَخُرِّجَ عَلَى
عَادَتِهِمْ، كَقَوْلِ طَرَفَةَ:
إذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلَيَّ
الْجَيْبَ يَا بِنْتَ مَعْبَدِ
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
مَنْ كَانَ مِنْ أُمَّهَاتِي بَاكِيًا أَبَدَا ... فَالْيَوْمُ إنِّي
أَرَانِي الْيَوْمَ مَقْبُوضَا
تُسْمِعْنَنِيهِ فَإِنِّي غَيْرُ سَامِعِهِ ... إذَا جُعِلْتُ عَلَى
الْأَعْنَاقِ مَعْرُوضَا
(وَالْمُرَادُ: بُكَاءٌ مُحَرَّمٌ كَنَدْبٍ وَنَحْوِهِ) مِنْ لَطْمِ خَدٍّ
وَشَقِّ جَيْبٍ، (وَيَنْبَغِي إيصَاءٌ بِتَرْكِهِ) لِفِعْلِ السَّلَفِ،
(وَاخْتَارَ الْمَجْدُ: إذَا كَانَ)
(1/926)
النَّوْحُ (عَادَةَ أَهْلِهِ) ؛ فَعَلَيْهِ
أَنْ يُوصِيَهُمْ بِتَرْكِهِ، فَإِنْ سَكَتَ (وَلَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِ)
مَعَ عِلْمٍ أَنَّهُ عَادَةُ أَهْلِهِ؛ فَإِنَّهُ (يُعَذَّبُ) ، لِأَنَّهُ
مَتَى ظَنَّ وُقُوعَهُ وَلَمْ يُوصِ فَقَدْ رَضِيَ، وَلَمْ يَنْهَ مَعَ
قُدْرَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ ": يَتَأَلَّمُ
مِنْ ذَلِكَ وَيَتَوَجَّعُ مِنْهُ، لَا أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِذَنْبِ
الْحَيِّ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ،
وَهَذَا كَقَوْلِهِ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ» فَالْعَذَابُ
أَعَمُّ مِنْ الْعُقُوبَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ.
(وَمَا هَيَّجَ الْمُصِيبَةَ مِنْ وَعْظٍ وَإِنْشَادِ شِعْرٍ؛ فَمِنْ
النِّيَاحَةِ) قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَمَعْنَاهُ فِي "
الْفُنُونِ " لِابْنِ عَقِيلٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ عَقِيلٌ
قَرَأَ قَارِئٌ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
[يوسف: 78] فَبَكَى ابْنُ عَقِيلٍ، وَبَكَى النَّاسُ، فَقَالَ لِلْقَارِئِ:
يَا هَذَا إنْ كَانَ يُهَيِّجُ الْحُزْنَ فَهُوَ نِيَاحَةٌ بِالْقُرْآنِ،
وَلَمْ يُنَزَّلْ لِلنَّوْحِ بَلْ لِتَسْكِينِ الْأَحْزَانِ.
(وَسُنَّ قَبْلَ دَفْنٍ وَبَعْدَهُ: تَعْزِيَةُ مُسْلِمٍ أُصِيبَ) بِمَوْتِ
قَرِيبِهِ (وَلَوْ) كَانَ (صَغِيرًا أَوْ صَدِيقًا) ، لِحَدِيثِ: «مَا مِنْ
مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إلَّا كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
(وَيَتَّجِهُ: مَا لَمْ يَكُنْ) الْمُصَابُ (يَجِبُ هَجْرُهُ)
كَمُتَبَدِّعٍ، (أَوْ يُسَنُّ) هَجْرُهُ كَفَاسِقٍ مُتَجَاهِرٍ
بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُعَزَّى؛ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَمَنْ عَزَّى أَخَاهُ؛ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ) ، لِحَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ
(1/927)
مَرْفُوعًا «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ
مِثْلُ أَجْرِهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ:
غَرِيبٌ. (وَتُكْرَهُ) تَعْزِيَةُ رَجُلٍ (لِشَابَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ)
خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ، (وَتَمْتَدُّ) التَّعْزِيَةُ (إلَى ثَلَاثِ) لَيَالٍ
بِأَيَّامِهَا (وَتُكْرَهُ) التَّعْزِيَةُ (بَعْدَهَا) ، أَيْ: الثَّلَاثِ
لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْإِحْدَادِ الْمُطْلَقِ (وَاسْتَثْنَى أَبُو
الْمَعَالِي) وَالْمَجْدُ (إلَّا لِغَائِبٍ) ، فَلَا بَأْسَ بِتَعْزِيَتِهِ
إذَا حَضَرَ، مَا لَمْ يَنْسَ الْمُصِيبَةَ.
(وَيَتَّجِهُ: وَمَعْذُورٍ) بِتَوَارٍ مِنْ خَصْمٍ ظَالِمٍ أَوْ حَبْسٍ،
وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(فَيُقَالُ) فِي تَعْزِيَةٍ (لِمُصَابٍ بِمُسْلِمٍ: أَعْظَمَ اللَّهُ
أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَك، وَغَفَرَ لِمَيِّتِك وَ) لِمُسْلِمٍ
مُصَابٍ (بِكَافِرٍ أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ)
لِأَنَّ الْغَرَضَ الدُّعَاءُ لِلْمُصَابِ وَمَيِّتِهِ، إلَّا إذَا كَانَ
كَافِرًا فَيُمْسِكُ عَنْ الدُّعَاءِ لَهُ، وَالِاسْتِغْفَارِ، لِأَنَّهُ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
(وَحَرُمَ تَعْزِيَةُ كَافِرٍ وَلَوْ بِمُسْلِمٍ) ، لِأَنَّ فِيهَا
تَعْظِيمًا لِلْكَافِرِ كَبُدَاءَتِهِ بِالسَّلَامِ، (وَلَا تَعْيِينَ
فِيمَا يَقُولُهُ مُعَزٍّ) ، لِمَا رَوَى حَرْبٌ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي
أَوْفَى قَالَ: «عَزَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رَجُلًا عَلَى وَلَدِهِ؛ فَقَالَ: آجَرَكَ اللَّهُ، وَأَعْظَمَ لَكَ
الْأَجْرَ» (وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِيَدِ مَنْ يُعَزِّيهِ) ، قَالَ
أَحْمَدُ: إنْ شِئْتَ أَخَذْتَ بِيَدِ الرَّجُلِ فِي التَّعْزِيَةِ، وَإِنْ
شِئْتَ فَلَا.
(وَكُرِهَ تَكْرَارُهَا) ، أَيْ: التَّعْزِيَةِ نَصًّا، (فَلَا يُعَزِّي
عِنْدَ قَبْرٍ مَنْ عَزَّى قَبْلَ) ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُ
التَّعْزِيَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ، إلَّا لِمَنْ لَمْ يُعَزِّ فَيُعَزِّي
إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ أَوْ بَعْدَهُ.
(وَ) كُرِهَ (جُلُوسُ مُصَابٍ لَهَا) ، أَيْ: التَّعْزِيَةِ، بِأَنْ
يَجْلِسَ الْمُصَابُ بِمَكَانٍ لِيُعَزَّى، (وَمُعَزِّيهِ
(1/928)
كَذَلِكَ) ، أَيْ: يُكْرَهُ أَنْ يَجْلِسَ
الْمُعَزِّي عِنْدَ الْمُصَابِ بَعْدَ التَّعْزِيَةِ، لِأَنَّهُ
اسْتِدَامَةٌ لِلْحُزْنِ.
وَ (لَا) يُكْرَهُ جُلُوسُ الْمُعَزِّي (بِقُرْبِ دَارِ الْمَيِّتِ)
خَارِجًا عَنْهَا (لِيَتَّبِعَ الْجِنَازَةَ) إذَا خَرَجَتْ، (أَوْ
لِيَخْرُجَ وَلِيُّهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (فَيُعَزِّيهِ) ، لِأَنَّهُ
لِطَاعَةٍ بِلَا مَفْسَدَةٍ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْجُلُوسُ خَارِجَ مَسْجِدٍ
عَلَى نَحْوِ حَصِيرٍ مِنْهُ؛ كُرِهَ نَصًّا، بَلْ مُقْتَضَى مَا فِي
الْوَقْفِ: يَحْرُمُ، لِأَنَّهَا إنَّمَا وُقِفَتْ لِيُصَلَّى عَلَيْهَا
وَيُنْتَفَعَ بِهَا فِيهِ.
(فَرْعٌ: مَعْنَى التَّعْزِيَةِ: التَّسْلِيَةُ وَالْحَثُّ) ، أَيْ: حَثُّ
الْمُصَابِ (عَلَى الصَّبْرِ بِوَعْدِ الْأَجْرِ وَالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ)
إنْ كَانَ مُسْلِمًا، (وَالْمُصَابِ) ، أَيْ: وَالدُّعَاءِ لِلْمُصَابِ.
(وَمَنْ جَاءَتْهُ تَعْزِيَةٌ بِكِتَابٍ؛ رَدَّهَا عَلَى الرَّسُولِ
لَفْظًا، قَالَهُ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ.)
(وَسُنَّ أَنْ يُصْنَعَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامٌ يُبْعَثُ بِهِ
إلَيْهِمْ ثَلَاثًا) مِنْ اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا، حَاضِرًا كَانَ
الْمَيِّتُ عِنْدَهُمْ أَوْ غَائِبًا وَأَتَاهُمْ نَعْيُهُ، لِحَدِيثِ:
«اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ»
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَحَسَّنَهُ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَعَمَدَتْ سَلْمَى مَوْلَاةُ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى شَعِيرٍ وَطَحَنَتْهُ،
وَأَدَمَتْهُ بِزَيْتٍ جُعِلَ عَلَيْهِ، وَبُعِثَ بِهِ إلَيْهِمْ. وَ (لَا)
يُصْنَعُ الطَّعَامُ (لِمَنْ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ) ، أَيْ: أَهْلِ
الْمَيِّتِ، (فَيُكْرَهُ) ، لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى مَكْرُوهٍ، وَهُوَ
الِاجْتِمَاعُ عِنْدَهُمْ، قَالَ أَحْمَدُ: إنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ
الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْكَرَهُ شَدِيدًا، وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ،
وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، عَنْ جَرِيرٍ: " كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى
أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنْ
النِّيَاحَةِ " (كِ) مَا يُكْرَهُ (فِعْلُهُمْ) ، أَيْ: أَهْلِ الْمَيِّتِ
(ذَلِكَ) الطَّعَامَ (لِلنَّاسِ) الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهُمْ
لِلتَّعْزِيَةِ.
(وَيَتَّجِهُ: مَا لَمْ يَكُونُوا) ، أَيْ: الْمُجْتَمِعُونَ عِنْدَ أَهْلِ
الْمَيِّتِ (ضُيُوفًا
(1/929)
فِيهِمَا) ، أَيْ: فِي صُنْعِ أَهْلِ
الْمَيِّتِ الطَّعَامَ، أَوْ صُنْعِ غَيْرِهِمْ لِمَنْ يَجْتَمِعُ
عِنْدَهُمْ.
(وَيَدُلُّ لَهُ) ، أَيْ: عَدَمِ الْكَرَاهَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ (كَلَامُ
الْمُوَفَّقِ وَغَيْرِهِ) كَابْنِ أَخِيهِ الشَّارِحِ، فَإِنَّهُمَا
قَالَا: وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ؛ جَازَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا
جَاءَهُمْ مَنْ يَحْضُرُ مَيِّتَهُمْ مِنْ الْقُرَى الْبَعِيدَةِ،
وَيَبِيتُ عِنْدَهُمْ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ إلَّا أَنْ يُطْعِمُوهُ.
(وَالْقَوَاعِدُ) ، أَيْ: قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ (تَقْتَضِيهِ) ، أَيْ:
تَقْتَضِي إطْعَامَ الضَّيْفِ، لِأَنَّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ،
وَلَوْلَا التَّعْزِيَةُ لَكَانَ قِرَاهُ وَاجِبًا عِنْدَنَا
بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَكُرِهَ) لِلنَّاسِ غَيْرِ الضُّيُوفِ
(أَكْلٌ مِنْ طَعَامِهِمْ) ، قَالَهُ النَّاظِمُ، (وَإِنْ كَانَ)
طَعَامُهُمْ (مِنْ التَّرِكَةِ وَفِي مُسْتَحِقِّيهَا) ، أَيْ: التَّرِكَةِ
(مَحْجُورٌ عَلَيْهِ) أَوْ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ؛ (حَرُمَ فِعْلُهُ) ، أَيْ:
الطَّعَامِ، (وَ) حَرُمَ (أَكْلٌ مِنْهُ) ، لِأَنَّهُ مَالُ مَحْجُورٍ
عَلَيْهِ، أَوْ مَالُ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
(وَيَتَّجِهُ: وَصُنْعُ طَعَامٍ لِلنَّائِحَاتِ حَرَامٌ) قَطْعًا،
(لِأَنَّهُ عَوْنٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ) ، وَهُوَ اتِّجَاهٌ حَسَنٌ.
(وَكُرِهَ ذَبْحٌ وَأُضْحِيَّةٌ عِنْدَ قَبْرٍ وَأَكْلٌ مِنْهُ) ،
لِحَدِيثِ أَنَسٍ: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو
دَاوُد، وَقَالَ أَحْمَدُ: كَانُوا إذَا مَاتَ
(1/930)
لَهُمْ مَيِّتٌ نَحَرُوا جَزُورًا، فَنَهَى
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. (وَقَالَ الشَّيْخُ)
تَقِيُّ الدِّينِ: يَحْرُمُ الذَّبْحُ وَالتَّضْحِيَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَ
(لَوْ نَذَرَهُ) نَاذِرٌ (لَمْ يَفِ بِهِ) ، لِحَدِيثِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ
يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا
يَعْصِهِ» (وَلَوْ شَرَطَهُ) ، أَيْ: الذَّبْحَ (وَاقِفٌ) حِينَ وَقَفَ
عَقَارَهُ، فَقَالَ: يُؤْخَذُ مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ
نَحْوُ شَاةٍ فَتُذْبَحُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَتُفَرَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛
(فَشَرْطُهُ فَاسِدٌ) ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
(وَمِنْ الْمُنْكَرِ) أَيْضًا (وَضْعُ طَعَامٍ) عَلَى الْقَبْرِ (أَوْ)
وَضْعُ (شَرَابٍ عَلَى الْقَبْرِ لِيَأْخُذَهُ النَّاسُ، وَإِخْرَاجُ
الصَّدَقَةِ مَعَ الْجِنَازَةِ) كَالْخُبْزِ يُخْرَجُ مَعَهَا وَيُفَرَّقُ
عَلَى مُتَّبِعِيهَا وَغَيْرِهِمْ، وَالشَّرَابِ يَسْقُونَهُ لَهُمْ وَقْتَ
دَفْنِهَا (بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ) لَمْ يَفْعَلْهَا السَّلَفُ، هَذَا إذَا
لَمْ يَكُنْ فِي الْوَرَثَةِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ أَوْ غَائِبٌ، وَإِلَّا؛
فَحَرَامٌ. (وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ) ، أَيْ: وَضْعِ الطَّعَامِ أَوْ
الشَّرَابِ عَلَى الْقَبْرِ (الصَّدَقَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ) فَإِنَّهَا
مُحْدَثَةٌ الْأَوْلَى تَرْكُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَشُوبُهَا رِيَاءٌ،
(وَتَوَقَّفَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ) فِي الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ،
نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْهُ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَأَكْرَهُ
أَنْ أَنْهَى عَنْ الصَّدَقَةِ لِلْمَيِّتِ.
[فَصْلٌ زِيَارَةُ الْقُبُورِ]
(فَصْلٌ)
(سُنَّ لِرَجُلٍ زِيَارَةُ قَبْرِ مُسْلِمٍ) نَصًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى
(بِلَا سَفَرٍ) ، لِحَدِيثِ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ
الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْمَوْتَ
وَلِلتِّرْمِذِيِّ: فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» وَهَذَا
التَّعْلِيلُ يُرَجِّحُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَإِنْ كَانَ
وَارِدًا بَعْدَ الْحَظْرِ، (وَبِهِ) ، أَيْ: السَّفَرِ (يُبَاحُ وَقِيلَ
يُكْرَهُ) لِظَاهِرِ حَدِيثِ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى
ثَلَاثَةِ
(1/931)
مَسَاجِدَ» الْحَدِيثَ. (وَكَرِهَ فِي
الرِّعَايَةِ) الْكُبْرَى " (الْإِكْثَارَ مِنْهُ) ، وَعِبَارَتُهُ:
وَيُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ زِيَارَةِ الْمَوْتَى، قَالَ فِي "
الْإِنْصَافِ ": قُلْتُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ
فِيهِ سَلَفٌ.
(وَتُبَاحُ) زِيَارَةُ الْمُسْلِمِ (لِقَبْرِ كَافِرٍ) ، قَالَهُ الْمَجْدُ
وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَجُوزُ زِيَارَةُ
قَبْرِهِ لِلِاعْتِبَارِ، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَدْعُو لَهُ،
بَلْ يَقُولُ: أَبْشِرْ بِالنَّارِ وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقُمْ عَلَى
قَبْرِهِ} [التوبة: 84] الْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ:
الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ: وَفِي اسْتِعْمَالِ الْبِشَارَةِ
تَهَكُّمٌ بِهِ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] (وَلَا يُمْنَعُ كَافِرٌ مِنْ
زِيَارَةِ قَبْرِ مُسْلِمٍ) ، لِعَدَمِ الْمَحْظُورِ.
(وَتُكْرَهُ) زِيَارَةُ الْقُبُورِ (لِنِسَاءٍ) ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ
عَطِيَّةَ قَالَتْ: «نُهِينَا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَلَمْ يُعْزَمْ
عَلَيْنَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَإِنْ عَلِمَ وُقُوعَ مُحَرَّمٍ مِنْهُنَّ كَنَوْحٍ؛ حُرِّمَتْ)
زِيَارَتُهُنَّ الْقُبُورَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» رَوَاهُ
الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. (إلَّا
لِقَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْرَيْ
صَاحِبَيْهِ) أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
(فَتُسَنُّ) زِيَارَتُهُمَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، لِعُمُومِ
الْأَدِلَّةِ فِي طَلَبِ زِيَارَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-.
(وَيَتَّجِهُ: وَكَذَا) تُسَنُّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ زِيَارَةُ
(قَبْرِ نَبِيٍّ غَيْرِهِ) حَيْثُ ثَبَتَ؛ لَكِنْ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ
الْكَتَّانِيُّ: لَيْسَ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَا ثَبَتَ إلَّا
قَبْرُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ
غَيْرُهُ: وَقَبْرُ إبْرَاهِيمَ
(1/932)
أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُرَّةَ:
مَا نَعْلَمُ قَبْرَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا ثَلَاثَةً: قَبْرَ
إسْمَاعِيلَ، فَإِنَّهُ تَحْتَ الْمِيزَابِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَيْتِ،
وَقَبْرَ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فِي كَثِيبٍ مِنْ الرَّمْلِ
تَحْتَ جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الْيَمَنِ، عَلَيْهِ شَجَرَةٌ يَبْدُو
مَوْضِعُهُ أَشَدَّ الْأَرْضِ حَرًّا، وَقَبْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى.
وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَإِنْ اجْتَازَتْ امْرَأَةٌ) بِقَبْرٍ (بِطَرِيقِهَا) وَلَمْ تَكُنْ
خَرَجَتْ لَهُ، (فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ، وَدَعَتْ لَهُ؛ فَحَسَنٌ)
لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ لِذَلِكَ.
(وَسُنَّ وُقُوفُ زَائِرَةٍ أَمَامَهُ) ، أَيْ: الْقَبْرِ (قَرِيبًا
مِنْهُ) عُرْفًا كَعَادَةِ الْحَيِّ
(وَ) سُنَّ (قَوْلُ) مَنْ زَارَ قُبُورَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَرَّ بِهَا:
(السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، أَوْ أَهْلَ الدِّيَارِ
مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ،
وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ،
نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا
أَجْرَهُمْ، وَلَا تَفُتْنَا بَعْدَهُمْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ) ،
لِلْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ، مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا
مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبُورِ
الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ،
أَنْتُمْ سَلَفُنَا، وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ» وَقَوْلُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ
لِلتَّبَرُّكِ، أَوْ فِي الْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي الدَّفْنِ
عِنْدَهُمْ، وَنَحْوِهِ مِمَّا أُجِيبَ بِهِ إذْ الْمَوْتُ مُحَقَّقٌ،
فَلَا يُعَلَّقُ بِإِنْ، وَمِمَّا وَرَدَ: " اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ
الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ، وَالْعِظَامِ النَّخِرَةِ الَّتِي خَرَجَتْ
مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَهِيَ بِك مُؤْمِنَةٌ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْزِلْ بِهِمْ رُوحًا مِنْكَ وَسَلَامًا مِنِّي
ذَكَرَهُ فِي " الْمُسْتَوْعِبِ "
(1/933)
(وَلَا بَأْسَ بِلَمْسِ قَبْرٍ بِيَدٍ لَا
سِيَّمَا مَنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ) ، وَ (لَا) يُشْرَعُ (تَمَسُّحٌ بِهِ،
وَصَلَاةٌ عِنْدَهُ أَوْ قَصْدُهُ لِأَجْلِ دُعَاءٍ مُعْتَقِدًا أَنَّ
الدُّعَاءَ هُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي غَيْرِهِ، أَوْ النَّذْرُ
لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (لَيْسَ
هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ) هُوَ (مِمَّا أُحْدِثَ مِنْ
الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شُعَبِ الشِّرْكِ) ، وَقَالَ فِي
" الِاخْتِيَارَاتِ ": اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ
سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ
غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَسَّحُ
بِالْقَبْرِ، وَلَا يُقَبِّلُهُ بَلْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا
يُسْتَلَمُ وَلَا يُقَبَّلُ إلَّا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَالرُّكْنُ
الْيَمَانِيُّ يُسْتَلَمُ، وَلَا يُقَبَّلُ عَلَى الصَّحِيحِ. (وَيَسْمَعُ
الْمَيِّتُ الْكَلَامَ مُطْلَقًا) سَلَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ
وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ بِالسَّلَامِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ،
(وَيَعْرِفُ) الْمَيِّتُ (زَائِرَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ) ، قَالَهُ أَحْمَدُ. (وَفِي " الْغُنْيَةِ ": يَعْرِفُهُ كُلَّ
وَقْتٍ، وَهَذَا الْوَقْتُ آكِدٌ. انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ بِلَا
رَيْبٍ) ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ البربهاري، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ:
الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّائِرَ مَتَى جَاءَ
عَلِمَ بِهِ الْمَزُورُ، وَسَمِعَ سَلَامَهُ، وَأَنِسَ بِهِ، وَرَدَّ
عَلَيْهِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ الشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّهُ
لَا تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ أَثَرِ الضَّحَّاكِ؛
الدَّالِّ عَلَى التَّوْقِيتِ. انْتَهَى. يُشِيرُ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ
الضَّحَّاكِ قَالَ: مَنْ زَارَ قَبْرًا يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ؛ عَلِمَ الْمَيِّتُ بِزِيَارَتِهِ، قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟
قَالَ: لِمَكَانِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَنَحْوُهُ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي
الدُّنْيَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ؛ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ
الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ مَنْ زَارَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمًا
قَبْلَهُ، وَيَوْمًا بَعْدَهُ.
(وَيَتَأَذَّى بِالْمُنْكَرِ عِنْدَهُ، وَيَنْتَفِعُ بِالْخَيْرِ) عِنْدَهُ
لِمَجِيءِ الْآثَارِ بِذَلِكَ
(1/934)
(قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ:
(اسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ بِمَعْرِفَتِهِ) - أَيْ: الْمَيِّتِ -
(بِأَحْوَالِ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ ذَلِكَ
يُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَجَاءَتْ الْآثَارُ بِأَنَّهُ يَرَى وَيَدْرِي بِمَا
فُعِلَ عِنْدَهُ، وَيُسَرُّ بِمَا كَانَ) مَا يُفْعَلُ عِنْدَهُ (حَسَنًا،
وَيَتَأَلَّمُ بِمَا كَانَ قَبِيحًا) . وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ
يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا أُخْزَى
بِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ.
وَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ عِنْدَ عَائِشَةَ كَانَتْ تَسْتَتِرُ مِنْهُ،
وَتَقُولُ: إنَّمَا كَانَ أَبِي وَزَوْجِي، وَأَمَّا عُمَرُ فَأَجْنَبِيٌّ،
تَعْنِي: أَنَّهُ يَرَاهَا.
(وَعَذَابُهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (فِي قَبْرِهِ وَاقِعٌ عَلَى رُوحِهِ
وَبَدَنِهِ؛ لَا) عَلَى (رُوحِهِ فَقَطْ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ: وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْعَذَابَ
أَوْ النَّعِيمَ يَحْصُلُ لِرُوحِ الْمَيِّتِ وَبَدَنِهِ، وَأَنَّ الرُّوحَ
تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً،
وَأَيْضًا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانَا، فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا
النَّعِيمُ أَوْ الْعَذَابُ، (خِلَافًا لِابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ
الْجَوْزِيِّ) فِي قَوْلِهِمَا: إنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ عَلَى الرُّوحِ
فَقَطْ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا: مِنْ الْجَائِزِ أَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْبَدَنِ تَعَلُّقًا بِالرُّوحِ، فَتُعَذَّبُ
بِالْقَبْرِ.
(وَسُنَّ) لِزَائِرِهِ (فِعْلُ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ
(وَلَوْ بِجَعْلِ جَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فِي الْقَبْرِ) لِلْخَبَرِ وَأَوْصَى
بِهِ بُرَيْدَةَ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي مَعْنَاهُ غَرْسُ
غَيْرِهَا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. (وَ) فِي
مَعْنَى ذَلِكَ (ذِكْرٌ وَقِرَاءَةٌ) وَتَسْبِيحٌ (عِنْدَهُ) - أَيْ:
الْقَبْرِ - لِخَبَرِ الْجَرِيدَةِ، لِأَنَّهُ إذَا أُرْجِئَ التَّخْفِيفُ
بِتَسْبِيحِهَا فَالْقِرَاءَةُ أَوْلَى.
(وَتُسْتَحَبُّ قِرَاءَةٌ بِمَقْبَرَةٍ) .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: إذَا دَخَلْتُمْ
الْمَقَابِرَ فَاقْرَءُوا
(1/935)
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَاجْعَلُوا ثَوَابَ
ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الْمَقَابِرِ؛ فَإِنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِمْ، وَكَانَتْ
هَكَذَا عَادَةُ الْأَنْصَارِ فِي التَّرَدُّدِ إلَى مَوْتَاهُمْ؛
يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ. وَأَخْرَجَ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ عَلِيٍّ
مَرْفُوعًا «مَنْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ وَقَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ وَهَبَ أَجْرَهُ لِلْأَمْوَاتِ؛
أُعْطِي مِنْ الْأَجْرِ بِعَدَدِ الْأَمْوَاتِ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ
دَخَلَ الْمَقَابِرَ ثُمَّ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَقُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ، وَأَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي جَعَلْتُ
ثَوَابَ مَا قَرَأْتُ مِنْ كَلَامِكَ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ كَانُوا شُفَعَاءَ لَهُ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى» ، وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ زَارَ
قَبْرَ وَالِدَيْهِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَقَرَأَ
عِنْدَهُ يَاسِينَ؛ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِعَدَدِ كُلِّ آيَةٍ أَوْ حَرْفٍ»
، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ.
(وَكُلُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا مُسْلِمٌ وَجَعَلَ) الْمُسْلِمُ
(بِالنِّيَّةِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ، ثَوَابَهَا أَوْ بَعْضَهُ
لِمُسْلِمٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ جَازَ، وَنَفَعَهُ ذَلِكَ بِحُصُولِ
الثَّوَابِ لَهُ، وَلَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -) ، ذَكَرَهُ الْمَجْدُ. (مِنْ) : بَيَانٍ لِكُلِّ قُرْبَةٍ
(تَطَوُّعٍ وَوَاجِبٍ تَدْخُلُهُ نِيَابَةٌ كَحَجٍّ) أَوْ صَوْمٍ نَذَرَهُ
مَيِّتٌ (أَوْ لَا) تَدْخُلُهُ نِيَابَةٌ، (كَصَلَاةٍ وَدُعَاءٍ
وَاسْتِغْفَارٍ وَصَدَقَةٍ) وَعِتْقٍ (وَأُضْحِيَّةٍ وَأَدَاءِ دَيْنٍ
وَصَوْمٍ) غَيْرِ مَنْذُورٍ، (وَكَذَا قِرَاءَةٌ وَغَيْرُهَا) . قَالَ
أَحْمَدُ: الْمَيِّتُ يَصِلُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ
لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجْتَمِعُونَ
فِي كُلِّ عَصْرٍ وَيَقْرَءُونَ وَيُهْدُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ
نَكِيرٍ؛ فَكَانَ إجْمَاعًا،
(1/936)
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَوْ لَا
كَصَلَاةٍ؛ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي: إذَا صَلَّى فَرْضًا وَأَهْدَى
ثَوَابَهُ؛ صَحَّتْ الْهَدِيَّةُ وَأَجْزَأَ مَا عَلَيْهِ، قَالَ فِي "
الْمُبْدِعِ ": وَفِيهِ بُعْدٌ، وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا
جَعَلَهَا لِغَيْرِ مُسْلِمٍ لَا تَنْفَعُهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِنَصٍّ
وَرَدَ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُفْتَقَرُ أَنْ يَنْوِيَهُ حَالَ
الْقِرَاءَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ.
(وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ) فِي حُصُولِ الثَّوَابِ لِلْمَجْعُولِ لَهُ (إذَا
نَوَاهُ حَالَ الْفِعْلِ) ، أَيْ: الْقِرَاءَةِ أَوْ الِاسْتِغْفَارِ
وَنَحْوِهِ، (أَوْ) نَوَاهُ (قَبْلَهُ) ، أَيْ: قَبْلَ الْفِعْلِ دُونَ مَا
نَوَاهُ بَعْدَهُ، نَقَلَهُ فِي " الْفُرُوعِ " عَنْ " مُفْرَدَاتِ ابْنِ
عَقِيلٍ وَرَدَّهُ.
(وَسُنَّ إهْدَاء الْقُرَبِ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَ ذَلِكَ
لِفُلَانٍ) وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ
أَثَبْتَنِي عَلَى هَذَا؛ فَاجْعَلْهُ أَوْ مَا تَشَاءُ مِنْهُ لِفُلَانٍ،
وَ (قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْأَلَ الْأَجْرَ مِنْ
اللَّهِ) تَعَالَى، (ثُمَّ يَجْعَلَهُ) لِلْمُهْدَى (لَهُ، فَيَقُولَ:
اللَّهُمَّ أَثِبْنِي عَلَى ذَلِكَ، وَاجْعَلْهُ ثَوَابًا لِفُلَانٍ)
وَلِلْمُهْدِي ثَوَابُ الْمُهْدَى، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُثَابُ
كُلٌّ مِنْ الْمُهْدِي وَالْمُهْدَى لَهُ، وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ.
[فَصْلٌ السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّت]
(فَصْلٌ) (السَّلَامُ عَلَى مَيِّتٍ. الْأَفْضَلُ تَعْرِيفُهُ كَمَا مَرَّ،
وَيُخَيَّرُ فِيهِ) ، أَيْ: السَّلَامِ (عَلَى حَيٍّ بَيْنَ تَعْرِيفٍ
وَتَنْكِيرٍ. وَابْتِدَاؤُهُ) ، أَيْ: السَّلَامِ (مِنْ وَاحِدٍ: سُنَّةُ
عَيْنٍ، وَمِنْ جَمْعٍ) اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ: (سُنَّةُ كِفَايَةٍ) ،
لِحَدِيثِ «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» . (وَيَتَّجِهُ: وَمَعَ
سَلَامِ جَمْعٍ) وَقَعَ (تَعَاقُبًا) بِأَنْ سَلَّمَ وَاحِدٌ بَعْدَ
وَاحِدٍ (يَكْفِي رَدُّ وَاحِدٍ) ، لِحُصُولِ (الْمَأْمُورِ بِهِ) ، قَالَ
فِي الْإِقْنَاعِ ": فَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ:
وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، وَقَصَدَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ
(1/937)
جَمِيعًا جَازَ، وَسَقَطَ الْفَرْضُ فِي
حَقِّ الْجَمِيعِ (إنْ لَمْ يَكُنْ) الرَّادُّ (رَدَّ عَلَى) الْمُسَلِّمِ
(الْأَوَّلِ) ، فَإِنْ كَانَ رَدَّ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهِ
عَلَى الْبَاقِينَ إمَّا جُمْلَةً؛ بِأَنْ يَقُولَ: وَعَلَيْكُمْ
السَّلَامُ، أَوْ فُرَادَى؛ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى
حِدَةٍ. (وَمِثْلُهُ تَشْمِيتُ) عَاطِسٍ - أَيْ: لَوْ شَمَّتَ جَمَاعَةٌ
عَاطِسًا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ - فَتَكْفِي إجَابَةُ وَاحِدٍ،
فَيَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ إنْ لَمْ يَكُنْ أَجَابَ الْأَوَّلَ حَيْثُ
قَصَدَ الرَّدَّ عَلَى الْجَمِيعِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَالْأَفْضَلُ) إيقَاعُ (السَّلَامِ) مِنْ (جَمِيعِهِمْ) ، لِحَدِيثِ
«أَفْشُوا السَّلَامَ» وَغَيْرِهِ، (وَرَدُّهُ فَوْرًا مِنْ وَاحِدٍ فَرْضُ
عَيْنٍ) عَلَى الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ الْمُنْفَرِدِ، (وَ) رَدُّ السَّلَامِ
(مِنْ جَمِيعٍ) سَلَّمَ عَلَيْهِمْ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) ، فَيَسْقُطُ
بِرَدِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، (وَرَفْعُ صَوْتٍ بِهِ) ، أَيْ: بِرَدِّ
السَّلَامِ (بِقَدْرِ الْإِبْلَاغِ) ، أَيْ: إبْلَاغِ الْمُسَلِّمِ
(وَاجِبٌ فِي رَدِّ) السَّلَامِ (وَمَنْدُوبٌ فِي ابْتِدَاءِ) هـ، (وَلَا
يَسْقُطُ) إثْمُ عَدَمِ الرَّدِّ (بِرَدِّ غَيْرِ مُسَلَّمٍ عَلَيْهِ)
وَلَوْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ قَصْدَهُ بِالسَّلَامِ دُونَ
غَيْرِهِ، (وَلَا) يَسْقُطُ الرَّدُّ (بِرَدِّ مُمَيِّزٍ عَنْ بَالِغِينَ)
، لِعَدَمِ حُصُولِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ بِهِ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَبِي
الْمَعَالِي فِي " شَرْحِ الْهِدَايَةِ ". (وَلَا يَجِبُ زِيَادَةُ وَاوٍ
فِي رَدِّ) سَلَامٍ، قَالَ فِي " الْآدَابِ الْكُبْرَى "، وَهُوَ أَشْهَرُ
وَأَصَحُّ، وَقَدَّمَهُ فِي " شَرْحِ الْمُنْتَهَى " (خِلَافًا لَهُ) ،
أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ " حَيْثُ قَالَ: وَتُزَادُ الْوَاوُ فِي
رَدِّ السَّلَامِ وُجُوبًا. قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: يُكْرَهُ
الِانْحِنَاءُ فِي السَّلَامِ، (وَلَا) تَجِبُ (مُسَاوَاةُ رَدٍّ
لِابْتِدَاءٍ) ، فَلَوْ قَالَ الْمُسَلِّمُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ
(1/938)
وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ الرَّادُّ:
وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ؛ كَفَى (وَيَجُوزُ رَدٌّ بِلَفْظِ سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ) فَقَطْ.
(وَلَا يُسَنُّ زِيَادَةٌ) عَلَى: (وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فِي
ابْتِدَاءِ) السَّلَامِ، لِأَنَّ زِيَادَتَهَا مَنْدُوبَةٌ، كَمَا صَحَّتْ
الْأَخْبَارُ، وَإِلَيْهَا انْتَهَى السَّلَامُ، (وَ) لَا فِي (رَدِّ) هـ،
وَسَلَامُ النِّسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ كَسَلَامِ الرِّجَالِ عَلَى
الرِّجَالِ. (وَسُنَّ قَوْلُ) مُسَلِّمٍ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ
كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ) شَخْصًا (وَاحِدًا) ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى،
وَإِنْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ؛ أَجْزَأَ، (وَلَا يَلْزَمُ رَدُّ
سَلَامٍ ابْتِدَاؤُهُ مَكْرُوهٌ كَمُسَلِّمٍ عَلَى مُشْتَغِلٍ بِنَحْوِ
أَكْلٍ) وَشُرْبٍ، (وَقِتَالٍ وَذِكْرٍ، وَتَلْبِيَةٍ وَقِرَاءَةِ عِلْمٍ
وَوَعْظٍ، وَأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاسْتِمَاعٍ لَهُمْ) ، أَيْ:
الْمَذْكُورِينَ مِنْ الْقَارِئِ وَمَا بَعْدَهُ، (وَمُتَخَلٍّ
وَمُتَمَتِّعٍ بِأَهْلِهِ، وَمَنْ فِي حَمَّامٍ وَأَجْنَبِيَّةٍ غَيْرِ
عَجُوزٍ) ، أَيْ: غَيْرِ جَمِيلَةٍ؛ فَلَا يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهَا،
(وَ) لَا عَلَى (بَرْزَةٍ) ، لِأَمْنِ الِافْتِتَانِ بِهَا غَالِبًا،
وَكَذَا كُلُّ مَنْ سَلَّمَ فِي حَالَةٍ لَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا السَّلَامُ
لَمْ يَسْتَحِقَّ جَوَابًا، (وَكُرِهَ تَخْصِيصُ بَعْضِ مَنْ لَقِيَهُمْ)
أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ (بِهِ) ، أَيْ: بِالسَّلَامِ، لِأَنَّ فِيهِ
مُخَالَفَةً لِلسُّنَّةِ فِي إفْشَاءِ السَّلَامِ، وَكَسْرًا لِقَلْبِ مَنْ
أَعْرَضَ عَنْهُ، (وَ) كُرِهَ (قَوْلُ: سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) ،
لِمُخَالَفَةِ الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ.
(1/939)
(وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى إنْسَانٍ، ثُمَّ
لَقِيَهُ عَلَى قُرْبٍ؛ سُنَّ سَلَامٌ عَلَيْهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا
وَأَكْثَرَ) ، لِعُمُومِ: «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» (وَمَنْ دَخَلَ
عَلَى جَمْعٍ فِيهِ عُلَمَاءُ سَلَّمَ عَلَى الْكُلِّ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى
الْعُلَمَاءِ سَلَامًا ثَانِيًا) تَمْيِيزًا لِمَرْتَبَتِهِمْ، وَكَذَا
لَوْ كَانَ فِيهِمْ عَالِمٌ وَاحِدٌ. (وَتُسَنُّ بُدَاءَةٌ بِسَلَامٍ
قَبْلَ كُلِّ كَلَامٍ) لِلْخَبَرِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّلَامِ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَصُّ
أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَمَعْنَاهُ: اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْكَ، أَيْ: أَنْتَ فِي حِفْظِهِ، كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ يَصْحَبُكَ،
اللَّهُ مَعَكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ،
أَيْ: السَّلَامَةُ مُلَازِمَةٌ لَكَ (وَلَا يَتْرُكُهُ) - أَيْ:
السَّلَامَ - (وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُسَلَّمَ عَلَيْهِ
لَا يَرُدُّ) السَّلَامَ كَالْجَبَابِرَةِ، لِعُمُومِ: «أَفْشُوا
السَّلَامَ» (وَالْهَجْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ) هَجْرُ الْمُسْلِمِ
أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هُوَ (تَرْكُ كَلَامٍ مَعَ مَنْ لَقِيَ
لَا عَدَمُهُ) ، أَيْ: لَا عَدَمُ اللُّقَى فَهَذَا (يَزُولُ بِالسَّلَامِ)
لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّحَابُبِ، لِلْخَبَرِ، فَيَقْطَعُ الْهَجْرَ،
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا: «السَّلَامُ يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ» .
(وَسُنَّ سَلَامٌ عِنْدَ انْصِرَافٍ) عَنْ الْقَوْمِ، (وَعِنْدَ دُخُولِ
بَيْتِهِ عَلَى أَهْلِهِ) لِلْخَبَرِ، (فَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا) خَالِيًا،
(أَوْ) دَخَلَ (مَسْجِدًا خَالِيًا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى
عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) لِلْخَبَرِ، (وَلَا بَأْسَ بِهِ) . أَيْ:
السَّلَامِ (عَلَى صِبْيَانٍ تَأْدِيبًا لَهُمْ) هَذَا مَعْنَى كَلَامِ
ابْنِ عَقِيلٍ. (وَلَا يَلْزَمُهُمْ رَدٌّ) لِحَدِيثِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ
عَنْ ثَلَاثٍ» وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى صَبِيٍّ وَبَالِغٍ؛ رَدَّ الْبَالِغُ،
وَلَمْ يَكْفِ رَدُّ الصَّبِيِّ، لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَحْصُلُ
بِهِ. (وَيَلْزَمُ) مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ الصِّبْيَانُ (رَدُّ) السَّلَامِ
(عَلَيْهِمْ) ، لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، (كَشَابَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ سَلَّمَتْ)
عَلَى رَجُلٍ فَيَجِبُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا، قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ
". وَإِنْ سَلَّمَ الرَّجُلُ غَيْرُ الْمَحْرَمِ عَلَيْهَا؛ لَمْ
يَلْزَمْهَا الرَّدُّ
(1/940)
دَفْعًا لِلْمَفْسَدَةِ، (وَإِرْسَالُهَا)
، أَيْ: الْأَجْنَبِيَّةِ (بِهِ) ، أَيْ: بِالسَّلَامِ (لِأَجْنَبِيٍّ) لَا
بَأْسَ بِهِ (وَإِرْسَالُهُ) ، أَيْ: الْأَجْنَبِيِّ (إلَيْهَا)
بِالسَّلَامِ (لَا بَأْسَ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ، وَعَدَمِ مَحْذُورٍ) ، أَيْ:
لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَعَ عَدَمِ الْمَحْذُورِ، (وَحَيْثُ
سَلَّمَ عَلَى غَائِبٍ) عَنْ الْبَلَدِ (بِرِسَالَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ؛
وَجَبَتْ الْإِجَابَةُ عِنْدَ الْإِبْلَاغِ، وَنُدِبَتْ) الْإِجَابَةُ
(عَلَى الرَّسُولِ فَيَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ) ، لِمَا رُوِيَ
«أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَبِي
يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ»
وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: إنَّ فُلَانًا يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، فَقَالَ:
عَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَعَلَيْهِ
السَّلَامُ. (وَجَبَ تَبْلِيغُهُ) ، أَيْ: السَّلَامِ (عَلَى رَسُولٍ
تَحَمَّلَهُ) ، لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَإِنْ لَمْ
يَتَحَمَّلْهُ؛ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ.
(وَسُنَّ حِرْصُ مُتَلَاقِيَيْنِ عَلَى بُدَاءَةٍ بِسَلَامٍ) ، لِقَوْلِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا
السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا
وَالنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» صَحَّحَهُ
التِّرْمِذِيُّ.
(فَإِنْ بَدَأَ كُلٌّ) مِنْ الْمُتَلَاقِيَيْنِ (صَاحِبَهُ مَعًا؛ وَجَبَ
الرَّدُّ عَلَى كُلٍّ) مِنْهُمَا، لِعُمُومِ الْأَوَامِرِ بِرَدِّ
السَّلَامِ. (وَسُنَّ لِمَنْ تَلَاقَوْا بِطَرِيقٍ أَنْ يُسَلِّمَ صَغِيرٌ
وَقَلِيلٌ وَمَاشٍ وَرَاكِبٌ) كَذَلِكَ.
(وَيَتَّجِهُ: وَ) يُسَلِّمُ (مُنْحَدِرٌ) - وَهُوَ مُتَّجِهٌ - (عَلَى
ضِدِّهِمْ) ، فَيُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى
الْكَثِيرِ، وَالْمَاشِي عَلَى الْجَالِسِ، وَالرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي،
وَالْمُنْحَدِرُ عَلَى الصَّاعِدِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى
الْقَاعِدِ،
(1/941)
وَالْكَثِيرُ عَلَى الْقَلِيلِ» وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي» رَوَاهُمَا
الْبُخَارِيُّ. فَإِنْ عَكَسَ، حَصَلَتْ السُّنَّةُ، (وَيُسَلِّمُ وَارِدٌ
عَلَى ضِدِّهِ مُطْلَقًا) صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، كَثِيرًا كَانَ
أَوْ قَلِيلًا. (وَمَنْ سَلَّمَ أَوْ رَدَّ عَلَى أَصَمَّ جَمَعَ بَيْنَ
لَفْظٍ وَإِشَارَةٍ) ، فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا مَنْ يُسَلِّمُ
عَلَى الْأَصَمِّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، (وَسَلَامُ أَخْرَسَ)
بِالْإِشَارَةِ (وَجَوَابُهُ) ، أَيْ: الْأَخْرَسِ (بِالْإِشَارَةِ) ،
لِقِيَامِهَا مَقَامَ نُطْقِهِ، وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: إنَّ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ كَانَ رُبَّمَا أَذِنَ لِلنَّاسِ
فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ أَفْوَاجًا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ
بِيَدِهِ. (وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى أَيْقَاظٍ بَيْنَ نِيَامٍ) ، أَوْ لَا
يَعْلَمُ هَلْ هُمْ أَيْقَاظٌ أَوْ نِيَامٌ؟ (خَفَضَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ
يُسْمِعُهُمْ) ، أَيْ: الْأَيْقَاظَ (وَلَا يُوقِظُهُمْ) ، أَيْ:
النِّيَامَ، جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ.
[فَرْعٌ مُصَافَحَةُ الرَّجُل لِلرَّجُلِ]
(فَرْعٌ: تُسَنُّ مُصَافَحَةُ رَجُلٍ لِرَجُلٍ، وَ) مُصَافَحَةُ (امْرَأَةٍ
لِامْرَأَةٍ) ، لِحَدِيثِ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: " أَكَانَتْ
الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ
فَتَصَافَحَا؛ تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ
الشَّجَرِ وَرُوِيَ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا، وَكَانَ أَحَقُّهُمَا
بِالْأَجْرِ أَبَشَّهُمَا بِصَاحِبِهِ» (وَلَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِ
مُصَافِحِهِ حَتَّى يَنْزِعَهَا) ، أَيْ: يَدَهُ مِنْ يَدِهِ لِمَا فِي
نَزْعِ يَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ (إلَّا لِحَاجَةٍ
كَحَيَاءِ) هـ مِنْهُ (وَنَحْوِهِ) كَمَضَرَّةٍ بِالتَّأْخِيرِ.
(وَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَةِ مُرْدٍ لِمَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ) عَدَمَ
الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورٍ، (وَقَصَدَ تَعْلِيمَهُمْ) ، أَيْ: الْمُرْدِ
(حُسْنَ الْخُلُقِ) ، ذَكَرَهُ فِي " الْفُصُولِ " وَالرِّعَايَةِ " لِمَا
فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَاتِّقَاءِ الْمَفْسَدَةِ.
(وَحَرُمَ مُصَافَحَةُ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ شَابَّةٍ) ، أَيْ:
حَسْنَاءَ، لِأَنَّهَا شَرٌّ مِنْ
(1/942)
النَّظَرِ إلَيْهَا، أَمَّا الْعَجُوزُ
غَيْرُ الْحَسْنَاءِ فَلِلرَّجُلِ مُصَافَحَتُهَا، لِعَدَمِ الْمَحْظُورِ.
(وَلَا بَأْسَ بِمُعَانَقَةٍ) قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: تُسْتَحَبُّ
زِيَارَةُ الْقَادِمِ، وَمُعَانَقَتُهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ، قَالَ:
وَإِكْرَامُ الْعُلَمَاءِ، وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ بِالْقِيَامِ لَهُمْ
سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، قَالَ وَيُكْرَهُ أَنْ يَطْمَعَ فِي قِيَامِ
النَّاسِ لَهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: إلَّا لِلْإِمَامِ
الْعَادِلِ وَالْوَالِدَيْنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ
وَالْكَرَمِ وَالنَّسَبِ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي " الْمُجَرَّدِ "
وَ " الْفُصُولِ "، وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ، وَقَاسَهُ
عَلَى الْمُهَادَاةِ لَهُمْ، قَالَ: وَيُكْرَهُ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي
وَالْفُجُورِ، وَاَلَّذِي يُقَامُ إلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَسْتَكْبِرَ
نَفْسُهُ إلَيْهِ، وَلَا تَطْلُبَهُ، وَالنَّهْيُ قَدْ وَقَعَ عَلَى
السُّرُورِ بِذَلِكَ الْحَالِ، فَإِذَا لَمْ يُسَرَّ بِالْقِيَامِ إلَيْهِ،
وَقَامُوا إلَيْهِ؛ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ، ذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ ".
(وَ) لَا بَأْسَ بِ (تَقْبِيلِ رَأْسِ وَيَدِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ
وَنَحْوِهِمْ) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ
حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَفِي حَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةٍ قَالَ فِيهَا فَدَنَوْنَا مِنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلْنَا يَدَهُ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: «قَالَ
يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَأَتَيَا
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَاهُ عَنْ
تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ:
فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ»
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. فَيُبَاحُ تَقْبِيلُ الْيَدِ وَالرَّأْسِ
تَدَيُّنًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ،
وَظَاهِرُهُ عَدَمُ إبَاحَتِهِ لِأَمْرِ الدُّنْيَا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ
النَّهْيُ، قَالَهُ الْحَجَّاوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ ". (وَ)
لَا بَأْسَ بِ (الْقِيَامِ لَهُمْ) لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِحَدِيثِ: «قُومُوا
لِسَيِّدِكُمْ» .
(1/943)
(وَكُرِهَ تَقْبِيلُ فَمِ غَيْرِ زَوْجَةٍ
وَسُرِّيَّةٍ) مُبَاحَةٍ لَهُ لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَقَعَ كَرَامَةً.
(وَيَتَّجِهُ: هَذَا) ، أَيْ: تَقْبِيلُ الْفَمِ مَكْرُوهٌ فِعْلُهُ: (فِي
مَحَارِمِهِ) خَشْيَةَ تَحَرُّكِ الشَّهْوَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْوُقُوعِ
فِي الْمُحَرَّمِ، (وَإِلَّا؛ فَ) تَقْبِيلُ فَمِ (الْأَجْنَبِيَّةِ)
الْمُشْتَهَاةِ (حَرَامٌ) بِشَهْوَةٍ. وَدُونَهَا.
وَأُمًّا تَقْبِيلُ الرَّجُلِ فَمَ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ فَمَ
الْمَرْأَةِ؛ فَمَكْرُوهٌ مَعَ أَمْنِ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ، وَإِلَّا
فَحَرَامٌ بِلَا رَيْبٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
[فَصْلٌ تَشْمِيتُ الْعَاطِس]
(فَصْلٌ)
(تَشْمِيتُ عَاطِسٍ مُسْلِمٍ حَمِدَ) فَرْضُ عَيْنٍ مِنْ وَاحِدٍ،
(وَإِجَابَتُهُ) مَنْ شَمَّتَهُ (فَرْضُ) عَيْنٍ، (وَ) تَشْمِيتُهُ (مِنْ
جَمْعٍ) فَرْضُ (كِفَايَةٍ) كَرَدِّ السَّلَامِ، (فَتَشْمِيتُهُ) ، أَيْ:
الْعَاطِسِ: قَوْلُ سَامِعِهِ لَهُ: (يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَوْ:
يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ) ، لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «إذَا عَطَسَ
أَحَدُكُمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ؛ فَشَمِّتُوهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْمَدْ؛ فَلَا
تُشَمِّتُوهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. (وَجَوَابُهُ) ، أَيْ:
الْعَاطِسِ: (يُهْدِيكُمْ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) نَصَّ عَلَيْهِ
فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ،
(1/944)
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: هَذَا عَنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ (زَادَ فِي
الرِّعَايَةِ ": وَيُدْخِلُكُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَكُمْ) ، قَالَ فِي
" شَرْحِ الْمُنْتَهَى ": أَوْ يَقُولُ: غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.
(وَكُرِهَ تَشْمِيتُ مَنْ لَمْ يَحْمَدْ) ، لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى،
وَتَقَدَّمَ.
(وَلَا يُذَكَّرُ نَاسٍ) ، لِظَاهِرِ الْخَبَرِ السَّابِقِ، (وَلَا بَأْسَ
بِتَذْكِيرِهِ) لِمَا رَوَى الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَ
أَحْمَدَ، فَلَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ، فَانْتَظَرَهُ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ
فَيُشَمِّتَهُ، فَلَمْ يَحْمَدْ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ، قَالَ
لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَيْفَ تَقُولُ إذَا عَطَسْتَ؟ قَالَ: أَقُولُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ.
(وَيُعَلَّمُ صَغِيرٌ وَقَرِيبُ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ)
وَكَذَلِكَ يُعَلَّمُ مَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ، لِأَنَّهُ
مَظِنَّةُ الْجَهْلِ بِذَلِكَ.
وَلَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الذِّمِّيِّ نَصًّا، فَإِنْ قِيلَ لَهُ:
يَهْدِيكُمْ اللَّهُ جَازَ إذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ
(وَيُقَالُ لِصَبِيٍّ عَطَسَ وَحَمِدَ: بُورِكَ فِيك أَوْ) يُقَالُ لَهُ:
(جَبَرَكَ اللَّهُ أَوْ) يُقَالُ لَهُ: (يَرْحَمُكَ اللَّهُ) قَالَهُ
الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ، وَرُوِيَ «أَنَّهُ عَطَسَ عِنْدَ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ
فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ يَا
غُلَامُ» رَوَاهُ الْحَافِظُ السَّلَفِيُّ فِي انْتِخَابِهِ ".
(وَلِلتَّشْمِيتِ إلَى ثَلَاثٍ) ، أَيْ: فَإِنْ عَطَسَ ثَانِيًا وَحَمِدَ
شَمَّتَهُ، وَإِنْ عَطَسَ ثَالِثًا شَمَّتَهُ قَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ:
يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ فِي مَجْلِسٍ ثَلَاثًا؟ قَالَ: أَكْثَرُ مَا قِيلَ
فِيهِ ثَلَاثًا وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ عَنْ سَلَمَةَ
بْنِ الْأَكْوَعِ مَرْفُوعًا «يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلَاثًا فَمَا زَادَ
فَهُوَ مَزْكُومٌ» (وَفِي رَابِعَةٍ يَدْعُو لَهُ بِالْعَافِيَةِ) إلَّا
إذَا لَمْ يَكُنْ شَمَّتَهُ قَبْلَهَا ثَلَاثًا (وَالِاعْتِبَارُ بِفِعْلِ
التَّشْمِيتِ لَا بِعَدَدِ عَطَسَاتٍ) فَلَوْ عَطَسَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ
مُتَوَالِيَاتٍ شَمَّتَهُ بَعْدَهَا إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ تَشْمِيتٌ،
قَالَ فِي " شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ ": قَوْلًا وَاحِدًا
(وَلَا يُشَمِّتُ) الرَّجُلُ (شَابَّةً،
(1/945)
وَلَا تُشَمِّتُهُ) كَمَا فِي رَدِّ السَّلَامِ، وَتُشَمِّتُ الْمَرْأَةُ
الْمَرْأَةَ، وَيُشَمِّتُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَيُشَمِّتُ الرَّجُلُ
الْمَرْأَةَ الْعَجُوزَ الْبَرْزَةَ لِأَمْنِ الْفِتْنَةِ
(وَلَا يُجِيبُ الْمُتَجَشِّئَ بِشَيْءٍ، فَإِنْ حَمِدَ) اللَّهَ (قَالَ
لَهُ) سَامِعُهُ: (هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ هَنَّأَكَ اللَّهُ وَأَمْرَاكَ)
ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى " وَابْنُ تَمِيمٍ وَكَذَا ابْنُ
عَقِيلٍ، وَقَالَ: وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ سُنَّةٌ بَلْ هُوَ عَادَةٌ
مَوْضُوعَةٌ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: إذَا تَجَشَّأَ
الرَّجُلُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ وَجْهَهُ إلَى فَوْقٍ لِكَيْ لَا
يُخْرِجَ مِنْ فِيهِ رَائِحَةً فَيُؤْذِيَ بِهِ النَّاسَ، وَرَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا تَجَشَّأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ
أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(وَإِذَا عَطَسَ خَمَّرَ) ، أَيْ: غَطَّى (وَجْهَهُ) لِئَلَّا يَتَأَذَّى
غَيْرُهُ بِبُصَاقِهِ (وَغَضَّ) أَيْ: خَفَضَ (صَوْتَهُ) لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«أَنَّهُ كَانَ إذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِثَوْبِهِ وَيَدِهِ، ثُمَّ
غَضَّ بِهَا صَوْتَهُ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. (وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا، وَ)
لَا (شِمَالًا، وَحَمِدَ اللَّهَ جَهْرًا لِيُسْمَعَ فَيُشَمَّتَ) قَالَ
ابْنُ هُبَيْرَةَ: إذَا عَطَسَ الْإِنْسَانُ اسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ
بَدَنِهِ، وَجَوْدَةِ هَضْمِهِ، وَاسْتِقَامَةِ قُوَّتِهِ، فَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ وَفِي الْبُخَارِيِّ
«إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ» لِأَنَّ
الْعُطَاسَ يَدُلُّ عَلَى خِفَّةِ بَدَنٍ وَنَشَاطٍ، وَالتَّثَاؤُبَ
غَالِبًا لِثِقَلِ الْبَدَنِ، وَامْتِلَائِهِ وَاسْتِرْخَائِهِ فَيَمِيلُ
إلَى الْكَسَلِ فَأَضَافَهُ إلَى الشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ يُرْضِيهِ أَوْ
مِنْ تَسَبُّبِهِ لِدُعَائِهِ إلَى الشَّهَوَاتِ.
[فَرْعٌ يَجِبُ اسْتِئْذَانُ عِنْدَ الدُّخُولِ وَلَوْ عَلَى قَرِيبٍ]
(فَرْعٌ: يَجِبُ اسْتِئْذَانُ دَاخِلٍ وَلَوْ عَلَى قَرِيبٍ) قَطَعَ بِهِ
ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ، وَابْنُ تَمِيمٍ، وَهُوَ مَعْنَى
كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ
تَدْخُلَ بَيْتَ غَيْرِكَ إلَّا بِاسْتِئْذَانٍ كَهَذِهِ الْآيَةِ (فَإِنْ
أُذِنَ لَهُ) فِي الدُّخُولِ دَخَلَ (وَإِلَّا) يُؤْذَنْ لَهُ فِي
الدُّخُولِ (رَجَعَ) وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْذَانُهُ ثَلَاثًا إلَّا
أَنْ يُجَابَ قَبْلَهَا (وَلَا يُزِيدُ) فِي اسْتِئْذَانِهِ (عَلَى
ثَلَاثِ) مَرَّاتٍ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ»
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(إلَّا أَنْ يَظُنَّ عَدَمَ سَمَاعِهِمْ) لِلِاسْتِئْذَانِ فَيَزِيدُ
بِقَدْرِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ، قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي "
شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ ": وَصِفَةُ الِاسْتِئْذَانِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
أَأَدْخُلُ؟ «وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي بَيْتٍ، فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَادِمِهِ اُخْرُجْ
إلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ: السَّلَامُ
عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَهَذَا
الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَابْنُ حِمْدَانَ، وَقِيلَ: يَقُولُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَقَطْ. انْتَهَى.
وَيَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ لِلْأَخْبَارِ. «وَلَعَنَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ»
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، لِلْحَدِيثِ،
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. |