مطالب
أولي النهى في شرح غاية المنتهى [كِتَاب الصِّيَام]
ِ لُغَةً: الْإِمْسَاكُ، يُقَالُ صَامَ النَّهَارُ، إذَا وَقَفَ سَيْرُ
الشَّمْسِ، وَلِلسَّاكِتِ: صَائِمٌ، لِإِمْسَاكِهِ عَنْ الْكَلَامِ.
وَمِنْهُ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] ، وَصَامَ
الْفَرَسُ، إذَا أَمْسَكَ عَنْ الْعَلَفِ وَهُوَ قَائِمٌ، أَوْ: عَنْ
الصَّهِيلِ فِي مَوْضِعِهِ. وَشَرْعًا: (إمْسَاكٌ بِنِيَّةٍ عَنْ أَشْيَاءَ
مَخْصُوصَةٍ) هِيَ مُفْسِدَاتُهُ، الْآتِيَةُ (فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ) .
وَهُوَ: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ (مِنْ
شَخْصٍ مَخْصُوصٍ) ، وَهُوَ: الْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ، غَيْرُ الْحَائِضِ
وَالنُّفَسَاءِ. (وَصَوْمُ) شَهْرِ (رَمَضَانَ) مِنْ كُلِّ عَامٍ (أَحَدُ
أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ) الْمُشَارِ إلَيْهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ،
بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ
عَلَى خَمْسٍ» . . . الْحَدِيثُ (وَفُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ
الْهِجْرَةِ) إجْمَاعًا، (فَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ) إجْمَاعًا. (وَالْمُسْتَحَبُّ
قَوْلُ: شَهْرُ رَمَضَانَ) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] . (وَلَا يُكْرَهُ
قَوْلُ: رَمَضَانُ، بِإِسْقَاطِ: شَهْرٍ) ، لِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ. وَسُمِّيَ رَمَضَانَ لِحَرِّ جَوْفِ الصَّائِمِ فِيهِ وَرَمَضِهِ،
الرَّمْضَاءُ: شِدَّةُ الْحَرِّ، وَقِيلَ: لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ
الشُّهُورِ عَنْ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ وَافَقَ شِدَّةَ الْحَرِّ،
وَقِيلَ:
(2/168)
لِأَنَّهُ يَحْرُقُ الذُّنُوبَ. وَقِيلَ:
مَوْضُوعٌ لِغَيْرِ مَعْنًى كَبَقِيَّةِ الشُّهُورِ. وَجَمْعُهُ:
رَمَضَانَاتٌ، وَأَرْمِضَةٌ، وَرَمَاضِينُ، وَأَرْمُضٌ، وَرَمَاضٌ،
وَأَرَامِيضُ. (وَصَوْمُهُ) ، أَيْ: شَهْرِ رَمَضَانَ (فَرْضٌ يَجِبُ
بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ) ، لِحَدِيثِ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا
لِرُؤْيَتِهِ» وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِهِ إذَنْ.
وَيُسْتَحَبُّ تَرَائِي الْهِلَالِ وَقَوْلُ رَاءٍ مَا وَرَدَ، وَمِنْهُ
حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُمَّ
أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ
وَالْإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ» رَوَاهُ ابْنُ حُمَيْدٍ فِي
مُسْنَدِهِ " وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ
الْأَثْرَمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَفْظُهُ قَالَ: «اللَّهُ
أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ
وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى،
رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ» (فَلَوْ طَلَعَ) هِلَالُ رَمَضَانَ، وَيُعَبِّرُ
الْفَلَكِيُّونَ عَنْ طُلُوعِهِ بِالْوِلَادَةِ (فِي السَّمَاءِ وَلَمْ
يَظْهَرْ لِلنَّاسِ، لَمْ يَكُنْ هِلَالًا) ، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ. إذْ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِرُؤْيَتِهِ لَا بِطُلُوعِهِ، لِحَدِيثِ:
«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» (فَإِنْ لَمْ يُرَ)
الْهِلَالُ (مَعَ صَحْوِ) مَطْلَعِهِ (لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ
شَعْبَانَ، لَمْ يَصُومُوا) يَوْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، أَيْ: مَعَ صَحْوِ
الْمَطْلَعِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، (وَلَوْ) كَانُوا
(مُعْتَمَدِينَ حِسَابًا) مِمَّا هُوَ مَوْضُوعٌ فِي التَّقَاوِيمِ، وَلَوْ
كَثُرَتْ إصَابَتُهُ، (فَبَانَ مِنْهُ) ، أَيْ: مِنْ رَمَضَانَ، (لَمْ
يُجْزِئْ) هُمْ صَوْمُهُ، لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِمْ إلَى مَا يُعَوَّلُ
عَلَيْهِ شَرْعًا.
(وَإِنْ حَالَ دُونَ مَطْلَعِهِ) ، أَيْ: الْهِلَالِ لَيْلَةَ
الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ (نَحْوُ غَيْمٍ أَوْ قَتَرٍ) بِالتَّحْرِيكِ:
الْغَبَرَةُ، كَالْعَشَرَةِ، (وَجَبَ صِيَامُهُ) ،
(2/169)
أَيْ يَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ (حُكْمًا
ظَنِّيًّا احْتِيَاطِيًّا) خُرُوجًا مِنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ (بِنِيَّةِ)
أَنَّهُ مِنْ (رَمَضَانَ) ، اخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ، وَأَكْثَرُ شُيُوخِ
أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ: عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَعَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَعَائِشَةَ
وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِحَدِيثِ
نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «إنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ
وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا
حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَاقْدُرُوا لَهُ» قَالَ
نَافِعٌ: " كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ
تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ لَهُ الْهِلَالَ،
فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يُرَ، وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ
سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ، أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ
سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ، أَصْبَحَ صَائِمًا ". وَمَعْنَى اُقْدُرُوا لَهُ:
ضَيِّقُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}
[الطلاق: 7] {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] وَالتَّضْيِيقُ: جَعْلُ
شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ
بِفِعْلِهِ، وَهُوَ رَاوِيهِ، وَأَعْلَمُ بِمَعْنَاهُ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ
إلَيْهِ، كَتَفْسِيرِ التَّفَرُّقِ فِي خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَقَدْ
صَنَّفَ الْأَصْحَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّصَانِيفِ، وَنَصَرُوا
الْمَذْهَبَ، وَرَدُّوا حُجَجَ الْمُخَالِفِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ،
وَإِنْ اشْتَغَلُوا عَنْ التَّرَائِيِ لِعَدُوٍّ، أَوْ حَرِيقٍ وَنَحْوِهِ،
وَذَلِكَ نَادِرٌ، فَيَنْسَحِبُ عَلَيْهِ ذَيْلُ الْغَالِبِ، وَفَارَقَ
الْغَيْمَ وَالْقَتَرَ، فَإِنَّ وُقُوعَهُمَا غَالِبٌ، وَقَدْ اسْتَوَى
مَعَهُمَا الِاحْتِمَالَانِ، فَعَمَلنَا بِأَحْوَطِهِمَا، قَالَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ. (وَلَيْسَ ذَلِكَ) ، أَيْ: وُجُوبُ صِيَامِهِ حُكْمًا
ظَنِّيًّا (بِشَكٍّ فِي النِّيَّةِ،
(2/170)
بَلْ) شَكٍّ (فِي الْمَنْوِيِّ) قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " دَرْءِ اللَّوْمِ وَالضَّيْمِ فِي
صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ ".
(وَيُجْزِئُ) صَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ (إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْهُ) ، أَيْ:
رَمَضَانَ، بِأَنْ ثَبَتَتْ رُؤْيَتُهُ بِمَوْضِعٍ آخَرَ، لِأَنَّ صَوْمَهُ
قَدْ وُضِعَ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ لِمُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ، أَشْبَهَ
الصَّوْمَ لِلرُّؤْيَةِ. (وَتَثْبُتُ) تَبَعًا لِوُجُوبِ صَوْمِهِ
(أَحْكَامُ صَوْمِ) رَمَضَانَ (مِنْ صَلَاةِ تَرَاوِيحَ) احْتِيَاطًا،
لِوَعْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ
بِالْغُفْرَانِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ قِيَامُهُ كُلُّهُ إلَّا بِذَلِكَ، (وَ)
مِنْ (وُجُوبِ كَفَّارَةٍ بِوَطْءٍ فِيهِ) ، أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمِ، (وَ)
مِنْ وُجُوبٍ (إمْسَاكٍ) عَلَى (مَنْ أَفْطَرَ) جَاهِلًا، أَوْ لَمْ
يُبَيِّتْ النِّيَّةَ (مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ)
بِأَنْ لَمْ يَرَ مَعَ صَحْوٍ بَعْدَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيْلَةِ
الَّتِي غُيِّرَ فِيهَا هِلَالُ رَمَضَانَ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا
كَفَّارَةَ بِالْوَطْءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَ (لَا) تَثْبُتُ
(بَقِيَّةُ الْأَحْكَامِ مِنْ حُلُولِ أَجَلٍ وَوُقُوعِ) نَحْوِ طَلَاقٍ
أَوْ عِتْقٍ (مُعَلَّقٍ) بِدُخُولِ رَمَضَانَ، (وَانْقِضَاءِ عِدَّةٍ) ،
وَمُدَّةِ إيلَاءٍ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، خُولِفَ لِلنَّصِّ، وَاحْتِيَاطًا
لِعِبَادَةٍ عَامَّةٍ. (وَكَذَا) ، أَيْ: كَرَمَضَانَ فِي وُجُوبِ صَوْمِهِ
إذَا غُمَّ هِلَالُهُ (حُكْمُ شَهْرٍ) مُعَيَّنٍ (نَذَرَ صَوْمَهُ أَوْ)
نَذَرَ (اعْتِكَافَهُ فِي وُجُوبِ شُرُوعٍ) فِي الْمَنْذُورِ فِيهِ (إذَا
غُمَّ هِلَالُهُ) ، أَيْ: الشَّهْرِ الْمَنْذُورِ احْتِيَاطًا، لَا فِي
تَرَاوِيحَ، أَوْ وُجُوبِ كَفَّارَةٍ لِوَطْءٍ فِيهِ أَوْ إمْسَاكٍ، إنْ
لَمْ يَكُنْ يُبَيِّتُ النِّيَّةَ وَنَحْوَهُ، لِخُصُوصِ ذَلِكَ
بِرَمَضَانَ.
(وَالْهِلَالُ الْمَرْئِيُّ نَهَارًا وَلَوْ) رُئِيَ (قَبْلَ الزَّوَالِ)
فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ فِي آخِرِهِ (لِ) اللَّيْلَةِ
(الْمُقْبِلَةِ) نَصًّا، (فَلَا يَجِبُ بِهِ صَوْمٌ) إنْ كَانَ فِي أَوَّلِ
الشَّهْرِ. (وَلَا) يُبَاحُ بِهِ (فِطْرٌ) إنْ كَانَ فِي آخِرِهِ، لِمَا
رَوَى أَبُو وَائِلٍ قَالَ: " جَاءَ كِتَابُ عُمَرَ أَنَّ الْأَهِلَّةَ
بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ نَهَارًا،
فَلَا تُفْطِرُوا
(2/171)
حَتَّى تُمْسُوا، أَوْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ
مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ عَشِيَّةً " رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ. وَرُؤْيَتُهُ نَهَارًا مُمْكِنَةٌ لِعَارِضٍ يَعْرِضُ
فِي الْجَوِّ يَقِلُّ بِهِ ضَوْءُ الشَّمْسِ، أَوْ يَكُونُ قَوِيَّ
النَّظَرِ. وَيَأْتِي أَنَّ مَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِرُؤْيَةِ
الْهِلَالِ، وَقَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ، أَنَّهَا تَطْلُقُ، فَعُلِمَ
مِنْهُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا.
(وَإِذَا ثَبَتَتْ رُؤْيَتُهُ) ، أَيْ: هِلَالِ رَمَضَانَ (بِبَلَدٍ،
لَزِمَ الصَّوْمُ جَمِيعَ النَّاسِ) فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَيَكُونُ
حُكْمُ مَنْ لَمْ يَرَهُ كَمَنْ رَآهُ - نَصَّ عَلَيْهِ - لِحَدِيثِ:
«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَهُوَ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ كَافَّةً، لِأَنَّ
شَهْرَ رَمَضَانَ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا
الْيَوْمَ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، كَحُلُولِ دَيْنٍ، وَوُقُوعِ
طَلَاقٍ، وَعِتْقٍ مُعَلَّقَيْنِ بِهِ، وَنَحْوِهِ، فَكَذَا حُكْمُ
الصَّوْمِ، وَلَوْ قُلْنَا بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، قَالَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ: تَخْتَلِفُ الْمَطَالِعُ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ
الْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، وَأَنَّ
لِكُلِّ بَلَدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا،
لِمَشَقَّةِ تَكَرُّرِهَا، بِخِلَافِ الْهِلَالِ، فَإِنَّهُ فِي السَّنَةِ
مَرَّةٌ.
(وَإِنْ ثَبَتَتْ) رُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ (نَهَارًا) وَلَمْ يَكُونُوا
بَيَّتُوا النِّيَّةَ لِنَحْوِ غَيْمٍ (أَمْسَكُوا) عَنْ مُفْسِدَاتِ
الصَّوْمِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، (وَقَضَوْا) ذَلِكَ الْيَوْمَ،
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصُومُوا (كَمَنْ أَسْلَمَ) فِي أَثْنَاءِ نَهَارٍ،
(أَوْ عَقَلَ) مِنْ جُنُونٍ، (أَوْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ) فِي
أَثْنَاءِ نَهَارٍ، فَيَجِبُ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ (أَوْ تَعَمَّدَ
مُقِيمٌ) الْفِطْرَ، (أَوْ) تَعَمَّدَتْ (طَاهِرٌ الْفِطْرَ، فَسَافَرَ)
الْمُقِيمُ بَعْدَ فِطْرِهِ عَمْدًا، (أَوْ حَاضَتْ) الطَّاهِرُ بَعْدَ
فِطْرِهَا تَعَمُّدًا، لَزِمَهُمَا إمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ
السَّفَرِ وَالْحَيْضِ نَصًّا، عُقُوبَةً وَالْقَضَاءُ، (أَوْ قَدِمَ
مُسَافِرٌ أَوْ بَرِئَ مَرِيضٌ مُفْطِرَيْنِ) فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ،
لَزِمَهُمَا الْإِمْسَاكُ لِزَوَالِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ، وَالْقَضَاءُ،
(وَلَهُمْ)
(2/172)
الْمَذْكُورِينَ (ثَوَابُ إمْسَاكٍ لَا
ثَوَابُ صِيَامٍ) ، لِأَنَّهُمْ مُمْسِكُونَ لَا صَائِمُونَ، (وَكَذَا لَوْ
بَلَغَ صَغِيرٌ) ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى (فِي أَثْنَائِهِ) ، أَيْ: يَوْمٍ
مِنْ رَمَضَانَ (بِسِنٍّ) ، أَيْ: تَمَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً (أَوْ)
بَلَغَ بِ (احْتِلَامٍ) ، أَيْ: إنْزَالِ مَنِيٍّ حَالَ كَوْنِهِ
(مُفْطِرًا) ، لَزِمَهُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِتَكْلِيفِهِ
وَالْقَضَاءُ. (وَ) إنْ بَلَغَ الصَّغِيرُ (صَائِمًا وَقَدْ نَوَى)
الصَّوْمَ (مِنْ اللَّيْلِ، أَتَمَّ) صِيَامَ ذَلِكَ الْيَوْمِ
(وَأَجْزَأَ) ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ (كَنَذْرِ إتْمَامِ نَفْلٍ)
بِخِلَافِ صَلَاةٍ وَحَجٍّ بَلَغَ فِيهِمَا غَيْرَ مَا يَأْتِي فِي
الْحَجِّ، (وَإِنْ عَلِمَ مُسَافِرٌ) بِرَمَضَانَ (أَنَّهُ يَقْدَمُ غَدًا)
بَلَدَ قَصْدِهِ (لَزِمَهُ الصَّوْمُ) نَصًّا، كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَ
يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَعَلِمَ يَوْمَ قُدُومِهِ، فَيَنْوِيهِ مِنْ اللَّيْلِ،
(لَا صَغِيرٌ عَلِمَ أَنَّهُ يَبْلُغُ غَدًا) بِرَمَضَانَ، فَلَا
يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِ الْغَدِ (لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ) قَبْلَ
دُخُولِ الْغَدِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ.
[فَصْلٌ يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ خَاصَّةً خَبَرُ مُكَلَّفٍ]
(فَصْلٌ) (وَيُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ خَاصَّةً خَبَرُ مُكَلَّفٍ)
لَا مُمَيِّزٍ، (عَدْلٍ) لَا مَسْتُورِ الْحَالِ نَصًّا، لِحَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: «جَاءَ أَعْرَابِيُّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَقَالَ: رَأَيْتُ الْهِلَالَ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: يَا بِلَالُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ «وَعَنْ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ،
وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ
دِينِيٌّ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ آخِرِ الشَّهْرِ. (وَلَوْ) كَانَ
الْمُخْبِرُ بِهِ (عَبْدًا أَوْ أُنْثَى) كَالرِّوَايَةِ، (أَوْ) كَانَ
إخْبَارُهُ (بِدُونِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ) لِلْخَبَرَيْنِ، (أَوْ) كَانَ
مَعَ مَنْ رَآهُ جَمَاعَةٌ وَلَمْ يَرَوْهُ، أَوْ رَآهُ وَحْدَهُ
(بِصَحْوٍ) أَوْ غَيْمٍ، دَاخِلَ الْبَلَدِ أَوْ خَارِجَهُ، (وَلَا
يَخْتَصُّ)
(2/173)
ثُبُوتُهُ (بِحَاكِمٍ، فَيَلْزَمُ
الصَّوْمُ مَنْ سَمِعَ رُؤْيَتَهُ مِنْ عَدْلٍ وَلَوْ رَدَّهُ الْحَاكِمُ)
، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَالِ الْمُخْبِرِ، وَقَدْ
يَجْهَلُ الْحَاكِمُ مَنْ يَعْلَمُ غَيْرُهُ عَدَالَتَهُ.
(وَتَثْبُتُ) بِخَبَرِ الْوَاحِدِ (بَقِيَّةُ الْأَحْكَامِ مِنْ وُقُوعِ)
طَلَاقٍ (مُعَلَّقٍ وَنَحْوِهِ) كَحُلُولِ دَيْنٍ تَبَعًا، (وَلَا يُقْبَلُ
فِي بَاقِي الشُّهُورِ إلَّا رَجُلَانِ عَدْلَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ)
كَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَالْفَرْقُ الِاحْتِيَاطُ لِلْعِبَادَةِ (وَلَوْ
صَامُوا) ، أَيْ: النَّاسُ (ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا
الْهِلَالَ) ، أَيْ: هِلَالَ شَوَّالٍ، (قَضَوْا يَوْمًا) وَاحِدًا
(فَقَطْ) نَصًّا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَلِبُعْدِ الْغَلَطِ
بِيَوْمَيْنِ. (وَ) إنْ صَامُوا (بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ) عَدْلَيْنِ
(ثَلَاثِينَ) يَوْمًا (وَلَمْ يَرَوْهُ) ، أَيْ: هِلَالَ شَوَّالٍ،
(أَفْطَرُوا) مَعَ الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلَيْنِ
يَثْبُتُ بِهَا الْفِطْرُ ابْتِدَاءً، فَتَبَعًا لِثُبُوتِ الصَّوْمِ
أَوْلَى، وَلِأَنَّهُمَا أَخْبَرَا بِالرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ عَنْ
يَقِينٍ وَمُشَاهَدَةٍ، فَلَا يُقَابِلُهَا الْإِخْبَارُ بِنَفْيٍ وَعَدَمِ
يَقِينٍ مَعَهُ، لِاحْتِمَالِ حُصُولِ الرُّؤْيَةِ بِمَكَانٍ آخَرَ، وَ
(لَا) يُفْطِرُوا إنْ صَامُوا (بِ) شَهَادَةِ (وَاحِدٍ) ثَلَاثِينَ وَلَمْ
يَرَوْهُ، لِحَدِيثِ: «وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا»
وَلِأَنَّ الْفِطْرَ لَا يَسْتَنِدُ إلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ
شَهِدَ بِهِلَالِ شَوَّالٍ، بِخِلَافِ الْإِخْبَارِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ،
لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَرَائِنِ، (وَلَا) إنْ صَامُوا (لِغَيْمٍ) ثَلَاثِينَ
وَلَمْ يَرَوْهُ، فَلَا يُفْطِرُونَ، لِأَنَّ الصَّوْمَ إنَّمَا كَانَ
احْتِيَاطًا، فَمَعَ مُوَافَقَتِهِ الْأَصْلَ، وَهُوَ بَقَاءُ رَمَضَانَ
أَوْلَى.
(فَلَوْ غُمَّ) الْهِلَالُ (لِشَعْبَانَ، وَ) غُمَّ أَيْضًا لِ (رَمَضَانَ،
وَجَبَ تَقْدِيرُ رَجَبٍ، وَ) تَقْدِيرُ (شَعْبَانَ نَاقِصَيْنِ)
احْتِيَاطًا، لِوُجُوبِ الصَّوْمِ (فَلَا يُفْطِرُوا قَبْلَ اثْنَيْنِ
وَثَلَاثِينَ) يَوْمًا (بِلَا رُؤْيَةٍ) ، لِأَنَّ الصَّوْمَ إنَّمَا كَانَ
احْتِيَاطًا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ رَمَضَانَ (وَكَذَا الزِّيَادَةُ) ،
أَيْ: زِيَادَةُ صَوْمِ يَوْمَيْنِ عَلَى الصَّوْمِ الْوَاجِبِ (لَوْ
غُمَّ) الْهِلَالُ (لِرَمَضَانَ وَشَوَّالٍ، وَ) صُمْنَا يَوْمَ
الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ ثُمَّ (أَكْمَلْنَا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ) ،
أَيْ: فَرَضْنَاهُمَا
(2/174)
كَامِلَيْنِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ (وَ)
بَانَ أَنَّهُمَا (كَانَا نَاقِصَيْنِ) قَالَ فِي " الْمُسْتَوْعِبِ " (وَ)
عَلَى هَذَا فَ (قِسْ لَوْ غُمَّ رَجَبٌ وَشَعْبَانُ وَرَمَضَانُ) ، أَيْ:
فَلَا يُفْطِرُونَ قَبْلَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ بِلَا رُؤْيَةٍ. (وَلَا
يَقَعُ النَّقْصُ مُتَوَالِيًا فِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ،
قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ") نَقْلًا عَنْ الْعُلَمَاءِ
وَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ: قَدْ يَتَوَالَى شَهْرَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ ثَلَاثِينَ
ثَلَاثِينَ، وَقَدْ يَتَوَالَى شَهْرَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ تِسْعَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا، يَعْنِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَقَطْ. وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ «شَهْرَا عِيدٍ لَا
يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ» نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ
وَالْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَجْتَمِعُ نُقْصَانُهُمَا فِي سَنَةٍ
وَاحِدَةٍ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ: غَالِبًا، وَقِيلَ لَا يَنْقُصُ أَجْرُ
الْعَمَلِ فِيهِمَا بِنَقْصِ عَدَدِهِمَا، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ تَأْوِيلَهُ
عَلَى السَّنَةِ الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِيهَا. وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد: لَا أَدْرِي مَا هَذَا،
وَقَدْ رَأَيْنَاهُمَا يَنْقُصَانِ. (وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ:
(مَنْ قَالَ: إنْ رُئِيَ الْهِلَالُ صَبِيحَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ،
فَالشَّهْرُ تَامٌّ، وَإِنْ لَمْ يُرَ، فَنَاقِصٌ) هَذَا إنْ ثَبَتَ (فَ)
هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اسْتِتَارَ الْهِلَالِ لَا يَكُونُ إلَّا
لَيْلَتَيْنِ، وَ (لَيْسَ بِصَحِيحٍ) ، لِوُجُودِ خِلَافِهِ، بَلْ قَدْ
يَسْتَتِرُ لَيْلَةً تَارَةً، وَثَلَاثَ لَيَالٍ أُخْرَى.
(وَمَنْ رَآهُ) ، أَيْ: الْهِلَالَ (وَحْدَهُ لِ) شَهْرِ (رَمَضَانَ
وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ) لِفِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ، (لَزِمَهُ الصَّوْمُ
وَجَمِيعُ أَحْكَامِ الشَّهْرِ مِنْ نَحْوِ طَلَاقٍ) كَظِهَارٍ (وَعِتْقٍ
مُعَلَّقٍ بِهِ) ، لِأَنَّهُ يَوْمٌ عَلِمَهُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَزِمَهُ
حُكْمُهُ، كَاَلَّذِي بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مِنْ شَعْبَانَ فِي
حَقِّ غَيْرِهِ ظَاهِرًا لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ، وَيَلْزَمُهُ إمْسَاكُهُ
لَوْ أَفْطَرَ فِيهِ، وَالْكَفَّارَةُ إنْ جَامَعَ فِيهِ، لِأَنَّهَا
لَيْسَتْ عُقُوبَةً مَحْضَةً بَلْ عِبَادَةً أَوْ فِيهَا شَائِبَتُهَا.
(2/175)
(وَ) إنْ رَآهُ وَحْدَهُ (لِ) شَهْرِ
(شَوَّالٍ لَمْ يُفْطِرْ وُجُوبًا) نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ فِي "
الْإِنْصَافِ ": هَذَا الْمَذْهَبُ، لِحَدِيثِ «الْفِطْرُ يَوْمَ
يُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحُّونَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مَعْنَاهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. (وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَجِبُ الْفِطْرُ سِرًّا،
وَحَسَّنَهُ فِي) " الْإِنْصَافِ " (" وَالْإِقْنَاعِ ") لِأَنَّهُ
تَيَقَّنَهُ يَوْمَ عِيدٍ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ صَوْمِهِ. (وَيَتَّجِهُ:
وَهُوَ) ، أَيْ: مَا قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ: (الصَّوَابُ لِمَنْ
تَيَقَّنَهُ تَيَقُّنًا لَا لَبْسَ مَعَهُ) وَقَالَ فِي " الرِّعَايَةِ
الْكُبْرَى ": وَعَنْهُ: يُفْطِرُ، وَقِيلَ: سِرًّا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ
رُؤْيَتَهُ وَحْدَهُ لَا يَثْبُتُ بِهَا الْيَقِينُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ،
إذْ يَجُوزُ أَنَّهُ خُيِّلَ إلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَّهَمَ فِي
رُؤْيَتِهِ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ، وَمُوَافَقَةً لِمَا نَقَلَهُ
الْجَمَاعَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. (وَالْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَتِهِ)
أَيْ: هِلَالِ شَوَّالٍ (بِنَحْوِ مَفَازَةٍ) كَمُعْتَقَلٍ فِي مَكَان لَا
يَدْخُلُ إلَيْهِ أَحَدٌ (يَبْنِي عَلَى يَقِينِ رُؤْيَتِهِ) فَيُفْطِرُ
(لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ مُخَالَفَةَ الْجَمَاعَةِ) ، قَالَهُ الْمَجْدُ
فِي شَرْحِهِ عَلَى " الْهِدَايَةِ ". (وَإِنْ شَهِدَا) أَيْ: شَهِدَ
اثْنَانِ (بِهِ) ، أَيْ: بِهِلَالِ شَوَّالٍ (عِنْدَ حَاكِمٍ فَرُدَّتْ
شَهَادَتُهُمَا) ، أَيْ: رَدَّهَا الْحَاكِمُ لِجَهْلِهِ بِحَالِهِمَا،
لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا لِمَنْ عَرَفَ عَدَالَتَهُمَا الْفِطْرُ
بِقَوْلِهِمَا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ،
وَتَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ، وَجَعْلِ مَرْتَبَةِ الْحَاكِمِ لِكُلِّ
إنْسَانٍ، قَالَهُ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ " وَقَالَ الْمُوَفَّقُ،
وَالشَّارِحُ، وَصَاحِبُ " الْإِقْنَاعِ ": وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ عِنْدَ
حَاكِمٍ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا لِجَهْلِهِ بِحَالِهِمَا، (فَلِعَالَمٍ
بِعَدَالَتِهِمَا) الْفِطْرُ. (وَيَتَّجِهُ: بَلْ) يَجِبُ (عَلَيْهِ) -
أَيْ: عَلَى الْعَالِمِ بِعَدَالَتِهِمَا، وَهَذَا
(2/176)
الِاتِّجَاهُ لَا بَأْسَ بِهِ، -
(الْفِطْرُ لِأَنَّ رَدَّهُ) ، أَيْ: الْحَاكِمِ لِشَهَادَتِهِمَا هَهُنَا
(تَوَقُّفٌ) مِنْهُ عَنْ الْحُكْمِ بِهَا، لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَالِهِمَا
(لَا حُكْمٌ) ، أَيْ: لَيْسَ بِحُكْمٍ مِنْهُ بِعَدَمِ قَبُولِ
شَهَادَتِهِمَا، فَأَشْبَهَ الْمُنْتَظِرَ لِبَيِّنَةٍ بِخَبَرِ
عَدَالَتِهِمَا، وَلِهَذَا لَوْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ
بِمَنْ زَكَّاهُمَا كَانَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِهَا، لِوُجُودِ
الْمُقْتَضِي، وَأَمَّا إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِفِسْقِهِمَا،
فَلَيْسَ لَهُمَا، وَلَا لِغَيْرِهِمَا الْفِطْرُ بِشَهَادَتِهِمَا. وَإِنْ
رَآهُ عَدْلَانِ، وَلَمْ يَشْهَدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ جَازَ لِمَنْ سَمِعَ
بِشَهَادَتِهِمَا الْفِطْرُ إذَا عَرَفَ عَدَالَتَهُمَا، (وَيُفْطِرُ كُلٌّ
مِنْهُمَا) ، أَيْ: الشَّاهِدَيْنِ (بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ وَ) رُؤْيَةِ
(رَفِيقِهِ) إذَا عَرَفَ عَدَالَتَهُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا شَهِدَ اثْنَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا»
رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدُهُمَا عَدَالَةَ
الْآخَرِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ، لِاحْتِمَالِ فِسْقِهِ إلَّا أَنْ
يَحْكُمَ بِذَلِكَ حَاكِمٌ فَيَزُولُ اللَّبْسُ، وَكَذَا لَوْ جَهِلَ
غَيْرُهُمَا عَدَالَتَهُمَا، أَوْ عَدَالَةَ أَحَدِهِمَا. فَلَيْسَ لَهُ
الْفِطْرُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ الْحَاكِمُ.
(وَيُنْكَرُ عَلَى مَنْ أَكَلَ بِرَمَضَانَ ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ
عُذْرٌ) ، قَالَهُ الْقَاضِي. (وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَتْ
أَعْذَارٌ خَفِيَّةٌ مَنَعَتْ مِنْ إظْهَارِهِ كَ) مَرِيضٍ لَا أَمَارَةَ
عَلَيْهِ، وَ (مُسَافِرٍ لَا عَلَامَةَ عَلَيْهِ) بِخِلَافِ الْأَعْذَارِ
الظَّاهِرَةِ، (وَإِنَّمَا مُنِعَ) إظْهَارُهُ (لِئَلَّا يُتَّهَمَ) .
انْتَهَى. (قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ: أَكْرَهُ الْمَدْخَلَ السُّوءَ)
لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّيبَةِ.
(وَإِنْ اشْتَبَهَتْ الْأَشْهُرُ عَلَى مَنْ أُسِرَ أَوْ طُمِرَ أَوْ
بِمَفَازَةٍ وَنَحْوِهِ) كَمَنْ بِدَارِ حَرْبٍ، (تَحَرَّى) ، أَيْ:
اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ (وُجُوبًا) ، لِأَنَّهُ
أَمْكَنَهُ تَأْدِيَةُ فَرْضِهِ بِالِاجْتِهَادِ، فَلَزِمَهُ
كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ،
(2/177)
(وَصَامَ) الَّذِي ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ
رَمَضَانُ، (وَيُجْزِئُهُ) الصَّوْمُ (إنْ شَكَّ هَلْ وَقَعَ صَوْمُهُ
قَبْلَهُ) ، أَيْ: قَبْلَ رَمَضَانَ، (أَوْ) وَقَعَ (بَعْدَهُ) ، لِأَنَّهُ
أَدَّى فَرْضَهُ بِاجْتِهَادٍ، وَلَا يَضُرُّ تَرَدُّدُهُ فِي النِّيَّةِ
لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، (كَمَا لَوْ وَافَقَهُ) ، أَيْ: رَمَضَانَ (أَوْ)
وَافَقَ (مَا بَعْدَهُ) ، أَيْ: بَعْدَ رَمَضَانَ كَذِي الْحِجَّةِ أَوْ
مُحَرَّمٍ وَنَحْوِهِ كَالصَّلَاةِ، (لَا إنْ وَافَقَ) صَوْمُهُ رَمَضَانَ
(الْقَابِلَ، فَلَا يُجْزِئُ) هـ (عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) ، أَيْ:
الرَّمَضَانَيْنِ (اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ التَّعْيِينِ) وَهُوَ
الْمَذْهَبُ. (وَ) إنْ صَامَ شَوَّالًا أَوْ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِنَّهُ
(يَقْضِي مَا وَافَقَ عِيدًا أَوْ أَيَّامَ تَشْرِيقٍ) ، لِأَنَّهُ لَا
يَصِحُّ صَوْمُهَا عَنْ رَمَضَانَ، (وَلَوْ صَامَ) مَنْ اشْتَبَهَتْ
عَلَيْهِ الْأَشْهُرُ (شَعْبَانَ ثَلَاثَ سِنِينَ مُتَوَالِيَةً، ثُمَّ
عَلِمَ) الْحَالَ، (قَضَى مَا فَاتَ) وَهُوَ رَمَضَانُ ثَلَاثَ سِنِينَ
قَضَاءً، (مُرَتِّبًا شَهْرًا عَلَى إثْرِ شَهْرٍ) بِالْبَيِّنَةِ
(كَصَلَاةٍ فَائِتَةٍ) نَصًّا، نَقَلَهُ مُهَنَّا. (وَيَتَّجِهُ: أَنَّ
التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلصِّحَّةِ) ، فَيَجُوزُ التَّفْرِيقُ
بَيْنَ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُهُ عَنْ
شَعْبَانَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّهْرَ لَمْ
يَدْخُلْ) فَصَامَ، لَمْ يُجْزِئْهُ وَلَوْ أَصَابَ، (أَوْ شَكَّ) أَنْ
الشَّهْرَ لَمْ يَدْخُلْ (فَصَامَ، لَمْ يُجْزِئْهُ وَلَوْ أَصَابَ) كَمَا
لَوْ تَرَدَّدَ فِي دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ.
[فَصْلٌ عَلَيَّ مِنْ يَجِب الصَّوْم]
(فَصْلٌ) (وَيَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(2/178)
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:
183] ، فَلَا يَجِبُ عَلَى كَافِرٍ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَائِهِ، لَمْ
يَلْزَمْهُ مَا مَضَى مِنْ الْأَيَّامِ، لِحَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ فِي
وَفْدِ ثَقِيفٍ «قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ
قُبَّةً بِالْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا صَامُوا مَا بَقِيَ مِنْ
الشَّهْرِ» وَلِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ.
(قَادِرٍ) عَلَى صَوْمٍ لَا عَلَى عَاجِزٍ عَنْهُ لِنَحْوِ مَرَضٍ
لِلْآيَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى مَجْنُونٍ، وَلَا صَغِيرٍ، وَلَوْ
مُرَاهِقًا، لِحَدِيثِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» وَيَصِحُّ مِنْ
مُمَيِّزٍ كَالصَّلَاةِ لَا مِنْ مَجْنُونٍ، (لَكِنْ عَلَى وَلِيِّ صَغِيرٍ
مُطِيقٍ) لِلصَّوْمِ (أَمْرُهُ بِهِ، وَضَرْبُهُ عَلَيْهِ لِيَعْتَادَهُ)
إذَا بَلَغَ كَالصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الصَّوْمَ أَشَقُّ فَاعْتُبِرَتْ
الطَّاقَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُطِيقُ الصَّلَاةَ مَنْ لَا يُطِيقُ
الصَّوْمَ.
(وَفِي " الْمُغْنِي " اعْتِبَارُهُ) ، أَيْ: أَمْرِ الصَّغِيرِ
بِالصَّوْمِ (بِالْعَشْرِ أَوْلَى) ، لِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِالضَّرْبِ عِنْدَهَا. (وَيَتَّجِهُ: أَنَّ تَفْصِيلَهُ)
أَيْ: الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ (كَ) تَفْصِيلِ الْأَمْرِ بَال (صَّلَاةِ) ،
مِنْ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ لِسَبْعٍ إنْ أَطَاقَهُ، وَحَدَّ الْإِطَاقَةَ
ابْنُ أَبِي مُوسَى بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ وَلَا
يَضُرُّهُ، (فَهِيَ) ، أَيْ: الصَّلَاةُ (آكَدُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّهَا لَا
مَضَرَّةَ فِي مُدَاوَمَةِ الْمُمَيِّزِ عَلَيْهَا.
(وَلَا يُضْرَبُ) مُمَيِّزٌ عَلَى تَرْكِهِ (إلَّا لِعَشْرٍ) وَلَوْ
أَطَاقَهُ؛ لِلْخِلَافِ فِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ إذَنْ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَمَنْ عَجَزَ عَنْهُ) أَيْ: الصَّوْمِ (لِكِبَرٍ) كَشَيْخٍ هَرِمٍ
وَعَجُوزٍ يُجْهِدُهُمَا
(2/179)
الصَّوْمُ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا
مَشَقَّةً شَدِيدَةً (أَوْ) عَجَزَ عَنْهُ (لِمَرَضٍ لَا يُرْجَى بَرْؤُهُ،
أَفْطَرَ وَعَلَيْهِ) ، أَيْ مَنْ عَجَزَ عَنْهُ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا
يُرْجَى بَرْؤُهُ، إنْ كَانَ فِطْرُهُ (لَا مَعَ) عُذْرٍ مُعْتَادٍ (نَحْوِ
سَفَرٍ: عَنْ كُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ مُدُّ بُرٍّ، أَوْ مُدَّانِ
مِنْ غَيْرِهِ) ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ
هِيَ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ. رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمَعْنَاهُ: عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذٍ، وَلَمْ
يُدْرِكْهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَلِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ
ابْنِ أَبِي لَيْلَى: حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَذَكَرَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ
مَنْ لَا يُرْجَى بَرْءُ مَرَضِهِ
، فَإِنْ كَانَ الْعَاجِزُ عَنْهُ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى
بَرْؤُهُ مُسَافِرًا فَلَا فِدْيَةَ لِفِطْرِهِ بِعُذْرٍ مُعْتَادٍ وَلَا
قَضَاءَ لِعَجْزِهِ عَنْهُ فَيُعَايَا بِهَا.
(وَلَا يَسْقُطُ) الْإِطْعَامُ (بِعَجْزٍ) عَنْهُ (وَلَا يُجْزِئُ صَوْمُ
غَيْرِهِ) أَيْ: الْمَعْذُورِ (عَنْهُ) كَالصَّلَاةِ.
(وَمَنْ أَيِسَ) مِنْ بَرْئِهِ (ثُمَّ قَدَرَ عَلَى قَضَاءٍ لَمْ يَقْضِ)
مَا أَفْطَرَهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَعْضُوبٍ عَجَزَ عَنْ حَجٍّ، وَأَحَجَّ
عَنْهُ، ثُمَّ عُوفِيَ، فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ اعْتِبَارًا بِوَقْتِ
الْوُجُوبِ.
(وَيَتَّجِهُ: هَذَا) أَيْ: عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ (إنْ كَانَ
قَدْ أَطْعَمَ) قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ (لِئَلَّا يَجْمَعَ
بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ) أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَطْعَمَ، فَإِنَّهُ
يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَمَعْضُوبٍ عُوفِيَ قَبْلَ إحْرَامِ
نَائِبِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَسُنَّ فِطْرٌ وَكُرِهَ صَوْمٌ) لِمُسَافِرٍ (بِسَفَرِ قَصْرٍ) أَيْ: فِي
أَثْنَائِهِ (وَلَوْ بِلَا مَشَقَّةٍ) لِحَدِيثِ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ
الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ
وَزَادَ: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ،
فَاقْبَلُوهَا»
(2/180)
وَإِنْ صَامَ أَجْزَأَهُ نَصًّا؛ لِحَدِيثِ
«هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا، فَهُوَ حَسَنٌ، وَمَنْ
أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَالنَّسَائِيُّ.
(فَلَوْ سَافَرَ) مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِرَمَضَانَ (لِيُفْطِرَ)
فِيهِ، (حَرُمَ) عَلَيْهِ (فِطْرٌ) أَمَّا السَّفَرُ فَلِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ
إلَى الْفِطْرِ الْمُحَرِّمِ، وَأَمَّا الْفِطْرُ فَلِعَدَمِ الْعُذْرِ
الْمُبِيحِ، وَهُوَ السَّفَرُ الْمُبَاحِ. (وَيَتَّجِهُ احْتِمَالٌ)
قَوِيٌّ: (وَكَذَا) لَوْ سَافَرَ (لِيَقْصُرَ) الرَّبَاعِيَةَ (وَيَمْسَحَ
ثَلَاثًا) ، فَيَحْرُمُ السَّفَرُ لِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَبِيحُ الْمَسْحَ،
وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَ) سُنَّ فِطْرٌ وَكُرِهَ صَوْمٌ (لِخَوْفِ مَرَضٍ بِعَطَشٍ أَوْ
غَيْرِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى
الْمَرِيضِ بِتَضَرُّرِهِ بِالصَّوْمِ.
(وَ) سُنَّ فِطْرٌ وَكُرِهَ صَوْمٌ (لِخَوْفِ مَرِيضٍ وَحَادِثٍ بِهِ فِي
يَوْمِهِ ضَرَرًا بِزِيَادَتِهِ أَوْ طُولِهِ) أَيْ: الْمَرَضِ، (وَلَوْ
بِقَوْلِ) طَبِيبٍ غَيْرِ مُسْلِمٍ (ثِقَةٍ) مَا لَمْ يَكُنْ الْمَرِيضُ
طَبِيبًا، وَلَوْ فَاسِقًا كَإِفْتَاءِ فَاسِقٍ نَفْسَهُ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . إلَى قَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَ (لَا)
يُبَاحُ فِطْرٌ (لِمَنْ) أَيْ: مَرِيضٍ (لَمْ يَتَضَرَّرُ بِهِ) أَيْ:
الصَّوْمِ (كَمَنْ بِهِ جَرَبٌ أَوْ وَجَعُ ضِرْسٍ أَوْ أُصْبُعٍ أَوْ
دُمَّلٌ وَنَحْوُهُ) ، قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَتَى يُفْطِرُ الْمَرِيضُ؟
قَالَ: إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ، قِيلَ: مِثْلُ الْحُمَّى؟ قَالَ: وَأَيُّ
مَرَضٍ أَشَدُّ مِنْ الْحُمَّى؟ (وَيُبَاحُ فِطْرٌ بِقَوْلِهِ) أَيْ:
الطَّبِيبِ الثِّقَةِ: (إنَّ الصَّوْمَ مِمَّا يُمَكِّنُ الْعِلَّةَ، أَوْ)
بِقَوْلِهِ: إنَّ الصَّوْمَ (لَا يَنْفَعُ مَعَهُ تَدَاوٍ) كَمَنْ بِهِ
(نَحْوُ مَرَضٍ) يَضُرُّهُ تَرْكُ التَّدَاوِي، (وَرَمَدٍ) يُخْشَى
زِيَادَتُهُ بِتَرْكِ الِاكْتِحَالِ
(2/181)
(وَجَائِفَةٍ وَمَأْمُومَةٍ) كَذَلِكَ
(وَقَالَ) أَبُو بَكْرٍ (الْآجُرِّيُّ: مَنْ صَنْعَتُهُ شَاقَّةٌ فَإِنْ
خَافَ) بِالصَّوْمِ (تَلَفًا، أَفْطَرَ وَقَضَى) إنْ ضَرَّهُ تَرْكُ
الصَّنْعَةِ، (فَإِنْ لَمْ يَضُرَّهُ تَرْكُهَا أَثِمَ) بِالْفِطْرِ
وَيَتْرُكُهَا، (وَإِلَّا) ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِ الضَّرَرُ
بِتَرْكِهَا، (فَلَا) إثْمَ عَلَيْهِ بِالْفِطْرِ لِلْعُذْرِ
(وَمَنْ قَاتَلَ عَدُوًّا أَوْ أَحَاطَ الْعَدُوُّ بِبَلَدِهِ، وَالصَّوْمُ
يُضْعِفُهُ) عَنْ الْقِتَالِ، (سَاغَ لَهُ الْفِطْرُ) بِدُونِ سَفَرٍ
(نَصًّا) فَعَلَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَأَمَرَ بِهِ لَمَّا
نَازَلَ الْعَدُوُّ دِمَشْقَ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ
(وَإِنْ نَوَى حَاضِرٌ صَوْمَ يَوْمٍ) بِرَمَضَانَ (وَسَافَرَ فِي
أَثْنَائِهِ) أَيْ: الْيَوْمِ طَوْعًا أَوْ كُرْهًا، (فَلَهُ الْفِطْرُ)
لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ كَالْمَرَضِ الطَّارِئِ وَلَوْ
بِفِعْلِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا حَيْثُ وَجَبَ إتْمَامُهَا
لَمْ تَقْصُرْ، لِآكَدِيَّتِهَا، وَعَدَمِ مَشَقَّةِ إتْمَامِهَا، (إذَا
فَارَقَ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ) الْعَامِرَةَ وَنَحْوَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛
لِأَنَّهُ قَبْلَهُ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، (وَالْأَفْضَلُ) لِحَاضِرٍ
نَوَى صَوْمًا، وَسَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ (عَدَمُهُ) ، أَيْ: عَدَمِ
الْفِطْرِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ.
(وَيَتَّجِهُ: لُزُومُ تَبْيِيتِ نِيَّةِ) الصَّوْمِ (مِمَّنْ نَوَى
السَّفَرَ نَهَارًا) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ عَائِقٌ عَنْ
السَّفَرِ، وَهَذَا الِاتِّجَاهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ إذْ مِنْ
الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ الْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ
إلَّا إذَا فَارَقَ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ الْعَامِرَةَ
(وَجَازَ وَطْءٌ لِمَنْ بِهِ مَرَضٌ يَنْتَفِعُ بِهِ) ، أَيْ: الْوَطْءِ
(فِيهِ) ، أَيْ: الْمَرَضِ، كَالْمُدَاوَاةِ (وَمَنْ بِهِ شَبَقٌ يَخَافُ
تَشَقُّقَ نَحْوِ ذَكَرِهِ) - كَأُنْثَيَيْهِ إنْ لَمْ يَطَأْ، (وَلَمْ
تَنْدَفِعْ شَهْوَتُهُ بِدُونِ وَطْءٍ كَاسْتِمْنَاءٍ بِيَدِهِ، أَوْ يَدِ
زَوْجَتِهِ) كَسُرِّيَّتِهِ -، (جَامَعَ، وَلَا كَفَّارَةَ) نَقَلَهُ
الشَّالَنْجِيُّ، فَإِنْ انْدَفَعَتْ شَهْوَتُهُ بِدُونِهِ لَمْ يَجُزْ؛
لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (وَيَقْضِي) عَدَدَ مَا أَفْسَدَهُ مِنْ
الْأَيَّامِ،
(2/182)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] (مَا لَمْ يَتَعَذَّرْ) عَلَيْهِ (قَضَاءٌ
لِشَبَقٍ فَيُطْعِمُ) لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، (كَكَبِيرٍ) عَاجِزٍ عَنْ
صَوْمٍ، (وَمَتَى لَمْ يُمْكِنْهُ) الْوَطْءُ لِدَفْعِ الشَّبَقِ (إلَّا
بِإِفْسَادِ صَوْمِ مَوْطُوءَةٍ) ، بِأَنْ لَمْ تَنْدَفِعْ شَهْوَتُهُ
بِاسْتِمْنَاءٍ بِيَدِ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ، وَلَا بِمُبَاشَرَةٍ
دُونَ الْفَرْجِ، (جَازَ) لَهُ الْوَطْءُ (ضَرُورَةً) أَيْ لِدُعَاءِ
الضَّرُورَةِ إلَيْهِ كَأَكْلِ مُضْطَرٍّ مَيِّتَةً، فَإِنْ كَانَ حَائِضٌ
وَصَائِمَةٌ طَاهِرٌ مِنْ زَوْجَةٍ وَسُرِّيَّةٍ (فَ) وَطْءُ طَاهِرٍ
(صَائِمَةٍ أَوْلَى مِنْ) وَطْءِ (حَائِضٍ) ، لِنَهْيِ الْكِتَابِ عَنْ
وَطْءِ الْحَائِضِ، وَتَعَدِّي ضَرَرِهِ.
(وَتَتَعَيَّنُ) لِلْوَطْءِ (مَنْ لَمْ تَبْلُغْ) مِنْ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ
مُبَاحَةٍ (كَمَجْنُونَةٍ وَكِتَابِيَّةٍ) لِتَحْرِيمِ إفْسَادِ صَوْمِ
الْبَالِغَةِ بِلَا ضَرُورَةٍ إلَيْهِ.
(وَكُرِهَ صَوْمُ حَامِلٍ وَمُرْضِعٍ خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِنَّ أَوْ)
خَافَتَا عَلَى (الْوَلَدِ) كَالْمَرِيضِ، وَأَوْلَى، (وَيَقْضِيَانِ
لِفِطْرٍ) عَدَدَ أَيَّامِ فِطْرِهِمَا لِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ
(وَيَلْزَمُ مَنْ يُمَوِّنُ الْوَلَدَ إنْ خِيفَ عَلَيْهِ فَقَطْ) مِنْ
الصَّوْمِ (إطْعَامُ مِسْكِينٍ فَوْرًا) لِوُجُوبِهِ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ
كَلَامِهِمْ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَهَذَا أَقْيَسُ (لِكُلِّ يَوْمٍ)
أَفْطَرَتْهُ حَامِلٌ أَوْ مُرْضِعٌ خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ (مَا) أَيْ:
طَعَامًا (يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: " كَانَتْ رُخْصَةٌ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ
الْكَبِيرَةِ، وَهُمَا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا
مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَالْحُبْلَى وَالْمُرْضِعُ إذَا
خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا، أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا، رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ فِطْرٌ بِسَبَبِ نَفْسٍ
عَاجِزَةٍ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ،
كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ.
(وَتُجْزِئُ) كَفَّارَةٌ (لِ) مِسْكِينٍ (وَاحِدٍ جُمْلَةً) وَاحِدَةً،
قَالَ فِي " الْمُحَرَّرِ ": إنْ أَتَى بِهِ مَعَ الْقَضَاءِ جَازَ؛
لِأَنَّهُ كَالتَّكْمِلَةِ لَهُ (وَمَتَى قَبِلَ
(2/183)
رَضِيعٌ ثَدْيِ غَيْرِهَا) أَيْ أُمِّهِ
(وَقَدَرَ وَلِيُّهُ يَسْتَأْجِرُ لَهُ، لَمْ تُفْطِرْ أُمُّهُ) ؛ لِعَدَمِ
الْحَاجَةِ إلَيْهِ، (وَظِئْرٌ) أَيْ: مُرْضِعَةٌ لِوَلَدِ غَيْرِهَا
(كَأُمٍّ) فِي إبَاحَةِ الْفِطْرِ إنْ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا، أَوْ
الرَّضِيعِ، فَإِنْ وَجَبَ إطْعَامٌ فَعَلَى مَنْ يُمَوِّنُهُ، (فَلَوْ
تَغَيَّرَ لَبَنُهَا) أَيْ الظِّئْرِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْإِرْضَاعِ (بِ)
سَبَبِ (صَوْمِهَا أَوْ نَقَصَ) لَبَنُهَا بِصَوْمِهَا، (فَلِمُسْتَأْجَرِ)
هَا (الْفَسْخُ) لِلْإِجَارَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.
(وَتَأْثَمُ) مُرْضِعَةٌ صَامَتْ (بِقَصْدِ إضْرَارِ) مُرْتَضِعٍ
(وَتُجْبَرُ) أَيْ: يُجْبِرُهَا الْحَاكِمُ بِطَلَبِ مُسْتَأْجِرٍ (عَلَى
فِطْرٍ إنْ تَأَذَّى رَضِيعٌ) بِصَوْمِهَا، فَإِنْ قَصَدَتْ الْأَضْرَارَ
أَثِمَتْ، ذَكَرَهُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ.
(وَيَجِبُ فِطْرٌ عَلَى مَنْ احْتَاجَهُ) أَيْ: الْفِطْرَ (لِإِنْقَاذِ
آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ كَغَرَقٍ وَنَحْوِهِ) ؛ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ تَدَارُكُ الصَّوْمِ بِالْقَضَاءِ، بِخِلَافِ الْغَرِيقِ
وَنَحْوِهِ.
(وَ) إنْ جُعِلَ لِمُنْقِذِ مَعْصُومٍ ضَعُفَ فِي نَفْسِهِ بِسَبَبِ
إنْقَاذِهِ فَأَفْطَرَ، فَ (لَا يَفْدِي) هُوَ وَلَا الْمَعْصُومُ،
كَالْمَرِيضِ، (وَإِنْ قَدَرَ) الْمُنْقِذُ عَلَى الْإِنْقَاذِ (بِدُونِ
فِطْرٍ) وَجَبَ عَلَيْهِ وَ (حَرُمَ) الْفِطْرُ، لِعَدَمِ الْحَاجَةِ
إلَيْهِ، (فَإِنْ دَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لَمْ يُفْطِرْ) لِأَنَّهُ لَا
صُنْعَ لَهُ بِذَلِكَ.
(وَيَتَّجِهُ كَآدَمِيٍّ) فِي وُجُوبِ إنْقَاذِهِ، وَوُجُوبِ الْفِطْرِ
عَلَى مُضْطَرٍّ إلَيْهِ لِإِنْقَاذِ (حَيَوَانٍ مُحْتَرِمٍ) تَخْلِيصًا
لَهُ مِنْ الْمَهْلَكَةِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَيَصِحُّ صَوْمُ مَنْ خَافَ تَلَفًا) بِصَوْمِهِ (وَيُكْرَهُ) ، قَالَ
فِي " الْإِنْصَافِ ": عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ (وَاخْتَارَ
جَمْعٌ) مِنْهُمْ: صَاحِبُ " الِانْتِصَارِ " وَ " فِي عُيُونِ
الْمَسَائِلِ " وَ " الْحَاوِيَيْنِ " وَ " الْفَائِقِ " وَغَيْرِهِمْ:
(يَحْرُمُ) صَوْمُهُ قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَلَمْ أَجِدْهُمْ ذَكَرُوا
فِي الْإِجْزَاءِ خِلَافًا، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ:
يَجِبُ فِطْرُهُ بِمَرَضٍ مَخُوفٍ.
(2/184)
(وَيَتَّجِهُ: وَهُوَ) أَيْ: الْقَوْلُ
بِالتَّحْرِيمِ؛ (الْأَصَحُّ) لَكِنَّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلُ.
قَالَ الْآجُرِّيُّ: (وَلَيْسَ لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ فِطْرٌ بِرَمَضَانَ)
كَمُسَافِرٍ (صَوْمُ غَيْرِهِ) أَيْ: رَمَضَانَ (فِيهِ) لِأَنَّهُ لَا
يَسَعُ غَيْرَ مَا فُرِضَ فِيهِ، (وَيَلْغُو صَوْمُهُ) إذَا صَامَ فِي
رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، لِعَدَمِ
تَعْيِينِهِ، (وَكَذَا لَوْ قَلَبَهُ) أَيْ: صَوْمَ رَمَضَانَ (نَفْلًا) ،
لَمْ يَصِحَّ لَهُ النَّفَلُ، وَبَطَلَ فَرْضُهُ لِقَطْعِ نِيَّتِهِ.
[فَرْعٌ مَنْ أُبِيحَ لَهُ فِطْرٌ بِرَمَضَانَ]
(فَرْعٌ: لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ فِطْرٌ بِرَمَضَانَ) كَمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ
(وَصَامَ، أَنْ يُفْطِرَ بِمَا شَاءَ مِنْ جِمَاعٍ وَغَيْرِهِ) كَأَكْلٍ
وَشُرْبٍ، (وَلَا كَفَّارَةَ) عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ لِحُصُولِ الْفِطْرِ
بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الْجِمَاعِ، فَيَقَعُ الْجِمَاعُ بَعْدَهُ.
[فَصْلٌ شُرُوط صِحَّةِ الصَّوْمِ]
(فَصْلٌ) (وَشُرِطَ لِصِحَّةِ صَوْمٍ: إسْلَامٌ، وَعَقْلٌ، وَتَمْيِيزٌ،
وَطُهْرٌ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ. وَ) شُرِطَ لِصِحَّتِهِ (نِيَّةٌ
مُعَيِّنَةٌ لِمَا يَصُومُ) بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَصُومُ مِنْ
رَمَضَانَ، أَوْ قَضَائِهِ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، (مِنْ اللَّيْلِ)
لِحَدِيثِ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَا صِيَامَ
لَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ لَمْ
يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ»
وَقَالَ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَكَالْقَضَاءِ.
وَأَوَّلُ اللَّيْلِ وَوَسَطُهُ وَآخِرُهُ مَحِلٌّ لِلنِّيَّةِ، فَأَيُّ
جُزْءٍ نَوَى فِيهِ أَجْزَأَهُ، (لِ) صَوْمِ (كُلِّ يَوْمٍ وَاجِبٍ) ،
لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ فَيَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ؛
لِأَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُ يَوْمٍ بِفَسَادِ صَوْمِ يَوْمٍ آخَرَ
كَالْقَضَاءِ.
(وَلَا تَسْقُطُ) النِّيَّةُ (بِسَهْوٍ أَوْ غَيْرِهِ) ، فَلَوْ تَرَكَهَا
جَهْلًا
(2/185)
أَوْ نِسْيَانًا أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ
مِنْ الْغُرُوبِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَصِحَّ صَوْمٌ لِعَدَمِ
النِّيَّةِ، (وَلَا يَضُرُّ لَوْ أَتَى بَعْدَهَا) ، أَيْ: النِّيَّةِ
(لَيْلًا بِمُنَافٍ لِلصَّوْمِ) لَا لِلنِّيَّةِ (مِنْ نَحْوِ جِمَاعٍ)
كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ
الْأَكْلَ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ، فَلَوْ بَطَلَتْ فَاتَ مَحِلُّهَا.
(وَيَتَّجِهُ) : أَنَّهُ لَا يَضُرُّ إتْيَانُهُ بِمُنَافٍ لِلصَّوْمِ إذَا
كَانَ مَا أَتَى بِهِ (غَيْرَ رِدَّةٍ) ، أَمَّا الرِّدَّةُ، وَالْعِيَاذُ
بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهَا تُبْطِلُ النِّيَّةَ، وَتُزِيلُ
التَّأَهُّلَ لِلْعِبَادَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا بُدَّ لِصِحَّتِهَا
بِإِتْيَانِهِ بِالْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ طُرُوءِ الْجُنُونِ عَلَى
مُبَيِّتِ النِّيَّةِ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ بِمُجَرَّدِ إفَاقَتِهِ مِنْ
الْجُنُونِ تَصِحُّ عِبَادَتُهُ؛ لِعَدَمِ صُنْعِهِ فِيهِ، فَلَا
يُفْتَقَرُ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَ (لَا) تُعْتَبَرُ (نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ) بِأَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ
فَرْضًا، (اكْتِفَاءً بِالتَّعْيِينِ) عَنْهُ، وَكَالصَّلَاةِ، (وَلَوْ
نَوَتْ حَائِضٌ صَوْمَ غَدٍ، وَتَعْرِفُ أَنَّهَا تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ
فَجْرٍ، صَحَّ) لِمَشَقَّةِ الْمُقَارَنَةِ، (وَمَنْ نَوَى) لَيْلَةَ
الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ: (إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ
فَفَرْضِيٌّ، وَإِلَّا فَنَفْلٌ) ، لَمْ يُجْزِئْهُ، (أَوْ) نَوَى (عَنْ
وَاجِبٍ) مِنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ (عَيَّنَهُ) ، أَيْ:
الْوَاجِبَ (بِنِيَّتِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ) إنْ بَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ
غَيْرِهِ لَا عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا عَنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ؛ لِعَدَمِ
جَزْمِهِ بِالنِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا، (إلَّا إنْ قَالَ لَيْلَةَ
الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ) : إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ،
فَفَرْضِيٌّ (وَإِلَّا، فَأَنَا مُفْطِرٌ) ، فَيُجْزِئُهُ إنْ بَانَ
أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ بَنَى عَلَى أَصْلٍ لَمْ يَثْبُتْ
زَوَالُهُ، وَلَا يَقْدَحُ تَرَدُّدُهُ، لِأَنَّهُ حُكْمُ صَوْمِهِ مَعَ
الْجَزْمِ.
(وَمَنْ قَالَ: أَنَا صَائِمٌ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ قَصَدَ
(2/186)
بِالْمَشِيئَةِ الشَّكَّ) بِأَنْ شَكَّ:
هَلْ يَصُومُ أَوْ لَا؟ (أَوْ) قَصَدَ بِهَا (التَّرَدُّدَ فِي الْعَزْمِ)
، أَوْ الْقَصْدُ بِأَنْ تَرَدَّدَ: هَلْ يَنْوِي الصَّوْمَ بَعْدَ ذَلِكَ
جَزْمًا أَوْ لَا؟ (فَسَدَتْ نِيَّتُهُ) ، لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِهَا،
(وَإِلَّا) يَقْصِدْ الشَّكَّ، وَلَا التَّرَدُّدَ، (فَلَا) تَفْسُدُ
نِيَّتُهُ (كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ) ، قَالَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ
قَصَدَ أَنَّ صَوْمَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ.
(وَكَقَوْلِهِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ) تَعَالَى (غَيْرَ
مُتَرَدِّدٍ فِي الْحَالِ) ، فَلَا يَفْسُدُ إيمَانُهُ بِذَلِكَ وَفِي
نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ ": يَحْرُمُ قَوْلُهُ: أَنَا مُسْلِمٌ إنْ
شَاءَ اللَّهُ.
(وَمَنْ خَطَرَ بِقَلْبِهِ لَيْلًا أَنَّهُ صَائِمٌ غَدًا فَقَدْ نَوَى،
وَكَذَا أَكْلٌ وَشُرْبٌ بِنِيَّةِ صَوْمٍ) لِأَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ
الْقَلْبُ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هُوَ حِينَ يَتَعَشَّى
يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصَّوْمَ، وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ
عَشَاءِ لَيْلَةِ الْعِيدِ، وَعَشَاءِ لَيَالِي رَمَضَانَ.
(وَلَا يَصِحُّ) صَوْمٌ (مِمَّنْ جُنَّ) كُلَّ النَّهَارِ (أَوْ أُغْمِيَ
عَلَيْهِ كُلَّ النَّهَارِ) ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الْإِمْسَاكُ مَعَ
النِّيَّةِ؛ لِحَدِيثِ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ
آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ
طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي» فَأَضَافَ التَّرْكَ إلَيْهِ، وَهُوَ
لَا يُضَافُ إلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ،
وَالنِّيَّةُ وَحْدَهَا لَا تُجْزِئُ.
(وَيَصِحُّ) الصَّوْمُ (مِمَّنْ أَفَاقَ) مِنْ جُنُونٍ أَوْ إغْمَاءٍ
(جُزْءًا مِنْهُ) ، أَيْ: النَّهَارِ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ (حَيْثُ
نَوَى لَيْلًا) ، لِصِحَّةِ إضَافَةِ التَّرْكِ إلَيْهِ إذَنْ، وَيُفَارِقُ
الْجُنُونُ الْحَيْضَ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ بَلْ الصِّحَّةَ،
وَيُحَرِّمُ فِعْلَهُ، (أَوْ نَامَ كُلَّهُ) ، أَيْ: النَّهَارِ، فَيَصِحُّ
صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ عَادَةٌ، وَلَا يَزُولُ بِهِ الْإِحْسَاسُ
بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى نُبِّهَ انْتَبَهَ.
(وَيَقْضِي مُغْمًى عَلَيْهِ) زَمَنَ إغْمَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ
وَمُدَّةُ الْإِغْمَاءِ لَا تَطُولُ غَالِبًا، وَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ
عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَ (لَا) يَقْضِي (مَجْنُونٌ) زَمَنَ
(2/187)
جُنُونِهِ، (لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ) سَوَاءٌ
كَانَ زَمَنُ الْجُنُونِ كُلَّ الشَّهْرِ أَوْ بَعْضَهُ.
(وَمَنْ) (نَوَى الْفِطْرَ) وَلَوْ سَاعَةً أُخْرَى بَطَلَ صَوْمُهُ، (أَوْ
تَرَدَّدَ فِيهِ) ، أَيْ: الْفِطْرِ بَطَلَ صَوْمُهُ (أَوْ) نَوَى (إنْ
وَجَدْتُ طَعَامًا أَكَلْتُ وَإِلَّا) أَجِدُ طَعَامًا (أَتْمَمْتُ، بَطَلَ
صَوْمُهُ) لِتَرَدُّدِهِ فِي النِّيَّةِ (كَصَلَاةٍ) ، أَيْ: كَمَا
تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِفَسْخِ النِّيَّةِ، إذْ اسْتِصْحَابُ حُكْمِهَا،
إلَى فَرَاغِ كُلِّ عِبَادَةٍ شَرْطٌ.
(وَصَحَّ أَنْ يَنْوِيَهُ) ، أَيْ: صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي نَوَى
الْإِفْطَارَ (فِيهِ نَفْلًا بِغَيْرِ رَمَضَانَ) نَصَّ عَلَيْهِ،
(لِصِحَّةِ نِيَّةِ صَوْمِ نَفْلٍ نَهَارًا، وَلَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ)
نَصًّا؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ
شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: إنِّي إذَنْ صَائِمٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فِي أَثْنَائِهِ؛
لِأَنَّ اعْتِبَارَ نِيَّةِ التَّبْيِيتِ لِنَفْلِ الصَّوْمِ تُقَلِّلُهُ،
وَتُفَوِّتُ كَثِيرًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبْدُو لَهُ
الصَّوْمُ بِالنَّهَارِ لِنَشَاطٍ يَبِينُ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَبِينُ لَهُ
فِي اللَّيْلِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يُسَامَحَ فِيهِ
بِذَلِكَ، كَمَا سُومِحَ فِي نَفْلِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الْقِيَامِ
وَالتَّوَجُّهِ فِي السَّفَرِ، وَفَارِقُ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي
أَوَّلِ نَفْلِ الصَّلَاةِ كَفَرْضِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْضِي إلَى
تَقْلِيلِهَا، وَلِأَنَّ جَعْلَهُ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ سَائِغٌ مُمْكِنٌ،
وَلَا كَذَلِكَ فِي الْفَرْضِ؛ لِوُجُوبِهِ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ.
(وَيُحْكَمُ بِالصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُثَابِ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِهَا)
، أَيْ: النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَصْدُ
الْقُرْبَةِ، فَلَا يَقَعُ عِبَادَةً؛ لِحَدِيثِ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ
امْرِئٍ مَا نَوَى» (فَيَصِحُّ تَطَوُّعٌ مِنْ) حَائِضٍ أَوْ نُفَسَاءَ
(طَهُرَتْ) فِي يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ بَقِيَّتِهِ، (أَوْ)
، أَيْ: يَصِحُّ تَطَوُّعُ كَافِرٍ (أَسْلَمَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَأْتِيَا) ،
أَيْ: الَّتِي طَهُرَتْ، وَاَلَّذِي أَسْلَمَ (فِيهِ) ، أَيْ: فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ (بِمُفْسِدٍ مِنْ نَحْوِ أَكْلٍ) كَشُرْبٍ وَجِمَاعٍ.
(وَمَنْ قَطَعَ نِيَّةَ صَوْمِ نَذْرٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ ثُمَّ
نَوَى صَوْمًا
(2/188)
نَفْلًا، صَحَّ) نَفْلُهُ، جَزَمَ بِهِ فِي
" الْفُرُوعِ " وَ " التَّنْقِيحِ " (وَحَرُمَ الْقَطْعُ) لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] (وَإِنْ قَلَبَ
صَائِمٌ نِيَّةً نَحْوَ نَذْرٍ) كَقَضَاءٍ (نَفْلًا، صَحَّ) كَقَلْبِ
فَرْضِ الصَّلَاةِ نَفْلًا، (وَكُرِهَ) لَهُ ذَلِكَ (لِغَيْرِ غَرَضٍ)
صَحِيحٍ كَالصَّلَاةِ، (وَكَذَا قَضَاءٌ) وَيَصِحُّ قَلْبُهُ نَفْلًا
(خِلَافًا لَهُ) ، أَيْ: لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ " (مُسْتَدِلًّا
بِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْلِ مَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ) قَبْلَ
الْقَضَاءِ، وَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ قَلْبِهِ نَفْلًا، قَالَ فِي "
الْإِنْصَافِ ": وَلَوْ قَلَبَ نِيَّةَ نَذْرٍ وَقَضَاءٍ إلَى النَّفْلِ،
كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضِ صَلَاةٍ إلَى نَفْلِهَا،
وَجَزَمَ بِصِحَّتِهِ فِي " الْفُرُوعِ " وَ " التَّنْقِيحِ " "
وَالْمُنْتَهَى " (وَمَنْ نَوَى خَارِجَ رَمَضَانَ قَضَاءً وَنَفْلًا أَوْ)
نَوَى قَضَاءً وَ (نَذْرًا) أَوْ نَوَى قَضَاءً (وَكَفَّارَةً فَ) هُوَ
(نَفْلٌ) ، جَزَمَ بِهِ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ " وَقَدَّمَهُ فِي "
الْفُرُوعِ " وَقَوْلُهُ: وَمَنْ نَوَى. . . إلَى آخِرِهِ: هَذَا مُخَالِفٌ
أَيْضًا لِمَا فِي " الْإِقْنَاعِ " فَلَوْ أَخَّرَ الْمُصَنِّفُ
الْإِشَارَةَ، أَوْ قَالَ: وَكَذَا مَنْ نَوَى خَارِجَ رَمَضَانَ. . . إلَى
آخِرِهِ، لَسَلِمَ مِنْ إهْمَالِ الْإِشَارَةِ لِلْخِلَافِ.
[بَابٌ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ]
(بَابٌ)
(مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ) فَقَطْ، وَمَا يُفْسِدُهُ (وَيُوجِبُ
الْكَفَّارَةَ) ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. (يَفْسُدُ) صَوْمٌ (بِ)
مُجَرَّدِ خُرُوجِ دَمِ (حَيْضٍ وَنِفَاسٍ وَرِدَّةٍ) ، سَوَاءٌ عَادَ إلَى
الْإِسْلَامِ فِي يَوْمِهِ، أَوْ لَمْ يَعُدْ، وَكَذَا كُلُّ عِبَادَةٍ
ارْتَدَّ فِي أَثْنَائِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] (وَ) كَمَا يَفْسُدُ (بِمَوْتٍ)
لِزَوَالِ أَهْلِيَّتِهِ، وَيُطْعِمُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَيَأْتِي.
(وَ) كَمَا
(2/189)
يَفْسُدُ (بِعَزْمٍ عَلَى فِطْرٍ)
وَتَقَدَّمَ.
(وَ) يَفْسُدُ أَيْضًا (بِعَمْدِ قَيْءٍ، وَلَوْ قَلَّ) سَوَاءٌ كَانَ
طَعَامًا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ
ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا
فَلْيَقْضِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: إسْنَادُهُ
كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.
(وَيَتَّجِهُ: لَا) يَفْسُدُ صَوْمٌ (بِ) تَعَمُّدِ قَيْءٍ (نَحْوِ
بَلْغَمٍ) كَدَمٍ وَمِرَارٍ وَنَحْوِهِ، (خِلَافًا لَهُ) ، أَيْ: لِصَاحِبِ
" الْإِقْنَاعِ " حَيْثُ صَرَّحَ بِفَسَادِ صَوْمِ مَنْ اسْتَقَاءَ فَقَاءَ
طَعَامًا أَوْ مِرَارًا أَوْ بَلْغَمًا أَوْ دَمًا أَوْ غَيْرَهُ وَلَوْ
قَلَّ.
انْتَهَى.
وَالْمَذْهَبُ مَا قَالَ صَاحِبُ " الْإِقْنَاعِ "، (أَوْ) أَيْ:
وَيَفْسُدُ صَوْمٌ (بِحَجْمٍ أَوْ احْتِجَامٍ خَاصَّةً) ، أَيْ: لَا
بِفَصْدٍ أَوْ تَشْرِيطٍ أَوْ بِإِخْرَاجِ دَمِ رُعَافٍ أَوْ غَيْرِهِ،
سَوَاءٌ كَانَ الْحَجْمُ فِي الْقَفَا أَوْ السَّاقِ نَصًّا (إنْ ظَهَرَ
دَمٌ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ
الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدَ عَشَرَ نَفْسًا، قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ
شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ،
قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ
ثَوْبَانَ وَشَدَّادٍ وَصَحَّحَهُمَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ، وَهُوَ
قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ،
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. -
مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَاوِيهِ كَانَ يُعِدُّ الْحِجَامَ
وَالْمَحَاجِمَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَإِذَا غَابَتْ احْتَجَمَ،
كَذَلِكَ رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ دَمٌ فَلَا
فِطْرَ.
(2/190)
(وَ) يَفْسُدُ صَوْمٌ (بِإِنْزَالِ
مَنِيٍّ) بِتَكْرَارِ نَظَرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْزَالٌ بِفِعْلٍ يَلْتَذُّ بِهِ،
وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، أَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِاللَّمْسِ، وَ
(لَا) يَفْسُدُ صَوْمٌ بِإِنْزَالِ (مَذْيٍ بِتَكْرَارِ نَظَرٍ) ؛
لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى إنْزَالِ الْمَنِيِّ لَا
يَصِحُّ؛ لِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ فِي الْأَحْكَامِ.
(وَ) يَفْسُدُ صَوْمٌ (بِإِنْزَالِهِمَا) أَيْ: الْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ
(بِاسْتِمْنَاءٍ) ، أَيْ: اسْتِدْعَاءٍ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا، (أَوْ
تَقْبِيلٍ أَوْ لَمْسٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ دُونَ فَرْجٍ عَمْدًا ذَاكِرًا
لِصَوْمِهِ فِي الْكُلِّ) ، أَيْ: كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، أَمَّا
الْإِمْنَاءُ، فَلِمُشَابَهَتِهِ الْإِمْنَاءَ بِجِمَاعٍ، لِأَنَّهُ
إنْزَالٌ بِمُبَاشَرَةٍ، وَأَمَّا الْإِمْذَاءُ فَلِتَخَلُّلِ الشَّهْوَةِ
لَهُ، وَخُرُوجِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ فَيُشْبِهُ الْمَنِيَّ، وَبِهَذَا
فَارَقَ الْبَوْلَ (وَلَوْ جَهِلَ التَّحْرِيمَ) ؛ لِعُمُومِ مَا سَبَقَ.
(وَكَذَا) يَفْسُدُ صَوْمٌ بِ (كُلِّ مَا يَصِلُ لِمُسَمًّى جَوْفٌ)
كَالدِّمَاغِ وَالْحَلْقِ وَالدُّبُرِ، وَبَاطِنِ الْفَرْجِ، (فَيُفْطِرُ
مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ، وَلَوْ رِيقًا أَخْرَجَهُ بَيْنَ شَفَتَيْهِ)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:
187] فَأَبَاحَهَا إلَى غَايَةٍ، وَهِيَ تَبَيُّنُ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ
بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُمَا إلَى اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ
الْفَاتِحَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا، (أَوْ اسْتَعَطَ) فِي أَنْفِهِ
بِدُهْنٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَوَصَلَ إلَى حَلْقِهِ أَوْ دِمَاغِهِ لِنَهْيِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّائِمَ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي
الِاسْتِنْشَاقِ، وَلِأَنَّ الدِّمَاغَ جَوْفٌ، وَالْوَاصِلُ إلَيْهِ
يُغَذِّيهِ، فَيُفْطِرُ كَجَوْفِ الْبَدَنِ.
(أَوْ احْتَقَنَ) فِي دُبُرِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَى
الْجَوْفِ، وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَالْمُعْتَادِ فِي الْوَاصِلِ،
وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَوْلَى مِنْ الِاسْتِعَاطِ.
(أَوْ دَاوَى الْجَائِفَةَ، فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ) لِإِيصَالِهِ إلَى
جَوْفِهِ شَيْئًا بِاخْتِيَارِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَلَ (أَوْ
اكْتَحَلَ بِمَا عَلِمَ وُصُولَهُ إلَى حَلْقِهِ مِنْ كُحْلٍ أَوْ صَبِرٍ
أَوْ قُطُورٍ أَوْ ذَرُورٍ أَوْ إثْمِدٍ) وَلَوْ يَسِيرًا، أَوْ غَيْرَ
مُطَيِّبٍ
(2/191)
يَتَحَقَّقُ وُصُولُهُ إلَى حَلْقِهِ،
نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَالَ:
لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْبُخَارِيُّ فِي "
تَارِيخِهِ " وَلِأَنَّ الْعَيْنَ مَنْفَذٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ،
وَكَالْوَاصِلِ مِنْ الْأَنْفِ.
(أَوْ وَجَدَ طَعْمَ عِلْكٍ مَضَغَهُ) بِحَلْقِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، (أَوْ)
وَجَدَ طَعْمَ (طَعَامٍ ذَاقَهُ بِحَلْقِهِ) فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ
دَلِيلُ وُصُولِ أَجْزَائِهِ إلَيْهِ، (أَوْ أَدْخَلَ إلَى جَوْفِهِ
شَيْئًا مِنْ مَائِعٍ وَغَيْرِهِ) سَوَاءٌ كَانَ مُغَذِّيًا أَوْ لَا،
كَحَصَاةٍ وَرَأْسِ سِكِّينٍ، وَقِطْعَةِ حَدِيدٍ وَرَصَاصٍ، مَنْ فَعَلَهُ
أَوْ فَعَلَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ، فَسَدَ صَوْمُهُ، (أَوْ قَطَرَ)
بِالتَّخْفِيفِ (فِي أُذُنِهِ مَا) ، أَيْ: شَيْئًا (وَصَلَ إلَى
دِمَاغِهِ) فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الدِّمَاغَ أَحَدُ الْجَوْفَيْنِ،
(وَكَذَا لَوْ وَصَلَ إلَى فَمِهِ نُخَامَةٌ مُطْلَقًا) ، أَيْ: سَوَاءٌ
كَانَتْ مِنْ دِمَاغِهِ أَوْ حَلْقِهِ أَوْ صَدْرِهِ، فَابْتَلَعَهَا،
فَسَدَ صَوْمُهُ؛ لِعَدَمِ مَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ مِنْهَا، بِخِلَافِ
الْبُصَاقِ، (أَوْ) وَصَلَ إلَى فَمِهِ (قَيْءٌ أَوْ قَلْسٌ) بِسُكُونِ
اللَّامِ، وَهُوَ: مَا خَرَجَ مِنْ الْحَلْقِ مِلْءَ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ،
وَلَيْسَ بِقَيْءٍ، فَإِنْ عَادَ فَهُوَ قَيْءٌ، قَالَهُ فِي " الْقَامُوسِ
"، (أَوْ تَنَجَّسَ رِيقُهُ فَابْتَلَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) ، أَيْ: مِنْ
النُّخَامَةِ أَوْ الْقَيْءِ وَنَحْوِهِ، أَوْ رِيقِهِ الْمُتَنَجِّسِ
فَسَدَ صَوْمُهُ.
(وَيَحْرُمُ بَلْعُهُ) شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ (وَلَوْ غَيْرَ صَائِمٍ
لِاسْتِقْذَارِهِ) فِي النُّخَامَةِ (أَوْ نَجَاسَةٍ) فِي غَيْرِهَا،
(وَلَكِنْ لَوْ بَصَقَ حَتَّى انْقَطَعَ أَثَرُ نَجَاسَةٍ، ثُمَّ بَلَعَ
رِيقَهُ، لَمْ يُفْطِرْ) ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَإِنْ بَصَقَهُ،
(2/192)
وَبَقِيَ فِي فَمِهِ نَجِسًا فَبَلَعَ
رِيقَهُ، فَإِنَّ تَحَقَّقَ أَنَّهُ بَلَعَ شَيْئًا نَجِسًا، أَفْطَرَ،
وَإِلَّا فَلَا.
(كَمَا لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا يُفْطِرُ نَاسِيًا) ؛ لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ،
فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
(وَيَجِبُ تَذْكِيرُهُ) ، أَيْ: النَّاسِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، (كَإِعْلَامِ جَاهِلٍ) أَنَّ
هَذَا الْفِعْلَ مِمَّا يُضْطَرُّ بِهِ فَاعِلُهُ، (أَوْ) فَعَلَ شَيْئًا
مِمَّا يُفْطِرُ (مُكْرَهًا) ؛ لِحَدِيثِ: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ
الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (أَوْ) كَانَ
(غَيْرَ قَاصِدٍ لِبَلْعِ نَحْوِ غُبَارٍ) كَذُبَابٍ طَارَ إلَى حَلْقِهِ؛
لِأَنَّ غَيْرَ الْقَاصِدِ عَاقِلٌ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِلَّا لَزِمَ
تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، (وَلَوْ بِوَجُورِ مُغْمًى عَلَيْهِ
مُعَالَجَةً) ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: «وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
(وَلَا) يَفْسُدُ صَوْمٌ (بِفَصْدٍ) لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِيهِ،
(وَ) لَا بِ (شَرْطٍ) ، وَلَا جَرْحٍ بَدَلَ حِجَامَةٍ لِلتَّدَاوِي، (وَ)
لَا يَفْسُدُ صَوْمٌ بِ (غِيبَةٍ وَسَمَاعِهَا) لِمَا يَأْتِي، (وَلَا)
يَفْسُدُ صَوْمُ غَيْرِ قَاصِدٍ لِلْفِعْلِ كَ (إنْ طَارَ إلَى حَلْقِهِ
ذُبَابٌ أَوْ غُبَارٌ أَوْ دُخَانٌ) أَوْ نَخْلٌ، نَحْوُ دَقِيقٍ
كَاكْتِيَالِهِ حَبًّا فَدَخَلَ الْغُبَارُ حَلْقَهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ
التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ ابْتَلَعَ الدُّخَانَ
قَصْدًا فَسَدَ صَوْمُهُ.
(أَوْ) ، أَيْ: وَلَا يَفْسُدُ صَوْمٌ إنْ (دَخَلَ فِي قُبُلٍ) -
كَإِحْلِيلٍ، (وَلَوْ) كَانَ الْقُبُلُ (لِأُنْثَى - غَيْرَ ذَكَرٍ
أَصْلِيٍّ كَإِصْبَعِ وَعُودٍ) ، وَذَكَرِ خُنْثَى مُشْكِلٍ بِلَا
إنْزَالٍ؛ لِأَنَّ مَسْلَكَ الذَّكَرِ مِنْ الْفَرْجِ فِي حُكْمِ
الظَّاهِرِ كَالْفَمِ لِوُجُوبِ غَسْلِ نَجَاسَةٍ، وَإِذَا ظَهَرَ
حَيْضُهَا إلَيْهِ فَسَدَ صَوْمُهَا، وَلَوْ لَمْ يُخْرِجْ، وَلَوْ كَانَ
فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهَا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ،
وَلَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ كَالدُّبُرِ، وَإِنَّمَا فَسَدَ صَوْمُهَا
بِإِيلَاجِ ذَكَرِ الرَّجُلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ جِمَاعًا لَا لِكَوْنِهِ
وُصُولًا إلَى بَاطِنٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَوْلَجَ أُصْبُعَهُ فِي
قُبُلِهَا فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهَا، وَالْجِمَاعُ يَفْسُدُ
لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْإِنْزَالِ، فَأُقِيمَ مَقَامَ الْإِنْزَالِ؛
وَلِهَذَا يَفْسُدُ
(2/193)
بِهِ صَوْمُ الرَّجُلِ وَإِنْ لَمْ
يُنْزِلْ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِهِ شَيْءٌ، أَفَادَهُ فِي "
الْمُسْتَوْعِبِ " وَ " الْفُرُوعِ "، وَقَالَا: وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا
أَنَّهُ لَوْ قَطَّرَ فِي إحْلِيلِهِ أَوْ غَيَّبَ فِيهِ شَيْئًا فَوَصَلَ
إلَى الْمَثَانَةِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ
نُفَطِّرْهُ بِذَلِكَ، وَالْمَثَانَةُ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ، فَمَسْلَكُ
الذَّكَرِ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ أَوْلَى
(خِلَافًا لَهُ) ، أَيْ: لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ " فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ
أَوْلَجَ بِغَيْرِ أَصْلِيٍّ فِي أَصْلِيٍّ فَسَدَ صَوْمُهَا فَقَطْ،
لِأَنَّ دَاخِلَ فَرْجِهَا فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ فَيَفْسُدُ بِإِدْخَالِ
غَيْرِ الْأَصْلِيِّ كَأُصْبُعِهَا وَأُصْبُعِ غَيْرِهَا، وَأَوْلَى، وَمَا
قَالَ صَاحِبُ " الْإِقْنَاعِ " أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي فِي
الْخِصَالِ.
الصَّوْمُ يَفْسُدُ بِوَاصِلٍ أَوْ بِخَارِجٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْوَطْءُ
فِي حُكْمِ الْوَاصِلِ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " إنَّمَا جَعَلَ الْقَاضِي
الْوَطْءَ فِي حُكْمِ الْوَاصِلِ؛ لِيُدْخِلَهُ تَحْتَ حَصْرِهِ
لِأَقْسَامِ الْفِطْرِ فِي الْقِسْمَيْنِ الْوَاصِلِ وَالْخَارِجِ لَا
لِعِلَّةِ الْوُصُولِ، وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِهِ صَوْمُ الرَّجُلِ، وَلَا
وَاصِلَ، وَلَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِكُلِّ وَاصِلٍ بِدَلِيلِ مَا وَصَلَ
مِنْ إحْلِيلِهِ إلَى الْمَثَانَةِ، وَلَا بِكُلِّ خَارِجٍ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِخُرُوجِ دَمِ الْفَصْدِ وَالْغَائِطِ وَالدَّمْعِ
وَالْعَرَقِ. انْتَهَى.
(وَيَتَّجِهُ) : لَا يَفْسُدُ صَوْمُ مَنْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرًا غَيْرَ
(مُتَّصِلٍ) ، إذْ الْمُنْفَصِلُ كَالزَّائِدِ وَأَوْلَى، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ.
(أَوْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ) لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ
مُبَاشَرَةٍ وَلَا نَظَرٍ، أَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ وَالْفِكْرَةَ
الْغَالِبَةَ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ وَالنَّظَرِ؛
لِأَنَّهُ دُونَهُمَا.
(أَوْ أَنْزَلَ) نَهَارًا (مِنْ وَطْءِ لَيْلٍ) لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَتَسَبَّبْ إلَيْهِ فِي النَّهَارِ (أَوْ) أَنْزَلَ (لَيْلًا مِنْ
مُبَاشَرَتِهِ نَهَارًا أَوْ احْتَلَمَ)
(2/194)
أَوْ أَنْزَلَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ،
كَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَنِيُّ أَوْ الْمَذْيُ لِمَرَضٍ، أَوْ
حِمْلٍ ثَقِيلٍ، أَوْ سَقَطَ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ، أَوْ لِهَيَجَانِ
شَهْوَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْهُ،
أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا فِطْرَ بِذَلِكَ كُلِّهِ.
(أَوْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ) لَمْ يُفْطِرْ وَلَوْ عَادَ شَيْءٌ مِنْ فِيهِ
إلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ، (أَوْ
أَصْبَحَ، وَفِي فِيهِ طَعَامٌ فَلَفَظَهُ) ، أَيْ: رَمَاهُ، لَمْ يُفْطِرْ
لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَقَّ عَلَيْهِ
لَفْظُهُ فَبَلَعَهُ مَعَ رِيقِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ أَوْ جَرَى رِيقُهُ
بِبَقِيَّةِ طَعَامٍ تَعَذَّرَ رَمْيُهُ، لَمْ يُفْطِرْ، (أَوْ لَطَّخَ
بَاطِنَ نَحْوِ قَدَمِهِ) بِشَيْءٍ (أَوْ) لَطَّخَ (ظَهْرَهُ بِشَيْءٍ
فَوَجَدَ طَعْمَهُ بِحَلْقِهِ) لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ الْقَدَمَ غَيْرُ
نَافِذٍ لِلْجَوْفِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ فَوَجَدَ طَعْمَهُ
فِي حَلْقِهِ، (أَوْ قَطَّرَ فِي إحْلِيلِهِ) أَوْ غَيَّبَ فِيهِ (مَا) ،
أَيْ: شَيْئًا (وَصَلَ لِمَثَانَتِهِ) لَمْ يُفْطِرْ نَصًّا، (أَوْ
تَمَضْمَضَ أَوْ اسْتَنْشَقَ) فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ بِلَا قَصْدٍ
لَمْ يُفْطِرْ.
(وَلَوْ) تَمَضْمَضَ أَوْ اسْتَنْشَقَ (فَوْقَ ثَلَاثٍ أَوْ بَالَغَ
فِيهِمَا أَوْ) كَانَا (لِنَجَاسَةٍ وَنَحْوِهَا) كَقَذَرٍ لَمْ يُفْطِرْ
لِحَدِيثِ عُمَرَ «لَمَّا سَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ مِنْ
إنَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ، قَالَ: فَفِيمَ»
وَلِوُصُولِهِ إلَى حَلْقِهِ بِلَا قَصْدٍ، أَشْبَهَ الْغُبَارَ
(وَكُرِهَا) ، أَيْ: التَّمَضْمُضُ وَالِاسْتِنْشَاقُ (عَبَثًا أَوْ
سَرَفًا أَوْ لِحَرٍّ أَوْ عَطَشٍ) نَصًّا، وَقَالَ: يَرُشُّ عَلَى
صَدْرِهِ أَعْجَبُ إلَيَّ (كَغَوْصِهِ) ، أَيْ: الصَّائِمِ (فِي مَاءٍ) ،
فَيُكْرَهُ إنْ كَانَ (لَا لِغُسْلٍ مَشْرُوعٍ أَوْ تَبَرُّدٍ) وَلَهُمَا
لَا يُكْرَهُ فَإِنْ غَاصَ فِي مَاءٍ (فَدَخَلَ) الْمَاءُ (حَلْقَهُ) لَمْ
يُفْطِرْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَلَا يُكْرَهُ غَسْلُ صَائِمٍ
لِحَرٍّ أَوْ عَطَشٍ لِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: «لَقَدْ رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُبُّ عَلَى
رَأْسِهِ الْمَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ الْعَطَشِ أَوْ الْحَرِّ» رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد، قَالَ " الْمَجْدُ ": وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةَ الضَّجَرِ
مِنْ الْعِبَادَةِ كَالْجُلُوسِ فِي الظِّلَالِ الْبَارِدَةِ، (أَوْ بَلَعَ
مَا بَقِيَ فِي فَمِهِ مِنْ أَجْزَاءِ مَاءٍ مَجَّهُ أَوْ مَا عَلَى
لِسَانِهِ مِنْ رِيقٍ أَخْرَجَهُ، وَلَوْ كَثُرَ) لَمْ يُفْطِرْ، (أَوْ)
بَلَعَ (مَا قَلَّ
(2/195)
مِنْهُ) ، أَيْ: الرِّيقِ (عَلَى نَحْوِ
دِرْهَمٍ) كَعُودٍ (أَوْ خَيْطٍ؛ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ انْفِصَالِهِ) ، أَيْ:
الرِّيقِ عَنْ نَحْوِ الدِّرْهَمِ وَلَوْ أَخْرَجَ الْخَيْطَ أَوْ نَحْوَ
الدِّرْهَمِ، وَأَعَادَهُ إلَى فَمِهِ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِمَشَقَّةِ
التَّحَرُّزِ مِنْهُ، (أَوْ أَكَلَ وَنَحْوَهُ) كَمَا لَوْ شَرِبَ أَوْ
جَامَعَ (شَاكًّا فِي طُلُوعِ فَجْرٍ) ثَانٍ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ طُلُوعَهُ
إذْ ذَاكَ، لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ.
(قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ: إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ يَأْكُلُ حَتَّى
يَتَيَقَّنَ طُلُوعَهُ) فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ نِيَّةَ
الصَّوْمِ، وَقَصْدُهُ غَيْرُ الْيَقِينِ، قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ":
وَالْمُرَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -: اعْتِقَادُ طُلُوعِهِ انْتَهَى.
وَفِي " الْإِقْنَاعِ " وَإِنْ أَكَلَ يَظُنُّ طُلُوعَهُ، فَبَانَ لَيْلًا،
وَلَمْ يُجَدِّدْ نِيَّةَ صَوْمِ الْوَاجِبِ، قَضَى، قَالَ فِي "
الْفُرُوعِ ": كَذَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ صَاحِبَ
" الْإِقْنَاعِ " جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ، فَفَرَّقَ
بَيْنَ الشَّكِّ وَالظَّنِّ، مَعَ أَنَّ صَاحِبَ " الْمُحَرَّرِ "
وَغَيْرَهُ جَعَلُوهُمَا هَا هُنَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، فَخَصُّوا
الْمَنْعَ بِالْيَقِينِ، وَاعْتَبَرُوهُ بِالشَّكِّ فِي نَجَاسَةِ طَاهِرٍ،
فَقَالُوا: إنَّ الظَّانَّ شَاكٌّ، فَلَا أَثَرَ لِلظَّنِّ، وَقَدْ
عَلِمْتَ أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، فَكَانَ عَلَيْهِ
أَنْ يَقُولَ: خِلَافًا لَهُ، (فَلَوْ قَالَ وَاحِدٌ) مِنْ مُجْتَهِدَيْنِ:
(طَلَعَ) الْفَجْرُ، (وَقَالَ آخَرُ) مِنْهُمَا: (لَمْ يَطْلُعْ)
الْفَجْرُ، (أَكَلَ) الْقَائِلُ بِعَدَمِ الطُّلُوعِ (حَتَّى يَتَّفِقَا) ،
إذْ الْأَكْلُ بِالِاجْتِهَادِ جَائِزٌ، (أَوْ أَكَلَ وَنَحْوَهُ ظَانًّا
غُرُوبَ شَمْسٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْحَالَ) ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ،
فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ يَقِينٌ يُزِيلَ ذَلِكَ
الظَّنَّ، كَمَا لَوْ صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ شَكَّ فِي
الْإِصَابَةِ بَعْدَ صَلَاتِهِ (وَإِنْ بَانَ) لِمَنْ أَكَلَ وَنَحْوَهُ
ظَانًّا (أَنَّهُ طَلَعَ) الْفَجْرُ قَضَى؛ لِتَبَيُّنِ خَطَئِهِ، (أَوْ
أَكَلَ وَنَحْوَهُ شَاكًّا فِي غُرُوبِ) شَمْسٍ (وَدَامَ شَكُّهُ) ، قَضَى؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى شَاكًّا فِي
دُخُولِ وَقْتٍ، فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ غَرَبَتْ،
فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِتَمَامِ صَوْمِهِ، (أَوْ) أَكَلَ وَنَحْوَهُ فِي
وَقْتٍ (يَعْتَقِدُهُ نَهَارًا، فَبَانَ لَيْلًا، وَلَمْ يُجَدِّدْ
(2/196)
نِيَّتَهُ لِ) صَوْمِ (وَاجِبٍ) ، قَضَى؛
لِانْقِطَاعِ النِّيَّةِ بِذَلِكَ، فَيَحْصُلُ الْإِمْسَاكُ بِلَا نِيَّةٍ،
فَلَا يُجْزِئُهُ، قَالَ شَكَّ أَوْ ظَنَّهُ لَيْلًا، فَلَا قَضَاءَ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ نِيَّةَ الصَّوْمِ غَيْرُ الْيَقِينِ؛
لِأَنَّ الظَّانَّ شَاكٌّ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، (أَوْ) أَكَلَ وَنَحْوُهُ
فِي وَقْتٍ يَعْتَقِدُهُ (لَيْلًا فَبَانَ نَهَارًا) فِي أَوَّلِ الصَّوْمِ
أَوْ آخِرِهِ، قَضَى؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَمَرَ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ
إلَى اللَّيْلِ، وَلَمْ يُتِمَّ.
وَعَنْ أَسْمَاءَ: «أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتْ
الشَّمْسُ، قِيلَ لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ - وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ -:
أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالْبُخَارِيُّ.
(أَوْ أَكَلَ) وَنَحْوَهُ (نَاسِيًا، فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ)
بِذَلِكَ، (فَأَكَلَ) وَنَحْوَهُ (عَمْدًا قَضَى فِي الْكُلِّ) ، أَيْ:
كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ.
[فَرْعٌ مَا يَسُنّ لِمَنْ لَزِمَهُ غُسْلٌ فِي رَمَضَان]
(فَرْعٌ: سُنَّ لِمَنْ لَزِمَهُ غُسْلٌ لَيْلًا مِنْ نَحْوِ جُنُبٍ
وَحَائِضٍ) وَنُفَسَاءَ انْقَطَعَ دَمُهَا وَكَافِرٍ أَسْلَمَ (أَنْ
يَغْتَسِلَ قَبْلَ طُلُوعِ فَجْرٍ) ثَانٍ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ،
وَاحْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ (فَلَوْ لَمْ يَغْتَسِلْ مُطْلَقًا) لَا قَبْلَ
الْفَجْرِ وَلَا بَعْدَهُ، (صَحَّ صَوْمُهُ، وَأَثِمَ مِنْ حَيْثُ)
تَأْخِيرُ. (الصَّلَاةِ) عَنْ وَقْتِهَا.
[فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ]
(فَصْلٌ) فِيمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ (وَإِنْ جَامَعَ مُكَلَّفٌ نَهَارَ
رَمَضَانَ لِغَيْرِ شَبَقٍ وَعُذْرٍ مُبِيحٍ لِفِطْرٍ كَمَرَضٍ) يَنْتَفِعُ
بِالْوَطْءِ فِيهِ، (وَسَفَرٍ وَلَوْ اعْتَقَدَهُ لَيْلًا) ، فَبَانَ
بِخِلَافِهِ (أَوْ) وَطِئَ (فِي يَوْمٍ لَزِمَهُ إمْسَاكُهُ بَعْدَ
لُزُومِهِ) بِثُبُوتِ رُؤْيَةٍ نَهَارًا، أَوْ عَدَمِ تَبْيِيتِ نِيَّةٍ؛
لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَعَاطِي مَا يُنَافِي الصَّوْمَ، (أَوْ)
جَامَعَ فِي يَوْمٍ (رَأَى الْهِلَالَ لَيْلَتَهُ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ)
، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
(2/197)
وَالْكَفَّارَةُ، (أَوْ) كَانَ (مُكْرَهًا)
؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَنْتَشِرُ إلَّا عَنْ شَهْوَةٍ، فَكَانَ كَغَيْرِ
الْمُكْرَهِ، (أَوْ نَاسِيًا) أَوْ مُخْطِئًا، كَأَنْ اعْتَقَدَهُ لَيْلًا
فَبَانَ نَهَارًا، (أَوْ نَائِمًا أَوْ لَمْ يُنْزِلْ) ، وَكَذَا لَوْ
جَامَعَ مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ،
ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، صَرَّحَ بِهِ فِي "
الْمُغْنِي "، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ
يَسْتَفْصِلْ الْمَوَاقِعَ عَنْ حَالِهِ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ يُفْسِدُ
الصَّوْمَ، فَأَفْسَدَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ
(بِذَكَرٍ) - مُتَعَلِّقٌ بِ جَامَعَ - (أَصْلِيٍّ فِي فَرْجٍ أَصْلِيٍّ،
وَلَوْ) كَانَ الْفَرْجُ دُبُرًا أَوْ (لِمَيْتَةٍ أَوْ) لِ (بَهِيمَةٍ) ؛
لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ، (فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ)
لِجِمَاعِهِ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:
«بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
مَالَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي، وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تَجِدُ
رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ
سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، فَمَكَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ:
الْمِكْتَلُ - فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْ
هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ ، فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ
أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ
أَهْلَ بَيْتِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: "
وَتَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ ".
(وَإِنْ جَامَعَ دُونَ فَرْجٍ، وَلَوْ عَمْدًا) ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
فَقَطْ إنْ أَمْنَى أَوْ مَذَى، (أَوْ) جَامَعَ (بِغَيْرِ) فَرْجٍ
(أَصْلِيٍّ) كَفَرْجِ الْخُنْثَى (فِي) فَرْجٍ (أَصْلِيٍّ وَعَكْسُهُ) ،
كَمَا لَوْ جَامَعَ بِفَرْجٍ أَصْلِيٍّ فِي فَرْجٍ غَيْرِ أَصْلِيٍّ، (فَ)
عَلَيْهِ (الْقَضَاءُ، فَقَطْ إنْ أَمْنَى أَوْ مَذَى) وَمِثْلُهُ لَوْ
جَامَعَ بِفَرْجٍ
(2/198)
غَيْرِ أَصْلِيٍّ فِي فَرْجٍ غَيْرِ
أَصْلِيٍّ، كَمَا لَوْ جَامَعَ خُنْثَى مُشْكِلٌ خُنْثَى مُشْكِلًا، فَلَا
كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَفْسُدْ صَوْمُ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا؛ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ إلَّا أَنْ يُنْزِلَ أَوْ يُمْذِيَ
كَالْغُسْلِ، (وَمِثْلُهُ) ، أَيْ. مِثْلُ الْجِمَاعِ دُونَ الْفَرْجِ
وَنَحْوِهِ فِي الْحُكْمِ: (الْمُسَاحَقَةُ مِنْ مَجْبُوبٍ) ، أَيْ:
مَقْطُوعٍ ذَكَرُهُ أَوْ مَمْسُوحٍ، (أَوْ) الْمُسَاحَقَةُ مِنْ (امْرَأَةٍ
لِامْرَأَةٍ) فِي أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُ مَنْ أَمْنَى مِنْهُمَا أَوْ
مَذَى، وَلَا كَفَّارَةَ صَحَّحَهُ فِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ "
وَنَقَلَهُ فِي " الْإِنْصَافِ " عَنْ الْأَصْحَابِ فِي مَسْأَلَةِ
الْمَجْبُوبِ، (خِلَافًا " لِلْمُنْتَهَى ") حَيْثُ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ
وَالْكَفَّارَةَ بِالْإِنْزَالِ بِالْمُسَاحَقَةِ، وَمَا قَالَهُ صَاحِبُ "
الْمُنْتَهَى " هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلْأَصْحَابِ أَصَحُّهُمَا: لَا
كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي
مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ.
(وَيَتَّجِهُ) بِ (احْتِمَالٍ) قَوِيٍّ: (لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ جَامَعَ
بِحَائِلٍ وَلَمْ يُنْزِلْ) ، أَوْ يُمْذِ، (كَ) مَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ (غُسْلٌ) ، وَهُوَ اتِّجَاهٌ حَسَنٌ.
(2/199)
(وَالنَّزْعُ جِمَاعٌ) ؛ لِأَنَّهُ
يَتَلَذَّذُ بِهِ كَالْإِيلَاجِ، (فَيَلْزَمَانِ) ، أَيْ: الْقَضَاءُ
وَالْكَفَّارَةُ (مَنْ نَزَعَ طُلُوعَ فَجْرٍ) وَأَمَّا مَنْ حَلَفَ لَا
يُجَامِعُ، فَنَزَعَ، فَلَا حِنْثَ؛ لِتَعَلُّقِ الْيَمِينِ
بِالْمُسْتَقْبَلِ أَوَّلَ أَوْقَاتِ إمْكَانِهِ.
(وَامْرَأَةٌ طَاوَعَتْ غَيْرَ جَاهِلَةٍ) الْحُكْمَ، (أَوْ) غَيْرَ
(نَاسِيَةٍ) الصَّوْمَ (كَرَجُلٍ) فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ؛
لِأَنَّهَا هَتَكَتْ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ مُطَاوِعَةً،
فَأَشْبَهَتْ الرَّجُلَ، وَلِأَنَّ تَمْكِينَهَا كَفِعْلِ الرَّجُلِ فِي
حَدِّ الزِّنَا فَفِي الْكَفَّارَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُدْرَأُ
بِالشُّبْهَةِ، (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ جَاهِلَةً أَوْ
نَاسِيَةً، (فَ) عَلَيْهَا (الْقَضَاءُ فَقَطْ) دُونَ الْكَفَّارَةِ،
لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمُضْطَرَّاتِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ
وَالْمَرْأَةُ كَالْأَكْلِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُكْرَهَةِ.
(وَتَدْفَعُهُ) الْمُكْرَهَةُ، زَوْجَةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً،
(بِالْأَسْهَلِ، فَالْأَسْهَلِ، وَلَوْ أَدَّى) ذَلِكَ (لِقَتْلِهِ)
كَالْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ،
وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي " الْفُرُوعِ ".
(وَيَتَّجِهُ: تَفْصِيلُ) غُلَامٍ (مَفْعُولٍ بِهِ، كَ) تَفْصِيلِ
(امْرَأَةٍ) فِي الْمُطَاوَعَةِ وَالْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ، وَضِدِّ
ذَلِكَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَلَا كَفَّارَةَ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ نَهَارَ رَمَضَانَ مِنْ أَكْلٍ
وَنَحْوِهِ عَمْدًا) كَمُبَاشَرَةٍ أَوْ قُبْلَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ مَعَ
إنْزَالٍ، وَلَا بِالْجِمَاعِ لَيْلًا، أَوْ فِي قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ
كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ أَنَّمَا وَرَدَ بِالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ،
وَلَيْسَ غَيْرُهُ فِي مَعْنَاهُ، لِاحْتِرَامِهِ وَتَعْيِينِهِ لِهَذِهِ
الْعِبَادَةِ، فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ.
(وَمَنْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ، ثُمَّ) جَامَعَ (فِي) يَوْمٍ (آخَرَ،
فَلِكُلِّ)
(2/200)
جِمَاعٍ (كَفَّارَةٌ) ، لِأَنَّ كُلَّ
يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِفَسَادِهِ لَوْ
انْفَرَدَ، فَإِذَا فَسَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، وَجَبَ
كَفَّارَتَانِ، كَحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مِنْ
رَمَضَانَيْنِ، (كَمَنْ أَعَادَهُ) ، أَيْ: الْجِمَاعَ (فِي يَوْمِهِ
بَعْدَ أَنَّ كَفَّرَ) ؛ لِجِمَاعِهِ الْأَوَّلِ، فَتَلْزَمُهُ ثَانِيَةً
نَصًّا، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: قُلْتُ: فَإِنْ أَخْرَجَ بَعْضَ
الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ وَطِئَ فِي يَوْمِهِ، دَخَلَتْ بَقِيَّتُهُ الْأُولَى
فِي الثَّانِيَةِ، وَكَذَا مَنْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ إذَا جَامَعَ
وَكَفَّرَ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهِ، لَزِمَتْهُ أُخْرَى، (أَوْ وَطِئَ فِي
حَيْضَةٍ بَعْدَهُ) ، أَيْ: التَّكْفِيرِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ
لِلْوَطْءِ الثَّانِي وَ (لَا) يُكَفِّرُ ثَانِيًا إذَا وَطِئَ فِي ذَلِكَ
الْحَيْضِ (قَبْلَهُ) ، أَيْ: قَبْلَ التَّكْفِيرِ؛ لِتَدَاخُلِ
الْكَفَّارَاتِ، (إلَّا) إنْ وَطِئَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ (بِحَيْضَةٍ
ثَانِيَةٍ) ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَّارَتَيْنِ، لِأَنَّ لِكُلِّ
حَيْضَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا.
(وَلَوْ حَاضَتْ) الْمَرْأَةُ وَهِيَ مُجَامَعَةٌ، (فَنَزَعَ) فِي
الْحَالِ، (لَزِمَتْهُ) الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ النَّزْعَ جِمَاعٌ،
وَتَقَدَّمَ.
(وَلَا تَسْقُطُ) كَفَّارَةُ وَطْءٍ عَنْ امْرَأَةٍ (إنْ حَاضَتْ
الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ) فِي يَوْمٍ بَعْدَ تَمْكِينِهَا طَاهِرًا،
(أَوْ مَرِضَا) ، أَيْ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ بَعْدَ الْجِمَاعِ حَالَ
الصِّحَّةِ، (أَوْ جُنَّا أَوْ سَافَرَا بَعْدَ) وَطْءٍ مُحَرَّمٍ (فِي
يَوْمِهِ) ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُمَا الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْأَلْ الْأَعْرَابِيَّ: هَلْ طَرَأَ
لَهُ بَعْدَ وَطْئِهِ مَرَضٌ أَوْ غَيْرُهُ، بَلْ أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ لَسَأَلَهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَفْسَدَ
صَوْمًا وَاجِبًا مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَقَرَّتْ كَفَّارَتُهُ، كَمَا لَوْ
لَمْ يَطْرَأْ الْعُذْرُ، لَا يُقَالُ: تَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ
مُسْتَحَقٍّ عِنْدَ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الصَّادِقَ لَوْ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ سَيَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ، لَمْ يَجُزْ الْفِطْرُ.
(وَهِيَ) ، أَيْ: كَفَّارَةُ وَطْءِ نَهَارٍ: (عِتْقُ رَقَبَةٍ) مُؤْمِنَةٍ
سَلِيمَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الظِّهَارِ، (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ)
الرَّقَبَةَ، أَوْ وَجَدَهَا تُبَاعُ وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ، (فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) لِلْخَبَرِ، (وَيَتَعَيَّنُ صَوْمٌ لِقِنٍّ)
ذَكَرٍ
(2/201)
وَطِئَ مُطْلَقًا، أَوْ أُنْثَى وُطِئَتْ
مُطَاوِعَةً، وَلَوْ مُدَبَّرَةً، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لِعَدَمِ الْمَالِ.
وَ (لَا) يَتَعَيَّنُ (عِتْقٌ لِ) حُرٍّ (مُعْسِرٍ أَيْسَرَ، وَلَوْ) كَانَ
إيسَارُهُ (قَبْلَ شُرُوعٍ فِي صَوْمٍ) ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي
الْكَفَّارَاتِ وَقْتُ الْوُجُوبِ، وَيَأْتِي فِي الظِّهَارِ، (خِلَافًا
لَهُ) ، أَيْ: لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ " (هُنَا) ، أَيْ: فِي هَذَا
الْمَحَلِّ، حَيْثُ اعْتَمَدَ تَبَعًا لِلشَّارِحِ، وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى
" أَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَى الْعِتْقِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ،
يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ، وَالصَّحِيحُ مَا
قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى الْعِتْقِ بَعْدَ
الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ إلَى الْعِتْقِ
نَصًّا إلَّا أَنْ يَشَاءَ فَيُجْزِئُهُ، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ)
الصَّوْمَ، (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) لِلْخَبَرِ؛ لِكُلِّ
مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا
يُجْزِئُ فِي فِطْرَةٍ، لِمَا يَأْتِي فِي الظِّهَارِ، (فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ) مَا يُطْعِمُهُ لِلْمَسَاكِينِ، (سَقَطَتْ، كَكَفَّارَةِ حَيْضٍ
وَفِطْرَةٍ) ، لِظَاهِرِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ أَهْلَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ
بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى، وَلَا بَيَّنَ لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ،
(بِخِلَافِ كَفَّارَةِ حَجٍّ) ، أَيْ: فِدْيَةٍ تَجِبُ فِيهِ، (وَ)
كَفَّارَةِ (ظِهَارٍ، وَ) كَفَّارَةِ (يَمِينٍ) بِاَللَّهِ، (وَ)
كَفَّارَةِ (نَذْرٍ، وَ) كَفَّارَةِ (قَتْلٍ) ؛ لِعُمُومِ أَدِلَّتِهَا
لِلْوُجُوبِ حَالَ الْإِعْسَارِ، وَلِأَنَّهُ الْقِيَاسُ خُولِفَ فِي
رَمَضَانَ لِلنَّصِّ، قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: لَيْسَ الصَّوْمُ
سَبَبًا، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ إلَّا بِالصَّوْمِ وَالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ
لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا، (وَ) كَ (إطْعَامِ عَاجِزٍ عَنْ صَوْمٍ،
وَمُؤَخِّرٍ قَضَاءَ رَمَضَانَ لِ) رَمَضَانَ (آخَرَ،) (وَيَسْقُطُ
الْجَمِيعُ) ، أَيْ: كَفَّارَةُ وَطْءِ نَهَارِ رَمَضَانَ، وَحَجٍّ
وَظِهَارٍ وَيَمِينٍ، وَنَذْرٍ وَقَتْلٍ وَإِطْعَامِ عَاجِزٍ عَنْ صَوْمٍ،
وَمُؤَخِّرٍ الْقَضَاءَ (بِتَكْفِيرِ غَيْرِهِ) بِعِتْقٍ أَوْ إطْعَامٍ
(عَنْهُ بِإِذْنِهِ) ؛ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ كَإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ عَنْهُ
بِإِذْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْهُ فَلَا؛ لِعَدَمِ النِّيَّةِ، (وَلَهُ)
، أَيْ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (إنْ مَلَكَ) ، أَيْ:
مَلَّكَهُ غَيْرُهُ (كَفَّارَةَ جِمَاعِ رَمَضَانَ
(2/202)
إخْرَاجُهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَ) لَهُ
(أَكْلُهَا إنْ كَانَ أَهْلًا) لِأَكْلِهَا لِلْخَبَرِ.
(فَرْعٌ: لَا يَحْرُمُ وَطْءٌ قَبْلَ كَفَّارَةِ) رَمَضَانَ، (وَلَا فِي
لَيَالِي صِيَامِهَا) أَيْ: الْكَفَّارَةِ، ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ " وَ
" التَّلْخِيصِ " كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ، (عَكْسُ كَفَّارَةِ ظِهَارٍ) ،
وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ.
[بَابٌ مَا يُكْرَهُ وَيُسَنُّ للصائم]
(بَابٌ) (مَا يُكْرَهُ وَيُسَنُّ بِصَوْمٍ، وَحُكْمُ الْقَضَاءِ) لِصَوْمِ
رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ. (كُرِهَ لِصَائِمٍ) فَرْضًا أَوْ نَفْلًا (أَنْ
يَجْمَعَ رِيقَهُ فَيَبْلَعَهُ) ، خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ
يُفْطِرُ بِهِ، وَلَا يُفْطِرُ بِبَلْعِهِ مَجْمُوعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ
يَجْمَعْهُ وَابْتَلَعَهُ قَصْدًا لَا يُفْطِرُ إجْمَاعًا، فَكَذَا إذَا
جَمَعَهُ.
(وَ) يُكْرَهُ لَهُ (ذَوْقُ طَعَامٍ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَصِلَ
إلَى حَلْقِهِ فَيُفْطِرَهُ، قَالَ أَحْمَدُ: أُحِبُّ أَنْ يَجْتَنِبَ
ذَوْقَ الطَّعَامِ، فَإِنْ فَعَلَ لَا بَأْسَ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ
وَأَطْلَقُوا (لِغَيْرِ حَاجَةٍ) إلَى ذَوْقِهِ، أَمَّا لِلْحَاجَةِ فَلَا
بَأْسَ بِهِ، ذَكَرَ الْمَجْدُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ الْمَنْصُوصُ عَنْ
أَحْمَدَ.
(وَ) كُرِهَ لَهُ (تَرْكُ بَقِيَّةِ) طَعَامٍ (بَيْنَ أَسْنَانِهِ)
خَشْيَةَ خُرُوجِهِ، فَيَجْرِي بِهِ رِيقُهُ إلَى جَوْفِهِ.
(وَ) كُرِهَ لَهُ (شَمُّ مَا لَا يُؤْمَنُ) مِنْ شَمِّهِ (أَنْ يَجْذِبَهُ)
، أَيْ: يَجْذِبَ جِرْمَ (نَفَسٍ) لِحَلْقِ شَامٍ (كَسَحِيقِ مِسْكٍ، وَ)
سَحِيقِ (كَافُورٍ، وَ) كَ (دُهْنٍ) وَبَخُورٍ وَنَحْوِ عُودٍ خَشْيَةَ
وُصُولِهِ مَعَ نَفَسِهِ إلَى جَوْفِهِ.
وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ شَمُّ نَحْوِ وَرْدٍ وَقِطَعِ
عَنْبَرٍ وَمِسْكٍ غَيْرِ مَسْحُوقٍ.
(وَ) كُرِهَ لَهُ (قُبْلَةٌ، وَدَوَاعِي وَطْءٍ) كَمُعَانَقَةٍ وَلَمْسٍ،
وَتَكْرَارِ نَظَرٍ لِمُبَاحَةٍ، وَالْمُرَادُ بِالْقُبْلَةِ: قُبْلَةُ
التَّلَذُّذِ، لَا قُبْلَةُ التَّرَحُّمِ وَالتَّوَدُّدِ، فَأَمَّا مَنْ
تُحْرَمُ قُبْلَتُهُ فِي الْفِطْرِ فَفِي الصَّوْمِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا،
(لِمَنْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ) ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ الْقُبْلَةِ شَابًّا، وَرَخَّصَ
لِشَيْخٍ» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ سَعْدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي
الدَّرْدَاءِ، وَكَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، فَإِنْ
لَمْ تُحَرِّكْ شَهْوَتَهُ لَمْ تُكْرَهْ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّهُ
(2/203)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«كَانَ يُقَبِّلُ، وَهُوَ صَائِمٌ؛ لَمَّا كَانَ مَالِكًا لِإِرْبِهِ»
وَغَيْرُ ذِي الشَّهْوَةِ بِمَعْنَاهُ.
(وَ) كُرِهَ لَهُ (مَضْغُ عِلْكٍ لَا يَتَحَلَّلُ) مِنْهُ أَجْزَاءٌ؛
لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الرِّيقَ وَيَحْلُبُ الْفَمَ، وَيُورِثُ الْعَطَشَ،
فَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّهُ وَاصِلٌ
أَجْنَبِيٌّ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ
(وَحَرُمَ) مَضْغُ (مَا يَتَحَلَّلُ) مِنْهُ أَجْزَاءٌ مِنْ عِلْكٍ
وَغَيْرِهِ، قَالَ فِي " الْمُبْدِعِ ": إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ
قَاصِدًا لِإِيصَالِ شَيْءٍ خَارِجٍ إلَى جَوْفِهِ مَعَ الصَّوْمِ، وَهُوَ
حَرَامٌ، (وَلَوْ لَمْ يَبْلَعْ رِيقَهُ) إقَامَةً لِلْمَظِنَّةِ مَقَامَ
الْمَئِنَّةِ.
(وَ) حَرُمَ (نَحْوُ قُبْلَةٍ) كَمُعَانَقَةٍ وَلَمْسٍ وَتَكْرَارِ نَظَرٍ
(لِمَنْ ظَنَّ إنْزَالًا) ، بِغَيْرِ خِلَافٍ، ذَكَرَهُ الْمَجْدُ
وَغَيْرُهُ.
(وَ) حَرُمَ (تَعَاطِي كُلِّ مُفْطِرٍ) إجْمَاعًا.
(وَيَجِبُ) مُطْلَقًا (اجْتِنَابُ كَذِبٍ) مُحَرَّمٍ، أَمَّا الْكَذِبُ
لِتَخْلِيصِ مَعْصُومٍ مِنْ قَتْلٍ فَوَاجِبٌ، وَلِإِصْلَاحٍ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ فَمُبَاحٌ، (وَغِيبَةٍ) مُحَرَّمَةٍ، أَمَّا الْغِيبَةُ فِي
حَقِّ ذَوِي الْبِدَعِ وَالْمُتَجَاهَرِينَ بِالْمَعَاصِي، وَلِغَرَضٍ
صَحِيحٍ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِهَا كَالتَّظَلُّمِ،
وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّحْذِيرِ
وَالتَّعْرِيفِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ إلَّا بِهِ، فَمُبَاحَةٌ، (وَنَمِيمَةٍ)
، وَهِيَ: ذِكْرُ الْخَبَرِ عَلَى وَجْهِ إفْسَادِ الْمَوَدَّةِ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: هِيَ نَقْلُ كَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ إلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ
الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ، (وَشَتْمٍ) ، أَيْ: سَبٍّ (وَفُحْشٍ) ، قَالَ
ابْنُ الْأَثِيرِ: كُلُّ مَا اشْتَدَّ قُبْحُهُ مِنْ الذُّنُوبِ
وَالْمَعَاصِي (وَنَحْوِهِ) كُلَّ وَقْتٍ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:
«لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ،
يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، وَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ
هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ
فِي أَعْرَاضِهِمْ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
(وَ) وُجُوبُ اجْتِنَابِ ذَلِكَ (فِي
(2/204)
رَمَضَانَ، وَ) فِي كُلِّ (مَكَانٍ
فَاضِلٍ) كَالْحَرَمَيْنِ (آكَدُ) ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ
لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ
فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمَعْنَاهُ الزَّجْرُ وَالتَّحْذِيرُ، وَلِأَنَّ الْحَسَنَاتِ تَتَضَاعَفُ
بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الْفَاضِلَيْنِ، وَكَذَا السَّيِّئَاتُ عَلَى
مَا يَأْتِي.
(قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ) : يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ (يَتَعَاهَدَ
صَوْمَهُ مِنْ لِسَانِهِ، وَلَا يُمَارِيَ) ، أَيْ: يُجَادِلَ (وَيَصُونَ
صَوْمَهُ) وَلَا يَغْتَابَ أَحَدًا، أَيْ: يَذْكُرَهُ بِمَا يَكْرَهُ،
وَبِهَذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ الْغِيبَةُ فِي بَهْتٍ، وَالْغِيبَةُ
مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَتَقَدَّمَ.
(وَأَسْقَطَ أَبُو الْفَرَجِ) عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْجَوْزِيِّ
(ثَوَابَهُ) ، أَيْ: الصَّوْمِ (بِغِيبَةٍ وَنَحْوِهَا) كَنَمِيمَةٍ،
(وَلَا فِطْرَ) بِذَلِكَ، (قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ: لَوْ كَانَتْ
الْغِيبَةُ تُفْطِرُ مَا كَانَ لَنَا صَوْمٌ) .
تَتِمَّةٌ: لَا يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يَجْرَحُ بِهِ
صَوْمَهُ، فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا إذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي
الْمَسَاجِدِ، وَقَالُوا: نَحْفَظُ صَوْمَنَا، وَلَا نَغْتَابُ أَحَدًا
فَيَجِبُ كَفُّ لِسَانِ الصَّائِمِ عَمَّا يَحْرُمُ.
[فَصْلٌ مَا يَسُنّ للصائم]
(فَصْلٌ) (وَسُنَّ لَهُ) ، أَيْ: الصَّائِمِ (كَثْرَةُ قِرَاءَةٍ)
لِتُضَاعَفَ الْحَسَنَاتُ بِهِ، قَالَ فِي " الْمُبْدِعِ ": كَانَ مَالِكٌ
يَتْرُكُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيُقْبِلُ عَلَى
تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقْرَأُ سِتِّينَ خَتْمَةً،
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
تَسْبِيحَةٍ فِيمَا سِوَاهُ.
(وَ) كَثْرَةُ (ذِكْرٍ وَصَدَقَةٍ، وَكَفِّ لِسَانِهِ عَمَّا يُكْرَهُ،
كَحَدِيثِ يَأْمُرُ دُنْيَا بِمَقَابِرَ) قَالَ فِي " شَرْحِ الْإِقْنَاعِ
": قُلْتُ: وَعَنْ الْمُبَاحِ أَيْضًا لِحَدِيثِ: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ
الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» .
(2/205)
(وَ) سُنَّ (قَوْلُهُ) ، أَيْ: الصَّائِمِ
(جَهْرًا) بِرَمَضَانَ (إنْ شُتِمَ) ؛ لِلْأَمْنِ مِنْ الرِّيَاءِ، وَفِيهِ
زَجْرُ مَنْ شَاتَمَهُ، لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ: (إنِّي صَائِمٌ) (وَ) إنْ
شُتِمَ (بِغَيْرِ رَمَضَانَ) ، سُنَّ قَوْلُهُ ذَلِكَ (سِرًّا يَزْجُرُ
نَفْسَهُ بِذَلِكَ) خَوْفَ الرِّيَاءِ.
(وَ) سُنَّ (تَعْجِيلُ فِطْرٍ إذَا تَحَقَّقَ غُرُوبٌ) ؛ لِحَدِيثِ سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
(وَيَكْفِي) فِي الْغُرُوبِ (خَبَرُ وَاحِدٍ) ثِقَةٍ كَالْقِبْلَةِ،
(وَيُبَاحُ) فِطْرُهُ (إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ) غُرُوبُ شَمْسٍ، إقَامَةً
لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ، وَلَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ حَتَّى
يَتَيَقَّنَ، وَالْفِطْرُ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ أَفْضَلُ؛ لِحَدِيثِ
أَنَسٍ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حَتَّى يُفْطِرَ، وَلَوْ عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ»
رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
(وَيَحْرُمُ) فِطْرُهُ (مَعَ شَكِّهِ) فِي غُرُوبِ شَمْسٍ، فَإِنْ
أَفْطَرَ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ.
(وَكُرِهَ جِمَاعٌ مَعَ شَكٍّ فِي طُلُوعِ فَجْرٍ ثَانٍ) نَصًّا؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ مِمَّا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الصَّوْمِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ
لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَ (لَا) يُكْرَهُ (سَحُورٌ) إذَنْ نَصًّا، (وَأَوَّلُهُ) ، أَيْ:
السَّحُورِ (نِصْفُ لَيْلٍ، وَيُسَنُّ) ؛ لِحَدِيثِ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ
فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(كَ) مَا يُسَنُّ (تَأْخِيرُهُ) ، أَيْ: السَّحُورِ (إنْ لَمْ يَخْشَهُ) ،
أَيْ: طُلُوعَ الْفَجْرِ الثَّانِي؛ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
«تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثُمَّ قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ:
قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَقْوَى عَلَى
الصَّوْمِ، وَلِلتَّحَفُّظِ مِنْ الْخَطَأِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ.
(وَتَحْصُلُ فَضِيلَةُ) السَّحُورِ (بِشُرْبٍ) ؛ لِحَدِيثِ: «وَلَوْ أَنْ
يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ» ، (وَ) يَحْصُلُ (كَمَالُهَا) ،
أَيْ: فَضِيلَةِ السَّحُورِ (بِأَكْلٍ) ، لِلْخَبَرِ.
(2/206)
(وَ) يُسَنُّ (فِطْرٌ عَلَى رُطَبٍ، فَإِنْ
عَدِمَ) الرُّطَبَ، (فَتَمْرٌ، فَإِنْ عَدِمَ) التَّمْرَ، (فَمَاءٌ) ؛
لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ، فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمَرَاتٌ، حَسَا حَسَوَاتٍ
مِنْ مَاءٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ
غَرِيبٌ.
(وَ) يُسَنُّ (دُعَاؤُهُ عِنْدَ فِطْرِهِ) ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ،
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ
دَعْوَةٌ لَا تُرَدُّ» .
(وَمِمَّا وَرَدَ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ،
سُبْحَانَكَ، وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي، إنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ
وَابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إذَا أَفْطَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْنَا، وَعَلَى رِزْقِكَ
أَفْطَرْنَا، فَتَقَبَّلْ مِنَّا، إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذَا أَفْطَرَ قَالَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَتْ
الْعُرُوقُ، وَوَجَبَ الْأَجْرُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ الْفِطْرِ لَا قَبْلَهُ،
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: عِنْدَ فِطْرِهِ، يَحْتَمِلُهُمَا.
(وَإِذَا غَابَ حَاجِبُهَا) ، أَيْ: حَاجِبُ الشَّمْسِ (الْأَعْلَى
أَفْطَرَ الصَّائِمُ حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يَطْعَمْ) ، أَيْ: يَأْكُلْ أَوْ
يَشْرَبْ، (فَلَا يُثَابُ بِوِصَالٍ) ، قَالَ فِي " الْمُبْدِعِ ": وَفِي
الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ شَرْعًا.
(وَ «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ) ، مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ» رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ
الْجُهَنِيِّ مَرْفُوعًا، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": (وَظَاهِرُهُ) ، أَيْ: كَلَامِهِمْ: (بِأَيِّ
شَيْءٍ كَانَ) كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ
خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَذَكَرَ فِيهِ ثَوَابًا
عَظِيمًا إنْ أَشْبَعَهُ، (وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ:
(الْمُرَادُ) بِتَفْطِيرِهِ (إشْبَاعُهُ) .
(2/207)
[فَصْلٌ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ
رَمَضَانَ]
(فَصْلٌ) (سُنَّ فَوْرًا) لِمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ (تَتَابُعُ
قَضَاءِ رَمَضَانَ) نَصًّا، وِفَاقًا، مُسَارَعَةً لِوَفَاءِ ذِمَّتِهِ،
وَلَا بَأْسَ أَنْ يُفَرِّقَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «قَضَاءُ
رَمَضَانَ: إنْ شَاءَ فَرَّقَ، وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ» رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ، وَلَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرَ سُفْيَانَ بْنِ بِشْرٍ، قَالَ
الْمَجْدُ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا طَعَنَ فِيهِ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ
الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ،
فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ التَّتَابُعُ، كَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ.
(إلَّا إذَا بَقِيَ مِنْ شَعْبَانَ قَدْرُ مَا عَلَيْهِ) مِنْ عَدَدِ
الْأَيَّامِ الَّتِي لَمْ يَصُمَّهَا مِنْ رَمَضَانَ، (فَيَجِبُ)
التَّتَابُعُ؛ لِضِيقِ الْوَقْتِ، كَأَدَاءِ رَمَضَانَ فِي حَقِّ مَنْ لَا
عُذْرَ لَهُ، (كَ) وُجُوبِ (عَزْمٍ عَلَيْهِ) ، أَيْ: عَلَى الْقَضَاءِ
إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ فَوْرًا، (وَلَوْ اتَّسَعَ لَهُ) الْوَقْتُ، (وَكَذَا
كُلُّ عِبَادَةٍ مُتَرَاخِيَةٍ) يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَيْهَا، كَالصَّلَاةِ
إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا الْمُتَّسِعِ.
(وَمَنْ فَاتَهُ) صَوْمُ (رَمَضَانَ) كُلِّهِ تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا؛
لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَالْأَسِيرِ وَالْمَطْمُورِ وَغَيْرِهِمَا،
(قَضَى عَدَدَ أَيَّامِهِ) ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَهُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ،
أَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ؛ لِأَنَّ
الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ مَا فَاتَهُ.
(وَيُجْزِئُ) قَضَاءُ (يَوْمِ شِتَاءٍ عَنْ) يَوْمِ (صَيْفٍ، كَعَكْسِهِ)
بِأَنْ يَقْضِيَ يَوْمَ صَيْفٍ عَنْ يَوْمِ شِتَاءٍ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ.
(وَيُقَدِّمُ) - قَضَاءَ رَمَضَانَ (وُجُوبًا عَلَى) صَوْمِ (نَذْرٍ لَا
يَخَافُ فَوْتَهُ) ؛ لِاتِّسَاعِ وَقْتِهِ؛ لِتَأَكُّدِ الْقَضَاءِ؛
لِوُجُوبِهِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، فَإِنْ خَافَ فَوْتَ النَّذْرِ، قَدَّمَهُ
لِاتِّسَاعِ وَقْتِ الْقَضَاءِ.
(وَيَتَّجِهُ مَعَ خَوْفِ فَوْتِ كُلٍّ) مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ
النَّذْرِ: (تَقْدِيمُ) صَوْمِ (نَذْرٍ) عَلَى قَضَاءِ رَمَضَانَ، كَذَا
قَالَ فِي " شَرْحِ الْإِقْنَاعِ "
(2/208)
قُلْتُ: إلَّا أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ عَنْ
قَضَاءٍ، بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ مَثَلًا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ،
وَنَذَرَ أَنْ يَصُومَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَمْ يَبْقَ
سِوَى الْعَشَرَةِ، فَيَصُومُهَا عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ؛ لِتَعَيُّنِ
الْوَقْتِ لَهَا. انْتَهَى.
وَمُقْتَضَى تَعْلِيلِهِمْ آنِفًا بِاتِّسَاعِ الْوَقْتِ: أَنَّهُ
يُقَدَّمُ الْقَضَاءُ عَلَى النَّذْرِ عِنْدَ تَزَاحُمِهِمَا فِي الْوَقْتِ
(وَحَرُمَ ابْتِدَاءُ تَطَوُّعٍ قَبْلَهُ) ، أَيْ: قَضَاءِ رَمَضَانَ،
(وَلَا يَصِحُّ) تَطَوُّعُهُ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ
رَمَضَانَ، نَصَّ عَلَيْهِ.
نَقَلَ حَنْبَلٌ أَنَّهُ لَا يَجْدُرُ، بَلْ يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ حَتَّى
يَقْضِيَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ، يَعْنِي: بَعْدَ
الْفَرْضِ.
(وَيَتَّجِهُ) بِ (احْتِمَالٍ) قَوِيٍّ: (وَكَذَا) يَحْرُمُ ابْتِدَاءُ
تَطَوُّعٍ (قَبْلَ) صَوْمٍ (وَاجِبٍ نَحْوِ نَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ) ، وَلَا
يَصِحُّ التَّطَوُّعُ؛ لِاحْتِمَالِ انْقِضَاءِ أَجَلِهِ فِي مُدَّةِ
اشْتِغَالِهِ فِي التَّطَوُّعِ، فَيَمُوتُ مَشْغُولَ الذِّمَّةِ،
فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَيَحْرُمُ (تَأْخِيرُهُ) أَيْ: قَضَاءِ رَمَضَانَ، (لِرَمَضَانَ آخَرَ
بِلَا عُذْرٍ) ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: «مَا
كُنْتُ أَقْضِي مَا عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا فِي شَعْبَانَ، لِمَكَانِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَكَمَا لَا
تُؤَخَّرُ الصَّلَاةُ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ.
(فَإِنْ أَخَّرَهُ) ، أَيْ: قَضَاءَ
(2/209)
رَمَضَانَ، (بِلَا عُذْرٍ لِرَمَضَانَ
فَأَكْثَرَ، لَزِمَهُ مَعَ قَضَاءٍ) عَدَدُ مَا عَلَيْهِ: (إطْعَامُ
مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ) أَخَّرَهُ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ، (مَا) أَيْ:
طَعَامًا (يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةٍ) .
رَوَاهُ سَعِيدٌ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا إذَا
أَخَّرَهُ لِرَمَضَانَ آخَرَ، وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
(وَيُجْزِئُ) الْإِطْعَامُ (بَعْدَهُ) ، أَيْ: الْقَضَاءِ، (وَ) يُجْزِئُ
(مَعَهُ، وَالْأَفْضَلُ) إطْعَامُهُ (قَبْلَهُ) ، قَالَ الْمَجْدُ:
الْأَفْضَلُ عِنْدَنَا تَقْدِيمُهُ، مُسَارَعَةً إلَى الْخَيْرِ
وَتَخَلُّصًا مِنْ آفَاتِ التَّأْخِيرِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَتَكَرَّرْ
الْفِدْيَةُ بِتَعَدُّدِ الرَّمَضَانَاتِ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ التَّأْخِيرِ
لَا يُزَادُ بِهَا الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ الْوَاجِبَ
سِنِينَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ فِعْلِهِ.
(وَ) إنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ آخَرُ أَوْ
أَكْثَرُ، (لِعُذْرٍ) نَحْوِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، (قَضَى) مَا عَلَيْهِ
(فَقَطْ) ، أَيْ: بِلَا إطْعَامٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ.
وَإِنْ أَخَّرَ، الْبَعْضَ لِعُذْرٍ، وَالْبَعْضَ لِغَيْرِهِ، فَلِكُلٍّ
حُكْمُهُ، (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ: مَنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ
لِعُذْرٍ، (إنْ مَاتَ) ، نَصًّا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ وَجَبَ
بِالشَّرْعِ، مَاتَ قَبْلَ إمْكَانِ فِعْلِهِ، فَسَقَطَ إلَى غَيْرِ
بَدَلٍ، كَالْحَجِّ.
(وَ) إنْ أَخَّرَهُ (لِغَيْرِهِ) ، أَيْ: لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَمَاتَ قَبْلَ
أَنْ يُدْرِكَهُ رَمَضَانُ، أَوْ (بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ
فَأَكْثَرُ، أُطْعِمَ عَنْهُ؛ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ فَقَطْ) ، أَيْ:
بِلَا قَضَاءٍ (لِأَنَّ وَاجِبَ صَوْمٍ وَصَلَاةٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ لَا
يُقْضَى عَنْهُ) ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَالَ
الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ عَنْ كُلِّ
يَوْمٍ أَكْثَرُ مِنْ إطْعَامِ مِسْكِينٍ، وَالْإِطْعَامُ مِنْ رَأْسِ
مَالِهِ، أَوْصَى بِهِ أَوْ لَا، كَسَائِرِ الدُّيُونِ، (فَلَوْ أَوْصَى
بِدَرَاهِمَ لِمَنْ يُصَلِّي أَوْ يَصُومُ عَنْهُ، تُصُدِّقَ بِهَا عَنْهُ)
، وَلَا يَجِبُ عَلَى فَقِيرٍ تَنَاوَلَ مِنْهَا صَوْمٌ وَلَا صَلَاةٌ فِي
مُقَابَلَةِ تَنَاوُلِهِ لِذَلِكَ.
(وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرُ صَوْمٍ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ) عَلَيْهِ
نَذْرُ (حَجٍّ أَوْ)
(2/210)
نَذْرُ (عُمْرَةٍ) فِي الذِّمَّةِ، (أَوْ)
نَذْرُ (طَوَافٍ) فِي الذِّمَّةِ، (أَوْ) نَذْرُ (صَلَاةٍ) فِي الذِّمَّةِ،
(أَوْ) نَذْرُ (اعْتِكَافٍ) فِي الذِّمَّةِ، نَصًّا، (لَمْ يَفْعَلْ
مِنْهُ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ، (شَيْئًا، مَعَ إمْكَانِ) فِعْلِ مَنْذُورٍ،
بِأَنْ مَضَى مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، (غَيْرَ حَجٍّ،
وَلَمْ يُخَلِّفْ مَالًا) ، فَيَفْعَلُ عَنْهُ مُطْلَقًا، تَمَكَّنَ مِنْهُ
أَوْ لَا؛ لِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ حَالَ الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ
الْمَوْتِ أَوْلَى، (سُنَّ لِوَلِيِّهِ) ، أَيْ: الْمَيِّتِ (فِعْلُهُ) ،
أَيْ: النَّذْرِ الْمَذْكُورِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ امْرَأَةً
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ
نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى
أُمِّكِ دَيْنٌ، فَقَضَيْتِهِ عَنْهَا، أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْهَا؟
قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي الْبَابِ غَيْرُهُ، وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّإِ "
أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَصُومُ أَحَدٌ
عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ "، فَيُحْمَلُ عَلَى
غَيْرِ النَّذْرِ؛ لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي النَّذْرِ،
وَالنِّيَابَةُ تَدْخُلُ الْعِبَادَةَ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ
أَخَفُّ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِأَصْلِ الشَّرْعِ.
(وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ) ، أَيْ: غَيْرِ الْوَلِيِّ، فِعْلُ مَا عَلَى
الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ (بِإِذْنِهِ) ، أَيْ: الْوَلِيِّ، (وَدُونَهُ) ؛
لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ،
وَالدَّيْنُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ.
(وَيُجْزِئُ صَوْمُ جَمَاعَةٍ) عَنْ مَيِّتٍ نَذْرًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ،
بِأَنْ نَذَرَ شَهْرًا وَمَاتَ، فَصَامَهُ عَنْهُ ثَلَاثُونَ (فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ) ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، مَعَ نِجَازِ إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ،
وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَضُرُّ فِي
التَّتَابُعِ التَّفَرُّقُ وَالْمَعِيَّةُ لَا تَفْرِيقَ فِيهَا، بَلْ هِيَ
أَقْوَى اتِّصَالًا مِنْ التَّتَابُعِ.
تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ الْحَجِّ مِنْ الصَّوْمِ،
وَالصَّلَاةِ، وَالطَّوَافِ، وَالِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فِي الذِّمَّةِ،
إنَّمَا يُفْعَلُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ فِعْلِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَمْ
يَفْعَلْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّذْرَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ،
لَكِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَيَّامِ
(2/211)
الْآتِيَةِ بَعْدَ النَّذْرِ، فَإِذَا
مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعِيشَ الْمُدَّةَ، تَبَيَّنَّا أَنَّ مِقْدَارَ مَا
بَقِيَ مِنْهَا صَادَفَ نَذْرَهُ حَالَ مَوْتِهِ، وَهُوَ يَمْنَعُ
الثُّبُوتَ فِي حَقِّهِ.
(وَإِنْ خَلَّفَ) مَيِّتٌ نَاذِرٌ (مَالًا، وَجَبَ) فِعْلُ نَذْرِهِ عَلَى
مَا تَقَدَّمَ؛ لِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ، كَقَضَاءِ دَيْنٍ مِنْ
تَرِكَتِهِ، (فَيَفْعَلُهُ) ، أَيْ: النَّذْرَ، (وَلِيُّهُ) إنْ شَاءَ
(نَدْبًا، أَوْ يَدْفَعُ) مَالًا (لِمَنْ يَفْعَلُ عَنْهُ) ذَلِكَ، وَكَذَا
حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، (أَوْ يَدْفَعُ) عَنْ حَرٍّ (فِي صَوْمٍ، عَنْ كُلِّ
يَوْمٍ طَعَامَ مِسْكِينٍ) فِي كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّهُ عَدْلُهُ فِي جَزَاءِ
صَيْدٍ وَغَيْرِهِ.
(وَلَا كَفَّارَةَ) مَعَ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ إذَا كَانَ مَنْذُورًا،
كَمَا لَوْ فَعَلَهُ النَّاذِرُ.
(وَلَا يُصَامُ عَنْ أَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ إجْمَاعًا) ، لِمَا تَقَدَّمَ.
(وَلَا يُقْضَى) عَنْ مَيِّتٍ مَا نَذَرَهُ فِي زَمَنٍ (مُعَيَّنٍ مَاتَ
قَبْلَهُ) ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ، فَمَاتَ قَبْلَ
دُخُولِهِ، لَمْ يُصَمْ عَنْهُ إذَا دَخَلَ، وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ بِلَا
خِلَافٍ، وَلَا كَذَلِكَ الْمِقْدَارُ الَّذِي أَدْرَكَهُ حَيًّا وَهُوَ
مَرِيضٌ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ الصَّوْمِ فِي
الذِّمَّةِ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَلَى الْمَرِيضِ.
(أَوْ) ، أَيْ: وَكَذَلِكَ لَوْ (جُنَّ، وَدَامَ) جُنُونُهُ (حَتَّى
انْقَضَى الْمُعَيَّنُ) ، فَلَا يُصَامُ، وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ،
(وَمَوْتُهُ) ، أَيْ: النَّاذِرِ (بِأَثْنَائِهِ) ، أَيْ: أَثْنَاءِ
الزَّمَنِ الْمُعَيَّنِ (يُسْقِطُ الْبَاقِيَ) مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ دُخُولِهِ (وَالْمَاضِي
إنْ كَانَ) تَأْخِيرُهُ (لِعُذْرِ جُنُونٍ) وَنَحْوِهِ، (سَقَطَ) عَنْهُ؛
لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، (وَإِلَّا) يَكُنْ مَعْذُورًا بِالتَّأْخِيرِ،
(فَلَا) يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ، (وَتَفْصِيلُهُ مَا
مَرَّ) فِيمَا إذَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَهُ
فِعْلُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، فُعِلَ عَنْهُ وُجُوبًا إنْ خَلَّفَ تَرِكَةً،
وَاسْتِحْبَابًا إنْ لَمْ يُخَلِّفْ شَيْئًا.
(وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ كَفَّارَةٍ أَوْ مُتْعَةٍ) أَوْ
قِرَانٍ، (وَلَوْ) كَانَ مَا عَلَيْهِ (يَوْمَ مَوْتِهِ فَقَطْ، أُطْعِمَ
عَنْهُ) مِنْ رَأْسِ مَالِهِ (ثَلَاثَةُ
(2/212)
مَسَاكِينَ) عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ؛
لِأَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، (كَذَا قِيلَ) وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ إنْ
كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، وَلَمْ
يَفْعَلْ، أُطْعِمَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ مَسَاكِينَ؛ لِكُلِّ يَوْمٍ
مِسْكِينٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالَةِ الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا الْإِطْعَامُ عَنْ صَوْمِ الْمُتْعَةِ وَالظِّهَارِ، فَيُطْعَمُ
عَنْهُ عَدَدُ الْأَيَّامِ الْبَاقِيَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ
بِأَصْلِ الشَّرْعِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ.
[بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ]
(بَابُ) (صَوْمِ التَّطَوُّعِ) وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ: (أَفْضَلُهُ) ،
أَيْ: صَوْمِ التَّطَوُّعِ: صَوْمُ (يَوْمٍ وَ) فِطْرُ (يَوْمٍ) نَصًّا؛
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عُمَرَ: «وَصُمْ
يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُد، وَهُوَ أَفْضَلُ
الصِّيَامِ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا
أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(وَلَا يُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ) ، لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ
كَانُوا يَسْرُدُونَ الصَّوْمَ، مِنْهُمْ: أَبُو طَلْحَةَ، قِيلَ: إنَّهُ
صَامَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَرْبَعِينَ سَنَةً.
(إلَّا لِخَائِفِ ضَرَرٍ) فِي جَسَدِهِ، أَوْ مَعِيشَةٍ يَحْتَاجُهَا،
(أَوْ) إلَّا لِخَائِفِ (فَوْتِ حَقٍّ) ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ.
(وَسُنَّ) صَوْمُ (ثَلَاثَةِ) أَيَّامٍ (مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) ، قَالَ فِي "
الشَّرْحِ " وَ " الْمُبْدِعِ ": بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.
(وَكَوْنُهَا) ، أَيْ: الثَّلَاثَةِ (أَيَّامَ) : اللَّيَالِي (الْبِيضِ
أَفْضَلُ، وَسَمَّيْتُ بِيضًا؛ لِابْيِضَاضِهَا لَيْلًا بِالْقَمَرِ،
وَنَهَارًا بِالشَّمْسِ) .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي كَلَامِهِ بَيَانِيَّةٌ، وَأَنَّ
الْبِيضَ وَصَفٌّ لِلْأَيَّامِ، وَكَلَامُهُ فِي " الشَّرْحِ " وَشَرْحِ
الْمُنْتَهَى " وَغَيْرِهِ يُخَالِفُهُ، قَالَ: وَسُمِّيَتْ لَيَالِيهَا
بِالْبِيضِ؛ لِبَيَاضِ لَيْلِهَا كُلِّهِ بِالْقَمَرِ، زَادَ فِي "
الشَّرْحِ ": وَالتَّقْدِيرُ: لَيَالِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ، وَقِيلَ:
لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - تَابَ فِيهَا عَلَى آدَمَ، وَبَيَّضَ
صَحِيفَتَهُ (وَهِيَ) : أَيْ: الْأَيَّامُ
(2/213)
الْبِيضُ: (ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ
عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ) ، لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: إذَا صُمْتُ مِنْ
الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ
عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ.
(وَذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ) ، أَيْ: يَحْصُلُ لَهُ بِصِيَامِهَا أَجْرُ
صِيَامِ الدَّهْرِ بِتَضْعِيفِ الْأَجْرِ، (فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا) ، مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي فِي صِيَامِ
الدَّهْرِ.
(وَ) سُنَّ صَوْمُ يَوْمِ (الِاثْنَيْنِ) - بِهَمْزَةِ وَصْلٍ - سُمِّيَ
بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ثَانِي الْأُسْبُوعِ.
(وَ) يَوْمِ (الْخَمِيسِ) ؛ لِقَوْلِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: «إنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ
الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّ
أَعْمَالَ النَّاسِ تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: " وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي
وَأَنَا صَائِمٌ ".
(وَ) سُنَّ صَوْمُ (سِتَّةِ) أَيَّامٍ (مِنْ شَوَّالٍ) ، وَلَوْ
مُتَفَرِّقَةً، (وَالْأَوْلَى تَتَابُعُهَا) ، وَكَوْنُهَا (عَقِبَ
الْعِيدِ، إلَّا لِمَانِعٍ، كَقَضَاءٍ) وَنَذْرٍ، (وَصَائِمُهَا) ، أَيْ:
السِّتَّةِ مِنْ شَوَّالٍ (مَعَ رَمَضَانَ) ، أَيْ: بَعْدَهُ، (كَأَنَّمَا
صَامَ الدَّهْرَ) فَرْضًا، كَمَا فِي " اللَّطَائِفِ " وَذَلِكَ لِمَا
رَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ
شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَجْرِي مَجْرَى التَّقْدِيمِ
لِرَمَضَانَ، لِأَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ فَاصِلٌ.
وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ،
شَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَالسِّتَّةُ بِسِتِّينَ، فَذَلِكَ سَنَةٌ»
وَالْمُرَادُ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ: التَّشْبِيهُ بِهِ فِي حُصُولِ
الْعِبَادَةِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، كَمَا فِي صِيَامِ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَلَا يُقَالُ: الْحَدِيثُ لَا
يَدُلُّ
(2/214)
عَلَى فَضِيلَتِهَا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ
صِيَامَهَا بِصِيَامِ الدَّهْرِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِانْتِفَاءِ
الْمَفْسَدَةِ فِي صَوْمِهَا دُونَ صَوْمِهِ.
(وَ) سُنَّ (صَوْمُ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ)
صِيَامِ شَهْرِ (رَمَضَانَ) ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ: جَوْفُ
اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ: شَهْرُ اللَّهِ
الْمُحَرَّمُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَضَافَهُ إلَيْهِ تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا، وَلَمْ يُكْثِرْ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصَّوْمَ فِيهِ، إمَّا لِعُذْرٍ، أَوْ لَمْ
يَعْلَمْ فَضْلَهُ إلَّا أَخِيرًا.
وَالْمُرَادُ: أَفْضَلُ شَهْرِ تَطَوَّعَ بِهِ كَامِلًا بَعْدَ رَمَضَانَ:
شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ التَّطَوُّعِ قَدْ يَكُونُ
أَفْضَلَ مِنْ أَيَّامِهِ، كَعَرَفَةَ وَذِي الْحِجَّةِ، فَالتَّطَوُّعُ
الْمُطْلَقُ أَفْضَلُهُ: الْمُحَرَّمُ، كَمَا أَنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ
بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ: قِيَامُ اللَّيْلِ.
(وَآكَدُهُ) ، وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ: وَأَفْضَلُهُ: (عَاشُورَاءُ)
بِالْمَدِّ فِي الْأَشْهَرِ، وَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ.
(وَهُوَ) ، أَيْ: صَوْمُ عَاشُورَاءَ (كَفَّارَةُ سَنَةٍ) ؛ لِحَدِيثِ
«إنِّي لَأَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي
قَبْلَهُ» قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَإِنَّمَا كَفَّرَ عَاشُورَاءُ
السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ، لِأَنَّهُ تَبَعُهَا، وَجَاءَ بَعْدَهَا،
وَالتَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ إنَّمَا يَكُونُ لَا لِمَا يَأْتِي.
(وَلَمْ يَجِبْ) صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ (ثُمَّ نُسِخَ) ، لِحَدِيثِ
مُعَاوِيَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ هَذَا عَاشُورَاءُ، لَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ
فَلْيُفْطِرْ» قَالَ الْقَاضِي: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
(خِلَافًا لِجَمْعٍ) مِنْهُمْ: الْمُوَفَّقُ، وَالشَّارِحُ، وَالشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": لَمْ يَجِبْ صَوْمُ يَوْمِ
عَاشُورَاءَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
قَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " وَقَالَ: اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ، مِنْهُمْ:
الْقَاضِي، قَالَ الْمَجْدُ: هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا.
(2/215)
(ثُمَّ) يَلِي عَاشُورَاءَ فِي
الْآكَدِيَّةِ: (تَاسُوعَاءُ) بِالْمَدِّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ:
التَّاسِعُ مِنْ الْمُحَرَّمِ.
وَيُسَنُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:
«لَئِنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ، لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ»
احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: إنْ اشْتَبَهَ أَوَّلُ الشَّهْرِ، صَامَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِتَيَقُّنِ صَوْمِهِمَا.
(وَ) سُنَّ صَوْمُ (أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ) ، أَيْ: التِّسْعَةِ
الْأُوَلِ مِنْهُ، (وَهِيَ) ، أَيْ: الْأَيَّامُ الْعَشَرَةُ: بِاعْتِبَارِ
ضَمِّ يَوْمِ الْعِيدِ إلَيْهَا (أَفْضَلُ مِنْ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ
رَمَضَانَ) ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ أَيَّامٍ،
الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ
الْأَيَّامِ الْعَشَرَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا
رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ
بِشَيْءٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(وَآكَدُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَهُوَ) أَيْ: صَوْمُهُ (كَفَّارَةُ
سَنَتَيْنِ) ؛ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا فِي
صَوْمِهِ «إنِّي لَأَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ
الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» (وَالْمُرَادُ: كَفَّارَةُ
الصَّغَائِرِ) حَكَاهُ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " عَنْ الْعُلَمَاءِ، (فَإِنْ
لَمْ تَكُنْ) صَغَائِرُ (رُجِيَ تَخْفِيفُ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ
تَكُنْ) كَبَائِرُ، (فَرَفْعُ دَرَجَاتٍ) اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي "
الْمُبْدِعِ " وَغَيْرِهِ، (وَ) قَالَ (فِي " الْفُرُوعِ ": تُكَفِّرُ
طَهَارَةٌ وَصَلَاةٌ وَرَمَضَانُ وَعَرَفَةُ وَعَاشُورَاءُ الصَّغَائِرَ
فَقَطْ) ؛ لِأَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ،
وَمَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ
إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» قَالَ
الْعَيْنِيُّ وَابْنُ الْمُحِبِّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى
غُفْرَانِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، وَفَضْلُ اللَّهِ أَعَمُّ
وَأَوْسَعُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ قَوْلٌ عَامٌّ، يُرْجَى أَنْ يَغْفِرَ
لَهُ جَمِيعَ ذُنُوبِهِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا.
انْتَهَى.
وَأَمَّا الدَّيْنُ وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ
الشَّهَادَةَ لَا تُكَفِّرُهَا، فَلَأَنْ لَا يُكَفِّرَهَا
(2/216)
الصَّوْمُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
(وَنَقَلَ) أَبُو بَكْرٍ (الْمَرُّوذِيُّ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ: نِسْبَةً
إلَى مَرْوِالرَّوْذِ: أَحَدُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: - (بِرُّ
الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ) لِأَنَّ رِضَى الرَّبِّ فِي
رِضَاهُمَا، وَسَخَطُهُ فِي عُقُوقِهِمَا. (وَفِي الصَّحِيحِ، الْعُمْرَةُ
إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ) :
هَذَا الْحَدِيثُ (فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ كِبَارَ الطَّاعَاتِ) إذَا
فَعَلَهَا الشَّخْصُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ (يُكَفِّرُ اللَّهُ مَا)
اقْتَرَفَهُ (بَيْنَهُمَا) مِنْ الذُّنُوبِ (لِأَنَّهُ) - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لَمْ يَقُلْ: كَفَّارَةٌ لِصِغَارِ ذُنُوبِهِ، بَلْ
إطْلَاقُهُ) فِي قَوْلِهِ: الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا
بَيْنَهُمَا، (يَتَنَاوَلُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ) ، يُؤَيِّدُهُ
قَوْله تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]
(قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ فِي " الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ " -
جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ رُفِعَ إلَيْهِ، صُورَتُهُ: (فِي أَهْلِ مَدِينَةٍ
رَأَى بَعْضُهُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ حَاكِمِ
الْمَدِينَةِ) ، فَهَلْ (لَهُمْ أَنْ يَصُومُوا الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ
التَّاسِعُ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ الْعَاشِرَ؟ ،) -
نَعَمْ، يَصُومُونَ التَّاسِعَ فِي الظَّاهِرِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ
الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ عَاشِرًا، وَلَوْ
قُدِّرَ ثُبُوتُ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ، (لِحَدِيثِ) أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَوْمُكُمْ
يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ
تُضَحُّونَ» ) ، وَفِي لَفْظٍ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ
يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ،
وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَعَلَى
هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، فَإِنَّ
النَّاسَ لَوْ وَقَفُوا خَطَأً بِعَرَفَةَ فِي الْعَاشِرِ، أَجْزَأَهُمْ
الْوُقُوفُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ هُوَ يَوْمَ
(2/217)
عَرَفَةَ فِي حَقِّهِمْ، وَلَوْ وَقَفُوا
الثَّامِنَ خَطَأً، فَفِي الْإِجْزَاءِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ: صِحَّةُ
الْوُقُوفِ أَيْضًا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:
«إنَّمَا عَرَفَةُ الْيَوْمُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ» انْتَهَى.
(وَلَا يُسَنُّ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِمَنْ بِهَا) ، أَيْ: بِعَرَفَةَ؛
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ
عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَلِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ، وَيَمْنَعُهُ الدُّعَاءَ فِيهِ فِي ذَلِكَ
الْمَوْقِفِ الشَّرِيفِ، (غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ، وَ) غَيْرَ (قَارِنٍ عَدِمَا
الْهَدْيَ) ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَا آخِرَ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ فِي
ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، (ثُمَّ) يَلِي يَوْمَ عَرَفَةَ فِي
الْآكَدِيَّةِ يَوْمُ (التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ: الثَّامِنُ) مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، لِحَدِيثِ: «صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ كَفَّارَةُ سَنَةٍ»
الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ، وَابْنُ النَّجَّارِ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
[مَا رُوِيَ فِي فَضْل اكْتِحَال وَخِضَاب وَاغْتِسَال وَمُصَافَحَة
وَصَلَاة بيوم عَاشُورَاء]
(فَرْعٌ: مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ اكْتِحَالٍ وَخِضَابٍ وَاغْتِسَالٍ
وَمُصَافَحَةٍ وَصَلَاةٍ بِ) يَوْمِ (عَاشُورَاءَ) ، فَكَذِبٌ، وَكَذَا مَا
رُوِيَ فِي مَسْحِ رَأْسِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلِ الْحُبُوبِ، وَالذَّبْحِ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ، (فَ) هُوَ (كَذِبٌ) عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِثْلُ ذَلِكَ بِدْعَةٌ لَا يُسْتَحَبُّ شَيْءٌ
مِنْهُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الدِّينِ، قَالَ فِي " الِاخْتِيَارَاتِ ":
وَيَنْبَغِي فِيهِ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَالِ سَأَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ
أَحْمَدَ عَنْهُ، فَقَالَ: نَعَمْ.
رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ، أَنَّهُ
بَلَغَهُ: مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَسَّعَ
اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: قَدْ
جَرَّبْنَاهُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ سِتِّينَ، فَمَا رَأَيْنَا
إلَّا خَيْرًا.
تَنْبِيهٌ: قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا
الْحَدِيثِ فَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ:
وَأَعْلَى مَا عِنْدَهُمْ أَثَرٌ يُرْوَى
(2/218)
عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْتَشِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِمَّنْ سَمِعَ هَذَا، وَلَا عَمَّنْ
بَلَغَهُ.
(وَمَا رُوِيَ فِي فَضْلِ صَوْمِ رَجَبٍ وَصَلَاةٍ فِيهِ، فَكَذِبٌ
بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ) بِالْحَدِيثِ، (فَيُكْرَهُ إفْرَادُهُ) ،
أَيْ: رَجَبٍ (بِصَوْمٍ) ، قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ كَانَ يَصُومُ السَّنَةَ
صَامَهُ، وَإِلَّا، فَلَا يَصُومُهُ مُتَوَالِيًا، بَلْ يُفْطِرُ فِيهِ،
وَلَا يُشَبِّهُهُ بِرَمَضَانَ.
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ " أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ أَكُفَّ الْمُتَرَجِّبِينَ
حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الطَّعَامِ، وَيَقُولُ: كُلُوا فَإِنَّمَا هُوَ
شَهْرٌ كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُهُ " (وَتَزُولُ) الْكَرَاهَةُ
(وَلَوْ بِفِطْرِ يَوْمٍ مِنْهُ) أَوْ بِصَوْمِ شَهْرٍ آخَرَ، قَالَ
الْمَجْدُ: وَإِنْ لَمْ يَلِ الشَّهْرَ الْآخَرَ رَجَبٌ.
(وَكُرِهَ إفْرَادُ) يَوْمِ (جُمُعَةٍ) بِصَوْمٍ، لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا وَقَبْلَهُ يَوْمٌ
وَبَعْدَهُ يَوْمٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُحْمَلُ مَا رُوِيَ مِنْ
صَوْمِهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، عَلَى صَوْمِهِ مَعَ غَيْرِهِ، فَلَا
تَعَارُضَ.
(وَ) يُكْرَهُ إفْرَادُ يَوْمِ (سَبْتٍ بِصَوْمٍ) ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ
السَّبْتِ إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، فَفِي إفْرَادِهِ تَشَبُّهٌ
بِهِمْ، وَيَوْمُ السَّبْتِ آخِرُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: سُمِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ، لِانْقِطَاعِ الْأَيَّامِ
عِنْدَهُ.
(وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ) تَطَوُّعًا؛ لِقَوْلِ عَمَّارٍ: «مَنْ
صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَهُوَ لِلْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا.
وَيَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، بِنِيَّتِهِ الرَّمَضَانِيَّةِ احْتِيَاطًا،
وَلَا يُجْزِئُ، إنْ ظَهَرَ مِنْهُ، (وَهُوَ) ، أَيْ: يَوْمُ الشَّكِّ:
(الثَّلَاثُونَ مِنْ شَعْبَانَ، حَيْثُ لَا عِلَّةَ) فِي
(2/219)
مَطْلَعِ الْهِلَالِ مِنْ غَيْمٍ أَوْ
قَتَرٍ، وَلَمْ يَرَ الْهِلَالَ، أَوْ شَهِدَ بِالْهِلَالِ مَنْ رُدَّتْ
شَهَادَتُهُ، (إلَّا أَنْ يُوَافِقَ عَادَةً فِي الْكُلِّ) ، كَمَنْ
عَادَتُهُ يَصُومُ الْخَمِيسَ وَالِاثْنَيْنِ، فَوَافَقَ يَوْمَ الشَّكِّ
أَحَدَهُمَا، أَوْ كَانَ عَادَتُهُ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا،
فَوَافَقَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، أَوْ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ السَّبْتِ أَوْ
الْجُمُعَةِ، فَلَا كَرَاهَةَ، لِأَنَّ الْعَادَةَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي
ذَلِكَ (أَوْ يَصِلَهُ) ، أَيْ: يَوْمَ الشَّكِّ (بِصَوْمٍ قَبْلَهُ) ؛
لِقَوْلِهِ: «لَا تُقَدِّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ،
إلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(أَوْ) يَصُومُ يَوْمَ الشَّكِّ (نَذْرًا أَوْ قَضَاءً) أَوْ كَفَّارَةً،
فَلَا كَرَاهَةَ، فَلَا قَضَاءَ؛ لِأَنَّ صَوْمَهُ وَاجِبٌ إذَنْ.
(وَ) يُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ (النَّيْرُوزِ) ، وَهُوَ: الْيَوْمُ
الرَّابِعُ مِنْ فَصْلِ الرَّبِيعِ، (وَ) صَوْمُ يَوْمِ (الْمِهْرَجَانِ) ،
وَمَعْنَاهُ: رُوحُ السَّنَةِ، وَهُوَ: الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ فَصْلِ
الْخَرِيفِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ
الْكُفَّارِ فِي تَعْظِيمِهَا.
(وَ) يُكْرَهُ إفْرَادُ (كُلِّ عِيدٍ لِكُفَّارٍ) بِصَوْمٍ، (أَوْ) كُلِّ
(يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِتَعْظِيمٍ) ، ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ
وَغَيْرُهُمَا، إلَّا أَنْ يُوَافِقَ عَادَةً، فَلَا كَرَاهَةَ.
(وَ) يُكْرَهُ (تَقَدُّمُ رَمَضَانَ بِ) صَوْمِ (يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ
فَقَطْ) لِمَا تَقَدَّمَ.
(وَ) يُكْرَهُ (وِصَالٌ - وَهُوَ) ، أَيْ: الْوِصَالُ: (أَنْ لَا
يَتَنَاوَلَ) الصَّائِمُ (عَمْدًا مُفْطِرًا بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ -
لِغَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ؛ لِمَا رَوَى
ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوِصَالِ، فَقَالُوا: إنَّكَ
تُوَاصِلُ، فَقَالَ: إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى»
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(2/220)
قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": قَوْلُهُ: إنِّي
أُطْعَمُ وَأُسْقَى، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُرِيدُ: أَنَّهُ يُعَانُ عَلَى
الصِّيَامِ، وَيُغْنِيهِ اللَّهُ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ،
بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَعِمَ وَشَرِبَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّهُ يُطْعَمُ حَقِيقَةً، وَيُسْقَى
حَقِيقَةً، حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ طَعِمَ وَشَرِبَ حَقِيقَةً لَمَا
كَانَ مُوَاصِلًا، وَلَا أَقَرَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّكَ تُوَاصِلُ،
لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: «إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي
وَيَسْقِينِي» .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي النَّهَارِ، وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ فِي
النَّهَارِ، لَا لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ.
انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ: مَا يُغَذِّيهِ
اللَّهُ بِهِ مِنْ مَعَارِفِهِ، وَمَا يَفِيضُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ لَذَّةِ
مُنَاجَاتِهِ، وَقُرَّةِ عَيْنِهِ بِقُرْبِهِ، وَنَعِيمِهِ بِحُبِّهِ،
قَالَ: وَمَنْ لَهُ أَدْنَى تَجْرِبَةٍ وَشَوْقٍ، يَعْلَمُ اسْتِغْنَاءَ
الْجِسْمِ؛ لِغِذَاءِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْغِذَاءِ
الْحَيَوَانِيِّ، وَلَا سِيَّمَا الْفَرْحَانُ الظَّافِرُ بِمَطْلُوبِهِ
الَّذِي قَدْ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِمَحْبُوبِهِ انْتَهَى.
وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ وَلَا يَحْرُمُ الْوِصَالُ؛ لِأَنَّ
النَّهْيَ وَقَعَ رِفْقًا وَرَحْمَةً، وَلِهَذَا وَاصَلَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَاصَلُوا بَعْدَهُ.
(وَتَزُولُ) الْكَرَاهَةُ (بِ) أَكْلِ (لُقْمَةٍ، أَوْ شُرْبٍ)
لِانْتِفَاءِ الْوِصَالِ، (وَلَا يُكْرَهُ لِلسَّحَرِ) ؛ لِحَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ
إلَى السَّحَرِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(وَتَرْكُهُ) ، أَيْ: الْوِصَالِ (أَوْلَى) مُحَافَظَةً عَلَى السُّنَّةِ،
(وَنَقَلَ حَنْبَلٌ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَاصَلَ) بِالْعَسْكَرِ
(ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَرَهُ) ، أَيْ: مَا رَأَى حَنْبَلٍ
الْإِمَامَ (أَكَلَ) فِيهَا (وَلَا شَرِبَ فِيهَا) حَتَّى كَلَّمَهُ
حَنْبَلٌ فِي ذَلِكَ، فَشَرِبَ سَوِيقًا، (وَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَعَاطَى
مَا يُفْطِرُهُ، كَ) بَلْعِ (قِشْرِ سِوَاكٍ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَهُ حَيْثُ لَا يَرَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(وَحَرُمَ، وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ يَوْمِ عِيدٍ) فَرْضًا وَلَا نَفْلًا؛
لِمَا رَوَى
(2/221)
أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ:
يَوْمِ فِطْرٍ، وَيَوْمِ أَضْحَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالنَّهْيُ
يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتَحْرِيمَهُ.
(وَكَذَا أَيَّامُ تَشْرِيقٍ) يَحْرُمُ صَوْمُهَا، وَلَا يَصِحُّ فَرْضًا،
وَلَا نَفْلًا؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ
مَرْفُوعًا: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ
اللَّهِ» (إلَّا عَنْ دَمِ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ) ، وَيَأْتِي، لِقَوْلِ
ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ: " لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ " رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
[فَصْلٌ مَنْ دَخَلَ فِي تَطَوُّعِ صَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ هَلْ يُتِمّهُ]
(فَصْلٌ) (مَنْ دَخَلَ فِي تَطَوُّعِ) صَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ (غَيْرَ حَجٍّ
وَعُمْرَةٍ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ) ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ،
وَفِيهِ: «إنَّمَا مَثَلُ صَوْمِ يَوْمِ التَّطَوُّعِ مَثَلُ الرَّجُلِ
يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ
حَبَسَهَا» رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
(وَيُسَنُّ) إتْمَامُ تَطَوُّعٍ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ " وَيُكْرَهُ
قَطْعُهُ بِلَا حَاجَةٍ، ذَكَرَهُ النَّاظِمُ.
(وَإِنْ أَفْسَدَهُ) ، أَيْ: أَفْسَدَ تَطَوُّعًا دَخَلَ فِيهِ غَيْرَ
حَجٍّ وَعُمْرَةٍ؛ (فَلَا قَضَاءَ) عَلَيْهِ نَصًّا، بَلْ يُسَنُّ خُرُوجًا
مِنْ الْخِلَافِ، وَأَمَّا تَطَوُّعُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَيَجِبُ
إتْمَامُهُ؛ لِأَنَّ نَفْلَهُمَا كَفَرْضِهِمَا نِيَّةً وَفِدْيَةً
وَغَيْرَهُمَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا بِالْمَحْظُورَاتِ.
(وَيَجِبُ حَيْثُ لَا عُذْرَ إتْمَامُ فَرْضٍ) شَرَعَ فِيهِ (إجْمَاعًا،
وَلَوْ) كَانَ الْمَشْرُوعُ فِيهِ فَرْضَ (كِفَايَةٍ) ، كَصَلَاةِ
جِنَازَةٍ، (أَوْ) كَانَ (نَذْرًا، أَوْ) كَانَ وَقْتُهُ (مُوَسَّعًا
كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَطَوَافٍ) ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ عُهْدَةِ
الْوَاجِبِ مُتَعَيَّنٌ، وَدَخَلَتْ التَّوْسِعَةُ فِي وَقْتِهِ رِفْقًا،
وَمَظِنَّةَ الْحَاجَةِ، فَإِذَا شَرَعَ فِيهِ، تَعَيَّنَتْ الْمَصْلَحَةُ
فِي إتْمَامِهِ، (وَإِنْ بَطَلَ) الْفَرْضُ لِوُجُودِ مُبْطِلٍ، (فَلَا
مَزِيدَ) عَلَيْهِ، فَيُعِيدُهُ أَوْ يَقْضِيهِ فَقَطْ، (وَلَا كَفَّارَةَ)
مُطْلَقًا؛ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهَا.
(2/222)
(وَيَجِبُ قَطْعُ) فَرْضٍ وَنَفْلٍ
(لِرَدِّ مَعْصُومٍ عَنْ مَهْلَكَةٍ كَإِنْقَاذِ غَرِيقٍ) ، وَإِطْفَاءِ
حَرِيقٍ، وَتَخْلِيصِ مَنْ تَحْتَ هَدْمٍ مِنْ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ، أَوْ
بَهِيمَةٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَاتَ لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهُ.
(وَ) يَجِبُ قَطْعُ فَرْضٍ (إذَا دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال:
24] (وَتَبْطُلُ) الصَّلَاةُ بِإِجَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ.
(وَيُجِيبُ) مُصَلٍّ (وَالِدَيْهِ بِنَفْلٍ) ، رِعَايَةً لِحَقِّهِمَا
وَبِرِّهِمَا، (وَتَخْرُجُ زَوْجَةٌ مِنْ) صَلَاةِ (نَفْلٍ لِحَقِّ زَوْجٍ)
لِوُجُوبِ إجَابَتِهِ عَلَيْهَا.
(وَجَازَ قَطْعُ فَرْضٍ لِهَرَبِ نَحْوِ غَرِيمٍ) ، كَشُرُودِ دَابَّةٍ،
وَإِبَاقِ رَقِيقٍ، (وَ) جَازَ (قَلْبُهُ) ، أَيْ: الْفَرْضِ، (نَفْلًا)
مَعَ سَعَةِ وَقْتِهِ، وَتَقَدَّمَ.
(وَيَتَّجِهُ) بِ (احْتِمَالٍ) قَوِيٍّ: (الْمَنْعُ) مَنْ قَلْبِ صَوْمِ
وَاجِبٍ، وَلَوْ مُوَسَّعًا، نَذْرًا كَانَ أَوْ قَضَاءً، نَفْلًا
(حِيلَةً، لِيَتَوَصَّلَ لِفِطْرٍ) ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ، مُوَافِقٌ
لِلْقَوَاعِدِ.
[بَابٌ أَفْضَلُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ]
(بَابٌ) (أَفْضَلُ الشُّهُورِ) شَهْرُ (رَمَضَانَ) ، وَيُكَفَّرُ مَنْ
فَضَّلَ رَجَبًا عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ فِي " الِاخْتِيَارَاتِ ".
(وَ) أَفْضَلُ (الْأَيَّامِ) يَوْمُ (الْجُمُعَةِ) إجْمَاعًا؛ لِحَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَتَقَعُ فِيهِ زِيَارَةُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّبَّ فِي الْجَنَّةِ،
فَيَرْفَعُ مَوَانِعَ الْإِدْرَاكِ عَنْ أَبْصَارِهِمْ، حَتَّى يَرَوْهُ
عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ نُعُوتِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ.
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّهُ لَقِيَ
أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ
(2/223)
أَبُو هُرَيْرَةَ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ
يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ، قَالَ سَعِيدٌ:
أَفِيهَا سُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلُوهَا
نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي
مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَيَزُورُونَ
رَبَّهُمْ، وَيُبْرِزُ لَهُمْ عَرْشَهُ، وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ
مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ،
وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ
زَبَرْجَدٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ،
وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ، وَمَا فِيهِمْ مِنْ دَنِيٍّ، عَلَى كُثْبَانِ
الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، وَمَا يَرَوْنَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ
بِأَفْضَلَ مِنْهُمْ مَجْلِسًا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ نَرَى
رَبَّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، هَلْ تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: كَذَلِكَ لَا
تُمَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ
رَجُلٌ إلَّا حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً، حَتَّى يَقُولَ لِلرَّجُلِ
مِنْهُمْ: يَا فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ، أَتَذْكُرُ يَوْمَ فَعَلْتَ كَذَا
وَكَذَا؟ فَيُذَكِّرُهُ بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ:
يَا رَبِّ، أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى، بِسَعَةِ مَغْفِرَتِي
بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ.» . الْحَدِيثَ.
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ: (هُوَ
أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ إجْمَاعًا، وَقَالَ: يَوْمُ النَّحْرِ
أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ) ، وَكَذَا ذَكَرَهُ جَدُّهُ صَاحِبُ "
الْمُحَرَّرِ " فِي صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ شَرْحِهِ مُنْتَهَى الْغَايَةِ "
(وَاخْتَارَ) جَمْعٌ (غَيْرَهُ) ، مِنْهُمْ: أَبُو حَكِيمٍ
النَّهْرَوَانِيُّ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: (بَلْ يَوْمُ عَرَفَةَ)
أَفْضَلُ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ فِي "
الْغُنْيَةِ " إنَّ اللَّهَ اخْتَارَ مِنْ الْأَيَّامِ أَرْبَعَةً:
الْفِطْرَ، وَالْأَضْحَى، وَعَرَفَةَ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَاخْتَارَ
مِنْهَا يَوْمَ عَرَفَةَ.
(وَأَفْضَلُ اللَّيَالِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ) قَالَ تَعَالَى:
(2/224)
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ} [القدر: 3] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ: قِيَامُهَا، وَالْعَمَلُ
فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ خَالِيَةٍ مِنْهَا، وَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا
وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» زَادَ أَحْمَدُ:
" وَمَا تَأَخَّرَ ".
(وَخُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ) إكْرَامًا لِنَبِيِّهَا - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَهِيَ بَاقِيَةٌ) لَمْ تُرْفَعْ؛ لِوُرُودِ
الْأَخْبَارِ فِي طَلَبِهَا وَقِيَامِهَا، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ فِي
رَفْعِهَا.
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ فِي حَقِّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ)
، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ، وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِ أَبِي أُمَامَةَ، وَالْبُلْقِينِيِّ.
قَالَ فِي " الْهَدْيِ ": إنْ كَانَ الْمُرَادُ: لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ،
وَنَظَائِرُهَا مِنْ كُلِّ عَامٍ، أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ،
بِحَيْثُ يَكُونُ قِيَامُهَا، وَالدُّعَاءُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ
الْقَدْرِ، فَهَذَا بَاطِلٌ، لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ،
وَهُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ، وَإِنْ أَرَادَ اللَّيْلَةَ
الْمُعَيَّنَةَ الَّتِي أُسْرِيَ فِيهَا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَصَلَ لَهُ فِيهَا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِي
غَيْرِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْرَعَ تَخْصِيصُهَا بِقِيَامٍ وَلَا
عِبَادَةٍ، فَهَذَا صَحِيحٌ إنْ قَامَ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إنْعَامَ
اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ
إنْعَامِهِ عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَهَذَا
لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْوَحْيِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ
فِيهِ بِلَا عِلْمٍ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ
خُصَّتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ بِأَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، وَلِهَذَا لَا
يُعْرَفُ أَيَّ لَيْلَةٍ كَانَتْ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْرَاءُ فِي نَفْسِهِ
مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِهِ، كَمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَمْ يُفَضِّلْ غَارَ حِرَاءَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ
الْوَحْيُ، وَلَا خَصَّ الْيَوْمَ الَّذِي ابْتَدَأَهُ فِيهِ الْوَحْيُ
بِشَيْءٍ.
انْتَهَى.
قَالَ فِي حَاشِيَةِ " الْإِقْنَاعِ ": فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَلَامُ
أَبِي أُمَامَةَ وَالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا
فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ الْمُعَيَّنَةِ مَعَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ
كُلِّ عَامٍ، غَيْرَ الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ.
(2/225)
(وَسُمِّيَتْ) لَيْلَةَ (الْقَدْرِ،
لِتَقْدِيرِ مَا يَكُونُ تِلْكَ السَّنَةَ فِيهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، (أَوْ) سُمِّيَتْ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ، (لِشَرَفِ قَدْرِهَا) ، وَتَقَدَّمَ دَلِيلُهُ.
(وَ) هِيَ (مُخْتَصَّةٌ بِالْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ) ،
فَتُطْلَبُ فِيهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ
رَمَضَانَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَأَوْتَارُهُ) ، أَيْ: الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، (آكَدُ) ؛ لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ
الْأَوَاخِرِ فِي ثَلَاثٍ بَقِينَ، أَوْ سَبْعٍ بَقِينَ، أَوْ تِسْعٍ
بَقِينَ» (وَأَرْجَاهَا سَابِعَتُهُ) نَصًّا، وَهُوَ قَوْلُ: أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ، وَكَانَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَا يَسْتَثْنِي، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ أُبَيّ
بْنُ كَعْبٍ: " وَاَللَّهِ، لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهَا فِي
رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ
يُخْبِرَكُمْ، فَتَتَّكِلُوا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد.
(وَعَلَامَتُهَا) ، أَيْ: لَيْلَةِ الْقَدْرِ: (عَدَمُ حَرِّهَا وَ) عَدَمُ
(بَرْدِهَا) ؛ لِحَدِيثِ: «إنَّمَا أَمَارَةُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا
لَيْلَةٌ صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا، سَاكِنَةٌ
سَاجِيَةٌ، لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ
يُرْمَى فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ، وَإِنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ صَبِيحَتَهَا
تَخْرُجُ الشَّمْسُ مُسْتَوِيَةً، لَيْسَ فِيهَا شُعَاعٌ، مِثْلَ الْقَمَرِ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا
يَوْمَئِذٍ» (وَ) مِنْ عَلَامَتِهَا أَنَّ (طُلُوعَ شَمْسِ صَبِيحَتِهَا
بَيْضَاءُ بِلَا كَثِيرِ شُعَاعٍ) ؛ لِحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ
الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنْ صَبِيحَتِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا» وَفِي
رِوَايَةٍ: " مِثْلَ الطَّسْتِ ".
(وَسُنَّ كَوْنُ مِنْ دُعَائِهِ فِيهَا) ، أَيْ: لَيْلَةِ الْقَدْرِ، مَا
فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ وَافَقْتُهَا
فَبِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ
(2/226)
إنَّكَ عَفُوٌّ تَحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَغَيْرُهُ.
(وَتَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ) لَا أَنَّهَا لَيْلَةٌ
مُعَيَّنَةٌ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ،
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": قُلْتُ: وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا شَكَّ
فِيهِ، (وَحُكِيَ) ذَلِكَ (عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ) وَغَيْرِهِمْ،
(فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ) ، إنْ
كَانَ (قَبْلَ) مُضِيِّ (لَيْلَةِ أَوَّلِ الْعَشْرِ) الْأَخِيرِ مِنْ
رَمَضَانَ، (وَقَعَ) الطَّلَاقُ (بِلَيْلَةِ آخِرِهِ) ، أَيْ: آخِرِ
رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ لَا يَخْلُو مِنْهَا خِلَافًا لِابْنِ
عَادِلٍ، (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَ مَضَى مِنْ الْعَشْرِ لَيْلَةٌ
فَأَكْثَرُ، (فَ) يَقَعُ الطَّلَاقُ (فِي) اللَّيْلَةِ (الْأَخِيرَةِ
مِنْهُ) ، أَيْ: رَمَضَانَ، (فِي) الْعَامِ (الْقَابِلِ) ؛ لِيَتَحَقَّقَ
وُجُودُهَا، (وَكَطَلَاقٍ نَحْوُ عِتْقٍ) وَظِهَارٍ (وَيَمِينٍ) بِاَللَّهِ
تَعَالَى.
(وَمَنْ نَذَرَ قِيَامَهَا) ، أَيْ: لَيْلَةِ الْقَدْرِ، (قَامَ الْعَشْرَ)
الْأَخِيرَ (كُلَّهُ) .
تَتِمَّةٌ: لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ
لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ
أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ رَمَضَانَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: أَنَّ
لَيَالِيَ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ إنَّمَا فُضِّلَتْ بِاعْتِبَارِ
لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهِيَ مِنْ اللَّيَالِي، وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ
إنَّمَا فُضِّلَ بِاعْتِبَارِ أَيَّامِهِ، إذْ فِيهِ يَوْمُ النَّحْرِ،
وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ. |