مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى

 [كِتَابُ الْجِهَادِ]
ُ: مَصْدَرُ: جَاهَدَ جِهَادًا وَمُجَاهَدَةً مِنْ جَهَدَ: إذَا بَالَغَ فِي قَتْلِ عَدُوِّهِ، وَخَتَمَ بِهِ الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ تَطَوُّعِ الْبَدَنِ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْرِهِ بِهِ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النِّفَاقِ» . فَالْجِهَادُ لُغَةً: بَذْلُ الطَّاقَةِ وَالْوُسْعِ، وَشَرْعًا: (قِتَالُ الْكُفَّارِ) خَاصَّةً بِخِلَافِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِمْ (وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ) إذَا قَامَ بِهِ مَنْ يَكْفِي سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا أَثِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَالْخِطَابُ فِي ابْتِدَائِهِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، كَفَرْضِ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ يَخْتَلِفَانِ بِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَفُرُوضُ الْأَعْيَانِ لَا تَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ بِفِعْلِ غَيْرِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ: قَوْله تَعَالَى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدِينَ غَيْرُ آثِمِينَ مَعَ جِهَادِ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ السَّرَايَا وَيُقِيمُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

(2/497)


نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَأَبُو دَاوُد. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ حِينَ اسْتَنْفَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ كَمَا يَأْتِي وَلِذَلِكَ هَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَأَصْحَابَهُ، لَمَّا تَخَلَّفُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (وَهُوَ) أَيْ: فَرْضُ الْكِفَايَةِ: (مَا قُصِدَ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا وَاحِدٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ) كَرَدِّ السَّلَامِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ (كَسَتْرِ عَارٍ وَإِشْبَاعِ جَائِعٍ) وَفَكِّ أَسْرٍ عَلَى قَادِرٍ (مَعَ تَعَذُّرِ بَيْتِ الْمَالِ) عَنْ ذَلِكَ، أَوْ تَعَذُّرِ أَخْذِهِ مِنْهُ لِمَنْعٍ أَوْ نَحْوِهِ (وَ) مِنْ ذَلِكَ (صَنَائِعُ مُبَاحَةٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا غَالِبًا) لِمَصَالِحِ النَّاسِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ (كَخِيَاطَةٍ وَحِدَادَةٍ وَبِنَاءٍ وَزَرْعٍ وَغَرْسٍ) لِأَنَّ أَمْرَ الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ لَا يَنْتَظِمُ إلَّا بِذَلِكَ، فَإِذَا قَامَ بِذَلِكَ أَهْلُهُ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ كَانَ طَاعَةً، وَإِلَّا فَلَا (وَ) مِنْ ذَلِكَ إقَامَةُ الدَّعْوَةِ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ (كَدَفْعِ شُبَهٍ بِحُجَّةٍ وَسَيْفٍ) لِمَنْ عَانَدَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (وَ) مِنْهُ (أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ) وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ بِشَرْطِهِ. وَالْمَعْرُوفُ: كُلُّ مَا أُمِرَ بِهِ بِهِ شَرْعًا، وَالْمُنْكَرُ: كُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ شَرْعًا، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ جَزْمًا، وَشَاهَدَهُ وَعَرَفَ مَا يُنْكَرُ، وَلَمْ يَخَفْ أَذًى، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَسْقُطُ فَرْضُهُ بِالتَّوَهُّمِ، فَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَا تَأْمُرْ عَلِيًّا بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَقْتُلُك، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْإِرْشَادِ: مِنْ شَرْطِ الْإِنْكَارِ أَنْ يُعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى مَفْسَدَةٍ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ: إذَا أَمَرْت أَوْ نَهَيْت فَلَمْ يَنْتَهِ فَلَا تَرْفَعْهُ إلَى السُّلْطَانِ

(2/498)


لِيُعْدِيَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ خَوْفَ التَّلَفِ، وَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ شَرْطِهِ أَيْضًا رَجَاءُ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَعَدَمُ قِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ، نَقَلَهُ فِي الْآدَابِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَعَلَى النَّاسِ إعَانَةُ الْمُنْكِرِ، وَنَصْرُهُ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَأَعْلَاهُ بِالْيَدِ، ثُمَّ بِاللِّسَانِ، ثُمَّ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ لَيْسَ بِالسَّيْفِ وَالسِّلَاحِ. وَمِنْهُ عَمَلُ قَنَاطِرَ وَجُسُورٍ وَأَسْوَارٍ وَمَسَاجِدَ، لِعُمُومِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ، وَكَفَتْوَى (وَتَعْلِيمِ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَ) سَائِرِ عُلُومٍ شَرْعِيَّةٍ كَفِقْهٍ وَأُصُولِهِ وَتَفْسِيرٍ وَفَرَائِضَ وَآلَاتِهَا مِنْ (نَحْوِ حِسَابٍ وَلُغَةٍ) وَنَحْوٍ (وَصَرْفٍ) وَكَقِرَاءَةٍ وَطِبٍّ، قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى ذَكَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّ عِلْمَ الطِّبِّ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهَذَا غَرِيبٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ عُلُومٍ مُحَرَّمَةٍ كَكَلَامٍ إذَا تَكَلَّمَ فِيهِ بِالْمَعْقُولِ الْمَحْضِ، أَوْ الْمُخَالِفِ لِلْمَنْقُولِ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بِالنَّقْلِ فَقَطْ، أَوْ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لَهُ، فَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَطَرِيقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ. وَفَلْسَفَةٍ وَشَعْبَذَةٍ وَتَنْجِيمٍ وَضَرْبٍ بِرَمْلٍ وَحَصًى وَشَعِيرٍ وَكِيمْيَاءٍ (وَعُلُومِ طَبَائِعَ وَسِحْرٍ) وَطَلْسَمَاتٍ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا وَتَلْبِيسَاتٍ، وَحِسَابِ اسْمِ الشَّخْصِ وَاسْمِ أُمِّهِ بِالْجُمَلِ، وَأَنَّ طَالِعَهُ كَذَا وَنَجْمَ كَذَا، وَالْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ بِفَقْرٍ أَوْ غِنًى، وَعِلْمِ اخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَنِسْبَتُهُ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَذِبٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَكَالدَّلَائِلِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْأَحْوَالِ السُّفْلِيَّةِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ فِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَضُرُّ تَعَلُّمُ وَتَعْلِيمُ عِلْمِ نُجُومٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جِهَةٍ وَقِبْلَةٍ وَوَقْتٍ وَمَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ كَوَاكِبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ (مُسْتَحَبٌّ) كَالْأَدَبِ، وَقَدْ يَجِبُ إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ وَخَفِيَتْ الْقِبْلَةُ.

(2/499)


(وَكُرِهَ مَنْطِقٌ مَا لَمْ يُخَفْ فَسَادُ عَقِيدَتِهِ) فَإِنْ خِيفَ حَرُمَ (وَأَشْعَارٌ تَشْتَمِلُ عَلَى غَزْلٍ وَبَطَالَةٍ، وَيُبَاحُ مِنْهَا مَا لَا سُخْفَ فِيهِ غَيْرُ مُنَشِّطٍ عَلَى شَرٍّ، وَمُثَبِّطٍ عَنْ خَيْرٍ) إذْ الشِّعْرُ كَالْكَلَامِ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، فَيَحْرُمُ مِنْهُ مَا كَانَ هُجْرًا أَوْ فُحْشًا أَوْ تَشْبِيبًا بِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ بِأَمْرَدَ أَوْ خَمْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِطْنَابًا فِي مَدْحِ النَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، وَبِفِسْقٍ بِذَلِكَ، وَيُبَاحُ إنْ كَانَ حِكَمًا وَأَدَبًا أَوْ مَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا أَوْ لُغَةً يُسْتَشْهَدُ بِهَا عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَوْ مَدِيحًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِلنَّاسِ بِمَا لَا كَذِبَ فِيهِ (وَأُبِيحَ عِلْمُ هَيْئَةٍ وَهَنْدَسَةٍ وَعَرُوضٍ) وَقَوَافِي (وَمَعَانٍ وَبَيَانٍ) قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ: قُلْت: لَوْ قِيلَ بِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، إذْ هُوَ كَالنَّحْوِ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى نِكَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

(وَسُنَّ جِهَادٌ بِتَأَكُّدٍ مَعَ قِيَامِ مَنْ يَكْفِي بِهِ) لِلْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ هُنَا: نُهُوضُ قَوْمٍ يَكْفُونَ فِي قِتَالِهِمْ، جُنْدًا كَانَ لَهُمْ دَوَاوِينُ، أَوْ أَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ تَبَرُّعًا، بِحَيْثُ إذَا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ حَصَلَتْ الْمَنَعَةُ بِهِمْ، يَكُونُ بِالثُّغُورِ مَنْ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ عَنْ أَهْلِهَا، وَيَبْعَثُ الْإِمَامُ فِي كُلِّ سَنَةٍ جَيْشًا يُغِيرُونَ عَلَى الْعَدُوِّ فِي بِلَادِهِمْ.
(وَلَا يَجِبُ) جِهَادٌ (إلَّا عَلَى ذَكَرٍ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: «هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ، فَقَالَ: عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» وَلِضَعْفِ الْمَرْأَةِ وَخُورِهَا، بِضَمِّ الْخَاءِ: الرَّيْبُ فَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ، لِلشَّكِّ فِي شَرْطِهِ (مُسْلِمٌ) كَسَائِرِ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ (مُكَلَّفٍ) فَلَا يَجِبُ عَلَى صَغِيرٍ، وَلَا عَلَى مَجْنُونٍ، لِحَدِيثِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» (حُرٍّ) ، فَلَا يَجِبُ عَلَى عَبْدٍ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُبَايِعُ الْحُرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، وَيُبَايِعُ الْعَبْدَ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْجِهَادِ.

(2/500)


(صَحِيحٍ) أَيْ: سَلِيمٍ مِنْ الْعَمَى وَالْعَرَجِ وَالْمَرَضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17] وَكَذَا لَا يَلْزَمُ أَشَلَّ، وَلَا أَقْطَعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ، وَلَا مَنْ أَكْثَرُ أَصَابِعِهِ ذَاهِبَةٌ أَوْ إبْهَامِهِ، أَوْ مَا يَذْهَبُ بِذَهَابِهِ بِهِ نَفْعُ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ (وَلَوْ) كَانَ الصَّحِيحُ (أَعْشَى) أَيْ: ضَعِيفَ الْبَصَرِ (أَوْ) كَانَ (مَرِيضًا مَرَضًا يَسِيرًا) لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْجِهَادِ (كَوَجَعِ ضِرْسٍ وَصُدَاعٍ خَفِيفَيْنِ) وَنَحْوِهِمَا كَالْعَوَرِ.
(وَلَا) يُمْنَعُ مِنْ خُرُوجٍ (أَعْمَى - وَاجِدٌ بِمِلْكٍ أَوْ) وَاجِدٌ (بِبَذْلِ إمَامٍ مَا يَكْفِيهِ) وَيَكْفِي (أَهْلَهُ فِي غَيْبَتِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] الْآيَةَ. (وَ) أَنْ يَجِدَ (مَعَ) بُعْدِ مَحَلِّ جِهَادٍ (مَسَافَةِ قَصْرِ) فَأَكْثَرَ مِنْ بَلَدِهِ (مَا يَحْمِلُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] الْآيَةَ.
وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَفْضُلَ ذَلِكَ عَنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَحَوَائِجِهِ كَحَجٍّ، وَإِنْ بَذَلَ لَهُ غَيْرُ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ مَا يُجَاهِدُ بِهِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَطِيعًا.
(قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (وَالْأَمْرُ بِالْجِهَادِ) يَعْنِي: الْجِهَادَ الْمَأْمُورَ بِهِ (مِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ) كَالْعَزْمِ عَلَيْهِ (وَالدَّعْوَةِ) إلَى الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعه (وَالْحُجَّةِ) أَيْ إقَامَتِهَا عَلَى الْمُبْطِلِ (وَالْبَيَانِ) أَيْ: بَيَانِ الْحَقِّ، وَإِزَالَةِ الشُّبَهِ (وَالرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ) فِيمَا فِيهِ نَفْعُ الْمُسْلِمِينَ (وَالْبَدَنِ) أَيْ: الْقِتَالِ بِنَفْسِهِ (فَيَجِبُ) الْجِهَادُ (بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُهُ) مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ: قُلْت: وَمِنْهُ: هَجْوُ الْكُفَّارِ،

(2/501)


كَمَا كَانَ حَسَّانٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يَهْجُو أَعْدَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(وَسُنَّ تَشْيِيعُ غَازٍ) نَصًّا، لِأَنَّ عَلِيًّا شَيَّعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَلَمْ يَتَلَقَّهُ. وَرُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ شَيَّعَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الشَّامِ، وَيَزِيدُ رَاكِبٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يَمْشِي، فَقَالَ لَهُ: مَا تُرِيدُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ إمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ أَنَا فَأَمْشِي مَعَك، فَقَالَ: لَا أَرْكَبُ، وَلَا تَنْزِلُ إنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي الْخَبَرِ «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» .
وَ (لَا) يُسْتَحَبُّ (تَلَقِّيه) أَيْ: الْغَازِي، لِأَنَّهُ تَهْنِئَةٌ لَهُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ الشَّهَادَةِ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ مِثْلُهُ حَجٌّ، وَأَنَّهُ يَقْصِدُهُ لِلسَّلَامِ.

(وَذَكَرَ) أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ (اسْتِحْبَابَ تَشْيِيعِ الْحَاجِّ وَوَدَاعِهِ وَمَسْأَلَتِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ) وَشَيَّعَ أَحْمَدُ أُمَّهُ بِالْحَجِّ (وَفِي الْفُنُونِ تَحْسُنُ تَهْنِئَةٌ بِقُدُومِ مُسَافِرٍ، كَمَرِيضٍ) تَحْسُنُ تَهْنِئَةُ كُلٍّ بِسَلَامَتِهِ (وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ) لِأَبِي الْمَعَالِي أَسْعَدَ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَجِيهُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّى: (تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَادِمٍ وَمُعَانَقَتُهُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ) وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي حَجٍّ: لَا، إلَّا إنْ كَانَ قَصَدَهُ، أَوْ ذَا عِلْمٍ أَوْ هَاشِمِيًّا، أَوْ يُخَافُ شَرُّهُ، وَنَقَلَ ابْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمَا: اُكْتُبَا لِي اسْمَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْنَا مِمَّنْ حَجَّ حَتَّى إذَا قَدِمَ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، قَالَ الْقَاضِي: جَعَلَهُ مُقَابَلَةً، وَلَمْ يُسْتَحَبَّ أَنْ يَبْدَأَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: مَحْمُولٌ عَلَى صِيَانَةِ الْعِلْمِ لَا عَلَى الْكِبْرِ.

(وَأَقَلُّ مَا يُفْعَلُ جِهَادٌ) مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي (كُلِّ عَامٍ مَرَّةً) لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَرَّةً فِي الْعَامِ، وَهِيَ بَدَلُ النُّصْرَةِ فَكَذَا مُبْدِلُهَا (إلَّا أَنْ تَدْعُوَ حَاجَةٌ) لِتَأْخِيرِهِ (كَضَعْفِنَا) مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَدَدٍ أَوْ عِدَّةٍ، أَوْ قِلَّةِ عَلَفٍ أَوْ مَاءٍ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ انْتِظَارِ مَدَدٍ نَسْتَعِينُ

(2/502)


بِهِ، فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِهُدْنَةٍ وَبِغَيْرِهَا، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ قُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ، وَأَخَّرَ قِتَالَهُمْ حَتَّى نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَأَخَّرَ قِتَالَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ هُدْنَةٍ (وَإِنْ دَعَتْ حَاجَةٌ لِقِتَالٍ) أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ (فِي عَامٍ وَجَبَ) لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَوَجَبَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ (وَنُسِخَ تَحْرِيمُ الْقِتَالِ بِأَشْهُرٍ حُرُمٍ) وَهِيَ رَجَبٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَمُحَرَّمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وبِغَزْوِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّائِفَ هَذَا الْمَذْهَبُ وَاخْتَارَ فِي الْهَدْيِ لَا، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ تَمَامِ غَزْوَةِ هَوَازِنَ، وَهُمْ بَدَءُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِتَالِ، قَالَ: وَيَجُوزُ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ دَفْعًا إجْمَاعًا. (وَمَنْ حَضَرَ الصَّفَّ) تَعَيَّنَ عَلَيْهِ (أَوْ حُصِرَ) هُوَ (أَوْ) حُصِرَ (بَلَدُهُ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] وَقَوْلُهُ: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] (أَوْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ) فِي الْقِتَالِ وَلَوْ بَعْدَ تَعَيُّنٍ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (أَوْ اسْتَنْفَرَهُ) أَيْ: طَلَبَهُ لِلْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ (مَنْ لَهُ اسْتِنْفَارُهُ) مِنْ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ (تَعَيَّنَ عَلَيْهِ) الْقِتَالُ (حَيْثُ لَا عُذْرَ) لَهُ (وَلَوْ عَبْدًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38] : وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(وَلَا يُنْفَرُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَلَا بَعْدَ الْإِقَامَةِ) لِصَلَاةِ جُمُعَةٍ وَغَيْرِهَا نَصًّا (وَلَوْ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ وَ) النَّفِيرِ وَ (الْعَدُوُّ

(2/503)


بَعِيدٌ) - جُمْلَةُ حَالِيَّةٌ - (صَلَّى، ثُمَّ نَفَرَ) إجَابَةً لِلدُّعَاءَيْنِ، وَإِنْ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ (وَ) النَّفِيرِ (مَعَ قُرْبِهِ) أَيْ: الْعَدُوِّ (يَنْفِرُ، وَيُصَلِّي رَاكِبًا أَفْضَلُ) نَصًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ ثُمَّ يَنْفِرَ (وَلَا يُنْفِرُ) أَيْ: لَا يُنَادِي بِالنَّفِيرِ (ل) أَجْلِ (آبِقٍ) لِئَلَّا يَهْلَكَ النَّاسُ بِسَبَبِهِ (وَلَوْ نُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ لِحَادِثَةٍ يُشَاوَرُ فِيهَا، لَمْ يَتَأَخَّرْ أَحَدٌ بِلَا عُذْرٍ) لَهُ، لِوُجُوبِ جِهَادٍ بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَدَنٍ وَرَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ، وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ.
(ومَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ نَزَعَ لَأْمَةَ الْحَرْبِ إذَا لَبِسَهَا حَتَّى يَلْقَى الْعَدُوَّ) لِحَدِيثِ أَحْمَدَ، وَحَسَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. وَاللَّأْمَةُ كَ: تَمْرَةٍ، تُجْمَعُ عَلَى: لَأْمٍ كَتَمْرٍ، وَعَلَى لُؤَمٍ كَصُرَدٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَلَعَلَّهُ جَمَعَ لُؤَمَةٍ كَجُمُعَةٍ، وَجُمَعٍ (وَ) مَنَعَ (مِنْ رَمْزٍ بِعَيْنٍ وَإِشَارَةٍ بِهَا) لِخَبَرِ: «مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَهِيَ: الْإِيمَاءُ إلَى مُبَاحٍ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ أَوْ قَتْلٍ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِشَبَهِهِ بِالْخِيَانَةِ بِإِخْفَائِهِ، وَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا فِي مَحْظُورٍ (وَ) مَنَعَ مِنْ (شِعْرٍ وَخَطٍّ وَتَعَلُّمِهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] وَقَوْلُهُ: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] .

[فَصْلٌ أَفْضَلُ مُتَطَوَّعٍ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْجِهَادُ]
(فَصْلٌ) وَأَفْضَلُ مُتَطَوَّعٍ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْجِهَادُ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ بَذْلُ الْمُهْجَةِ وَالْمَالِ، وَنَفْعُهُ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، قَوِيَّهُمْ وَضَعِيفَهُمْ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ

(2/504)


وَغَيْرُهُ لَا يُسَاوِيهِ فِي نَفْعِهِ وَخَطَرِهِ، فَلَا يُسَاوِيهِ فِي فَضْلِهِ (وَغَزْوُ الْبَحْرِ أَفْضَلُ) مِنْ غَزْوِ الْبَرِّ، «لِحَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَامَ عِنْدَهَا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْت: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ ثَبَجُ الشَّيْءِ: وَسَطُهُ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا: «شَهِيدُ الْبَحْرِ مِثْلُ شَهِيدَيْ الْبَرِّ، وَالْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ فِي الْبَرِّ، وَمَا بَيْنَ الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ إلَّا شُهَدَاءَ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ، وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إلَّا الدَّيْنَ، وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالدَّيْنَ» وَلِأَنَّ الْبَحْرَ أَعْظَمُ خَطَرًا وَمَشَقَّةً، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْمَائِدُ: الَّذِي يُصِيبُهُ غَثَيَانٌ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ.

(وَلَا بَأْسَ بِخَلْعِ نَعْلِهِ) أَيْ: مُشَيِّعِ الْغُزَاةِ (لِتَغْبَرَّ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَعَلَهُ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ) حِينَ شَيَّعَ أَبَا الْحَارِثِ الصَّائِغَ، وَنَعْلَاهُ فِي يَدِهِ (وَتُكَفِّرُ الشَّهَادَةُ كُلَّ الذُّنُوبِ غَيْرَ الدَّيْنِ) لِلْخَبَرِ (إلَّا شَهِيدَ بَحْرٍ) فَيُكَفَّرُ عَنْهُ الدَّيْنُ (قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (وَغَيْرُ مَظَالِمِ الْعِبَادِ كَقَتْلٍ وَظُلْمٍ) وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ أَخَّرَهُمَا، فَلَا تُكَفِّرُهُمَا الشَّهَادَةُ (وَهَذَا) أَيْ: تَكْفِيرُ شَهَادَةِ الْبَحْرِ بِخُصُوصِهَا لِلدَّيْنِ (فِي مُتَهَاوَنٍ فِي قَضَائِهِ) أَيْ: لِلدَّيْنِ (وَإِلَّا) بِتَهَاوُنٍ فِي قَضَائِهِ، بَلْ تَرَكَهُ عَجْزًا عَنْهُ (فَاَللَّهُ يَقْضِيه عَنْهُ) سَوَاءٌ (مَاتَ) حَتْفَ أَنْفِهِ (أَوْ قُتِلَ حَيْثُ أَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا تَبْذِيرٍ، قَالَ الْآجُرِّيُّ) وَقَالَ الْمَجْدُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ الْغَارِمُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ فَغَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ. انْتَهَى.

(2/505)


وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ الْفُنُونِ: أَنَا أَقُولُ: الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ فَرْعٌ عَلَى مُطَالَبَةِ الدُّنْيَا وَكُلُّ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ فِي الدُّنْيَا فَلَا ثَبَاتَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ: كُلُّ حَقٍّ مُوَسَّعٌ لَا يَحْصُلُ بِتَأْخِيرِهِ فِي زَمَانِ السَّعَةِ وَالْمُهْلَةِ نَوْعُ مَأْثَمٍ، بِدَلِيلِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ التَّأْخِيرِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، قَالَ أَيْضًا: الْمُعْسِرُ الْعَازِمُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مَتَى اسْتَطَاعَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْيَسَارِ، وَعَزَمَ عَلَى الْقَضَاءِ، قَامَ الْعَزْمُ فِي دَفْعِ مَأْثَمِهِ مَقَامَ الْقَضَاءِ، فَلَا مَأْثَمَ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ فِي مَسْأَلَةِ حِلِّ الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ: مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ كَلَامَ الْأَصْحَابِ كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَاخْتَلَفَ كَلَامُهُمْ: هَلْ تُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ الْمُطَالَبَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْآجُرِّيُّ وَالْمَجْدِ: اعْتِبَارُ الْقُدْرَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي يَعْلَى الصَّغِيرِ، بَلْ صَرِيحُهُ: اعْتِبَارُ الْمُطَالَبَةِ مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ، فَإِذَا لَمْ يُطَالِبْ الدَّائِنُ الْمَدِينَ حَتَّى مَاتَ، وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ، لَمْ يَكُنْ الْمَدِينُ مُؤَاخَذًا إنْ كَانَ قَادِرًا كَمَا فَهِمَهُ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ.
(وَيُغْزَى مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ يَحْفَظَانِ الْمُسْلِمِينَ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ

(2/506)


مَرْفُوعًا: «الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَ (لَا) يُغْزَى مَعَ أَمِيرٍ (مُخَذِّلٍ وَنَحْوِهِ) كَمَعْرُوفٍ بِهَزِيمَةٍ وَتَضْيِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ (وَيُقَدَّمُ أَقْوَاهُمَا) أَيْ: الْأَمِيرَيْنِ (وَلَوْ عُرِفَ بِغُلُولٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ) لِحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدَّيْنَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (وَجِهَادُ عَدُوٍّ مُجَاوِرٍ مُتَعَيَّنٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وَلِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْبَعِيدِ يُمَكَّنُ الْقَرِيبَ مِنْ انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ (إلَّا لِحَاجَةٍ) إلَى قِتَالِ الْأَبْعَدِ، كَكَوْنِ الْأَقْرَبِ مُهَادَنًا، أَوْ مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ قِتَالِهِ، أَوْ كَانَ الْأَبْعَدُ أَخْوَفَ، أَوْ لِعِزَّتِهِ وَنَحْوِهَا، فَلَا بَأْسَ بِالْبَدَاءَةِ بِالْأَبْعَدِ لِلْحَاجَةِ. (مَعَ تَسَاوٍ) فِي قُرْبٍ وَبُعْدٍ بَيْنَ عَدُوَّيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَهْلُ كِتَابٍ

(جِهَادُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِأُمِّ خَلَّادٍ: إنَّ ابْنَك لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، قَالَتْ: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ كِتَابٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ عَنْ دِينٍ. (وَيُقَاتِلُونَ) أَيْ: أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس (إلَّا إنْ أَسْلَمُوا) لِحَدِيثِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» (أَوْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ) بِشَرْطِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ (وَ) يُقَاتَلُ (نَحْوُ وَثَنِيٍّ) مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ كَعَابِدِ كَوْكَبٍ (حَتَّى يُسْلِمَ) لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، خَصَّ مِنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ لِلْآيَةِ، وَالْمَجُوسُ لِأَخْذِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَبَقِيَ مَنْ عَدَاهُمْ (فَإِنْ امْتَنَعُوا) مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ حَيْثُ تُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَمِنْ الْإِسْلَامِ (وَضَعُفَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ قِتَالِهِمْ، انْصَرَفُوا) عَنْ الْكُفَّارِ بِلَا قِتَالٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُصَالَحَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ عَشْرَ

(2/507)


سِنِينَ، وَإِنْ خِيفَ عَلَى مَنْ يَلِي الْكُفَّارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ الِانْصِرَافُ عَنْ الْكُفَّارِ، لِئَلَّا يُسَلِّطُوهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

(وَسُنَّ دَعْوَةُ) كُفَّارٍ إلَى الْإِسْلَامِ (قَبْلَ قِتَالٍ لِمَنْ بَلَغَتْهُ) الدَّعْوَةُ قَطْعًا لِحُجَّتِهِ (وَتَجِبُ) الدَّعْوَةُ (لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ) لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: إذَا لَقِيتَ عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى ثَلَاثٍ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك إلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ: اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ (مَا لَمْ يَبْدَءُونَا) أَيْ: يَقْصِدُونَا (بَغْتَةً فِيهِمَا) أَيْ: فِي الِاسْتِحْبَابِ وَالْوُجُوبِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وُجُوبُ الدَّعْوَةِ وَاسْتِحْبَابُهَا بِمَا إذَا قَصَدَ الْمُسْلِمُونَ الْكُفَّارَ، أَمَّا إذَا كَانَ الْكُفَّارُ قَاصِدِينَ بِالْقِتَالِ، فَلِلْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ دَفْعًا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ.
(وَأَمْرُ الْجِهَادِ مُفَوَّضٌ لِلْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ) لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِحَالِ النَّاسِ، وَحَالِ الْعَدُوِّ وَنِكَايَتِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ (وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] (وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَتِّبَ قَوْمًا بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ يَكْفُونَ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ كُفَّارٍ وَيَعْمَلُ حُصُونَهُمْ وَ) يَحْفِرُ (خَنَادِقَهُمْ وَجَمِيعَ مَصَالِحِهِمْ) لِأَنَّ أَهَمَّ الْأُمُورِ الْأَمْنُ، وَهَذَا طَرِيقُهُ (وَيُؤَمِّرُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ أَمِيرًا يُقَلِّدُهُ أَمْرَ الْحَرْبِ) وَتَدْبِيرَ الْجِهَادِ يَكُونُ (ذَا رَأْيٍ وَعَقْلٍ وَخِبْرَةٍ بِهِ)

(2/508)


أَيْ: الْحَرْبِ، وَمَكَايِدِ الْعَدُوِّ مَعَ أَمْنٍ (وَرِفْقٍ بِالْمُسْلِمِينَ، وَنُصْحٍ لَهُمْ) لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إقَامَتِهِ (وَيُوصِيهِ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ عَلَى مَهْلَكَةٍ، وَلَا يَأْمُرَهُمْ بِدُخُولِ مَطْمُورَةٍ يُخَافُ مِنْهُ) الْقَتْلُ تَحْتَهَا، لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ السَّابِقِ (فَإِنْ فَعَلَ) أَيْ: حَمَلَهُمْ عَلَى مَهْلَكَةٍ أَوْ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ مَطْمُورَةٍ يُخَافُ أَنْ يُقْتَلُوا تَحْتَهَا (فَقَدْ أَسَاءَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ) وَتَابَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، لِوُجُوبِ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، (وَلَا عَقْلَ) أَيْ: دِيَةَ (عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ إذَا أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِطَاعَتِهِ) لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ.

(وَسُنَّ رِبَاطٌ) نَصَّ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ، «، يَقُولُ: رِبَاطُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، فَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الْمَرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(وَهُوَ) أَيْ: الرِّبَاطُ: (لُزُومُ ثَغْرٍ لِجِهَادٍ) تَقْوِيَةً لِلْمُسْلِمِينَ (وَلَوْ سَاعَةً) قَالَ أَحْمَدُ: يَوْمٌ رِبَاطٌ، وَلَيْلَةٌ رِبَاطٌ، وَسَاعَةٌ رِبَاطٌ. وَالثَّغْرُ: كُلُّ مَكَان يُخِيفُ أَهْلَهُ الْعَدُوَّ، وَيُخِيفُهُمْ وَسُمِّيَ الْمُقَامُ بِالثُّغُورِ رِبَاطًا، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ (وَتَمَامُهُ) أَيْ: الرِّبَاطِ: (أَرْبَعُونَ يَوْمًا) رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ مَرْفُوعًا (وَأَفْضَلُهُ) أَيْ: الرِّبَاطِ (بِأَشَدَّ خَوْفٍ) مِنْ الثُّغُورِ، لِأَنَّ مُقَامَهُ بِهِ أَنْفَعُ، وَأَهْلَهُ أَحْوَجُ (وَهُوَ) أَيْ: الرِّبَاطُ (أَفْضَلُ مِنْ مُقَامٍ بِمَكَّةَ) ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إجْمَاعًا (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:

(2/509)


رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ) مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ رَابَطَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الرِّبَاطَ، رَوَاهُ سَعِيدٌ.
(وَصَلَاةٌ بِهِمَا) أَيْ: الْمَسْجِدَيْنِ، (أَفْضَلُ مِنْهَا) أَيْ: صَلَاةٍ (بِثَغْرٍ) قَالَ أَحْمَدُ: فَأَمَّا فَضْلُ الصَّلَاةِ، فَهَذَا شَيْءٌ خَاصَّةُ فَضْلٍ لِهَذِهِ الْمَسَاجِدِ.
(وَكُرِهَ) لِغَيْرِ أَهْلِ ثَغْرٍ (نَقْلُ أَهْلِهِ) مِنْ الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ (لِثَغْرٍ مَخُوفٍ) لِقَوْلِ عُمَرَ: لَا تُنْزِلُوا الْمُسْلِمِينَ خِيفَةَ الْبَحْرِ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: كَيْفَ لَا أَخَافُ الْإِثْمَ وَهُوَ يُعَرِّضُ ذُرِّيَّتَهُ لِلْمُشْرِكِينَ (وَإِلَّا) يَكُنْ الثَّغْرُ مَخُوفًا (فَلَا) يُكْرَهُ نَقْلُ أَهْلِهِ إلَيْهِ (كَ) مَا لَا تُكْرَهُ إقَامَةُ (أَهْلِ الثَّغْرِ) بِهِ بِأَهْلِيهِمْ، إنْ كَانَ مَخُوفًا، لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ السُّكْنَى بِهِمْ، وَإِلَّا لَخَرِبَتْ الثُّغُورُ وَتَعَطَّلَتْ.
(وَالْحَرْسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثَوَابُهُ عَظِيمٌ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَعَنْ عُثْمَانَ مَرْفُوعًا قَالَ: «حَرَسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ قِيَامِ لَيْلِهَا وَصِيَامِ نَهَارِهَا» رَوَاهُ ابْنُ سَنْجَرٍ.
(وَالْهِجْرَةُ حُكْمُهَا بَاقٍ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا كَانَ الْجِهَادُ» رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ مَعَ إطْلَاقِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَتَحَقُّقِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» يَعْنِي: مِنْ مَكَّةَ، وَكُلُّ بَلَدٍ فُتِحَ لَا تَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ إنَّمَا الْهِجْرَةُ إلَيْهِ، لِأَنَّ الْهِجْرَةَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفَّارِ،

(2/510)


فَإِذَا فُتِحَ لَمْ يَبْقَ بَلَدُ الْكُفَّارِ، فَلَا تَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ (فَ) يَجِبُ (عَلَى عَاجِزٍ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ بِمَحَلٍّ يَغْلِبُ) فِيهِ (حُكْمُ كُفْرٍ أَوْ) يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ (بِدَعٍ مُضِلَّةٍ) كَاعْتِزَالِ وَتَشَيُّعٍ (الْهِجْرَةُ) أَيْ: الْخُرُوجُ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] الْآيَاتِ.
وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: أَيْ: لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ وَيَرَوْنَ نَارَهُ إذَا أُوقِدَتْ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِأَمْرِ الدِّينِ وَاجِبٌ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ، وَقَوْلُهُ: لَا تَرَاءَى أَصْلُهُ: تَتَرَاءَى، فَحُذِفَتْ إحْدَى التَّاءَيْنِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ أُرِيدَ بِهَا النَّهْيُ.
فَائِدَةٌ: لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي، وَعَلَى مَنْ كَانَ بَيْنَهُمْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ لِلْخَبَرِ (إنْ قَدَرَ) عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ، وَمَا أُلْحِقَ بِهَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء: 98] .
وَلَوْ كَانَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ امْرَأَةً فِي عِدَّةٍ أَوْ كَانَتْ (بِلَا رَاحِلَةٍ وَلَا مَحْرَمٍ) بِخِلَافِ الْحَجِّ. (وَسُنَّتْ) الْهِجْرَةُ (لِقَادِرٍ عَلَى إظْهَارِهِ) أَيْ دِينِهِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ، وَيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ، وَإِعَانَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُكْثِرَهُمْ.
(وَيَتَّجِهُ) : أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ أَمْكَنَهَا إظْهَارَ دِينِهَا، وَأَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا الْفِتْنَةَ فِيهِ (فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا) الْهِجْرَةُ (إذَنْ) مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ وَمَا أُلْحِقَ

(2/511)


بِهَا (بِلَا مَحْرَمٍ) وَإِنْ لَمْ تَأْمَنْهُمْ، جَازَ الْخُرُوجُ حَتَّى وَحْدَهَا، قَالَهُ الْمَجْدُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ، بَلْ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْإِنْصَافِ وَغَيْرِهِ.
(وَحَرُمَ سَفَرٌ إلَيْهِ) أَيْ: إلَى مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ كُفْرٍ أَوْ بِدَعٍ مُضِلَّةٍ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ بِهِ، (وَلَوْ) كَانَ سَفَرُهُ (لِتِجَارَةٍ) لِأَنَّ رِبْحَهُ الْمَظْنُونَ لَا يَفِي بِخُسْرَانِهِ الْمُحَقَّقِ فِي دِينِهِ (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ) بِذَلِكَ الْمَحِلِّ (كُرِهَ) لَهُ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَطَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَالنَّظَرِ إلَى أَعْدَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

(وَلَا يَتَطَوَّعُ بِجِهَادٍ مَدِينٍ آدَمِيٌّ لَا وَفَاءَ لَهُ) حَالًّا كَانَ الدَّيْنُ أَوْ مُؤَجَّلًا، لِأَنَّ الْجِهَادَ يُقْصَدُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، فَتَفُوتُ بِهِ النَّفْسُ فَيَفُوتُ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ أَوْ لِآدَمِيٍّ، وَلَهُ وَفَاءٌ جَازَ لَهُ التَّطَوُّعُ (إلَّا مَعَ إذْنِ) رَبِّ الدَّيْنِ، فَيَجُوزُ لِرِضَاهُ (أَوْ) مَعَ (رَهْنٍ يُحْرَزُ) بِأَنْ يُمْكِنُ وَفَاؤُهُ مِنْهُ (أَوْ) مَعَ (كَفِيلٍ مَلِيءٍ) بِالدَّيْنِ، فَيَجُوزُ إذَنْ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلَا إذْنَ لِغَرِيمِهِ، لِتَعَلُّقِ الْجِهَادِ بِعَيْنِهِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَلَا يَتَطَوَّعُ بِجِهَادٍ مِنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ (حُرٌّ مُسْلِمٌ عَاقِلٌ إلَّا بِإِذْنِهِ) لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجَاهِدُ؟ فَقَالَ: لَكَ أَبَوَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ، فَلَا إذْنَ لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَلِعَدَمِ الْوِلَايَةِ (إلَّا إنْ تَعَيَّنَ) عَلَيْهِ الْجِهَادُ، لِحُضُورِ

(2/512)


الصَّفِّ أَوْ حَصْرِ الْعَدُوِّ أَوْ اسْتِنْفَارِ الْإِمَامِ لَهُ (فَيَسْقُطُ إذْنُهُمَا كَإِذْنِ غَرِيمٍ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ.
(وَلَا يَتَعَرَّضُ مَدِينٌ نَدْبًا لِمَكَانِ قَتْلٍ كَمُبَارَزَةٍ وَوُقُوفٍ بِأَوَّلِ صَفٍّ) لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِتَفْوِيتِ الْحَقِّ (وَإِنْ أَذِنَا) أَيْ: أَبَوَاهُ فِي خُرُوجِهِ لِجِهَادِ تَطَوُّعٍ (ثُمَّ رَجَعَا) عَنْ الْإِذْنِ قَبْلَ تَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ (فَعَلَيْهِ الرُّجُوعُ) لِأَنَّهُ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ فِي الِابْتِدَاءِ مَنَعَ، فَمَنَعَ إذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ كَسَائِرِ الْمَوَانِعِ إنْ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ بِأَنْ لَا يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ حُدُوثِ مَرَضٍ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْإِقَامَةُ فِي الطَّرِيقِ أَقَامَ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الرُّجُوعِ فَيَرْجِعَ، وَإِلَّا مَضَى مَعَ الْجَيْشِ (وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ) الْجِهَادُ بِأَنْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ، أَمَّا لَوْ حَضَرَهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ بِحُضُورِهِ، وَسَقَطَ إذْنُهُمَا، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمَا عَنْ الْإِذْنِ بَعْدَ تَعَيُّنِ الْجِهَادِ عَلَيْهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ شَيْئًا، لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْإِذْنِ (إذَنْ، وَكَذَا لَوْ كَانَا) أَيْ: الْأَبَوَانِ (كَافِرَيْنِ) فَأَسْلَمَا وَمَنَعَاهُ، كَانَ كَمَنْعِهِمَا بَعْدَ إذْنِهِمَا مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ (وَإِنْ أَذِنَا لَهُ، وَشَرَطَا) عَلَيْهِ (أَنْ لَا يُقَاتِلَ، فَحَضَرَ الْقِتَالَ، تَعَيَّنَ) عَلَيْهِ (وَسَقَطَ شَرْطُهُمَا) وَكَذَا لَوْ اسْتَنْفَرَهُ مَنْ لَهُ اسْتِنْفَارُهُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِهِ الْجِهَادُ عَلَيْهِ (وَلَا إذْنَ) مُعْتَبَرٌ (لِجَدٍّ وَجَدَّةٍ مُطْلَقًا) مُسْلِمَيْنِ كَانَا أَوْ كَافِرَيْنِ، حُرَّيْنِ أَوْ رَقِيقَيْنِ، عَاقِلَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ لِوُرُودِ الْأَخْبَارِ فِي الْأَبَوَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا لَا يُسَاوِيهِمَا فِي الشَّفَقَةِ (وَلَا إذْنَ لِأَبَوَيْنِ وَغَرِيمِ مَدِينٍ فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ) مِنْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ مُتَعَيَّنٍ، أَوْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِبَلَدِهِ، فَلَهُ السَّفَرُ لِطَلَبِهِ بِلَا إذْنِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.

(2/513)


[فَصْلٌ فِرَارٌ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُفَّارٍ بَعْد اللِّقَاء]
(فَصْلٌ) (وَلَا يَحِلُّ ل) جَمَاعَةٍ (مُسْلِمِينَ بَعْدَ لِقَاءٍ فِرَارٌ مِنْ) كُفَّارٍ (مِثْلَيْهِمْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] (وَلَوْ) كَانَ الْفَارُّ (وَاحِدًا مِنْ اثْنَيْنِ) كَافِرَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ فَرَّ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَرَّ، (أَوْ مَعَ ظَنِّ تَلَفٍ) ، أَيْ: وَلَوْ ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ التَّلَفَ لَمْ يَجُزْ فِرَارُهُمْ مِنْ مِثْلَيْهِمْ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قِتَالَ دَفْعٍ أَوْ طَلَبٍ، فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ كَثِيرًا لَا يُطِيقُهُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَيَخَافُونَ أَنَّهُمْ إنْ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ عَطَفُوا عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهُنَا صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِوُجُوبِ بَذْلِ مُهَجِهِمْ فِي الدَّفْعِ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَمِثْلُهُ لَوْ هَجَمَ عَدُوٌّ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُقَاتِلَةُ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ، لَكِنْ إنْ انْصَرَفُوا اسْتَوْلُوا عَلَى الْحَرِيمِ، وَالثَّانِي: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُصَافَّةِ أَوْ قَبْلَهَا، فَقَبْلَهَا يَجُوزُ، وَبَعْدَهَا حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ لَا يَجُوزُ الْإِدْبَارُ مُطْلَقًا إلَّا لِتَحَرُّفٍ أَوْ تَحَيُّزٍ (إلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] مِثَالُ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ: (كَانْحِيَازٍ مِنْ ضِيقٍ أَوْ) مِنْ (مَعْطَشَةٍ لِسِعَةٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ مِنْ نُزُولٍ لِعُلُوٍّ، أَوْ عَنْ اسْتِقْبَالِ شَمْسٍ أَوْ) اسْتِقْبَالِ (رِيحٍ) لَا اسْتِدْبَارِهِمَا، (أَوْ يَفِرُّوا) بَيْنَ أَيْدِيهِمْ (ل) أَجْلِ (مَكِيدَةٍ) كَانْتِقَاضِ صَفِّهِمْ، أَوْ انْفِرَادِ خَيْلِهِمْ عَنْ رِجَالِهِمْ، أَوْ لِيَجِدُوا فُرْصَةً (بِعَدُوِّهِمْ) فَيَنْتَهِزُوهَا، أَوْ لِيَسْتَنِدُوا إلَى جَبَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا سَارِيَةَ الْجَبَلِ، فَانْحَازُوا إلَيْهِ، وَانْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، (أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ) نَاصِرَةٍ تُقَاتِلُ مَعَهُمْ (وَإِنْ بَعُدَتْ) ،

(2/514)


لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] (قَالَ الْقَاضِي) أَبُو يَعْلَى: (لَوْ كَانَتْ الْفِئَةُ بِخُرَاسَانَ، وَالزَّحْفُ بِالْحِجَازِ جَازَ التَّحَيُّزُ إلَيْهَا) ، لِحَدِيثِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنِّي فِئَةٌ لَكُمْ» وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ، وَقَالَ عُمَرُ: أَنَا فِئَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَجُيُوشُهُ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. (وَإِنْ زَادُوا) عَلَى مِثْلَيْهِمْ (فَلَهُمْ الْفِرَارُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ التَّخْفِيفُ، فَقَالَ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الْآيَةُ، فَلَمَّا خَفَّفَ عَنْهُمْ مِنْ الْعَدُوِّ نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ مِنْ الْقَدْرِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ الْفِرَارُ مَعَ أَدْنَى زِيَادَةٍ، (وَهُوَ) ، أَيْ: الْفِرَارُ، (مَعَ ظَنِّ تَلَفٍ أَوْلَى) مِنْ الثَّبَاتِ.

(وَسُنَّ ثَبَاتٌ مَعَ عَدَمِ ظَنِّ تَلَفٍ) لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يَجِبْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ الْعَطَبَ، (وَ) سُنَّ (الْقِتَالُ مَعَ ظَنِّهِ) ، أَيْ: التَّلَفِ (فِيهِمَا) ، أَيْ: الْفِرَارِ وَالثَّبَاتِ (أَوْلَى مِنْ الْفِرَارِ وَالْأَسْرِ، قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ) : مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُسْتَأْسَرُوا وَقَالَ: (يُقَاتِلُ أَحَبُّ إلَيَّ، الْأَسْرُ شَدِيدٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْمَوْتِ) ، وَقَالَ: يُقَاتِلُ، وَلَوْ أَعْطُوهُ الْأَمَانَ قَدْ لَا يَفُوا، وَإِنْ اسْتَأْسَرُوا جَازَ، قَالَ فِي " الْبُلْغَةِ " وَغَيْرِهَا: وَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ اسْتَأْسَرَ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ.

(وَإِنْ وَقَعَ فِي مَرْكَبِهِمْ) ، أَيْ: الْمُسْلِمِينَ، (نَارٌ) فَاشْتَعَلَتْ (فَعَلُوا مَا يَرَوْنَ فِيهِ السَّلَامَةَ) ، لِأَنَّ حِفْظَ الرُّوحِ وَاجِبٌ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ كَالْيَقِينِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ فَهَاهُنَا كَذَلِكَ (مَنْ مُقَامٍ وَوُقُوعٍ بِمَاءٍ) لِيَتَخَلَّصُوا مِنْ النَّارِ (فَإِنْ شَكُّوا) فِيمَا فِيهِ السَّلَامَةُ (أَوْ تَيَقَّنُوا

(2/515)


التَّلَفَ فِيهِمَا) ، أَيْ: الْمُقَامِ وَالْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ ظَنًّا مُتَسَاوِيًا، (أَوْ ظَنُّوا السَّلَامَةَ فِيهِمَا ظَنًّا مُتَسَاوِيًا، خُيِّرُوا) بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْمُرَجَّحِ، قَالَ أَحْمَدُ: كَيْفَ شَاءَ صَنَعَ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُمَا مَوْتَتَانِ فَاخْتَرْ أَيْسَرَهُمَا انْتَهَى. وَهُمْ مُلْجَئُونَ إلَى الْإِلْقَاءِ، فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ الْفِعْلُ بِوَجْهٍ، فَلَا يُقَالُ: أَلْقُوا بِأَنْفُسِهِمْ إلَى التَّهْلُكَةِ.

(وَيَجُوزُ تَبْيِيتُ كُفَّارٍ) ، وَهُوَ: كَبْسُهُمْ لَيْلًا، وَقَتْلُهُمْ وَهُمْ غَارُّونَ، (وَلَوْ قَتَلَ) فِي التَّبْيِيتِ (بِلَا قَصْدٍ مَنْ يَحْرُمُ قَتْلُهُ مِنْ نَحْوِ نِسَاءٍ) كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَشَيْخٍ فَانٍ، لِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ عَنْ دِيَارِ الْمُشْرِكِينَ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ، فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَهُمْ فَلَا.

(وَ) يَجُوزُ (رَمْيُهُمْ بِمَنْجَنِيقٍ) نَصًّا «لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا. وَنَصَبَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَغَيْرِهَا (وَ) يَجُوزُ رَمْيُهُمْ ب (نَارٍ وَبِنَحْوِ عَقَارِبَ) كَأَفَاعِي (وَتَدْخِينُهُمْ بِمَطَامِرَ) وَهِيَ الْحَفِيرَةُ فِي الْأَرْضِ، قَالَهُ فِي " الْقَامُوسِ ". (وَ) يَجُوزُ (قَطْعُ سَابِلَةٍ) ، أَيْ: طَرِيقِهِمْ عَنْهُمْ، (وَ) قَطْعُ (مَاءٍ) عَنْهُمْ (وَفَتْحُهُ لِيُغْرِقَهُمْ، وَ) وَيَجُوزُ (هَدْمُ عَامِرِهِمْ) ، وَإِنْ تَضَمَّنَ إتْلَافَ نَحْوَ نِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ إذَا لَمْ يَقْصِدْهُمْ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّبْيِيتِ. (وَ) يَجُوزُ (أَخْذُ شَهْدٍ بِحَيْثُ لَا يُتْرَكُ لِلنَّحْلِ) مِنْهُ (شَيْءٌ) ، لِأَنَّهُ مِنْ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ، وَهَلَاكُ النَّحْلِ بِأَخْذِ جَمِيعِهِ يَحْصُلُ ضِمْنًا لَا قَصْدًا، و (لَا) يَجُوزُ (حَرْقُهُ) ، أَيْ: النَّحْلِ (أَوْ تَغْرِيقُهُ) بِالْمَاءِ، لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى الْقِتَالِ بِالشَّامِ: وَلَا

(2/516)


تُحَرِّقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغْرِقَنَّهُ.
(أَوْ عَقْرُ دَابَّةٍ) وَلَوْ لِغَيْرِ قِتَالٍ كَبَقَرٍ وَغَنَمٍ، فَلَا يَجُوزُ (إلَّا لِحَاجَةِ أَكْلٍ) سَوَاءٌ خِفْنَا أَخْذَهُمْ لَهَا أَوْ لَا، لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ: إلَّا لِمَأْكَلَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تُبِيحُ مَالَ الْمَعْصُومِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى.

(وَلَا) يَجُوزُ (إتْلَافُ شَجَرٍ أَوْ زَرْعٍ يَضُرُّ) إتْلَافُهُ (بِنَا إلَّا لِحَاجَةٍ، كَتَوْسِعَةِ طَرِيقٍ أَوْ اسْتِتَارِهِمْ بِهِ) ، لِكَوْنِهِ قَرِيبًا مِنْ حُصُونِهِمْ يَمْنَعُ قِتَالَهُمْ (أَوْ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِنَا لِيَنْتَهُوا، فَيُقْطَعُ) مِنْهُ وَيَنْزَجِرُوا، وَمَا تَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ بِقَطْعِهِ مِنْ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، لِكَوْنِهِمْ يَنْتَفِعُونَ بِبَقَائِهِ لِعَلَفِ دَوَابِّهِمْ أَوْ يَسْتَظِلُّونَ بِهِ أَوْ يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِهِ، أَوْ لَمْ تَجْرِ عَادَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا بِقَطْعِهِ، حَرُمَ قَطْعُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِنَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَفْعَ سِوَى غَيْظِ الْكُفَّارِ، وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ، فَيَجُوزُ إتْلَافُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] وَفِيهَا يَقُولُ حَسَّانُ:
وَهَانَ عَلَى سُرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
(وَحَرُمَ قَتْلُ صَبِيٍّ وَأُنْثَى وَخُنْثَى وَرَاهِبٍ وَشَيْخٍ فَانٍ وَزَمِنٍ وَأَعْمَى لَا رَأْيَ لَهُمْ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا أَوْ يُحَرِّضُوا) عَلَى قِتَالٍ، هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «نُهِيَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] يَقُولُ: لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَأَوْصَى الصِّدِّيقُ يَزِيدَ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الشَّامِ فَقَالَ: لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا وَلَا امْرَأَةً وَلَا هَرِمًا وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ وَصَّى سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ بِنَحْوِهِ، رَوَاهُمَا سَعِيدٌ وَقَالَ الصِّدِّيقُ: وَسَتَمُرُّونَ عَلَى أَقْوَامٍ فِي مَوَاضِعَ لَهُمْ احْتَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، فَدَعُوهُمْ

(2/517)


حَتَّى يُمِيتَهُمْ اللَّهُ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ وَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مَخْصُوصٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَالزَّمِنُ وَالْأَعْمَى لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَهُمَا كَالْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ لَهُ رَأْيٌ فِي الْقِتَالِ جَازَ، «لِأَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٌ وَهُوَ شَيْخٌ فَانٍ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، لِيَسْتَعِينُوا بِرَأْيِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلَهُ.» وَلِأَنَّ الرَّأْيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُؤْنَةِ فِي الْحَرْبِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَبْلَغَ مِنْ الْقِتَالِ، قَالَ الْمُتَنَبِّي:
الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ ... هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي
فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِنَفْسٍ حُرَّةٍ ... بَلَغَتْ مِنْ الْعَلْيَاءِ كُلَّ مَكَانِ
وَلَرُبَّمَا طَعَنَ الْفَتَى أَقْرَانَهُ ... بِالرَّأْيِ قَبْلَ تَطَاعُنِ الْفُرْسَانِ
وَكَذَا إنْ قَاتَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَوْ حَرَّضَ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ هَذِهِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، نَازَعَتْنِي قَائِمَ سَيْفِي فَسَكَتَ» (وَفِي " الْمُغْنِي ") " وَالشَّرْحِ ": (وَعَبْدٌ وَفَلَّاحٌ) لَا يُقَاتَلُ، لِقَوْلِ عُمَرَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلَّاحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمْ الْحَرْبَ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَقْتُلُوهُمْ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ، أَشْبَهُوا الشُّيُوخَ وَالرُّهْبَانَ.

(وَإِنْ تُتُرِّسَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ: تَتَرَّسَ الْمُقَاتِلُونَ (بِهِمْ) ، أَيْ: بِمَنْ ذُكِرَ مِمَّنْ لَا يُقْتَلُ (رُمُوا) ، أَيْ: جَازَ رَمْيُهُمْ (بِقَصْدِ الْمُقَاتَلَةِ) ، لِئَلَّا يُفْضِي تَرْكُهُ إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْحَرْبُ مُلْتَحِمَةً أَوْ لَا، كَالتَّبْيِيتِ وَالرَّمْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ.

(وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمٍ لَا) يَجُوزُ رَمْيُهُ، لِأَنَّهُ يَئُولَ إلَى قَتْلِهِ مَعَ إمْكَانِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ، (إلَّا إنْ خِيفَ عَلَيْنَا)

(2/518)


بِتَرْكِ رَمْيِهِمْ، فَيُرْمَوْنَ نَصًّا لِلضَّرُورَةِ، (وَيُقْصَدُ الْكُفَّارُ) بِالرَّمْيِ دُونَ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّهُمْ الْمَقْصُودُونَ بِالذَّاتِ، فَلَوْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْنَا، لَكِنْ لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِمْ إلَّا بِالرَّمْيِ لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] قَالَ اللَّيْثُ: تَرْكُ فَتْحِ حِصْنٍ يُقْدَرُ عَلَى فَتْحِهِ أَفْضَلُ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، (فَإِنْ قُتِلَ مُسْلِمٌ إذَنْ) ، أَيْ: حِينَ تَتَرُّسِهِمْ بِهِ، (ف) عَلَى رَامِيهِ (الْكَفَّارَةُ) فِي مَالِهِ (فَقَطْ) وَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، قَالَهُ فِي " الْإِنْصَافِ " وَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ فِي فَصْلِ الْخَطَأِ، وَصَرَّحَ فِي " الْإِقْنَاعُ " بِضَمَانِهِ بِالدِّيَةِ، وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ خِلَافًا لَهُ.

(وَتُرْمَى كَافِرَةٌ) وَقَفَتْ فِي صَفِّ كُفَّارٍ أَوْ عَلَى حُصُونِهِمْ و (شَتَمَتْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ تَكَشَّفَتْ لَهُمْ، وَ) يَجُوزُ أَنْ (يُنْظَرَ لِفَرْجِهَا لِحَاجَةِ رَمْيٍ) ، ذَكَرَهُ فِي " الْمُغْنِي " " وَالشَّرْحِ "، (ك) مَا يَجُوزُ رَمْيُهَا لَا (لِالْتِقَاطِ سِهَامٍ لَهُمْ وَسَقْيِهَا إيَّاهُمْ الْمَاءَ) كَاَلَّتِي تُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ

(وَيَقْتُلُ الْمُسْلِمُ نَحْوَ ابْنِهِ وَأَبِيهِ فِي الْمُعْتَرَكِ) ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَ أَبَاهُ فِي الْجِهَادِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةُ.

(وَيَجِبُ إتْلَافُ كُتُبِهِمْ الْمُبَدَّلَةِ) دَفْعًا لِضَرَرِهَا، وَقِيَاسُهُ كُتُبُ رَفْضٍ وَاعْتِزَالٍ، (وَعِبَارَةُ " الْإِقْنَاعِ ": وَيَجُوزُ) إتْلَافُ كُتُبِهِمْ الْمُبَدَّلَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا وَوَرَقِهَا، أَيْ: فَيَجُوزُ

(وَكُرِهَ نَقْلُ رَأْسِ) كَافِرٍ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ آخَرَ بِلَا مَصْلَحَةٍ، لِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِرَأْسِ بَنَانِ الْبِطْرِيقِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا، قَالَ: فَأَذِّنْ بِفَارِسَ وَالرُّومِ: لَا يُحْمَلُ إلَيَّ

(2/519)


رَأْسٌ، فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ (وَ) كُرِهَ (رَمْيُهُ) ، أَيْ: الرَّأْسِ (بِمَنْجَنِيقٍ بِلَا مَصْلَحَةٍ) ، لِأَنَّهُ تَمْثِيلٌ، قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ كَزِيَادَةٍ فِي الْجِهَادِ، أَوْ نَكَالٍ لَهُمْ أَوْ زَجْرٍ عَنْ الْعُدْوَانِ جَازَ، لِأَنَّهُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادِ الْمَشْرُوعِ، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ. (وَحَرُمَ أَخْذُ مَالٍ) مِنْ الْكُفَّارِ (لِنَدْفَعَهُ) ، أَيْ: الرَّأْسَ (إلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ) عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَبَيْعِ الْكَلْبِ، (وَحَرُمَ تَعْذِيبٌ وَتَمْثِيلٌ بِهِمْ وَلَوْ مَثَّلُوا بِنَا) ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا تُعَذِّبُوا وَلَا تُمَثِّلُوا» .

[فَصْلٌ مَتَى يحرم قَتْلَ الْأَسِير]
(فَصْلٌ) (وَمَنْ أَسَرَ) مِنْهُمْ (أَسِيرًا، وَقَدَرَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ) ، أَيْ: بِالْأَسِيرِ (الْإِمَامَ) وَلَوْ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى الْمَجِيءِ إلَى الْإِمَامِ (بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ) ، كَسَحْبِهِ (وَلَيْسَ) الْأَسِيرُ (بِمَرِيضٍ، حَرُمَ قَتْلُهُ) ، أَيْ: الْأَسِيرِ (مِثْلُهُ) ، أَيْ: الْإِتْيَانُ بِهِ، فَيَرَى بِهِ رَأْيَهُ، (ك) مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ (أَسِيرِ غَيْرِهِ) ، لِأَنَّهُ افْتِئَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ، (وَإِلَّا) يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ لَا بِضَرْبٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، أَوْ كَانَ مَرِيضًا، أَوْ جَرِيحًا لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ مَعَهُ، أَوْ خَافَ هَرَبَهُ، (فَلَا) يَحْرُمُ قَتْلُهُ، لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ حَيًّا ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْوِيَةً لِلْكُفَّارِ، وَأَسِيرُ غَيْرِهِ فِيمَا ذُكِرَ كَأَسِيرِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قَتَلَ أَسِيرَهُ أَوْ أَسِيرَ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي حَالَةٍ يَجُوزُ فِيهَا قَتْلُهُ، فَقَدْ أَسَاءَ لِافْتِئَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ، (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) ، أَيْ: الْقَاتِلِ نَصًّا، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَسَرَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَابْنَهُ عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ، فَرَآهُمَا بِلَالٌ، فَاسْتَصْرَخَ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِمَا حَتَّى قَتَلُوهُمَا، وَلَمْ يَغْرَمُوا شَيْئًا،

(2/520)


لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، (إلَّا أَنْ يَكُونَ) الْأَسِيرُ (مَمْلُوكًا ف) عَلَيْهِ (قِيمَتُهُ) لِلْمَغْنَمِ.

(وَيُخَيَّرُ إمَامٌ فِي) أَسِيرٍ (حُرٍّ مُقَاتِلٍ بَيْنَ قَتْلٍ) ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] «وَقَتَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَهُمْ بَيْنَ السِّتِّمِائَةِ وَالسَّبْعِمِائَةِ وَقَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَفِيهِ تَقُولُ أُخْتُهُ:
مَا كَانَ ضَرَّك لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَوْ سَمِعْتُهُ مَا قَتَلْتُهُ» (وَ) بَيْنَ (رِقٍّ) ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، فَبِالرِّقِّ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي صِغَارِهِمْ (وَ) بَيْنَ (مَنٍّ) عَلَيْهِمْ (وَ) بَيْنَ (فِدَاءٍ بِمُسْلِمٍ وَ) فِدَاءً (بِمَالٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] «وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَعَلَى أَبِي عَمْرَةَ الشَّاعِرِ وَعَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَفَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
«وَفَادَى أَهْلَ بَدْرٍ بِمَالٍ» (وَيَجِبُ) عَلَى الْإِمَامِ (اخْتِيَارُ الْأَصْلَحِ) لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ، فَهُوَ تَخْيِيرُ مَصْلَحَةٍ وَاجْتِهَادٍ لَا شَهْوَةٍ، فَلَا يَجُوزُ عُدُولٌ عَمَّا رَآهُ مَصْلَحَةً، لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لَهُمْ، (فَإِنْ تَرَدَّدَ نَظَرُهُ) ، أَيْ: الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ، (فَقَتْلُ) الْأَسْرَى (أَوْلَى) كِفَايَةً لِشَرِّهِمْ، وَحَيْثُ رَآهُ فَيَضْرِبُ الْعُنُقَ بِالسَّيْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]

(وَمَنْ أَسْلَمَ) مِنْ الْأَسْرَى الْأَحْرَارِ الْمُقَاتِلِينَ (امْتَنَعَ قَتْلُهُ فَقَطْ) ، وَتَعَيَّنَ رِقُّهُ فِي الْحَالِ، وَزَالَ التَّخْيِيرُ فِيهِ، وَصَارَ

(2/521)


حُكْمُهُ حُكْمَ النِّسَاءِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» وَهَذَا مُسْلِمٌ، وَلِأَنَّهُ أَسِيرُ يَحْرُمُ قَتْلُهُ، فَصَارَ رَقِيقًا كَالْمَرْأَةِ.

(وَإِنْ بَذَلُوا) ، أَيْ: الْأَسْرَى (الْجِزْيَةَ) ، وَكَانُوا (مِمَّنْ تُقْبَلُ) مِنْهُمْ كَنَصَارَى الْعَرَبِ وَيُهَوِّدهُمْ، (قُبِلَتْ جَوَازًا) لَا وُجُوبًا، لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ، (وَلَمْ يُسْتَرَقَّ مِنْهُمْ زَوْجَةٌ) ، بَلْ يُخَلَّى عَنْهَا تَبَعًا لِزَوْجِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا، (وَ) لَا يُسْتَرَقَّ (وَلَدٌ ذَكَرٌ بَالِغٌ) ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَبَعٌ لِزَوْجِهَا، وَالذَّكَرُ الْبَالِغُ دَاخِلٌ فِيهِمْ، وَأَمَّا النِّسَاءُ غَيْرُ الْمُزَوَّجَاتِ وَالصِّبْيَانُ، فَغَنِيمَةٌ بِالسَّبْيِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْإِمَامُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ فَتَخْيِيرُهُ بَاقٍ، (وَ) كَذَا لَا يُسْتَرَقُّ مِنْ الْأَسْرَى (مَنْ فِيهِ نَفْعٌ) مُحَقَّقٌ لِلْمُسْلِمِينَ (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يُقْتَلَ) لِانْقِطَاعِ نَفْعِهِ الْمُتَرَقَّبِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ بِلَا فَائِدَةٍ، (ك) مَا لَا يَجُوزُ قَتْلُ (أَعْمَى وَامْرَأَةٍ) غَيْرِ مُزَوَّجَةٍ، (وَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ رَقِيقٍ بِمُجَرَّدِ سَبْيٍ) ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ " وَكَانَ يَسْتَرِقُّهُمْ إذَا سَبَاهُمْ " (وَعَلَى قَاتِلِهِمْ) ، أَيْ: عَلَى قَاتِلِ الْأَعْمَى، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بَعْدَ السَّبْيِ (غُرْمُ الثَّمَنِ غَنِيمَةً) ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُمْ قَبْلَ السَّبْيِ، فَلَا يَضْمَنُهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَالًا، (وَ) عَلَى قَاتِلِهِمْ بَعْدَ السَّبْيِ (الْعُقُوبَةُ) ، لِفِعْلِهِ مَا لَا يَجُوزُ (وَالْقِنُّ) الْمَأْخُوذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ (غَنِيمَةٌ) ، لِأَنَّهُ مَالُ كُفَّارٍ اُسْتُوْلِيَ عَلَيْهِ، فَكَانَ لِلْغَانِمِينَ كَالْبَهِيمَةِ، (وَيُقْتَلُ) الْقِنُّ، أَيْ: لِلْأَمِيرِ قَتْلُهُ (لِمَصْلَحَةٍ) كَالْمُرْتَدِّ.

(وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ) نَصًّا، كَنَصَارَى الْعَرَبِ وَيَهُودِهِمْ وَمَجُوسِهِمْ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، أَشْبَهَ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، (أَوْ) ، أَيْ: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مَنْ (عَلَيْهِ وَلَا

(2/522)


لِمُسْلِمٍ) ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُ كَغَيْرِهِ (وَلَا يُبْطِلُ اسْتِرْقَاقٌ حَقًّا لِمُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ مِنْ نَحْوِ قَوَدٍ وَدَيْنٍ) لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، قَالَ فِي " الْبُلْغَةِ ": لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ فِي اسْتِرْقَاقِهِ، فَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، إلَّا أَنْ يَغْنَم مَا لَهُ بَعْدَ اسْتِرْقَاقِهِ، فَيَقْضِي مِنْهُ دَيْنَهُ، فَيَكُونُ رِقُّهُ كَمَوْتِهِ، وَعَلَيْهِ: يَخْرُجُ حُلُولُهُ بِرِقِّهِ، وَإِنْ أُسِرَ وَأُخِذَ مَالُهُ مَعًا فَالْكُلُّ لِلْغَانِمِينَ، وَالدَّيْنُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ.

(وَمَنْ أَسْلَمَ) مِنْ كُفَّارٍ (قَبْلَ أَسْرِهِ وَلَوْ) كَانَ إسْلَامُهُ (لِخَوْفٍ، فَكَمُسْلِمٍ أَصْلِيٍّ) ، لِعُمُومِ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ» الْحَدِيثُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِأَيْدِي الْغَانِمِينَ، (لَكِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ) : إنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَسْرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، (وَيَكْفِي شَاهِدٌ وَيَمِينٌ) ، فَيَثْبُتُ بِمَا يَثْبُت بِهِ الْمَالُ كَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَنْ يَفْدِيَ أَوْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلَّا سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ» فَقَبِلَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ وَحْدَهُ.

(وَالْمَسْبِيُّ) مِنْ كُفَّارٍ (غَيْرُ بَالِغٍ) وَلَوْ مُمَيِّزًا (مُنْفَرِدًا) عَنْ أَبَوَيْهِ، (أَوْ) مَسْبِيٌّ (مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ) إنْ سَبَاهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ، لِحَدِيثِ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِأَبَوَيْهِ بِانْقِطَاعِهِ عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَإِخْرَاجُهُ مِنْ دَارِهِمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
(وَ) الْمَسْبِيُّ (مَعَهُمَا) ، أَيْ: أَبَوَيْهِ (عَلَى دِينِهِمَا) لِلْخَبَرِ، وَمِلْكُ السَّابِي لَهُمَا لَا يَمْنَعُ تَبَعِيَّتَهُ لِأَبَوَيْهِ فِي الدِّينِ، كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ الْكَافِرَةُ فِي مِلْكِهِ مِنْ كَافِرٍ (وَمَسْبِيٌّ ذِمِّيٌّ) مِنْ أَوْلَادِ حَرْبِيِّينَ (يَتْبَعُهُ) ، أَيْ: السَّابِي فِي دِينِهِ حَيْثُ يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ

(2/523)


قِيَاسًا عَلَيْهِ.
(وَإِنْ أَسْلَمَ) أَحَدُ أَبَوَيْ غَيْرِ بَالِغٍ فَمُسْلِمٌ، (أَوْ مَاتَ) أَحَدُ أَبَوَيْ غَيْرِ بَالِغٍ بِدَارِنَا فَمُسْلِمٌ، (أَوْ عُدِمَ) بِلَا مَوْتٍ (أَحَدُ أَبَوَيْ غَيْرِ بَالِغٍ بِدَارِنَا وَلَوْ بِزِنَا ذِمِّيٍّ بِذِمِّيَّةٍ) ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ بِدَارِنَا، فَمُسْلِمٌ نَصًّا، لِلْخَبَرِ السَّابِقِ، (أَوْ اشْتَبَهَ وَلَدُ مُسْلِمٍ بِوَلَدِ كَافِرٍ) فَمُسْلِمٌ كُلٌّ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يَقْرَعُ فِيمَا إذَا اشْتَبَهَ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ وَلَدُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ، (أَوْ بَلَغَ) وَلَدُ الْكَافِرِ (مَجْنُونًا مَعَ وُجُودِ أَبَوَيْهِ فَمُسْلِمٌ) ، أَيْ: فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فِي الْحَالِ الَّذِي يُحْكَمُ فِيهِ بِإِسْلَامِ غَيْرِ الْبَالِغِ، كَإِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ مَوْتِهِ بِدَارِنَا كَمَا هُوَ صَرِيحُ " الْكَافِي " وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مُسْلِمٌ مُطْلَقًا، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ قَوْلُهُمْ فِيمَا سَبَقَ: أَنَّ الْمَسْبِيَّ الْمَجْنُونَ رَقِيقٌ بِالسَّبْيِ، وَقَوْلُهُمْ فِي بَابِ الذِّمَّةِ: لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ مَجْنُونٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَزِيدُ عَلَى كَوْنِهِ صَغِيرًا، وَالصَّغِيرُ مَعَ وُجُودِ أَبَوَيْهِ مِثْلُهُمَا (فِي الْكُلِّ) ، أَيْ: كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصُّوَرِ، وَإِنْ بَلَغَ عَاقِلًا، ثُمَّ جُنَّ لَمْ يَتْبَعْ أَحَدَ أَبَوَيْهِ، لِزَوَالِ حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِبُلُوغِهِ عَاقِلًا، فَلَا يَعُودُ

(وَإِنْ بَلَغَ) مَنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ مَوْتِهِ بِدَارِنَا (عَاقِلًا مُمْسِكًا عَنْ إسْلَامٍ وَ) عَنْ (كُفْرٍ، قُتِلَ قَاتِلُهُ) ، لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مَعْصُومٌ حُكْمًا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مُطْلَقًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: وَيَرِثُ مِمَّا جَعَلْنَا مُسْلِمًا بِمَوْتِهِ حَتَّى وَلَوْ تُصَوِّرَ مَوْتُ أَبَوَيْهِ مَعًا لَوَرِثَهُمَا، إذْ الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ يَعْقُبُ الْمَوْتَ، فَحَالُ الْمَوْتِ كَانَ عَلَى دِينِ مُوَرِّثِهِ، لَكِنَّ الْحَمْلَ لَا يَرِثُ أَبَاهُ إذَا مَاتَ بِدَارِنَا كَمَا يَأْتِي فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ.

(وَفِي " الْفُنُونِ " فِيمَنْ وُلِدَ بِرَأْسَيْنِ، فَلَمَّا بَلَغَ نَطَقَ أَحَدُ الرَّأْسَيْنِ بِالْكُفْرِ وَ) نَطَقَ الرَّأْسُ (الْآخَرُ بِالْإِسْلَامِ) ، قِيلَ: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، وَقِيلَ: يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ (إنْ تَقَدَّمَ) النُّطْقُ ب (الْإِسْلَامِ) عَلَى النُّطْقِ بِالْكُفْرِ، (فَمُرْتَدٌّ) تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، لِوُجُودِ

(2/524)


الْكُفْرِ مِنْهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ النُّطْقُ بِالْكُفْرِ عَلَى النُّطْقِ بِالْإِسْلَامِ، فَمُسْلِمٌ، (وَإِنْ نَطَقَا) ، أَيْ: الرَّأْسَانِ (مَعًا) ، أَيْ: فِي آنٍ وَاحِدٍ، (فَاحْتِمَالَانِ) : أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُسْلِمًا، وَالثَّانِي: كَافِرًا، وَحَيْثُ لَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهِمَا فَيَتَعَارَضَانِ وَيَتَسَاقَطَانِ، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ.

(وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ زَوْجَةِ حَرْبِيٍّ بِسَبْيِ دُونِهِ) ، أَيْ: دُونِ زَوْجِهَا، بِأَنْ سُبِيَتْ وَحْدَهَا، (وَتَحِلُّ لِسَابِيهَا) بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ، وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةُ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، وَسُبِيَتْ، لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا.

وَ (لَا) يَنْفَسِخُ نِكَاحُ زَوْجَةِ حَرْبِيٍّ سُبِيَتْ (مَعَهُ وَلَوْ اُسْتُرِقَّا) ، أَيْ: الزَّوْجَانِ بِأَنْ اخْتَارَ الْإِمَامُ اسْتِرْقَاقَهُمَا، لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، فَلَا يَقْطَعُ اسْتِدَامَتَهُ، وَسَوَاءٌ سَبَاهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ رَجُلَانِ مُجْتَمَعَيْنِ أَوْ (مُتَفَرِّقَيْنِ) ، إذْ لَا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي قِسْمَةٍ وَلَا بَيْعٍ.

(أَوْ) ، أَيْ: وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُ حَرْبِيٍّ (سُبِيَ هُوَ) ، أَيْ: الْحَرْبِيُّ (فَقَطْ) ، أَيْ: دُونَ زَوْجَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا يَقْتَضِيه قِيَاسٌ، (وَلَيْسَ بَيْعُ زَوْجَيْنِ أَوْ) بَيْعُ (أَحَدِهِمَا طَلَاقًا) ، لِقِيَامِ الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْبَائِعِ، وَكَذَا هِبَتُهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا وَنَحْوَهُ.

(وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ مُسْتَرَقٍّ مِنْهُمْ) ، أَيْ: مِنْ سَبْيِ الْمُسْلِمِينَ.

(2/525)


وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْكَافِرُ الْعَبْدَ الَّذِي مَلَكَهُ الْمُسْلِمُ (لِكَافِرٍ) وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَرَقُّ كَافِرًا نَصًّا، قَالَ: وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى عَنْهُ أُمَرَاءَ الْأَمْصَارِ، وَهَكَذَا حَكَى أَهْلُ الشَّامِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتًا لِلْإِسْلَامِ الَّذِي يُرْتَجَى مِنْهُ إذَا بَقِيَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، (وَلَا) تَصِحُّ (مُفَادَاتُهُ) ، أَيْ: مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْ الْكُفَّارِ لِكَافِرٍ (بِمَالٍ) ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعِهِ لَهُ، (وَتَجُوزُ) مُفَادَاتُهُ (بِمُسْلِمٍ) ، لِتَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْأَسَر.

(وَلَا يُفَرَّقُ) بِنَحْوِ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ (بَيْنَ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ) كَأَبٍ وَابْنٍ، وَكَأَخَوَيْنِ وَكَعَمٍّ وَابْنِ أَخِيهِ، وَخَالٍ وَابْنِ أُخْتِهِ، وَلَوْ بَعْدَ بُلُوغٍ، لِحَدِيثِ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «وَهَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبَعَثَ أَحَدَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا فَعَلَ غُلَامُك؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: رُدَّهُ رُدَّهُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، فَقِسْ عَلَيْهِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَعُلِمَ مِنْهُ جَوَازُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ ابْنَيْ عَمٍّ أَوْ ابْنَيْ خَالٍ، وَبَيْنَ أُمٍّ مِنْ رَضَاعٍ وَوَلَدِهَا مِنْهُ، وَأُخْتٍ مِنْ رَضَاعٍ وَأَخِيهَا، لِعَدَمِ النَّصِّ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ وَلِأَنَّ قَرَابَةَ الرَّضَاعِ لَا تُوجِبُ عِتْقَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا نَفَقَةً وَلَا مِيرَاثًا، فَأَشْبَهَتْ الصَّدَاقَةَ (إلَّا بِعِتْقٍ) ، فَيَجُوزُ عِتْقُ وَالِدَةٍ دُونَ وَلَدِهَا، وَعَكْسُهُ وَنَحْوُهُ، (أَوْ افْتِدَاءُ أَسِيرٍ مُسْلِمٍ) بِكَافِرٍ مِنْ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَلَا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ إذَنْ، لِتَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْأَسْرِ، (أَوْ بَيْعٍ) وَنَحْوِهِ (فِيمَا إذَا مَلَكَ نَحْوَ أُخْتَيْنِ) كَامْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا،

(2/526)


فَإِذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا وَأَرَادَ وَطْءَ الْأُخْرَى، جَازَ لَهُ بَيْعُ الْمَوْطُوءَةِ، لِيَسْتَبِيحَ وَطْءَ الْأُخْرَى، لِأَنَّهُ مَحَلُّ حَاجَةٍ.

(وَمَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ) ، أَيْ: الْأَسْرَى (عَدَدًا) اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ (فِي عَقْدٍ يَظُنُّ أَنْ بَيْنَهُمْ) ، أَيْ: الْمُشْتَرَيَيْنِ (أُخُوَّةً أَوْ نَحْوَهَا) ، كَعُمُومَةٍ أَوَخُؤُولَةً، بَاعَهُمْ الْإِمَامُ بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلِهِمْ أَنْ لَوْ فُرِّقُوا لِتَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ، (فَتَبَيَّنَ عَدَمُهَا) ، أَيْ: الْأُخُوَّةِ وَنَحْوِهَا، (رَدَّ إلَى الْمُقَسِّمِ) مِنْ الْمُشْتَرِي (الْفَضْلَ الَّذِي فِيهِ) ، أَيْ: الْمَبِيعِ (بِالتَّفَرُّقِ) ، لِبَيَانِ انْتِفَاءِ مَانِعِهِ، (وَلِكُلٍّ) مِنْ بَائِعٍ وَمُشْتَرٍ (الْفَسْخُ) ، أَيْ: فَسْخُ الْبَيْعِ، فَإِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ رَدَّ الْمُشْتَرِي الْفَضْلَ الْحَاصِلَ بِالتَّفْرِيقِ، وَيَرُدُّ إلَى الْمُقَسِّمِ إنْ كَانَ غَنِيمَةً، أَوْ إلَى الْبَائِعِ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.

[فَصْلٌ إذَا حَصَرَ إمَامٌ أَوْ نَائِبُهُ حِصْنًا]
(فَصْلٌ) (وَإِذَا حَصَرَ إمَامٌ أَوْ نَائِبُهُ حِصْنًا، لَزِمَهُ) فِعْلُ (الْأَصْلَحِ) فِي نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ (مِنْ مُصَابَرَتِهِ) ، أَيْ: الْحِصْنِ، أَيْ: الصَّبْرُ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، (وَ) مِنْ (مُوَادَعَتِهِ بِمَالٍ، وَ) مِنْ (هُدْنَةٍ) بِلَا مَالٍ (بِشَرْطِهَا) الْمَعْلُومِ مِنْ بَابِهَا نَصًّا، (وَيَجِبَانِ) ، أَيْ: الْمُوَادَعَةُ بِمَالٍ، وَالْهُدْنَةُ بِغَيْرِهِ (إنْ سَأَلُوهُمَا) ، أَيْ: أَهْلَ الْحِصْنِ، (ك) وُجُوبِ قَبُولِ (جِزْيَةٍ) سَأَلُوا دَفْعَهَا (وَثَمَّ مَصْلَحَةٍ) ، لِحُصُولِ الْغَرَضِ مِنْ إعْلَاءِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَصِغَارِ الْكَفَرَةِ اللِّئَامُ، وَلَهُ الِانْصِرَافُ أَيْضًا بِدُونِهِ إنْ رَآهُ، لِضَرَرٍ أَوْ يَأْسٍ مِنْهُ.

(وَإِنْ قَالُوا) ، أَيْ: أَهْلُ الْحِصْنِ لِلْمُسْلِمِينَ: (ارْحَلُوا عَنَّا وَإِلَّا قَتَلْنَا أَسْرَاكُمْ) عِنْدَنَا، (وَجَبَ رَحِيلُ) هُمْ، لِئَلَّا يُلْقُوا بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ لِلْهَلَاكِ.

(وَيُحْرَزُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ) ، أَيْ: أَهْلِ الْحِصْنِ قَبْلَ اسْتِيلَائِنَا عَلَيْهِ (دَمُهُ وَمَالُهُ حَيْثُ كَانَ) فِي الْحِصْنِ أَوْ خَارِجَهُ، لِحَدِيثِ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ الْخَبَرَ» (وَلَوْ) كَانَ مَالُهُ

(2/527)


(مَنْفَعَةَ إجَارَةٍ) ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهِ، وَيُحْرَزُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ (أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ وَحَمْلُ امْرَأَتِهِ) لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لَهُ، وَلَا يَحْرُزُ امْرَأَتَهُ (هِيَ) ، لِأَنَّهَا لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهَا كَغَيْرِهَا (وَلَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُ) ، أَيْ: الزَّوْجِ الَّذِي أَسْلَمَ (بِرِقِّهَا) ، أَيْ: الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النِّكَاحِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ، بِدَلِيلِ عَدَمِ ضَمَانِهَا بِالْيَدِ، وَعَدَمِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْهَا.

(وَإِنْ نَزَلُوا) ، أَيْ: أَهْلُ الْحِصْنِ، (عَلَى حُكْمِ) رَجُلٍ (مُسْلِمٍ حُرٍّ مُكَلَّفٍ عَدْلٍ مُجْتَهِدٍ فِي الْجِهَادِ) ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ الْأَحْكَامِ، (وَلَوْ) كَانَ (أَعْمَى) ، جَازَ، (أَوْ) كَانَ مَنْزُولًا عَلَى حُكْمِهِ (مُتَعَدِّدًا) كَاثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، (جَازَ) ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِمْ مَا اجْتَمَعَا، أَوْ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ دُونَ مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا أَوْ أَحَدُهُمْ، (وَيَلْزَمُهُ) ، أَيْ: الْمَنْزُولَ عَلَى حُكْمِهِ (الْحُكْمُ بِالْأَحَظِّ لَنَا) مِنْ قَتْلٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ مَنٍّ أَوْ فِدَاءٍ (وَيَلْزَمُ حُكْمُهُ حَتَّى بِمَنٍّ) عَلَيْهِمْ كَالْإِمَامِ، و (لَا) يَلْزَمُ حُكْمُهُ لَوْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِإِعْطَاءِ (جِزْيَةٍ) ، لِأَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ مُعَاوَضَةً يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّرَاخِي، (فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ قَتْلُ مَنْ حُكِمَ) مَنْزُولٌ عَلَى حُكْمِهِ (بِرِقِّهِ) ، لِأَنَّ الْقَتْلَ أَشَدُّ مِنْ الرِّقِّ، وَفِيهِ إتْلَافُ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْغَانِمِينَ، (وَلَا) لِلْإِمَامِ (رِقُّ مَنْ حُكِمَ) مَنْزُولٌ عَلَى حُكْمِهِ (بِقَتْلِهِ) ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ يُخَافُ بِبَقَائِهِ نِكَايَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَدُخُولُ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ.

(وَلَا) لِلْإِمَامِ (رِقُّ وَلَا قَتْلُ مَنْ حُكِمَ بِفِدَائِهِ) مَنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ لِأَنَّهُمَا أَشَدُّ مِنْهُ، فَلَا يُجَاوِزُ الْأَخَفَّ مِمَّا حُكِمَ بِهِ إلَى الْأَثْقَلِ، لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِلْحُكْمِ بَعْدَ لُزُومِهِ، (لَكِنْ لَهُ) ، أَيْ: الْإِمَامِ (الْمَنُّ مُطْلَقًا) ، أَيْ: عَلَى مَنْ حُكِمَ بِقَتْلِهِ أَوْ رِقِّهِ أَوْ فِدَائِهِ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الثَّلَاثَةِ، (وَ) لِلْإِمَامِ (قَبُولُ فِدَاءٍ مِمَّنْ حُكِمَ) مَنْزُولٌ عَلَى حُكْمِهِ (بِقَتْلِهِ أَوْ رِقِّهِ) ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْهُمَا، وَهُوَ نَقْضٌ لِلْحُكْمِ بِرِضَى مَحْكُومٍ

(2/528)


لَهُ، وَذَلِكَ حَقٌّ لِلْإِمَامِ، فَإِذَا رَضِيَ بِتَرْكِهِ إلَى غَيْرِهِ جَازَ لَهُ (وَإِنْ أَسْلَمَ مَنْ حُكِمَ) مَنْزُولٌ عَلَى حُكْمِهِ (بِقَتْلِهِ) أَوْ رِقِّهِ (عَصْمُ دَمٍ فَقَطْ) دُونَ مَالِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، لِأَنَّهُمَا صَارَا بِالْحُكْمِ بِقَتْلِهِ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَعُودَانِ إلَيْهِ بِإِسْلَامٍ، وَأَمَّا دَمُهُ فَأَحْرَزَهُ بِإِسْلَامِهِ، (وَلَا يُسْتَرَقُّ) لِأَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَهُ فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ قُدْرَةٍ عَلَيْهِ.

(وَإِنْ سَأَلُوا) ، أَيْ: أَهْلُ الْحِصْنِ (أَنْ يُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَ لَزِمَ أَنْ يُنْزِلَهُمْ وَيُخَيَّرُ) فِيهِمْ (كَأَسْرَى) ، لِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ - «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوا أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك، فَلَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ أَمْ لَا» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ - أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لِاحْتِمَالِ نُزُولِ وَحْيٍ بِمَا يُخَالِفُ مَا حَكَمَ بِهِ، وَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

، (وَلَوْ كَانَ بِهِ) ، أَيْ: الْحِصْنِ (مَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ) كَامْرَأَةٍ وَخُنْثَى، (فَبَذَلَهَا لِعَقْدِ الذِّمَّةِ، عُقِدَتْ) لَهُ الذِّمَّةُ بِمَعْنَى الْأَمَانِ (مَجَّانًا وَحَرُمَ رِقُّهُ) لِتَأْمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ بِهِ مَالٌ

(وَلَوْ خَرَجَ عَبْدٌ) حَرْبِيٌّ (إلَيْنَا بِأَمَانٍ أَوْ نَزَلَ) عَبْدٌ (مِنْ حِصْنٍ) إلَيْنَا بِأَمَانٍ (فَهُوَ حُرٌّ) نَصًّا لِلْخَبَرِ

(وَلَوْ جَاءَنَا) عَبْدٌ (مُسْلِمٌ وَأُسِرَ سَيِّدُهُ) الْحَرْبِيُّ (أَوْ) أُسِرَ (غَيْرُهُ) مِنْ الْحَرْبِيِّينَ، (فَهُوَ) ، أَيْ: الْعَبْدُ (حُرٌّ) لِمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يُرَدُّ فِي هُدْنَةٍ، (وَالْكُلُّ) مِمَّا جَاءَ بِهِ سَيِّدُهُ أَوْ غَيْرُهُ (لَهُ) ، أَيْ: لِلْعَبْدِ الَّذِي جَاءَ مُسْلِمًا، حَتَّى لَوْ مَاتَ السَّيِّدُ الْأَسِيرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَرِثَهُ عَبْدُهُ السَّابِي بِالْوَلَاءِ.

(وَإِنْ أَقَامَ) عَبْدٌ أَسْلَمَ (بِدَارِ حَرْبٍ فَهُوَ رَقِيقٌ) ، أَيْ: بَاقٍ عَلَى رِقِّهِ اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ، (وَلَوْ جَاءَ مَوْلَاهُ) ، أَيْ: الْعَبْدِ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَحِقَ بِنَا (مُسْلِمًا بَعْدَهُ لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ) ، لِسَبْقِ الْحُكْمِ بِحُرِّيَّتِهِ حِينَ جَاءَ إلَيْنَا مُسْلِمًا (وَلَوْ جَاءَ) مَوْلَاهُ (قَبْلَهُ مُسْلِمًا، ثُمَّ جَاءَ هُوَ) ، أَيْ: الْعَبْدُ (مُسْلِمًا فَهُوَ) ، أَيْ: الْعَبْدُ (لَهُ) ، أَيْ:

(2/529)


لِمَوْلَاهُ لِعَدَمِ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ (وَلَيْسَ لِقِنٍّ غَنِيمَةٌ) لِأَنَّهُ مَالٌ، فَلَا يُمَلَّكُ الْمَالُ، (فَلَوْ هَرَبَ) الْقِنُّ (ل) عِنْدَ (عَدُوٍّ، ثُمَّ جَاءَ) مِنْهُ (بِمَالٍ، فَهُوَ) ، أَيْ: الْقِنُّ (لِسَيِّدِهِ، وَالْمَالُ) الَّذِي جَاءَ بِهِ (لَنَا) فَيْءٌ.