مطالب
أولي النهى في شرح غاية المنتهى [كِتَابُ الْوَقْفِ]
الْوَقْفُ: مَصْدَرُ وَقَفَ بِمَعْنَى حَبَسَ وَأَحْبَسَ وَسَبَّلَ، قَالَ
الْحَارِثِيُّ: وَأَوْقَفَهُ لُغَةٌ لِبَنِي تَمِيمٍ. وَهُوَ مِمَّا
اخْتَصَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَحْبِسْ أَهْلُ
الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا حَبَسَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ. وَالْأَصْلُ
فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ
أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي
أَصَبْتُ مَالًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ عِنْدِي
مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهِ؟ قَالَ: إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا
وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا
يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي
الْفُقَرَاءِ، وَذَوِي الْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضِّيَافِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ
يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ
مُتَمَوِّلٍ فِيهِ» وَفِي لَفْظٍ: " غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ " مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ، فِي صَدَقَةِ عُمَرَ: «لَيْسَ
عَلَى الْوَالِي جُنَاحٌ أَنْ يَأْكُلَ، وَيُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ، غَيْرَ
مُتَأَثِّلٍ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ يَلِي صَدَقَةَ عُمَرَ،
وَيُهْدِي لِلنَّاسِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الْمَجْدُ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
مَنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى صِنْفٍ مِنْ النَّاسِ، وَوَلَدُهُ مِنْهُمْ؛
دَخَلَ فِيهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ
إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ، صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ،
أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ جَابِرٌ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي تَحْبِيسِ
الْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْوَقْفُ (تَحْبِيسُ مَالِكٍ) بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ، (مُطْلَقُ
التَّصَرُّفِ) ، وَهُوَ
(4/270)
الْمُكَلَّفُ الْحُرُّ الرَّشِيدُ،
(مَالَهُ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، بِقَطْعِ تَصَرُّفِهِ)
- أَيْ: الْمَالِكِ - وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِتَحْبِيسٍ، عَلَى أَنَّهُ
تَبَيَّنَ لَهُ؛ أَيْ: إمْسَاكُ الْمَالِ عَنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكَاتِ
بِقَطْعِ تَصَرُّفِ مَالِكِهِ (وَغَيْرِهِ فِي رَقَبَتِهِ) بِشَيْءٍ مِنْ
التَّصَرُّفَاتِ، (يُصْرَفُ رِيعُهُ) ؛ أَيْ: غَلَّةُ الْمَالِ
وَثَمَرَتُهُ وَنَحْوُهَا، بِسَبَبِ تَحْبِيسِهِ، (إلَى جِهَةِ بِرٍّ)
يُعَيِّنُهَا وَاقِفٌ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: وَتَسْبِيلُ
الْمَنْفَعَةِ؛ أَيْ: إطْلَاقُ فَوَائِدِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ، مِنْ
غَلَّةٍ وَثَمَرَةٍ وَغَيْرِهَا؛ لِلْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ، (تَقَرُّبًا
إلَى اللَّهِ تَعَالَى) ؛ بِأَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْقُرْبَةَ.
وَهَذَا الْحَدُّ لِصَاحِبِ " الْمُطْلِعِ " وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ فِي "
التَّنْقِيحِ " وَالْمُنْتَهَى " وَالْإِقْنَاعِ " وَتَبِعَهُمْ
الْمُصَنِّفُ وَاسْتَظْهَرَ شَارِحُ الْمُنْتَهَى " أَنَّ قَوْلَهُ:
تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ فِي
حَدِّ الْوَقْفِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، لَا غَيْرَ
ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقِفُ مِلْكَهُ عَلَى غَيْرِهِ
تَوَدُّدًا لَا لِأَجْلِ الْقُرْبَةِ، وَيَكُونُ وَقْفًا لَازِمًا.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقِفُ عَقَارَهُ عَلَى وَلَدِهِ، خَشْيَةً عَلَى
بَيْعِهِ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِتْلَافِ ثَمَنِهِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى
غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْطِرَ الْقُرْبَةَ بِبَالِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدِينُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ الدَّيْنُ مَالَهُ،
وَهُوَ مِمَّا يَصِحُّ وَقْفُهُ، فَيَخْشَى أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ،
وَيُبَاعُ مَالُهُ فِي الدَّيْنِ، فَيَقِفُهُ؛ لِيُفَوِّتَ عَلَى رَبِّ
الدَّيْنِ، وَيَكُونَ وَقْفًا لَازِمًا؛ لِكَوْنِهِ قَبْلَ الْحَجْرِ
عَلَيْهِ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، لَكِنَّهُ آثِمٌ بِذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ عَلَى مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ غَالِبًا إلَّا
قُرْبَةً؛ كَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ، قَاصِدًا بِذَلِكَ الرِّيَاءَ،
فَإِنَّهُ يَلْزَمُ، وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَغِ بِهِ
وَجْهَ اللَّه - تَعَالَى.
وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ مِنْ نَحْوِ مُكَاتَبٍ،
وَلَا سَفِيهٍ، وَلَا وَقْفُ نَحْوِ الْكَلْبِ وَالْخَمْرِ، وَلَا نَحْوِ
الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ، إلَّا الْمَاءَ، وَيَأْتِي.
(فَهُوَ) - أَيْ: الْوَقْفُ - (سُنَّةٌ) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] ، وَلِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -، وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ.
(وَأَرْكَانُهُ) - أَيْ: الْوَقْفِ - (أَرْبَعَةٌ، وَاقِفٌ، وَمَوْقُوفٌ
عَلَيْهِ، وَمَا
(4/271)
يَنْعَقِدُ بِهِ) مِنْ الصِّيَغِ
الْقَوْلِيَّةِ أَوْ الْفِعْلِيَّةِ؛ (فَيَصِحُّ) الْوَقْفُ (بِإِشَارَةٍ
مِنْ أَخْرَسَ مُفْهِمَةٍ) ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ الْقَوْلِ مِنْ
النَّاطِقِ (وَ) يَصِحُّ الْوَقْفُ (بِفِعْلٍ مَعَ) شَيْءٍ (دَالٍّ
عَلَيْهِ) - أَيْ: الْوَقْفِ - (عُرْفًا) ، كَمَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ
الْقَوْلُ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ؛ (كَبِنَاءِ
هَيْئَةِ مَسْجِدٍ مَعَ إذْنٍ عَامٍّ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ، وَلَوْ
بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فِيهِ) أَيْ: فِيمَا بَنَاهُ عَلَى هَيْئَةِ
الْمَسْجِدِ، بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ نَصَبَهُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ فِيهِ كَالْإِذْنِ الْعَامِّ فِي الصَّلَاةِ
فِيهِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَلَوْ نَوَى خِلَافَهُ.
وَنَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ؛ أَيْ: إنَّ نِيَّةَ خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ
الْفِعْلُ لَا أَثَرَ لَهَا. قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَلَيْسَ يُعْتَبَرُ
لِلْإِذْنِ وُجُودُ صِيغَةٍ، بَلْ يَكْفِي مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ فَتْحِ
الْأَبْوَابِ وَالتَّأْذِينِ، أَوْ كِتَابَةِ لَوْحٍ بِالْأَذَانِ أَوْ
الْوَقْفِ انْتَهَى
(أَوْ) كَانَ مَا بَنَاهُ عَلَى هَيْئَةِ الْمَسْجِدِ وَأَذِنَ فِي
الصَّلَاةِ فِيهِ (أَسْفَلَ بَيْتِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِسَطْحِهِ) - أَيْ:
الْبَيْتِ - فَيَصِحُّ (وَلَوْ) كَانَ انْتِفَاعُهُ بِهِ (بِجِمَاعٍ) ؛
فَيُبَاحُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ.
(أَوْ) جَعَلَ (عُلْوَهُ) - أَيْ: الْبَيْتِ - مَسْجِدًا، وَانْتَفَعَ
بِعُلْوِهِ وَسُفْلِهِ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ اسْتِطْرَاقًا إلَى مَا
جَعَلَهُ مَسْجِدًا؛ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ، (وَيَسْتَطْرِقُ) إلَيْهِ؛
(كَمَا لَوْ بَاعَ) بَيْتًا مِنْ دَارِهِ، (أَوْ أَجَّرَ بَيْتًا مِنْ
دَارِهِ) ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ اسْتِطْرَاقًا؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ
الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ، وَيَسْتَطْرِقُ إلَيْهِ عَلَى الْعَادَةِ.
(أَوْ) بَنَى بَيْتًا (لِقَضَاءِ حَاجَةٍ وَتَطَهُّرٍ وَيَشْرَعُهُ) ؛
أَيْ: يَفْتَحُ بَابَهُ إلَى الطَّرِيقِ، (وَيَمْلَأُ خَابِيَةَ مَاءٍ
عَلَى الطَّرِيقِ) ، أَوْ يَنْثُرُ عَلَى النَّاسِ نِثَارًا، فَمَنْ فَعَلَ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَ تَسْبِيلًا وَإِذْنًا فِي الِالْتِقَاطِ،
وَأُبِيحَ أَخْذُهُ، وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْحَمَّامِ، وَاسْتِعْمَالُ
مَائِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ، مُبَاحٌ بِدَلَالَةِ الْحَالِ.
(أَوْ يَجْعَلُ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً، وَيَأْذَنُ) لِلنَّاسِ (إذْنًا
عَامًّا بِالدَّفْنِ فِيهَا) ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ الْخَاصَّ قَدْ يَقَعُ
عَلَى غَيْرِ الْمَوْقُوفِ، فَلَا يُفِيدَ دَلَالَةَ الْوَقْفِ. قَالَهُ
الْحَارِثِيُّ.
(وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ) قَوِيٍّ (أَوْ يَفْرِشُ نَحْوَ حَصِيرٍ)
كَبِسَاطٍ (بِمَسْجِدٍ)
(4/272)
وَمَدْرَسَةٍ، (وَيَأْذَنُ) لِلنَّاسِ
(إذْنًا عَامًّا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ) .
وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ لِقَيِّمِ الْمَسْجِدِ، وَأَمَرَهُ
بِافْتِرَاشِهِ فِيهِ، أَوْ خَاطَهُ بِمَفْرُوشٍ بِجَانِبِهِ؛ فَيَصِحُّ
ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَ) يَحْصُلُ الْوَقْفُ (بِقَوْلٍ) رِوَايَةً وَاحِدَةً.
(وَصَرِيحُهُ وَقَفْتُ، وَحَبَسْتُ، وَسَبَّلْتُ) فَمَنْ أَتَى بِكَلِمَةٍ
مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ؛ صَحَّ الْوَقْفُ، لِعَدَمِ احْتِمَالِ غَيْرِهِ
بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ الْمُنْضَمِّ إلَيْهِ عُرْفُ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنْ شِئْتَ
حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَسَبَّلَتْ ثَمَرَتَهَا» . فَصَارَتْ هَذِهِ
الْأَلْفَاظُ فِي الْوَقْفِ كَلَفْظِ التَّطْلِيقِ فِي الطَّلَاقِ.
وَإِضَافَةُ التَّحْبِيسِ إلَى الْأَصْلِ، وَالتَّسْبِيلِ إلَى
الثَّمَرَةِ، لَا يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ
الثَّمَرَةَ مُحْبَسَةٌ أَيْضًا عَلَى مَا شَرَطَ صَرْفَهَا إلَيْهِ.
فَلَوْ قَالَ مَالِكٌ: أَحْبَسْتُ ثَمَرَةَ نَخْلٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛
كَانَ ذَلِكَ وَقْفًا لَازِمًا، بِاتِّفَاقِ مَنْ يَرَى أَنَّ التَّحْبِيسَ
صَرِيحٌ فِي الْوَقْفِ.
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَقَدْ سَبَقَ لَهَا حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي
غَيْرِ الْوَقْفِ، هِيَ أَعَمُّ مِنْ الْوَقْفِ، فَلَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ
لَهَا إلَّا بِقَيْدٍ يُخْرِجُهَا عَنْ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ. وَلِهَذَا
كَانَتْ كَكِنَايَةٍ فِيهِ.
وَفِي جَمْعِ الشَّارِعِ بَيْنَ لَفْظَيْ التَّحْبِيسِ وَالتَّسْبِيلِ،
تَبْيِينٌ لِحَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ
الْوَقْفِ ابْتِدَاءُ تَحْبِيسِهِ، وَدَوَامُ تَسْبِيلِ مَنْفَعَتِهِ؛
وَلِهَذَا حَدَّ كَثِيرٌ مِنْ الْأَصْحَابِ الْوَقْفَ بِأَنَّهُ، تَحْبِيسُ
الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الثَّمَرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ.
(وَكِنَايَتُهُ) - أَيْ: الْوَقْفِ - (تَصَدَّقْتُ، وَحَرَّمْتُ،
وَأَبَّدْتُ) ؛ لِعَدَمِ خُلُوصِ كُلِّ لَفْظٍ مِنْهَا عَنْ الِاشْتِرَاكِ،
فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الزَّكَاةِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي
صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَالتَّحْرِيمَ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ،
وَالتَّأْبِيدَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُرَادُ
(4/273)
تَأْبِيدُهُ مِنْ وَقْفٍ وَغَيْرِهِ؛ فَلَا
يَصِحُّ الْوَقْفُ بِهَا مُجَرَّدَةً عَمَّا يَصْرِفُهَا إلَيْهِ
كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا عُرْفٌ
لُغَوِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ.
(إلَّا بِنِيَّةٍ) لِلْوَقْفِ، فَمَنْ أَتَى بِكِنَايَةٍ وَاعْتَرَفَ
أَنَّهُ نَوَى بِهَا الْوَقْفَ؛ لَزِمَهُ حُكْمًا؛ لِأَنَّهَا بِالنِّيَّةِ
صَارَتْ ظَاهِرَةً فِيهِ وَإِنْ قَالَ مَا أَرَدْتُ بِهَا الْوَقْفَ؛
قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرَهُ.
(أَوْ قَرَنَهَا) - أَيْ: الْكِنَايَةَ فِي اللَّفْظِ - (بِإِحْدَى
الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ) ، وَهِيَ الصَّرَائِحُ الثَّلَاثُ،
وَالْكِنَايَاتُ؛ كَقَوْلِهِ: (تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً، أَوْ)
تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً (مُحَبَّسَةً، أَوْ) تَصَدَّقَتْ صَدَقَةً
(مُسَبَّلَةً، أَوْ) تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً (مُحَرَّمَةً، أَوْ) يَقُولُ:
(حَرَّمْتُ كَذَا تَحْرِيمًا مَوْقُوفًا، إلَى آخِرِهِ) ، كَقَوْلِهِ:
حَرَّمْتُهُ تَحْرِيمًا مُحَبَّسًا، أَوْ تَحْرِيمًا مُسَبَّلًا، أَوْ
تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا.
(أَوْ قَرَنَهَا) - أَيْ: الْكِنَايَةَ - (بِحُكْمِ الْوَقْفِ) ؛
كَقَوْلِهِ: تَصَدَّقْتُ بِهِ (صَدَقَةً لَا تُبَاعُ، أَوْ) صَدَقَةً (لَا
تُوهَبُ، أَوْ) صَدَقَةً (لَا تُورَثُ، أَوْ تَصَدَّقْتُ) بِدَارِي (عَلَى
قَبِيلَةِ) كَذَا، (أَوْ) عَلَى (طَائِفَةِ كَذَا، أَوْ) عَلَى (مَسْجِدِ
كَذَا) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْوَقْفِ،
فَانْتَفَتْ الشَّرِكَةُ، (أَوْ) قَرَنَ الْكِنَايَةَ بِحُكْمِ الْوَقْفِ؛
كَأَنْ يَقُولَ: تَصَدَّقْتُ بِأَرْضِي (عَلَى زَيْدٍ وَالنَّظَرُ لِي)
أَيَّامَ حَيَاتِي، أَوْ النَّظَرُ لِفُلَانٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ
لِفُلَانٍ.
(أَوْ) تَصَدَّقْتُ بِهِ (عَلَيْهِ) - أَيْ: زَيْدٍ - ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ
(عَلَى وَلَدِهِ) ، وَعَلَى عَمْرٍو.
(فَلَوْ قَالَ) رَبُّ دَارٍ: (تَصَدَّقْتُ بِدَارِي عَلَى زَيْدٍ، ثُمَّ
قَالَ) الْمُتَصَدِّقُ: (أَرَدْتُ الْوَقْفَ، وَأَنْكَرَ زَيْدٌ) ،
وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ، فَلِيَ التَّصَرُّفُ فِي رَقَبَتِهَا
بِمَا أُرِيدُ؛ قُبِلَ قَوْلُ زَيْدٍ، وَ (لَمْ يَكُنْ وَقْفًا) ؛
لِمُخَالَفَةِ قَوْلِ الْمُتَصَدِّقِ لِلظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا
يَدَّعِي مَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِيهِ، وَالْوَاقِفُ يَدَّعِي مَا هُوَ
كِنَايَةٌ فِيهِ، فَقُدِّمَتْ دَعْوَى زَيْدٍ.
لَكِنْ إنْ كَانَ الْوَاقِفُ قَدْ نَوَى الْوَقْفَ؛ كَانَ وَقْفًا
بَاطِنًا، وَحَصَلَ لَهُ ثَوَابُ الْوَقْفِ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْفَرْقُ
بَيْنَ تَصَدَّقْتُ وَغَيْرِهَا مِنْ بَقِيَّةِ الْكِنَايَاتِ الَّتِي
لَيْسَتْ صَرِيحَةً.
فَلَوْ قَالَ: حُرِّمَتْ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى زَيْدٍ،
(4/274)
وَقَالَ: أَرَدْتُ الْوَقْفَ، وَأَنْكَرَ
زَيْدٌ؛ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ، وَتَكُونُ وَقْفًا.
(وَعِنْدَ الشَّيْخِ) تَقِيِّ الدِّينِ (لَوْ قَالَ) إنْسَانٌ: قَرْيَتِي
الَّتِي فِي الثَّغْرِ لِمَوَالِي الَّذِينَ بِهِ وَلِأَوْلَادِهِمْ؛ صَحَّ
وَقْفًا. وَنَقَلَهُ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ عَنْ أَحْمَدَ.
وَإِذَا قَالَ وَاحِدٌ: (جَعَلْتُ هَذَا الْمَكَانِ مَسْجِدًا) ، أَوْ
وَقْفًا، صَارَ مَسْجِدًا أَوْ وَقْفًا بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ
عِبَارَتُهُ.
(أَوْ قَالَ) كُلُّ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ: (جَعَلْتُ مِلْكِي
لِلْمَسْجِدِ) ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ (صَحَّ) ، وَصَارَ
بِذَلِكَ وَقْفًا لِلْمَسْجِدِ. قَالَهُ فِي الِاخْتِيَارَاتِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْوَقْفَ يَحْصُلُ بِكُلِّ مَا أَدَّى مَعْنَاهُ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَلْفَاظِ السَّابِقَةِ.
وَوَقْفُ الْهَازِلِ وَوَقْفُ التَّلْجِئَةِ، إنْ غَلَبَ عَلَى الْوَقْفِ
جِهَةُ التَّحْرِيرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْفَسْخَ؛
فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ، كَالْعِتْقِ وَالْإِتْلَافِ. وَإِنْ غَلَبَ
عَلَيْهِ شِبْهُ التَّمْلِيكِ؛ فَيُشْبِهُ الْهِبَةَ وَالتَّمْلِيكَ،
وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْ الْهَازِلِ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَهُ فِي "
الِاخْتِيَارَاتِ ".
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": فَيُتَوَجَّهُ مِنْهُ الِاكْتِفَاءُ بِلَفْظٍ
يُشْعِرُ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ أَظْهَرُ عَلَى أَصْلِنَا؛ فَيَصِحُّ
جَعَلْتُ هَذَا لِلْمَسْجِدِ وَفِي الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ
نُصُوصِهِ انْتَهَى.
[فَصْلٌ شُرُوطُ الْوَقْفِ]
(فَصْلٌ: وَشُرُوطُهُ) ؛ أَيْ: شُرُوطُ الْوَقْفِ الْمُعْتَبَرَةُ
لِصِحَّتِهِ (سِتَّةٌ) :
(أَحَدُهَا كَوْنُهُ) - أَيْ: الْوَقْفُ - (مِنْ مَالِكٍ جَائِزِ
التَّصَرُّفِ) وَهُوَ الْمُكَلَّفُ الرَّشِيدُ؛ فَلَا يَصِحُّ مِنْ صَغِيرٍ
أَوْ سَفِيهٍ أَوْ مَجْنُونٍ، كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمَالِيَّةِ.
قَالَ فِي " الِاخْتِيَارَاتِ ": وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ
فِيمَا فِي يَدِهِ فِي الْوَقْفِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ
شَرْعِيَّةٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِلْكًا لَهُ.
(أَوْ) كَوْنُ الْوَقْفِ (مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ) ، كَوَكِيلِهِ، لَا
الْوَلِيِّ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ لِعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ لِلْمَحْجُورِ
عَلَيْهِ فِيهِ (الثَّانِي كَوْنُهُ) - أَيْ: الْمَوْقُوفِ - (عَيْنًا) فَ
(لَا) يَصِحُّ وَقْفُ (مَا فِي الذِّمَّةِ) ، كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ دَارًا
أَوْ عَبْدًا، وَلَوْ مَوْصُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ
(مَعْلُومَةً
(4/275)
يَصِحُّ بَيْعُهَا) ، بِخِلَافِ نَحْوِ
أُمِّ الْوَلَدِ، (وَأَنْ) تَكُونَ الْعَيْنُ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي
(يُنْتَفَعُ بِهَا) ، انْتِفَاعًا (عُرْفًا) ، وَأَنْ يَكُونَ النَّفْعُ
مُبَاحًا بِلَا ضَرُورَةٍ، مَقْصُودًا، مُتَقَوِّمًا، (كَإِجَارَةٍ) ،
وَاسْتِغْلَالِ ثَمَرَةٍ، وَنَحْوِهِ (مَعَ بَقَائِهَا) ؛ لِأَنَّ
الْوَقْفَ يُرَادُ لِلدَّوَامِ؛ لِيَكُونَ صَدَقَةً جَارِيَةً، وَلَا
يُوجَدُ ذَلِكَ فِيمَا لَا تَبْقَى عَيْنُهُ.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: كَإِجَارَةٍ، إلَى أَنَّ الْمُنْتَفَعَ بِهِ تَارَةً
يُرَادُ مِنْهُ مَا لَيْسَ عَيْنًا؛ كَسُكْنَى الدَّارِ، وَرُكُوبِ
الدَّابَّةِ، وَزِرَاعَةِ الْأَرْضِ، وَتَارَةً يُرَادُ مِنْهُ حُصُولُ
عَيْنٍ، كَالثَّمَرِ مِنْ الشَّجَرِ، وَالصُّوفِ، وَالْوَبَرِ،
وَالْأَلْبَانِ، وَالْبَيْضِ مِنْ الْحَيَوَانِ. (وَلَوْ) صَادَفَ
الْوَقْفُ جُزْءًا (مُشَاعًا مِنْهَا) ؛ أَيْ: مِنْ الْعَيْنِ
الْمُتَّصِفَةِ بِمَا تَقَدَّمَ، كَنِصْفٍ أَوْ سَهْمٍ مَعْلُومٍ مِنْهَا؛
لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْمِائَةُ سَهْمٍ الَّتِي
بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَعْجَبَ إلَيَّ مِنْهَا، فَأَرَدْتُ
أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: احْبِسْ أَصْلَهَا، وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا» . رَوَاهُ
النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَقُولَ: كَذَا سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا. قَالَهُ
أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ مُفْرَزًا،
فَجَازَ عَلَيْهِ مُشَاعًا، كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ
الْأَصْلِ، وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ يَحْصُلُ فِي الْمُشَاعِ
كَحُصُولِهِ فِي الْمَفْرُوزِ.
وَلَا نُسَلِّمُ اعْتِبَارَ الْبَعْضِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَهُوَ يَصِحُّ
فِي الْوَقْفِ؛ كَمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ. قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ":
وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ الْمُشَاعَ لَوْ وَقَفَهُ مَسْجِدًا؛ (يَثْبُتُ فِيهِ
حُكْمُ الْمَسْجِدِ) فِي الْحَالِ، (فَيُمْنَعُ مِنْهُ نَحْوُ جُنُبٍ) ،
كَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ.
(وَتَتَعَيَّنُ الْقِسْمَةُ) هُنَا؛ (لِتَعَيُّنِهَا طَرِيقًا
لِلِانْتِفَاعِ بِالْمَوْقُوفِ) . انْتَهَى وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ
الصَّلَاحِ (أَوْ) كَوْنُهُ (مَنْقُولًا كَحَيَوَانٍ) ؛ أَيْ: كَمَا لَوْ
وَقَفَ فَرَسًا عَلَى الْغُزَاةِ، أَوْ عَبْدًا لِخِدْمَةِ الْمَرْضَى
(وَأَثَاثٍ) يُفْرَشُ فِي مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ. (وَسِلَاحٍ) ؛ كَسَيْفٍ
أَوْ رُمْحٍ أَوْ قَوْسٍ، عَلَى الْغُزَاةِ.
أَمَّا الْحَيَوَانُ؛ فَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ
احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ
(4/276)
اللَّهِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، فَإِنَّ
شِبَعَهُ وَرَوْثَهُ فِي مِيزَانِهِ حَسَنَاتٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَأَمَّا الْأَثَاثُ وَالسِّلَاحُ؛ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ حَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: " وَأَعْتُدَهُ
".
قَالَ الْخَطَّابِيِّ: الْأَعْتَادُ مَا يُعِدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ رَكُوبٍ
وَسِلَاحٍ وَآلَةِ الْجِهَادِ. وَقَالَ فِي " النِّهَايَةِ: " الْأَعْتُدُ
جَمْعُ قِلَّةٍ لِلْعَتَادِ، وَهُوَ مَا أَعَدَّهُ الرَّجُلُ مِنْ
السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَآلَةِ الْحَرْبِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَعْتِدَةٍ
أَيْضًا.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: " أَعْبُدُ " بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، جَمْعُ
عَبْدٍ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مَقِيسٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا
مُبَاحًا مَقْصُودًا، فَجَازَ وَقْفُهُ؛ كَوَقْفِ السِّلَاحِ. (أَوْ)
صَادَفَ الْوَقْفُ (دَارًا لَمْ يَذْكُرْ) الْوَاقِفُ (حُدُودَهَا) ؛
فَيَصِحُّ (إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً) .
قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى " وَظَاهِرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا
وَقَفَ عَقَارًا مَشْهُورًا لَمْ يَشْتَرِطْ حُدُودَهُ، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ، نُصَّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": نَقَلَ جَمَاعَةٌ فِيمَنْ وَقَفَ دَارًا،
وَلَمْ يَحُدَّهَا، قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَحُدَّهَا إذَا كَانَتْ
مَعْرُوفَةً انْتَهَى.
(وَكَذَا) يَصِحُّ وَقْفُ (حُلِيٍّ عَلَى لُبْسٍ وَعَارِيَّةٍ) ؛ لِمَا
رَوَى نَافِعٌ: أَنَّ حَفْصَةَ ابْتَاعَتْ حُلِيًّا بِعِشْرِينَ أَلْفًا
حَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ، فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ
زَكَاتَهُ. رَوَاهُ الْخَلَّالُ.
(فَلَا يَصِحُّ إنْ أَطْلَقَ) وَاقِفٌ وَقْفَ الْحُلِيِّ، فَلَمْ
يُعَيِّنْهُ لِلُبْسٍ أَوْ عَارِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي
غَيْرِ ذَلِكَ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ.
وَ (لَا) يَصِحُّ الْوَقْفُ (مُبْهَمًا) غَيْرَ مُعَيَّنٍ؛ (كَ) وَقَفْتُ
(أَحَدَ هَذَيْنِ) الْعَبْدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ نَقْلُ مِلْكٍ عَلَى
وَجْهِ الصَّدَقَةِ، فَلَمْ تَصِحَّ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْهِبَةِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ مَجْهُولًا؛ مِثْلُ أَنْ يَقِفَ دَارًا لَمْ
يَرَهَا، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: مَنْعُ هَذَا بَعِيدٌ.
وَكَذَلِكَ هِبَةٌ (أَوْ) وَقْفُ (مَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، كَأُمِّ
وَلَدٍ) ؛ فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا أَيْضًا.
فَإِنْ وَقَفَ عَلَى غَيْرِهَا؛ كَعَلَى زَيْدٍ، عَلَى أَنْ يُنْفِقَ
عَلَيْهَا مِنْهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ،
(4/277)
أَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ مَثَلًا، عَلَى
أَنْ يَكُونَ الرُّبْعُ لِأُمِّ وَلَدِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، صَحَّ
الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمَنْفَعَةِ لِأُمِّ وَلَدِهِ
كَاسْتِثْنَائِهَا لِنَفْسِهِ.
(وَ) لَا يَصِحُّ أَيْضًا وَقْفُ (كَلْبٍ) وَخِنْزِيرٍ وَسِبَاعِ
الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ، وَكَذَا جَوَارِحُ
الطَّيْرِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ
بَيْعُهَا، وَلَا وَقْفُ مَنْفَعَةٍ يَمْلِكُهَا؛ كَخِدْمَةِ عَبْدٍ مُوصَى
لَهُ بِهَا، وَمَنْفَعَةِ أُمِّ وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَمَنْفَعَةِ
الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ.
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقِفَ الْحُرُّ نَفْسَهُ، وَإِنْ صَحَّتْ إجَارَتُهُ،
وَلَا أَنْ يَقِفَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ.
(وَ) لَا يَصِحُّ وَقْفُ (نَحْوِ أَرْضِ مِصْرَ) ؛ كَأَرْضِ الشَّام
وَالْعِرَاقِ، (وَ) لَا وَقْفُ (مَرْهُونٍ بِلَا إذْنِ) رَاهِنٍ؛ لِأَنَّ
الْوَقْفَ تَصَرُّفٌ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فِيمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ.
(وَيَتَّجِهُ فَلَوْ وَقَفَ) جَائِزُ التَّصَرُّفِ (نَحْوَ أَرْضِ مِصْرَ)
؛ كَأَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَكُلِّ مَا فُتِحَ عَنْوَةً، وَوَقَفَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ (عَلَى نَحْوِ مَدَارِسَ) ؛ كَمَسَاجِدَ وَخَوَانِكَ
وَغَيْرِهَا، (إنَّمَا هِيَ) - أَيْ: الْأَرْضُ - (إرْصَادٌ) - أَيْ:
اعْتِدَادٌ - وَإِرْصَادُ الْأَرْضِ اعْتِدَادُهَا، فَكَأَنَّهُ أَعَدَّهَا
لِصَرْفِ نَمَائِهَا عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا.
(وَإِفْرَازٌ) ، يُقَالُ: أَفْرَزَ الشَّيْءَ إذَا عَزَلَهُ وَمَيَّزَهُ،
وَبَابُهُ ضَرَبَ، فَكَأَنَّهُ أَفْرَزَهَا عَنْ مِلْكِهِ (وَوَقَفَهَا) -
أَيْ: الْأَرْضَ - (مَسَاجِدَ؛ يَكْتَفِي فِي) ثُبُوتِ وَقْفِهِ لَهَا
بِنَاءَ (الْمَسْجِدِيَّةِ بِالصُّورَةِ) أَيْ: صُورَةِ الْمَسْجِدِ -
كَبِنَاءِ مِحْرَابٍ أَوْ مِنْبَرٍ، (وَ) يَكْتَفِي بِذَلِكَ أَيْضًا
(بِالِاسْمِيَّةِ) ؛ أَيْ: بِتَسْمِيَتِهِ مَسْجِدًا، (فَإِذَا زَالَتْ)
تِلْكَ الصُّورَةُ بِانْهِدَامِهَا، وَتَعَطُّلِ مَنَافِعِهَا؛ (عَادَتْ
الْأَرْضُ إلَى حُكْمِهَا) الْأَصْلِيِّ، (مِنْ جَوَازِ لُبْثِ جُنُبٍ)
فِيهَا، (وَعَدَمِ صِحَّةِ اعْتِكَافٍ) ؛ لِزَوَالِ حُكْمِ
الْمَسْجِدِيَّةِ عَنْهَا، وَعَوْدِهَا إلَى الْحُكْمِ الَّذِي كَانَتْ
عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ إذْ هِيَ وَقْفٌ وَقَفَهَا الْإِمَامُ عُمَرُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَقْسِمْهَا
بَيْنَهُمْ، كَمَا وَصَلَ إلَيْنَا ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ،
(4/278)
وَالْوَقْفُ لَا يُوقَفُ، فَلِذَلِكَ
جَعَلَ الْمُصَنِّفُ وَقْفَهَا مُجَرَّدَ إرْصَادٍ وَإِفْرَازٍ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ. مُوَافِقٌ لِلْقَوَاعِدِ.
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ مَا (لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ
بَقَائِهِ) دَائِمًا (غَيْرَ مَاءٍ) ؛ فَيَصِحُّ وَقْفُهُ. قَالَ فِي "
الْفَائِقِ. ": وَيَجُوزُ وَقْفُ الْمَاءِ. نُصَّ عَلَيْهِ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " وَفِي الْجَامِعِ ": يَصِحُّ وَقْفُ الْمَاءِ
قَالَ الْفَضْلُ: سَأَلْتُهُ عَنْ وَقْفِ الْمَاءِ فَقَالَ: إنْ كَانَ
شَيْئًا اسْتَخَارُوهُ بَيْنَهُمْ جَازَ. قَالَ الْحَارِثِيُّ: هَذَا
النَّصُّ يَقْتَضِي تَصْحِيحَ الْوَقْفِ لِنَفْسِ الْمَاءِ، كَمَا
يَفْعَلُهُ أَهْلُ دِمَشْقَ، يَقِفُ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ أَوْ بَعْضَهَا
مِنْ مَاءِ النَّهْرِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
إثْبَاتُ الْوَقْفِ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَاءَ
يَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا. الثَّانِي: ذَهَابُ الْعَيْنِ
بِالِانْتِفَاعِ. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: بَقَاءُ مَادَّةِ الْحُصُولِ مِنْ
غَيْرِ تَأْثِيرِهِ بِالِانْتِفَاعِ، يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَقَاءِ
أَصْلِ الْعَيْنِ مَعَ الِانْتِفَاعِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا صِحَّةُ وَقْفِ الْبِئْرِ؛ فَإِنَّ الْوَقْفَ وَارِدٌ
عَلَى مَجْمُوعِ الْمَاءِ وَالْحَفِيرَةِ، فَالْمَاءُ أَصْلٌ فِي
الْوَقْفِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْبِئْرِ ثُمَّ لَا أَثَرَ لِذَهَابِ
الْمَاءِ بِالِاسْتِعْمَالِ لِتَجَدُّدِ بَدَلِهِ، فَهُنَا كَذَلِكَ:
فَيَجُوزُ وَقْفُ الْمَاءِ لِذَلِكَ. انْتَهَى.
(كَمَطْعُومٍ وَمَشْمُومٍ يُسْرِعُ فَسَادُهُ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ
بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ،
(4/279)
بِخِلَافِ نَدٍّ وَصَنْدَلٍ وَقَطْعِ
كَافُورٍ؛ فَيَصِحُّ وَقْفُهُ لِشَمِّ مَرِيضٍ وَغَيْرِهِ؛ لِبَقَائِهِ
مَعَ الِانْتِفَاعِ، وَقَدْ صَحَّتْ إجَارَتُهُ لِذَلِكَ، فَصَحَّ
وَقْفُهُ. وَاسْتَظْهَرَ فِي " الْإِنْصَافِ " أَنَّ هَذَا مِنْ
الْمُتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِوُجُودِ شُرُوطِ الْوَقْفِ فِيهِ.
(وَ) لَا يَصِحُّ وَقْفُ (دُهْنٍ عَلَى مَسْجِدٍ) وَلَا وَقْفُ شَمْعٍ
كَذَلِكَ، وَلَا وَقْفُ الرَّيْحَانِ لِيَشُمَّهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ؛
لِمَا تَقَدَّمَ، (خِلَافًا لِلشَّيْخِ) تَقِيِّ الدِّينِ فِي تَجْوِيزِ
وَقْفِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَوْ تَصَدَّقَ بِدُهْنٍ عَلَى مَسْجِدٍ
لِيُوقَدَ فِيهِ؛ جَازَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْوَقْفِ، وَتَسْمِيَتُهُ
وَقْفًا بِمَعْنَى أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، لَا يُنْتَفَعُ
بِهِ فِي غَيْرِهَا.
لَا تَأْبَاهُ اللُّغَةُ، وَهُوَ جَارٍ فِي الشَّرْعِ. وَقَالَ أَيْضًا:
يَصِحُّ وَقْفُ الرِّيحَانِ لِيَشُمَّهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قَالَ: وَطِيبُ
الْكَعْبَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ كِسْوَتِهَا.
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": فَعَلِمَ أَنَّ التَّطَيُّبَ مَنْفَعَةٌ
مَقْصُودَةٌ، لَكِنْ قَدْ تَطُولُ مُدَّةُ التَّطَيُّبِ، وَقَدْ تَقْصُرُ،
وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ. انْتَهَى. وَالْمَذْهَبُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ.
(وَ) لَا يَصِحُّ وَقْفُ (أَثْمَانٍ) ، وَلَوْ لِتَحَلٍّ وَوَزْنٍ،
(كَقِنْدِيلٍ) عَلَى مَسْجِدٍ، (وَحَلْقَةٍ مِنْ نَقْدٍ) ذَهَبٍ أَوْ
فِضَّةٍ تُجْعَلُ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ؛ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُ شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ (عَلَى الْمَسْجِدِ) ؛ كَمَا لَا يَصِحُّ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ لِيُنْتَفَعَ بِاقْتِرَاضِهَا؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ
تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ
إلَّا فِي الْإِتْلَافِ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ.
(فَيُزَكِّيهِ) - أَيْ: النَّقْدَ (رَبُّهُ) ؛ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ
عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ وَاقِفُ الْأَثْمَانِ يَصِحُّ فِي بَعْضِ
الصُّوَرِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ، أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
(إلَّا) إذَا وَقَفَ الْأَثْمَانَ (تَبَعًا) ؛ كَوَقْفِ (فَرَسٍ) فِي
سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - (بِلِجَامٍ وَسَرْجٍ مُفَضَّضَيْنِ) ،
فَيَصِحُّ الْوَقْفُ فِي الْكُلِّ.
(فَتُبَاعُ الْفِضَّةُ) ؛ لِأَنَّهَا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، (وَتُصْرَفُ) -
أَيْ: ثَمَنُهَا - (فِي وَقْفِ مِثْلِهِ) .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَنْ وَصَّى بِفَرَسٍ وَسَرْجٍ وَلِجَامٍ
مُفَضَّضٍ يُوقَفُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: فَهُوَ عَلَى مَا وُقِفَ وَوَصَّى،
وَإِنْ بِيعَتْ الْفِضَّةُ مِنْ السَّرْجِ
(4/280)
فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ
لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَلَعَلَّهُ يُشْتَرَى بِتِلْكَ الْفِضَّةِ سَرْجٌ
وَلِجَامٌ، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ.
قِيلَ: فَتُبَاعُ الْفِضَّةُ، وَتُجْعَلُ فِي نَفَقَتِهِ؟ قَالَ: لَا قَالَ
فِي " الْمُغْنِي ": فَأَبَاحَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِفِضَّةِ السَّرْجِ
وَاللِّجَامِ سَرْجًا وَلِجَامًا؛ لِأَنَّهَا صَرْفٌ فِي جِنْسِ مَا
كَانَتْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهَا فِيهِ، فَأَشْبَهَ الْفَرَسَ
الْحَبِيسَ إذَا عَطِبَ فَلَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْجِهَادِ، جَازَ
بَيْعُهُ وَصَرْفُ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ، وَلَمْ يَجُزْ إنْفَاقُهَا عَلَى
الْفَرَسِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ لَهَا إلَى غَيْرِ جِهَتِهَا. انْتَهَى.
وَ (لَا) تُصْرَفُ (فِي نَفَقَتِهِ) - أَيْ: الْفَرَسِ - (خِلَافًا لَهُ) -
أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ " فَإِنَّهُ قَالَ: فَيُبَاعُ ذَلِكَ،
وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
(وَيَتَّجِهُ وَكَذَا) ؛ أَيْ: مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ، (وَقْفُ دَارٍ
بِقَنَادِيلِ نَقْدٍ) مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَلَى جِهَةِ بِرٍّ؛
فَإِنَّهَا تُبَاعُ الْقَنَادِيلُ، وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهَا دَارًا أَوْ
حَانُوتًا يَكُونُ وَقْفًا، وَتُصْرَفُ غَلَّةُ ذَلِكَ إلَى الْجِهَةِ
الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ، مَا لَمْ تَكُنْ الدَّارُ مُحْتَاجَةً
لِعِمَارَةٍ أَوْ إصْلَاحٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْوَقْفِ مَا يُصْرَفُ
مِنْهُ؛ فَتُبَاعُ، وَيُصْرَفُ ثَمَنُهَا فِي ذَلِكَ؛ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ
إلَيْهِ، وَلِجَوَازِ بَيْعِ بَعْضِ الْوَقْفِ لِإِصْلَاحِ بَاقِيهِ عِنْدَ
الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
الشَّرْطُ (الثَّالِثُ كَوْنُهُ) أَيْ: الْوَقْفِ - (عَلَى بِرٍّ) ، وَهُوَ
اسْمٌ جَامِعٌ
(4/281)
لِلْخَيْرِ، وَأَصْلُهُ الطَّاعَةُ لِلَّهِ
تَعَالَى، وَاشْتِرَاطُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الصَّرْفِ إلَى
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ قُرْبَةٌ وَصَدَقَةٌ، فَلَا
بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا فِيمَا لِأَجْلِهِ الْوَقْفُ، سَوَاءٌ كَانَ
الْوَقْفُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ مِنْ
الْمُسْلِمِ الْوَقْفُ عَلَيْهِ؛ لَا يَصِحُّ مِنْ الذِّمِّيِّ،
كَالْوَقْفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
قَالَ أَحْمَدُ فِي نَصَارَى: وَقَفُوا عَلَى الْبَيْعَةِ، وَمَاتُوا
وَلَهُمْ أَبْنَاءٌ نَصَارَى، فَأَسْلَمُوا وَالضِّيَاعُ بِيَدِ
النَّصَارَى: فَلَهُمْ أَخْذُهَا، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَوْنُهُمْ حَتَّى
يَسْتَخْرِجُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ، لَا يُقَالُ: مَا عَقَدَهُ أَهْلُ
الْكِتَابِ وَتَقَابَضُوهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا؛ لَا
يُنْقَضُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ
إزَالَةُ مِلْكٍ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، فَإِذَا لَمْ
يَقَعْ صَحِيحًا لَمْ يَزُلْ الْمِلْكُ؛ فَيَبْقَى بِحَالِهِ، كَالْعِتْقِ.
وَالْقُرْبَةُ قَدْ تَكُونُ عَلَى الْآدَمِيِّ؛ كَالْفُقَرَاءِ
(وَالْمَسَاكِينِ) وَالْغُزَاةِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَقَدْ تَكُونُ عَلَى
غَيْرِ آدَمِيٍّ؛ كَالْحَجِّ، وَالْغَزْوِ، وَالسِّقَايَةِ الَّتِي
يَتَّخِذُ فِيهَا الشَّرَابَ فِي الْمَوَاسِمِ، وَغَيْرِهَا، وَإِصْلَاحِ
الطُّرُقِ (وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَقَابِرِ) وَالْمَدَارِسِ
والْبيمَارِستاناتِ، وَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُهَا تَعُودُ عَلَى
الْآدَمِيِّ، فَيَتَصَرَّفُ فِي مَصَالِحِهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
وَمِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ (الْأَقَارِبُ) ؛ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى
الْقَرِيبِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
عَلَى بِرٍّ؛ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ.
وَيَصِحُّ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ قُرْبَةٌ؛ كَالرُّبُطِ وَالْخَانَاتِ
لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، (وَكُتُبِ الْعِلْمِ) النَّافِعِ كَالْحَدِيثِ
وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ؛ (فَلَا يَصِحُّ) الْوَقْفُ
(عَلَى) تَعْلِيمِ شِعْرٍ (مُبَاحٍ) (وَ) لَا عَلَى (مَكْرُوهٍ) ؛
كَتَعْلِيمِ مَنْطِقٍ؛ لِانْتِفَاءِ الْقُرْبَةِ. (وَ) لَا عَلَى
(مَعْصِيَةٍ) ، وَتَأْتِي أَمْثِلَتُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَعُونَةِ
عَلَيْهَا.
وَ (يَصِحُّ) الْوَقْفُ (مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى ذِمِّيٍّ) مُعَيَّنٍ؛ لِمَا
رُوِيَ: " أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَتْ عَلَى أَخٍ لَهَا يَهُودِيٍّ "؛
وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِلْقُرْبَةِ؛ لِجَوَازِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ.
(وَلَوْ) كَانَ الذِّمِّيُّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ (أَجْنَبِيًّا) مِنْ
الْوَاقِفِ؛ لِأَنَّهُ تَجُوزُ صِلَتُهُ.
وَفِي " الِانْتِصَارِ ": لَوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ عَلَى ذِمِّيَّةٍ
(4/282)
لَزِمَهُ، (كَعَكْسِهِ) ؛ أَيْ: كَمَا
يَصِحُّ مِنْ ذِمِّيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ طَائِفَةٍ
كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
(وَيَسْتَمِرُّ) الْوَقْفُ لَهُ (إذَا أَسْلَمَ) بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛
كَمَعَ عَدَمِ هَذَا الشَّرْطِ. (وَيَلْغُو شَرْطُهُ) ؛ أَيْ: شَرْطُ
الْوَاقِفِ اسْتِحْقَاقَهُ، (مَا دَامَ كَذَلِكَ) - أَيْ: ذِمِّيًّا -
لِئَلَّا يَخْرُجَ الْوَقْفُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً (وَكَذَا) ؛ أَيْ:
مِثْلُ ذَلِكَ، مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ (مَا دَامَ زَيْدٌ غَنِيًّا،
أَوْ) عَلَى فُلَانَةَ مَا دَامَتْ (مُتَزَوِّجَةً) .
(لَا) يَصِحُّ الْوَقْفُ (عَلَى كَنَائِسَ) - جَمْعِ كَنِيسَةٍ -
مُتَعَبَّدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ الْكُفَّارِ. قَالَهُ فِي
الْقَامُوسِ.
(أَوْ) عَلَى (بُيُوتِ نَارٍ، أَوْ عَلَى بِيَعٍ) - جَمْعِ بِيعَةٍ -
بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى، وَنَحْوِهَا
كَدُيُورِ وَصَوَامِعَ رُهْبَانٍ، وَمَصَالِحِهَا كَقَنَادِيلِهَا
وَفُرُشِهَا وَوُقُودِهَا وَسَدَنَتِهَا؛ لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ عَلَى
مَعْصِيَةٍ.
(وَلَوْ) كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَا ذُكِرَ (مِنْ ذِمِّيٍّ) ؛ فَلَا
يَصِحُّ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا
يَصِحُّ مِنْ الذِّمِّيِّ. قَالَ فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ:
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى كُلِّ وَقْفٍ وَقَفَ عَلَى
كَنِيسَةٍ، أَوْ بَيْتِ نَارٍ، أَوْ بِيعَةٍ، وَيَجْعَلَهَا عَلَى جِهَةِ
قُرُبَاتٍ. انْتَهَى.
وَالْمُرَادُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَرَثَةُ وَاقِفِهَا، وَإِلَّا
فَلِلْوَرَثَةِ أَخْذُهَا، بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى ذِمِّيٍّ مُعَيَّنٍ؛
لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ دِينِهِ؛
لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ لِفَقْرِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ، وَالْمُسْلِمُ
وَالذِّمِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ.
وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ يَعْمُرُهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ
يُرَادُ لِتَعْظِيمِهَا، (بَلْ) يَصِحُّ الْوَقْفُ (عَلَى الْمَارِّ بِهَا
مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ) ؛ لِجَوَازِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُجْتَازِينَ،
وَصَلَاحِيَّتِهِمْ لِلْقُرْبَةِ وَ (لَا) يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى
(ذِمِّيٍّ فَقَطْ) . قَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " قَالَ فِي شَرْحِ
الْمُنْتَهَى: " إنَّهُ الْمَذْهَبُ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: إنْ خَصَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَوَقَفَ عَلَى
الْمَارَّةِ مِنْهُمْ؛ لَمْ يَصِحَّ. (خِلَافًا لَهُ) - أَيْ: لِصَاحِبِ
الْإِقْنَاعِ " - فَإِنَّهُ قَالَ: بَلْ عَلَى مَنْ يَنْزِلُهَا مِنْ
مَارٍّ وَمُجْتَازٍ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَطْ.
(4/283)
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ
عَلَى (جِنْسِ) - أَيْ: طَائِفَةِ - (الْأَغْنِيَاءِ، أَوْ الْفُسَّاقِ) ،
أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ الْمَغَانِي، (أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ) ،
(وَلَوْ) خَصَّ (الْفُقَرَاءَ) ، مِنْ الْفُسَّاقِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ؛
لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
(وَلَا) يَصِحُّ الْوَقْفُ (عَلَى كُتُبٍ) - أَيْ: كِتَابَةٍ - (نَحْوِ
التَّوْرَاةِ) . كَالْإِنْجِيلِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ
مَعْصِيَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مِنْ ذِمِّيٍّ؛ لِوُقُوعِ التَّبْدِيلِ
وَالتَّحْرِيفِ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَضِبَ لَمَّا رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً فِيهَا
شَيْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ: أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ
الْخَطَّابِ؟ ، أَلَمْ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً؟ ؛ لَوْ كَانَ أَخِي
مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» .
(وَ) كَذَا (كُتُبُ بِدَعٍ) ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى ": وَيُلْحَقُ
بِذَلِكَ كُتُبُ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا.
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ (عَلَى حَرْبِيٍّ أَوْ عَلَى
مُرْتَدٍّ) ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ تَجُوزُ إزَالَتُهُ، وَالْوَقْفُ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ لَازِمًا، وَلِأَنَّ إتْلَافَ أَنْفُسِهِمَا وَالتَّضْيِيقَ
عَلَيْهِمَا وَاجِبٌ؛ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُ مَا يَكُونُ سَبَبًا
لِبَقَائِهِمَا وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمَا.
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا يَصِحُّ (وَقْفُ سُتُورٍ) - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
حَرِيرًا - (لِغَيْرِ الْكَعْبَةِ) ؛ كَوَقْفِهَا عَلَى الْأَضْرِحَةِ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ.
(وَلَا) يَصِحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ أَنْ يَقِفَ الْإِنْسَانُ مَالَهُ
(عَلَى نَفْسِهِ) .
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ
الْأَصْحَابِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.
وَقَالَ فِي " الْفُصُولِ ": هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ.
قَالَ الشَّارِحُ: هَذَا أَقْيَسُ.
قَالَ فِي " الرِّعَايَتَيْنِ ": وَلَا يَصِحُّ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى
الْأَصَحِّ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، وَابْنِ
عَقِيلٍ، وَالْمُوَفَّقِ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي
الْإِرْشَادِ "، وَأَبُو الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ فِي " الْمُبْهِجِ "،
وَصَاحِبُ " الْوَجِيزِ "، وَغَيْرُهُمْ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ
(4/284)
الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ إمَّا لِلرَّقَبَةِ
أَوْ الْمَنْفَعَةِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ هُنَا؛ إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ مِنْ نَفْسِهِ؛ كَبَيْعِهِ مَالَهُ مِنْ نَفْسِهِ
(خِلَافًا لِجَمْعٍ) مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُذَهَّبِ، وَمَسْبُوكِ
الذَّهَبِ، وَمَنْ سَنَذْكُرُهُ. فَإِنْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى
مَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ كَوَلَدِهِ؛ لَمْ يَصِحَّ، (وَيَنْصَرِفُ)
الْوَقْفُ (لِمَنْ بَعْدَهُ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ) . فَمَنْ وَقَفَ عَلَى
نَفْسِهِ، ثُمَّ أَوْلَادِهِ أَوْ الْفُقَرَاءِ؛ صُرِفَ فِي الْحَالِ إلَى
أَوْلَادِهِ أَوْ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ مَنْ لَا يَصِحُّ
الْوَقْفُ عَلَيْهِ؛ كَعَدَمِهِ، فَيَكُونُ كَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ
بَعْدَهُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ نَفْسِهِ؛ فَمِلْكُهُ
بِحَالِهِ، وَيُورَثُ عَنْهُ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ
الْوَقْفُ عَلَى النَّفْسِ.
نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَيُوسُفَ بْنِ
مُوسَى، وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ.
قَالَ فِي " الْمُذَهَّبِ ": وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ "؛ صَحَّ فِي ظَاهِرِ
الْمَذْهَبِ قَالَ الْحَارِثِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فِي " النِّهَايَةِ " " وَالْخُلَاصَةِ ":
يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ.
قَالَ النَّاظِمُ: يَجُوزُ عَلَى الْمَنْصُورِ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ.
وَصَحَّحَهُ فِي " التَّصْحِيحِ " " وَإِدْرَاكِ الْغَايَةِ ".
قَالَ فِي " الْفَائِقِ " وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَمَالَ إلَيْهِ صَاحِبُ
التَّلْخِيصِ "، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْمُنَوِّرِ " وَمُنْتَخَبِ
الْآدَمِيِّ " وَقَدَّمَهُ فِي " الْهِدَايَةِ " " وَالْمُسْتَوْعِبِ "
وَالْهَادِي " " وَالْفَائِقِ " وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدَّمَهُ الْمَجْدُ فِي مُسْوَدَّتِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَقَالَ:
نُصَّ عَلَيْهِ.
قَالَ الْمُوَفَّقُ، وَالشَّارِحُ، وَصَاحِبُ الْفُرُوعِ، وَاخْتَارَهُ
ابْنُ أَبِي مُوسَى.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هِيَ أَصَحُّ.
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ " قُلْتُ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَيْهَا
الْعَمَلُ فِي زَمَنِنَا، وَقَبْلَهُ عِنْدَ حُكَّامِنَا مِنْ أَزْمِنَةٍ
مُتَطَاوِلَةٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ،
وَتَرْغِيبٌ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَذْهَبِ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَمَتَى حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ حَيْثُ يَجُوزُ
لَهُ الْحُكْمُ؛ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ ظَاهِرًا.
قَالَ فِي " شَرْحِ الْمُنْتَهَى: ": وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الْقَضَاءِ
بِالْمَرْجُوحِ مِنْ الْخِلَافِ انْتَهَى.
(وَيَصِحُّ وَقْفُ قِنِّهِ عَلَى خِدْمَةِ الْكَعْبَةِ) صَانَهَا اللَّهُ
تَعَالَى (وَعَلَى حُجْرَتِهِ)
(4/285)
أَيْ: النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لِإِخْرَاجِ تُرَابِهَا، وَإِشْعَالِ قَنَادِيلَهَا
وَإِصْلَاحِهَا) ؛ لِأَنَّ فِيهِ قُرْبَةً فِي الْجُمْلَةِ.
وَ (لَا) يَصِحُّ وَقْفُ الْقِنِّ (لِإِشْعَالِهَا وَحْدَهُ، وَتَعْلِيقِ
سُتُورِهَا) الْحَرِيرِ، وَكَنْسِ الْحَائِطِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ
فِي الرِّعَايَةِ "؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
قَالَ فِي " الِاخْتِيَارَاتِ ": وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ فِي
الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُمَكَّنُ مِنْ تِلْكَ الْقُرْبَةِ،
فَلَوْ أَرَادَ الْكَافِرُ أَنْ يَقِفَ مَسْجِدًا مُنِعَ مِنْهُ.
(وَلَا) يَصِحُّ الْوَقْفُ (عَلَى تَنْوِيرِ قَبْرٍ، وَلَا عَلَى
تَبْخِيرِهِ، وَلَا عَلَى مَنْ يُقِيمُ عِنْدَهُ أَوْ يَخْدُمُهُ أَوْ
يَزُورُهُ، قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ ") لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ
الْبِرِّ، لَكِنْ فِي مَنْعِ الْوَقْفِ عَلَى مَنْ يَزُورُهُ نَظَرٌ؛
فَإِنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ سُنَّةٌ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ
عَلَى زِيَارَةٍ فِيهَا سَفَرٌ.
(وَلَا) يَصِحُّ الْوَقْفُ أَيْضًا عَلَى بِنَاءِ مَسْجِدٍ عَلَى الْقَبْرِ
وَلَا (وَقْفُ بَيْتٍ فِيهِ قُبُورٌ مَسْجِدًا) ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذَاتِ عَلَيْهَا
الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد؛ وَالنَّسَائِيُّ،
وَالتِّرْمِذِيُّ.
(وَمَنْ وَقَفَ) شَيْئًا (عَلَى غَيْرِهِ) ؛ كَأَوْلَادِهِ أَوْ مَسْجِدٍ،
(وَاسْتَثْنَى غَلَّتَهُ) كُلَّهَا لِنَفْسِهِ، (أَوْ) اسْتَثْنَى
(سُكْنَاهُ، أَوْ) اسْتَثْنَى (بَعْضَهَا لَهُ) - أَيْ: الْوَاقِفِ -
مُدَّةَ حَيَاتِهِ، أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً؛ صَحَّ.
(أَوْ) اسْتَثْنَى غَلَّتَهُ أَوْ بَعْضَهَا (لِوَلَدِهِ) - أَيْ:
الْوَاقِفِ - أَوْ غَيْرِهِ، صَحَّ.
(أَوْ) اسْتَثْنَى (الْأَكْلَ) مِمَّا وَقَفَهُ، أَوْ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ
وَعَلَى عِيَالِهِ، (أَوْ) اسْتَثْنَى (الِانْتِفَاعَ) لِنَفْسِهِ أَوْ
لِأَهْلِهِ، وَلَوْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِسُكْنَى مُدَّةِ حَيَاتِهِمْ،
(أَوْ) اشْتَرَطَ أَنَّهُ (يُطْعِمُ صَدِيقَهُ) مِنْهُ (مُدَّةَ حَيَاتِهِ،
أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً؛ صَحَّ) الْوَقْفُ، وَالشَّرْطُ عَلَى مَا قَالَ،
سَوَاءٌ قَدَّرَ مَا يَأْكُلُهُ أَوْ عِيَالَهُ أَوْ صَدِيقَهُ وَنَحْوَهُ،
أَوْ أَطْلَقَهُ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَشْتَرِطُ فِي
الْوَقْفِ أَنِّي أَقِفُ عَلَى نَفْسِي وَأَهْلِي، قَالَ: نَعَمْ،
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ حُجْرٌ الْمَدَرِيِّ أَنَّهُ فِي صَدَقَةِ
(4/286)
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْكُلَ أَهْلُهُ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ
الْمُنْكَرِ ".
وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا قَوْلُ عُمَرَ لَمَّا وَقَفَ: لَا جُنَاحَ عَلَى
مَنْ وُلِّيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ
مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. وَكَانَ الْوَقْفُ فِي يَدِهِ إلَى أَنْ مَاتَ؛
وَلِأَنَّهُ إذَا وَقَفَ وَقْفًا عَامًّا؛ كَالْمَسَاجِدِ، وَالسِّقَايَاتِ
وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْمَقَابِرِ؛ كَانَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ،
وَكَذَلِكَ هُنَا.
(فَلَوْ مَاتَ) مَنْ اسْتَثْنَى نَفْعَ مَا وَقَفَ مُدَّةً مُعَيَّنَةً،
(فِي أَثْنَائِهَا) - أَيْ: الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لِنَحْوِ السُّكْنَى
- فَالْبَاقِي مِنْهَا (لِوَرَثَتِهِ) ؛ كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا
وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهَا سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ فِيهَا.
قَالَ فِي شَرْحِ " الْإِقْنَاعِ ": قُلْتُ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ صِحَّةُ
إجَارَةِ كُلِّ مَا مَلَكَ مَنْفَعَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهَا
الْوَاقِفُ لَهُ.
(وَلَهُمْ) - أَيْ: وَرَثَتِهِ - (إجَارَتُهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
وَلِغَيْرِهِ) ؛ كَالْمُسْتَثْنَى فِي الْبَيْعِ.
وَمِنْهُ يُؤْخَذُ صِحَّةُ إجَارَةِ مَا شُرِطَ سُكْنَاهُ لِنَحْوِ
بِنْتِهِ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ خَطِيبٍ، أَوْ إمَامٍ. قَالَهُ
الْبُهُوتِيُّ.
(وَيَتَّجِهُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ) لِمَنْ مَاتَ، وَقَدْ بَقِيَ لَهُ بَعْضُ
الْمُدَّةِ (وَرَثَةٌ فَ) الْبَاقِي مِنْ الْمُدَّةِ الَّتِي مَاتَ عَنْهَا
(لِبَيْتِ الْمَالِ) ؛ كَبَاقِي تَرِكَتِهِ، وَ (لَا) يُعْطَى
(لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إلَّا
بَعْدَ فَرَاغِ جَمِيعِ الْمُدَّةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ. وَهُوَ
مُتَّجِهٌ.
(وَمَنْ وَقَفَ) شَيْئًا (عَلَى الْفُقَرَاءِ فَافْتَقَرَ) ؛ شَمَلَهُ
الْوَقْفَ، وَ (تَنَاوَلَ) الْوَاقِفُ مِنْهُ؛ لِوُجُودِ الْوَصْفِ الَّذِي
هُوَ الْفَقْرُ فِيهِ (وَلَوْ وَقَفَ) إنْسَانٌ (مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً
أَوْ بِئْرًا، أَوْ مَدْرَسَةً) لِعُمُومِ (الْفُقَهَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ)
؛ أَيْ: نَوْعٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
(أَوْ) وَقَفَ (رِبَاطًا) أَوْ غَيْرَهُ (لِلصُّوفِيَّةِ) أَوْ نَحْوِهِمْ،
(مِمَّا يَعُمُّ؛ فَهُوَ) - أَيْ: الْوَاقِفُ -
(4/287)
(كَغَيْرِهِ) فِي الِاسْتِحْقَاقِ
وَالِانْتِفَاعِ بِمَا وَقَفَهُ؛ لِقَوْلِ عُثْمَانَ: «هَلْ تَعْلَمُونَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ
الْمَدِينَةَ، وَلَيْسَ بِهَا مَا يُسْتَعْذَبُ غَيْرُ بِئْرِ رُومَةَ،
فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ؟ فَيَجْعَلُ فِيهَا دَلْوَهُ مَعَ
دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ،
فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، فَجَعَلْتُ فِيهَا دَلْوِي مَعَ
دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ» (وَالصُّوفِيَّةُ:
هُمْ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَاتِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ
الْمُعْرِضُونَ عَنْ الدُّنْيَا) ، الْمُتَبَتِّلُونَ لِلْعِبَادَةِ
وَتَصْفِيَةِ النَّفْسِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ.
(فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ) - أَيْ: الصُّوفِيَّةِ - (جَمَّاعًا لِلْمَالِ،
وَلَمْ يَتَخَلَّقْ بِالْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ، وَلَا تَأَدَّبَ
بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ) غَالِبًا، لَا آدَابَ وَضْعِيَّةٍ؛ إذْ لَا
أَثَرَ لِمَا وَضَعُوهُ مِنْ الْآدَابِ الْغَيْرِ الْمَطْلُوبَةِ فِي
الشَّرْعِ، أَوْ كَانَ فَاسِقًا؛ (لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا) مِنْ
الْوَقْفِ عَلَى الصُّوفِيَّةِ.
قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ؛ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِيهِمْ. وَقَالَ:
الصُّوفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الصُّوفِيَّةِ
يُعْتَبَرُ لَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا فِي
دِينِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِغَالِبِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ
فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً؛ كَآدَابِ
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّوْمِ وَالسَّفَرِ وَالصُّحْبَةِ
وَالْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آدَابِ
الشَّرِيعَةِ، قَوْلًا وَفِعْلًا، (وَلَا يُلْتَفَتُ لِمَا أَحْدَثَهُ)
بَعْضُ (الْمُتَصَوِّفَةِ) مِنْ الْآدَابِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي
الدِّينِ، (مِنْ الْتِزَامِ شَكْلٍ مَخْصُوصٍ) فِي اللِّبْسَةِ
وَنَحْوِهَا؛ (كَلِبَاسِ خِرْقَةٍ مُتَعَارَفَةٍ عِنْدَهُمْ مِنْ يَدِ
شَيْخٍ) ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُسْتَحَبُّ فِي الشَّرِيعَةِ؛ إذْ
لَا دَلِيلَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الشَّرْعِ.
(بَلْ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ) فَهُوَ حَقٌّ يُصَارُ إلَيْهِ،
وَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ (بَاطِلٌ) لَا يُعَوَّلُ إلَيْهِ، فَلَا
يُلْتَفَتُ إلَى اشْتِرَاطِهِ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ
اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَانِعًا بِالْكِفَايَةِ مِنْ الرِّزْقِ،
بِحَيْثُ لَا يُمْسِكُ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ هَذَا مُلَخَّصُ مَا
ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ مِنْ الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ.
(4/288)
الشَّرْطُ (الرَّابِعُ) مِنْ شُرُوطِ
الْوَقْفِ (كَوْنُهُ عَلَى مُعَيَّنٍ) ، مِنْ جِهَةٍ كَمَسْجِدِ كَذَا،
أَوْ شَخْصٍ كَزَيْدٍ، (غَيْرَ نَفْسِهِ) عَلَى الْمَذْهَبِ، (يَمْلِكُ
مِلْكًا ثَابِتًا) ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي تَحْبِيسَ الْأَصْلِ
تَحْبِيسًا لَا تَجُوزُ إزَالَتُهُ، وَالْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاجِدِ
وَنَحْوِهَا، وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ
فِي نَفْعٍ خَاصٍّ لَهُمْ
(فَلَا يَصِحُّ) الْوَقْفُ (عَلَى مُكَاتَبٍ) ، وَمُعَلَّقٍ عِتْقُهُ
بِصِفَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ لَا
يَمْلِكُ، وَالْمُكَاتَبُ مِلْكُهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَأَمَّا الْوَقْفُ
عَلَى الْمُكَاتِبِينَ فَيَصِحُّ؛ لِأَنَّهُمْ جِهَةٌ يُرَادُ مَعْنَاهُ
صَرَفَهُ عَلَى جِهَةِ الْمُكَاتَبِينَ، فَمَنْ كَانَ مُكَاتَبًا
اسْتَحَقَّ قَضَاءَ كِتَابَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَهُ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ. (أَوْ مَجْهُولٍ؛ كَرَجُلٍ) لِصِدْقِهِ
بِكُلِّ رَجُلٍ، (وَمَسْجِدٍ) ؛ لِصِدْقِهِ بِكُلِّ مَسْجِدٍ. أَوْ عَلَى
(مُبْهَمٍ؛ كَأَحَدِ هَذَيْنِ) الرَّجُلَيْنِ، أَوْ الْمَسْجِدَيْنِ،
وَنَحْوِهِمَا؛ لِتَرَدُّدِهِ؛ كَبِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ.
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى (مَنْ لَا يَمْلِكُ: كَقِنٍّ
وَأُمِّ وَلَدٍ، وَمُدَبَّرٍ، وَمَيِّتٍ، وَجِنٍّ، وَمَلِكٍ) - بِفَتْحِ
اللَّامِ - أَحَدِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا عَلَى بَهِيمَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَا
تَمْلِكُ، (وَ) لَا عَلَى (حَمْلٍ أَصَالَةً) ؛ كَوَقْفِ دَارِهِ (عَلَى
حَمْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ) ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ إذَنْ، وَالْحَمْلُ لَا
يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ بِغَيْرِ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ.
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمَعْدُومِ؛ كَعَلَى (مَنْ
سَيُولَدُ لِي، أَوْ) عَلَى مَنْ سَيُولَدُ (لِفُلَانٍ) ؛ فَلَا يَصِحُّ
أَصَالَةً، (بَلْ) يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْحَمْلِ، وَعَلَى مَنْ
سَيُولَدُ، (تَبَعًا) لِمَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِ
وَاقِفٍ: وَقَفْتُ كَذَا (عَلَى أَوْلَادِي وَمَنْ سَيُولَدُ لِي مِنْ
فُلَانٍ) ، أَوْ لِفُلَانٍ بِلَا نِزَاعٍ. (وَيَتَّجِهُ أَنَّهُ إنْ
وَقَفَ) وَاقِفٌ شَيْئًا (عَلَى شَخْصٍ؛ اُشْتُرِطَ تَعْيِينُهُ) ؛ لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ عَلَى مُبْهَمٍ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ (عَلَى جِهَةٍ، فَلَا) يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ
أَشْخَاصِهَا، (بَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْجِهَةِ فَقَطْ) ، كَقَوْلِهِ:
وَقَفْتُ كَذَا
(4/289)
(عَلَى مَنْ يَقْرَأُ) سُورَةَ كَذَا، أَوْ
جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ يُطْلِقُ،
(أَوْ عَلَى مَنْ يَدْرُسُ) الْحَدِيثَ أَوْ التَّفْسِيرَ أَوْ الْفِقْهَ،
أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلُومِ الْمُبَاحَةِ، فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ
يُطْلِقُ، (أَوْ عَلَى مَنْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ) الصَّلَاةَ فِي
مَسْجِدِ كَذَا أَوْ مَدْرَسَةِ كَذَا، (أَوْ) عَلَى مَنْ (يَرْمِي
الرَّيْحَانَ عَلَى الْقَبْرِ) الْفُلَانِيِّ، أَوْ عَلَى مُطْلَقِ قُبُورِ
الْمُسْلِمِينَ؛ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَلْزَمُ
بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ؛ لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ.
وَإِذَا عَيَّنَ الْوَاقِفُ لِوَقْفِهِ نَاظِرًا؛ فَإِنَّهُ (يُقَرِّرُ)
ذَلِكَ (النَّاظِرُ) فِي الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ، (الصَّالِحَ)
لِمُبَاشَرَةِ مَا عَيَّنَهُ الْوَاقِفُ، وَهُوَ الْمُتَأَهِّلُ (لِذَلِكَ)
الْعَمَلِ فَلَوْ أَقَرَّ النَّاظِرُ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْقِيَامِ بِشَرْطِ
الْوَاقِفِ؛ فَلَا يَنْفُذُ تَقْرِيرُهُ، وَهُوَ اتِّجَاهٌ حَسَنٌ
(وَ) إنْ قَالَ إنْسَانٌ: وَقَفْتُ كَذَا (عَلَى أَوْلَادِ فُلَانٍ،
وَفِيهِمْ) - أَيْ: أَوْلَادِ فُلَانٍ (حَمْلٌ) فَيَشْمَلُهُ الْوَقْفُ،
كَمَنْ يُخْلَقُ مِنْ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ تَبَعًا؛ (فَيَسْتَحِقُّ)
الْحَمْلُ بِمُجَرَّدِ (وَضْعٍ. وَكُلُّ حَمْلٍ مِنْ أَهْلِ وَقْفٍ) .
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": يَتَجَدَّدُ حَقُّ الْحَمْلِ بِوَضْعِهِ (مِنْ
ثَمَرٍ وَزَرْعٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ مُشْتَرٍ لِشَجَرٍ وَأَرْضٍ، مِنْ
ثَمَرٍ وَزَرْعٍ) نَصًّا.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِدِ ": سُئِلَ أَحْمَدُ.
عَمَّنْ وَقَفَ نَخْلًا عَلَى وَلَدِ قَوْمٍ، ثُمَّ وُلِدَ مَوْلُودٌ،
قَالَ: إنْ كَانَ النَّخْلُ قَدْ أُبِّرَ فَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ،
وَهُوَ مِلْكُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أُبِّرَ؛ فَهُوَ مَعَهُمْ،
وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ إذَا بَلَغَ الْحَصَادَ؛ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ،
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحَصَادَ؛ فَلَهُ فِيهِ.
وَفِي " الْمُغْنِي ": مَا كَانَ مِنْ الزَّرْعِ لَا يَتَّبِعُ الْأَرْضَ
فِي الْبَيْعِ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْمُتَجَدِّدِ؛ لِأَنَّهُ كَالثَّمَرِ
الْمُؤَبَّرِ، وَمَا يَتْبَعُ، وَهُوَ لَمْ يَظْهَرْ مِمَّا يَتَكَرَّرُ
حَمْلُهُ؛ فَيَسْتَحِقُّ فِيهِ الْمُتَجَدِّدَ فِي الثَّمَرِ. انْتَهَى.
وَتَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ، لَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ
نَحْوِ أَرْضِ مَا فِيهَا مِنْ
(4/290)
زَرْعٍ لَا يُحْصَدُ إلَّا مَرَّةً؛
كَبُرٍّ وَشَعِيرٍ وَقُطْنِيَّاتٍ وَنَحْوِهَا، وَيَبْقَى لِبَائِعٍ إلَى
أَوَّلِ وَقْتِهِ بِلَا أُجْرَةٍ، مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ مُشْتَرٍ، وَإِنْ
كَانَ يُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى؛ كَرَطْبَةٍ أَوْ بُقُولٍ، أَوْ
تَتَكَرَّرُ ثَمَرَتُهُ كَقِثَّاءٍ وَبَاذِنْجَانٍ؛ فَأُصُولُهُ
لِمُشْتَرٍ، وَجَزَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَلُقْطَةٌ أَوْلَى لِبَائِعٍ. انْتَهَى.
هَذَا إذَا وُجِدَ حَالَةَ الْوَقْفِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ
مَالِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ؛ فَهُوَ لَهُمْ، فَلَا يَسْتَحِقُّ
الْحَمْلَ بِوَضْعِهِ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ قَدْرَ
نَصِيبِهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ؛
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ.
(وَكَذَا) ؛ أَيْ: وَكَالْحَمْلِ فِي تَجْدِيدِ الِاسْتِحْقَاقِ، (مَنْ)
أَيْ إنْسَانٌ (قَدِمَ إلَى) مَكَانٍ (مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ) كَثَغْرٍ نَزَلَ
(فِيهِ) - أَيْ: ذَلِكَ الْمَكَانِ، (أَوْ خَرَجَ مِنْهُ إلَى مِثْلِهِ) ؛
فَيَسْتَحِقُّ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ مُشْتَرٍ؛ لِمَا
تَقَدَّمَ، قِيَاسًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ (إلَّا أَنْ
يَشْتَرِطَ لِكُلِّ زَمَنٍ مُعَيَّنٍ؛ فَيَكُونَ لَهُ بِقِسْطِهِ) ،
وَقِيَاسُهُ مَنْ نَزَلَ فِي مَدْرَسَةٍ وَنَحْوِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ
كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَاقِفَ الْمَدْرَسَةِ وَنَحْوِهَا جَعَلَ رِيعَ
الْوَقْفِ فِي السَّنَةِ، كَالْجُعْلِ عَلَى اشْتِغَالِ مَنْ هُوَ فِي
الْمَدْرَسَةِ عَامًّا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ بِقَدْرِ عَمَلِهِ
مِنْ السَّنَةِ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ فِي السَّنَةِ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ
إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْإِنْسَانُ شَهْرًا فَيَأْخُذَ جَمِيعَ الْوَقْفِ،
وَيَحْضُرَ غَيْرُهُ بَاقِيَ السَّنَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَلَا
يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَهَذَا يَأْبَاهُ مُقْتَضَى الْوُقُوفِ،
وَمَقَاصِدُهَا. انْتَهَى.
وَكَذَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيُّ الدِّينِ: يَسْتَحِقُّ بِحِصَّةٍ مِنْ
مُغِلِّهِ، وَمَنْ جَعَلَهُ كَالْوَلَدِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَلِلْوَرَثَةِ
مِنْ الْمُغَلِّ مَا بَاشَرَ مُوَرِّثُهُمْ. انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّهُ
إذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِصِفَةٍ مَحْضَةٍ؛ مِثْلُ
كَوْنِهِ فَقِيهًا أَوْ فَقِيرًا؛ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَمْلِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ الْوَقْفَ عِوَضًا عَنْ عَمَلٍ، أَوْ
كَانَ اسْتِغْلَالُ الْأَرْضِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ
كُلُّ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ
(4/291)
فِي ذَلِكَ الْعَامِ مِنْهُ، حَتَّى مَنْ
مَاتَ فِي أَثْنَائِهِ اسْتَحَقَّ بِقِسْطِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
الزَّرْعُ قَدْ وُجِدَ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ أَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ.
وَشَجَرُ الْحُورِ الْمَوْقُوفِ إنْ أُدْرِكَ أَوْ إنْ قَطَعَهُ فِي
حَيَاةِ الْبَطْنِ؛ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ،
وَبَقِيَ الْحُورُ فِي الْأَرْضِ مُدَّةً، حَتَّى زَادَ كَانَتْ
الزِّيَادَةُ حَادِثَةً مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ الَّتِي لِلْبَطْنِ
الثَّانِي، وَمِنْ الْأَصْلِ الَّذِي لِوَرَثَةِ الْأَوَّلِ، فَإِمَّا أَنْ
تُقْسَمَ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ
يُعْطِيَ الْوَرَثَةُ أُجْرَةَ الْأَرْضِ لِلْبَطْنِ الثَّانِي.
وَالْأَوَّلُ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ.
وَإِنْ غَرَسَ الْحُورَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ، وَلَمْ
يُدْرَكْ أَوَانُ قَطْعِهِ، إلَّا بَعْدَ انْتِقَالِهِ إلَى الْبَطْنِ
الثَّانِي؛ فَهُوَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْأَوَّلِ فِيهِ شَيْءٌ؛
لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أَصْلَهُ فِي الْبَيْعِ، فَيَتْبَعُهُ فِي انْتِقَالِ
الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الثَّمَرِ غَيْرِ الْمُتَشَقِّقِ.
قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
الشَّرْطُ (الْخَامِسُ) مِنْ شُرُوطِ الْوَقْفِ، (أَنْ يَقِفَ نَاجِزًا) ،
غَيْرَ مُعَلَّقٍ وَلَا مُوَقَّتٍ وَلَا مَشْرُوطٍ بِنَحْوِ خِيَارٍ؛
(فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ) - أَيْ: الْوَقْفِ - عَلَى شَرْطٍ فِي
الْحَيَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي ابْتِدَائِهِ؛ كَقَوْلِهِ:
إذَا قَدِمَ زَيْدٌ، أَوْ وُلِدَ لِي وَلَدٌ، أَوْ جَاءَ رَمَضَانُ،
فَدَارِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا، أَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ لِانْتِهَائِهِ؛
كَقَوْلِهِ: دَارِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا إلَى أَنْ يَحْضُرَ زَيْدٌ، أَوْ
يُولَدَ لِي وَلَدٌ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِيمَا لَمْ
يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ؛ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُهُ
بِشَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ؛ كَالْهِبَةِ.
(إلَّا) إنْ عَلَّقَ وَاقِفٌ الْوَقْفَ (بِمَوْتِهِ) ؛ كَقَوْلِهِ: (هُوَ
وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي) ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ. (وَهُوَ) ؛
أَيْ: التَّعْلِيقُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ (تَبَرُّعٌ مَشْرُوطٌ بِهِ) -
أَيْ: الْمَوْتِ - فَصَحَّ؛ كَمَا لَوْ قَالَ: قِفُوا دَارِي عَلَى جِهَةِ
كَذَا بَعْدَ مَوْتِي.
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ عُمَرَ وَصَّى، فَكَانَ فِي وَصِيَّتِهِ:
هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ
حَدَثَ بِهِ حَدَثُ الْمَوْتِ، أَنَّ ثَمْغًا صَدَقَةٌ. وَذَكَر بَقِيَّةَ
الْخَبَرِ.
(4/292)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا.
وَوَقْفُهُ هَذَا كَانَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَاشْتُهِرَ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ
إجْمَاعًا وَيُفَارِقُ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ فِي الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ
هَذَا وَصِيَّةٌ، وَهِيَ أَوْسَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْحَيَاةِ؛
بِدَلِيلِ جَوَازِهَا بِالْمَجْهُولِ وَالْمَعْدُومِ.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَثَمَغُ - بِالْفَتْحِ - مَالٌ بِالْمَدِينَةِ
لِعُمَرَ وَقَفَهُ.
(وَيَلْزَمُ) الْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ بِالْمَوْتِ (مِنْ حِينِ وَقَفَهُ) ؛
أَيْ: مِنْ حِينِ صُدُورِهِ مِنْهُ؛ إذْ مِنْ أَحْكَامِ الْوَقْفِ
لُزُومُهُ فِي الْحَالِ، أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ، أَمْ لَمْ
يُخْرِجْهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْقَطِعُ تَصَرُّفٌ فِيهِ بِالْبَيْعِ
وَنَحْوِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ، فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمُدَبَّرِ: إنَّ الْمُدَبَّرَ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْءٌ،
وَهُوَ مِلْكُ السَّاعَةِ، وَهَذَا مَتَى وَقَفَهُ عَلَى قَوْمٍ مَسَاكِينَ
فَكَيْف يُحْدِثُ بِهِ شَيْئًا قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَالْفَرْقُ عَسِرٌ
جِدًّا.
وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ نَحْوَ أَمَةٍ؛ فَفِي الْقَوَاعِدِ صَارَتْ
كَالْمُسْتَوْلَدَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَهَا وَلَدُهَا. انْتَهَى.
وَأَمَّا الْكَسْبُ وَنَحْوُهُ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْوَاقِفِ
وَوَرَثَتُهُ إلَى الْمَوْتِ؛ لِقَوْلِ الْمَيْمُونِيِّ: لِلْإِمَامِ،
وَالْوُقُوفُ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَقَفَهُ بَعْدَهُ، وَهُوَ مِلْكُ
السَّاعَةِ.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّ الْوَقْفَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَوْتِ يَكُونُ لَازِمًا
مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، (لُزُومًا مُرَاعًى بِالْمَوْتِ) - أَيْ: مَوْتِ
الْوَاقِفِ - لِأَنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ، فَمَا دَامَ الْوَاقِفُ حَيًّا
يَتَصَرَّفُ فِي نَمَائِهِ وَكَسْبِهِ، وَمَتَى مَاتَ انْتَقَلَ إلَى
الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهُ لَهَا وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(فَيُعْتَبَرُ) الْوَقْفُ الْمُعَلَّقُ بِالْمَوْتِ (مِنْ ثُلُثِهِ) ؛
أَيْ: ثُلُثِ مَالِ الْوَاقِفِ؛
(4/293)
لِأَنَّهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ
خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ وَلَا
غَيْرِهِمْ رَدُّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ فَإِنَّهُ
يَلْزَمُ الْوَاقِفُ مِنْهُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَالزَّائِدُ مَوْقُوفٌ
عَلَى إجَازَةِ وَارِثٍ.
قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا عِنْدَ
الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الْوَقْفِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَإِذَا قَالَ: دَارِي وَقْفٌ عَلَى مَوَالِيَّ
بَعْدَ مَوْتِي؛ دَخَلَ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ، وَمُدَبَّرُوهُ؛
لِأَنَّهُمْ مِنْ مَوَالِيهِ حَقِيقَةً إذَنْ.
الشَّرْطُ (السَّادِسُ) : مِنْ شُرُوطِ الْوَقْفِ، (أَنْ لَا يَشْتَرِطَ)
الْوَاقِفُ (فِيهِ) - أَيْ: الْوَقْفِ (مَا) ؛ أَيْ: شَرْطًا -
(يُنَافِيهِ) مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ؛ (كَشَرْطِ نَحْوِ بَيْعِهِ)
أَوْ هِبَتِهِ (مَتَى شَاءَ) ، (أَوْ) شَرْطِ (خِيَارٍ فِيهِ) ؛ بِأَنْ
قَالَ: وَقَفْتُهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَبَدًا أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً،
(أَوْ) شَرْطِ (تَوْقِيتِهِ) ؛ كَقَوْلِهِ: هُوَ وَقْفٌ يَوْمًا أَوْ
سَنَةً وَنَحْوَهُ، (أَوْ) بِشَرْطِ (تَحْوِيلِهِ) - أَيْ: الْوَقْفِ -
(مِنْ جِهَةٍ لِأُخْرَى) ؛ كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ دَارِي عَلَى جِهَةِ
كَذَا، عَلَى أَنْ أُحَوِّلَهَا عَنْهَا أَوْ عَنْ الْوَقْفِيَّةِ؛ بِأَنْ
أَرْجِعَ عَنْهَا مَتَى شِئْتُ.
فَإِنْ شَرَطَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ بَطَلَ الشَّرْطُ وَالْوَقْفُ عَلَى
الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " وَشَرْحِ الْحَارِثِيِّ "
وَالْفَائِقِ " " وَالرِّعَايَتَيْنِ " " وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ ".
قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِمُنَافَاتِهِ
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَغْيِيرَ شَرْطِهِ وَمَتَى شَاءَ
أَبْطَلَهُ؛ لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى
الْوَقْفِ.
(لَكِنْ إنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ) ؛ بِأَنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى
وَلَدِي (سَنَةً وَنَحْوَهَا) كَشَهْرٍ، (ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ؛
صَحَّ) الْوَقْفُ وَالتَّوْقِيتُ.
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي مُدَّةَ حَيَاتِي، ثُمَّ
هُوَ بَعْدَ مَوْتِي لِلْمَسَاكِينِ؛ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ مُتَّصِلُ
الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ.
(وَ) إنْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ (عَلَيْهِمْ) - أَيْ: الْمَسَاكِينِ - (ثُمَّ
عَلَيْهِ) - أَيْ: وَلَدِهِ (صَحَّ لَهُمْ) - أَيْ: الْمَسَاكِينِ -
(دُونَهُ) - أَيْ: دُونَ وَلَدِهِ -؛ لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ
(4/294)
لَا انْقِرَاضَ لَهُمْ.
قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": (وَلَا تَأْثِيرَ لِشَرْطِ بَيْعِهِ) - أَيْ:
الْمَوْقُوفِ - (إذَا خَرِبَ، وَصَرْفِ ثَمَنِهِ بِمِثْلِهِ) .
فَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ، أَوْ شَرَطَهُ لِلنَّاظِرِ بَعْدَهُ،
فَسَدَ الشَّرْطُ فَقَطْ، وَصَحَّ الْوَقْفُ، كَمَا فِي الشُّرُوطِ
الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ.
ذَكَرَهُ الْحَارِثِيُّ، وَاسْتَصْوَبَهُ صَاحِبُ " الْإِنْصَافِ ".
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَشَرْطُ بَيْعِهِ إذَا خَرِبَ فَاسِدٌ فِي
الْمَنْصُوصِ، نَقَلَهُ حَرْبٌ، وَعُلِّلَ بِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ
وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ.
[فَصْلٌ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ ذِكْرُ الْجِهَةِ الَّتِي
يُصْرَفُ الْوَقْفُ إلَيْهَا]
(فَصْلٌ) (وَلَا يُشْتَرَطُ) لِصِحَّةِ الْوَقْفِ (ذِكْرُ الْجِهَةِ)
الَّتِي يُصْرَفُ الْوَقْفُ إلَيْهَا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
(خِلَافًا لَهُ) - أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ " - حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ
قَالَ: وَقَفْتُ كَذَا وَسَكَتَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَصْرِفَهُ؛
فَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُهُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ.
انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: " الْوَقْفُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ صَحِيحٌ،
وَقَطَعُوا بِهِ. وَقَالَ فِي " الرَّوْضَةِ ": عَلَى الصَّحِيحِ
عِنْدَنَا.
وَلَوْ قَالَ إنْسَانٌ: (وَقَفْتُ كَذَا) ، وَسَكَتَ؛ (صَحَّ) الْوَقْفُ،
وَصُرِفَ رَيْعُهُ (لِوَرَثَتِهِ) - أَيْ: الْوَاقِفِ - (نَسَبًا) لَا
وَلَاءً وَلَا نِكَاحًا، وَيَأْتِي. (وَلَا) يُشْتَرَطُ (لِلُزُومِهِ) -
أَيْ: الْوَقْفِ - (إخْرَاجُهُ) - أَيْ: الْمَوْقُوفِ - (عَنْ يَدِهِ) -
أَيْ: الْوَاقِفِ - نَصًّا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
قَالَ الْمُوَفَّقُ وَغَيْرُهُ: هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَاخْتَارَهُ
الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْخُلَاصَةِ " قَالَ فِي "
التَّلْخِيصِ ": هُوَ الْأَشْبَهُ، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ
وَالْمُصَنِّفُ، وَعِنْدَهُمْ فِي الْخِلَافِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْمُخْتَارُ وَالْمُحَرَّرُ
مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ: " رُوِيَ أَنَّ وَقْفَهُ كَانَ
بِيَدِهِ إلَى أَنْ مَاتَ.
(فَيَلْزَمُ) الْوَقْفُ (بِمُجَرَّدِهِ؛ كَعِتْقٍ) . وَيَزُولُ مِلْكُهُ
عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ،
فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ؛ كَالْعِتْقِ، وَالْهِبَةُ تَمْلِيكٌ
مُطْلَقٌ،
(4/295)
وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ
وَتَسْبِيلُ الْمَنْفَعَةِ، فَهُوَ بِالْعِتْقِ أَشْبَهُ، فَإِلْحَاقُهُ
بِهِ أَوْلَى.
وَعَلِمَ مِنْهُ أَنَّ إخْرَاجَهُ عَنْ يَدِهِ لَيْسَ شَرْطًا بِطَرِيقِ
الْأَوْلَى، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاطِ لَوْ شُرِطَ نَظْرُهُ
لِنَفْسِهِ؛ سَلَّمَهُ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ ارْتَجَعَهُ مِنْهُ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": (وَلَا) يُشْتَرَطُ (فِيمَا) وُقِفَ (عَلَى)
شَخْصٍ (مُعَيَّنٍ قَبُولُهُ) لِلْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ
يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْمِيرَاثَ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ
الْقَبُولُ؛ أَشْبَهَ الْعِتْقَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ الْوَقْفَ
لَا يَخْتَصُّ الْمُعَيَّنَ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ مَنْ يَأْتِي
مِنْ الْبُطُونِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى
جَمِيعِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ مُرَتَّبٌ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ
عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ لَا يَبْطُلُ بِرَدِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَقِفُ
عَلَى قَبُولِهِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ لِمُعَيَّنٍ.
وَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ؛ كَالْمَسَاكِينِ
وَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، أَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا
يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقَبُولُ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ؛ لَمْ
يُفْتَقَرْ إلَى الْقَبُولِ مِنْ نَاظِرِهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهِ كَنَائِبِ
الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُشْتُرِطَ لَامْتَنَعَ صِحَّةَ الْوَقْفِ
عَلَيْهَا.
(وَلَا يَبْطُلُ) الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنٍ (بِرَدِّهِ) لِلْوَقْفِ،
فَقَبُولُهُ لَهُ وَرَدُّهُ وَعَدَمُهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ.
(وَيَتَعَيَّنُ مَصْرِفُ الْوَقْفِ إلَى الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ) مِنْ
قِبَلِ الْوَاقِفِ لَهُ نَصًّا، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ، وَقَطَعَ بِهِ
أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَاقِفِ لَهَا صَرْفٌ عَمَّا
سِوَاهَا.
(فَلَوْ سُبِّلَ مَاءٌ لِلشُّرْبِ؛ لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِهِ) وَلَا
الْغُسْلُ وَنَحْوُهُ وَكَذَا لَوْ سُبِّلَ مَاءٌ لِلْوُضُوءِ؛ لَمْ يَجُزْ
الشُّرْبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ اتِّبَاعُ تَعْيِينِهِ لَمْ
يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ.
(وَيَتَّجِهُ وَلَا يَصِحُّ) الْوُضُوءُ وَنَحْوُهُ بِهِ؛ (لِأَنَّهُ
غَيْرُ مُبَاحٍ) ، أَشْبَهَ الْمَاءَ الْمَغْصُوبَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(4/296)
أَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ هَذَا
فِي الْبِلَادِ الْقَلِيلَةِ الْمِيَاهِ، الَّتِي يَجْمَعُونَ مَاءَ
الْوُضُوءِ فِي أَحْوَاضِهَا بِالدِّلَاءِ وَالسِّقَايَاتِ، أَوْ
يَجُرُّونَ الْمَاءَ إلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى حَسَبِ
نَوْبِهِمْ، فَهَذِهِ لَوْ اُسْتُعْمِلَتْ لِلشُّرْبِ وَإِزَالَةِ
النَّجَاسَةِ، لَضَاقَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ طَهَارَتِهِمْ، بَلْ رُبَّمَا
تَعَطَّلُوا بِالْكُلِّيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَصَانِعُ الصِّغَارُ الَّتِي
عَلَى الطُّرُقَاتِ،
(4/297)
إنَّمَا بُنِيَتْ لِإِرْوَاءِ ظَمَأِ
الْمَارَّةِ، فَلَوْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَنَفَذَتْ فِي
مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَتَبْقَى الْمَارَّةُ بَقِيَّةَ السَّنَةِ بِلَا
مَاءٍ.
وَأَمَّا فِي الْبِلَادِ الْكَثِيرَةِ الْمِيَاهِ، كَدِمَشْقَ الشَّامِ
وَأَمْثَالِهَا مِنْ الْبِلَادِ الْكَثِيرَةِ الْمِيَاهِ؛ فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ اسْتِعْمَالِ مَاءِ الْبِرَكِ فِي مَدَارِسِهَا
وَمَسَاجِدِهَا الْمُعَدَّةِ لِلْوُضُوءِ فِي الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ
كَانَ الْوَاقِفُ لَاحَظَ فِي بِنَائِهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي
الْوُضُوءِ، فَإِنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ مِنْ الْبِرْكَةِ الْوَاحِدَةِ
الْخَلْقُ الْكَثِيرُ فِي آنٍ وَاحِدٍ، لَا يَنْقُصُ مَاؤُهَا؛ إذْ
كُلَّمَا أُخِذَ مِنْهَا شَيْءٌ خَلَفَهُ أَضْعَافُهُ. وَكَذَلِكَ
السُّبْلَانُ الَّتِي بُنِيَتْ فِي الْأَزِقَّةِ لِلشُّرْبِ،
الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَاءِ مَعَ جَرَيَانِهِ إلَيْهَا
دَائِمًا، وَالْمَصَانِعُ الْكِبَارُ فِي الصَّحَارِي الْمَبْنِيُّ
عَلَيْهَا مَحَارِيبُ؛ يُبَاحُ اسْتِعْمَالُ مَائِهَا شُرْبًا وَوُضُوءًا؛
إذْ وَضْعُ وَاقِفِيهَا عَلَيْهَا الْمَحَارِيبَ قَرِينَةٌ مِنْهُمْ عَلَى
إبَاحَةِ اسْتِعْمَالِهَا لِذَلِكَ كُلِّهِ.
وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ الْآتِي
قَرِيبًا: يَجُوزُ تَغْيِيرُ شَرْطِ الْوَاقِفِ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ
مِنْهُ.
وَنَقَلَ فِي " الْفُرُوعِ " قَوْلًا: إنْ سُبِّلَ مَاءٌ لِلشُّرْبِ جَازَ
الْوُضُوءُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: فَشُرْبُ مَاءٍ مَوْقُوفٍ لِلْوُضُوءِ
يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ، وَأَوْلَى انْتَهَى.
(وَلَا يُرْكَبُ) فَرَسٌ (حَبِيسٌ فِي) حَاجَةٍ (غَيْرِ) تَأْدِيبِهِ
وَغَيْرِ (جَمَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَرِفْعَتِهِمْ وَغَيْظِ عَدُوِّهِمْ
أَوْ فِي عَلَفِهِ) - أَيْ: الْفَرَسِ - (وَسَقْيِهِ، وَلَا يُعَارُ أَوْ
يُؤَجَّرُ إلَّا لِنَفْعِهِ) .
قَالَهُ الْآجُرِّيُّ، وَسُئِلَ عَنْ التَّعْلِيمِ بِسِهَامِ الْغَزْوِ،
فَقَالَ: هُوَ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
(وَعَنْهُ) - أَيْ: الْإِمَامِ - (يَجُوزُ إخْرَاجُ بُسُطِ مَسْجِدٍ
وَحُصُرِهِ لِمُنْتَظِرِ جِنَازَةٍ) ؛ لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ لِنَفْعِ
الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْهَا.
(وَيَجُوزُ صَرْفُ مَوْقُوفٍ عَلَى بِنَاءِ مَسْجِدٍ لِبِنَاءِ
مَنَارَتِهِ) وَإِصْلَاحِهَا، وَالْمَذْهَبُ لَا يَجُوزُ.
(وَبِنَاءِ مِنْبَرِهِ، وَشِرَاءِ سُلَّمٍ لِلسَّطْحِ، وَبِنَاءِ ظُلَّةٍ)
؛ لِأَنَّ
(4/298)
ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ وَمَصَالِحِهِ.
وَ (لَا) يَجُوزُ صَرْفُ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْمَسْجِدِ (فِي بِنَاءِ
مِرْحَاضٍ) ، وَهُوَ بَيْتُ الْخَلَاءِ وَجَمْعُهُ مَرَاحِيضَ؛
لِمُنَافَاتِهِ الْمَسْجِدَ، وَإِنْ ارْتَفَقَ بِهِ أَهْلُهُ.
(وَ) لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ أَيْضًا فِي (زَخْرَفَةٍ) بِالذَّهَبِ أَوْ
الْأَصْبَاغِ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَيْسَ بِبِنَاءٍ، بَلْ لَوْ
شُرِطَ لَمَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قُرْبَةً، وَلَا دَاخِلًا فِي قِسْمِ
الْمُبَاحِ. (وَلَا فِي شِرَاءِ مَجَارِفَ وَمَكَانِسَ وَقَنَادِيلَ) ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبِنَاءٍ، وَلَا سَبَبًا لَهُ، فَانْتَفَى دُخُولُهُ فِي
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
(قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَإِنْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ مَصَالِحِهِ؛
جَازَ صَرْفُهُ فِي عِمَارَةٍ، وَفِي نَحْوِ مَكَانِسَ) ، كَحُصُرٍ
(وَقَنَادِيلَ، وَوَقُودٍ) بِفَتْحِ الْوَاوِ كَزَيْتٍ، وَمَجَارِفَ
وَمَسَاحِي، (وَزَوْرَقِ إمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ وَقَيِّمٍ) ؛ لِدُخُولِ ذَلِكَ
كُلِّهِ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَضْعًا أَوْ عُرْفًا. انْتَهَى
بِالْمَعْنَى.
(وَفِي فَتَاوَى الشَّيْخِ) تَقِيِّ الدِّينِ: (إذَا وَقَفَ عَلَى
مَصَالِحِ الْحَرَمِ وَعِمَارَتِهِ؛ جَازَ صَرْفُهُ لِقَائِمٍ)
بِالْوَظَائِفِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمَسْجِدُ، مِنْ (تَنْظِيفٍ
وَحِفْظٍ وَفِرَاشٍ وَفَتْحِ بَابٍ وَإِغْلَاقِهِ) ، مِمَّنْ يَجُوزُ
الصَّرْفُ إلَيْهِمْ.
(وَعِنْدَ الشَّيْخِ) تَقِيِّ الدِّينِ نَصًّا: (يَجُوزُ تَغْيِيرُ شَرْطِ
وَاقِفٍ لِمَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى فُقَهَاءَ أَوْ
صُوفِيَّةٍ، وَاحْتِيجَ لِلْجِهَادِ صُرِفَ لِلْجُنْدِ) . انْتَهَى.
(وَ) وَقْفُ (مُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ) فَقَطْ، كَوَقْفِهِ عَلَى مَنْ لَا
يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، كَعَلَى عَبْدِهِ ثُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ
الْفُقَرَاءِ؛ (يُصْرَفُ فِي الْحَالِ لِمَنْ بَعْدَهُ) ، فَيُصْرَفُ
لِوَلَدِهِ فِي الْحَالِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ وُجُودَ مَنْ لَا
يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ كَعَدَمِهِ.
(وَ) يُصْرَفُ (مُنْقَطِعُ الْوَسَطِ) كَوَقْفِهِ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ
عَبْدِهِ ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ بَعْدَ انْقِطَاعِ مَنْ يَجُوزُ
الْوَقْفُ عَلَيْهِ، (لِمَنْ بَعْدَهُ) ؛ أَيْ: بَعْدَمَا هُوَ مُنْقَطِعٌ
مِنْهُ، فَيُصْرَفُ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ
الْوَاقِفَ قَصَدَ صَيْرُورَةَ الْوَقْفِ إلَى الْأَوْسَطِ وَالْآخَرِ فِي
الْجُمْلَةِ، وَلِإِحَالَةٍ يُمْكِنُ انْتِظَارُهَا؛ فَوَجَبَ الصَّرْفُ
إلَيْهِ لِئَلَّا
(4/299)
يَفُوتَ غَرَضُ الْوَاقِفِ، وَلِكَيْ لَا
تَبْطُلَ فَائِدَةُ الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ وُجُودَ مَنْ لَا يَصِحُّ
الْوَقْفُ عَلَيْهِ كَعَدَمِهِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى
الْجِهَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْبَاطِلَةِ، وَلِأَنَّنَا
لَمَّا صَحَّحْنَا الْوَقْفَ مَعَ ذِكْرِ مَنْ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ
عَلَيْهِ، فَقَدْ أَلْغَيْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ الصَّحِيحُ مَعَ
اعْتِبَارِهِ.
[فَائِدَةٌ وَقَفَ عَلَى مَنْ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ]
: فَائِدَةٌ وَإِنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ،
وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَالًا صَحِيحًا؛ كَأَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُهُ عَلَى
الْأَغْنِيَاءِ أَوْ الذِّمِّيِّينَ، أَوْ عَلَى الْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا؛
بَطَلَ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْمَصْرِفَ الْبَاطِلَ، وَاقْتَصَرَ
عَلَيْهِ.
(وَ) يُصْرَفُ (مُنْقَطِعُ الْآخِرِ) ؛ كَعَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَمْرٍو ثُمَّ
عَبِيدِهِ أَوْ الْكَنِيسَةِ، (بَعْدَ مَنْ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ) ،
إلَى وَرَثَتِهِ حِينَ الِانْقِطَاعِ نَسَبًا عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ
وَقْفًا. وَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ.
(وَ) يُصْرَفُ (مَا وَقَفَهُ وَسَكَتَ) كَمَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ
الدَّارَ، وَلَمْ يُسَمِّ مَصْرِفًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْوَقْفِ
التَّأْبِيدُ، فَيُحْمَلُ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَلَا يَضُرُّ تَرْكُهُ
ذِكْرَ مَصْرِفِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إذَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ؛ صَحَّ
وَحُمِلَ عَلَيْهِ.
وَعُرْفُ الْمَصْرِفِ هَا هُنَا أَوْلَى الْجِهَاتِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ
عَيَّنَهُمْ بِصَرْفِهِ، فَيُصْرَفُ رَيْعُهُ (إلَى وَرَثَتِهِ) - أَيْ:
الْوَاقِفِ حِينَ انْقِطَاعِ الْوَقْفِ، لَا حِينَ مَوْتِهِ، كَمَا
يُفْهَمُ مِنْ " الرِّعَايَةِ "؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْوَقْفِ
الْمُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ (نَسَبًا) ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ مَصْرِفُهُ
الْبِرُّ، وَأَقَارِبُهُ أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّهِ؛ لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ
أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»
.
وَلِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِصَدَقَاتِهِ النَّوَافِلِ
وَالْمَفْرُوضَاتِ، فَكَذَا صَدَقَتُهُ الْمَنْقُولَةُ.
(لَا وَلَاءً وَلَا نِكَاحًا) ؛ لِعَدَمِ الِانْتِسَابِ، (عَلَى قَدْرِ
إرْثِهِمْ) مِنْ الْوَاقِفِ، (وَقْفًا) عَلَيْهِمْ، فَلَا يَمْلِكُونَ
نَقْلَ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ وَعُلِمَ مِنْهُ صِحَّةُ الْوَقْفِ،
وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَصْرِفًا، وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ
إرْثِهِمْ مِنْ الْوَاقِفِ، فَيَسْتَحِقُّونَهُ كَالْمِيرَاثِ.
(وَ) يَقَعُ (الْحَجْبُ بَيْنَهُمْ) - أَيْ: وَرَثَةِ الْوَاقِفِ - فِيهِ؛
كَوُقُوعِهِ فِي
(4/300)
(إرْثٍ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ) فِي
ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ. قَالَ الْقَاضِي:
(فَلِبِنْتِ مَعَ ابْنٍ ثُلُثٌ) ، وَلَهُ الْبَاقِي. (وَلِأَخٍ لِأُمٍّ
مَعَ أَخٍ لِأَبٍ سُدُسٌ) ، وَلَهُ مَا بَقِيَ.
وَإِنْ كَانَ (جَدٌّ) لِأَبٍ (وَأَخٌ) لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ؛
(يَشْتَرِكَانِ) سَوِيَّةً، وَيَقْتَسِمَانِ رَيْعِ الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ
كَالْمِيرَاثِ.
وَإِنْ كَانَ (أَخٌ) لِغَيْرِ أُمٍّ، (وَعَمٌّ) لِغَيْرِ أُمٍّ؛ (فَلِأَخٍ)
الِانْفِرَادُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَمٌّ لِغَيْرِ أُمٍّ؛ انْفَرَدَ بِهِ
الْعَمُّ كَالْمِيرَاثِ. انْتَهَى.
(فَإِنْ عَدِمُوا) ؛ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاقِفٍ وَرَثَةٌ مِنْ
النَّسَبِ؛ فَمَعْرُوفٌ وَقْفُهُ (لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) وَقْفًا
عَلَيْهِمْ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
وَجَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " التَّذْكِرَةِ "، " وَالْمُوَفَّقُ "، "
وَالشَّارِحُ "، وَصَاحِبُ " التَّلْخِيصِ "، وَغَيْرُهُمْ، وَقَدَّمَهُ
فِي " الْفَائِقِ "؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْوَقْفِ الثَّوَابُ الْجَارِي
عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَإِنَّمَا قَدَّمُوا الْأَقَارِبَ عَلَى
الْمَسَاكِينِ؛ لِكَوْنِهِمْ أَوْلَى، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا
فَالْمَسَاكِينُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، فَيُصْرَفُ إلَيْهِمْ، (وَنَصُّهُ) ؛
أَيْ: الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي طَالِبٍ
وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ يُصْرَفُ (فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ) ،
فَيَرْجِعُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: نَصُّ الرِّوَايَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ
الْمَالِ، يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَيَكُونُ وَقْفًا أَيْضًا عَلَى
الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
(وَمَتَى انْقَطَعَتْ الْجِهَةُ) الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا، (وَالْوَاقِفُ
حَيٌّ) ؛ بِأَنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، أَوْ أَوْلَادِ زَيْدٍ فَقَطْ
فَانْقَرَضُوا فِي حَيَاتِهِ (لَمْ يَرْجِعْ) الْوَقْفُ (إلَيْهِ) - أَيْ:
إلَى الْوَاقِفِ (وَقْفًا) ؛ لِانْقِطَاعِ الْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهَا (خِلَافًا لَهُمَا) - أَيْ: لِصَاحِبِ الْمُنْتَهَى "
وَالْإِقْنَاعِ " (بَلْ) يَكُونُ مَصْرِفُ رَيْعِهِ (كَمَا مَرَّ) ؛ أَيْ:
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. كَذَا قَالَ: وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى "
وَمَتَى انْقَطَعَتْ الْجِهَةُ،
(4/301)
وَالْوَاقِفُ حَيٌّ؛ رَجَعَ إلَيْهِ
وَقْفًا.
وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ ": وَإِنْ انْقَطَعَتْ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهَا فِي حَيَاةِ الْوَاقِفِ؛ رَجَعَ إلَيْهِ وَقْفًا عَلَيْهِ.
يَعْنِي وَمَتَى قُلْنَا: يَرْجِعُ إلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ وَقْفًا،
فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ حَيًّا وَقْتَ انْقِطَاعِ الْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهَا رَجَعَ إلَيْهِ وَقْفًا، يَتَصَرَّفُ فِيهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ،
وَبَعْدَهُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَوْ لِلْمَصَالِحِ، كَمَا
تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي الْوَاضِحِ ": الْخِلَافُ فِي الرُّجُوعِ
إلَى الْأَقَارِبِ أَوْ إلَى بَيْتِ الْمَالِ أَوْ إلَى الْمَسَاكِينِ
مُخْتَصٌّ بِمَا إذَا مَاتَ الْوَاقِفُ، أَمَّا إذَا كَانَ حَيًّا
فَانْقَطَعَتْ الْجِهَةُ؛ فَفِي رُجُوعِهِ إلَيْهِ أَوْ إلَى عَصَبَتِهِ
وَذُرِّيَّتِهِ رِوَايَتَانِ. انْتَهَى.
إحْدَاهُمَا يَدْخُلُ، قَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ،
وَإِلَيْهِ مَيْلُ ابْنِ رَجَبٍ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ،
وَالنِّسَاءُ لَهُمْ أَبَدًا عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ
غَيْرِ وَلَدٍ رَجَعَ نَصِيبَهُ إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ،
فَتُوُفِّيَ أَحَدُ أَوْلَادِ الْوَاقِفِ عَنْ وَلَدٍ، وَالْأَبُ
الْوَاقِفُ حَيٌّ، فَهَلْ يَعُودُ نَصِيبَهُ إلَيْهِ. لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ
النَّاسِ إلَيْهِ، أَمْ لَا، يَخْرُجُ عَلَى مَا قَبْلَهَا، قَالَهُ ابْنُ
رَجَبٍ.
وَالْمَسْأَلَةُ مُلْتَفِتَةٌ إلَى دُخُولِ الْمُخَاطَبِ فِي خِطَابِهِ،
فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَشَى عَلَى الرِّوَايَةِ
الْمَرْجُوحَةِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقِيلِ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَا
قَدَّمَهُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ.
(وَيُعْمَلُ فِي) وَقْفٍ (صَحِيحِ وَسَطٍ فَقَطْ) ؛ أَيْ: دُونَ
الِابْتِدَاءِ وَالْآخَرُ؛ كَمَا لَوْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى عَبْدِهِ ثُمَّ
عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى الْكَنِيسَةِ، (بِالِاعْتِبَارَيْنِ) ؛ بِأَنْ
يُلْغَى مَا عَدَا الْوَسَطِ، وَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ جَعَلَ وَقْفَهُ مَا
عَدَا الطَّرَفَيْنِ، (فَيُصْرَفُ فِي الْحَالِ لَهُ) - أَيْ: لِزَيْدٍ -
(وَ) يَرْجِعُ (بَعْدَهُ) - أَيْ: زَيْدٍ - (لِوَرَثَةِ وَاقِفٍ) نَسَبًا
وَقَفَا؛ عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ، ثُمَّ الْمَسَاكِينَ.
(4/302)
[فَرْعٌ وَقَفَ عَلَى ثَلَاثَةٍ ثُمَّ
عَلَيَّ الْمَسَاكِين]
(فَرْعٌ: لَوْ وَقَفَ عَلَى ثَلَاثَةٍ) ؛ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ،
(ثُمَّ عَلَى الْمَسَاكِينِ؛ فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رَجَعَ نَصِيبَهُ
لِمَنْ بَقِيَ) مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَوَّلًا،
وَعَوْدُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ مَشْرُوطٌ بِانْقِرَاضِهِمْ؛ إذْ
اسْتِحْقَاقُهُمْ مُرَتَّبٌ بِثُمَّ.
(فَإِنْ مَاتُوا) - أَيْ: الثَّلَاثَةُ - (فَلِلْمَسَاكِينِ) عَمَلًا
بِشَرْطِهِ. (وَإِنْ) وَقَفَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَ (لَمْ يَذْكُرْ لَهُ)
أَيْ: الْوَقْفِ عَلَى مَنْ ذَكَرَ (مَآلًا) بَلْ سَكَتَ، فَمَنْ مَاتَ
مِنْهُمْ (رَجَعَ نَصِيبُ مَيِّتٍ مِنْهُمْ لِبَاقٍ) ؛ كَاَلَّتِي
قَبْلَهَا، (لَا كَمُنْقَطِعٍ) ؛ إذْ احْتِمَالُ الِانْقِطَاعِ فِي غَايَةِ
الْبُعْدِ.
قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَذَكَرَهُ الْمُوَفَّقُ فِي "
الْمُقْنِعِ " وَقَوَّاهُ الْحَارِثِيُّ.
قَالَ فِي " الْمُبْدِعِ: " وَهُوَ أَظْهَرُ قَالَ فِي " التَّنْقِيحِ "
وَهُوَ قَوِيٌّ.
وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ رَجَبٍ فِي الْقَاعِدَةِ الْخَامِسَةَ عَشَرَ بَعْدَ
الْمِائَةِ (خِلَافًا لَهُ) - أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ " - فَإِنَّهُ
قَالَ: وَإِنْ وَقَفَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ مَآلًا،
فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَحُكْمُ نَصِيبِهِ حُكْمُ الْمُنْقَطِعِ.
(فَإِذَا مَاتُوا) - أَيْ: الثَّلَاثَةُ - (جَمِيعًا صُرِفَ كَمُنْقَطِعٍ)
لِوَرَثَةِ الْوَاقِفِ نَسَبًا، عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ وَقَفَا. فَإِنْ
عَدِمُوا فَلِلْمَسَاكِينِ.
(وَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَعَلَى الْمَسَاكِينِ؛ فَهُوَ بَيْنَ
الْجِهَتَيْنِ نِصْفَيْنِ) ، يُصْرَفُ لِأَوْلَادِهِ النِّصْفُ،
وَلِلْمَسَاكِينِ النِّصْفُ؛ لِاقْتِضَاءِ الْإِضَافَةِ التَّسْوِيَةَ.
(وَكَذَا) لَوْ وَقَفَ (عَلَى مَسْجِدٍ) مُعَيَّنٍ، أَوْ وَقَفَ عَلَى
(مَسَاجِدَ) مَعْلُومَاتٍ، (وَعَلَى إمَامٍ يُصَلِّي فِيهِ) - أَيْ:
الْمَسْجِدِ - أَوْ يُصَلِّي (فِي أَحَدِهَا) - أَيْ: الْمَسَاجِدِ
فَيَكُونُ مَا وَقَفَهُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ نِصْفَيْنِ؛ لِانْتِفَاءِ
مُقْتَضَى التَّفَاوُتِ.
[فَصْلٌ يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ فِيمَا وَقَفَ]
(فَصْلٌ) : (وَ) يَزُولُ (الْمِلْكُ) - أَيْ: مِلْكُ الْوَاقِفِ - (فِيمَا
وَقَفَ عَلَى نَحْوِ مَسْجِدٍ) ؛ كَمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ وَقَنْطَرَةٍ،
(وَفُقَرَاءَ) وَغُزَاةٍ، وَكَذَا بِقَاعِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ
وَالْقَنَاطِرِ وَالسِّقَايَاتِ.
وَيَنْتَقِلُ بِمُجَرِّدِ وَقْفٍ (لِلَّهِ تَعَالَى) قَالَ الْحَارِثِيُّ:
بِلَا خِلَافٍ (وَ) يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ (فِيمَا وُقِفَ عَلَى آدَمِيٍّ)
مُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو لَهُ.
وَعَلَى جَمْعٍ
(4/303)
(مَحْصُورٍ) كَأَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ
زَيْدٍ (لَهُ) - أَيْ: الْمَحْصُورِ - لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُزِيلُ
التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ، فَمَلَكَهُ الْمُنْتَقِلُ إلَيْهِ؛
كَالْهِبَةِ.
وَفَارِقِ الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إخْرَاجٌ عَنْ حُكْمِ
الْمَالِيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لِلْمَنْفَعَةِ
الْمُجَرَّدَةِ لَمْ يَلْزَمْ كَالْعَارِيَّةِ وَالسُّكْنَى.
وَقَوْلُ أَحْمَدَ: مَنْ وَقَفَ عَلَى وَرَثَتِهِ فِي مَرَضِهِ يَجُوزُ
لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ، وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ؛
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي
الرَّقَبَةِ، جَمْعًا بَيْنَ قَوْلَيْهِ.
لَا يُقَالُ: عَدَمُ مِلْكِهِ التَّصَرُّفَ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ
مِلْكِهِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، بِدَلِيلِ أُمِّ الْوَلَدِ،
فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَتِهَا
(فَيَنْظُرُ فِيهِ) - أَيْ: الْوَقْفِ (هُوَ) - أَيْ: الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهِ - إنْ كَانَ مُكَلَّفًا رَشِيدًا.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": هَذَا الْمَذْهَبُ بِلَا
رَيْبٍ.
أَوْ يَنْظُرُ فِيهِ (وَلِيُّهُ) ، إنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ
صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ سَفِيهًا (حَيْثُ لَا نَاظِرَ بِشَرْطٍ) ،
يَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّاظِرِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ
أَرْضًا عَلَى مُعَيَّنٍ، وَقُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُ الْوَقْفَ،
فَغَصَبَهَا إنْسَانٌ وَزَرَعَهَا، وَأَدْرَكَهَا مَنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ
وَالزَّرْعُ قَائِمٌ؛ فَإِنَّهُ (يَتَمَلَّكُ زَرْعَ غَاصِبٍ)
بِنَفَقَتِهِ، وَهِيَ مِثْلُ بَذْرِهِ وَعُوِّضَ لَوَاحِقَهُ؛ كَمَالِكَ
الْأَرْضِ الطَّلْقِ.
(وَيَلْزَمُهُ) ؛ أَيْ: الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنَ، (أَرْشُ
جِنَايَةِ خَطَئِهِ) - أَيْ: الْمَوْقُوفِ - إنْ كَانَ قِنًّا، كَمَا
يَلْزَمُ سَيِّدَ أُمِّ الْوَلَدِ فِدَاؤُهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْأَرْشُ
بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمِهِ كَأُمِّ الْوَلَدِ،
وَلَا يَلْزَمُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ، بَلْ
يَفْدِيهِ (بِالْأَقَلِّ) مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوْ قِيمَتِهِ.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ (عَمْدُهُ) ؛
أَيْ: مَا جَنَاهُ الْقِنُّ الْمَوْقُوفُ عَمْدًا.
وَيَتَّجِهُ (أَنَّهُ) - أَيْ: الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ - (لَهُ تَسْلِيمُهُ)
- أَيْ: الْقِنُّ الْجَانِي عَمْدًا، (لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ)
الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى:
(4/304)
{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]
الْآيَةُ (لِقَتْلٍ) إنْ اخْتَارَهُ الْوَلِيُّ؛ لِوُجُوبِهِ
بِالْجِنَايَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
أَوْ عَلَى غَيْرِهِ.
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَلِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْجَانِي؛
(لِتَمْلِيكٍ) ؛ أَيْ: لِيَتَمَلَّكهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بَدَلَ
مِلْكِهِ الَّذِي فَوَّتَهُ عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ، لَكِنَّ التَّسْلِيمَ
لِلتَّمْلِيكِ تَأْبَاهُ الْقَوَاعِدُ لِخُرُوجِهِ عَنْ التَّأْبِيدِ
الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ
وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالٍ؛ فَعَلَى الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ كَمَا سَبَقَ.
(وَ) يَلْزَمُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (فِطْرَتُهُ) - أَيْ: الْقِنِّ
الْمَوْقُوفِ - وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ
لِخِدْمَةِ الْوَقْفِ؛ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ تَجِبُ قَوْلًا وَاحِدًا؛
لِتَمَامِ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (وَ) يَلْزَمُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (زَكَاتُهُ) ،
لَوْ كَانَ إبِلًا أَوْ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا سَائِمَةً، عَلَى ظَاهِرِ
كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتِيَارِ الْقَاضِي فِي " التَّعْلِيقِ
"، وَالْمَجْدِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدَّمَهُ الزَّرْكَشِيُّ.
قَالَ النَّاظِمُ: لَكِنْ يُخْرَجُ مِنْ غَيْرِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي
الزَّكَاةِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا وَتَقَدَّمَ أَيْضًا تَجِبُ الزَّكَاةُ
فِي غَلَّةِ شَجَرٍ، وَأَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ عَلَى مُعَيَّنٍ، بِشَرْطِهِ؛
وَيُخْرَجُ مِنْ عَيْنِ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ.
(4/305)
(وَيُقْطَعُ سَارِقُهُ) - أَيْ:
الْمَوْقُوفِ - (وَسَارِقُ نَمَائِهِ إذَا كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ) ؛ وَلَا
شُبْهَةَ لِلسَّارِقِ؛ لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِيهِ.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": فَيَسْتَوْفِيهِ بِنَفْسِهِ وَبِالْإِجَارَةِ
وَالْإِعَارَةِ وَنَحْوِهَا إلَّا إنْ عَيَّنَ فِي الْوَقْفِ غَيْرَ
ذَلِكَ.
(وَلَهُ) ؛ أَيْ: الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ، (نَفْعُهُ) - أَيْ:
الْمَوْقُوفِ - بِاسْتِعْمَالِهِ، (وَ) لَهُ (نَمَاؤُهُ وَغَلَّتُهُ) بِلَا
نِزَاعٍ (وَجِنَايَةُ مَا) - أَيْ: مَوْقُوفٍ - (عَلَى غَيْرِ آدَمِيٍّ
مُعَيَّنٍ) ؛ كَعَبْدٍ مَوْقُوفٍ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ؛
إذَا جَنَى فَأَرْشُ جِنَايَتِهِ (فِي كَسْبِهِ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ
مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ إيجَابُ الْأَرْشِ عَلَيْهِ، وَلَا
يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا فِي رَقَبَتِهِ؛ فَتَعَيَّنَ فِي كَسْبِهِ.
(وَلَا يَتَزَوَّجُ) مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَمَةً (مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ) ؛
لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يُجَامِعُ النِّكَاحَ. (وَيَنْفَسِخُ بِهِ) - أَيْ:
وَقْفِهَا عَلَيْهِ (نِكَاحُهَا) ؛ لِلْمِلْكِ، (وَلَا يَطَؤُهَا) - أَيْ:
الْأَمَةَ الْمَوْقُوفَةَ - (وَلَوْ أَذِنَ) فِي وَطِئَهَا (وَاقِفٌ) ؛
لِأَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُ حَبَلِهَا، فَتَنْقُصُ
أَوْ تَتْلَفُ، أَوْ تَخْرُجُ مِنْ الْوَقْفِ بِأَنْ تَبْقَى أُمَّ وَلَدٍ.
(وَلَهُ) - أَيْ: الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ - (وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا) ؛
لِمِلْكِهِ لَهَا، (وَيَلْزَمُ) الْوَلِيَّ تَزْوِيجُهَا (إنْ طَلَبَتْ) ؛
صِيَانَةً لَهَا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ، (إنْ لَمْ يَشْرِطْ)
وَاقِفٌ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ (لِغَيْرِهِ) - أَيْ: غَيْرِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ -.
(وَ) لِمَوْقُوفٍ عَلَيْهِ الْأَمَةُ (أَخْذُ مَهْرِهَا) ، إنْ زَوَّجَهَا
هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، (وَلَوْ) كَانَ الْمَهْرُ (لِوَطْءِ شُبْهَةٍ) ؛
لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّهَا؛ كَالْأُجْرَةِ
وَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاطِئُ
الْوَاقِفَ أَوْ غَيْرَهُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا فَوَائِدُ الْقَوْلِ
بِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَكَذَا النَّفَقَةُ عَلَيْهِ.
(4/306)
(وَوَلَدُهَا) - أَيْ: الْمَوْقُوفَةِ -
مِنْ وَطْءٍ (مَعَ شُبْهَةٍ) ؛ بِنَحْوِ زَوْجَةٍ (حُرَّةٍ) ؛ كَبِأَمَتِهِ
(وَلَوْ) كَانَ الْوَطْءُ (مِنْ قِنٍّ) اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِمَنْ
وَلَدُهُ مِنْهَا (حُرٌّ) ؛ لِاعْتِقَادِهِ حُرِّيَّتَهُ.
(وَعَلَى وَاطِئٍ قِيمَتُهُ) - أَيْ: الْوَلَدِ - لِتَفْوِيتِهِ عَلَيْهِ
رِقَّهُ بِاعْتِقَادِهِ حُرِّيَّتِهِ يَوْمَ وَضَعَهُ حَيًّا، (تُصْرَفُ)
قِيمَتُهُ فِي شِرَاءِ مِثْلِهِ، يَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ
الْقِيمَةَ بَدَلٌ عَنْ الْوَقْفِ؛ فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ فِي مِثْلِهِ،
وَتَصِيرُ الْمَوْقُوفَةُ أُمَّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِحُرٍّ
فِي مِلْكِهِ.
(وَ) وَلَدُهَا (مِنْ زَوْجٍ وَلَا شُرِطَ حُرِّيَّتُهُ، أَوْ مِنْ زِنًا
وَقْفٌ) مَعَهَا، هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ؛
لِأَنَّ وَلَدَ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ حُكْمُهُ حُكْمُهَا؛ كَأُمِّ الْوَلَدِ
وَالْكَسْبِ، مَا لَمْ يَعْرِضْ لِذَلِكَ مَا يَمْنَعُهُ كَالشُّبْهَةِ؛
وَاشْتِرَاطِ زَوْجِ الْأَمَةِ عَلَى سَيِّدِهَا عِنْدَ تَزْوِيجِهَا
حُرِّيَّةَ وَلَدِهَا وَنَحْوِهِمَا، قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى "
وَنَظَرَ الْبُهُوتِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ
الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ عِتْقَهُ بِالتَّصْرِيحِ؛ فَلَا
يَمْلِكُ شَرْطَهُ. انْتَهَى.
مَعَ أَنَّ عِبَارَةَ شَارِحِ الْمُنْتَهَى " لَا تُؤَدِّي مَا فُهِمَ
مِنْهَا، إذْ مَا ذَكَرُوهُ بَيَانٌ لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِيضَاحٌ
لِأَصْلِ الْقَاعِدَةِ، مِنْ أَنَّ وَلَدَ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ حُكْمُهُ
حُكْمُهَا، فَاسْتُثْنِيَ مِنْ الْقَاعِدَةِ، الشُّبْهَةُ، وَاشْتِرَاطُ
الْحُرِّيَّةِ، وَلَا بُدَّ فِي الشُّبْهَةِ مِنْ كَوْنِهَا اشْتَبَهَتْ
بِمَنْ وَلَدُهَا مِنْهُ حُرٌّ، وَلَوْ كَانَ الْوَاطِئُ رَقِيقًا، فَمَنْ
أَمْعَنَ النَّظَرَ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ.
(وَ) حَيْثُ قُلْنَا: إنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ يَمْلِكُ الْمَوْقُوفَةَ،
(4/307)
فَوَطِئَهَا، فَإِنَّهُ (لَا حَدَّ)
عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ (وَلَا مَهْرَ) عَلَيْهِ (بِوَطْئِهِ) إيَّاهَا؛
لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لَهُ، وَلَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ
عَلَى نَفْسِهِ.
(وَوَلَدُهُ) ؛ أَيْ: الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْقُوفَةِ، (حُرٌّ)
؛ لِلشُّبْهَةِ.
(وَعَلَيْهِ) - أَيْ: الْوَاطِئِ - (قِيمَتُهُ) - أَيْ: الْوَلَدِ - يَوْمَ
وَضْعِهِ حَيًّا، (تُصْرَفُ فِي مِثْلِهِ) ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ رِقَّهُ
عَلَى مَنْ يَئُولَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ
بَدَلٌ عَنْ الْوَقْفِ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ فِي مِثْلِهِ.
(وَتَعْتِقُ) الْمُسْتَوْلَدَةُ مِمَّنْ هِيَ وَقْفٌ عَلَيْهِ (بِمَوْتِهِ)
؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ؛ لِوِلَادَتِهَا مِنْهُ، وَهُوَ
مَالِكُهَا.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّ وَاطِئَ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَيْهِ؛ لَا
يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهَا بِاسْتِيلَادِهِ إيَّاهَا مَا دَامَ حَيًّا،
(مَعَ بَقَاءِ تَحْرِيمِهَا) عَلَيْهِ، وَكَوْنِهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ
لَا يُبَاحُ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِنَقْصِ مِلْكِهِ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ
مِنْ وَطْئِهَا ابْتِدَاءً فَمُنِعَ مِنْهُ دَوَامًا، وَلَوْ قَدَّمَ هَذَا
الِاتِّجَاهَ عَلَى قَوْلِهِ: وَتَعْتِقُ؛ لَكَانَ أَوْضَحَ وَهُوَ
مُتَّجِهٌ.
(وَيَجِبُ قِيمَتُهَا فِي تَرِكَتِهِ) كَانَتْ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا
عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْبُطُونِ، (يَشْتَرِي بِهَا) - أَيْ:
قِيمَتِهَا - مِثْلَهَا، (وَ) يَشْتَرِي (بِقِيمَةٍ وَجَبَتْ بِتَلَفِهَا
أَوْ تَلِفِ بَعْضِهَا مِثْلَهَا) .
يَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا؛ لِيَنْجَبِرَ عَلَى الْبَطْنِ الثَّانِي مَا
فَاتَهُمْ، (أَوْ) يَشْتَرِي بِذَلِكَ (شِقْصًا) مِنْ أَمَةٍ، إنْ
تَعَذَّرَ شِرَاءُ أَمَةٍ كَامِلَةٍ، (يَصِيرُ) مَا يُشْتَرَى بِالْقِيمَةِ
أَوْ بَعْضِهَا (وَقْفًا) بِمُجَرَّدِ (الشِّرَاءِ) ؛ كَبَدَلِ
أُضْحِيَّةٍ.
(وَلَا يَصِحُّ عِتْقُ) رَقِيقٍ (مَوْقُوفٍ بِحَالٍ) ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
مَنْ يَئُولَ إلَيْهِ الْوَقْفُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَقْدٌ لَازِمٌ
لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ، وَفِي الْقَوْلِ بِنُفُوذِ عِتْقِهِ إبْطَالٌ
لَهُ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ غَيْرَ مَوْقُوفٍ، فَأَعْتَقَهُ مَالِكُهُ صَحَّ
فِيهِ، وَلَمْ يَسِرِ إلَى الْبَعْضِ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ
يَعْتِقْ بِالْمُبَاشَرَةِ فَلَأَنْ لَا يَعْتِقَ بِالسِّرَايَةِ أَوْلَى
(غَيْرَ) قِنٍّ (مُكَاتَبٍ وَقْفٍ) ؛ أَيْ: وَقَفَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَ
مُكَاتَبَتِهِ، (وَأَدَّى) مَا عَلَيْهِ مِنْ
(4/308)
مَالِ الْكِتَابَةِ.
(كَذَا قِيلَ) ، إشَارَةٌ لِلتَّبَرِّي، كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - لَهُ مَيْلٌ إلَى مَا قَالَهُ فِي " الْكَافِي "،
وَالزَّرْكَشِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْخِرَقِيِّ: لَا يَصِحُّ وَقْفُ
الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا،
وَالْوَقْفُ فِيهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. انْتَهَى.
لَكِنْ قَالَ الْحَارِثِيُّ: يَصِحُّ وَقْفُ الْمُكَاتَبِ عَلَى
الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، فَإِذَا أَدَّى مَا
عَلَيْهِ؛ عَتَقَ، وَبَطَلَ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ
لَازِمٌ، فَلَا تَبْطُلُ بِوَقْفِهِ؛ كَبَيْعِهِ.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ كَمَا يَعْتِقُ الْقِنُّ الْمُكَاتَبُ بِمُجَرَّدِ
أَدَائِهِ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ لِمِلْكِهِ نَفْسَهُ بِالْأَدَاءِ؛
كَذَلِكَ يَكُونُ (عِتْقُ مُحَرَّمٍ وُقِفَ) - بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ
- أَيْ: وَقَفَهُ شَخْصٌ عَلَى قَرِيبِهِ الْمُعَيَّنِ؛ فَإِنَّهُ يَصِيرُ
حُرًّا بِمُجَرَّدِ وَقْفِهِ (عَلَيْهِ) ؛ لِمِلْكِهِ بِذَلِكَ. قَالَ فِي
" الْإِنْصَافِ ": وَيَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْوَقْفَ. هَذَا
الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ
وَغَيْرُهُ: هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي
وَابْنُهُ، وَالشَّرِيفَانِ، وَابْنُ عَقِيلٍ، وَالشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ
بَكْرُوسٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ.
وَلَا يُعْتَقُ (مَا) - أَيْ: قِنٌّ - وَقَفَهُ شَخْصٌ (عَلَى
الْفُقَرَاءِ) ، وَفِيهِمْ مَحْرَمٌ لَهُ، (وَهُوَ) - أَيْ: الْوَاقِفُ -
(فَقِيرٌ) مِنْ جُمْلَتِهِمْ؛ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيمَا وُقِفَ عَلَى
غَيْرِ مُعَيَّنٍ؛ كَالْمَسَاجِدِ وَالْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ،
بِمُجَرَّدِ وَقْفِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يُصَادِفْ مَالِكًا
مُحَرَّمًا مُخْتَصًّا يُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(4/309)
(وَإِنْ قَطَعَ) عُضْوًا مِنْ أَعْضَاءِ
(مَوْقُوفٍ) ؛ كَيَدِهِ وَنَحْوِهَا، عَمْدًا؛ (فَلَهُ) - أَيْ: الْقِنِّ
الْمَوْقُوفِ - (الْقَوَدُ) ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ لَا يَشْتَرِكُ فِيهِ
أَحَدٌ.
(وَإِنْ عَفَا) الرَّقِيقُ الْمَوْقُوفُ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، أَوْ
كَانَ الْقَطْعُ أَوْ الْجُرْحُ لَا يُوجِبُ قَوَدًا؛ لِعَدَمِ
الْمُكَافَأَةِ، أَوْ كَوْنِهِ خَطَأً أَوْ جَائِفَةً وَنَحْوَهُ؛
(فَأَرْشُهُ) يُصْرَفُ (فِي مِثْلِهِ) - أَيْ: الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ - إنْ
أَمْكَنَ، وَإِلَّا؛ اُشْتُرِيَ بِهِ شِقْصٌ مِنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ
بَدَلٌ عَنْ بَعْضِ الْوَقْفِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَدَّ فِي مِثْلِهِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: اعْتِبَارُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الْبَدَلِ
الْمُشْتَرَى بِمَعْنَى وُجُوبِ الذَّكَرِ فِي الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى
بِالْأُنْثَى، وَالْكَبِيرِ فِي الْكَبِيرِ، وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ
الَّتِي تَتَفَاوَتُ الْأَعْيَانُ بِتَفَاوُتِهَا، لَا سِيَّمَا
الصِّنَاعَةَ الْمَقْصُودَةَ فِي الْوَقْفِ وَالدَّلِيلُ عَلَى
الِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَرَضَ جُبْرَانُ مَا فَاتَ، وَلَا يَحْصُلُ
بِدُونِ ذَلِكَ.
(وَإِنْ قَتَلَ) رَقِيقٌ مَوْقُوفٌ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، وَلَوْ كَانَ
قَتْلُهُ (عَمْدًا) مَحْضًا مِنْ مُكَافِئٍ لَهُ؛ (فَالْوَاجِبُ) بِذَلِكَ
(قِيمَتُهُ) دُونَ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا
يَخْتَصُّ بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ قَاتِلِهِ؛ كَالْعَبْدِ
الْمُشْتَرَكِ.
(وَلَا يَصِحُّ عَفْوُ) الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (عَنْهَا) - أَيْ: قِيمَةِ
الْمَقْتُولِ - وَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا
يَخْتَصُّ بِهِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْبَطْنِ الثَّانِي بِهِ تَعَلُّقًا
لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ، وَلَا يُعْلَمُ قَدْرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ هَذَا
مِنْهُ فَيَعْفُو عَنْهُ.
(وَإِنْ قُتِلَ) الْمَوْقُوفُ (قَوَدًا) ؛ بِأَنْ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ
عَمْدًا، فَقَتَلَهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ قِصَاصًا (بَطَلَ الْوَقْفُ) ؛
كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ.
وَ (لَا) يَبْطُلُ الْوَقْفُ (إنْ قَطَعَ) عُضْوًا مِنْهُ قِصَاصًا؛ كَمَا
لَوْ سَقَطَ بِآكِلَةٍ، (وَيَتَلَقَّاهُ) ؛ أَيْ: يَتَلَقَّى الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهِمْ الْوَقْفَ، (كُلُّ بَطْنٍ) مِنْهُمْ (عَنْ وَاقِفِهِ) ، لَا
مِنْ الْبَطْنِ الَّذِي قَبْلَهُ.
قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ " وَابْنُ عَقِيلٍ
(4/310)
فِي " الْفُصُولِ " وَالْمُوَفَّقُ فِي "
الْمُغْنِي " وَابْنُ رَجَبٍ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ "
وَصَحَّحَهُ الطُّوفِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ "؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ صَادِرٌ
عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْوَقْفِ مِنْ حِينِهِ، فَمَنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى
أَوْلَادِهِ، ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ مَا
تَنَاسَلُوا، كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جَمِيعِ نَسْلِهِ، إلَّا أَنَّ
اسْتِحْقَاقَ كُلِّ طَبَقَةٍ مَشْرُوطٍ بِانْقِرَاضِ مَنْ فَوْقَهَا.
قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": وَإِنْ رَتَّبَ فَقَالَ: وَقَفْتُ هَذَا عَلَى
وَلَدِي وَوَلَدِ وَوَلَدِي مَا تَنَاسَلُوا أَوْ تَعَاقَبُوا، الْأَعْلَى
فَالْأَعْلَى، أَوْ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، أَوْ الْأَوَّلُ
فَالْأَوَّلُ، أَوْ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الْبَطْنُ الثَّانِي، أَوْ
عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِي، أَوْ عَلَى أَوْلَادِي
فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي؛ فَكُلُّ هَذَا عَلَى
التَّرْتِيبِ وَيَكُونُ عَلَى مَا شَرَطَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْبَطْنُ
الثَّانِي شَيْئًا حَتَّى يَنْقَرِضَ الْبَطْنُ كُلُّهُ، وَلَوْ بَقِيَ
وَاحِدٌ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ كَانَ الْجَمِيعُ لَهُ؛ لِأَنَّ
الْوَقْفَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ، فَيُتَّبَعُ فِيهِ مُقْتَضَى كَلَامِهِ.
وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِهِمْ مَا تَعَاقَبُوا
وَتَنَاسَلُوا، عَلَى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَنْ وَلَدٍ كَانَ مَا
كَانَ جَارِيًا عَلَيْهِ جَارِيًا عَلَى وَلَدِهِ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا
عَلَى التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى التَّشْرِيكَ لَاقْتَضَى
التَّسْوِيَةَ.
وَلَوْ جَعَلْنَا لِوَلَدِ الْوَلَدِ سَهْمًا مِثْلَ سَهْمِ أَبِيهِ، ثُمَّ
دَفَعْنَا إلَيْهِ سَهْمَ أَبِيهِ، صَارَ لَهُ سَهْمَانِ وَلِغَيْرِهِ
سَهْمٌ، وَهَذَا يُنَافِي التَّسْوِيَةَ.
وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَفْضِيلِ وَلَدِ الِابْنِ عَلَى الِابْنِ،
وَالظَّاهِرُ مِنْ إرَادَةِ الْوَاقِفِ خِلَافُ هَذَا، فَإِذَا ثَبَتَ
التَّرْتِيبُ فَإِنَّهُ تَرْتِيبٌ بَيْنَ كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ،
فَإِذَا مَاتَ عَنْ وَلَدٍ انْتَقَلَ إلَى وَلَدِهِ سَهْمُهُ، سَوَاءٌ
بَقِيَ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ أَحَدٌ، أَوْ لَمْ يَبْقَ.
(فَإِذَا امْتَنَعَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ) ، حَالَ اسْتِحْقَاقِهِمْ، (مِنْ
الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ) لَهُمْ بِالْوَقْفِ، (لِثُبُوتِ وَقْفِهِ؛
فَلِمَنْ بَعْدَهُ) مِنْ الْبُطُونِ، وَلَوْ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِمْ
لِلْوَقْفِ، (الْحَلِفُ) مَعَ الشَّاهِدِ بِالْوَقْفِ لِثُبُوتِهِ
(لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ) .
وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْحَلِفِ، بَلْ بَعْدَ
انْقِرَاضٍ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَفَائِدَةُ ذَلِكَ عَدَمُ صِحَّةِ تَصَرُّفِ
مَنْ بِيَدِهِ الْوَقْفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ، وَحَيْثُ ثَبَتَ
الْوَقْفُ بِالْحَلِفِ الْمَذْكُورِ؛
(4/311)
فَإِنَّ الرَّيْعَ يَكُونُ لِلْبَطْنِ
الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِمْ قَهْرًا، كَالْإِرْثِ؛
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِيَدِهِ.
[فَصْلٌ يُرْجَعُ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْوَقْفِ
وُجُوبًا لِشَرْطِ وَاقِفٍ]
(فَصْلٌ: وَيُرْجَعُ) : - بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ - عِنْدَ
التَّنَازُعِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْوَقْفِ (وُجُوبًا لِشَرْطِ
وَاقِفٍ) ؛ كَقَوْلِهِ شَرَطْت لِزَيْدٍ كَذَا، وَلِعَمْرِو كَذَا؛ لِأَنَّ
عُمَرَ شَرَطَ فِي وَقْفِهِ شُرُوطًا، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ اتِّبَاعُ
شَرْطِهِ لَمْ يَكُنْ فِي اشْتِرَاطِهِ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ ابْنَ
الزُّبَيْرِ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ، وَجَعَلَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ
بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرِ مُضِرَّةٍ وَلَا مُضَرٍّ بِهَا، فَإِذَا
اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَا حَقَّ لَهَا فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَقْفَ
مُتَلَقًّى مِنْ جِهَتِهِ؛ فَاتُّبِعَ شَرْطُهُ، وَنَصُّهُ كَنَصِّ
الشَّارِعِ.
(وَلَوْ) كَانَ الشَّرْطُ (مُبَاحًا) ؛ كَشَرْطِهِ الدَّارَ الْمَوْقُوفَةَ
أَنْ تَكُونَ لِلسُّكْنَى دُونَ الِاسْتِغْلَالِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ
اعْتِبَارُهُ فِي كَلَامِ الْوَاقِفِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَالْمَعْرُوفُ
فِي الْمَذْهَبِ الْوُجُوبُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، خِلَافًا لِلشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ فِيمَا يَأْتِي.
(غَيْرَ مَكْرُوهٍ) ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِهِ؛ كَشَرْطِهِ أَنْ لَا
يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدٍ بَنَاهُ إلَّا طَائِفَةُ كَذَا.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ يُعْتَبَرُ (هَذَا) الشَّرْطُ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ
وُجُوبًا، (إذَا وَقَفَ)
(4/312)
الْإِنْسَانُ (مَا) - أَيْ: وَقْفًا -
(يَمْلِكُهُ) بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّمْلِيكَاتِ الصَّحِيحَةِ.
(فَأَمَّا وَقْفُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ فَلَا يَتْبَعُ
شُرُوطَهُمْ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَا مِلْكَ لَهُمْ؛ إذْ مَا بِأَيْدِيهِمْ
إمَّا مُجْتَمِعٌ مِنْ الْمَظَالِمِ، أَوْ مِنْ الْغَنَائِمِ، أَوْ مِنْ
الْجِزْيَةِ، أَوْ مِنْ مَالٍ لَا وَارِثَ لَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلَى
كُلِّ حَالٍ لَيْسَ لَهُمْ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ
لِلْمُسْلِمِينَ، يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
فَلَوْ اشْتَرَوْا مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ عَقَارَاتٍ وَوَقَفُوهَا،
وَشَرَطُوا فِي أَوْقَافِهِمْ شُرُوطًا؛ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا،
فَمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَمُنِعَ مِنْهُ؛ فَلَهُ أَنْ
يَتَنَاوَلَ مِنْ أَوْقَافِهِمْ كِفَايَتَهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا
شَرَطُوهُ.
(إلَّا إنْ كَانَ فِيهِ) ؛ أَيْ: فِيمَا شَرَطُوهُ (مَصْلَحَةٌ
لِلْمُسْلِمِينَ؛ كَمُدَرِّسِ كَذَا) مِنْ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ،
(وَطَالِبِ كَذَا) مِنْهَا كَذَلِكَ، (وَ) كَشَرْطِهِمْ (إنْ مَاتَ عَنْ
وَلَدٍ وَهُوَ) - أَيْ: الْوَلَدُ - (فِي مَرْتَبَتِهِ) ؛ أَيْ: مَرْتَبَةِ
وَالِدِهِ؛ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِلْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ
أَبِيهِ؛ (فَالْوَظِيفَةُ لَهُ) - أَيْ: الْوَلَدُ - لِاسْتِحْقَاقِهِ
إيَّاهَا، فَفِي هَذَا كُلِّهِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِشُرُوطِهِمْ؛ إذْ فِي
الْعَمَلِ بِهَا مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا.
وَ (لَا) يَجِبُ الْعَمَلُ بِشَرْطِهِمْ إذَا شَرَطُوا أَنْ وَظِيفَةَ
الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَ (إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ) ؛ أَيْ: مِثْلَ
وَالِدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَفْعُ الشَّيْءِ لِغَيْرِ أَهْلِهِ، وَوَضْعُهُ
فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ.
(أَوْ) شَرَطَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَدْفَعَ كَذَا مِنْ رَيْعِ وَقْفِهِ
لِمَنْ (يَقْرَأُ الدَّرْسَ) مِنْ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ (فِي
مَدْرَسَتِهِ) ؛ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فِي تِلْكَ
الْمَدْرَسَةِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ الدَّرْسَ الْمَشْرُوطَ فِي
أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، عَمَلًا بِشَرْطِ الْوَاقِفِ فِي الْجُمْلَةِ.
(أَوْ) شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَ لَهُ كَذَا، عَلَى أَنْ يَقْرَأَ (عَلَى
قَبْرِهِ) شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ؛ فَلَا
يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَذَا الشَّرْطِ؛ (لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ غَرَضٍ
لِلْوَاقِفِ) ، بَلْ يَقْرَأُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَيُهْدِي لَهُ
الثَّوَابَ؛ لِأَنَّ كُلَّ قُرْبَةٍ فُعِلَتْ، وَجُعِلَ ثَوَابُهَا
لِمُسْلِمٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ؛ نَفَعَهُ ذَلِكَ وَهَذَا الِاتِّجَاهُ مِنْ
أَحْسَنِ اتِّجَاهَاتِهِ.
(4/313)
(وَمِثْلُ شَرْطٍ) صَرِيحٍ فِي حُكْمِ
وُجُوبِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ (اسْتِثْنَاءٌ) .
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَالِاسْتِثْنَاءُ كَالشَّرْطِ عَلَى
الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، نَصَّ عَلَيْهِ انْتَهَى. أَيْ: فَيُرْجَعُ
إلَيْهِ.
فَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ زَيْدٍ، أَوْ قَبِيلَةِ كَذَا
إلَّا بَكْرًا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ.
(وَ) مِثْلُ الشَّرْطِ (مُخَصَّصٌ مِنْ صِفَةٍ) ؛ كَمَا لَوْ وَقَفَهُ
عَلَى أَوْلَادِهِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ
فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِمْ، فَلَا يُشَارِكُهُمْ مَنْ سِوَاهُمْ، وَإِلَّا
لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ فَائِدَةٌ.
(وَ) مِثْلُ الشَّرْطِ فِي حُكْمِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ مُخَصَّصٌ مِنْ
(عَطْفِ بَيَانٍ) ؛ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالصِّفَةِ فِي إيضَاحِ
مُتَنَوِّعِهِ، وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ.
فَمَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِي
أَوْلَادِهِ مَنْ كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ غَيْرُهُ؛ اخْتَصَّ بِهِ
عَبْدُ اللَّهِ.
(وَ) مِثْلُهُ فِي حُكْمٍ أَيْضًا مُخَصَّصٍ مِنْ تَوْكِيدٍ؛ كَمَا لَوْ
وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ زَيْدٍ نَفْسِهِ؛ فَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ
أَوْلَادِهِ. وَكَذَا مُخَصَّصٌ مِنْ بَدَلٍ، كَمَنْ لَهُ أَرْبَعَةُ
أَوْلَادٍ، وَقَالَ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ،
وَعَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي؛ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى
أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ، وَأَوْلَادِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْدَلَ
بَعْضَ الْوَلَدِ وَهُوَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، مِنْ اللَّفْظِ
الْمُتَنَاوَلِ لِلْجَمِيعِ وَهُوَ وَلَدِي، فَاخْتَصَّ بِالْبَعْضِ
الْمُبْدَلِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلا} [آل عمران: 97] لَمَّا خَصَّ الْمُسْتَطِيعَ بِالذِّكْرِ اخْتَصَّ
الْوُجُوبُ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ، وَرَأَيْتُ
زَيْدًا وَجْهَهُ؛ اخْتَصَّ الضَّرْبُ بِالرَّأْسِ، وَالرُّؤْيَةِ
بِالْوَجْهِ.
قَالَ فِي " الْمُغْنِي "
(4/314)
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَجْعَلَ
الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} [الأنفال: 37] وَقَوْلُ الْقَائِلِ:
طَرَحْتُ الثِّيَابَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّ الْفَوْقِيَّةَ
تَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، كَذَا هَاهُنَا.
وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى وَلَدِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ ثُمَّ
الْفُقَرَاءِ؛ لَا يَشْتَمِلُ وَلَدَ وَلَدِهِ.
وَنَحْوُ مَا تَقَدَّمَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ؛ كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ دَارِي
عَلَى أَوْلَادِي وَالسَّاكِنِ مِنْهُمْ عِنْدَ حَاجَتِهِ بِلَا أُجْرَةٍ
فُلَانٍ.
(وَ) كَذَا مُخَصَّصٌ مِنْ (جَارٍّ) وَمَجْرُورٍ؛ (نَحْوُ) وَقَفْتُ هَذَا
(عَلَى أَنَّهُ) مَنْ اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَوْلَادِي؛ صُرِفَ
إلَيْهِ.
وَكَذَا إنْ قَالَ: وَقَفْته (بِشَرْطِ أَنَّهُ) مَنْ تَأَدَّبَ
بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ صُرِفَ إلَيْهِ، (وَنَحْوُهُ) ؛ فَيُرْجَعُ
إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ كَالشَّرْطِ.
(فَلَوْ تَعَقَّبَ الشَّرْطُ) وَنَحْوُهُ (جُمَلًا؛ عَادَ) الشَّرْطُ
وَنَحْوُهُ (إلَى الْكُلِّ) ؛ أَيْ: إلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ. وَكَذَا
الصِّفَةُ إذَا تَعَقَّبَتْ جُمَلًا؛ عَادَتْ إلَى الْكُلِّ.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ: " فِي عَوْدِ الصِّفَةِ
لِلْكُلِّ: لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً أَوْ
مُتَأَخِّرَةً.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مُوجِبُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا
أَيْ: فِي عَوْدِ الشَّرْطِ وَنَحْوِهِ لِلْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ
بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَبِالْفَاءِ أَوْ بِثُمَّ عَلَى عُمُومِ
كَلَامِهِمْ.
(وَ) يَجِبُ الْعَمَلُ بِالشَّرْطِ (فِي عَدَمِ إيجَارِهِ) - أَيْ:
الْوَقْفِ (أَوْ) فِي (قَدْرِ مُدَّتِهِ) - أَيْ: الْإِيجَارِ، فَإِنَّ
شَرَطَ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ؛ لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ
عَلَيْهَا لَكِنْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يُزَادُ بِحَسَبِهَا، وَلَمْ يَزَلْ
عَمَلُ الْقُضَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ. وَقَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالشُّرُوطُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ
بِهَا إذَا لَمْ تُفْضِ إلَى الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ.
وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ
بِالشَّرْطِ، (إنْ لَمْ يُحْتَجْ) إلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْقَدْرِ
الْمَشْرُوطِ، أَمَّا إذَا اُحْتِيجَ؛ بِأَنْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ
الْمَوْقُوفِ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَعْمِيرُهُ إلَّا بِذَلِكَ؛ جَازَ.
(4/315)
وَيَتَّجِهُ (إنْ تَعَذَّرَ عُقُودٌ)
حَيْثُ اُحْتِيجَ إلَيْهِ (كَعَقْدٍ) وَاحِدٍ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا
يُؤَجَّرَ أَبَدًا، وَاحْتَاجَ الْوَقْفُ إلَى الْإِجَارَةِ؛ فَلِلنَّاظِرِ
أَنْ يُؤَجِّرَهُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ بَيْعِهِ، وَقَدْ أَفْتَى بِهِ
الْمِرْدَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ تَزَلْ عُلَمَاؤُنَا تُفْتِي بِهِ،
وَهُوَ أَوْلَى مِنْ بَيْعِهِ.
وَلَا تَجُوزُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ
بِهَا وَيَأْتِي قَالَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ " إنْ كَانَ الْوَقْفُ
يَحْتَاجُ إلَى عِمَارَةٍ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِأَنْ يُزَادَ عَلَى
الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ مُدَّةً أُخْرَى؛ جَازَ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا
بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فَقَطْ؛ كَكَوْنِ الْعِمَارَةِ تَحْتَاجُ
إلَى اسْتِلَافِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَنْ يُسَلِّفُهُمْ إلَّا مَنْ
يَسْتَأْجِرُ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَأَنْ تَكُونَ عِمَارَتُهُ
مَعَ الْخَرَابِ لِيَعْمُرَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ الْأُجْرَةِ لَا تُمْكِنُ
إلَّا مَعَ الزِّيَادَةِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ بِقَدْرِ
الْحَاجَةِ، فَإِنَّ عِمَارَةَ الْوَقْفِ وَاجِبَةٌ، وَمَا لَا يَتِمُّ
الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ وَهَذَا وَاجِبٌ
بِالشَّرْعِ انْتَهَى. وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ (فِي قِسْمَتِهِ) ؛ أَيْ:
الْوَقْفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى
شَرْطِهِ، (بِتَقْدِيرِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ تَسَاوٍ أَوْ تَفْضِيلٍ) ؛
كَعَلَى أَنَّ لِلْأُنْثَى سَهْمًا، وَلِلذَّكَرِ سَهْمَيْنِ، أَوْ
بِالْعَكْسِ أَوْ عَلَى أَنَّ لِلْمُؤَذِّنِ كَذَا، وَلِلْإِمَامِ كَذَا،
وَلِلْخَطِيبِ كَذَا، وَلِلْمُدَرِّسِ كَذَا، وَنَحْوِهِ.
(وَ) يُرْجَعُ أَيْضًا إلَى شَرْطِهِ (فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ أَهْلِهِ) -
أَيْ: الْوَقْفِ - كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ هَذَا (عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو
وَبَكْرٍ وَيُبْدَأُ) بِالدَّفْعِ (لِزَيْدٍ بِكَذَا، أَوْ) وَقَفْتُ
(عَلَى طَائِفَةٍ كَذَا، وَيُبْدَأُ بِنَحْوِ الْأَصْلَحِ) ؛
كَالْأَفْقَهِ، أَوْ الْأَدْيَنِ أَوْ الْمَرِيضِ أَوْ الْفَقِيرِ.
وَيُرْجَعُ أَيْضًا إلَى شَرْطِهِ فِي تَأْخِيرٍ، وَهُوَ عَكْسُ
التَّقْدِيمِ؛ كَقَوْلِهِ: يُعْطِي مِنْهُ أَوَّلًا مَا سِوَى فُلَانٍ
كَذَا، ثُمَّ مَا فَضَلَ لِفُلَانٍ؛ فَلَيْسَ لِلْمُؤَخِّرِ إلَّا مَا
فَضَلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ يَسْقُطُ.
(4/316)
وَيُرْجَعُ أَيْضًا إلَى شَرْطِهِ فِي
جَمْعٍ؛ كَجَعْلِ الِاسْتِحْقَاقِ مُشْتَرَكًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛
كَأَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ.
(وَ) يُرْجَعُ أَيْضًا إلَى شَرْطِهِ (فِي تَرْتِيبٍ؛ كَجَعْلِ
اسْتِحْقَاقِ بَطْنٍ مُرَتَّبًا عَلَى الْآخَرِ؛) كَأَنْ يَقِفَ عَلَى
أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ (فَالتَّقْدِيمُ بَقَاءُ الِاسْتِحْقَاقِ
لِلْمُؤَخَّرِ عَلَى صِفَةِ أَنَّ لَهُ مَا فَضَلَ) عَنْ الْمُقَدَّمِ
(وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ الْمُقَدَّمِ شَيْءٌ؛ (سَقَطَ)
الْمُؤَخَّرُ.
وَالْمُرَادُ إذَا كَانَ لِلْمُقَدَّمِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ؛ كَمِائَةٍ
مَثَلًا، فَحِينَئِذٍ إنْ كَانَتْ الْغَلَّةُ وَافِرَةً، حَصَلَ بَعْدَ
الْمُقَدَّرِ لِلْمُقَدَّمِ فَضْلٌ، فَيَأْخُذُهُ الْمُؤَخَّرُ، وَإِلَّا
بِأَنْ كَانَتْ الْغَلَّةُ غَيْرَ وَافِرَةٍ، فَلَا يَفْضُلُ بَعْدَهُ
فَضْلٌ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُؤَخَّرِ.
(وَالتَّرْتِيبُ عَدَمُهُ) ؛ أَيْ: عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الْمُؤَخَّرِ (مَعَ
وُجُودِ الْمُقَدَّمِ) ، فَضَلَ عَنْهُ شَيْءٌ أَوْ لَا. (وَالتَّسَاوِي
جَعْلُ رَيْعٍ بَيْنَ أَهْلِ وَقْفٍ مُتَسَاوِيًا) ؛ كَقَوْلِهِ: وَقَفْت
عَلَى جَمِيعِ أَوْلَادِي، يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ.
(وَالتَّفْضِيلُ جَعْلُهُ) - أَيْ: الرَّيْعِ - (مُتَفَاوِتًا) ؛
كَقَوْلِهِ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ،
وَنَحْوِهِ.
وَالتَّسْوِيَةُ وَالتَّفْضِيلُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي قِسْمَتِهِ
(وَ) يُرْجَعُ إلَى شَرْطِهِ (فِي إخْرَاجِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ
الْوَقْفِ مُطْلَقًا أَوْ بِصِفَةٍ) ؛ كَإِخْرَاجِ مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ
الْبَنَاتِ وَنَحْوِهِ، (وَإِدْخَالِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ) ؛ أَيْ: مِنْ
أَهْلِ الْوَقْفِ مُطْلَقًا؛ كَوَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي، أُخْرِجُ مَنْ
أَشَاءُ مِنْهُمْ، وَأُدْخِلُ مَنْ أَشَاءُ (أَوْ بِصِفَةٍ كَصِفَةِ
فَقْرٍ، أَوْ اشْتِغَالٍ بِعِلْمٍ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِخْرَاجٍ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْفِ؛ وَإِنَّمَا عَلَّقَ
الِاسْتِحْقَاقَ بِصِفَةٍ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ حَقًّا فِي الْوَقْفِ
إذَا اتَّصَفَ بِإِرَادَتِهِ أَعْطَاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَقًّا إذَا
اتَّفَقَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ تَعْلِيقٌ لِلْوَقْفِ
بِصِفَةٍ، بَلْ وَقْفٌ مُطْلَقٌ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَهُ صِفَةٌ.
تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِهِ " كَالتَّنْقِيحِ " وَالْمُنْتَهَى " "
وَالْإِقْنَاعِ "؛ لِأَنَّهُ
(4/317)
لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ
الْوَاقِفُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِلنَّاظِرِ بَعْدَهُ، وَفَرَضَهَا فِي
" الشَّرْحِ " وَغَيْرِهِ فِيمَا إذَا اشْتَرَطَهُ لِلنَّاظِرِ بَعْدَهُ،
لَكِنَّ التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ.
(وَ) وَقَفَ (عَلَى زَوْجَتِهِ مَا دَامَتْ عَازِبَةً) ، وَمَتَى
تَزَوَّجَتْ فَلَا حَقَّ لَهَا (أَوْ) وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَشَرَطَ
(أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ مِنْ بَنَاتِهِ فَلَا حَقَّ لَهُ) ؛ لِمَا تَقَدَّمَ
عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَعْنَى الْإِخْرَاجِ وَالْإِدْخَالِ بِصِفَةٍ؛
جَعْلُ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْحِرْمَانِ مُرَتَّبًا عَلَى وَصْفٍ
مُشْتَرَطٍ، (فَمَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةٍ) مِنْ صِفَاتِ (الِاسْتِحْقَاقِ؛
اسْتَحَقَّ) مَا شَرَطَ لَهُ، (فَإِنْ زَالَتْ) تِلْكَ الصِّفَةُ، (زَالَ
اسْتِحْقَاقُهُ، فَإِنْ عَادَتْ) الصِّفَةُ؛ (عَادَ) اسْتِحْقَاقُهُ.
وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ إنْ شَرَطَ فِيهِ (إدْخَالَ مَنْ شَاءَ مِنْ
غَيْرِهِمْ) - أَيْ: أَهْلِ الْوَقْفِ - وَإِخْرَاجَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ؛
لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ فَأَفْسَدَهُ قَالَهُ
الْمُوَفَّقُ وَمَنْ تَابَعَهُ.
(كَشَرْطِهِ) - أَيْ: الْوَاقِفِ - (تَغْيِيرَ شَرْطٍ) ؛ فَلَا يَصِحُّ،
(وَيَبْطُلُ بِهِ وَقْفٌ) ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ
أَوْ لِلنَّاظِرِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ
فَأَفْسَدَهُ؛ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُنْتَفَعَ بِهِ، بِخِلَافِ
إدْخَالِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَإِخْرَاجِهِ، وَتَقَدَّمَ تَعْلِيلُهُ.
(وَ) يُرْجَعُ إلَى شَرْطِ وَاقِفِهِ (فِي نَاظِرِهِ) - أَيْ: الْوَقْفِ -
لِأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ وَقْفَهُ إلَى بِنْتِهِ حَفْصَةَ، ثُمَّ يَلِيهِ ذُو
الرَّأْي مِنْ أَهْلِهَا، وَلِأَنَّ مُصَرِّفَ الْوَقْفِ يُتَّبَعُ فِيهِ
شَرْطُ وَاقِفِهِ، فَكَذَا فِي نَاظِرِهِ.
(وَ) فِي (إنْفَاقٍ عَلَيْهِ) إذَا خَرِبَ، وَإِذَا كَانَ حَيَوَانًا؛
بِأَنْ يَقُولَ، يُنْفَقُ عَلَيْهِ، أَوْ يُعْمَرُ مِنْ جِهَةِ كَذَا (وَ)
فِي (سَائِرِ أَحْوَالِهِ) ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِوَقْفِهِ، فَوَجَبَ أَنْ
يُتَّبَعُ فِيهِ شَرْطُهُ.
(كَ) مَا لَوْ شَرَطَ (أَنْ لَا يَنْزِلَ فِيهِ فَاسِقٌ وَلَا شِرِّيرٌ
وَلَا مُتَجَوِّهٌ وَنَحْوُهُ) ؛ كَذِي بِدْعَةٍ؛ فَيُعْمَلُ بِهِ.
(بَلْ قَالَ الشَّيْخُ) : تَقِيُّ الدِّينِ: (الْجِهَاتُ الدِّينِيَّةُ،
كَالْخَوَانِكِ وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ
فِيهَا فَاسِقٌ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ) ؛ أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ
بِظُلْمِهِ الْخَلْقَ
(4/318)
وَتَعَدِّيهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ
وَفِعْلِهِ مِنْ نَحْوِ سَبٍّ أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ كَانَ فِسْقُهُ
بِتَعَدِّيهِ حُقُوقَ اللَّهِ، يَعْنِي (وَلَوْ لَمْ يَشْرِطْهُ
الْوَاقِفُ) ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَعُقُوبَتُهُ،
فَكَيْفَ يَنْزِلُ؟ (وَهُوَ) ؛ أَيْ: مَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ، (صَحِيحٌ) مُوَافِقٌ لِلْقَوَاعِدِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: الشَّرْطُ الْمُبَاحُ الَّذِي لَا يُظْهِرُ قَصْدَ
الْقُرْبَةِ مِنْهُ هَلْ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ؟ ظَاهِرُ كَلَامِ
الْأَصْحَابِ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الْمَذْهَبِ الْوُجُوبُ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ، إلَى
أَنْ قَالَ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ جَعْلِ الْمُبَاحِ جِهَةً
لِلْوَقْفِ انْتِفَاءٌ جَعْلِهِ شَرْطًا فِيهِ؛ لِأَنَّ جَعْلَهُ أَصْلًا
فِي الْجِهَةِ مُخِلٌّ بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقُرْبَةُ، وَجَعْلُهُ
شَرْطًا لَا يُخِلُّ بِهِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يُفِيدُ تَخْصِيصَ
الْبَعْضِ بِالْعَطِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَرْفَعُ أَصْلَ الْقُرْبَةِ
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّوَابِعِ، وَالشَّيْءِ قَدْ يَثْبُتُ
لَهُ حَالُ تَبَعِيَّتِهِ مَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حَالَ أَصَالَتِهِ.
(وَإِنْ خَصَّصَ) الْوَاقِفُ (مَقْبَرَةً أَوْ رِبَاطًا أَوْ مَدْرَسَةً) ،
أَوْ (خَصَّصَ) (إمَامَتَهَا أَوْ) خَصَّصَ (خَطَابَتَهَا، بِأَهْلِ
مَذْهَبٍ أَوْ) بِأَهْلِ (بَلَدٍ، أَوْ قَبِيلَةٍ؛ تَخَصَّصَتْ) بِهَا،
إعْمَالًا لِلشَّرْطِ، إلَّا أَنْ يَقَعَ الِاخْتِصَاصُ بِنِحْلَةٍ
بِدْعَةٍ. قَالَهُ الْحَارِثِيُّ.
وَ (لَا) يَصِحُّ شَرْطُ وَاقِفِ الْمَدْرَسَةِ وَنَحْوِهِ تَخْصِيصَ
(الْمُصَلِّينَ بِهَا) بِذِي مَذْهَبٍ؛ فَلَا تَخْتَصُّ بِهِمْ؛ لِأَنَّ
إثْبَاتَ الْمَسْجِدِيَّةِ يَقْتَضِي عَدَمَ الِاخْتِصَاصِ، كَمَا فِي
التَّحْرِيرِ " فَاشْتِرَاطُ التَّخْصِيصِ يُنَافِيهِ، وَلِغَيْرِهِمْ
الصَّلَاةُ بِهَا؛ لِعَدَمِ التَّزَاحُمِ بِهَا، وَلَوْ وَقَعَ، وَهُوَ
أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تُرَادُ لَهُ.
وَ (لَا) يَصِحُّ تَخْصِيصُ (الْإِمَامَةِ بِذِي مَذْهَبٍ مُخَالِفٍ)
لِصَرِيحِ، (أَوْ ظَاهِرِ السُّنَّةِ) ، سَوَاءٌ كَانَ خِلَافَهُ لِعَدَمِ
الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، أَوْ لِتَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ؛ إذْ لَا يَجُوزُ
اشْتِرَاطُ مِثْلِ هَذَا.
قَالَهُ الْحَارِثِيُّ. (أَوْ) ؛ أَيْ: لَا يَصِحُّ شَرْطُ وَاقِفٍ (أَنْ
لَا يُنْتَفَعَ بِهِ) - أَيْ: الْوَقْفِ - (أَوْ) شَرْطُهُ (عَدَمُ
اسْتِحْقَاقِ مُرْتَكِبِ الْخَيْرِ) لِشَيْءٍ مِنْ رَيْعِ الْوَقْفِ؛
لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ
(4/319)
(قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ:
(قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: نُصُوصُ الْوَقْفِ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ، يَعْنِي
فِي الْفَهْمِ وَالدَّلَالَةِ، لَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ) .
وَهَذَا مُقَابِلٌ لِمَا تَقَدَّمَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي وُجُوبِ
الْعَمَلِ.
(مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ لَفْظَهُ) - أَيْ: الْوَاقِفِ - (وَلَفْظَ
الْمُوصِي وَالْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ وَكُلِّ عَاقِدٍ؛ يُحْمَلُ عَلَى
عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا) ، سَوَاءٌ
(وَافَقَتْ لُغَةَ الْعَرَبِ، أَوْ لُغَةَ الشَّارِعِ، أَوْ لَا) .
(وَقَالَ) الشَّيْخُ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى صَلَاةٍ أَوْ
صِيَامٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ جِهَادٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَنَحْوِهِ؛ لَمْ
يَصِحَّ، وَالْخِلَافُ فِي الْمُبَاحِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى
الْأَغْنِيَاءِ وَلَا يَجُوزُ اعْتِقَادُ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ مَشْرُوعًا
وَقُرْبَةً وَطَاعَةً، وَاتِّخَاذُهُ دِينًا.
وَقَالَ: (الشُّرُوطُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا؛ إذْ لَمْ تُفْضِ
إلَى الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ) ، وَلَا يَجُوزُ
الْمُحَافَظَةُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ
بِهَا.
وَقَالَ: (فَمَنْ شَرَطَ فِي الْقُرُبَاتِ أَنْ يُقَدِّمَ فِيهَا الصِّنْفَ
الْمَفْضُولَ، فَقَدْ شَرَطَ خِلَافَ شَرْطِ اللَّهِ؛ كَشَرْطِهِ فِي
الْإِمَامَةِ تَقْدِيمَ غَيْرِ الْأَعْلَمِ) .
وَقَالَ أَيْضًا: إنْ نَزَّلَ مُسْتَحِقًّا تَنْزِيلًا شَرْعِيًّا؛ لَمْ
يَجُزْ صَرْفُهُ عَمَّا نَزَلَ فِيهِ بِلَا مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ
نَقْضٌ لِلِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ.
(وَقَالَ) : كُلُّ مُتَصَرِّفٍ بِوِلَايَةٍ إذَا قِيلَ يَفْعَلُ مَا
يَشَاءُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ فِعْلُهُ لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ،
حَتَّى (لَوْ صَرَّحَ وَاقِفٌ بِفِعْلِ مَا يَهْوَاهُ) النَّاظِرُ
مُطْلَقًا (أَوْ مَا يَرَاهُ؛ فَشَرْطٌ بَاطِلٌ) عَلَى الصَّحِيحِ
الْمَشْهُورِ؛ لِمُخَالِفَتِهِ الشَّرْعِيِّ، وَغَايَتِهِ أَنْ يَكُونَ
شَرْطًا مُبَاحًا، وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، حَتَّى
لَوْ تُسَاوَى فِعْلَانِ عَمِلَ بِالْقُرْعَةِ.
(وَ) قَالَ: الشَّرْطُ (الْمَكْرُوهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا وَعِنْدَهُ) -
أَيْ: الشَّيْخِ - (إنَّمَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِشَرْطٍ مُسْتَحَبٍّ) .
قَالَ: وَعَلَى النَّاظِرِ بَيَانُ الْمَصْلَحَةِ أَيْ: التَّثَبُّتُ
وَالتَّحَرِّي فِيهَا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ، فَيَعْمَلُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ
أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ، وَمَعَ الِاشْتِبَاهَ إنْ كَانَ النَّاظِرُ عَالِمًا
عَادِلًا سَاغَ لَهُ اجْتِهَادُهُ.
(4/320)
(وَقَالَ: لَوْ شَرَطَ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ عَلَى أَهْلِ مَدْرَسَةٍ بِالْقُدْسِ بِهَا) - أَيْ:
الْمَدْرَسَةِ - (كَانَ الْأَفْضَلُ لِأَهْلِهَا صَلَاةُ الْخَمْسِ بِ)
الْمَسْجِدِ (الْأَقْصَى، وَلَا يَقِفُ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ
بِالْمَدْرَسَةِ، وَكَانَ يُفْتِي بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ
وَغَيْرُهُ) .
وَقَالَ: إذَا شَرَطَ فِي اسْتِحْقَاقِ رَيْعِ الْوَقْفِ الْعُزُوبَةَ،
فَالْمُتَأَهِّلُ أَحَقُّ مِنْ الْمُتَعَزِّبِ، إذَا اسْتَوَيَا فِي
سَائِرِ الصِّفَاتِ.
وَقَالَ: إذَا وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَأَقَارِبُ الْوَاقِفِ
الْفُقَرَاءُ أَحَقُّ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْأَجَانِبِ، مَعَ التَّسَاوِي
فِي الْحَاجَةِ، وَإِذَا قُدِّرَ وُجُودُ فَقِيرٍ مُضْطَرٍّ، كَانَ دَفْعُ
ضَرُورَتِهِ وَاجِبًا، وَإِذَا لَمْ تَنْدَفِعْ ضَرُورَتُهُ إلَّا
بِتَنْقِيصِ كِفَايَةِ أَقَارِبِ الْوَاقِفِ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ
تَحْصُلُ لَهُمْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ.
(وَقَالَ: فِي وَاقِفِ مَدْرَسَةٍ، شَرْطٌ أَنْ لَا يُصْرَفَ رَيْعُهَا
لِمَنْ لَهُ وَظِيفَةٌ بِجَامِكِيَّةِ، أَوْ مُرَتَّبٌ فِي جِهَةٍ أُخْرَى:
إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْطِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ خَالِصٌ أَوْ رَاجِحٌ؛
كَانَ) الشَّرْطُ (بَاطِلًا؛ كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ نَوْعَ مَطْعَمٍ
أَوْ مَلْبَسٍ) أَوْ مَسْكَنٍ (لَا تَسْتَحِبُّهُ الشَّرِيعَةُ، وَلَا
يَمْنَعُهُمْ النَّاظِرُ مِنْ تَنَاوُلِ كِفَايَتِهِمْ مِنْ جِهَةٍ
أُخْرَى) هُمْ مُرَتَّبُونَ فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا إبْطَالًا لِلشَّرْطِ،
لَكِنَّهُ تَرْكٌ لِلْعَمَلِ.
(وَقَالَ: لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِمَحْضَرِ وَقْفٍ فِيهِ شُرُوطٌ) هُمْ
مُرْتَبِطُونَ فِيهَا وَالْمَحْضَرُ خَطٌّ يُكْتَبُ فِي وَاقِفِهِ خُطُوطُ
الشُّهُودِ فِي آخِرِهِ؛ لِصِحَّةِ مَا تَضْمَنَّهُ صَدْرُهُ قَالَهُ فِي
الْقَامُوسِ.
(ثُمَّ ظَهَرَ كِتَابُ الْوَقْفِ بِخِلَافِهِ؛ وَجَبَ ثُبُوتُهُ
وَالْعَمَلُ بِهِ) ، إنْ أَمْكَنَ إثْبَاتَهُ.
(أَوْ أَقَرَّ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِي هَذَا
الْوَقْفِ إلَّا مِقْدَارًا مَعْلُومًا، ثُمَّ ظَهَرَ شَرْطُ الْوَاقِفِ
أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ) مِمَّا قَالَ: (حُكِمَ لَهُ بِمُقْتَضَاهُ)
- أَيْ: الشَّرْطِ - (وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْإِقْرَارُ الْمُتَقَدِّمُ)
؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِعَدَمِ عِلْمِهِ إيَّاهُ. (انْتَهَى) .
وَقَوْلُهُ ثُمَّ ظَهَرَ شَرْطُ الْوَاقِفِ إلَى آخِرِهِ؛ يُفْهَمُ مِنْهُ
أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِشَرْطِ الْوَاقِفِ، وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا
يَسْتَحِقُّ إلَّا كَذَا، يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ
لَهُ فَإِنْ
(4/321)
انْتَقَلَ اسْتِحْقَاقُهُ بَعْدَهُ
لِوَلَدِهِ مَثَلًا؛ فَلَهُ الطَّلَبُ بِمَا فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ مِنْ
حِينِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَسْرِي عَلَى
وَلَدِهِ.
وَذَكَرَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ "
الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ " الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ، سَوَاءٌ
عَلِمَ شَرْطَ الْوَاقِفِ وَكَذَبَ فِي إقْرَارِهِ، أَمْ لَمْ يَعْلَمْ؛
فَإِنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحَقِّ لَهُ لَا يَنْتَقِلُ بِكَذِبِهِ. انْتَهَى.
قَالَ الْمُحِبُّ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّ شَرْطَ
صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَوْنُ الْمُقِرِّ يَمْلِكُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِي
الْعَيْنِ الَّتِي يُقِرُّ بِهَا، وَمُسْتَحِقُّ الْوَقْفِ لَا يَمْلِكُ
ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ؛ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ، وَلَا يَمْلِكُ
نَقْلَ الْمِلْكِ فِي رَيْعِهِ إلَّا بَعْدَ حُصُولِهِ فِي يَدِهِ، فَلَا
يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ أَوْ جَوَازِ بَيْعِهِ، وَلَا
يَصِحُّ مِنْهُ، وَلَوْ صَحَّ الْإِقْرَارُ بِالرَّيْعِ قَبْلَ مِلْكِ
الْمُسْتَحِقِّ لَهُ؛ لَاُتُّخِذَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى إجَارِهِ مُدَّةً
مَجْهُولَةً؛ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَحِقُّ عِوَضَهَا مِنْ شَخْصٍ عَنْ
رَيْعِهِ أَوْ عَنْ رَقَبَتِهِ، وَيُقِرُّ لَهُ بِهِ، فَيَسْتَحِقُّهُ
مُدَّةَ حَيَاةِ الْمُقِرِّ، أَوْ مُدَّةَ اسْتِحْقَاقِ الْمُقِرِّ؛ فَلَا
يَجُوزُ اعْتِبَارُ إقْرَارِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْوَقْفِ وَلَا بِرَيْعِهِ
إلَّا بِشَرْطِ مِلْكِهِ لِلرَّيْعِ، وَلَمْ أَزَلْ أُفْتِي بِهَذَا
قَدِيمًا وَحَدِيثًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ أَكُونَ قَدْ وَقَفْتُ عَلَى
كَلَامِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ، وَلَا رَأَيْتُ فِيهِ كَلَامًا
لِغَيْرِهِ، وَلَكِنِّي قُلْته تَفَقُّهًا، وَلَا أَظُنُّ لِمَنْ لَهُ
نَظَرٌ تَامٌّ فِي الْفِقْهِ يَقُولُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
[فَائِدَةٌ يَأْكُلُ نَاظِرُ الْوَقْفِ بِمَعْرُوفٍ]
ٍ نَصًّا
وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا، قَالَهُ فِي " الْقَوَاعِدِ "
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَهُ أَخْذُ أُجْرَةِ عَمَلِهِ مَعَ
فَقْرِهِ انْتَهَى.
(وَلَوْ تَصَادَقَ) مُسْتَحِقُّو وَقْفٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَصَارِفِهِ، وَ
(عَلَى) مَقَادِيرِ (اسْتِحْقَاقِهِمْ فِيهِ) - أَيْ: الْوَقْفِ -
(وَنَحْوِهِ) ؛ كَدَفْعِ سَهْمٍ لِمُدَّعٍ اسْتِحْقَاقًا، (ثُمَّ ظَهَرَ
كِتَابُ الْوَقْفِ مُنَافِيًا لِمَا تَصَادَقُوا) عَلَيْهِ؛ (عُمِلَ بِهِ)
؛ أَيْ: بِمَا تَضْمَنَّهُ كِتَابُ الْوَقْفِ وُجُوبًا، عَلَى حَسَبِ مَا
وَظَّفَهُ الْوَاقِفُ مِنْ تَعْيِينِ مَصَارِفَ وَتَقْدِيرِ
(4/322)
وَظَائِفِ، (وَأُلْغِيَ التَّصَادُقُ)
الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمْ؛ لِمُخَالِفَتِهِ كِتَابَ الْوَاقِفِ.
(أَفْتَى بِهِ) الْحَافِظُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ رَجَبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى -.
(وَ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى (فِي " الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ
": يَعْمَلُ وَالِي الْمَظَالِمَ فِي وَقْفٍ عَامٍّ) لَيْسَ لَهُ نَاظِرٌ
مُعَيَّنٌ بِكِتَابِ (دِيوَانِ حَاكِمٍ) ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ
الْقُضَاةُ سِجِلًّا؛ إذْ هُوَ لِلصِّحَّةِ وَالضَّبْطِ أَقْرَبُ مِنْ
غَيْرِهِ.
(أَوْ) يَعْمَلُ بِمَا فِي دِيوَانِ (سَلْطَنَةٍ) ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ
الْآنَ بِالدَّفْتَرِ السُّلْطَانِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونُ التَّزْوِيرِ،
وَمَحْفُوظٌ مِنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ.
(أَوْ) يَعْمَلُ (بِكِتَابِ) وَقْفٍ (قَدِيمٍ) ظَهَرَ، وَعَلَيْهِ
أَمَارَاتُ الصِّدْقِ، بِحَيْثُ (يَقَعُ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهُ) ، وَلَا
يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَشْهَدُ؛ لِلْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى
صِحَّةِ مَا تَضْمَنَّهُ.
وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْكِتَابِ الْقَدِيمِ مُتَعَذِّرٌ،
فَاكْتُفِيَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِهِ.
(وَلَوْ جَهِلَ) ؛ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ (شَرْطَ) كَيْفِيَّةِ (قَسَمِ
وَاقِفِ) غَلَّةٍ مَا وَقَفَهُ، وَأَمْكَنَ التَّأَنُّسَ بِصَرْفِ مَنْ
تَقَدَّمَ، مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ؛ رَجَعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَرْجَحُ
مِمَّا عَدَاهُ، وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ صَرْفِهِ وَوُقُوعِهِ عَلَى
الْوَاقِفِ؛ فَإِنْ تَعَذَّرَ، وَكَانَ الْوَقْفُ عَلَى عِمَارَةٍ أَوْ
إصْلَاحٍ؛ صُرِفَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.
قَالَهُ الْحَارِثِيُّ وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْمٍ؛ (عُمِلَ) - بِالْبِنَاءِ
الْمَجْهُولِ - (بِعَادَةٍ جَارِيَةٍ) ، إنْ كَانَتْ، (ثُمَّ) إنْ لَمْ
تَكُنْ عَادَةٌ؛ عُمِلَ (بِعُرْفٍ) مُسْتَقِرٍّ فِي الْوَقْفِ فِي
مَقَادِيرِ الْوَقْفِ؛ كَفُقَهَاءِ الْمَدَارِسِ؛ (لِأَنَّهُ) - أَيْ:
الْعُرْفَ الْمُسْتَقِرَّ - (يَدُلُّ عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ أَكْثَرَ
مِنْ) دَلَالَةِ لَفْظِ (الِاسْتِفَاضَةِ) قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ.
وَلِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُ الشَّرْطِ عَلَى وَقْفِهِ وَأَيْضًا
فَالْأَصْلُ عَدَمُ تَقْيِيدِ الْوَاقِفِ، فَيَكُونُ مُطْلَقًا،
وَالْمُطْلَقُ مِنْهُ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْعُرْفِ قَالَهُ
الْحَارِثِيُّ.
(ثُمَّ) إنْ لَمْ تَكُنْ عَادَةٌ، وَلَا عُرْفٌ بِبَلَدِ الْوَقْفِ؛ كَمَا
لَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ لَيْسَ لَهَا عَادَةٌ وَلَا عُرْفٌ، (التَّسَاوِي)
؛ أَيْ: سَاوَى فِيهِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ
ثَبَتَتْ، وَلَمْ يَثْبُتْ التَّفْضِيلُ، فَوَجَبَتْ التَّسْوِيَةُ.
وَمَحَلُّ كَوْنِ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ إذَا كَانَ
الْمَوْقُوفُ فِي أَيْدِيهِمْ، أَوْ لَا يَدَ لِوَاحِدٍ
(4/323)
مِنْهُمْ عَلَيْهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ فِي
يَدِ بَعْضِهِمْ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. كَذَا نَبَّهَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ.
فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ حَيًّا يُرْجَعُ إلَى قَوْلِهِ.
[فَرْعٌ وَقَفَ عَلَى أَحَدِ أَوْلَادِهِ وَقْفًا وَجُهِلَ اسْمُ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ]
(فَرْعٌ: أَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ) ، (فِيمَنْ وَقَفَ عَلَى
أَحَدِ أَوْلَادِهِ) وَقْفًا، (وَجُهِلَ اسْمُهُ) - أَيْ: الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ -؛ (أَنَّهُ يُمَيَّزُ بِالْقُرْعَةِ) ، وَلَوْ وَجَدَ فِي
كِتَابِ وَقْفٍ رَجُلًا وَقَفَ (عَلَى فُلَانٍ، وَ) عَلَى (بَنِي بَنِيهِ،
وَاشْتَبَهَ هَلْ الْمُرَادُ ذَلِكَ) ؛ أَيْ: بَيْنَ بَنِيهِ - جَمْعُ
ابْنٍ -، أَوْ الْمُرَادُ (بَنِي بِنْتِهِ) ، وَاحِدَةِ الْبَنَاتِ؛
فَيَكُونُ الْوَقْفُ (لِبَنِي الْبَنِينَ) خَاصَّةً، (وَلَا يُشَارِكُهُمْ
بَنُو الْبَنَاتِ، خِلَافًا لِابْنِ عَقِيلٍ) فِي قَوْلِهِ فِي "
الْفُنُونِ ": يَكُونُ بَيْنَهُمَا؛ لِتَسَاوِيهِمَا؛ كَمَا فِي تَعَارُضِ
الْبَيِّنَاتِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَيْسَ هَذَا مِنْ تَعَارُضِ
الْبَيِّنَتَيْنِ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ تَرَدُّدِ الْبَيِّنَةِ
الْوَاحِدَةِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ؛
فَالْقِسْمَةُ عِنْدَ التَّعَارُضِ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ، وَإِلَّا
فَالصَّحِيحُ إمَّا التَّسَاقُطُ وَإِمَّا الْقُرْعَةُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ
يُقْرَعَ هُنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَجَّحَ بَنُو الْبَنِينَ؛ لِأَنَّ
الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا وَقَفَ عَلَى وَلَدِ بَنِيهِ لَا
يَخُصُّ مِنْهُمَا الذُّكُورَ، بَلْ يَعُمُّ أَوْلَادَهُمَا، بِخِلَافِ
الْوَقْفِ عَلَى وَلَدِ الذُّكُورِ؛ فَإِنَّهُ يَخُصُّ ذُكُورَهُمْ
كَثِيرًا كَآبَائِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ وَلَدَ الْبِنْتِ
لَسَمَّاهَا بِاسْمِهَا، أَوْ لَشَرَّكَ بَيْنَ وَلَدِهَا وَوَلَدِ سَائِرِ
بَنَاتِهِ. قَالَ: وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ. نَقَلَهُ عَنْهُ فِي
الْإِنْصَافِ.
[فَصْلٌ فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ]
(فَصْلٌ: وَإِذَا لَمْ يَشْرُطْ وَاقِفٌ نَاظِرًا) عَلَى الْمَوْقُوفِ
(أَوْ شَرَطَهُ) ؛ أَيْ: النَّظَرَ (لِمُعَيَّنٍ، فَمَاتَ) الْمَشْرُوطُ
لَهُ؛ فَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ وِلَايَةُ النَّصْبِ؛ لِانْتِفَاءِ مِلْكِهِ،
فَلَمْ يَمْلِكْ النَّصْبَ وَلَا الْعَزْلَ، وَيَكُونُ (نَظَرُهُ
لِمَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، إنْ حُصِرَ) مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ؛ كَأَوْلَادِهِ
وَأَوْلَادِ زَيْدٍ (فَيَنْظُرُ كُلٌّ) مِنْهُمْ (عَلَى حِصَّتِهِ)
كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ الْمُشْتَرَكِ، سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ
فَاسِقًا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَغَلَّتَهُ لَهُ (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَحْصُورٍ.
كَالْوَقْفِ (عَلَى الْفُقَرَاءِ) وَالْمَسَاكِينِ وَالْعُلَمَاءِ
وَالْقُرَّاءِ، فَنَظَرُهُ لِلْحَاكِمِ، وَإِلَّا فَالْمَوْقُوفُ عَلَى
مَسْجِدٍ، أَوْ مَدْرَسَةٍ، أَوْ رِبَاطٍ، أَوْ قَنْطَرَةٍ،
(4/324)
أَوْ سِقَايَةٍ، فَنَظَرُهُ (لِحَاكِمِ
بَلَدِ الْوَقْفِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ (أَوْ مَنْ
يُقِيمُهُ) الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمَوْجُودِينَ،
وَحَقُّ مَنْ يَأْتِي مِنْ الْبُطُونِ؛ فَكَانَ نَظَرُهُ لِلْحَاكِمِ أَوْ
مَنْ يَسْتَنِيبُهُ الْحَاكِمُ.
(وَمَنْ أَطْلَقَ النَّظَرَ) مِنْ الْوَاقِفِينَ (لِلْحَاكِمِ) فَلَمْ
يُعَيِّنْهُ بِكَوْنِهِ حَنَفِيًّا أَوْ مَالِكِيًّا أَوْ شَافِعِيًّا أَوْ
حَنْبَلِيًّا (شَمِلَ) لَفْظُ الْحَاكِمِ (أَيَّ حَاكِمٍ كَانَ، مِنْ أَيِّ
مَذْهَبٍ) كَانَ؛ أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ مَذْهَبُ الْحَاكِمِ مَذْهَبَ
حَاكِمِ الْبَلَدِ زَمَنَ الْوَاقِفِ أَمْ لَا، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ
بِذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظَرٌ إذَا انْفَرَدَ، وَهُوَ بَاطِلٌ
اتِّفَاقًا، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي
" الْفُرُوعِ ".
(وَيَتَّجِهُ) فِي إطْلَاقِ الْوَاقِفِ النَّظَرَ لِلْحَاكِمِ، مِنْ غَيْرِ
تَعْيِينٍ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ لِمَنْ بِالْبَلْدَةِ مِنْ الْحُكَّامِ
جَمِيعًا (وَلَوْ تَعَدَّدُوا) - أَيْ: حُكَّامُ الْبَلَدِ (لَا إنَّهُ) -
أَيْ: أَمْرُ النَّظَرِ -، يَكُونُ (لِلسُّلْطَانِ إذَنْ) أَيْ: حَيْثُ
كَانَ مُطْلَقًا (إذْ هُمْ) - أَيْ: الْحُكَّامُ الْمُتَعَدِّدُونَ -
(نُوَّابُهُ) - أَيْ: السُّلْطَانِ -، فَيُعْمَلُ بِتَوْجِيهٍ سَابِقٍ مِنْ
أَحَدِهِمْ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ وَلَا غَيْرِهِ الِاعْتِرَاضُ
عَلَيْهِ، وَلَا نَقْضُ تَوْجِيهٍ صَدَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ
ذَلِكَ بِإِطْلَاقِ الْوَاقِفِ النَّظَرَ، وَبِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْ
السُّلْطَانِ، مَأْذُونًا لَهُ فِي تَعَاطِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا
مِنْهَا (خِلَافًا لَهُمَا) أَيْ: لِلْإِقْنَاعِ " وَالْمُنْتَهَى "
الْقَائِلِينَ فِي ذَلِكَ (تَبَعًا لِجَمَاعَةٍ) مِنْهُمْ ابْنُ نَصْرِ
اللَّهِ، وَابْنُ قُنْدُسٍ، فَإِنَّهُمَا جَزَمَا بِأَنَّ النَّظَرَ
يَكُونُ لِلسُّلْطَانِ مَعَ التَّعَدُّدِ، وَهُوَ اتِّجَاهٌ مَقْبُولٌ،
لَوْ سَاعَدَتْهُ النُّقُولُ.
وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ ": فَإِنْ تَعَدَّدَ الْحُكَّامُ؛ كَانَ
لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمُتَأَهِّلِينَ وَقَالَ
صَاحِبُ الْمُنْتَهَى فِي شَرْحِهِ: قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَقَدْ
أَفْتَى الشَّيْخُ نَصْرُ اللَّهِ الْحَنْبَلِيُّ، وَالشَّيْخُ بُرْهَانُ
الدِّينِ وَلَدُ صَاحِبِ الْفُرُوعِ " " فِي وَقْفٍ شَرَطَ وَاقِفُهُ أَنْ
النَّظَرَ فِيهِ لِحَاكِمِ
(4/325)
الْمُسْلِمِينَ كَائِنًا مَنْ كَانَ؛
بِأَنَّ الْحُكَّامَ إذَا تَعَدَّدُوا؛ يَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ
لِلسُّلْطَانِ، يُوَلِّيهِ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمُتَأَهِّلِينَ، وَوَافَقَ
عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ، وَشِهَابُ
الدِّينِ الْبَاعُونِيُّ، وَابْنُ الْهَائِمِ، وَالتَّفْهَنِيُّ
الْحَنَفِيُّ، وَالْبِسَاطِيُّ الْمَالِكِيُّ.
(فَلَوْ وَلَّى كُلٌّ مِنْهُمَا) - أَيْ: الْحَاكِمَيْنِ -، أَوْ
الْحُكَّامِ الْمُتَعَدِّدِينَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ (شَخْصًا؛ صَحَّ،
وَقَدَّمَ السُّلْطَانُ أَحَقَّهُمَا) - أَيْ: الشَّخْصَيْنِ -؛
لِتَعَلُّقِ حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا بِذَلِكَ، إنْ اتَّحَدَا تَارِيخًا،
وَلَا يَشْتَرِكَانِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنَّمَا وُلِّيَ لِيَنْظُرَ
فِيهِ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَكَانَ أَحَقُّهُمَا بِذَلِكَ أَوْلَى، قَالَهُ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْأَحَقِّيَّةِ؛
أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا.
(وَلَوْ فَوَّضَهُ) - أَيْ: النَّظَرَ - (حَاكِمٌ) لِإِنْسَانٍ (لَمْ
يَجُزْ) لِحَاكِمٍ آخَرَ (نَقْضُهُ) قَالَ فِي " شَرْحِ الْمُنْتَهَى ":
وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْأَصْحَابَ قَاسُوا التَّفْوِيضَ عَلَى حُكْمِ
الْحَاكِمِ قَبْلَهُ. انْتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحَاكِمَ لَهُ نَصْبُ نَاظِرٍ وَعَزْلُهُ. إلَّا
أَنْ يُحْمَلَ مَا هُنَا عَلَى مَا إذَا تَعَدَّدَتْ الْحُكَّامُ، وَمَا
تَقَدَّمَ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا حَاكِمٌ وَاحِدٌ، بِقَرِينَةِ
السِّيَاقِ. أَوْ يُقَالُ النَّصْبُ بِمَعْنَى التَّوْكِيلِ، أَوْ
التَّفْوِيضُ إسْنَادُهُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَقِلُّ بِهِ (بَلْ
يَنْظُرُ) الْحَاكِمُ (مَعَهُ) - أَيْ: مَعَ الْمُفَوَّضِ لَهُ النَّظَرُ،
حِفْظًا لِلْوَقْفِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: (لَا يَجُوزُ
لِوَاقِفٍ شَرْطَ نَظَرٍ لِذِي مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ دَائِمًا) وَهَذَا
اخْتِيَارُ مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ.
(وَمَنْ شَرَطَهُ) - أَيْ: النَّظَرَ - (لِفُلَانٍ، فَإِنْ مَاتَ
فَفُلَانٍ) بِأَنْ قَالَ الْوَاقِفُ: النَّظَرُ لِزَيْدٍ، فَإِنْ مَاتَ
فَلِعَمْرٍو مَثَلًا (فَعَزَلَ) زَيْدٌ (نَفْسَهُ، أَوْ فَسَقَ) وَقُلْنَا:
يَنْعَزِلُ (فَكَمَوْتِهِ) لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ الْمَوْتَ خَرَجَ مَخْرَجَ
الْغَالِبِ؛ فَلَا يُعْتَدُّ بِمَفْهُومِهِ، وَإِنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ
النَّظَرِ لِغَيْرِهِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إدْخَالٌ فِي
الْوَقْفِ لِغَيْرِ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، وَحَقُّهُ بَاقٍ. فَإِنْ
أَصَرَّ عَلَى عَدَمِ التَّصَرُّفِ؛ انْتَقَلَ
(4/326)
إلَى مَنْ يَلِيهِ، كَمَا لَوْ عَزَلَ
نَفْسَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَلِيهِ؛ أَقَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ،
كَمَا لَوْ مَاتَ. قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ " هَذَا مَا ظَهَرَ لِي،
وَلَمْ أَرَهُ مَسْطُورًا، وَقَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
(وَ) إنْ شَرَطَ النَّظَرَ (لِأَفْضَلِ أَوْلَادِهِ) أَوْ أَوْلَادِ
زَيْدٍ؛ فَالنَّظَرُ لَهُ - أَيْ: لِلْأَفْضَلِ مِنْهُمْ؛ عَمَلًا
بِالشَّرْطِ (فَإِنْ أَبَى) الْأَفْضَلُ الْقَبُولَ (فَ) النَّظَرُ (لِمَنْ
يَلِيهِ) كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. (وَلَوْ وَلِيَهُ) - أَيْ: النَّظَرَ
(الْأَفْضَلُ، فَحَدَثَ) مَنْ هُوَ (أَفْضَلُ مِنْهُ انْتَقَلَ) النَّظَرُ
(إلَيْهِ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِيهِ (فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ) فِي
الْفَضْلِ (اشْتَرَكَا) فِي النَّظَرِ.
(وَ) إنْ شَرَطَ النَّظَرَ (لِاثْنَيْنِ مِنْ أَفَاضِلِ وَلَدِهِ) - أَيْ:
الْوَاقِفِ - (فَلَمْ يُوجَدْ إلَّا) فَاضِلٌ (وَاحِدٌ) مِنْ أَوْلَادِهِ
(ضُمَّ إلَيْهِ أَمِينٌ) يَنْظُرُ مَعَهُ؛ عَمَلًا بِشَرْطِ الْوَاقِفِ
(وَكَذَا) الْحُكْمُ (لَوْ جَعَلَهُ) - أَيْ: النَّظَرَ - (لِاثْنَيْنِ
غَيْرِ مُسْتَقِلَّيْنِ) لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا دُونَ
الْآخَرِ بِلَا شَرْطِ وَاقِفٍ، كَالْوَكِيلَيْنِ وَالْوَصِيَّيْنِ عَنْ
وَاحِدٍ (فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ انْعَزَلَ) ضُمَّ إلَى الْحَيِّ
أَمِينٌ يَنْظُرُ مَعَهُ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا.
(وَشُرِطَ فِي نَاظِرٍ أَجْنَبِيٍّ) - أَيْ: غَيْرِ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ -
وَكَذَا إنْ كَانَ لِبَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إنْ كَانَتْ
(وِلَايَتُهُ مِنْ حَاكِمٍ) كَوَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ غَيْرِ مَحْصُورِينَ،
وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاقِفُهُ نَاظِرًا، فَفَوَّضَهُ الْحَاكِمُ إلَى
إنْسَانٍ (أَوْ) كَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ (نَاظِرٍ أَصَالَةً) أَيْ:
بِجَعْلِ الْوَاقِفِ لَهُ ذَلِكَ، أَوْ بِدُونِهِ إنْ جَازَ لِلْوَكِيلِ
أَنْ يُوَكِّلَ (إسْلَامٌ) إنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا،
أَوْ كَانَتْ جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ الْإِسْلَامِ؛ كَمَسْجِدٍ وَمَدْرَسَةٍ
وَرِبَاطٍ وَنَحْوِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] فَإِنْ كَانَ
الْوَقْفُ عَلَى كَافِرٍ مُعَيَّنٍ؛ جَازَ شَرْطُ النَّظَرِ فِيهِ
لِكَافِرٍ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ الْكُفَّارِ، وَشَرَطَ
النَّظَرَ لِأَحَدِهِمْ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ؛
(4/327)
فَيَصِحُّ، كَمَا فِي وَصِيَّةِ الْكَافِرِ
لِكَافِرٍ عَلَى كَافِرٍ، أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي
وَغَيْرُهُ.
(وَ) شُرِطَ أَيْضًا فِي النَّاظِرِ الْمَشْرُوطِ (تَكْلِيفٌ) لِأَنَّ
غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لَا يَنْظُرُ فِي مِلْكِهِ الطَّلْقِ، فَفِي الْوَقْفِ
أَوْلَى.
(وَ) شُرِطَ فِيهِ أَيْضًا (رُشْدٌ) لِأَنَّ السَّفِيهَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ
فِي تَصَرُّفَاتِهِ فِي مَالِهِ؛ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي غَيْرِهِ.
(وَ) شُرِطَ فِيهِ أَيْضًا (كِفَايَةٌ لِتَصَرُّفٍ، وَخِبْرَةٌ) - أَيْ:
عِلْمٌ - (بِهِ) - أَيْ: التَّصَرُّفِ (وَقُوَّةٌ عَلَيْهِ) لِأَنَّ
مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
الْمُتَصَرِّفُ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يُمْكِنْهُ مُرَاعَاةُ
حِفْظِ الْوَقْفِ، وَلَا تُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ الذُّكُورِيَّةُ؛
لِأَنَّ عُمَرَ أَوْصَى بِالنَّظَرِ لِحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
-.
(وَيَضُمُّ) لِنَاظِرٍ (ضَعِيفٍ) تَعَيَّنَ كَوْنُهُ نَاظِرًا، بِشَرْطِ
وَاقِفٍ، أَوْ كَوْنُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (قَوِيًّا أَمِينًا)
لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ (وَ) إنْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ عَلَى الْوَقْفِ
مِنْ نَاظِرٍ أَصْلِيٍّ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الـ (عَدَالَةِ) فِيهِ؛
لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ عَلَى مَالٍ، فَاشْتُرِطَ لَهَا الْعَدَالَةُ،
كَالْوِلَايَةِ، عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
الْأَجْنَبِيُّ الْمُوَلَّى مِنْ حَاكِمٍ أَوْ نَاظِرٍ أَصْلِيٍّ عَدْلًا؛
لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْعَدَالَةُ،
وَأُزِيلَتْ يَدُهُ عَنْ الْوَقْفِ حِفْظًا لَهُ.
(فَإِنْ فَسَقَ مَنْصُوبُ حَاكِمٍ) بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا؛ عُزِلَ
(أَوْ أَصَرَّ مُتَصَرِّفًا بِخِلَافِ الشَّرْطِ) الصَّحِيحِ عَالِمًا
بِتَحْرِيمِهِ (عُزِلَ) مِنْ التَّوْلِيَةِ، وَأُزِيلَتْ يَدُهُ عَنْ
الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ مَا مَنَعَ التَّوْلِيَةَ ابْتِدَاءُ مَنْعِهَا
دَوَامًا (فَإِنْ عَادَ) إلَى أَهْلِيَّتِهِ (عَادَ حَقُّهُ) مِنْ
النَّظَرِ الْمَشْرُوطِ لَهُ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ الْوَاقِفُ بِأَنَّهُ
إذَا عَادَ إلَى أَهْلِيَّتِهِ عَادَ حَقُّهُ (كَوَصِيٍّ) عُزِلَ
لِمُقْتَضٍ ثُمَّ زَالَ؛ فَيُعَادُ
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ إذَا عَادَ إلَى أَهْلِيَّتِهِ؛ يُعَادُ إلَى
النَّظَرِ (مَا لَمْ يُقَرِّرْ) الْحَاكِمُ شَخْصًا (غَيْرَهُ قَبْلَ)
عَوْدِهِ، فَإِنْ قَرَّرَهُ قَبْلَ عَوْدِهِ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ إزَالَتُهُ
بِدُونِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ؛ لِمُصَادَفَةِ تَقْرِيرِهِ مَحَلَّهُ. وَهُوَ
مُتَّجِهٌ.
(4/328)
(وَ) إنْ وُلِّيَ النَّظَرَ أَجْنَبِيٌّ
(مِنْ وَاقِفٍ) بِأَنْ شَرَطَهُ لَهُ (وَهُوَ) - أَيْ: الْأَجْنَبِيُّ -
(فَاسِقٌ أَوْ) وَهُوَ عَدْلٌ، ثُمَّ (فَسَقَ؛ يُضَمُّ إلَيْهِ أَمِينٌ)
لِحِفْظِ الْوَقْفِ، وَلَمْ تَزُلْ يَدُهُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْجَمْعُ
بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَمَتَى لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهُ مِنْهُ؛ أُزِيلَتْ
وِلَايَتُهُ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ حِفْظِ الْوَقْفِ أَهَمُّ مِنْ إبْقَاءِ
وِلَايَةِ الْفَاسِقِ عَلَيْهِ.
(وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِمَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، إمَّا بِجَعْلِهِ) أَيْ:
الْوَاقِفِ النَّظَرَ (لَهُ) أَيْ: الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (أَوْ
لِكَوْنِهِ) أَيْ: الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (أَحَقَّ) بِالنَّظَرِ (لِعَدَمِ)
تَعْيِينِ (غَيْرِهِ؛ فَهُوَ) أَيْ: الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ (مَعَ رُشْدٍ
أَحَقُّ) بِالنَّظَرِ (مُطْلَقًا) أَيْ: عَدْلًا كَانَ، أَوْ فَاسِقًا،
رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْوَقْفَ، فَهُوَ يَنْظُرُ
لِنَفْسِهِ (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ رَشِيدٍ،
وَلَمْ يُشْرَطْ النَّظَرُ لِغَيْرِهِ (فَوَلِيُّهُ) يَقُومُ بِالنَّظَرِ
مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ، فَهُوَ كَمِلْكِهِ الطَّلْقِ.
(وَلَوْ شَرَطَهُ) أَيْ: النَّظَرَ (وَاقِفٌ لِغَيْرِهِ) مِنْ مَوْقُوفٍ
عَلَيْهِ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ عَزَلَهُ (لَمْ يَصِحَّ عَزْلُهُ لَهُ)
كَإِخْرَاجِ بَعْضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ (إلَّا إنْ شَرَطَ) الْوَاقِفُ
(لِنَفْسِهِ، وِلَايَةَ الْعَزْلِ) فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فَلَهُ شَرْطُهُ.
(وَ) إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ (لِنَفْسِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ) أَيْ:
النَّظَرَ (لِغَيْرِهِ، أَوْ أَسْنَدَهُ، أَوْ فَوَّضَهُ) أَيْ: النَّظَرَ
(إلَيْهِ) بِأَنْ قَالَ: جَعَلْت النَّظَرَ، أَوْ فَوَّضْته، أَوْ
أَسْنَدْته إلَى زَيْدٍ (فَلَهُ) أَيْ: الْوَاقِفِ (عَزْلُهُ) أَيْ:
الْمَجْعُولِ أَوْ الْمُسْنَدِ أَوْ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ (لِأَنَّهُ
نَائِبُهُ) أَشْبَهَ الْوَكِيلَ.
(4/329)
(وَلِنَاظِرٍ بِأَصَالَةٍ كَمَوْقُوفٍ
عَلَيْهِ) إنْ كَانَ مُعَيَّنًا (وَحَاكِمٍ) فِيمَا وَقَفَ عَلَى غَيْرِ
مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ الْوَاقِفُ غَيْرَهُ (نُصِّبَ) وَكِيلٌ عَنْهُ
(وَعَزَلَهُ) لِأَصَالَةِ وِلَايَتِهِ، أَشْبَهَ الْمُتَصَرِّفَ فِي مَالِ
نَفْسِهِ، وَتَصَرُّفَ الْحَاكِمِ فِي مَالِ يَتِيمٍ.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ وَحَاكِمٍ عَزْلُ
وَكِيلِهِ (وَلَوْ بِلَا جُنْحَةٍ) وَهُوَ مُتَّجِهٌ وَكَوْنُهُ لَهُ
عَزْلُهُ (لِأَصَالَةِ نَظَرِهِ فَهُوَ) أَيْ: مَنْ نَصَّبَهُ النَّاظِرُ
أَوْ الْحَاكِمُ (نَائِبُهُ) كَمَا فِي الْمُطْلَقِ، وَلَهُ الْوَصِيَّةُ
لِنَظَرٍ؛ لِأَصَالَةِ الْوِلَايَةِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: (وَلِلْمُسْتَنِيبِ عَزْلُ نَائِبِهِ مَتَى شَاءَ)
لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ، وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ مَتَى شَاءَ
(وَعَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ النَّائِبَ وَكِيلٌ عَنْ
الْمُسْتَنِيبِ (فَلَوْ فَوَّضَهُ) أَيْ: النَّظَرَ (حَاكِمٌ) لِشَخْصٍ؛
وَعُزِلَ الْحَاكِمُ لِطُرُوِّ فِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ مَاتَ (جَازَ)
لِحَاكِمٍ (آخَرَ نَقْضُهُ) - أَيْ: نَقْضُ مَا فَوَّضَهُ -؛ لِأَنَّهُ
وَكِيلٌ عَنْهُ، وَمَتَى عُزِلَ الْأَصِيلُ، أَوْ مَاتَ عُزِلَ الْوَكِيلُ.
(خِلَافًا لَهُمَا) أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ " وَالْمُنْتَهَى "
(فِيمَا يُوهِمُ) خِلَافَ ذَلِكَ.
وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ ": وَلِنَاظِرٍ - وَهُوَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ -
وَلِحَاكِمٍ نَصْبُ نَاظِرٍ، وَعَزْلُهُ. وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى ":
وَلِنَاظِرٍ بِأَصَالَةٍ، كَمَوْقُوفٍ عَلَيْهِ وَحَاكِمٍ، نَصْبٌ
وَعَزْلٌ. فَاقْتِصَارُهُمَا عَلَى أَنَّ النَّصْبَ وَالْعَزْلَ
لِلنَّاظِرِ وَالْحَاكِمِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ
نَقْضُ مَا فَوَّضَهُ حَاكِمٌ قَبْلَهُ، مَعَ أَنَّ الْمُقْتَضَى خِلَافُ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَفْوِيضَ النَّاظِرِ بِالْأَصَالَةِ أَوْ الْحَاكِمِ،
إنَّمَا هُوَ اسْتِنَابَةٌ قَائِمَةٌ مَقَامَ التَّوْكِيلِ، فَإِذَا طَرَأَ
الْعَزْلُ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ فَلِمَنْ لَهُ التَّوْلِيَةُ بَعْدَهُ نَقْضُ
مَا فَعَلَهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّهُ لَوْ فَوَّضَ
النَّظَرَ حَاكِمٌ؛ لَمْ يَجُزْ لِآخَرَ نَقْضُهُ فَإِنَّهُ هُنَاكَ إذَا
كَانَ التَّفْوِيضُ مَعَ تَعَدُّدِ الْحُكَّامِ، وَهُنَا مَعَ
الِانْفِرَادِ، فَانْتَفَى التَّعَارُضُ.
(4/330)
(وَلَا يُنَصَّبُ) نَاظِرٌ بِشَرْطٍ؛
لِأَنَّ نَظَرَهُ مُسْتَفَادٌ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ النَّصْبُ
لَهُ، وَلَوْ مَاتَ النَّاظِرُ بِالشَّرْطِ فِي حَيَاةِ الْوَاقِفِ، لَمْ
يَمْلِكْ الْوَاقِفُ نَصْبَ غَيْرِهِ بِدُونِ شَرْطٍ، أَيْ بِدُونِ شَرْطِ
وِلَايَةِ النَّصْبِ لِنَفْسِهِ، وَانْتَقَلَ الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ.
وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ وَفَاةِ الْوَاقِفِ، فَكَذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ.
(وَلَا يَعْزِلُ نَاظِرٌ بِشَرْطٍ) نَاظِرًا حَيْثُ أَقَامَهُ هُوَ.
فَقَوْلُهُ: وَلَا يَعْزِلُ، فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ؛ إذْ هُوَ مَمْنُوعٌ
مِنْ النَّصْبِ أَصَالَةً، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: وَلَا يَعْزِلُ؛ إذْ
لَيْسَ ثَمَّ مَنْصُوبًا يَعْزِلُهُ.
(وَلَا يُوصِي) نَاظِرٌ بِشَرْطٍ (بِهِ) ؛ أَيْ: بِالنَّظَرِ. قَالَ فِي "
الْإِنْصَافِ ": نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ؛ لِأَنَّهُ
إنَّمَا يَنْظُرُ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يُشْرَطْ الْإِيصَاءُ لَهُ
(مُطْلَقًا) ؛ أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ لَا، خِلَافًا
لِلْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِوَصِيَّتِهِ
بِالنَّظَرِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ (بِلَا شَرْطِ وَاقِفٍ) أَمَّا لَوْ
جَعَلَ لَهُ الْوَاقِفُ أَنْ يُوصِيَ؛ صَحَّ إيصَاؤُهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ
لَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَشْرُوطُ فَالْأَشْبَهُ أَنَّ
لَهُ النَّصْبَ؛ لِأَصَالَةِ وِلَايَتِهِ؛ إذْ الشَّرْطُ كَالْمُؤَكِّدِ
لِمُقْتَضَى الْوَقْفِ عَلَيْهِ.
(وَلَوْ أَسْنَدَ) الْوَاقِفُ النَّظَرَ (لِاثْنَيْنِ) فَأَكْثَرَ، مِنْ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ، أَوْ جَعَلَ النَّظَرَ
الْحَاكِمُ أَوْ النَّاظِرُ الْأَصْلِيُّ إلَيْهِمَا (لَمْ يَصِحَّ
تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا) عَنْ الْآخَرِ (بِلَا شَرْط) لِأَنَّ
الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ بِوَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا وَاحِدٌ،
وَأَبَى أَحَدُهُمَا، أَوْ مَاتَ؛ أَقَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ آخَرَ.
(وَإِنْ شَرَطَ) وَاقِفٌ (النَّظَرَ لِكُلِّ مِنْهُمَا) بِأَنْ قَالَ:
جَعَلْت النَّظَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (أَوْ) جَعَلَ (التَّصَرُّفَ
لِوَاحِدٍ، أَوْ) جَعَلَ (الْيَدَ لِآخَرَ) صَحَّ (أَوْ) جَعَلَ
(عِمَارَتَهُ) أَيْ: الْوَقْفَ (لِوَاحِدٍ، وَ) جَعَلَ (تَحْصِيلَ رِيعِهِ
لِآخَرَ؛ صَحَّ) تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا. وَإِذَا مَاتَ
أَحَدُهُمَا، أَوْ أَبَى؛ لَمْ يُحْتَجْ إلَى إقَامَةِ آخَرَ، وَاسْتَقَلَّ
الْمَوْجُودُ مِنْهُمَا بِالنَّظَرِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مُسْتَغْنًى
عَنْهُ، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
(4/331)
(فَلَوْ) تَنَازَعَ نَاظِرَانِ غَيْرُ
مُسْتَقِلَّيْنِ بِالتَّصَرُّفِ فِي نَصْبِ إمَامٍ، نَصَّبَ أَحَدُهُمَا
زَيْدًا، وَالْآخَرُ عَمْرًا؛ لَمْ تَنْعَقِدْ وِلَايَةُ الْإِمَامَةِ
لِأَحَدِهِمَا، لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا. وَإِنْ اسْتَقَلَّا وَ (قُرِّرَا
فِي وَظِيفَةٍ) وَسَبَقَ نَصْبُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ؛ انْعَقَدَتْ وَ
(قُدِّمَ الْأَسْبَقُ) مِنْهُمَا دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ
لَمْ تُصَادِفْ مَحَلًّا (وَإِلَّا) بِأَنْ اتَّحَدَ وَاسْتَوَى
الْمَنْصُوبَانِ (أُقْرِعَ) بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قُرِعَ صَاحِبُهُ قُدِّمَ؛
لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ.
(وَيَتَّجِهُ) وُجُوبُ اتِّبَاعِ شَرْطِ الْوَاقِفِ فِيمَا وَظَّفَهُ
(فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاكُ) اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ (فِي) وَظِيفَةٍ
وَاحِدَةٍ، كَإِمَامَةٍ أَوْ خَطَابَةٍ وَنَحْوِهَا مِنْ (وَظَائِفِ
أَوْقَافٍ حَقِيقِيَّةٍ) كَأَوْقَافِ التُّجَّارِ وَنَحْوِهِمْ؛ كَمَا لَا
يَجُوزُ جَمْعُ شَخْصٍ وَاحِدٍ جُمْلَةً مِنْ الْوَظَائِفِ فِي وَقْفٍ،
وَيَأْتِي. (بَلْ) يَجُوزُ اشْتِرَاكُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي وَظِيفَةٍ
فِي أَوْقَافٍ صُورِيَّةٍ (كَأَوْقَافِ) الْأُمَرَاءِ وَ (الْمُلُوكِ)
فَإِنَّ أَوْقَافَهُمْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ؛ فَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ وَقْفَ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى جِهَاتِ
الْخَيْرِ نُورُ الدِّينِ الشَّهِيدُ صَاحِبُ دِمَشْقَ، ثُمَّ صَلَاحُ
الدِّينِ يُوسُفُ صَاحِبُ مِصْرَ لَمَّا اسْتَفْتَيَا ابْنَ أَبِي
عَصْرُونٍ فَأَفْتَاهُمَا بِالْجَوَازِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إرْصَادٌ
وَإِفْرَازٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى بَعْضِ مُسْتَحِقِّيهِ، لِيَصِلُوا
إلَيْهِ بِسُهُولَةٍ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ حَقِيقِيٌّ؛ إذْ مِنْ شَرْطِ
الْمَوْقُوفِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاقِفِ، وَالسُّلْطَانُ لَيْسَ
بِمَالِكٍ لِذَلِكَ. وَوَافَقَ ابْنَ أَبِي عَصْرُونٍ عَلَى فَتْوَاهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ، مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
وَحَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الْأَوْقَافُ الصُّورِيَّةُ إفْرَازًا
وَإِرْصَادًا؛ فَلِلسُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ
التَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ، أَنْ يُقِيمَ وَكِيلًا عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ
فِي ذَلِكَ بِإِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا؛ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ
وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَا رِيبَةَ فِي
صِحَّةِ تَصَرُّفِ هَذَا النَّاظِرِ الْمَنْصُوبِ وَكِيلًا عَمَّنْ لَهُ
وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ. وَهَذَا الِاتِّجَاهُ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ.
(4/332)
(وَلَا نَظَرَ لِحَاكِمٍ مَعَ نَاظِرٍ
خَاصٍّ) أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (وَ) قَالَ
فِي " الْفُرُوعِ ": (وَيَتَوَجَّهُ) عَدَمُ النَّظَرِ لِغَيْرِ النَّاظِرِ
(مَعَ حُضُورِهِ) فِي الْبَلَدِ، أَمَّا إذَا غَابَ النَّاظِرُ
(فَيُقَرَّرُ حَاكِمٌ فِي وَظِيفَةٍ خَلَتْ فِي غَيْبَتِهِ) لِمَا فِيهِ
مِنْ الْقِيَامِ بِلَفْظِ الْوَاقِفِ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَدَوَامِ
نَفْعِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ وَلَا حُجَّةَ فِي تَوْلِيَةِ
الْأَئِمَّةِ مَعَ الْبُعْدِ لِمَنْعِهِمْ غَيْرَهُمْ التَّوْلِيَةَ،
فَنَظِيرُهُ مَنْعُ الْوَاقِفِ التَّوْلِيَةَ لِغَيْبَةِ النَّاظِرِ.
(انْتَهَى) .
وَعَلَى هَذَا لَوْ وَلَّى النَّاظِرُ الْغَائِبُ إنْسَانًا، وَوَلَّى
الْحَاكِمُ آخَرَ؛ قُدِّمَ الْأَسْبَقُ تَوْلِيَةً مِنْهُمَا (لَكِنْ لَهُ)
أَيْ: الْحَاكِمِ (النَّظَرُ الْعَامُّ، فَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِ) أَيْ:
عَلَى النَّاظِرِ الْخَاصِّ (إنْ فَعَلَ مَا لَا يَسُوغُ) لَهُ فِعْلُهُ؛
لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ (وَلَهُ) أَيْ: الْحَاكِمِ (ضَمُّ أَمِينٍ) إلَى
النَّاظِرِ الْخَاصِّ (مَعَ تَفْرِيطِهِ أَوْ تُهْمَتِهِ؛ لِيَحْصُلَ)
بِالْأَمِينِ (الْمَقْصُودِ) مِنْ حِفْظِ الْوَقْفِ، وَاسْتِصْحَابِ يَدِ
مَنْ أَرَادَهُ الْوَاقِفُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ يَرْجِعُ إلَى رَأْيِ الثَّانِي، وَلَا
يَتَصَرَّفُ إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِيَحْصُلَ الْغَرَضُ مِنْ نَصْبِهِ.
وَكَذَا إذَا ضُمَّ إلَى ضَعِيفٍ قَوِيٌّ مُعَاوِنًا لَهُ، فَلَا تَزَالُ
يَدُ الْأَوَّلِ عَنْ الْمَالِ، وَلَا نَظَرِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ
النَّاظِرُ دُونَ الثَّانِي، هَذَا قِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُوصَى
لَهُ.
(وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ عَلَى نَاظِرٍ أَمِينٍ) وَلَّاهُ
الْوَاقِفُ، وَلَهُمْ مَسْأَلَتُهُ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إلَى عِلْمِهِ مِنْ
أَمْرِ وَقْفِهِمْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُهُمْ وَعِلْمُهُ فِيهِ
(وَلَهُمْ) أَيْ: أَهْلِ الْوَقْفِ (الْمُطَالَبَةُ بِانْتِسَاخِ كِتَابِ
الْوَقْفِ) . لِتَكُونَ نُسْخَتُهُ فِي أَيْدِيهِمْ وَثِيقَةً لَهُمْ.
(وَلِلنَّاظِرِ الِاسْتِدَانَةُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْوَقْفِ (بِلَا
إذْنِ حَاكِمٍ لِمَصْلَحَةٍ؛ كَشِرَاءٍ لِلْوَقْفِ نَسِيئَةً، أَوْ شِرَاءٍ
بِنَقْدٍ لَمْ يُعِنْهُ) قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَوَجَّهُ فِي
قَرْضِهِ مَالًا كَوَلِيٍّ (وَعَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى النَّاظِرِ، سَوَاءٌ
كَانَ الْحَاكِمُ أَوْ
(4/333)
غَيْرُهُ (نَصْبُ) جَابٍ (مُسْتَوْفٍ
لِلْعُمَّالِ) عَلَى الْوَقْفِ (الْمُتَفَرِّقِينَ) وَظَائِفَهُ
الْقَائِمِينَ بِهَا، وَلَهُ أَنْ يَفْرِضَ لِكُلٍّ عَلَى عَمَلِهِ مَا
يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ، فِي كُلِّ مَالٍ يَعْمَلُ فِيهِ بِمِقْدَارِ
ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ (إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ) - أَيْ:
الْمُسْتَوْفِي - أَوْ لَمْ تَتِمَّ مَصْلَحَةٌ إلَّا بِهِ، فَإِنْ لَمْ
يُحْتَجْ إلَيْهِ وَتَمَّتْ الْمَصْلَحَةُ بِدُونِهِ لِقِلَّةِ
الْأَعْمَالِ، وَمُبَاشَرَتِهِ الْحِسَابَ بِنَفْسِهِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ
نَصْبُهُ، وَلِهَذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
الْمَدِينَةِ يُبَاشِرُ الْحُكْمَ وَاسْتِيفَاءَ الْحِسَابِ بِنَفْسِهِ،
وَيُوَلِّي مَعَ الْبُعْدِ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
(وَإِذَا قَامَ الْمُسْتَوْفِي بِمَا عَلَيْهِ) مِنْ الْعَمَلِ (اسْتَحَقَّ
مَا فُرِضَ لَهُ) وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ؛ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ، وَلَمْ
يَجُزْ أَخْذُهُ.
(وَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ نَصْبُ دِيوَانٍ) يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا (لِحِسَابِ
أَمْوَالِ الْأَوْقَافِ)
عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ
؛ كَمَا لَهُ نَصْبُ دَوَاوِينَ لِحِسَابِ (الْأُمُورِ السُّلْطَانِيَّةِ)
كَالْفَيْءِ وَغَيْرِهِ، مِمَّا يَئُولُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ
تَرِكَاتٍ وَنَحْوِهَا.
[فَصْلٌ وَظِيفَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ]
(فَصْلٌ: وَوَظِيفَةُ نَاظِرٍ حِفْظُ وَقْفٍ، وَعِمَارَتُهُ، وَإِيجَارُهُ،
وَزَرْعُهُ، وَمُخَاصَمَةٌ فِيهِ، وَتَحْصِيلُ رِيعِهِ مِنْ أُجْرَةٍ أَوْ
زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ وَالِاجْتِهَادُ فِي تَنْمِيَتِهِ، وَصَرْفُهُ فِي
جِهَاتِهِ) بِمَا تَحْصُلُ بِهِ تَنْمِيَتُهُ (مِنْ عِمَارَةٍ،
وَإِصْلَاحٍ، وَإِعْطَاءِ مُسْتَحِقٍّ) وَتَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ؛
يُقْبَلُ قَوْلُ النَّاظِرِ الْمُتَبَرِّعِ فِي دَفْعِ الْمُسْتَحَقِّ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا؛ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا
بِبَيِّنَةٍ. قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ " وَلَا يُعْمَلُ
بِالدَّفْتَرِ الْمَمْضِيِّ الْمَعْرُوفِ فِي زَمَنِنَا بِالْمُحَاسَبَاتِ،
فِي مَنْعِ مُسْتَحَقٍّ وَنَحْوِهِ، إذَا كَانَ بِمُجَرَّدِ إمْلَاءِ
النَّاظِرِ وَالْكَاتِبِ عَلَى مَا اُعْتِيدَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ.
وَقَدْ أَفْتَى بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي عَصْرِنَا. (وَنَحْوُهُ) كَشِرَاءِ
طَعَامٍ وَشَرَابٍ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ هُوَ الَّذِي
يَلِي الْوَقْفَ، وَحِفْظُهُ وَحِفْظُ رِيعِهِ، وَتَنْفِيذُ شَرْطِ
وَاقِفِهِ، وَطَلَبُ الْحَظِّ مَطْلُوبٌ فِيهِ شَرْعًا، فَكَانَ ذَلِكَ
إلَى النَّاظِرِ.
(وَلَهُ) - أَيْ: النَّاظِرِ - (وَضْعُ يَدِهِ عَلَيْهِ) - أَيْ: الْوَقْفِ
-، وَعَلَى رِيعِهِ (وَ) لَهُ (التَّقْرِيرُ فِي وَظَائِفِهِ) ذَكَرُوهُ
فِي نَاظِرِ الْمَسْجِدِ، فَيُنَصِّبُ مَنْ يَقُومُ بِوَظَائِفِهِ، مِنْ
إمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ وَقَيِّمٍ وَغَيْرِهِمْ؛ كَمَا أَنَّ لِلنَّاظِرِ
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ نَصْبَ مَنْ يَقُومُ بِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ، مِنْ
جَابٍ وَحَافِظٍ.
قَالَهُ الْحَارِثِيُّ. وَمَتَى امْتَنَعَ مِنْ نَصْبِ
(4/334)
مَنْ يَجِبُ نَصْبُهُ؛ نَصَّبَهُ
الْحَاكِمُ؛ كَوَلِيِّ النِّكَاحِ إذَا عَضَلَ، وَإِنْ طَلَبَ عَلَى
النَّصْبِ جُعْلًا سَقَطَ حَقُّهُ، وَقَرَّرَ الْحَاكِمُ مَنْ فِيهِ
أَهْلِيَّةٌ. وَلَيْسَ لِمُتَكَلِّمٍ عَلَى وَقْفٍ، مِنْ نَاظِرٍ
وَغَيْرِهِ، تَقْرِيرُ نَفْسِهِ، أَوْ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ؛
كَوَلَدِهِ وَنَحْوِهِ، فِي شَيْءٍ مِنْ وَظَائِفِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُمْ
كَهُوَ؛ وَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ لَهُ وَلَا لَهُمْ؛ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ نَاظِرًا
أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لِوَقْفٍ، وَلَا مُبَاشِرًا فِيهِ، وَلَا أَنْ
يَتَصَرَّفَ بِغَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ، أَفْتَى بِذَلِكَ ابْنُ
النَّجَّارِ.
(وَلَا يَتَوَقَّفُ الِاسْتِحْقَاقُ) [عَلَى نَصْبِهِ]- أَيْ: النَّاظِرِ،
وَلَا الْإِمَامِ (إلَّا بِشَرْطٍ) مِنْ الْوَاقِفِ، فَإِنْ شَرَطَ
الْوَاقِفُ فِي الصَّرْفِ نَصْبَ النَّاظِرِ لِلْمُسْتَحِقِّ؛
كَالْمُدَرِّسِ وَالْمُعِيدِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ بِالْمَدْرَسَةِ مَثَلًا؛
فَلَا إشْكَالَ فِي تَوَقُّفِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى نَصْبِ النَّاظِرِ
لَهُ، عَمَلًا بِالشَّرْطِ، وَإِلَّا يَشْرِطُ الْوَاقِفُ نَصْبَ
النَّاظِرِ لِلْمُسْتَحِقِّ، بَلْ قَالَ: وَيَصْرِفُ النَّاظِرُ إلَى
مُدَرِّسٍ أَوْ مُعِيدٍ أَوْ مُتَفَقِّهَةٍ بِالْمَدْرَسَةِ؛ فَلَا
يَتَوَقَّفُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى نَصْبِ نَاظِرٍ وَلَا إمَامٍ.
(فَلَوْ انْتَصَبَ بِمَدْرَسَةٍ مُدَرِّسٌ أَوْ مُعِيدٌ وَأَذْعَنَ لَهُ)
الطَّلَبَةُ (بِالِاسْتِفَادَةِ، وَتَأَهَّلَ لِذَلِكَ؛ اسْتَحَقَّ، وَلَمْ
يُنَازَعْ) لِوُجُودِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْ
الشَّيْخِ غَيْرُ شَرْطٍ فِي جَوَازِ التَّصَدِّي لِلْإِقْرَاءِ
وَالْإِفَادَةِ، فَمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْأَهْلِيَّةَ؛ جَازَ لَهُ
ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ أَحَدٌ، وَعَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ،
وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ عِلْمٍ، وَفِي الْإِقْرَاءِ وَالْإِفْتَاءِ، خِلَافًا
لِمَا يَتَوَهَّمُهُ الْأَغْبِيَاءُ مِنْ اعْتِقَادِ كَوْنِهِمَا شَرْطًا.
قَالَ السُّيُوطِيّ فِي الْإِتْقَانِ ": وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ فِي
مُقَابَلَتِهَا إجْمَاعًا، بَلْ إنْ عَلِمَ أَهْلِيَّتَهُ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ
الْإِجَازَةُ، أَوْ عَدِمَهَا؛ حَرُمَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَادَّعَى ابْنُ
خَيْرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُلَ حَدِيثًا
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَكُنْ
لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ - وَلَوْ بِالْإِجَازَةِ - انْتَهَى.
(وَكَذَا لَوْ أَقَامَ بِهَا) أَيْ: الْمَدْرَسَةِ (طَالِبٌ مُتَفَقِّهًا)
وَلَوْ لَمْ يُنَصِّبْهُ نَاصِبٌ اسْتَحَقَّ؛ لِوُجُودِ التَّفَقُّهِ
(وَكَذَا) لَوْ شُرِطَ الصَّرْفُ الْمُطْلَقُ إلَى (إمَامِ) مَسْجِدٍ
(وَنَحْوِ مُؤَذِّنِهِ) كَقَيِّمِهِ فَأَمَّ إمَامٌ، وَرَضِيَهُ
الْجِيرَانُ أَوْ أَذَّنَ فِيهِ مُؤَذِّنٌ، أَوْ قَامَ
(4/335)
بِخِدْمَةِ الْمَسْجِدِ قَائِمٌ؛ كَانَ
مُسْتَحِقًّا؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ (وَمَعَ شَرْطِ وَاقِفٍ نَحْوِ نَاظِرٍ)
كَأَمِينٍ (وَمُدَرِّسٍ وَمُعِيدٍ وَإِمَامٍ لَمْ يَجُزْ قِيَامُ شَخْصٍ)
وَاحِدٍ بِالْوَظَائِفِ كُلِّهَا (وَلَوْ أَمْكَنَهُ جَمْعٌ بَيْنَهَا)
صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ الْكَبِيرِ خِلَافًا لِلشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ أَمْكَنَ النَّاظِرُ أَنْ يَجْمَعَ
بَيْنَ الْوَظَائِفِ لِوَاحِدٍ فَعَلَ.
(وَ) قَالَ (فِي " الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ ") وَ (لَا) يَجُوزُ
أَنْ (يَؤُمَّ) فِي الْمَسَاجِدِ السُّلْطَانِيَّةِ وَهِيَ (الْجَوَامِعُ
الْكِبَارُ إلَّا مَنْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ) لِئَلَّا
يُفْتَأَتَ عَلَيْهِ فِيمَا وُكِّلَ إلَيْهِ، وَإِنْ نَدَبَ لَهُ
إمَامَيْنِ، وَخَصَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛
جَازَ؛ كَمَا فِي تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِصَلَاةِ النَّهَارِ وَالْآخَرِ
بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يُخَصِّصْ فَهُمَا سَوَاءٌ وَأَيُّهُمَا
سَبَقَ كَانَ أَحَقَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ
الصَّلَاةِ بِقَوْمٍ آخَرِينَ وَإِنْ حَضَرَا مَعًا وَتَنَازَعَا؛ أُقْرِعَ
بَيْنَهُمَا؛ إذْ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
(وَيَسْتَنِيبُ) مَنْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ (إنْ غَابَ)
وَيَصِيرُ نَائِبُهُ أَحَقَّ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، وَإِنْ غَابَ وَلَمْ
يُقِمْ نَائِبًا؛ فَيُقَدَّمُ مَنْ رَضِيَهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ؛
لِتَعَذُّرِ إذْنِهِ (وَمَا بَنَاهُ أَهْلُ الشَّوَارِعِ وَالْقَبَائِلِ
مِنْ الْمَسَاجِدِ فَالْإِمَامَةُ لِمَنْ رَضُوهُ) لَا اعْتِرَاضَ
عَلَيْهِمْ فِي أَئِمَّةِ مَسَاجِدِهِمْ (فَإِنْ تَعَذَّرَ) اتِّفَاقُهُمْ
عَلَى وَاحِدٍ (فَلِرَئِيسِ الْقَرْيَةِ) نَصْبُ إمَامٍ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ
مَحَلُّ حَاجَةٍ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مِثْلِهِ (وَلَيْسَ لَهُمْ
بَعْدَ الرِّضَا) بِهِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ (عَزْلُهُ) عَنْ
إمَامَتِهِ؛ لِأَنَّ رِضَاهُمْ بِهِ كَالْوِلَايَةِ، فَلَمْ يَجُزْ
صَرْفُهُ (مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ) بِنَحْوِ فِسْقٍ أَوْ مَا
يَمْنَعُ الْإِمَامَةَ (لَكِنْ يَسْتَنِيبُ إنْ غَابَ) قَالَهُ فِي
الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْجِيرَانِ لَهُ
لَيْسَ وِلَايَةً، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِرِضَاهُمْ بِهِ.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رِضَاهُمْ بِهِ الرِّضَى بِنَائِبِهِ كَمَا فِي
الْوَصِيِّ بِالصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ، بِخِلَافِ مَنْ وَلَّاهُ
النَّاظِرُ أَوْ الْحَاكِمُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ صَارَ لَهُ بِالْوِلَايَةِ،
فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ (وَأَقَلُّ مَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْإِمَامِ)
الَّذِي نَصَّبَهُ جِيرَانُ الْمَسْجِدِ أَوْ رَئِيسُ الْقَرْيَةِ
(الْعَدَالَةُ) ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (وَالْقِرَاءَةُ الْوَاجِبَةُ) فِي
الصَّلَاةِ (وَالْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ) وَمَا يُعْتَبَرُ بِهَا
مِنْ صِحَّةٍ وَفَسَادٍ.
(قَالَ الْحَارِثِيُّ) : فَجُعِلَ نَصْبُ الْإِمَامِ فِي هَذَا النَّوْعِ
(4/336)
لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ أَيْ: جِيرَانِهِ
(وَالْأَصَحُّ أَنَّ لِلْإِمَامِ النَّصْبَ أَيْضًا) لِأَنَّهُ مِنْ
الْأُمُورِ الْعَامَّةِ (لَكِنْ لَا يُنَصِّبُ إلَّا بِرِضَى الْجِيرَانِ)
عِبَارَتُهُ لَا يُنَصِّبُ إلَّا مَنْ يَرْضَاهُ الْجِيرَانُ (وَكَذَا
نَاظِرٌ خَاصٌّ، فَلَا يُنَصِّبُ مَنْ لَا يَرْضَوْنَهُ) أَيْ:
الْجِيرَانُ؛ لِمَا فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ
صَلَاةً، مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» .
وَذُكِرَ بَقِيَّةُ الْخَبَرِ، وَقَالَ الْحَارِثِيُّ أَيْضًا مَا
مَعْنَاهُ: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ مَعَ وُجُودِ
إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ نَصْبُ نَاظِرٍ فِي مَصَالِحِهِ وَوَقْفِهِ كَمَا
فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْقَاضِي كَالْقُرَى
الصِّغَارِ وَالْأَمَاكِنِ النَّائِيَةِ، أَوْ وُجِدَ وَكَانَ غَيْرَ
مَأْمُونٍ أَوْ وُجِدَ وَهُوَ مَأْمُونٌ، لَكِنَّهُ يُنَصِّبُ غَيْرَ
مَأْمُونٍ؛ فَلِأَهْلِهِ النَّصْبُ؛ تَحْصِيلًا لِلْغَرَضِ، وَدَفْعًا
لِلْمَفْسَدَةِ، وَكَذَا مَا عَدَا الْمَسْجِدَ مِنْ الْأَوْقَافِ
لِأَهْلِهِ نَصْبُ نَاظِرٍ فِيهِ كَذَلِكَ؛ أَيْ: لِعَدَمِ وُجُودِ
الْقَاضِي الْمَأْمُونِ نَاصِبًا لِمَأْمُونٍ. قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ":
(وَيَجِبُ أَنْ يُوَلَّى فِي الْوَظَائِفِ وَإِمَامَةِ الْمَسَاجِدِ
الْأَحَقُّ شَرْعًا) وَأَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ
وَاجِبٍ.
وَقَالَ فِي " الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ ": الْإِمَامَةُ بِالنَّاسِ
طَرِيقُهَا الْأَوْلَى لَا الْوُجُوبُ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ
وَالنِّقَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَاضَى النَّاسُ بِإِمَامٍ يُصَلِّي
لَهُمْ صَحَّ (وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُوَلُّوا عَلَيْهِمْ الْفُسَّاقُ)
سَوَاءٌ كَانَتْ الْوِلَايَةُ خَاصَّةً أَوْ عَامَّةً قَالَ فِي "
الْمُبْدِعِ ": وَالْحَاصِلُ إنْ كَانَ النَّظَرُ لِغَيْرِ مَوْقُوفٍ
عَلَيْهِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ نَاظِرٍ فَلَا بُدَّ
فِيهِ مِنْ شَرْطِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ [مِنْ]
وَاقِفٍ وَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ عَدْلٌ فَفَسَقَ؛ صَحَّ، وَضُمَّ إلَيْهِ
أَمِينٌ (وَمَنْ قُرِّرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (بِوَظِيفَةٍ عَلَى
وَفْقِ الشَّرْعِ حَرُمَ) عَلَى نَاظِرٍ وَغَيْرِهِ (صَرْفُهُ عَنْهَا
بِلَا مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ) يَقْتَضِي ذَلِكَ كَتَعْطِيلِهِ الْقِيَامَ بِهَا
وَفِسْقٍ يُنَافِيهَا، وَلَهُ الِاسْتِنَابَةُ وَلَوْ عَيَّنَهُ وَاقِفٌ
(وَمَنْ لَمْ يُقَمْ بِوَظِيفَةِ بَدَلٍ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ؛
أَيْ: غَيَّرَهُ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ (بِمَنْ يَقُومُ بِهَا) تَحْصِيلًا
لِغَرَضِ الْوَاقِفِ (إنْ لَمْ يَتُبْ وَيَلْتَزِمْ
(4/337)
الْوَاجِبَ) قُبِلَ صَرْفُهُ.
قَالَ فِي " النُّكَتِ ": وَلَوْ عُزِلَ مِنْ وَظِيفَةٍ لِلْفِسْقِ، ثُمَّ
تَابَ لَمْ يَعُدْ إلَيْهَا. انْتَهَى.
وَإِنْ قَصَّرَ فَتَرَكَ بَعْضَ الْعَمَلِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَا قَابَلَهُ،
وَإِنْ زَادَ عَلَى الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا عَلَى
الزِّيَادَةِ
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: (مَنْ وَقَفَ) وَقْفًا (عَلَى
مُدَرِّسٍ وَفُقَهَاءَ فَلِنَاظِرٍ ثُمَّ حَاكِمٍ تَقْدِيرُ
أَعْطِيَتِهِمْ) [فَلَوْ زَادَ النَّمَاءُ فَهُوَ لَهُمْ] وَلَيْسَ
تَقْدِيرُ النَّاظِرِ أَمْرًا حَتْمًا كَتَقْدِيرِ الْحَاكِمِ بِحَيْثُ لَا
يَجُوزُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ زِيَادَتُهُ وَنَقْصُهُ لِمَصْلَحَةٍ،
وَقَرِيبٌ مِنْهُ تَغْيِيرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَنَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ؛
لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ
مِنْ نَقْضِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ عَمَلٍ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي
لِتَغَيُّرِ السَّبَبِ، وَإِنْ قِيلَ إنَّ الْمُدَرِّسَ لَا يُزَادُ وَلَا
يَنْقُصُ بِزِيَادَةِ النَّمَاءِ وَنَقْصِهِ لِلْمَصْلَحَةِ كَانَ
بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَهُمْ (وَالْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ مُدَرِّسٍ أَوْ
غَيْرِهِ بَاطِلٌ لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا يُعْتَدُّ بِهِ قَالَ بِهِ) وَلَا
بِمَا يُشْبِهُهُ.
(وَلَوْ نَفَّذَهُ حَاكِمٌ) . وَبُطْلَانُهُ لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْطَ
وَالْعُرْفَ أَيْضًا (لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّذَ)
الْحَاكِمُ (حُكْمَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ) لِلْحُكْمِ كَالْمُجْتَهِدِ؛
لِأَنَّهُ (لِحُكْمِهِ مَسَاغٌ، وَالضَّرُورَةُ وَإِنْ أَلْجَأَتْ إلَى
تَنْفِيذِ حُكْمِ الْمُقَلِّدِ، فَإِنَّمَا هُوَ) أَيْ: التَّنْفِيذُ
يَسُوغُ (إذَا وَقَفَ) الْمُقَلِّدُ (عَلَى حَدِّ التَّقْلِيدِ) وَلَمْ
يَتَجَاسَرْ عَلَى قَضِيَّةٍ لَوْ نَزَلَتْ عَلَى عُمَرَ لَجَمَعَ لَهَا
أَهْلَ الشُّورَى (وَ) إنَّمَا كَانَ الْحُكْمُ بِالتَّقْدِيمِ بَاطِلًا
(لِأَنَّهُ حُكْمٌ) عَلَى مَا سَيُوجَدُ؛ فَهُوَ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ (فِي
غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَةٍ) فُوِّضَ إلَيْهِ (الْحُكْمُ) بِهَا فَلَا
يَنْفُذُ حُكْمُهُ (وَلِأَنَّ النَّمَاءَ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا
قُدِّمَ الْقَيِّمُ وَنَحْوُ إمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ
أُجْرَةُ عَمَلِهِ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ أَخْذُهُ فَوْقَ أُجْرَةِ مِثْلِهِ
بِلَا شَرْطٍ، بِخِلَافِ مُدَرِّسٍ وَمُعِيدٍ وَفُقَهَاءَ) أَيْ:
مُتَفَقِّهَةٍ (فَإِنَّهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا كَانَ
الْقِيَاسُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمْ) .
قَالَ فِي " الْفَائِقِ ": وَلَوْ شُرِطَ عَلَى مُدَرِّسٍ أَوْ فُقَهَاءَ
وَإِمَامٍ؛ فَلِكُلِّ جِهَةٍ الثُّلُثُ أَيْ: (وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي
الْمَنْفَعَةِ كَالْجَيْشِ) فَإِنَّ فِيهِ الْمُقَاتِلَةَ وَغَيْرَهُمْ
مَعَ أَنَّهُمْ (فِي الْمَغْنَمِ) سَوَاءٌ (لَكِنْ دَلَّ الْعُرْفُ عَلَى
التَّفْضِيلِ) .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا (لَوْ عَطَّلَ مُغِلٌّ) وَقْفَ
(مَسْجِدٍ سَنَةً، قُسِّطَتْ أُجْرَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ عَلَيْهَا) أَيْ:
عَلَى السَّنَةِ الَّتِي تَعَطَّلَ مُغِلُّهَا (وَعَلَى)
(4/338)
السَّنَةِ (الْمَاضِيَةِ) الَّتِي لَمْ
يَتَعَطَّلْ مُغِلُّهَا لِتَقْوِيمِ الْوَظِيفَةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ
مِنْ التَّعْطِيلِ، وَلَا يُنْقِصُ الْإِمَامُ بِسَبَبِ تَعَطُّلِ
الزَّرْعِ بَعْضَ الْعَامِ (وَ) قَالَ (فِي " الْفُرُوعِ ") فَقَدْ
أَدْخَلَ يَعْنِي الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ مُغِلَّ سَنَةٍ فِي سَنَةٍ،
وَقَدْ (أَفْتَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَّا) ؛ أَيْ: الْحَنَابِلَةِ (فِي
زَمَانِنَا فِيمَا نَقَصَ عَمَّا قَدَّرَهُ الْوَاقِفُ كُلَّ شَهْرٍ
أَنَّهُ يُتَمِّمُ مَا بَعْدَهُ) وَحَكَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْدَ سِنِينَ
انْتَهَى.
وَفِي فَتَاوَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ: إذَا وَقَفَ عَلَى مَصَالِحِ
الْحَرَمِ وَعِمَارَتِهِ؛ فَالْقَائِمُونَ بِالْوَظَائِفِ الَّتِي
يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمَسْجِدُ مِنْ التَّنْظِيفِ وَالْحِفْظِ وَالْفَرْشِ
وَفَتْحِ الْأَبْوَابِ وَإِغْلَاقِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجُوزُ الصَّرْفُ
إلَيْهِمْ (وَمَا يَأْخُذُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الْوَقْفِ فَكَرِزْقٍ مِنْ
بَيْتِ الْمَالِ) وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ رِزْقٌ
(لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِلْمِ، لَا كَجُعْلٍ، أَوْ) ؛ أَيْ:
(لَا) كَ (أُجْرَةٍ) عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ. اخْتَارَهُ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " التَّنْقِيحِ "
وَلِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا
أَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَنْعِ مِنْ الْأُجْرَةِ عَلَى نَوْعِ الْقُرْبِ لَا
يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِ الْمَشْرُوطِ فِي الْوَقْفِ. قَالَهُ الْحَارِثِيُّ
فِي النَّاظِرِ (وَكَذَا مَا وُقِفَ عَلَى أَعْمَالِ بِرٍّ وَمُوصًى بِهِ
وَمَنْذُورٌ لَهُ) لَيْسَ كَالْأُجْرَةِ وَالْجُعْلِ انْتَهَى.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ: وَلَا يُقَالُ إنَّ مِنْهُ مَا يُؤْخَذُ
أُجْرَةٌ عَنْ عَمَلٍ كَالتَّدْرِيسِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ
أَوَّلًا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ أُجْرَةٌ مَحْضَةٌ، بَلْ هُوَ رِزْقٌ
وَإِعَانَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ
لِمَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي " شَرْحِ الْمُنْتَهَى "
قُلْت: وَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ
بِشَرْطٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ انْتَهَى. وَهَذَا فِي الْأَوْقَافِ
الْحَقِيقِيَّةِ، وَأَمَّا الْأَوْقَافُ الَّتِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
كَأَوْقَافِ الْأُمَرَاءِ أَوْ الْمُلُوكِ فَلَيْسَتْ بِأَوْقَافٍ
حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هِيَ أَوْقَافٌ بِالصُّورَةِ، فَكُلُّ مَنْ لَهُ
الْأَكْلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهَا - وَإِنْ لَمْ
يُبَاشِرْ الْمَشْرُوطَ - كَمَا أَفْتَى بِهِ صَاحِبُ " الْمُنْتَهَى "
مُوَافَقَةً لِلشَّيْخِ الرَّمْلِيِّ وَغَيْرِهِ فِي وَقْفِ جَامِعِ
طُولُونَ وَنَحْوِهِ.
وَفِي " الْيَنْبُوعِ لِلسُّيُوطِيِّ " فَرْعٌ ": نَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ
أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ فِي الْوَظَائِفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَوْقَافِ
الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ كُلِّهَا، إنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ مِنْ
(4/339)
بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ تَرْجِعُ إلَيْهِ؛
فَيَجُوزُ لِمَنْ كَانَ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ عَالِمٍ لِلْعُلُومِ
الشَّرْعِيَّةِ وَطَالِبِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ، وَصُوفِيٍّ عَلَى طَرِيقَةِ
الصُّوفِيَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا وَقَفُوهُ
غَيْرِ مُتَقَيِّدٍ بِمَا شَرَطُوهُ، وَيَجُوزُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
الِاسْتِنَابَةُ لِعُذْرٍ وَغَيْرِهِ، وَيَتَنَاوَلُ الْمَعْلُومَ وَإِنْ
لَمْ يُبَاشِرْ، وَلَا اسْتَنَابَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ
الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لَمْ يَحِلَّ الْأَكْلِ مِنْ هَذَا
الْوَقْفِ - وَلَوْ قَرَّرَهُ النَّاظِرُ وَبَاشَرَ الْوَظِيفَةَ - لِأَنَّ
هَذَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ
بِجُعْلِ أَحَدٍ انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا (مَنْ أَكَلَ الْمَالَ
بِالْبَاطِلِ، قُوِّمَ لَهُمْ رَوَاتِبُ أَضْعَافُ حَاجَاتِهِمْ) أَيْ:
مِنْ بَيْتِ الْمَالِ (وَقُوِّمَ لَهُمْ جِهَاتٌ مَعْلُومُهَا كَثِيرٌ
يَأْخُذُونَهُ وَيَسْتَنِيبُونَ) فِي الْجِهَاتِ (بِيَسِيرٍ) مِنْ
الْمَعْلُومِ؛ لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ غَرَضِ الْوَاقِفِينَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (وَالنِّيَابَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ
الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَةِ) مِنْ تَدْرِيسٍ وَإِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ
وَأَذَانٍ وَغَلْقِ بَابٍ وَنَحْوِهَا (جَائِزَةٌ وَلَوْ عَيَّنَهُ
الْوَاقِفُ) وَفِي عِبَارَةٍ أُخْرَى لَهُ: وَلَوْ نَهَى الْوَاقِفُ عَنْهُ
(إذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْلَ مُسْتَنِيبِهِ) فِي كَوْنِهِ أَهْلًا لِمَا
اُسْتُنِيبَ فِيهِ (وَلَا مَفْسَدَةَ) رَاجِحَةٌ انْتَهَى. وَجَوَازُ
الِاسْتِنَابَةِ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ كَالْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَةِ
فِي الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ كَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ
وَبِنَاءِ الْحَائِطِ.
[فَصْلٌ أَجَرَ النَّاظِرُ الْوَقْفِ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ بِأَنْقَصَ
مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ]
(فَصْلٌ: وَلَوْ أَجَرَ نَاظِرُ الْوَقْفِ) الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ
(بِأَنْقَصَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلٍ صَحَّ) عَقْدُ الْإِجَارَةِ (وَضَمِنَ)
النَّاظِرُ (نَقْصًا لَا يَتَغَابَنُ بِهِ) فِي الْعَادَةِ إنْ كَانَ
الْمُسْتَحِقُّ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ عَلَى
وَجْهِ الْحَظِّ، فَضَمِنَ مَا نَقَصَهُ بِعَقْدِهِ كَالْوَكِيلِ إذَا
بَاعَ أَوْ أَجَرَ بِدُونِ ثَمَنٍ أَوْ أَجْرِ الْمِثْلِ.
(وَلَا تُفْسَخُ) الْإِجَارَةُ حَيْثُ صَحَّتْ (لَوْ طُلِبَ) الْوَقْفُ
(بِزِيَادَةٍ) عَنْ الْأُجْرَةِ الْأُولَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا
ضَرَرٌ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ.
قَالَ " الْمُنَقَّحُ " (وَمَنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى) لِنَفْسِهِ (فِيمَا
هُوَ وَقْفٌ عَلَيْهِ وَحْدَهُ فَهُوَ) أَيْ: الْغِرَاسُ أَوْ الْبِنَاءُ
لَهُ، أَيْ: الْغَارِسِ أَوْ الْبَانِي (مُحْتَرَمٌ) لِأَنَّهُ وَضَعَهُ
بِحَقٍّ.
قَالَ فِي
(4/340)
شَرْحِ الْإِقْنَاعِ ": (فَلَوْ مَاتَ،
وَانْتَقَلَ الْوَقْفُ لِغَيْرِهِ) فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَغَرْسٍ
وَبِنَاءٍ مُسْتَأْجَرٍ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ [ (وَإِنْ كَانَ) الْغَارِسُ
أَوْ الْبَانِي (شَرِيكًا) فِي الْوَقْفِ؛ بِأَنْ كَانَ عَلَى جَمَاعَةٍ،
فَغَرَسَ] فِيهِ أَحَدُهُمْ، أَوْ بَنَى، فَغَرْسُهُ وَبِنَاؤُهُ لَهُ،
غَيْرُ مُحْتَرَمٍ فَيُقْلَعُ (أَوْ) كَانَ (لَهُ النَّظَرُ فَقَطْ) دُونَ
الِاسْتِحْقَاقِ وَغَرَسَ أَوْ بَنَى فِي الْوَقْفِ فَغَرْسُهُ أَوْ
بِنَاؤُهُ (غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، فَيُقْلَعُ) وَلَيْسَ لَهُ إبْقَاؤُهُ
بِغَيْرِ رِضَا أَهْلِ الْوَقْفِ (إنْ أَشْهَدَ، وَيَتَوَجَّهُ) إنْ غَرَسَ
أَوْ بَنَى [مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَوْ نَاظِرُ وَقْفٍ (أَنَّ لَهُ إنْ
أَشْهَدَ) أَنَّهُ غَرَسَهُ أَوْ بَنَاهُ] لَهُ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ
يُشْهِدْ أَنَّهُ لَهُ فَغَرْسُهُ وَبِنَاؤُهُ (لِلْوَقْفِ) تَبَعًا
لِلْأَرْضِ.
(وَلَوْ غَرَسَهُ) النَّاظِرُ أَوْ بَنَاهُ (لِلْوَقْفِ أَوْ مِنْ مَالِ
الْوَقْفِ، فَهُوَ وَقْفٌ، وَيَتَوَجَّهُ فِي غَرْسِ أَجْنَبِيٍّ)
وَمِثْلُهُ بِنَاؤُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ النَّاظِرِ
وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (أَنَّهُ لِلْوَقْفِ بِنِيَّتِهِ) انْتَهَى.
وَالتَّوْجِيهَانِ لِصَاحِبِ " الْفُرُوعِ ".
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَدُ الْوَقْفِ ثَابِتَةٌ عَلَى
الْمُتَّصِلِ بِهِ، مَا لَمْ تَأْتِ حُجَّةٌ تَدْفَعُ مُوجِبَهَا
كَمَعْرِفَةِ كَوْنِ الْغَارِسِ غَرَسَهَا لَهُ بِحُكْمِ إجَارَةٍ أَوْ
إعَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ، وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ،
فَلَيْسَ لَهُ دَعْوَى الْبِنَاءِ بِلَا حُجَّةٍ.
وَيَدُ أَهْلِ عَرْصَةٍ مُشْتَرَكَةٍ ثَابِتَةٍ عَلَى مَا فِيهَا بِحُكْمِ
الِاشْتِرَاكِ، إلَّا مَعَ بَيِّنَةٍ بِاخْتِصَاصِهِ بِبِنَاءٍ وَنَحْوِهِ
(وَيُنْفِقُ) النَّاظِرُ (عَلَى) مَوْقُوفٍ (ذِي رُوحٍ) كَالرَّقِيقِ
وَالْخَيْلِ (مِمَّا عَيَّنَ وَاقِفٌ) الْإِنْفَاقَ مِنْهُ رُجُوعًا إلَى
شَرْطِ الْوَاقِفِ (فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ) الْوَاقِفُ مَحَلًّا
لِلنَّفَقَةِ؛ فَنَفَقَتُهُ (مِنْ غَلَّتِهِ) لِأَنَّ الْوَقْفَ اقْتَضَى
تَحْبِيسَ أَصْلِهِ وَتَسْبِيلَ مَنْفَعَتِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا
بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَتِهِ (فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ) لَهُ غَلَّةٌ لِضَعْفِهِ وَنَحْوِهِ؛ فَنَفَقَتُهُ (عَلَى
مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ مُعَيَّنٍ) لِأَنَّهُ مِلْكُهُ (فَإِنْ تَعَذَّرَ)
الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ أَوْ
غَيْبَتِهِ وَنَحْوِهِمَا (بِيعَ) الْمَوْقُوفُ (وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي
مِثْلِهِ) لَكِنَّ غَيْرَ ذِي رُوحٍ (يَكُونُ وَقْفًا) لِمَحَلِّ
الضَّرُورَةِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ إيجَارُهُ (فَإِنْ أَمْكَنَ إيجَارُهُ
كَعَبْدٍ أَوْ فَرَسٍ، أُوجِرَ) مُدَّةً (بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ)
لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْبَيْعِ بِذَلِكَ
(وَنَفَقَةُ مَا) أَيْ: حَيَوَانٍ (عَلَى
(4/341)
غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَفُقَرَاءَ وَمَسْجِدٍ،
مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ هُنَا مِنْ الْمَصَالِحِ
(فَإِنْ تَعَذَّرَ) الْأَخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ (بِيعَ) الْمَوْقُوفُ،
وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي عَيْنٍ أُخْرَى (كَمَا تَقَدَّمَ) فِيمَا إذَا كَانَ
عَلَى مُعَيَّنٍ، وَتَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ.
وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ فَمُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ عَلَى مَنْ
تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ.
(وَإِنْ كَانَ) الْمَوْقُوفُ (عَقَارًا) وَاحْتَاجَ لِعِمَارَةٍ (لَمْ
تَجِبْ عِمَارَتُهُ) عَلَى أَحَدٍ (مُطْلَقًا) سَوَاءٌ كَانَ عَلَى
مُعَيَّنٍ أَوْ لَا (بِلَا شَرْطٍ) مِنْ وَاقِفِهِ (كَالطِّلْقِ) ذَكَرَهُ
الْحَارِثِيُّ وَغَيْرُهُ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدُ فِي عِمَارَةِ
الْوَقْفِ: تَجِبُ إبْقَاءً لِلْأَصْلِ لِيَحْصُلَ دَوَامُ الصَّدَقَةِ،
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ: تَحْتَ عِمَارَةِ
الْوَقْفِ بِحَسَبِ الْبُطُونِ (فَإِنْ شَرَطَهَا) أَيْ: الْعِمَارَةَ
وَاقِفٌ (عُمِلَ بِهِ) أَيْ: بِالشَّرْطِ عَلَى حَسَبِ مَا شَرَطَ؛
لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ شَرْطِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَدَاءَةَ بِالْعِمَارَةِ
أَوْ تَأْخِيرَهَا، فَيُعْمَلُ بِمَا شَرَطَ، لَكِنْ إنْ شَرَطَ تَقْدِيمَ
الْجِهَةِ عُمِلَ بِهِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ: مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى التَّعْطِيلِ، فَإِذَا أَدَّى
إلَيْهِ؛ قُدِّمَتْ الْعِمَارَةُ حِفْظًا لِأَصْلِ الْوَقْفِ، وَقَالَ:
اشْتِرَاطُ الصَّرْفِ إلَى الْجِهَةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا، فِي مَعْنَى
اشْتِرَاطِ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْعِمَارَةِ، وَمَعَ الْإِطْلَاقِ تُقَدَّمُ
عَلَى أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ (وَأَمَّا نَحْوُ مَسْجِدٍ وَمَدَارِسَ)
وَزَوَايَا (فَتُقَدَّمُ عِمَارَةٌ عَلَى أَرْبَابِ وَظَائِفَ مُطْلَقًا)
سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَدَاءَةَ بِالْعِمَارَةِ أَوْ بِالْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ يَشْرُطْ شَيْئًا. قَالَ الْمُنَقِّحُ (مَا لَمْ
يُفْضِ) تَقْدِيمُ الْعِمَارَةِ (إلَى تَعْطِيلِ مَصَالِحِهِ فَيَجْمَعُ
بَيْنَهُمَا) أَيْ: بَيْنَ الْعِمَارَةِ وَأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ (حَسَبَ
الْإِمْكَانِ) لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ الْوَقْفُ أَوْ مَصَالِحُهُ.
(وَيَتَّجِهُ هَذَا) الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِمَارَةِ وَأَرْبَابِ
الْوَظَائِفِ فِيمَا إذَا اُحْتِيجَ إلَى (عِمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ،
كَحَائِطِ مَسْجِدٍ) وَمَدْرَسَةٍ (وَسَقْفِهِ) أَيْ: الْمَسْجِدِ أَوْ
الْمَدْرَسَةِ فَيُعَادُ ذَلِكَ (بِلَا تَزْوِيقٍ) بِنَقْشٍ وَصَبْغٍ
وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ
غَالِبًا؛ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَمِثْلُهُ التَّجْصِيصُ. وَقَالَ فِي
الشَّرْحِ: وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْمَسَاجِدِ وَزَخْرَفَتُهَا؛ لِمَا
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ
إلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
(4/342)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أُمِرْت
بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَأَمَّا إعَادَةُ الْحَائِطِ بِهِ؛ أَيْ: التَّزْوِيقُ (أَوْ) إعَادَةُ
(مِئْذَنَةٍ مُرْتَفِعَةٍ) انْهَدَمَتْ كُلُّهَا أَوْ غَالِبُهَا (فَلَا
يَجُوزُ) إعَادَتُهَا (مِنْ مَالِ الْوَقْفِ) إذْ الْمَنَارَةُ غَيْرُ
ضَرُورِيَّةٍ لِلْمَسْجِدِ، وَيُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا
بِالْأَذَانِ عَلَى مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ مِنْ سَطْحٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ
أَنْفَقَ عَلَى التَّزْوِيقِ أَوْ إعَادَةِ الْمَنَارَةِ مِنْ مَالِ
الْوَقْفِ، أَوْ أَنْفَقَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ (بَيْتِ مَالِ)
الْمُسْلِمِينَ؛ حَرُمَ عَلَيْهِ (وَيَضْمَنُ) بَدَلَ مَا أَنْفَقَهُ
لِلْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ
مُتَّجِهٌ.
(وَلَوْ احْتَاجَ خَانٌ) مُسَبَّلٌ أَوْ احْتَاجَتْ (دَارٌ مَوْقُوفَةٌ)
وُقِفَتْ (لِسُكْنَى نَحْوِ حَاجٍّ) كَعَابِرِي سَبِيلٍ (وَغُزَاةٍ إلَى
مَرَمَّةٍ، أُوجِرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ
ذَلِكَ الْمَوْقُوفِ جُزْءٌ (بِقَدْرِ ذَلِكَ) أَيْ: بِقَدْرِ مَا
يُحْتَاجُ إلَى مَرَمَّتِهِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ
يُؤَجِّرُ مِنْهُ ذَلِكَ جَوَازًا؛ لِأَنَّ الْعِمَارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا
بِشَرْطٍ مِنْ الْوَاقِفِ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
يُؤَجِّرَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ.
(وَيَتَّجِهُ) أَنْ يُؤَجِّرَ جُزْءًا مِنْ ذَلِكَ لِإِصْلَاحِ الْبَاقِي
(إنْ تَعَذَّرَ) الْإِنْفَاقُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ (بَيْتِ الْمَالِ) فَإِنْ
أَمْكَنَ الْإِنْفَاقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ امْتَنَعَ صِحَّةُ
(4/343)
إيجَارِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ
(وَتَسْجِيلُ كِتَابِ الْوَقْفِ مِنْهُ) كَالْعَادَةِ. ذَكَرَهُ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ.
تَتِمَّةٌ: قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَوْ عَمَّرَ وَقْفًا
بِالْمَعْرُوفِ؛ فَلَهُ أَخْذٌ مِنْ غَلَّتِهِ، وَقَالَ أَيْضًا: وَلَوْ
وَقَفَ مَسْجِدًا، أَوْ شَرَطَ إمَامًا وَسِتَّةَ قُرَّاءٍ وَقَيِّمًا
وَمُؤَذِّنًا، وَعَجَزَ الْوَقْفُ عَنْ تَكْمِيلِ حَقِّ الْجَمِيعِ، وَلَمْ
يَرْضَ الْإِمَامُ وَالْمُؤَذِّنُ وَالْقَيِّمُ إلَّا بِأَخْذِ
جَامَكِيَّةٍ مِثْلِهِمْ؛ صُرِفَ لِلْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ
جَامَكِيَّةٍ مِثْلُهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقُرَّاءِ؛ فَإِنَّ هَذَا
هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ انْتَهَى.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ الْآنَ بِتَقْدِيمِ أَرْبَابِ
الشَّعَائِرِ.
[فَصْلٌ مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ الْمَسَاكِينِ]
(فَصْلٌ: مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ) ثُمَّ الْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى
أَوْلَادِهِ ثُمَّ الْمَسَاكِينِ، أَوْ وَقَفَ عَلَى (وَلَدِ غَيْرِهِ)
أَوْ عَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهِ (ثُمَّ) عَلَى (الْمَسَاكِينِ دَخَلَ
مَوْجُودٌ) مِنْ أَوْلَادِهِ (إذَنْ) ؛ أَيْ: حَالَ الْوَقْفِ فَقَطْ.
نُصَّ عَلَيْهِ.
(وَيَتَّجِهُ) دُخُولُ مَوْجُودٍ حَالَ الْوَقْفِ (وَلَوْ) كَانَ
الْمَوْجُودُ (حَمْلًا) وَلَا يَسْتَحِقُّ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ إلَّا
بَعْدَ انْفِصَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى وَلَدًا قَبْلَهُ،
فَيَسْتَحِقُّ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ، كَمُشْتَرٍ. نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ،
وَقَطَعَ بِهِ فِي " الْمُغْنِي " وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(لِأُنْثَى) مِنْ أَوْلَادِهِ وَخُنْثَى (كَذَكَرٍ) ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ
يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، كَمَا
قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، لِأَنَّهُ
جَعَلَهُ لَهُمْ،
(4/344)
وَإِطْلَاقُ التَّشْرِيكِ يَقْتَضِي
التَّسْوِيَةَ؛ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ بِشَيْءٍ. وَكَوَلَدِ الْأُمِّ
فِي الْمِيرَاثِ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ الْمَنْفِيُّ بِلِعَانٍ؛
لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ كَوَلَدِ زِنًا؛ ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِيغَةِ
الْوَلَدِ أَوْ الْأَوْلَادِ فِي اسْتِقْلَالِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ فِي
الْوَقْفِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ عِلْمَ
الْوَاقِفِ بِوُجُودِ مَا دُونَ الْجَمْعِ دَلِيلُ إرَادَتِهِ مِنْ
الصِّيغَةِ، وَ (لَا) يَدْخُلُ وَلَدٌ (حَادِثٌ) لِلْوَاقِفِ؛ بِأَنْ
حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ بَعْدَ صُدُورِ الْوَقْفِ مِنْهُ. قَدَّمَهُ فِي "
الرِّعَايَتَيْنِ " وَ " الْحَاوِي الصَّغِيرِ " وَالنَّظْمِ " وَقَطَعَ
بِهِ فِي " التَّنْقِيحِ " وَتَبِعَهُ فِي الْمُنْتَهَى ". (خِلَافًا لَهُ)
- أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ "؛ - فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ حَدَثَ
لِلْوَاقِفِ وَلَدٌ بَعْدَ وَقْفِهِ؛ اسْتَحَقَّ كَالْمَوْجُودِينَ.
وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ. وَمَحَلُّ ذَلِكَ (مَا لَمْ
يَقُلْ) الْوَاقِفُ: وَقَفْت كَذَا عَلَى وَلَدِي (وَمَنْ يُولَدُ لِي)
فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ، دَخَلَ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْوَقْفِ،
وَمَنْ يَحْدُثُ بَعْدَهُ، (وَ) دَخَلَ أَيْضًا فِي الْوَقْفِ عَلَى
وَلَدِهِ، أَوْ أَوْلَادِهِ، أَوْ أَوْ وَلَدِ غَيْرِهِ، أَوْ أَوْلَادِهِ.
(وَلَدُ) بَنِيهِ (الْمَوْجُودِينَ تَبَعًا) سَوَاءٌ (وُجِدُوا) - أَيْ:
وَلَدُ الْبَنِينَ - (حَالَةَ وَقْفٍ أَوْ لَا كَوَصِيَّتِهِ) لِوَلَدِ
فُلَانٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُهُ الْمَوْجُودُونَ حَالَ
الْوَصِيَّةِ، وَأَوْلَادُ بَنِيهِ، وُجِدُوا حَالَ الْوَصِيَّةِ أَوْ
بَعْدَهَا، قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، لَا مَنْ وُجِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ، مَا
لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ. (لَكِنْ لَا يَدْخُلُ
وَلَدُ بَنَاتٍ) فِي الْوَقْفِ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا
يُنْسَبُونَ إلَيْهِ، بَلْ إلَى آبَائِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] . قَالَ
الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي
(4/345)
عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ
وَقَفَ ضَيْعَةً عَلَى وَلَدِهِ، فَمَاتَ الْأَوْلَادُ وَتَرَكُوا
النِّسْوَةَ حَوَامِلَ؟ فَقَالَ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ
الذُّكُورِ بَنَاتٍ كُنَّ أَوْ بَنِينَ؛ فَالضَّيْعَةُ مَوْقُوفَةٌ
عَلَيْهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ
شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] . دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ
الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا؛ وَلِمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ
وَلَدٌ} [النساء: 11] تَنَاوَلَ وَلَدَ الْبَنِينَ، فَالْمُطْلَقُ مِنْ
كَلَامِ الْآدَمِيِّ إذَا خَلَا عَنْ قَرِينَةٍ؛ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ
عَلَى الْمُطْلَقِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُفَسَّرُ بِمَا
يُفَسَّرُ بِهِ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ وَلَدٌ، بِدَلِيلِ قَوْله
تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 27] وَ {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}
[البقرة: 40] .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارْمُوا بَنِي
إسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» وَقَالُوا: " نَحْنُ بَنُو
النَّضْرِ بَنُو كِنَانَةَ "، وَالْقَبَائِلُ كُلُّهَا تُنْسَبُ إلَى
جُدُودِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ - وَهُمْ
قَبِيلَةٌ - دَخَلَ فِيهِ وَلَدُ الْبَنِينَ، فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ
يَكُونُوا قَبِيلَةً؛ وَإِنَّمَا يُسَمَّى وَلَدُ الْوَلَدِ وَلَدًا
مَجَازًا، وَلِهَذَا يَصِحُّ نَفْيُهُ، فَيُقَالُ: مَا هَذَا وَلَدِي،
فَأَمَّا وَلَدُ الْبَنَاتِ فَلَا يَدْخُلُونَ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] قَالَ الشَّاعِرُ:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ
الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
(وَيَسْتَحِقُّونَهُ) ؛ أَيْ: يَسْتَحِقُّ أَوْلَادُ الْبَنِينَ الْوَقْفَ
(مُرَتَّبًا) بَعْدَ آبَائِهِمْ.
(وَإِنْ سَفَلُوا) لَكِنْ يَحْجُبُ أَعْلَاهُمْ أَسْفَلَهُمْ (كَقَوْلِهِ)
وَقَفْته عَلَى أَوْلَادِي (بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ أَوْ نَسْلًا بَعْدَ
نَسْلٍ أَوْ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ أَوْ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ أَوْ
الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، أَوْ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، أَوْ قَرْنًا
بَعْدَ قَرْنٍ وَنَحْوِهِ) مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ، مَا لَمْ
يَكُونُوا قَبِيلَةً كَوَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، أَوْ يَأْتِي
بِمَا يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ كَعَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِهِمْ، فَلَا
تَرْتِيبَ.
وَإِنْ قَالَ وَقَفْت (عَلَى وَلَدِي
(4/346)
وَوَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي شَمِلَ) قَوْلُهُ
(فَوْقَ ثَلَاثَةِ بُطُونٍ) لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ
الِابْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ (خِلَافًا لَهُ) ؛ أَيْ: لِصَاحِبِ "
الْإِقْنَاعِ " فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ قَالَ وَقَفْت عَلَى وَلَدِي
وَوَلَدِ [وَلَدِ وَلَدِي] دَخَلَ ثَلَاثَةُ بُطُونٍ، دُونَ مَنْ
بَعْدَهُمْ، وَالْمَذْهَبُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ.
(وَ) إنْ قَالَ: وَقَفْتُ (عَلَى وَلَدِي ثُمَّ وَلَدِ وَلَدِي ثُمَّ
الْفُقَرَاءِ؛ شَمِلَ) قَوْلُهُ الْبَطْنَ الثَّالِثَ (وَ) شَمِلَ (مَنْ
بَعْدَهُ) لِتَنَاوُلِ الْوَلَدِ أَوْلَادَ الِابْنِ، (خِلَافًا "
لِلْمُبْدِعِ ") فَإِنَّهُ قَالَ مَسْأَلَةٌ إذَا قَالَ عَلَى وَلَدِي
ثُمَّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِي ثُمَّ الْفُقَرَاءِ؛ لَمْ يَشْمَلْ الْبَطْنَ
الثَّالِثَ وَمَنْ بَعْدَهُ فِي الْأَشْهَرِ، كَذَا قَالَ، وَالْمَذْهَبُ
خِلَافُهُ.
وَإِنْ قَالَ: وَقَفْتُ (عَلَى وَلَدِي لِصُلْبِي) لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُ
وَلَدٍ (أَوْ) قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى (أَوْلَادِي الَّذِينَ يَلُونِي)
اُخْتُصَّ بِهِمْ (وَلَمْ يَدْخُلْ وَلَدُ وَلَدٍ) مَعَهُمْ، وَإِنْ وَقَفَ
(عَلَى عَقِبِهِ أَوْ) وَقَفَ عَلَى (نَسْلِهِ أَوْ) وَقَفَ عَلَى (وَلَدِ
وَلَدِهِ أَوْ) وَقَفَ عَلَى (ذُرِّيَّتِهِ؛ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ وَلَدُ
بَنَاتِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الْوَقْفِ) كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى
مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ (إلَّا بِقَرِينَةٍ) كَقَوْلِهِ (مَنْ مَاتَ) عَنْ
وَلَدٍ (فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ أَوْ لِوَلَدِ الْأُنْثَى سَهْمٌ
وَالذَّكَرِ سَهْمَانِ) أَوْ وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ
وَفُلَانَةَ، ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ.
وَأَصْلُ النَّسْلِ مِنْ النُّسَالَةِ هِيَ شَعْرُ الدَّابَّةِ إذَا سَقَطَ
عَنْ جَسَدِهَا.
وَالذُّرِّيَّةُ مِنْ ذَرَأَ إذَا زَرَعَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
شَقَقْتُ الْأَرْضَ ثُمَّ ذَرَأْت فِيهِ
أَوْ مِنْ ذَرَّ إذَا طَلَعَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ذَرَّ قَرْنُ
الشَّهْرِ. (أَوْ قَالَ: فَإِذَا خَلَتْ الْأَرْضُ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ
إلَيَّ مِنْ قِبَلِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ، أَوْ قَالَ عَلَى الْبَطْنِ
الْأَوَّلِ مِنْ أَوْلَادِي) ثُمَّ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ
وَأَوْلَادِهِمْ (وَالْبَطْنُ الْأَوَّلُ بَنَاتٌ) وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا
يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ؛ فَيَدْخُلُونَ بِلَا خِلَافٍ.
(أَوْ قَالَ الْهَاشِمِيُّ عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِهِمْ
الْهَاشِمِيِّينَ فَتَزَوَّجْنَ) أَيْ: بَنَاتُهُ (بِهَاشِمِيٍّ) دَخَلَ
أَوْلَادُهُنَّ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ، قَالَهُ الْمُوَفَّقُ. وَإِنْ
تَزَوَّجْنَ غَيْرَ هَاشِمِيٍّ؛ لَمْ يَدْخُلْ أَوْلَادُهُنَّ؛ لِعَدَمِ
وُجُودِ الْوَصْفِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الْوَاقِفُ.
(4/347)
وَمَنْ وَقَفَ (عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ
أَوْلَادِهِمْ) أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِ، أَوْ أَوْلَادِهِمْ مَا
تَنَاسَلُوا أَوْ تَعَاقَبُوا الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، أَوْ الْأَقْرَبَ
فَالْأَقْرَبَ، أَوْ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، أَوْ نَسْلًا بَعْدَ
نَسْلٍ. أَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى
أَوْلَادِ أَوْلَادِي (فَتَرْتِيبُ جُمْلَةٍ عَلَى) جُمْلَةٍ (مِثْلِهَا
لَا يَسْتَحِقُّ الْبَطْنُ الثَّانِي شَيْئًا قَبْلَ انْقِرَاضِ) الْبَطْنِ
(الْأَوَّلِ) لِأَنَّ الْوَقْفَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ فَيُتْبَعُ فِيهِ
مُقْتَضَى كَلَامِهِ، كَقَوْلِهِ: (بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ وَنَحْوِهِ)
كَقَرْنٍ بَعْدَ قَرْنٍ (فَمَتَى بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ
كَانَ الْكُلُّ لَهُ) ؛ أَيْ: لِمَنْ وُجِدَ مِنْ الْبَطْنِ الْأَعْلَى
حَيْثُ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ أَوْلَادِهِ، أَوْ ذَكَرَ مَا
يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ (وَعِنْدَ الشَّيْخِ) تَقِيِّ الدِّينِ
(الْمُرَتَّبُ بِثُمَّ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ، لَا)
تَرْتِيبِ (الْبُطُونِ) فَعَلَيْهِ (يَسْتَحِقُّ الْوَلَدُ نَصِيبَ أَبِيهِ
بَعْدَهُ، وَالْمَذْهَبُ مَا تَقَدَّمَ) .
(فَلَوْ قَالَ الْوَاقِفُ: وَمَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ
لِوَلَدِهِ) فَهُوَ دَلِيلُ تَرْتِيبٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ [لَوْ] اقْتَضَى
التَّشْرِيكَ لَاقْتَضَى التَّسْوِيَةَ، وَلَوْ جَعَلْنَا لِوَلَدِ
الْوَلَدِ سَهْمًا مِثْلَ سَهْمِ أَبِيهِ، ثُمَّ دَفَعْنَا إلَيْهِ مِثْلَ
سَهْمِ أَبِيهِ؛ صَارَ لَهُ سَهْمَانِ، وَلِغَيْرِهِ سَهْمٌ، وَهَذَا
يُنَافِي التَّسْوِيَةَ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَفْضِيلِ وَلَدِ
الِابْنِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مُرَادِ الْوَاقِفِ خِلَافُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ
التَّرْتِيبُ؛ فَإِنَّهُ تَرْتِيبٌ بَيْنَ كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ،
فَإِذَا مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِمَّنْ لَهُ
وَلَدٌ (اسْتَحَقَّ كُلُّ وَلَدٍ بَعْدَ أَبِيهِ نَصِيبَهُ الْأَصْلِيَّ
وَالْعَائِدَ إلَيْهِ) سَوَاءٌ بَقِيَ مِنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ وَاحِدٌ
أَوْ لَمْ يَبْقَ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ.
فَلَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةً، وَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ
غَيْرِ وَلَدٍ؛ فَنَصِيبُهُ لِأَخَوَيْهِ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ
وَلَدٍ كَانَ النِّصْفُ لِوَلَدِهِ، فَإِذَا مَاتَ الثَّانِي عَنْ
وَلَدَيْنِ فَأَكْثَرَ؛ فَنَصِيبُهُ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ إخْوَةٍ فَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ عَنْ وَلَدٍ؛ انْتَقَلَ
إلَيْهِ، وَيَمُوتُ الثَّانِي عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ؛ فَنَصِيبُهُ لِأَخِيهِ
الثَّالِثِ، فَإِذَا مَاتَ الْأَخُ الثَّالِثُ عَنْ وَلَدٍ؛ اسْتَحَقَّ
الْوَلَدُ جَمِيعَ مَا كَانَ فِي يَدِ أَبِيهِ مِنْ الثُّلُثِ
الْأَصْلِيِّ، وَالثُّلُثِ الْعَائِدِ إلَيْهِ مِنْ أَخِيهِ؛ لِعُمُومِ؛
فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ لِمَعْرِفَةٍ
فَيَعُمُّ (وَكَذَا) إنْ زَادَ الْوَاقِفُ فِي شَرْطِهِ (عَلَى أَنَّ مَنْ
مَاتَ عَنْ وَلَدٍ فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ) ؛ أَيْ: قَبْلَ دُخُولِهِ فِي
الْوَقْفِ
(4/348)
وَلَهُ وَلَدٌ (ثُمَّ مَاتَ الْوَالِدُ)
عَنْ أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ، وَعَنْ وَلَدِ وَلَدِهِ لِصُلْبِهِ الَّذِي
مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ (فَلَهُ) أَيْ: وَلَدِ الِابْنِ مَعَ
أَعْمَامِهِ (مَا لِأَبِيهِ لَوْ كَانَ حَيًّا) فَهَذَا صَرِيحٌ فِي
تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ، فَإِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ مُسْتَحَقِّي
الْوَقْفِ وَجُهِلَ شَرْطُ الْوَاقِفِ؛ صُرِفَ إلَى جَمِيعِ
الْمُسْتَحَقِّينَ بِالسَّوِيَّةِ. ذَكَرَهُ فِي " الِاخْتِيَارَاتِ ".
قَالَ فِي الْفُرُوعِ ": وَقَوْلُ الْوَاقِفِ مَنْ مَاتَ فَنَصِيبُهُ
لِوَلَدِهِ يَعُمُّ مَا اسْتَحَقَّهُ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مَعَ صِفَةِ
الِاسْتِحْقَاقِ؛ اسْتَحَقَّهُ أَوَّلًا؛ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ،
وَلِصِدْقِ الْإِضَافَةِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، يَعْنِي لَوْ مَاتَ
إنْسَانٌ عَنْ وَلَدِ [وَلَدٍ] قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ أَبُوهُ فِي الْوَقْفِ
الْمَشْرُوطِ فِيهِ، أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ؛
فَلِوَلَدِ الْوَلَدِ نَصِيبُ جَدِّهِ [لِأَنَّ أَبَاهُ اسْتَحَقَّهُ أَنْ
لَوْ كَانَ مَوْجُودًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: بِأَدْنَى
مُلَابَسَةٍ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ] لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلِأَنَّهُ
الْمَفْهُومُ عِنْدَ الْعَامَّةِ الشَّارِطِينَ، وَيَقْصِدُونَهُ لِأَنَّهُ
يَتِيمٌ لَمْ يَرِثْ هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ الْجَدِّ، وَلِأَنَّ فِي صُورَةِ
الِاجْتِمَاعِ يَنْتَقِلُ مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ إلَى وَلَدِهِ، لَكِنْ
هُنَا [هَلْ] يُعْتَبَرُ مَوْتُ الْوَالِدِ؟ يَتَوَجَّهُ الْخِلَافُ وَإِنْ
لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا مَا اسْتَحَقَّهُ؛ فَمَفْهُومُهُ خَرَجَ مَخْرَجَ
الْغَالِبِ، وَقَدْ تَنَاوَلَهُ الْوَقْفُ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ
أَوْلَادِهِمْ، قَالَ فَعَلَى قَوْلِ شَيْخِنَا أَيْ: الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ إنْ قَالَ: بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ وَنَحْوَهُ؛ فَتَرْتِيبُ
جُمْلَةٍ مَعَ أَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، فَإِنْ زَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ
تُوُفِّيَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فِي
حَيَاةِ وَالِدِهِ، وَلَهُ وَلَدٌ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ عَنْ أَوْلَادِهِ
لِصُلْبِهِ وَعَنْ وَلَدٍ لِوَلَدِهِ لِصُلْبِهِ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ
قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ؛ فَلَهُ مَعَهُمْ مَا لِأَبِيهِ لَوْ كَانَ حَيًّا،
فَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ انْتَهَى.
تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ صِفَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْوَقْفِ ثَلَاثَةٌ:
تَرْتِيبُ جُمْلَةٍ، وَتَرْتِيبُ أَفْرَادٍ، وَاشْتِرَاكٌ. فَتَرْتِيبُ
الْجُمْلَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ يَنْفَرِدُ
بِالْوَقْفِ كُلِّهِ عَمَّنْ بَعْدَهُ مَا دَامَ مِنْهُ وَاحِدٌ، ثُمَّ
إذَا انْقَرَضَ أَهْلُ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ كُلُّهُمْ؛ انْتَقَلَ إلَى
الثَّانِي فَقَطْ، وَمَا دَامَ مِنْ الثَّانِي وَاحِدٌ لَمْ يَنْتَقِلْ
مِنْهُ شَيْءٌ لِلثَّالِثِ، وَهَكَذَا.
(4/349)
وَتَرْتِيبُ أَفْرَادٍ: عِبَارَةٌ عَنْ
كَوْنِ الشَّخْصِ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ لَا يُشَارِكُهُ وَلَدُهُ، وَلَا
يَتَنَاوَلُ مِنْ الْوَقْفِ شَيْئًا مَا دَامَ الْأَبُ حَيًّا، فَإِذَا
مَاتَ الْأَبُ؛ انْتَقَلَ مَا بِيَدِهِ إلَى وَلَدِهِ، فَاسْتِحْقَاقُهُ
مَشْرُوطٌ بِمَوْتِ أَبِيهِ.
وَالِاشْتِرَاكُ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْمَوْجُودِينَ مِنْ
الْبُطُونِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ، بَلْ هُمْ عَلَى حَدٍّ
سَوَاءٍ، فَيُشَارِكُ الْوَلَدُ وَالِدَهُ وَكَذَا وَلَدُ الْوَلَدِ. ثُمَّ
الصِّفَةُ الْأُولَى تَحْصُلُ بِصِيَغٍ: مِنْهَا أَنْ يَقُولَ: هَذَا
وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي أَوْ وَلَدِي، أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، أَوْ
طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، أَوْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، أَوْ ثُمَّ
أَوْلَادِهِمْ.
وَتَحْصُلُ الثَّانِيَةُ بِقَوْلِهِ: مَنْ مَاتَ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ
أَوْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ؛ فَلِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَتَحْصُلُ الثَّالِثَةُ
بِالْوَاوِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:
(وَ) إنْ أَتَى الْوَاقِفُ (بِالْوَاوِ) بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي
وَأَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ وَنَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ،
كَانَ الْوَاوُ (لِلِاشْتِرَاكِ) لِأَنَّهَا لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ،
فَيَشْتَرِكُونَ فِيهِ بِلَا تَفْضِيلٍ (فَيَسْتَحِقُّ الْأَوْلَادُ مَعَ
آبَائِهِمْ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ
بِلَا قَرِينَةٍ.
وَإِنْ قَالَ الْوَاقِفُ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ
أَوْلَادِهِمْ (عَلَى أَنْ نَصِيبَ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ) فَنَصِيبُهُ
(لِوَلَدِهِ) (فَ) هُوَ (تَرْتِيبٌ بَيْنَ كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ)
فَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَلَدٍ بَعْدَ أَبِيهِ نَصِيبَهُ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ
فِي تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ.
وَلَوْ قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِي عَلَى
أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِأَهْلِ
دَرَجَتِهِ؛ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَلَدٍ نَصِيبَ أَبِيهِ بَعْدَهُ
كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عَنْ غَيْرِ
وَلَدٍ، فَهَذَا دَالٌّ عَلَى إرَادَةِ تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ.
وَإِنْ مَاتَ وَلَدٌ فَنَصِيبُهُ لَهُ (وَ) إنْ قَالَ (عَلَى أَنَّ نَصِيبَ
مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ وَالْوَقْفُ
مُرَتَّبُ) بِثُمَّ أَوْ نَحْوِهَا فَمَاتَ أَحَدُهُمْ (فَهُوَ) أَيْ:
نَصِيبُهُ (لِأَهْلِ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ) دُونَ بَقِيَّةِ
الْبُطُونِ (مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ) الْمُسْتَحِقِّينَ لَهُ دُونَ
غَيْرِهِمْ وَدُونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ مِنْ أَهْلِ الطَّبَقَةِ فِي
الْوَقْفِ؛ عَمَلًا بِسَوَابِقِ الْكَلَامِ، فَلَوْ كَانَ الْبَطْنُ
الْأَوَّلُ ثَلَاثَةً، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ
الثَّانِي عَنْ ابْنَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ، وَتَرَك
أَخَاهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَعَمَّهُ وَأَبْنَاءً لِعَمِّهِ الْحَيِّ؛ كَانَ
نَصِيبُهُ
(4/350)
لِأَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ الَّذِي مَاتَ
أَبُوهُ، دُونَ عَمِّهِ الْحَيِّ وَابْنِهِ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى
ثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِيهِ الْأَرْبَعِ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ مَنْ مَاتَ عَنْ
غَيْرِ وَلَدٍ لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ، فَمَاتَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ عَنْ
غَيْرِ وَلَدٍ؛ كَانَ نَصِيبُهُ بَيْنَ أَخَوَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ
دُونَ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، أَشْبَهَ
ابْنَ عَمِّهِمْ.
تَتِمَّةٌ: قَالَ السُّبْكِيُّ: إذَا وَقَفَ عَلَى شَخْصٍ ثُمَّ
أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ، وَشَرَطَ أَنْ مَنْ مَاتَ مِنْ بَنَاتِهِ
فَنَصِيبُهَا لِلْبَاقِينَ مِنْ إخْوَتِهَا، وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ
اسْتِحْقَاقِهِ لِشَيْءٍ وَلَهُ وَلَدٌ؛ اسْتَحَقَّ وَلَدُهُ مَا كَانَ
يَسْتَحِقُّهُ الْمُتَوَفَّى [لَوْ كَانَ حَيًّا فَمَاتَ الْمَوْقُوفُ]
عَلَيْهِ وَخَلَفَ وَلَدَيْنِ وَوَلَدَ وَلَدٍ، مَاتَ أَبُوهُ فِي حَيَاةِ
وَالِدِهِ، فَأَخَذَ الْوَلَدَانِ نَصِيبَهُمَا وَهُمَا ابْنٌ وَبِنْتٌ،
وَأَخَذَ وَلَدُ الْوَلَدِ النَّصِيبَ الَّذِي لَوْ كَانَ وَالِدُهُ حَيًّا
لَأَخَذَهُ، ثُمَّ مَاتَتْ الْبِنْتُ، فَهَلْ يَخْتَصُّ أَخُوهَا الْبَاقِي
بِنَصِيبِهَا أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ ابْنُ أَخِيهِ؟ قَالَ: تَعَارَضَ
اللَّفْظَانِ الْمَذْكُورَانِ، وَنَظَرْنَا، فَرَجَّحْنَا أَنَّ
التَّنْصِيصَ عَلَى الْإِخْوَةِ وَعَلَى الْبَاقِينَ مِنْهُمْ كَالْخَاصِّ،
وَقَوْلُهُ: مَنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْعَامِّ، فَيُقَدَّمُ
الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِ؛ فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ عِنْدَنَا تَخْصِيصُ
الْأَخِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ مُحْتَمَلًا وَهُوَ مُشَارَكَةُ ابْنِ
الْأَخِ انْتَهَى
(وَكَذَا) الْحُكْمُ (إنْ كَانَ) الْوَقْفُ (مُشْتَرَكًا بَيْنَ
الْبُطُونِ) وَشَرَطَ إنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ؛ فَنَصِيبُهُ لِمَنْ
فِي دَرَجَتِهِ، فَيَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ
مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، وَلَيْسَ لِلْأَعْلَى مَعَ أَهْلِ دَرَجَةِ
الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ نَصِيبِهِ، وَإِنْ كَانُوا مُشَارِكِينَ لَهُمْ
قَبْلَ مَوْتِهِ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ مَحَلَّ كَوْنِ قَوْلِ
الْوَاقِفِ: مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِمَنْ فِي
دَرَجَتِهِ دَلِيلًا عَلَى تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ إذَا كَانَ الْوَقْفُ
غَيْرَ مُشْتَرَكٍ، بَلْ كَانَ مُرَتَّبًا تَرْتِيبَ جُمْلَةٍ عَلَى
مِثْلِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ عَلَى وَلَدِي أَوْ أَوْلَادِي أَوْ زَادَ:
ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ، أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى آخِرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا
نَصَّ عَلَى التَّشْرِيكِ أَوْ أَتَى بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَالْوَاوِ،
فَإِنَّ قَوْلَهُ حِينَئِذٍ: مَنْ جَاءَتْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ
لِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ غَيْرُ مُخْرِجٍ لَهُ إلَى تَرْتِيبِ الْأَفْرَادِ،
بَلْ مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ فَكَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَمَنْ
مَاتَ عَنْ وَلَدٍ؛
(4/351)
فَالظَّاهِرُ [أَنَّ] نَصِيبَهُ يَكُونُ
لِأَهْلِ الْوَقْفِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، فَكَمَا لَوْ
لَمْ يَذْكُرْ الشَّرْطَ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَخُصَّهُمْ
بِنَصِيبِهِ لَمْ يَكُنْ فِي اشْتِرَاطِ الْوَاقِفِ لِهَذَا الشَّرْطِ.
فَائِدَةٌ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ شَيْئًا يُفِيدُ (فَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ فِي دَرَجَتِهِ) أَيْ: دَرَجَةِ مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ
(أَحَدٌ) مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ (فَكَمَا لَوْ لَمْ يُذْكَرْ الشَّرْطُ)
[لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِيهِ (فَيَشْتَرِكُ
الْجَمِيعُ) مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ (فِي مَسْأَلَةِ الِاشْتِرَاكِ) ]
لِأَنَّ التَّشْرِيكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، وَتَخْصِيصُ بَعْضِ
الْبُطُونِ يُفْضِي إلَى عَدَمِهَا (وَيَخْتَصُّ) الْبَطْنُ (الْأَعْلَى
بِهِ) أَيْ: بِنَصِيبِ الْمُتَوَفَّى الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي دَرَجَتِهِ
أَحَدٌ (فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ) لِأَنَّ الْوَقْفَ مُرَتَّبٌ،
فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ حَيْثُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ،
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْبَطْنِ الْأَوَّلِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ:
وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي عَلَى أَنَّ نَصِيبَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لِمَنْ
فِي دَرَجَتِهِ؛ فَكَذَلِكَ نَصِيبُهُ لِأَهْلِ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ
مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
دَرَجَتِهِ أَحَدٌ اخْتَصَّ بِهِ الْأَعْلَى؛ كَمَا لَوْ لَمْ يُذْكَرْ
الشَّرْطُ، وَحَيْثُ كَانَ نَصِيبُ مَيِّتٍ لِأَهْلِ الْبَطْنِ الَّذِي
هُوَ مِنْهُمْ (فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إخْوَتُهُ) أَيْ:
الْمَيِّتِ (وَبَنُو عَمِّهِ وَبَنُو بَنِي عَمِّ أَبِيهِ وَنَحْوُهُمْ)
كَبَنِي بَنِي عَمِّ أَبِي أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي دَرَجَتِهِ فِي
الْقُرْبِ إلَى الْجَدِّ الَّذِي يَجْمَعُهُمْ، وَالْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي
التَّسْوِيَةَ، وَكَذَا إنَاثُهُمْ حَيْثُ لَا مُخَصِّصٌ لِلذُّكُورِ
(إلَّا أَنْ يَقُولَ) الْوَاقِفُ (يُقَدَّمُ) مِنْهُمْ (الْأَقْرَبُ
فَالْأَقْرَبُ إلَى الْمُتَوَفَّى وَنَحْوُهُ) كَأَنْ يَقُولُ: يُقَدَّمُ
وَلَدُ الظَّهْرِ، أَوْ يُقَدَّمُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ إخْوَتِهِ
(فَيَخْتَصُّ) نَصِيبُ الْمَيِّتِ (بِالْأَقْرَبِ) فَلَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ
شَقِيقٌ وَأَخٌ لِأَبٍ؛ فَمُقْتَضَى مَا يَأْتِي فِي الْوَصِيَّةِ
يُقَدَّمُ الشَّقِيقُ فِيمَا إذَا قَالَ: الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ،
وَبِالْأُخُوَّةِ إذَا قَالَ لِإِخْوَتِهِ عَمَلًا بِالشَّرْطِ (وَلَيْسَ
مِنْ الدَّرَجَةِ مَنْ هُوَ أَعْلَى) مِنْ الْمَيِّتِ كَعَمِّهِ (أَوْ
أَنْزَلُ) مِنْهُ كَابْنِ أَخِيهِ (وَالْحَادِثُ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ
بَعْدَ مَوْتِ الْآيِلِ نَصِيبُهُ إلَيْهِمْ كَالْمَوْجُودِينَ حِينَهُ) ؛
أَيْ: الْمَوْتِ؛ لِوُجُودِ الْوَصْفِ فِيهِ، وَالشَّرْطُ مُنْطَبِقٌ
عَلَيْهِ (وَعَلَى هَذَا) الْقَوْلِ؛ أَيْ: مُشَارَكَةُ الْحَادِثِ
لِلْمَوْجُودِينَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ،
(4/352)
وَأَفْتَى بِهِ الشَّارِحُ (لَوْ حَدَثَ
مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْ الْمَوْجُودِينَ) وَشَرْطُ الْوَاقِفِ فِي
(الْوَقْفِ مُرَتَّبٌ) بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى.
كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَمَنْ يُولَدُ لَهُ، ثُمَّ
أَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا؛ وَمَاتَ
أَوْلَادُهُ وَانْتَقَلَ الْوَقْفُ لِأَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ
وَلَدٌ (أَخَذَهُ) أَيْ: أَخَذَ الْوَلَدُ الْحَادِثُ مَا آلَ إلَى
النَّازِلِينَ عِنْدَ عَدَمِهِ؛ عَمَلًا بِالشَّرْطِ (مِنْهُمْ) ؛ أَيْ:
مِنْ أَوْلَادِ إخْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى مِنْهُمْ دَرَجَةً؛ فَلَا
يَسْتَحِقُّونَ مَعَهُ.
(وَيَتَّجِهُ وَلَا يَرْجِعُ) الْحَادِثُ عَلَى أَوْلَادِ إخْوَتِهِ بِمَا
قَبَضُوهُ فِيمَا (مَضَى) مِنْ الزَّمَانِ (مِنْ غَلَّتِهِ) أَيْ:
الْوَقْفِ (لِأَنَّهُ) أَيْ: الْمَقْبُوضَ (إنَّمَا اُسْتُحِقَّ) أَيْ:
اسْتَحَقَّهُ قَابِضُهُ وَمَالِكُهُ (بِوَضْعِ) يَدِهِ عَلَيْهِ
وَتَنَاوُلِهِ إيَّاهُ فِي مُدَّةٍ كَانَ يَسْتَحِقُّهَا فِيهَا دُونَ
غَيْرِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَ) مَنْ قَالَ: وَقَفْت (عَلَى وَلَدِي) بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ (فُلَانٍ
وَفُلَانٍ وَعَلَى وَلَدِ وَلَدِي وَ) كَانَ (لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ
كَانَ) الْوَقْفُ (عَلَى) الْوَلَدَيْنِ (الْمُسَمَّيَيْنِ وَ) عَلَى
(أَوْلَادِهِمَا وَأَوْلَادِ الثَّالِثِ) الَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ؛
لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وَلَدِي (دُونَهُ) ؛ أَيْ: الثَّالِثِ جَعْلًا
لِتَسْمِيَتِهَا بَدَلًا لِلْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ، فَاخْتَصَّ الْحُكْمُ
بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] .
وَلِأَنَّ خُلُوَّهُ عَنْ الْعَطْفِ دَلِيلُ إرَادَةِ التَّفْسِيرِ
وَالتَّبْيِينِ، بِخِلَافِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ؛ فَإِنَّهُ
يَقْتَضِي مَعْنَى التَّأْكِيدِ، فَوَجَبَ حَمْلُ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى
التَّفْسِيرِ وَالتَّبْيِينِ.
(4/353)
(وَيَتَّجِهُ) دُخُولُهُ (إنْ كَانَ وَلَدُ
الثَّالِثِ مَوْجُودًا عِنْدَ) إنْشَاءِ (وَقْفٍ) لِدُخُولِهِ حِينَئِذٍ
فِي وَلَدِ وَلَدِهِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الِاثْنَيْنِ - وَإِنْ
كَانُوا مَعْدُومِينَ - تَبَعًا، وَالثَّالِثُ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا؛ فَلَا
يَسْتَحِقُّ أَوْلَادُهُ الْمَعْدُومُونَ وَقْتَ إنْشَاءِ الْوَقْفِ،
وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ.
وَإِنْ قَالَ: وَقَفْت (عَلَى زَيْدٍ وَإِذَا انْقَرَضَ أَوْلَادُهُ
فَعَلَى الْمَسَاكِينِ كَانَ) الْوَقْفُ (بَعْدَ مَوْتِ زَيْدٍ
لِأَوْلَادِهِ) .
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّ قَوْلَهُ: لِأَوْلَادِهِ، يَشْمَلُ أَوْلَادَ
أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ (وَإِنْ نَزَلُوا) لِدَلَالَةِ قَوْلِ الْوَاقِفِ،
فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْمَسَاكِينِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ
لِتَوَقُّفِ اسْتِحْقَاقِ الْمَسَاكِينِ عَلَى انْقِرَاضِهِمْ فَائِدَةٌ
وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(4/354)
(ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ لِلْمَسَاكِينِ)
وَلَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى وَلَدِ زَيْدٍ أَوْ
أَوْلَادِهِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ وَنَحْوُهُ، إلَّا بِصَرِيحٍ؛ كَقَوْلِهِ:
عَلَى أَنَّ لِوَلَدِ الْإِنَاثِ سَهْمًا، وَلِوَلَدِ الذُّكُورِ
سَهْمَيْنِ وَنَحْوِهِ، أَوْ بِقَرِينَةٍ كَقَوْلِهِ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ
عَنْ وَلَدٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى
دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ؛ فَيَدْخُلُونَ بِلَا خِلَافٍ.
(وَ) إنْ قَالَ: وَقَفْت (عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ الذُّكُورِ
وَالْإِنَاثِ، ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ الذُّكُورِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ
فَقَطْ، ثُمَّ نَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ - الْعَقِبُ بِكَسْرِ الْقَافِ
وَسُكُونِهَا: الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ - ثُمَّ الْفُقَرَاءِ عَلَى
أَنْ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، وَتَرَكَ وَلَدًا، وَإِنْ سَفَلَ؛ فَنَصِيبُهُ
لَهُ) هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْوَاقِفِ (فَمَاتَ أَحَدُ الطَّبَقَةِ
الْأُولَى وَتَرَكَ بِنْتًا، ثُمَّ مَاتَتْ) الْبِنْتُ (عَنْ وَلَدٍ؛
فَلَهُ مَا اسْتَحَقَّتْهُ أُمُّهُ قَبْلَ مَوْتِهَا) . قَالَهُ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ
مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا الِاسْتِحْقَاقُ أَنْ
يَكُونَ الْوَلَدُ ذَكَرًا مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا
اسْتَحَقَّهُ هُنَا؛ لِقَوْلِ الْوَاقِفِ: عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ
إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا عَادَ إلَى
الْكُلِّ، فَاعْتِبَارُ الذُّكُورِ كَوْنُ الْوَلَدِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ
فِي الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ إنَّمَا هُوَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ نَصِيبَ
مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ لَا غَيْرُ. وَقَالَ فِي " تَصْحِيحِ
الْفُرُوعِ ": أَوْلَادُهَا لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ
الْوَاقِفَ لَمْ يُعْطِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ إلَّا
الْأَوْلَادَ وَأَوْلَادَ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ خَصَّ أَوْلَادَ الظَّهْرِ
بَعْدَهُمَا بِالْوَقْفِ. قَالَ: وَأَوْلَادُ هَذِهِ الْبِنْتِ لَيْسُوا
مِنْ أَوْلَادِ الظَّهْرِ، وَهِيَ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ،
وَقَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَتَرَك وَلَدًا وَإِنْ
سَفَلَ فَنَصِيبُهُ لَهُ. يَعْنِي إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ
(4/355)
الْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَأَوْلَادُهَا
لَيْسُوا مِنْهُمْ انْتَهَى، وَهَذَا الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ إلَّا أَنْ
يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ عَلَى مَا إذَا كَانَ
الْوَلَدُ مِنْ الْبِنْتِ مِنْ أَوْلَادِ الظَّهْرِ أَيْضًا بِأَنْ كَانَتْ
مُتَزَوِّجَةً بِابْنِ عَمِّهَا، فَأَتَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ؛ فَذَلِكَ
الْوَلَدُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَ أُمِّهِ؛ إذْ هُوَ ابْنُ ابْنِ ابْنٍ،
وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ ابْنُ بِنْتِ ابْنٍ، وَحِينَئِذٍ فَيُوَافِقُ مَا
فِي " تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ ".
(وَلَوْ قَالَ) وَاقِفٌ (وَمَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ؛
فَنَصِيبُهُ لِإِخْوَتِهِ ثُمَّ نَسْلِهِمْ وَعَقِبِهِمْ عَمَّ وَلَوْ مَنْ
لَمْ يُعْقِبْ) مِنْ إخْوَتِهِ ثُمَّ نَسْلِهِمْ.
(وَمَنْ أَعْقَبَ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَقِبُهُ) أَيْ: ذُرِّيَّتُهُ؛
لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ غَيْرَهُ وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ؛ فَوَجَبَ
الْحَمْلُ عَلَيْهِ قَطْعًا. قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
[فَرْعٌ رَتَّبَ الْوَاقِفُ أَوَّلًا بَعْضَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ]
(فَرْعٌ: لَوْ رَتَّبَ) الْوَاقِفُ (أَوَّلًا) بَعْضَ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ
أَوْلَادِي (ثُمَّ شَرَّكَ) بِأَنْ قَالَ: بَعْدَ أَوْلَادِ أَوْلَادِي:
وَأَوْلَادِهِمْ (أَوْ عَكَسَ) بِأَنْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي
وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ؛ فَهُوَ (عَلَى مَا
شَرَطَ) فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَخْتَصُّ الْأَوْلَادُ؛
لِاقْتِضَاءِ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ، فَإِذَا انْقَرَضَ الْأَوْلَادُ؛ صَارَ
مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ
أَوْلَادِهِمْ - وَإِنْ نَزَلُوا - لِأَنَّ الْعَطْفَ فِيهِمْ بِالْوَاوِ،
وَهِيَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَتَّبَ أَوَّلًا.
فَهَلَّا؟ حُمِلَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ؛ فَالْجَوَابُ قَدْ يَكُونُ غَرَضُ
الْوَاقِفِ تَخْصِيصَ أَوْلَادِهِ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَفِي
الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مَا إذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ
وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ؛
يَشْتَرِكُ الْبَطْنَانِ الْأَوَّلَانِ لِلْعَطْفِ بِالْوَاوِ، دُونَ
غَيْرِهِمْ، فَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي الْوَقْفِ لِعَطْفِهِ بِثُمَّ،
فَإِذَا انْقَرَضُوا اشْتَرَكَ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِمَا تَقَدَّمَ.
(وَلَوْ قَالَ بَعْدَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ) بِقَوْلِهِ: هَذَا
وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ (ثُمَّ عَلَى
أَنْسَالِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ؛ اسْتَحَقَّهُ أَهْلُ الْعَقِبِ مُرَتَّبًا)
لِقَرِينَةِ التَّرْتِيبِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَهُ
مُشْتَرَكًا مَعَ الْأَنْسَالِ؛ نَظَرًا إلَى عَطْفِهِمْ بِالْوَاوِ؛
لِمُخَالَفَتِهِ لِقَرِينَةِ
(4/356)
السِّيَاقِ (وَصَوَّبَهُ) أَيْ:
اسْتِحْقَاقَ أَهْلِ الْعَقِبِ مُرَتَّبًا فِي " الْإِنْصَافِ " قَالَ فِي
" الِاخْتِيَارَاتِ ": الْوَاوُ كَمَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَا
تَنْفِيهِ، لَكِنْ هِيَ سَاكِتَةٌ عَنْهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَلَكِنْ
تَدُلُّ عَلَى التَّشْرِيكِ، وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ، فَإِنْ كَانَ
فِي الْوَقْفِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ مِثْلَ إنْ رَتَّبَ
أَوَّلًا؛ عُمِلَ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِمُقْتَضَى
الْوَاوِ. انْتَهَى.
فَائِدَةٌ: لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ مَنْ مَاتَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي
الْوَقْفِ عَنْ وَلَدٍ - وَإِنْ سَفَلَ - وَآلَ الْحَالُ فِي الْوَقْفِ
إلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُتَوَفَّى مَوْجُودًا لَدَخَلَ؛ قَامَ
وَلَدُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ سَفَلَ، وَاسْتَحَقَّ مَا كَانَ
أَصْلُهُ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا،
فَانْحَصَرَ الْوَقْفُ فِي رَجُلٍ مِنْ أَوْلَادِ الْوَاقِفِ، وَرُزِقَ
خَمْسَةَ أَوْلَادٍ مَاتَ أَحَدُهُمْ فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ، وَتَرَكَ
وَلَدًا ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ عَنْ أَوْلَادِهِ الْأَرْبَعَةِ وَوَلَدِ
وَلَدِهِ، ثُمَّ مَاتَ عَنْ الْأَرْبَعَةِ ثَلَاثَةٌ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ،
وَبَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَاحِدٌ مَعَ وَلَدِ أَخِيهِ؛ اسْتَحَقَّ
الْوَلَدُ الْبَاقِي أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ رِيعِ الْوَقْفِ، وَوَلَدُ
أَخِيهِ الْخُمْسَ الْبَاقِي. أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ
الشَّهَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَتَابَعَهُ النَّاصِرُ الطَّبَلَاوِيُّ
الشَّافِعِيُّ، وَالشِّهَابِيُّ أَحْمَدُ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ،
وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ الْوَاقِفِ: عَلَى أَنَّ مِنْ مَاتَ مِنْهُمْ
قَبْلَ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْوَقْفِ إلَى آخِرِهِ، مَقْصُورٌ عَلَى
اسْتِحْقَاقِ الْوَلَدِ لِنَصِيبِ وَالِدِهِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ فِي
حَيَاتِهِ، لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى مَنْ مَاتَ مِنْ إخْوَةِ وَالِدِهِ عَنْ
غَيْرِ وَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، بَلْ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِخْوَةِ
الْأَحْيَاءِ؛ عَمَلًا بِقَوْلِ الْوَاقِفِ: عَلَى أَنَّ مَنْ تُوُفِّيَ
مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ إلَى آخِرِهِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ
الْوَلَدِ مَقَامَ أَبِيهِ فِي صَفِّ الَّذِي هُوَ الْإِخْوَةُ، حَقِيقَةً
بَلْ مَجَازًا، وَالْأَصْلُ حِفْظُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَفِي
ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ، وَعَمَلٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي
مَحَلِّهِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا.
[فَصْلٌ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى بَنِي فُلَانٍ]
(فَصْلٌ: مَنْ وَقَفَ شَيْئًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى بَنِي فُلَانٍ
فَهُوَ لِذُكُورٍ خَاصَّةً) لِأَنَّ لَفْظَ الْبَنِينَ وُضِعَ لِذَلِكَ
حَقِيقَةً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(4/357)
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}
[الصافات: 153] وَقَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ
النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] وقَوْله تَعَالَى: {الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] (فَلَا يَدْخُلُ)
فِيهِ (خُنْثَى) لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ
وَقَفَ عَلَى بَنَاتِهِ؛ اخْتَصَّ بِهِنَّ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ
وَلَا الْخَنَاثَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُنَّ إنَاثًا (وَإِنْ
كَانُوا) أَيْ: بَنُو فُلَانٍ (قَبِيلَةً) كَبِيرَةً.
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ ": كَبَنِي هَاشِمٍ وَتَمِيمٍ وَقُضَاعَةَ (دَخَلَ)
فِيهِ (إنَاثٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}
[الإسراء: 70] وَلِأَنَّ الْقَبِيلَةَ يَشْمَلُ ذَكَرَهَا وَأُنْثَاهَا،
وَيُقَالُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي كَذَا، رُوِيَ أَنَّ جَوَارٍ مِنْ بَنِي
النَّجَّارِ قُلْنَ:
نَحْنُ جِوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ ... يَا حَبَّذَا مُحَمَّدًا مِنْ
جَارِ
(دُونَ أَوْلَادِهِنَّ) أَيْ: نِسَاءِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ (مِنْ) رِجَالٍ
(غَيْرِهَا) لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَى الْقَبِيلَةِ الْمَوْقُوفِ
عَلَيْهَا، بَلْ إلَى غَيْرِهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: الْمُنْتَسِبِينَ
إلَيَّ، وَيَدْخُلُ أَوْلَادُهُنَّ مِنْهُمْ؛ لِوُجُودِ الِانْتِسَابِ
حَقِيقَةً، وَلَا يَشْمَلُ مَوَالِيَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ
حَقِيقَةً، كَمَا لَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي
رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَحَنْبَلٍ. قَالَ فِي " الْخِلَافِ ": لِأَنَّ
الْوَصِيَّةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا لَفْظُ الْمُوصِي، وَلَفْظُ صَاحِبِ
الشَّرِيعَةِ: يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ: لَا
أَكَلْتُ السُّكَّرَ لِأَنَّهُ حَلَفَ؛ لَمْ يَعُمَّ غَيْرَهُ [مِنْ
الْحَلَاوَاتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ؛
لَمْ يُعْتَقْ غَيْرُهُ] مِنْ الْعَبِيدِ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُ حَرَّمَ
السُّكَّرَ؛ لِأَنَّهُ حُلْوٌ، عَمَّ جَمِيعَ الْحَلَاوَاتِ، وَكَذَلِكَ
إذَا قَالَ: اعْتِقْ عَبْدَك لِأَنَّهُ أَسْوَدُ؛ عَمَّ
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": قَالَ فِي شَرْحِ " شَرْحِ الْمُنْتَهَى ":
فَكَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْوَصِيَّةِ لَفْظُ الْمُوصِي يُعْتَبَرُ فِي
الْوَقْفِ لَفْظُ الْوَاقِفِ، وَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمَا عَدَمَ
دُخُولِ الْمَوَالِي.
(وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى عِتْرَتِهِ أَوْ) عَلَى (عَشِيرَتِهِ) بِأَنْ
قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى عِتْرَتِي (فَكَ) مَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى
(الْقَبِيلَةِ) . قَالَ فِي " الْمُقْنِعِ ": الْعِتْرَةُ هُمْ
الْعَشِيرَةُ. قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": هَذَا الْمَذْهَبُ قَدَّمَهُ
فِي
(4/358)
الرِّعَايَتَيْنِ " وَ " الْحَاوِي
الصَّغِيرِ " وَ " الْفُرُوعِ " وَ " الْفَائِقِ " وَغَيْرِهِمْ،
وَصَحَّحَهُ النَّاظِمُ، وَقَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ انْتَهَى.
لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي مَحْفِلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ نَحْنُ عِتْرَةُ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْضَتُهُ
الَّتِي تَفَقَّأَتْ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ وَهُمْ أَهْلُ
اللِّسَانِ.
وَإِنْ وَقَفَ (عَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ) عَلَى (قَرَابَةِ زَيْدٍ) فَهُوَ
أَيْ: الْوَقْفُ (لِذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ
أَبِيهِ) وَهُمْ إخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ وَأَوْلَادِ جَدِّهِ، وَهُمْ
أَبُوهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ. وَأَوْلَادِ جَدِّ أَبِيهِ، وَهُمْ
جَدُّهُ وَأَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ (فَقَطْ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُجَاوِزْ بَنِي هَاشِمٍ بِسَهْمِ ذَوِي
الْقُرْبَى الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى} [الحشر: 7] فَلَمْ يُعْطِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ كَبَنِي عَبْدِ
شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا، وَلَا يُقَالُ: هُمَا كَبَنِي
الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ
الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سِوَاهُمْ مِمَّنْ سَاوَاهُمْ فِي الْقُرْبِ
بِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ، وَلَمْ
يُعْطِ قَرَابَتَهُ مِنْ وَلَدِ أُمِّهِ، وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ شَيْئًا
مِنْهُ، وَيُسَوِّي بَيْنَ مَنْ يُعْطِي مِنْهُمْ؛ فَلَا يُفَضِّلُ أَعْلَى
وَلَا فَقِيرًا وَلَا ذَكَرًا عَلَى مَنْ سِوَاهُ؛ لِعُمُومِ الْقَرَابَةِ.
(وَلَا يَدْخُلُ) فِي الْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ (مُخَالِفٌ دِينَهُ)
أَيْ: الْوَاقِفِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ فِي
قَرَابَتِهِ كَافِرُهُمْ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَدْخُلْ الْمُسْلِمُ
إلَّا بِقَرِينَةٍ؛ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا
(وَلَا) يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى قَرَابَتِهِ (أُمُّهُ أَوْ
قَرَابَتُهُ مِنْ قِبَلِهَا) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَمْ يُعْطِ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى قَرَابَتَهُ مِنْ
جِهَةِ أُمِّهِ شَيْئًا (إلَّا بِقَرِينَةٍ) أَيْ: إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي
لَفْظِ الْوَاقِفِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الدُّخُولِ (كَتَفْضِيلِ
جِهَةِ قَرَابَةٍ) مِنْ جِهَةِ أَبٍ عَلَى قَرَابَةٍ مِنْ جِهَةِ (أُمٍّ
أَوْ قَوْلِهِ) ؛ أَيْ الْوَاقِفِ (إلَّا ابْنَ خَالَتِي فُلَانًا)
وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْقَرِينَةِ، أَوْ
(4/359)
وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تُخْرِجُ بَعْضَهُمْ؛
عُمِلَ بِهَا، وَيَأْتِي فِي الْوَصَايَا حُكْمُ أَقْرَبِ قَرَابَتِهِ أَوْ
الْأَقْرَبِ إلَيْهِ مُفَصَّلًا.
وَالْوَقْفُ مِنْ إنْسَانٍ (عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ) عَلَى (قَوْمِهِ
أَوْ) عَلَى (نِسَائِهِ أَوْ) عَلَى (آلِهِ أَوْ) عَلَى (أَهْلِهِ كَعَلَى
قَرَابَتِهِ) فَلِكُلِّ قَرَابَةٍ، أَمَّا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ
فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحِلُّ
الصَّدَقَةُ لِي وَلَا لِأَهْلِ بَيْتِي» وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّا آلَ
مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» . فَجُعِلَ سَهْمُ ذَوِي
الْقُرْبَى لَهُمْ عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي حَرُمَتْ عَلَيْهِمْ،
فَكَانَ ذُو الْقُرْبَى الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى هُمْ أَهْلُ
بَيْتِهِ. احْتَجَّ بِذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ
أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ عِنْدَ الْعَرَبِ آبَاءُ الرَّجُلِ
وَأَوْلَادُهُمْ، كَالْأَجْدَادِ وَالْأَعْمَامِ وَأَوْلَادِهِمْ
(وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ) فَإِنَّهُ يَكُونُ (لِكُلِّ
قَرَابَةٍ لَهُ) أَيْ: لِلْوَاقِفِ (مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ) سَوَاءٌ
كَانُوا عَصَبَةً كَالْآبَاءِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، أَوْ لَا،
كَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْعَمِّ، وَلِكُلِّ قَرَابَةٍ مِنْ جِهَةِ
(الْأُمَّهَاتِ) كَأُمِّهِ وَأَبِيهَا وَأَخْوَالِهِ وَأَخْوَالِهَا
وَخَالَاتِهِ وَخَالَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ
أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ مُرَجِّحًا؛ فَلَا
أَقَلَّ أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا، وَلِكُلِّ قَرَابَةٍ لَهُ مِنْ جِهَةِ
(الْأَوْلَادِ مِمَّنْ يَرِثُ بِفَرْضٍ أَوْ عَصَبَةٍ أَوْ رَحِمٍ)
كَابْنِهِ وَبِنْتِهِ وَأَوْلَادِهِمْ؛ لِأَنَّ الرَّحِمَ يَشْمَلُهُمْ،
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي ذِي الرَّحِمِ مُجَاوَزَتَهُ لِلْأَبِ الْخَامِسِ.
قَالَ فِي " شَرْحِ الْمُنْتَهَى ": وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَنْ
يَذْكُرُهُ، بَلْ عُمُومُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ يَشْمَلُهُ.
(وَالْأَشْرَافُ أَهْلُ بَيْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَالشَّرِيفُ كَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْعَبَّاسِيَّ) قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَأَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا لَا يُسَمُّونَ
شَرِيفًا إلَّا مَنْ كَانَ عَلَوِيًّا، بَلْ لَا يُسَمُّونَ شَرِيفًا إلَّا
مَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى
آلِ جَعْفَرٍ وَآلِ عَلَيَّ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: أَفْتَيْتُ أَنَا
وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَ أَعْيَانِ
الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَفْتَى طَائِفَةٌ أَنَّهُ يُقَسَّمُ نِصْفَيْنِ،
فَيَأْخُذُ آلُ جَعْفَرٍ النِّصْفَ وَإِنْ كَانُوا وَاحِدًا، وَهُوَ
مُقْتَضَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَصْحَابِنَا انْتَهَى.
قَالَ فِي
(4/360)
شَرْحِ الْإِقْنَاعِ ": قُلْتُ: هُوَ
مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ.
(وَالْأَيَامَى وَالْعُزَّابُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنْ رَجُلٍ
وَامْرَأَةٍ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ
وَالْإِنَاثِ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:
32] وَيُقَالُ رَجُلٌ عَزَبٌ وَامْرَأَةٌ عَزَبٌ. قَالَ ثَعْلَبٌ:
وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَزَبًا؛ لِانْفِرَادِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ انْفَرَدَ
فَهُوَ عَزَبٌ. وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ: أَعْزَبُ، وَرُدَّ بِمَا فِي
" صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَكُنْت شَابًّا أَعْزَبَ
وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَالْعَزَبُ وَالْأَيِّمُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجِ
(وَالْأَرَامِلُ النِّسَاءُ اللَّاتِي فَارَقَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ)
نَصًّا؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ النَّاسِ (بِمَوْتٍ أَوْ حَيَاةٍ)
قَالَ جَرِيرٌ:
هَذِي الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَّيْتُ حَاجَتَهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذِهِ
الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ
فَأَطْلَقَ الْأَوَّلَ حَيْثُ أَرَادَ بِهِ الْإِنَاثَ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ
لَهُ، وَوَصَفَهُ فِي الثَّانِي بِالذَّكَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهُ
لَمْ يُفْهَمْ، وَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي: الصَّغِيرَةُ لَا تُسَمَّى
أَيِّمًا وَلَا أَرَمَلَةً عُرْفًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ صِفَةٌ لِلْبَالِغِ
(وَالْيَتَامَى مَنْ لَا أَبَ لَهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ) مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى (وَلَوْ جَهِلَ بَقَاءَ أَبِيهِ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ) فِي
ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْأَبِ إلَّا فِي صُورَةِ
(غَيْبَةِ) الْأَبِ غِيبَةً ظَاهِرُهَا الْهَلَاكُ، بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ
أَمْرُهُ إلَى الْحَاكِمِ لَحَكَمَ بِمَوْتِهِ؛ كَمَنْ فُقِدَ مِنْ بَيْنِ
أَهْلِهِ أَوْ مِنْ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ، أَوْ انْقَطَعَ بِفَلَاةٍ وَمَضَى
عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعُ سِنِينَ فَمَا فَوْقُ مِنْ حِينِ فَقْدِهِ، أَوْ
غَابَ غَيْبَةً ظَاهِرُهَا السَّلَامَةُ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ إلَى
أَنْ مَضَى مِنْ سِنِّهِ تِسْعُونَ سَنَةً؛ فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ
(تَتَزَوَّجُ فِيهَا) أَيْ: الْغَيْبَةِ (نِسَاؤُهُ) وَتُقَسَّمُ
أَمْوَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِمَوْتِهِ،
فَطِفْلُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَشْمَلُهُ اسْمُ الْيَتِيمِ؛ كَمَا هُوَ
ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (وَلَا يَشْمَلُ)
الْوَقْفُ عَلَى الْيَتَامَى (وَلَدَ
(4/361)
زِنًا) لِأَنَّ لِلْيَتِيمِ انْكِسَارًا
يَدْخُلُ عَلَى الْقَلْبِ بِفَقْدِ الْأَبِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
فِيمَنْ بَلَغَ: خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْيَتِيمِ.
(وَالْحَفِيدُ وَالسِّبْطُ: وَلَدُ ابْنٍ وَبِنْتٍ) قَالَ ابْنُ سِيدَهْ:
(وَالرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ رِجَالٍ) خَاصَّةً لُغَةً لَا
وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، أَوْ الْجَمْعُ أَرْهُطٌ وَأَرْهَاطٌ
وَأَرَاهِطُ وَأَرَاهِيطُ، وَقَالَ فِي " كَشْفِ الْمُشْكِلِ ": الرَّهْطُ
مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَكَذَا قَالَ النَّفَرُ: مِنْ
ثَلَاثَةٍ إلَى عَشَرَةٍ قَالَهُ فِي " الْفُرُوعِ ".
(وَالْقَوْمُ لِلرِّجَالِ) دُونَ النِّسَاءِ (وَبِكْرٌ) يَشْمَلُ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى (وَثَيِّبٌ) كَذَلِكَ (وَعَانِسٌ) كَذَلِكَ، وَهُوَ مَنْ
بَلَغَ حَدَّ التَّزْوِيجِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ (وَأُخُوَّةٌ) - بِضَمِّ
الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ - (وَعُمُومَةٌ لِذَكَرٍ وَأُنْثَى)
وَالْأَخَوَاتُ لِلْإِنَاثِ خَاصَّةً (وَالثُّيُوبَةُ زَوَالُ
الْبَكَارَةِ) بِالْوَطْءِ (مُطْلَقًا) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ زَوْجٍ أَوْ
سَيِّدٍ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًا، لَا زَوَالُهَا بِنَحْوِ إصْبَعٍ
(وَ) إنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ (لِجَمَاعَةٍ) مِنْ الْأَقْرَبِ إلَيْهِ
(أَوْ) هَذَا وَقْفٌ (لِجَمْعٍ مِنْ الْأَقْرَبِ إلَيْهِ، فَثَلَاثَةٌ)
لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ (فَإِنْ لَمْ يَفِ الدَّرَجَةَ الْأُولَى)
بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَلَاثَةٌ؛ كَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدَانِ
وَأَوْلَادُ ابْنٍ، تُمِّمَ الْجَمْعُ مِمَّا، أَيْ: مِنْ دَرَجَةِ الَّتِي
(بَعْدَهَا) وَهُمْ أَوْلَادُ الِابْنِ، فَيُتَمَّمُ الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ
مِنْهُمْ يَخْرُجُ بِقُرْعَةٍ (وَيَشْمَلُ) الْجَمْعُ (أَهْلَ الدَّرَجَةِ،
وَإِنْ كَثُرُوا) لِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ (وَالْعُلَمَاءُ حَمَلَةُ
الشَّرْعِ) وَلَوْ أَغْنِيَاءً (وَقِيلَ: مِنْ تَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ
وَفِقْهٍ) أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ. قَالَهُ فِي " الْفُرُوعِ ": لَا ذَوُو
أَدَبٍ وَنَحْوٍ وَلُغَةٍ وَصَرْفٍ وَعِلْمِ كَلَامٍ أَوْ طِبٍّ وَحِسَابٍ
وَهَنْدَسَةٍ وَهَيْئَةٍ وَتَعْبِيرِ رُؤْيَا وَقِرَاءَةِ قُرْآنٍ
وَإِقْرَائِهِ وَتَجْوِيدِهِ (وَذَكَرَ ابْنُ رَزِينٍ فُقَهَاءَ
وَمُتَفَقِّهَةً كَعُلَمَاءَ) قَالَ فِي " شَرْحِ الْإِقْنَاعِ ": قُلْت:
مَدْلُولُ فُقَهَاءَ الْعُلَمَاءُ بِالْفِقْهِ وَالْمُتَفَقِّهَةُ طَلَبَةُ
الْفِقْهِ (وَأَهْلُ الْحَدِيثِ مَنْ عَرَفَهُ، وَلَوْ حَفِظَ أَرْبَعِينَ
حَدِيثًا، لَا مَنْ سَمِعَهُ) مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ (وَالْقُرَّاءُ) فِي
عُرْفِ هَذَا الزَّمَانِ (حُفَّاظُ الْقُرْآنِ) وَفِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ
هُمْ الْفُقَهَاءُ (وَأَعْقَلُ النَّاسِ الزُّهَّادُ) لِأَنَّهُمْ
أَعْرَضُوا عَنْ الْفَانِي لِلْبَاقِي (قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَيْسَ
مِنْ الزُّهْدِ تَرْكُ مَا يُقِيمُ النَّفْسَ، وَيُصْلِحُ أَمْرَهَا،
وَيُعِينُهَا عَلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ، بَلْ هَذَا زُهْدُ الْجُهَّالِ،
وَإِنَّمَا) هُوَ؛ أَيْ: الزُّهْدُ (تَرْكُ فُضُولِ الْعَيْشِ، وَهُوَ مَا
لَيْسَ بِضَرُورَةٍ فِي بَقَاءِ النَّفْسِ) ؛ أَيْ:
(4/362)
نَفْسِهِ وَنَفْسِ عِيَالِهِ (وَعَلَى
هَذَا كَانَ) النَّبِيُّ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَأَصْحَابُهُ) وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
-: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» .
: وَإِنْ وَقَفَ (عَلَى مَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ فَوْقُ) فَقَطْ،
وَهُمْ أَعْتَقُوهُ؛ اُخْتُصَّ الْوَقْفُ بِهِمْ، أَوْ وَقَفَ عَلَى
مَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوَالٍ مِنْ أَسْفَلُ فَقَطْ، وَهُمْ عُتَقَاؤُهُ؛
اُخْتُصَّ الْوَقْفُ بِهِمْ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ مِنْ فَوْقُ، وَمَوَالٍ مِنْ أَسْفَلُ
(تَنَاوَلَ) الْوَقْفُ (جَمِيعَهُمْ) وَاسْتَوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ إنْ
لَمْ يَفْضُلْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْأَسْهُمَ
تَتَنَاوَلُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ (وَمَتَى عَدِمَ) أَيْ: انْقَرَضَ
(مَوَالِيهِ) فَالْوَقْفُ (لِعَصَبَتِهِمْ) ؛ أَيْ: عَصَبَةِ مَوَالِيهِ؛
لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَوَالٍ) حِينَ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى مَوَالِيَّ؛ فَالْوَقْفُ (لِمَوَالِي
عَصَبَةٍ) لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُمْ مَجَازًا مَعَ تَعَذُّرِ
الْحَقِيقَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إذْ ذَاكَ مَوَالٍ، ثُمَّ انْقَرَضُوا؛
لَمْ يَرْجِعْ مِنْ الْوَقْفِ شَيْءٌ لِمَوَالِي عَصَبَةٍ؛ لِأَنَّ
الِاسْمَ تَنَاوَلَ غَيْرَهُمْ، فَلَا يَعُودُ إلَيْهِمْ إلَّا بِعَقْدٍ
جَدِيدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ. قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَلَا شَيْءَ
لِمَوَالِي عَصَبَةٍ إلَّا مَعَ عَدَمِ مَوَالِيهِ ابْتِدَاءً.
(وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى الْمَسَاكِينِ يَتَنَاوَلُ
الْآخَرَ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى إذَا
اجْتَمَعَا فِي الذِّكْرِ. وَمَتَى كَانَ الْوَقْفُ (عَلَى صِنْفٍ مِنْ
أَصْنَافِ الزَّكَاةِ) كَالْفُقَرَاءِ وَالرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ (لَمْ
يَدْفَعْ لِوَاحِدٍ فَوْقَ حَاجَتِهِ) لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ
الْآدَمِيِّ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، فَيُعْطَى فَقِيرٌ
وَمِسْكِينٌ تَمَامَ كِفَايَتِهِمَا مَعَ عَائِلَتِهِمَا سَنَةً،
وَمُكَاتَبٌ وَغَارِمٌ مَا يَقْضِيَانِ دَيْنَهُمَا، وَابْنُ سَبِيلٍ مَا
يَحْتَاجُهُ لِسَفَرِهِ، وَغَازٍ مَا يَحْتَاجُهُ لِغَزْوِهِ وَهَكَذَا،
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ (عَلَى أَصْنَافِهَا) كُلِّهِمْ (فَوُجِدَ مَنْ
فِيهِ صِفَاتٌ) بِأَنْ كَانَ ابْنَ سَبِيلٍ غَازِيًا غَارِمًا (اسْتَحَقَّ
بِهَا) ؛ أَيْ: بِالصِّفَاتِ كَالزَّكَاةِ، فَيُعْطَى مَا يَقْضِي بِهِ
دَيْنَهُ، وَيُوَصِّلُهُ إلَى بَلَدِهِ، وَكِفَايَتَهُ ذَهَابًا
وَإِيَابًا.
تَنْبِيهٌ: وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَصْنَافِ الزَّكَاةِ، أَوْ صِنْفَيْنِ
فَأَكْثَرَ مِنْ أَصْنَافِهَا، أَوْ
(4/363)
عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْمَسَاكِينِ؛
جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ كَزَكَاةٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ
مَقْصُودَ [الْوَاقِفِ] عَدَمُ مُجَاوَزَتِهِمْ وَذَلِكَ حَاصِلٌ
بِالدَّفْعِ إلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ بَلْ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُعْطَى
فَقِيرٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطَاهُ مِنْ
زَكَاةٍ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهَا، وَتَقَدَّمَ.
(وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى سُبُلِ الْخَيْرِ، فَلِمَنْ أَخَذَ مِنْ زَكَاةٍ
لِحَاجَةٍ) كَفَقِيرٍ وَمِسْكِينٍ وَابْنِ سَبِيلٍ (لَا مُؤَلَّفٍ
وَعَامِلٍ وَغَارِمٍ) فَلَا يُعْطُونَ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَا يَشْمَلُهُمْ
وَإِنْ وَقَفَ (عَلَى جَمَاعَةٍ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ) وَاسْتِيعَابُهُمْ
كَبَنِيهِ أَوْ بَنِي فُلَانٍ، وَلَيْسُوا قَبِيلَةً أَوْ مَوَالِيَ
غَيْرِهِ (وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ) بِالْوَقْفِ (وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ)
فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَأَمْكَنَ الْوَفَاءُ بِهِ،
فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ (كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمْ) بِمَالٍ
(وَلَوْ أَمْكَنَ فِيهِ) حَصْرُهُمْ (ابْتِدَاءً) أَيْ: فِي ابْتِدَاءِ
الْوَقْفِ (ثُمَّ تَعَذَّرَ) بِكَثْرَةِ أَهْلِهِ (كَوَقْفِ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّمَ مَنْ أَمْكَنَ) مِنْهُمْ بِالْوَقْفِ
(وَسَوَّى بَيْنَهُمْ) فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ وَالتَّسْوِيَةَ كَانَا
وَاجِبَيْنِ فِي الْجَمِيعِ، فَإِذَا تَعَذَّرَا فِي بَعْضٍ وَجَبَا فِيمَا
لَمْ يَتَعَذَّرَا فِيهِ؛ كَالْوَاجِبِ الَّذِي تَعَذَّرَ بَعْضُهُ (وَإِنْ
لَمْ يُمْكِنْ حَصْرُهُمْ ابْتِدَاءً كَالْمَسَاكِينِ) وَالْقَبِيلَةِ
الْكَبِيرَةِ كَبَنِي هَاشِمٍ (وَقُرَيْشٍ وَبَنِي تَمِيمٍ؛ جَازَ
التَّفْضِيلُ) بَيْنَهُمْ (وَالِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ) مِنْهُمْ؛
لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَقْفِ عَدَمُ مُجَاوَزَةِ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ
حَاصِلٌ بِالدَّفْعِ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِذَا جَازَ الِاقْتِصَارُ
عَلَى وَاحِدٍ؛ فَالتَّفْضِيلُ أَوْلَى، وَكَالْوَقْفِ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ أَوْ عَلَى أَهْلِ إقْلِيمٍ كَالشَّامِ
وَمَدِينَةٍ كَدِمَشْقَ، فَيَجُوزُ التَّفْضِيلُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى
وَاحِدٍ (وَيَشْمَلُ جَمْعُ مُذَكَّرٍ سَالِمٌ) كَالْمُسْلِمِينَ
(وَضَمِيرُهُ) وَهُوَ الْوَاوُ (الْأُنْثَى) تَغْلِيبًا؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] (لَا عَكْسُهُ)
وَهُوَ جَمْعُ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ وَضَمِيرُهُ؛ فَلَا يَشْمَلُ
الذَّكَرَ؛ إذْ لَا يَغْلِبُ غَيْرُ الْأَشْرَافِ عَلَيْهِ.
(وَ) إنْ وَقَفَ (عَلَى أَهْلِ قَرْيَتِهِ أَوْ) عَلَى (قَرَابَتِهِ أَوْ)
عَلَى (إخْوَتِهِ أَوْ) عَلَى (جِيرَانِهِ) أَوْ وَصَّى لَهُمْ بِشَيْءٍ
(لَمْ يَدْخُلْ) فِيهِمْ (مُخَالِفٌ دِينَهُ) ؛
(4/364)
أَيْ: دِينَ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي؛
لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْوَاقِفِ أَوْ الْمُوصِي لَمْ يُرِدْ مَنْ
يُخَالِفُ دِينَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا (إلَّا
بِقَرِينَةٍ) تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِمْ فِيهِ؛ فَيَدْخُلُونَ [ (كَمَا
مَرَّ) وَمِنْ الْقَرِينَةِ كَوْنُ كُلِّهِمْ كُفَّارًا؛ فَيَدْخُلُونَ؛
لِأَنَّ عَدَمَ دُخُولِهِمْ يُؤَدِّي إلَى رَفْعِ اللَّفْظِ
بِالْكُلِّيَّةِ (أَوْ كَانَ مُوَافِقُهُ) ؛ أَيْ: الْوَاقِفِ] (وَاحِدًا)
مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ (وَالْبَاقِي مُخَالِفٌ) لِدِينِهِ؛ كَأَنْ
يَكُونَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا، وَفِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَاحِدٌ
مُسْلِمٌ، وَالْبَاقِي كُفَّارٌ؛ فَيَدْخُلُونَ؛ لِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ
الْعَامِّ عَلَى وَاحِدٍ بَعِيدٌ جِدًّا.
وَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ كَافِرًا، وَفِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ كَافِرٌ
غَيْرُ دِينِ الْوَاقِفِ الْكَافِرِ؛ لَمْ يَدْخُلْ الْكَافِرُ
الْمُغَايِرُ لِدِينِهِ كَمَا لَا يَرِثُهُ.
(وَوَصِيَّةٌ كَوَقْفٍ فِي كُلِّ مَا مَرَّ) فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ
الْمَسَائِلِ (لَكِنَّهَا) ؛ أَيْ: الْوَصِيَّةَ (أَعَمُّ لِصِحَّتِهَا
لِنَحْوِ حَمْلٍ) مَوْجُودٍ حِينَهَا، كَقِنٍّ وَأُمِّ وَلَدٍ وَمُدَبَّرٍ
وَأُمِّ وَلَدٍ (وَحَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ) لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى لَفْظِ
الْمُوصِي؛ أَشْبَهَتْ الْوَقْفَ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَالْأَصَحُّ دُخُولُ وَارِثِهِ فِي
وَصِيَّتِهِ؛ لِقَرَابَتِهِ، خِلَافًا " لِلْمُسْتَوْعِبِ " وَمَنْ لَمْ
يُجِزْ مِنْ الْوَرَثَةِ؛ بَطَلَ فِي نَصِيبِهِ.
وَلَوْ وَصَّى بِعِتْقِ أَمَةٍ فَأُنْثَى، وَالْعَبْدُ ذَكَرٌ.
وَلَوْ وَصَّى بِأُضْحِيَّةٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فَضَحَّوْا بِغَيْرِهِ
خَيْرًا مِنْهُ؛ جَازَ، وَعَلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ بِزِيَادَةِ خَيْرٍ فِي
الْمَخْرَجِ (وَيَأْتِي فِيهَا) ؛ أَيْ: الْوَصِيَّةِ (بَيَانُ نَحْوِ
شَيْخٍ) كَهَرِمٍ وَشَابٍّ وَفَتًى (وَكَهْلٍ وَ) بَيَانُ مَعْنَى (سِكَّةٍ
وَ) بَيَانُ (الْأَقْرَبِ) وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَلْيُرَاجَعْ هُنَاكَ؛
لِأَنَّ الْوَقْفَ كَالْوَصِيَّةِ. قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": لَكِنَّ
الْوَصِيَّةَ أَعَمُّ مِنْ الْوَقْفِ عَلَى مَا يَأْتِي.
[تَتِمَّةٌ فِي الْمُسْتَحَبُّ لِلْوَاقِفِ]
تَتِمَّةٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يُقَسِّمَ الْوَقْفَ عَلَى
أَوْلَادِهِ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيرَاثَ،
{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وَقَالَ الْقَاضِي:
الْمُسْتَحَبُّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ
الْقَصْدَ الْقُرْبَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي
الْقَرَابَةِ، وَلَنَا أَنَّهُ اتِّصَالُ الْمَالِ إلَيْهِمْ، فَيَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ
(4/365)
الْمِيرَاثِ كَالْعَطِيَّةِ، وَلِأَنَّ
الذَّكَرَ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأُنْثَى، لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَادَةِ يَتَزَوَّجُ، وَيَكُونُ [لَهُ]
الْوَلَدُ، فَالذَّكَرُ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ
وَأَوْلَادِهِ، وَالْمَرْأَةُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا، وَلَا
يَلْزَمُهَا نَفَقَةُ أَوْلَادِهَا، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى
الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى وَفْقِ هَذَا
الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بِهِ، وَيَتَعَدَّى إلَى الْوَقْفِ
وَالْعَطَايَا وَالصِّلَاتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ مُلْغًى بِالْمِيرَاثِ
وَالْعَطِيَّةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى،
أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ أَوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْبَنِينَ أَوْ الْبَنَاتِ
عَلَى بَعْضٍ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَقَدْ
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ: إنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ
الْأَثَرَةِ فَأَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ
عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ كَمَسْكَنَةٍ أَوْ عَمًى وَنَحْوِهِ، أَوْ خَصَّ،
أَوْ فَضَّلَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ، أَوْ ذَا الدِّينِ دُونَ
الْفُسَّاقِ، أَوْ خَصَّ أَوْ فَضَّلَ الْمَرِيضَ، أَوْ خَصَّ أَوْ فَضَّلَ
مَنْ لَهُ فَضِيلَةٌ مِنْ أَجْلِ فَضِيلَتِهِ؛ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ لِغَرَضٍ مَقْصُودٍ شَرْعًا.
[فَصْلٌ الْوَقْفُ عَقْدٌ لَازِمٌ]
(فَصْلٌ: وَالْوَقْفُ عَقْدٌ لَازِمٌ) بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَوْ مَا
يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ؛
فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِهِ كَالْعِتْقِ. قَالَ فِي " التَّلْخِيصِ "
وَغَيْرِهِ: وَحُكْمُهُ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ. أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ
الْوَصِيَّةِ أَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ، حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ أَوْ لَا؛
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا
وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا
الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى
ذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ يَلْزَمُ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِذَا
تَجَرَّدَ فِي الْحَيَاةِ؛ لَزِمَ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ كَالْعِتْقِ.
(لَا يُفْسَخُ) الْوَقْفُ (بِإِقَالَةٍ وَلَا غَيْرِهَا) لِأَنَّهُ عَقْدٌ
يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ (وَلَا يُوهَبُ
وَلَا يُورَثُ وَلَا يُسْتَبْدَلُ وَلَا يُنَاقَلُ بِهِ) وَلَوْ بِخَيْرٍ
مِنْهُ (نَصًّا) لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ
(وَلَا يُبَاعُ) فَيَحْرُمُ بَيْعُهُ، وَلَا يَصِحُّ، وَكَذَا
الْمُنَاقَلَةُ بِهِ (إلَّا أَنْ تَتَعَطَّلَ مَنَافِعُهُ) أَيْ: الْوَقْفِ
(الْمَقْصُودَةُ) مِنْهُ (بِخَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ) مَا يَأْتِي
التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ
(4/366)
بِحَيْثُ لَا يَرُدُّ) الْوَقْفُ (شَيْئًا)
عَلَى أَهْلِهِ (أَوْ يَرُدُّ شَيْئًا لَا يُعَدُّ نَفْعًا) بِالنِّسْبَةِ
إلَيْهِ، وَتَتَعَذَّرُ عِمَارَتُهُ وَعَوْدُ نَفْعِهِ (وَلَمْ يُوجَدْ)
فِي رِيعِ الْوَقْفِ (مَا يُعَمَّرُ بِهِ وَلَوْ) كَانَ الْخَارِبُ الَّذِي
تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَتَعَذَّرَتْ إعَادَتُهُ (مَسْجِدًا) حَتَّى
(بِضِيقِهِ عَلَى أَهْلِهِ) الْمُصَلِّينَ بِهِ، وَتَعَذَّرَ تَوْسِيعُهُ
فِي مَحَلِّهِ (أَوْ) كَانَ مَسْجِدًا، وَتَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ بِهِ
(لِخَرَابِ مَحَلَّتِهِ) أَيْ: النَّاحِيَةِ الَّتِي بِهَا الْمَسْجِدُ
(أَوْ اسْتِقْذَارِ مَوْضِعِهِ) قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي إذَا كَانَ
ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ (أَوْ) كَانَ الْوَقْفُ (حَبِيسًا
لَا يَصْلُحُ لِغَزْوٍ، فَيُبَاعُ) وُجُوبًا.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَإِنَّمَا يَجِبُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ
يَلْزَمُهُ فِعْلُ الْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ
الْمَيْمُونِيِّ وَغَيْرِهَا (وَلَوْ شَرَطَ) وَاقِفُهُ (عَدَمَ بَيْعِهِ،
وَشَرْطُهُ) إذَنْ (فَاسِدٌ) نَصًّا، وَعُلِّلَ بِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ
وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ؛ لِحَدِيثِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ
شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ» . إلَى آخِرِهِ (وَيُصْرَفُ
ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ) إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ فِي إقَامَةِ الْبَدَلِ
مَقَامَهُ تَأْبِيدًا لَهُ وَتَحْقِيقًا لِلْمَقْصُودِ، فَتَعَيَّنَ
وُجُوبُهُ (أَوْ فِي بَعْضِ مِثْلِهِ) قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " قَالَهُ
أَحْمَدُ: لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى غَرَضِ الْوَاقِفِ.
وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ جِنْسِ
الْوَقْفِ الَّذِي بِيعَ، بَلْ أَيَّ شَيْءٍ اُشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مِمَّا
يُرَدُّ عَلَى الْوَقْفِ؛ جَازَ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ:
وَأَمَّا الْمَسْجِدُ وَنَحْوُهُ فَلَيْسَ مِلْكًا لِمُعَيَّنٍ بِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ فَإِذَا جَازَ إبْدَالُهُ
بِخَيْرٍ مِنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَالْمَوْقُوفُ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْلَى
بِأَنْ يُعَوَّضَ بِالْبَدَلِ، وَإِمَّا أَنْ يُبَاعَ وَيُشْتَرَى
بِثَمَنِهِ الْبَدَلُ، وَالْإِبْدَالُ بِجِنْسِهِ مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إذَا كَانَ يَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ
الْمَوْقُوفِ الَّذِي يُوقَفُ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ - وَعَيْنُهُ
مُحْتَرَمَةٌ شَرْعًا - يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ بِهِ غَيْرُهُ
لِلْمَصْلَحَةِ، لِكَوْنِ الْبَدَلُ أَنْفَعَ وَأَصْلَحَ وَإِنْ لَمْ
تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَعُودُ الْأَوَّلُ طَلْقًا
مَعَ أَنَّهُ مَعَ مُتَعَطِّلٍ نَفَعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ
الْإِبْدَالُ بِالْأَنْفَعِ وَالْأَصْلَحِ فِيمَا يُوقَفُ لِلِاسْتِغْلَالِ
أَوْلَى وَأَحْرَى، فَإِنَّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ يَجُوزُ مَا يُوقَفُ
لِلِاسْتِغْلَالِ لِلْحَاجَةِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَفِي بَيْعِ الْمَسْجِدِ رِوَايَتَانِ، فَإِذَا جُوِّزَ عَلَى ظَاهِرِ
مَذْهَبِهِ أَنْ يُجْعَلَ
(4/367)
الْمَسْجِدُ طَلْقًا وَيُوقَفَ بَدَلُهُ
أَصْلَحُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَطَّلْ مَنْفَعَةُ الْأَوَّلِ، أَحْرَى،
فَإِنَّ بَيْعَ الْوَقْفِ الْمُسْتَغَلِّ أَوْلَى مِنْ بَيْعِ الْمَسْجِدِ،
وَإِبْدَالَهُ أَوْلَى مِنْ إبْدَالِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ
تُحْتَرَمُ عَيْنُهُ شَرْعًا، وَيُقْصَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ؛ فَلَا
تَجُوزُ إجَارَتُهُ وَلَا الْمُعَاوَضَةُ عَنْ مَنْفَعَتِهِ، بِخِلَافِ
وَقْفِ الِاسْتِغْلَالِ؛ فَإِنَّهُ تَجُوزُ إجَارَتُهُ وَالْمُعَاوَضَةُ
عَنْ نَفْعِهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَوْقُوفُ
عَلَيْهِ مَنْفَعَتَهُ بِنَفْسِهِ كَمَا يُقْصَدُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ
الْأَوَّلِ، وَلَا لَهُ حُرْمَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
كَمَا لِلْمَسْجِدِ، وَقَالَ: يَجِبُ بَيْعُ الْوَقْفِ مَعَ الْحَاجَةِ
بِالْمِثْلِ، وَبِلَا حَاجَةٍ يَجُوزُ بِخَيْرٍ مِنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ،
وَلَا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ لِفَوَاتِ التَّغْيِيرِ بِلَا حَاجَةٍ،
وَذَكَرَهُ وَجْهًا فِي الْمُنَاقَلَةِ وَأَوْمَأَ إلَيْهِ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ، وَقَالَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ فِي كِتَابِهِ
الْمُنَاقَلَةِ فِي الْأَوْقَافِ وَاقِعَةُ نَقْلِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ،
وَجَعْلِ بَيْتِ الْمَالِ فِي قِبْلَتِهِ، وَجَعْلِ مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ
سُوقًا لِلتَّمَّارِينَ اشْتَهَرَتْ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ،
وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ، وَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُهَا، وَلَا
الِاعْتِرَاضُ فِيهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ عُمَرُ هُوَ الْخَلِيفَةُ
الْآمِرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الْمَأْمُورُ النَّاقِلُ، فَدَلَّ هَذَا
عَلَى مَسَاغِ الْقِصَّةِ وَالْإِقْرَارِ عَلَيْهَا وَالرِّضَى
بِمُوجَبِهَا، وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الِاسْتِبْدَالِ وَالْمُنَاقَلَةِ،
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَسَاغِ بَيْعِ الْوَقْفِ عِنْدَ
تَعَطُّلِ نَفْعِهِ؛ فَهُوَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ
عِنْدَ رُجْحَانِ الْمُبَادَلَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَمْ يَكُنْ
مُتَعَطِّلًا، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي نَقْلِهِ لِحِرَاسَةِ
بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي جُعِلَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ الثَّانِي
انْتَهَى.
وَصَنَّفَ صَاحِبُ " الْفَائِقِ " مُصَنَّفًا فِي جَوَازِ الْمُنَاقَلَةِ
لِلْمَصْلَحَةِ سَمَّاهُ " الْمُنَاقَلَةُ بِالْأَوْقَافِ وَمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ النِّزَاعِ وَالْخِلَافِ " قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَأَجَادَ
فِيهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى جَوَازِهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَابْنُ
الْقَيِّمِ، وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ حَمْزَةُ ابْنُ شَيْخِ
السَّلَامِيَّةِ، وَصَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا سَمَّاهُ: " دَفْعُ
الْمُثَاقَلَةِ فِي بَيْعِ الْمُنَاقَلَةِ " وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ
أَئِمَّتِنَا جَمَاعَةٌ فِي عَصْرِهِ.
(وَ) يَجُوزُ (نَقْلُ آلَةِ) مَسْجِدٍ (وَ) نَقْلُ (أَنْقَاضِ مَسْجِدٍ؛
جَازَ بَيْعُهُ) كَخَرَابِهِ أَوْ خَرَابِ مَحَلَّتِهِ أَوْ قَذَرِ
مَحَلِّهِ (لِمَسْجِدٍ آخَرَ) إنْ (احْتَاجَهَا) مِثْلُهُ -[وَاحْتَجَّ
الْإِمَامُ
(4/368)
بِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَدْ حَوَّلَ مَسْجِدَ الْجَامِعِ مِنْ التَّمَّارِينَ أَيْ:
بِالْكُوفَةِ - (أَوْلَى مِنْ بَيْعِهِ) ] لِبَقَاءِ الِانْتِفَاعِ مِنْ
غَيْرِ خَلَلٍ فِيهِ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ إلَى مِثْلِهِ، أَنَّهُ لَا
يُعَمَّرُ بِآلَةِ الْمَسْجِدِ مَدْرَسَةٌ وَلَا رِبَاطٌ وَلَا بِئْرٌ
وَلَا حَوْضٌ وَلَا قَنْطَرَةٌ، وَكَذَا آلَاتُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ
الْأَمْكِنَةِ، لَا يُعَمَّرُ بِهَا مَا عَدَاهُ؛ لِأَنَّ جَعْلَهَا فِي
مِثْلِ الْعَيْنِ مُمْكِنٌ، فَتَعَيَّنَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. قَالَهُ
الْحَارِثِيُّ، وَيَصِيرُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ بَعْدَ بَيْعِهِ لِلثَّانِي
الَّذِي اُشْتُرِيَ بَدَلَهُ.
وَأَمَّا إذَا نُقِلَتْ آلَتُهُ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ؛ فَالْبُقْعَةُ
بَاقِيَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَسْجِدٌ.
قَالَ حَرْبٌ: قُلْت لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ بَنَى مَسْجِدًا فَأَذَّنَ فِيهِ،
ثُمَّ قَلَعُوا هَذَا الْمَسْجِدَ، وَبَنَوْا مَسْجِدًا آخَرَ فِي مَكَانٍ
آخَرَ، وَنَقَلُوا خَشَبَ هَذَا الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ إلَى ذَلِكَ
الْمَسْجِدِ. قَالَ: يَرُمُّوا هَذَا الْمَسْجِدَ الْآخَرَ الْعَتِيقَ،
وَلَا يُعَطِّلُوهُ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ، فَلَمْ يَمْنَعْ النَّقْلُ مَنْعَ الْبَيْعِ
وَإِخْرَاجَ الْبُقْعَةِ عَنْ كَوْنِهَا مَسْجِدًا كَمَا يَجُوزُ
(تَجْدِيدُ بِنَائِهِ) أَيْ: الْمَسْجِدِ (لِمَصْلَحَتِهِ نَصًّا)
لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ
بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا
أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ
بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ
إبْرَاهِيمَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلَا يَجُوزُ قَسْمُ الْمَسْجِدِ مَسْجِدَيْنِ بِبَابَيْنِ إلَى
دَرْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ لَهُ.
(وَيَصِحُّ بَيْعُ بَعْضِهِ) أَيْ: الْوَقْفِ إذَا لَمْ تُمْكِنْ
إجَارَتُهُ (لِإِصْلَاحِ بَاقِيهِ) لِأَنَّهُ إذَا جَازَ بَيْعُ الْكُلِّ
عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ فَبَيْعُ الْبَعْضِ مَعَ بَقَاءِ الْبَعْضِ أَوْلَى
(إنْ اتَّحَدَ الْوَاقِفُ وَالْجِهَةُ) الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا، فَإِنْ
اخْتَلَفَا أَوْ أَحَدُهُمَا؛ لَمْ يَجُزْ (إنْ كَانَ) الْمَوْقُوفُ
(عَيْنَيْنِ) عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَاقِفٍ وَاحِدٍ، كَدَارَيْنِ
خَرِبَتَا، فَتُبَاعُ إحْدَاهُمَا لِإِصْلَاحِ الْأُخْرَى (أَوْ) كَانَ
الْمَوْقُوفُ (عَيْنًا) وَاحِدَةً؛ فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا لِإِصْلَاحِ
بَاقِيهَا.
وَمَحَلُّ ذَلِكَ إنْ لَمْ تَنْقُصْ الْقِيمَةُ، أَيْ: قِيمَةُ الْعَيْنِ
الْمَبِيعِ بَعْضُهَا بِالتَّشْقِيصِ؛ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ بِبَيْعِ
الْبَعْضِ إذَنْ، وَإِلَّا بِأَنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنًا وَاحِدَةً،
وَنَقَصَتْ الْقِيمَةُ بِالتَّشْقِيصِ (بِيعَ الْكُلُّ) كَبَيْعِ وَصِيٍّ
لِدَيْنٍ أَوْ حَاجَةٍ، بَلْ هَذَا أَسْهَلُ؛ لِجَوَازِ تَغْيِيرِ
صِفَاتِهِ لِمَصْلَحَةٍ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ:
(4/369)
وَجَوَّزَ] جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
تَغْيِيرَ صُورَتِهِ لِمَصْلَحَةٍ؛ كَجَعْلِ الدَّارِ حَوَانِيتَ،
وَالْحُكُورَةُ الْمَشْهُورَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بِنَاءٍ بِبِنَاءٍ،
وَعَرْصَةٍ بِعَرْصَةٍ. هَذَا صَرِيحُ لَفْظِهِ، وَقَالَ أَيْضًا فِيمَنْ
وَقَفَ كُرُومًا عَلَى الْفُقَرَاءِ يَحْصُلُ عَلَى جِيرَانِهَا بِهِ
ضَرَرٌ: يُعَوِّضُ عَنْهُ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْجِيرَانِ،
وَيَعُودُ الْأَوَّلُ مِلْكًا، وَالثَّانِي وَقْفًا انْتَهَى.
وَإِنْ تَوَقَّفَتْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ عَلَى بَيْعِ بَعْضِ آلَاتِهِ؛
جَازَ؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصُّورَةِ مَعَ
بَقَاءِ الِانْتِفَاعِ.
[فَائِدَةٌ بَيْعُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ]
فَائِدَةٌ: يَصِحُّ بَيْعُ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ يَبِسَتْ، وَبَيْعُ جِذْعٍ
مَوْقُوفٍ انْكَسَرَ أَوْ بَلِيَ، أَوْ خِيفَ الْكَسْرُ، أَوْ انْهَدَمَ.
نَقَلَ أَبُو دَاوُد أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ مَسْجِدٍ فِيهِ
خَشَبَتَانِ لَهُمَا ثَمَنٌ تَشَعَّثَ، وَخَافُوا سُقُوطَهُ أَتُبَاعَانِ،
وَيُنْفَقُ عَلَى الْمَسْجِدِ، وَيُبْدَلُ مَكَانَهُمَا جِذْعَيْنِ؟ قَالَ:
مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا. وَاحْتَجَّ بِدَوَابِّ الْحَبِيسِ الَّتِي لَا
يُنْتَفَعُ بِهَا، تُبَاعُ، وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا فِي الْحَبِيسِ.
قَالَ فِي " التَّلْخِيصِ ": إذَا أَشْرَفَ جِذْعُ الْوَقْفِ عَلَى
الِانْكِسَارِ، أَوْ دَارُهُ عَلَى الِانْهِدَامِ، وَعُلِمَ أَنَّهُ لَوْ
أُخِّرَ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاعُ
رِعَايَةً لِلْمَالِيَّةِ، أَوْ يُنْقَضُ تَحْصِيلًا [لِلْمَصْلَحَةِ]
قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَالْمَدَارِسُ وَالرُّبُطُ وَالْخَانَاتُ الْمُسَبَّلَةُ وَنَحْوُهَا؛
جَائِزٌ بَيْعُهَا عِنْدَ خَرَابِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَجْهًا
وَاحِدًا.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبُهُوتِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْإِقْنَاعِ ":
تَنْبِيهٌ: الْخَلَوَاتُ الْمَشْهُورَاتُ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عِنْدَنَا
مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ
الْمَنْفَعَةِ مُفْرَدَةً عَنْ الْعَيْنِ كَعُلْوِ بَيْتٍ يُبْنَى عَلَيْهِ
وَنَحْوِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ وَفِي الصُّلْحِ؛ إذْ
الْعِوَضُ فِيهَا مَبْذُولٌ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ،
فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ مِثْلِ الْمَكَانِ عِشْرِينَ مَثَلًا، وَدَفَعَ
لِجِهَةِ الْوَقْفِ شَيْئًا مَعْلُومًا عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ
عَشَرَةٌ فَقَطْ؛ فَقَدْ اشْتَرَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ، وَبَقِيَ
لِلْوَقْفِ نِصْفُهَا؛ فَيَجُوزُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا
بَيْعُ الْوَقْفِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ بَقَاءَ عَيْنِ
الْوَقْفِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى هَذَا فَمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ فِي
إجَارَةِ الْمُشَاعِ؛ لَا تَصِحُّ إجَارَةُ النَّاظِرِ وَلَا صَاحِبِ
الْخُلُوِّ لِلْآخَرِ أَوْ مَعَهُ. وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ،
(4/370)
لَا وَقْفُهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ
يُصَادِفَ عَيْنًا، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: يُؤْخَذُ [مِنْ قَوْلِ]
الْإِمَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي وَقْفِ الْمَاءِ إنْ كَانَ شَيْئًا
اعْتَادُوهُ، صِحَّةُ [وَقْفِهِ إذَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ] كَمَا فِي
هَذَا الزَّمَنِ. هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَلَمْ أَجِدْهُ مَسْطُورًا،
لَكِنَّ الْقِيَاسَ لَا يَأْبَاهُ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ مَا
يُخَالِفُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَلَا يُعَمَّرُ وَقْفٌ مِنْ رِيعِ) وَقْفٍ (آخَرَ) وَلَوْ عَلَى
(جِهَتِهِ. وَأَفْتَى عُبَادَةُ) مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا (بِجَوَازِ
عِمَارَةِ وَقْفٍ مِنْ رِيعِ وَقْفٍ آخَرَ عَلَى جِهَتِهِ) ذَكَرَهُ ابْنُ
رَجَبٍ فِي طَبَقَاتِهِ "، قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَهُوَ قَوِيٌّ،
بَلْ عَمَلُ النَّاسِ عَلَيْهِ.
(وَيَجُوزُ نَقْضُ مَنَارَةِ مَسْجِدٍ، وَجَعْلُهَا فِي حَائِطِهِ
لِتَحْصِينِهِ) مِنْ الْكِلَابِ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَكَمِ، وَيَجُوزُ (اخْتِصَارُ آنِيَةٍ) مَوْقُوفَةٍ كَقُدُورٍ
وَقِرَبٍ وَنَحْوِهِمَا إذَا تَعَطَّلَتْ إلَى أَصْغَرَ مِنْهَا
(وَإِنْفَاقُ الْفَضْلِ عَلَى الْإِصْلَاحِ) مُحَافَظَةً عَلَى بَقَاءِ
عَيْنِ الْوَقْفِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ اخْتِصَارُهَا؛ بِيعَتْ وَصُرِفَ
ثَمَنُهَا فِي آنِيَةٍ مِثْلِهَا؛ رِعَايَةً لِلنَّفْعِ الَّذِي لِأَجْلِهِ
وُقِفَتْ.
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَهُوَ الصَّوَابُ.
(وَيَبِيعُهُ) ؛ أَيْ: الْوَقْفَ حَيْثُ جَازَ بَيْعُهُ (حَاكِمٌ إنْ
كَانَ) الْوَقْفُ (عَلَى سُبُلِ الْخَيْرَاتِ، كَعَلَى الْمَسَاجِدِ)
وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَدَارِسِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ. قَالَ الْأَكْثَرُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ
الرِّعَايَةِ " فِي كِتَابِ الْوَقْفِ، وَالْحَارِثِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ
فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَقَالَ: نُصَّ عَلَيْهِ. قَالَ فِي " الْمُغْنِي
" بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ النَّصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ عَرْصَةِ الْمَسْجِدِ:
وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ، انْتَهَى.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ فَسْخٌ لِعَقْدٍ لَازِمٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ
اخْتِلَافًا قَوِيًّا، فَتُوقَفُ عَلَى الْحَاكِمِ كَمَا قِيلَ فِي
الْفُسُوخِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَإِلَّا يَكُنْ الْوَقْفُ عَلَى سَبِيلِ
الْخَيْرَاتِ بِأَنْ كَانَ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ
مُعَيَّنِينَ، أَوْ مَنْ يَؤُمُّ أَوْ يُؤَذِّنُ أَوْ يَبِيتُ فِي هَذَا
الْمَسْجِدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ (فَ) يَبِيعُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (نَاظِرٌ
خَاصٌّ) إنْ كَانَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إذَا تَعَطَّلَ الْوَقْفُ فَإِنَّ النَّاظِرَ فِيهِ
يَبِيعُهُ، وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ يُرَدُّ عَلَى
أَهْلِ الْوَقْفِ. نُصَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.
قَالَ فِي " الْفَائِقِ "
(4/371)
وَيَتَوَلَّى الْبَيْعَ نَاظِرُهُ
الْخَاصُّ، حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " التَّلْخِيصِ " وَ
" الْمُحَرَّرِ " فَقَالَ: يَبِيعُهُ النَّاظِرُ فِيهِ (وَالْأَحْوَطُ)
أَنْ يَبِيعَهُ النَّاظِرُ (بِإِذْنِ حَاكِمٍ) قَالَهُ فِي " التَّنْقِيحِ
" لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْبَيْعَ عَلَى مَنْ سَيَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ
بَعْدَ الْمَوْجُودِينَ الْآن؛ أَشْبَهَ الْبَيْعَ عَلَى الْغَائِبِ.
(وَبِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْبَدَلِ) لِجِهَةِ الْوَقْفِ (يَصِيرُ وَقْفًا
كَبَدَلِ أُضْحِيَّةٍ وَ) بَدَلِ (رَهْنٍ أُتْلِفَ) قَالَ الْحَارِثِيُّ
عِنْدَ قَوْلِ الْمُوَفَّقِ فِي وَطْءِ الْأَمَةِ الْمَوْقُوفَةِ: إذَا
أَوْلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ، يَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهَا يَكُونُ
وَقْفًا، ظَاهِرُهُ أَنَّ الْبَدَلَ يَصِيرُ وَقْفًا بِمُجَرَّدِ
الشِّرَاءِ انْتَهَى.
قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ " قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامٍ كَثِيرٍ مِنْ
الْأَصْحَابِ هُنَا، لِاقْتِصَارِهِمْ عَلَى بَيْعِ وَشِرَاءِ بَدَلِهِ،
وَصَرَّحَ بِهِ فِي " التَّلْخِيصِ " فَقَالَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ:
وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ، وَيَصِيرُ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ،
وَصَرَّحَ بِهِ أَيْضًا فِي الرِّعَايَةِ " فِي مَوْضِعَيْنِ، فَقَالَ:
فَلِنَاظِرِهِ الْخَاصِّ بَيْعُهُ وَصَرْفُ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ أَوْ
بَعْضِ مِثْلِهِ، وَيَكُونُ مَا اشْتَرَاهُ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ، وَقَالَ
فِي أَثْنَاءِ الْوَقْفِ: فَإِنْ وَطِئَ فَلَا حَدَّ وَلَا مَهْرَ، ثُمَّ
قَالَ: وَفِي أُمِّ وَلَدِهِ تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ، وَيُؤْخَذُ قِيمَتُهَا
مِنْ تَرِكَتِهِ يُصْرَفُ فِي مِثْلِهِ يَكُونُ بِالشِّرَاءِ وَقْفًا
مَكَانَهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ بِلَا شَكٍّ، وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ فِي
كِتَابِهِ الْمُبْتَدِئِ ": وَإِذَا خَرِبَ الْوَقْفُ وَانْعَدَمَتْ
مَنْفَعَتُهُ بِيعَ وَاشْتُرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يُرَدُّ [عَلَى] أَهْلِ
الْوَقْفِ وَكَانَ وَقْفًا كَالْأَوَّلِ.
وَقَالَ ابْنُ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِي الْمُحَرَّرِ ": الَّذِي يَظْهَرُ
أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الشِّرَاءُ لِجِهَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْوَجْهِ
الشَّرْعِيِّ، وَلَزِمَ الْعَقْدُ، أَنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا؛ لِأَنَّهُ
كَالْوَكِيلِ فِي الشِّرَاءِ، وَالْوَكِيلُ يَقَعُ شِرَاؤُهُ
لِلْمُوَكِّلِ، فَكَذَا هَذَا يَقَعُ شِرَاؤُهُ لِلْجِهَةِ الْمُشْتَرَى
لَهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا وَقْفًا انْتَهَى، وَهُوَ الصَّوَابُ،
فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ بِمَالِ
الْوَقْفِ؛ لَمْ يَكُنْ مَا اشْتَرَاهُ وَقْفًا، وَيُطَالَبُ بِالثَّمَنِ
لِيَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَكُونُ وَقْفًا، وَأَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا
إذَا اشْتَرَاهُ لِلْوَقْفِ إلَّا بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ؛ بِأَنْ
يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ
(وَالْأَحْوَطُ وَقْفُهُ) لِئَلَّا يَنْقُضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَا
يَرَى وَقْفِيَّتَهُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ.
(4/372)
(وَفَضْلُ غَلَّةِ مَوْقُوفٍ عَلَى
مُعَيَّنٍ اسْتِحْقَاقُهُ) [مُقَدَّرٌ] مِنْ الْوَاقِفِ (يَتَعَيَّنُ
إرْصَادُهُ) وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْحَارِثِيُّ، وَقَالَ: وَأَمَّا فَضْلُ
غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ مُعَيَّنِينَ أَوْ طَائِفَةٍ
مُعَيَّنَةٍ؛ فَيَتَعَيَّنُ إرْصَادُهُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو
الْحُسَيْنِ فِي فَضْلِ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى نَفَقَةِ إنْسَانٍ،
وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى إذَا كَانَ الصَّرْفُ مُقَدَّرًا، أَمَّا عِنْدَ
عَدَمِ التَّقْدِيرِ فَلَا فَضْلَ، إذْ الْغَلَّةُ مُتَفَرِّقَةٌ قَالَ فِي
" الْإِنْصَافِ ": وَهُوَ وَاضِحٌ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى "
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (إنْ عُلِمَ أَنَّ رِيعَهُ يَفْضُلُ
دَائِمًا، وَجَبَ صَرْفُهُ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فَسَادٌ لَهُ وَإِعْطَاؤُهُ)
؛ أَيْ: الْمُسْتَحِقِّ (فَوْقَ مَا قَدَّرَ لَهُ الْوَاقِفُ جَائِزٌ)
لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَهُ.
قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ النَّاظِرِ صَرْفُ الْفَاضِلِ؛ لِأَنَّهُ
افْتِئَاتٌ عَلَى مَنْ لَهُ وِلَايَتُهُ. قَالَ فِي " شَرْحِ الْإِقْنَاعِ
": قُلْت: وَالظَّاهِرُ لَا ضَمَانَ، كَتَفْرِقَةِ هَدْيٍ وَأُضْحِيَّةٍ.
(وَمَنْ وَقَفَ عَلَى ثَغْرٍ فَاخْتَلَّ) الثَّغْرُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ
(صُرِفَ) الْمَوْقُوفُ (فِي ثَغْرٍ مِثْلِهِ) أَخْذًا مِنْ مَسْأَلَةِ
بَيْعِ الْوَقْفِ إذَا خَرِبَ؛ إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ هُنَا
الصَّرْفُ إلَى الْمَرَابِطِ فَإِعْمَالُ شَرْطِ الثَّغْرِ الْمُعَيَّنِ
مُعَطِّلٌ لَهُ؛ فَوَجَبَ الصَّرْفُ إلَى ثَغْرٍ آخَرَ.
قَالَ فِي " التَّنْقِيحِ ": (وَعَلَى نَحْوِ قِيَاسِهِ) ؛ أَيْ: الثَّغْرِ
(نَحْوُ مَسْجِدٍ) كَمَدْرَسَةٍ (وَرِبَاطٍ) وَسِقَايَةٍ. صَرَّحَ بِهِ
الْحَارِثِيُّ. قَالَ: وَالشَّرْطُ قَدْ يُخَالَفُ لِلْحَاجَةِ،
كَالْوَقْفِ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ
الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى ذَلِكَ
الْمَذْهَبِ إلَى الْمُتَفَقِّهَةِ عَلَى مَذْهَبٍ آخَرَ؛ أَخْذًا مِنْ
مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَقْفِ إذَا خَرِبَ.
قَالَ: وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ حَوْضٍ، وَتَعَطَّلَ
الِانْتِفَاعُ بِهِمَا؛ صُرِفَ إلَى مِثْلِهِمَا.
وَلَوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ فِي يَوْمٍ مَخْصُوصٍ مِنْ السَّنَةِ،
وَتَعَذَّرَ فِيهِ وَجَبَ مَتَى أَمْكَنَ.
(وَنَصَّ) أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ (فِيمَنْ وَقَفَ عَلَى قَنْطَرَةٍ
فَانْحَرَفَ الْمَاءُ) أَوْ انْقَطَعَ: (يُرْصَدُ) مَالُ الْوَقْفِ
(لَعَلَّهُ) ؛ أَيْ: الْمَاءَ (يَرْجِعُ) إلَى الْقَنْطَرَةِ، فَيُصْرَفُ
عَلَيْهَا مَا وُقِفَ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَيِسَ مِنْ رُجُوعِهِ [يُصْرَفُ
إلَى قَنْطَرَةٍ أُخْرَى؛ لِمَا تَقَدَّمَ.]
(وَمَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ نَحْوِ مَسْجِدٍ) [كَرِبَاطٍ] وَمَدْرَسَةٍ
وَخَانْكَاةٍ (مِنْ حُصْرٍ وَزَيْتٍ وَمَغْلٍ وَأَنْقَاضٍ وَآلَةٍ)
جَدِيدَةٍ (وَثَمَنُهَا) ؛ أَيْ: هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا بِيعَتْ
(4/373)
(يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي مِثْلِهِ) فَإِنْ
فَضَلَ عَنْ مَسْجِدٍ صُرِفَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ عَنْ
رِبَاطٍ فَهِيَ رِبَاطٌ وَهَكَذَا، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ (لِفَقِيرٍ) نَصًّا؛
لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ. قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَإِنَّمَا
لَمْ يُرْصَدْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْطِيلِ، فَيُخَالِفُ الْمَقْصُودَ،
وَلَوْ تَوَقَّفَتْ الْحَاجَةُ فِي زَمَنٍ آخَرَ - وَلَا رِيعَ يَسُدُّ
مَسَدَّهَا - لَمْ يُصْرَفْ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصَّرْفُ
فِي الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنَّمَا سُومِحَ بِغَيْرِهَا حَيْثُ لَا
حَاجَةَ؛ حَذَرًا مِنْ التَّعْطِيلِ يُؤَيِّدُهُ أَنَّ شَيْبَةَ بْنَ
عُثْمَانَ الْحَجَبِيَّ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِخُلْعَانِ الْكَعْبَةِ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَائِشَةَ أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ.
وَلِأَنَّهُ مَالُ اللَّهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَصْرِفٌ فَجَازَ صَرْفُهُ
لِلْفُقَرَاءِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يَجُوزُ صَرْفُ الْفَاضِلِ فِي مِثْلِهِ
(وَفِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ وَفِي بِنَاءِ مَسَاكِنَ لِمُسْتَحِقِّ
رِيعِهِ الْقَائِمِ بِمَصْلَحَتِهِ) انْتَهَى.
(وَيَحْرُمُ حَفْرُ بِئْرٍ) بِمَسْجِدٍ، وَلَوْ لِلْمَصْلَحَةِ
الْعَامَّةِ.
قَالَ الْحَارِثِيُّ فِي الْغَصْبِ: وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَسْجِدِ
لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ؛ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهَا؛
لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ مُسْتَحِقَّةٌ
لِلصَّلَاةِ " فَتَعْطِيلُهَا عُدْوَانٌ، وَنُصَّ عَلَى الْمَنْعِ فِي
رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ (وَ) يَحْرُمُ (غَرْسُ شَجَرَةٍ بِمَسْجِدٍ
لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ) لِلْمُصَلِّينَ كَاسْتِظْلَالِهِمْ بِهَا،
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْحَفْرَ أَوْ الْغَرْسَ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ
رَاجِحَةٌ؛ وَلَيْسَتْ الْبِئْرُ أَوْ الشَّجَرَةُ (بِبُقَعِ
الْمُصَلِّينَ) وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ ضِيقٌ، يَجُوزُ (فَإِنْ فَعَلَ) ؛
(4/374)
أَيْ: بِأَنْ حَفَرَ الْبِئْرَ، أَوْ
غَرَسَ الشَّجَرَةَ (طُمَّتْ) الْبِئْرُ نَصًّا (وَقُلِعَتْ) الشَّجَرَةُ
نَصًّا، هَذَا الْمَذْهَبُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْفُرُوعِ " وَغَيْرِهِ.
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى " وَ " الْحَاوِي الصَّغِيرِ ": وَإِنْ
غُرِسَتْ بَعْدَ وَقْفِهِ؛ قُلِعَتْ. قَالَ أَحْمَدُ: غُرِسَتْ بِغَيْرِ
حَقٍّ، ظَالِمٌ غَرَسَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا
يَخْتَصُّ قَلْعُهَا بِوَاحِدٍ، وَفِي " الْمُسْتَوْعِبِ " وَ " الشَّرْحِ
": أَنَّهُ لِلْإِمَامِ (فَإِنْ لَمْ تُقْلَعْ) الشَّجَرَةُ؛ بِأَنْ
أَعْرَضَ عَنْهَا غَارِسُهَا وَأَثْمَرَتْ (فَثَمَرُهَا لِمَسَاكِينِهِ)
أَيْ: الْمَسْجِدِ؛ قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ:
وَالْأَقْرَبُ حِلُّهُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمَسَاكِينِ، أَيْضًا (وَقَالَ
أَحْمَدُ: لَا أُحِبُّ الْأَكْلَ مِنْهَا) لِأَنَّهَا غُرِسَتْ بِغَيْرِ
حَقٍّ (وَإِنْ غُرِسَتْ) الشَّجَرَةُ (قَبْلَ بِنَائِهِ) ؛ أَيْ:
الْمَسْجِدِ (وَوُقِفَتْ مَعَهُ) أَيْ: الْمَسْجِدِ (فَإِنْ عَيَّنَ)
الْوَاقِفُ (مَصْرِفَهَا) بِأَنْ قَالَ: تُصْرَفُ ثَمَرَتُهَا فِي حُصْرٍ
أَوْ زَيْتٍ وَنَحْوِهِ أَوْ لِلْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ (عُمِلَ بِهِ) ؛
أَيْ: بِمَا عَيَّنَهُ الْوَاقِفُ (وَإِلَّا) يُعَيَّنُ مَصْرِفُهَا،
فَكَوَقْفٍ (مُنْقَطِعٍ) تُصْرَفُ ثَمَرَتُهَا لِوَرَثَةِ الْوَاقِفِ
نَسَبًا وَقْفًا، فَإِنْ انْقَرَضُوا فَلِلْمَسَاكِينِ.
(وَيَجُوزُ رَفْعُ مَسْجِدٍ) إذَا (أَرَادَ أَكْثَرُ أَهْلِ مَحَلَّتِهِ)
أَيْ: جِيرَانِهِ (ذَلِكَ) ؛ أَيْ: رَفْعَهُ (وَجُعِلَ) تَحْتَ (سُفْلِهِ
سِقَايَةٌ وَحَوَانِيتُ) يُنْتَفَعُ بِهَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ
أَبِي دَاوُد؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ
يَجُوزُ لِجُنُبٍ وَنَحْوِهِ جُلُوسٌ بِتِلْكَ الْحَوَانِيتِ؛ لِزَوَالِ
اسْمِ الْمَسْجِدِيَّةِ.
وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ؛ أَيْ الْمَسْجِدِ إلَى مَكَانٍ غَيْرِ مَكَانِهِ
الْأَوَّلِ، وَلَوْ خَرِبَ (مَعَ إمْكَانِ عِمَارَتِهِ وَ) لَوْ (دُونَ)
الْعِمَارَةِ (الْأُولَى) لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ، فَجُوِّزَ
لِلْحَاجَةِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا.
(4/375)
[تَنْبِيهٌ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ
وَأَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَبْنِيَ فَوْقَهُ بَيْتًا وَقْفًا لَهُ]
تَنْبِيهٌ: سُئِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيمَنْ بَنَى مَسْجِدًا
لِلَّهِ، وَأَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَبْنِيَ فَوْقَهُ بَيْتًا وَقْفًا لَهُ،
إمَّا لِيَنْتَفِعَ بِأُجْرَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ لِيُسْكِنَهُ
لِإِمَامِهِ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْإِمَامِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ،
فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ
مَصْلَحَةً لِلْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ أَعْوَنَ عَلَى مَا
شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ مِنْ الْإِمَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شُرِعَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي
فِعْلُهُ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَنَحْوِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
الْأَئِمَّةِ، حَتَّى سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مَسْجِدٍ لَاصِقٍ
بِالْأَرْضِ فَأَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوهُ، وَيَبْنُوا تَحْتَهُ سِقَايَةً،
وَهُنَاكَ شُيُوخٌ فَقَالُوا: نَحْنُ لَا نَسْتَطِيعُ الصُّعُودَ إلَيْهِ،
فَقَالَ أَحْمَدُ: يُنْظَرُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ، وَلَعَلَّ
ذَلِكَ أَنَّ تَغْيِيرَ صُورَةِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوَقْفِ
لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ؛ جَائِزٌ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْمَسَاجِدِ مَا هُوَ
مُعَيَّنٌ بِذَاتِهِ إلَّا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَإِلَّا الْمَسَاجِدَ
الثَّلَاثَةَ الَّتِي تُشَدُّ إلَيْهَا الرِّحَالُ؛ إذْ هِيَ مِنْ بِنَاءِ
الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَكَانَتْ
كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي بَنَاهَا
غَيْرُهُ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا يَتْبَعُ الْمَصْلَحَةَ، وَلَكِنَّ
الْمَصْلَحَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ.
(وَمَرَّ) فِي آخِرِ بَابِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ (قُبَيْلَ) بَابِ
(اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ حُكْمُ تَغْيِيرِ) حِجَارَةِ (الْكَعْبَةِ)
أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إنْ احْتَاجَتْ لِمَرَمَّةٍ (وَنَحْوُهُ)
كَجَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - فَلْيُرَاجَعْ، وَمَرَّ فِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ مِنْ
كِتَابِ (الِاعْتِكَافِ حُكْمُ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ) وَمَا يَجُوزُ وَمَا
يَمْتَنِعُ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
[خَاتِمَةٌ فِي الْأَرْزَاقُ الَّتِي يُقَدِّرُهَا الْوَاقِفُونَ ثُمَّ
يَتَغَيَّرُ النَّقْدُ فِيمَا بَعْدُ]
خَاتِمَةٌ: قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالْأَرْزَاقُ الَّتِي
يُقَدِّرُهَا الْوَاقِفُونَ، ثُمَّ يَتَغَيَّرُ النَّقْدُ فِيمَا بَعْدُ،
نَحْوُ أَنْ يُشْرَطَ مِائَةُ دِرْهَمٍ نَاصِرِيَّةٍ، ثُمَّ يَحْرُمُ
التَّعَامُلُ بِهَا، وَتَصِيرُ الدَّرَاهِمُ ظَاهِرِيَّةً؛ فَإِنَّهُ
يُعْطَى الْمُسْتَحِقُّ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ مَا قِيمَتُهُ قِيمَةُ
الْمَشْرُوطِ.
(4/376)
|