مطالب
أولي النهى في شرح غاية المنتهى [بَابُ الْوَلِيمَةِ وَآدَابُ الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ]
َ (وَهِيَ اجْتِمَاعٌ لِطَعَامِ عُرْسٍ خَاصَّةً) لَا تَقَعُ عَلَى
غَيْرِهِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ثَعْلَبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ
أَئِمَّةِ اللُّغَةِ (وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ طَعَامٍ لِسُرُورٍ
حَادِثٍ) إلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي طَعَامِ الْعُرْسِ أَكْثَرَ،
قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ
أَقْوَى؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَوْضُوعَاتِ
اللُّغَةِ، وَأَعْلَمُ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ، قَالَهُ فِي " الشَّرْحِ " "
وَالْمُبْدِعِ " وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ: أَوْلَمَ
الرَّجُلُ إذَا اجْتَمَعَ عَقْلُهُ وَخُلُقُهُ وَأَصْلُ الْوَلِيمَةِ
(5/230)
تَمَامُ الشَّيْءِ وَاجْتِمَاعُهُ،
وَيُقَالُ لِلْقَيْدِ: وَلْمٌ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ
إلَى الْأُخْرَى، وَسُمِّيَتْ دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَلِيمَةً، لِاجْتِمَاعِ
الزَّوْجَيْنِ، يُقَالُ: أَوْلَمَ إذَا صَنَعَ وَلِيمَةً.
(وَعَقِيقَةٌ لِذَبْحٍ لِمَوْلُودٍ) وَتَقَدَّمَتْ فِي الْأُضْحِيَّةِ
(وَشُنْدَخِيَّةٌ) وَيُقَالُ: شُنْدُخٌ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ
وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْخَاءِ
الْمُعْجَمَةِ (لِطَعَامِ إمْلَاكٍ عَلَى زَوْجَةٍ) مَأْخُوذٌ مِنْ
قَوْلِهِمْ فَرَسٌ مُشَنْدَخٌ؛ أَيْ: يَتَقَدَّمُ غَيْرَهُ، سُمِّيَ
بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ الدُّخُولَ.
(وَعَذِيرَةٌ وَإِعْذَارٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (لِطَعَامِ خِتَانٍ)
وَيُقَالُ: الْعُذْرَةُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (وَخُرْسَةٌ وَخُرْسٌ) بِضَمِّ
الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالسِّينُ مُهْمَلَةٌ
وَيُقَالُ بِالصَّادِ (لِطَعَامِ وِلَادَةٍ) أَيْ: لِخُلُوصِهَا
وَسَلَامَتِهَا مِنْ الطَّلْقِ (وَحِذَاقٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَحْفِيفِ
الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ قَافٌ (لِطَعَامٍ عِنْدَ حِذَاقِ صَبِيٍّ
بِخَتْمِهِ) أَيْ: يَوْمَ خَتْمِهِ (الْقُرْآنَ) قَالَهُ فِي " الْقَامُوسِ
".
وَمُشْدَاخٌ لِمَأْكُولٍ فِي خِتْمَةِ (الْقَارِئِ وَنَقِيعَةٍ) مِنْ
النَّقْعِ وَهُوَ الْغُبَارُ أَوْ النَّحْرُ أَوْ الْقَتْلُ تُصْنَعُ
(لِقُدُومِ غَائِبٍ) ظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ غَيْبَتُهُ فِي سَفَرٍ
طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ.
(وَتُحْفَةٌ) اسْمٌ (لِطَعَامٍ قَادِمٍ) يَصْنَعُهُ هُوَ (فَالتُّحْفَةُ
مِنْهُ) أَيْ: الْقَادِمِ (وَالنَّقِيعَةُ لَهُ) وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ:
فِي " تُحْفَةِ الْوَدُودِ ": الْقَادِمُ هُوَ الزَّائِرُ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مِنْ سَفَرٍ (وَعَتِيرَةٌ) مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ
مِنْ أَسْمَاءِ الطَّعَامِ، بَلْ هِيَ (ذَبِيحَةٌ) تُذْبَحُ (أَوَّلَ)
يَوْمٍ فِي (رَجَبٍ) وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْهَدْيِ
وَالْأَضَاحِيِّ (وَالْقِرَى اسْمٌ لِطَعَامِ الضَّيْفَانِ) وَلَيْسَ
ذَلِكَ مِنْ الدَّعَوَاتِ (وَوَكِيرَةٌ لِدَعْوَةِ بِنَاءٍ) قَالَ
النَّوَوِيُّ: أَيْ: السَّكَنُ الْمُتَجَدِّدُ انْتَهَى مِنْ الْوَكْرِ،
وَهُوَ الْمَأْوَى وَالْمُسْتَقَرُّ (وَوَضِيمَةٌ) اسْمٌ (لِطَعَامِ
مَأْتَمٍ) بِالْمُثَنَّاةِ فَوْقَ، وَأَصْلُهُ اجْتِمَاعُ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ (وَمَأْدُبَةٌ) بِضَمِّ الدَّالِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا اسْمٌ
(لِكُلِّ دَعْوَةٍ لِسَبَبٍ وَغَيْرِهِ) وَالْآدِبُ بِوَزْنِ فَاعِلٍ
صَاحِبُ الْمَأْدُبَةِ، وَفِي " الْمُنْتَهَى " (وَلَمْ يَخُصُّوهَا) أَيْ:
الدَّعْوَةَ (لِإِخَاءٍ وَتَسَرٍّ بِاسْمٍ) بَلْ الْمَأْدُبَةُ تَشْمَلُهَا
وَالْفَرْعُ وَالْفَرَعَةُ ذَبْحُ أَوَّلِ وَلَدٍ لِلنَّاقَةِ (وَتُسَمَّى
الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ الْجَفَلَى) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ
(5/231)
وَالْقَصْرُ، وَتُسَمَّى الدَّعْوَةُ
(الْخَاصَّةُ النَّقَرَى) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَافِ وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
نَحْنُ فِي الْمُشَتَّاتِ نَدْعُو الْجَفَلَى ... لَا تَرَى الْآدِبَ
فِينَا يَنْتَقِرُ
أَيْ: يَدْعُو قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ.
(وَتُسَنُّ الْوَلِيمَةُ بِعَقْدٍ) قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ،
وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي " الْفُرُوعِ " " وَالْمُبْدِعِ "؛ لِأَنَّهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَعَلَهَا وَأَمَرَ بِهَا، فَقَالَ
لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ قَالَ لَهُ تَزَوَّجْت: أَوْلِمْ
وَلَوْ بِشَاةٍ» وَقَالَ أَنَسٌ: «مَا أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ
عَلَى زَيْنَبَ، جَعَلَ يَبْعَثُنِي فَأَدْعُو النَّاسَ، فَأَطْعَمَهُمْ
لَحْمًا وَخُبْزًا حَتَّى شَبِعُوا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ تُسْتَحَبُّ بِالدُّخُولِ وَفِي الْإِنْصَافِ "
قُلْت: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ وَقْتُ الِاسْتِحْبَابِ مُوَسَّعٌ مِنْ
عَقْدِ النِّكَاحِ إلَى انْتِهَاءِ أَيَّامِ الْعُرْسِ؛ لِصِحَّةِ
الْأَخْبَارِ فِي هَذَا وَهَذَا؛ وَكَمَالُ السُّرُورِ بَعْدَ الدُّخُولِ
(وَ) لَكِنْ (جَرَتْ الْعَادَةُ بِفِعْلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِيَسِيرٍ)
انْتَهَى.
(وَهِيَ) أَيْ: الْوَلِيمَةُ (سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَوْ قُلْت:
كَمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ» (أَوْ) أَيْ:
وَإِنْ (نَكَحَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ) فِي عَقْدِهِ أَوْ عُقُودٍ
(وَنَوَاهَا عَنْ الْكُلِّ) أَجْزَأَتْهُ؛ لِتَدَاخُلِ أَسْبَابِهَا كَمَا
تَقَدَّمَ فِي الْعَقِيقَةِ، وَكَمَا لَوْ نَوَى بِرَكْعَتَيْنِ
التَّحِيَّةَ وَالسُّنَّةَ.
(وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تَنْقُصَ) الْوَلِيمَةُ (عَنْ شَاةٍ، قَالَهُ
جَمْعٌ) مِنْهُمْ " الْمُوَفَّقُ " " وَالشَّارِحُ وَغَيْرُهُمَا؛
لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَتَقَدَّمَ.
(وَتَجِبُ حَيْثُ لَا عُذْرَ نَحْوَ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَشُغْلٍ) كَكَوْنِهِ
أَجِيرًا خَاصًّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمُسْتَأْجِرُ (إجَابَةُ دَاعٍ
مُسْلِمٍ يَحْرُمُ هَجْرُهُ، وَلَوْ) كَانَ الدَّاعِي (أُنْثَى وَقِنٍّ
أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ، وَكَسْبُهُ طَيِّبٌ) إلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ
(أَوَّلَ مَرَّةٍ) بِأَنْ يَدْعُوهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِحَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ
يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ
لَا يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إذَا
دُعِيتُمْ إلَيْهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(5/232)
(وَهِيَ) أَيْ: الْإِجَابَةُ (حَقٌّ
لِلدَّاعِي، فَتَسْقُطُ بِعَفْوِهِ) عَنْ الْمَدْعُوِّ كَسَائِرِ حُقُوقِ
الْآدَمِيِّ، (وَ) قَدَّمَ (فِي التَّرْغِيبِ لَا يَلْزَمُ قَاضِيًا
حُضُورًا) أَيْ: وَلِيمَةَ الْعُرْسِ؛ لِمَظِنَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي
دَفْعِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
(وَتُكْرَهُ إجَابَةُ مَنْ فِي مَالِهِ) حَلَالٌ وَ (حَرَامٌ) كَكَرَاهَةِ
(أَكْلِهِ مِنْهُ وَمُعَامَلَتِهِ وَقَبُولِ هَدِيَّتِهِ وَ) قَبُولِ
(هِبَتِهِ وَ) قَبُولِ (صَدَقَتِهِ) قَلَّ الْحَرَامُ أَوْ كَثُرَ، جَزَمَ
بِهِ فِي " الْمُغْنِي " " وَالشَّرْحِ " وَقَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي "
الْفُصُولِ " وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ:
«وَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ»
(وَتَقْوَى الْكَرَاهَةُ وَتَضْعُفُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ حَرَامٍ
وَقِلَّتِهِ) وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَالِ حَرَامًا؛
فَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ، فَتَجِبُ الْإِجَابَةُ وَلَا تَحْرِيمَ
بِالِاحْتِمَالِ اسْتِصْحَابًا بِالْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ تَرْكُ الْأَكْلِ
أَوْلَى حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ الْحِلَّ؛ لِلشَّكِّ.
فَائِدَةٌ: وَيَنْبَغِي صَرْفُ الشُّبُهَاتِ فِي الْأَبْعَدِ عَنْ
الْمَنْفَعَةِ، فَالْأَقْرَبِ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِ فَيَتَحَرَّى فِيهِ الْحَلَالَ، ثُمَّ مَا وَلِيَ
الظَّاهِرَ مِنْ اللِّبَاسِ (وَاخْتَارَ جَمْعٌ) مِنْهُمْ الشِّيرَازِيُّ،
وَالْأَزَجِيُّ وَغَيْرِهِمَا (تَحْرِيمَ الْأَكْلِ مُطْلَقًا) وَلَوْ
قَلَّ الْحَرَامُ، كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّهُ حَرَامًا، (وَ) اخْتَارَ
(جَمْعٌ) أَيْضًا مِنْهُمْ " الْخِرَقِيِّ " وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمِنْهَاجِ " (وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ أَكْثَرَ) حَرُمَ الْأَكْلُ،
وَإِلَّا فَلَا: إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، نَقَلَ
الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَنْ وَرِثَ مَالًا
فِيهِ حَرَامٌ إنْ عَرَفَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ رَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ
الْغَالِبُ عَلَى مَالِهِ الْفَسَادُ تَنَزَّهَ عَنْهُ (وَ) اخْتَارَهُ
(جَمْعٌ) مِنْهُمْ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ قَدَّمَ أَنَّهُ (إنْ زَادَ)
الْحَرَامُ (عَلَى الثُّلُثِ) حَرُمَ الْأَكْلُ، وَإِلَّا فَلَا،
وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ.
(فَإِنْ دَعَّى) رَبُّ الطَّعَامِ (لِلْوَلِيمَةِ الْجَفَلَى) بِفَتْحِ
الْفَاءِ وَيُقَالُ: الْأَجْفَلِيُّ، كَقَوْلِهِ: (أَيُّهَا النَّاسُ
تَعَالَوْا لِلطَّعَامِ) أَوْ قَالَ رَسُولُ رَبِّ الْوَلِيمَةِ: أُمِرْتُ
أَنْ أَدْعُوَ كُلَّ مَنْ لَقِيتُ، أَوْ أَنْ أَدْعُوَ كُلَّ مَنْ شِئْت
كُرِهَتْ إجَابَتُهُ، أَوْ دَعَاهُ رَبُّ الْوَلِيمَةِ (أَوْ) رَسُولُهُ
بِعَيْنِهِ (فِي) الْمَرَّةِ (الثَّالِثَةِ) كَمَا لَوْ دَعَاهُ فِي
الْيَوْمِ الثَّالِثِ؛ كُرِهَتْ إجَابَتُهُ.
نَقَلَ حَنْبَلٌ إنْ أَحَبَّ أَجَابَ فِي الثَّانِي، وَلَا يُجِيبُ فِي
الثَّالِثِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «الْوَلِيمَةُ أَوَّلَ يَوْمٍ
(5/233)
حَقٌّ، وَالثَّانِيَ مَعْرُوفٌ
وَالثَّالِثَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ
وَغَيْرُهُمَا.
(أَوْ دَعَاهُ ذِمِّيٌّ كُرِهَتْ إجَابَتُهُ) لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ
إذْلَالُهُ؛ وَهُوَ يُنَافِي إجَابَتَهُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِكْرَامِ؛
وَلِأَنَّ اخْتِلَاطَ طَعَامِهِ بِالْحَرَامِ وَالنَّجِسِ غَيْرُ
مَأْمُونٍ، وَكَذَا مَنْ يَحْرُمُ هَجْرُهُ كَمُبْتَدَعٍ وَمُتَجَاهِرٍ
بِمَعْصِيَةٍ.
(وَتُسَنُّ) إجَابَةُ مَنْ عَيَّنَهُ دَاعٍ لِلْوَلِيمَةِ (بِثَانِي
مَرَّةٍ) كَمَا لَوْ دُعِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِلْخَبَرِ،
وَتَقَدَّمَ.
تَنْبِيهٌ: وَإِنْ دَعَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا عَيَّنَتْهُ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ
الْإِجَابَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ لِعُمُومِ مَا سَبَقَ إلَّا مَعَ
خَلْوَةٍ مُحَرَّمَةٍ؛ فَتَحْرُمُ الْإِجَابَةُ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى
مُحَرَّمٍ.
(وَفِعْلُ الدَّعَوَاتِ) غَيْرُ الْوَلِيمَةِ (مُبَاحَةٌ) فَلَا تُكْرَهُ
وَلَا تُسْتَحَبُّ نَصًّا، أَمَّا عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فَلِحَدِيثِ جَابِرٍ
مَرْفُوعًا: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ شَاءَ
طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْتِي الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِ
الْعُرْسِ، وَيَأْتِيهَا وَهُوَ صَائِمٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً لَمْ يَأْمُرْ بِإِجَابَتِهَا، وَلَبَيَّنَهَا،
وَأَمَّا عَدَمُ اسْتِحْبَابِهَا؛ فَلِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُفْعَلُ فِي
عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَهْدِ أَصْحَابِهِ.
فَرَوَى الْحَسَنُ قَالَ: دُعِيَ عُثْمَانُ بْنُ الْعَاصِ إلَى أَخْتَانٍ
فَأَبَى أَنْ يُجِيبَ، وَقَالَ: كُنَّا لَا نَأْتِي الْخِتَانَ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا
نُدْعَى إلَيْهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ: (غَيْرَ عَقِيقَةٍ فَتُسَنُّ)
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَغَيْرَ دَعْوَةِ (مَأْتَمٍ فَتُكْرَهُ)
وَتَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْمَأْتَمُ فِي الْأَصْلِ مُجْتَمَعُ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ فِي الْغَمِّ وَالْفَرَحِ، ثُمَّ خُصَّ بِهِ اجْتِمَاعُ
النِّسَاءِ فِي الْمَوْتِ، وَقِيلَ: هُوَ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ لَا
غَيْرُ (وَالْإِجَابَةُ إلَيْهَا) أَيْ: الدَّعَوَاتِ غَيْرَ الْوَلِيمَةِ
(مُسْتَحَبَّةٌ) لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا: «أُمِرْنَا بِإِجَابَةِ
الدَّاعِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَدْنَى أَحْوَالِ الْأَمْرِ
الِاسْتِحْبَابُ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ جَبْرِ قَلْبِ الدَّاعِي وَتَطَيُّبِ
خَاطِرِهِ، وَدُعِيَ أَحْمَدُ إلَى خِتَانٍ؛ فَأَجَابَ وَأَكَلَ (غَيْرَ
مَأْتَمٍ فَتُكْرَهُ) إجَابَةُ دَاعِيهِ لِمَا مَرَّ فِي الْجَنَائِزِ.
(5/234)
(وَيُسْتَحَبُّ) لِمَنْ حَضَرَ طَعَامًا
دُعِيَ إلَيْهِ (أَكْلُهُ) مِنْهُ (وَلَوْ) كَانَ (صَائِمًا) تَطَوُّعًا؛
لِمَا رُوِيَ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كَانَ فِي
دَعْوَةٍ، وَكَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ عَنْ الْقَوْمِ
نَاحِيَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ، كُلْ يَوْمًا ثُمَّ صُمْ يَوْمًا
مَكَانَهُ إنْ شِئْت» . وَلِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى
أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (إلَّا) إنْ كَانَ صَوْمُهُ (صَوْمًا وَاجِبًا)
لِأَنَّهُ يَحْرُمُ قَطْعُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إذَا
دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدَعْ، وَإِنْ
كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي رِوَايَةٍ:
فَلْيُصَلِّ أَيْ: يَدَعْ (وَإِنْ أَحَبَّ) الْمُجِيبُ (دَعَا) لِلْخَبَرِ،
وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ صَائِمٌ كَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ؛ لِتَزُولَ
التُّهْمَةُ عَنْهُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ (وَانْصَرَفَ) لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ،
فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» .
تَتِمَّةٌ: إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ الْأَكْلَ كَسْرُ قَلْبِ
الدَّاعِي كَانَ تَمَامُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ أَوْلَى مِنْ فِطْرِهِ. قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَقَالَ: وَلَا
يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْإِلْحَاحُ فِي الطَّعَامِ أَيْ:
الْأَكْلِ لَلْمَدْعُوِّ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْفِطْرِ فِي التَّطَوُّعِ
أَوْ الْأَكْلِ إنْ كَانَ مُفْطِرًا؛ فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ،
وَإِذْ أَلْزَمَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمَسْأَلَةِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَلَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ صَائِمًا
لِيُفْطِرَ، وَلَا إنْ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا لِيَأْكُلَ، وَلَا يَنْبَغِي
لَلْمَدْعُوِّ إذَا رَأَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْ
الْأَكْلِ أَوْ الْفِطْرِ فِي النَّفْلِ مَفَاسِدُ أَنْ يَمْتَنِعَ،
فَإِنَّ فِطْرَهُ جَائِزٌ انْتَهَى، وَيَحْرُمُ أَخْذُ طَعَامٍ مِنْ
الْوَلِيمَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ
الِافْتِئَاتِ عَلَيْهِ.
(وَمَنْ دَعَاهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ) فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ (أَجَابَ
الْكُلَّ إنْ أَمْكَنَهُ) بِأَنْ لَمْ يَتَعَارَضْ وَقْتُ الْحُضُورِ
(وَإِلَّا) يُمْكِنُهُ (أَجَابَ الْأَسْبَقَ قَوْلًا) لِوُجُوبِ إجَابَتِهِ
بِدُعَائِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِدُعَاءِ مَنْ بَعْدَهُ، وَلَمْ تَجِبْ
إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُمْكِنَةٍ
(5/235)
مَعَ إجَابَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ سَبْقٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الْجَمْعُ (فَالْأَدْيَنُ) مِنْ
الدَّاعِينَ؛ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي
الدِّينِ (فَالْأَقْرَبُ رَحِمًا) لِمَا فِي تَقْدِيمِهِ مِنْ صِلَتِهِ،
فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ وَعَدَمِهَا؛ (فَ) الْأَقْرَبُ
(جِوَارًا) لِحَدِيثِ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعًا: «إذَا اجْتَمَعَ دَاعِيَانِ
أُجِيبَ أَقْرَبُهُمَا بَابًا، فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا بَابًا أَقْرَبُهُمَا
جِوَارًا» وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبِرِّ، فَقُدِّمَ لِهَذِهِ
الْمَعَانِي (ثُمَّ) إنْ اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ (أَقْرَعَ) فَيُقَدَّمُ
مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ؛ لِأَنَّهَا تُمَيِّزُ الْمُسْتَحِقَّ
عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ.
[فَصْلٌ حُكْم إجَابَة الْوَلَائِم غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ
لأهل الْعِلْم]
فَصْلٌ (يُكْرَهُ لِأَهْلِ فَضْلٍ وَعِلْمٍ إسْرَاعُ الْإِجَابَةِ) إلَى
الْوَلَائِمِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالتَّسَاهُلُ فِيهِ (لِأَنَّ فِيهِ
بِذْلَةً وَدَنَاءَةً) وَشَرُّهَا (وَلَا سِيَّمَا الْحَاكِمُ) لِأَنَّهُ
رُبَّمَا كَانَ ذَرِيعَةً لِلتَّهَاوُنِ بِهِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ.
وَمَنَعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ مِنْ إجَابَةِ ظَالِمٍ
وَفَاسِقٍ وَمُبْتَدِعٍ وَمُفَاخِرٍ بِهَا، أَوْ فِيهَا مُبْتَدِعٌ
يَتَكَلَّمُ بِبِدْعَةٍ إلَّا لِرَادٍّ عَلَيْهِ، وَكَذَا إنْ كَانَ فِيهَا
مُضْحِكٌ بِفُحْشٍ أَوْ كَذِبٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ،
وَإِلَّا يَكُنْ مُضْحِكًا بِفُحْشٍ أَوْ كَذِبٍ أُبِيحَ لَهُ أَنْ يُجِيبَ
إذَا كَانَ يُضْحِكُ قَلِيلًا (وَكَرِهَ الشَّيْخُ عَبْدِ الْقَادِرِ)
قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ (حُضُورَ) الْوَلَائِمِ مُطْلَقًا (غَيْرَ
وَلِيمَةِ عُرْسٍ) وَمَحَلُّ ذَلِكَ إنْ كَانَ كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمْنَعُ الْمُحْتَاجُ وَيَحْضُرُ
الْغَنِيُّ.
وَتَقَدَّمَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ
الْوَلِيمَةِ يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيَهَا، وَيُدْعَى إلَيْهَا مَنْ
يَأْبَاهَا» .
وَفِي التَّرْغِيبِ إذَا عَلِمَ حُضُورَ الْأَرْذَالِ وَمَنْ
مُجَالَسَتُهُمْ تَزْرِي بِمِثْلِهِ؛ لَمْ تَجِبْ إجَابَتُهُ قَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا،
قَالَ: وَقَدْ أَطْلَقَ الْوُجُوبَ، وَاشْتَرَطَ الْحِلَّ وَعَدَمِ
الْمُنْكَرِ وَأَمَّا هَذَا الشَّرْطُ فَلَا أَصْلَ لَهُ كَمَا أَنَّ
مُخَالَطَتَهُ
(5/236)
هَؤُلَاءِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ لَا
تَسْقُطُ الْجَمَاعَةُ، وَفِي الْجِنَازَةِ لَا تَسْقُطُ الْحُضُورُ،
فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، وَهَذِهِ شُبْهَةُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ،
وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ التَّكَبُّرِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، نَعَمْ إنْ
كَانَ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ مُحَرَّمٍ فَقَدْ اشْتَمَلَتْ الدَّعْوَةُ
عَلَى مُحَرَّمٍ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى
مَكْرُوهٍ.
(وَمَنْ عَلِمَ أَنْ فِي الدَّعْوَةِ مُنْكَرًا كَزَمْرٍ وَخَمْرٍ وَطَبْلٍ
مُحَرَّمٍ وَعُودٍ وَجُنْكٍ) وَرَبَابٍ (وَآنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
فِضَّةٍ وَفُرُشٍ مُحَرَّمَةٍ، وَأَمْكَنَهُ إزَالَةُ ذَلِكَ) الْمُنْكَرِ
(حَضَرَ وُجُوبًا وَ) أَزَالَهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي بِذَلِكَ فَرْضَيْنِ:
إجَابَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ، وَإِلَّا
يُمْكِنُهُ الْإِنْكَارُ (لَمْ يَحْضُرْ) وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ؛
لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقْعُدْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ فِيهَا
الْخَمْرُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ
جَابِرٍ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ قَاصِدًا لِرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ أَوْ
سَمَاعِهِ بِلَا حَاجَةٍ (وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ) الْمَدْعُوُّ (فَحَضَرَ
فَشَاهَدَهُ) أَيْ: الْمُنْكَرَ (أَزَالَهُ وَجَلَسَ) بَعْدَ ذَلِكَ؛
إجَابَةً لِمَنْ دَعَاهُ (وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) عَلَى إزَالَتِهِ
(انْصَرَفَ) لِئَلَّا يَكُونَ قَاصِدًا لِرُؤْيَتِهِ أَوْ سَمَاعِهِ.
وَرَوَى نَافِعٌ قَالَ: «كُنْت أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
فَسَمِعَ زَمَّارَةَ رَاعٍ، فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، ثُمَّ
عَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ: يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ؛
حَتَّى قُلْت: لَا؛ فَأَخْرَجَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ
إلَى الطَّرِيقِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالْخَلَّالُ، وَخَرَجَ أَحْمَدُ عَنْ وَلِيمَةٍ فِيهَا آنِيَةُ فِضَّةٍ،
فَقَالَ الدَّاعِي نُحَوِّلُهَا، فَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ. نَقَلَهُ
حَنْبَلٌ.
وَيُفَارِقُ مَنْ لَهُ جَارٌ مُقِيمٌ عَلَى الْمُنْكَرِ وَالزَّمْرِ حَيْثُ
يُبَاحُ لَهُ الْمَقَامُ؛ فَإِنَّ تِلْكَ حَالُ حَاجَةٍ؛ لِمَا فِي
الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ مِنْ الضَّرَرِ قَالَهُ فِي " الشَّرْحِ ".
(وَإِنْ عَلِمَ الْمَدْعُوُّ بِهِ) أَيْ: بِالْمُنْكَرِ (وَلَمْ يَرَهُ،
وَلَمْ يَسْمَعْهُ؛ أُبِيحَ لَهُ الْجُلُوسُ) وَالْأَكْلُ نَصًّا؛ لِأَنَّ
الْمُحَرَّمَ رُؤْيَةُ الْمُنْكَرِ وَسَمَاعُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَأُبِيحَ
لَهُ الِانْصِرَافُ لِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ نَفْسِهِ بِإِيجَادِ الْمُنْكَرِ.
(5/237)
(وَإِنْ شَاهَدَ صُوَرًا مُعَلَّقَةً
فِيهَا صُوَرُ حَيَوَانٍ) وَأَمْكَنَهُ حَطُّهَا، وَأَمْكَنَهُ قَطْعُ
رُءُوسِهِمْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَجَلَسَ إجَابَةً
لِلدَّاعِي، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ (كُرِهَ) جُلُوسُهُ إلَّا أَنْ
تُزَالَ؛ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ يَقْتَسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ، فَقَالَ: قَاتَلَهُمْ
اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ» رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَلِأَنَّ دُخُولَ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ غَيْرُ
مُحَرَّمٍ، وَهِيَ لَا تَخْلُو مِنْهَا، وَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ لَا
تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ دُخُولِهِ؛ كَمَا
لَوْ كَانَ فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا يَحْرُمُ صُحْبَةُ رُفْقَةٍ فِيهَا جَرَسٌ
مَعَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَصْحَبُهُمْ، وَيُبَاحُ تَرْكُ
الْإِجَابَةِ إذَنْ عُقُوبَةً لِلْفَاعِلِ، وَزَجْرًا لَهُ عَنْ فِعْلِهِ،
وَإِنْ عَلِمَ بِالصُّوَرِ الْمُعَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ كُرِهَ لَهُ
الدُّخُولُ وَ (لَا) يُكْرَهُ جُلُوسُهُ (إنْ كَانَتْ هِيَ) أَيْ:
السُّتُورُ الْمُصَوَّرَةُ (مَبْسُوطَةً) عَلَى الْأَرْضِ (أَوْ) كَانَتْ
(عَلَى وِسَادَةٍ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَدِمَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْت لَهُ
سَهْوَةً بِنَمَطٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: أَتَسْتُرِينَ
الْجُدُرَ بِسِتْرٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ؟ فَهَتَكَهُ. قَالَتْ: فَجَعَلْتُ
مِنْهُ مِنْبَذَتَيْنِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا» رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ
وَالسَّهْوَةُ: الصُّفَّةُ أَوْ الْمِخْدَعُ بَيْنَ بَيْتَيْنِ أَوْ شِبْهُ
الرَّفِّ أَوْ الطَّاقِ يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ أَوْ بَيْتٌ صَغِيرٌ
شِبْهُ الْخِزَانَةِ الصَّغِيرَةِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَعْوَادٍ وَثَلَاثَةٍ
يُعَارِضُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
الْأَمْتِعَةِ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ: وَالنَّمَطُ مُحَرَّكَةٌ
ظِهَارَةُ فِرَاشٍ مَا، أَوْ ضَرْبٌ مِنْ الْبُسُطِ، أَوْ ثَوْبُ صُوفٍ
يُطْرَحُ عَلَى الْهَوْدَجِ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا.
وَالْمِنْبَذَتَانِ تَثْنِيَةُ مِنْبَذَةٍ كَمِكْنَسَةٍ، وَهِيَ
الْوِسَادَةُ، لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَبْسُوطَةً تُدَاسُ وَتُمْتَهَنُ،
فَلَمْ تَكُنْ مَعْزُوزَةً مُعَظَّمَةً؛ فَلَا تُشْبِهُ الْأَصْنَامَ
الَّتِي تُعْبَدُ وَمَتَى قُطِعَ مِنْ الصُّورَةِ الرَّأْسُ أَوْ مَا لَا
يَبْقَى بَعْدَ ذَهَابِهِ حَيَاةٌ؛ فَلَا كَرَاهَةَ، وَكَذَا لَوْ
صُوِّرَتْ ابْتِدَاءً بِلَا رَأْسٍ وَنَحْوِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سِتْرِ
الْعَوْرَةِ: يَحْرُمُ التَّصْوِيرُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ لُبْسِ
الْحَرِيرِ لِلذَّكَرِ، وَمَا نُسِجَ بِذَهَبِ أَوْ فِضَّةٍ (وَكُرِهَ
سِتْرُ حِيطَانٍ بِسُتُورٍ لَا صُوَرَ فِيهَا أَوْ) بِسُتُورِ (صُوَرٍ
(5/238)
غَيْرِ حَيَوَانٍ) كَشَجَرٍ (بِلَا
ضَرُورَةٍ) مِنْ (حَرٍّ وَبَرْدٍ) وَهُوَ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْإِجَابَةِ؛
لِمَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَعْرَسْت فِي
عَهْدِ أَبِي، فَأَذِنَ إلَى النَّاسِ، وَكَانَ فِيمَنْ أَذِنَ أَبُو
أَيُّوبَ، وَقَدْ سَتَرَ بَيْتِي بِحُبَارَى أَخْضَرَ فَأَقْبَلَ أَبُو
أَيُّوبَ فَاطَّلَعَ فَرَأَى الْبَيْتَ مُسْتَتِرًا بِحُبَارَى أَخْضَرَ
فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَتَسْتُرُ الْجُدُرَ؟ فَقَالَ أَبِي
وَاسْتَحْيَا: غَلَبَتْنَا النِّسَاءُ يَا أَبَا أَيُّوبَ فَقَالَ مَنْ
خَشِيت أَنْ يَغْلِبْنَهُ لَمْ أَخْشَ أَنْ يَغْلِبْنَك، ثُمَّ قَالَ: لَا
أَطْعَمُ لَك طَعَامًا، وَلَا أَدْخُلُ لَك بَيْتًا، ثُمَّ خَرَجَ رَوَاهُ
الْأَثْرَمُ، وَالْحُبَارَى ضَرْبٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ، وَلَا
يَحْرُمُ؛ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَقَدْ فَعَلَهُ ابْنُ
عُمَرَ، وَفُعِلَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَلِأَنَّهُ تَغْطِيَةٌ
لِلْحِيطَانِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَجْصِيصٍ، وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ
مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ (إنْ لَمْ تَكُنْ) السُّتُورُ (حَرِيرًا،
وَيَحْرُمُ جُلُوسٌ مَعَهُ) أَيْ: سِتْرُ الْحِيطَانِ (بِهِ) أَيْ:
بِالْحَرِيرِ وَتَعْلِيقُهُ، وَتَقَدَّمَ فِي سِتْرِ الْعَوْرَةِ (وَ)
يَحْرُمُ (جُلُوسٌ مَعَهُ) أَيْ: مَعَ سِتْرِ الْحِيطَانِ بِالْحَرِيرِ؛
لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الْمُنْكَرِ.
(وَ) يَحْرُمُ (تَعْلِيقُ مَا فِيهِ صُوَرُ حَيَوَانٍ وَسِتْرُ جُدُرٍ بِهِ
وَتَصْوِيرُهُ وَمَرَّ حُكْمُهُ فِي سِتْرِ الْعَوْرَةِ) مُسْتَوْفَى.
(وَيَتَّجِهُ فَتَحْرُمُ الزِّينَةُ بِهِ) أَيْ: بِالْحَرِيرِ وَنَحْوِهِ
(لِلسُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ) كَالْأَمِيرِ (إلَّا لِمُكْرَهٍ) عَلَى
التَّزَيُّنِ بِهِ؛ فَإِنْ هَدَّدَ إنْسَانٌ قَادِرٌ عَلَى إيقَاعِ مَا
هَدَّدَهُ بِهِ؛ فَيُبَاحُ لَهُ حِينَئِذٍ؛ دَفْعًا لِلضَّرَرِ
(وَيَتَّقِيهِ) أَيْ التَّزَيُّنَ وُجُوبًا (مَا أَمْكَنَ) لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]
(وَيَحْرُمُ جُلُوسُ مُخْتَارٍ) عَلَى حَرِيرٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ
مُنْكَرٌ، وَ (لَا) يَحْرُمُ (تَفَرُّجٌ) عَلَى زِينَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى
حَرِيرٍ وَنَحْوِهِ مِنْ إنْسَانٍ (مَارٍّ) عَلَيْهَا أَوْ مَرَّتْ بِهِ
الزِّينَةُ، فَتَفَرَّجَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَّخِذٍ، وَلَا
مُسْتَعْمِلٍ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ.
(5/239)
(وَحَرُمَ أَكْلٌ بِلَا إذْنٍ صَرِيحٍ أَوْ
قَرِينَةٍ) مِنْ رَبِّ الطَّعَامِ (أَوْ قَرِينَةٍ) تَدُلُّ عَلَى إذْنٍ
كَتَقْدِيمِ طَعَامٍ وَدُعَائِهِ إلَيْهِ (وَلَوْ كَانَ أَكْلُهُ مِنْ
بَيْتِ قَرِيبِهِ أَوْ صَدِيقِهِ وَلَوْ لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْهُ) لِحَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا
وَخَرَجَ مُغِيرًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا. وَلِأَنَّهُ مَالُ
غَيْرِهِ؛ فَلَا يُبَاحُ أَكْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَأَخْذِ الدَّرَاهِمِ
عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. (وَدُعَاءٌ لِوَلِيمَةٍ وَتَقْدِيمُ
طَعَامٍ) إذَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ بِالْأَكْلِ
بِذَلِكَ كَمَا فِي الْغُنْيَةِ (إذْنٌ فِيهِ) أَيْ: الْأَكْلِ (إذَا
كَمُلَ وَضْعُهُ، وَلَمْ يُلْحَظْ انْتِظَارُ أَحَدٍ) لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَجَاءَ
مَعَهُ الرَّسُولُ فَذَلِكَ إذْنٌ لَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إذَا دُعِيت فَقَدْ أُذِنَ لَك. وَ (لَا)
الدُّعَاءُ إلَى الْوَلِيمَةِ إذْنًا (فِي الدُّخُولِ إلَّا بِقَرِينَةٍ)
تَدُلُّ عَلَيْهِ (وَلَا يَمْلِكُهُ) أَيْ: الطَّعَامُ (مِنْ قُدِّمَ
إلَيْهِ) بِتَقْدِيمِهِ لَهُ (بَلْ يَهْلِكُ) الطَّعَامُ بِالْأَكْلِ
(عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا) ، وَإِنَّمَا
أَبَاحَهُ الْأَكْلُ؛ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
(وَلَا يُعْتَبَرُ) مَعَ الدُّعَاءِ إلَى الْوَلِيمَةِ أَوْ تَقْدِيمِ
الطَّعَامِ (إذْنٌ ثَانٍ لِأَكْلٍ كَطَبِيبٍ دُعِيَ لِفَصْدٍ وَخَيَّاطٍ)
دُعِيَ (لِتَفْصِيلٍ) وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصَّنَائِعِ، فَيَكُونُ
الْعُرْفُ إذْنًا فِي التَّصَرُّفِ، وَلَا يَجُوزُ لِلضِّيفَانِ قَسْمُهُ،
وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَهَبَهُ، فَأَضَافَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يُمَلِّكْهُ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
(5/240)
[فَصْلٌ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]
فَصْلٌ فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا
(يُسْتَحَبُّ وَلَوْ لِمُتَوَضِّئٍ غَسْلُ يَدَيْهِ قَبْلَ أَكْلٍ
مُتَقَدِّمًا) رَبَّهُ وَغَسْلُهُمَا (بَعْدَهُ) أَيْ: الْأَكْلِ
(مُتَأَخِّرًا بِهِ رَبَّهُ وَ) يَسْتَحِقُّ غَسْلَ فَمِهِ بَعْدَهُ،
وَأَنْ (يَتَوَضَّأَ الْجُنُبُ قَبْلَ) أَيْ: الْأَكْلِ لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ قَالَتْ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِلْجُنُبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَنْ
يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
(وَلَا يُكْرَهُ غَسْلُ يَدَيْهِ بِإِنَاءٍ أَكَلَ فِيهِ) نَصَّ عَلَيْهِ
(وَلَا) يُكْرَهُ غَسْلُهُمَا (بِطِيبٍ) كَمَاءِ وَرْدٍ وَنَحْوِهِ
(وَكُرِهَ) غَسْلُهُمَا (بِطَعَامٍ) وَهُوَ الْقُوتُ (وَلَوْ بِدَقِيقِ
حِمَّصٍ وَعَدَسٍ وَبَاقِلَاءَ) وَنَحْوَهُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ: الْمِلْحُ لَيْسَ بِقُوتٍ، وَإِنَّمَا يُصْلَحُ بِهِ الْقُوتُ.
فَعَلَيْهِ لَا يُكْرَهُ الْغَسْلُ بِهِ وَ (لَا) بَأْسَ بِغَسْلِ
الْيَدَيْنِ (بِنُخَالَةٍ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قُوتًا (أَوْ لِحَاجَةٍ)
دَعَتْ لِاسْتِعْمَالِ الْقُوتِ (كَدَبْغٍ بِدَقِيقِ شَعِيرٍ وَتَدَاوٍ
بِلَبَنٍ لِجَرَبٍ) وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْحَاجَةِ.
(وَتُسَنُّ تَسْمِيَةٌ جَهْرًا عَلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ
مَرْفُوعًا: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ
نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ
اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» . وَقِيسَ عَلَيْهِ الشُّرْبُ (فَيَقُولُ)
الْآكِلُ وَالشَّارِبُ (بِسْمِ اللَّهِ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
(وَإِنْ زَادَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَحَسَنٌ) ، بِخِلَافِ الذَّبْحِ
فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. انْتَهَى.
(فَإِنْ ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ) الْأَكْلِ (قَالَ) نَدْبًا (بِسْمِ اللَّهِ
(5/241)
أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ) لِلْخَبَرِ،
وَيُسَمِّي الْمُمَيِّزُ (وَيُسَمَّى عَمَّنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا
تَمْيِيزَ) لِتَعَذُّرِهَا مِنْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ بِهَا
أَخْرَسُ وَنَحْوُهُ كَالْوُضُوءِ (وَحَمِدَ) اللَّهَ الْآكِلُ
وَالشَّارِبُ (إذَا فَرَغَ) مِنْ أَكْلِهِ أَوْ شُرْبِهِ؛ لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ يَرْضَى مِنْ الْعَبْدِ
أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»
. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(وَمِمَّا وَرَدَ) مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا
مُسْلِمِينَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ.
(وَ) مِنْهُ أَيْضًا مَا رَوَى مُعَاذٌ الْجُهَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا
فَقَالَ: الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ
وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ (وَدَعَا
لِرَبِّ الطَّعَامِ) نَدْبًا (وَمِنْهُ أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ،
وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ)
لِلْخَبَرِ.
(وَ) يُسَنُّ (أَكْلُهُ مِمَّا يَلِيهِ) وَمَحَلُّ ذَلِكَ حَيْثُ (لَا
أَنْوَاعَ) مُتَعَدِّدَةٍ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ أَنْوَاعٌ، فَلَهُ
التَّنَاوُلُ مِنْهَا، أَوْ كَانَ الطَّعَامُ فَاكِهَةً فَلَا بَأْسَ؛
لِحَدِيثِ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ
وَالْوَدَكِ؛ فَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ، فَخَبَطَتْ يَدَيَّ فِي نَوَاحِيهَا،
فَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ، كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ مِنْ
طَعَامٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانٌ مِنْ الرُّطَبِ،
فَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
الطَّبَقِ، وَقَالَ يَا عِكْرَاشُ، كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت؛ فَإِنَّهُ
غَيْرُ لَوْنٍ وَاحِدٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: أَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ
مِمَّا لَا يَلِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْذِي بِذَلِكَ. قَالَ فِي شَرْحِ
الْإِقْنَاعِ: وَكَذَا لَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ مَنْ لَا
يَسْتَقْذِرُ مِنْهُ بَلْ يَسْتَشْفِي مِنْهُ، كَمَا يَشْهَدُ لَهُ
تَتَبُّعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلدُّبَّاءِ مِنْ
حَوَالَيْ الصَّحْفَةِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ (بِيَمِينِهِ) وَيُكْرَهُ تَرْكُ
الْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَمِمَّا يَلِيهِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
أَبِي سَلَمَةَ قَالَ «كُنْت يَتِيمًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ،
فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا
غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِك وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
(5/242)
(وَلَا بَأْسَ) بِالْأَكْلِ (بِمِلْعَقَةٍ)
وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً؛ لِأَنَّهَا تُعْتَبَرُ بِهَا الْأَحْكَامُ
الْخَمْسَةُ (وَ) يُسَنُّ أَكْلُهُ (بِثَلَاثِ أَصَابِعَ) لِحَدِيثِ كَعْبِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى
يَلْعَقَهَا» . وَلَمْ يُصَحِّحْ أَحْمَدُ حَدِيثَ أَكْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِكَفِّهِ (فَيُكْرَهُ) الْأَكْلُ (بِأَقَلَّ)
مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ؛ لِأَنَّهُ كِبْرٌ (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا
(بِأَكْثَرَ) مِنْ ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّهُ شَرَهٌ، مَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةً.
قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْأَكْلِ
بِالْأَصَابِعِ كُلِّهَا فَذَهَبَ إلَى ثَلَاثِ أَصَابِعَ.
(وَ) يُسَنُّ (تَخْلِيلُ مَا عَلَقَ بِأَسْنَانِهِ) مِنْ طَعَامٍ. قَالَ
فِي " الْمُسْتَوْعِبِ " رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: تَرْكُ الْخِلَالِ
يُوهِنُ الْأَسْنَانَ. وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مَرْفُوعًا، وَرُوِيَ:
«تَخَلَّلُوا مِنْ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَى
الْمَلَكِ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجِدَ مِنْ أَحَدِكُمْ رِيحَ
الطَّعَامِ» . قَالَ النَّاظِمُ: وَيُلْقِي مَا أَخْرَجَهُ الْخِلَالُ،
وَلَا يَبْتَلِعُهُ لِلْخَبَرِ.
(وَ) يُسَنُّ (مَسْحُ الصَّحْفَةِ) الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا (وَ) يُسَنُّ
(أَكْلُ مَا تَنَاثَرَ) مِنْهُ أَوْ سَقَطَ مِنْهُ مِنْ الْفَمِ بَعْدَ
إزَالَةِ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَذًى؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَقَعَتْ
اللُّقْمَةُ مِنْ يَدِ أَحَدِكُمْ فَلْيَمْسَحْ مَا عَلَيْهَا مِنْ
الْأَرْضِ وَلْيَأْكُلْهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ (وَ) يُسَنُّ لِمَنْ
أَكَلَ مَعَ غَيْرِهِ (غَضُّ طَرْفِهِ عَنْ جَلِيسِهِ) لِئَلَّا
يَسْتَحْيِيَ (وَ) يُسَنُّ (إيثَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ) لِمَدْحِهِ تَعَالَى
فَاعِلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9]
الْآيَةَ (وَشُرْبُهُ ثَلَاثًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «مُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا، وَلَا تَعُبُّوهُ عَبًّا،
فَإِنَّ الْكُبَادَ مِنْ الْعَبِّ» .
وَالْكُبَادُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، قِيلَ: وَجَعُ
الْكَبِدِ، وَيَعُبُّ اللَّبَنَ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ (وَسُنَّ تَمَضْمُضٌ
مِنْ شُرْبٍ) قَالَهُ فِي " الْآدَابِ "، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ تُسْتَحَبَّ
الْمَضْمَضَةُ مِنْ
(5/243)
مَا لَهُ دَسَمٌ (وَ) سُنَّ (لَعْقُ
أَصَابِعِهِ قَبْلَ الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ، أَوْ يُلْعِقَهَا غَيْرَهُ) ؛
لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَلَا يَمْسَحُ
يَدَيْهِ حَتَّى يَلْعَقَهَا» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ؛
(وَيُسَمِّي الشَّارِبُ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ، وَيَحْمَدُ عِنْدَ كُلِّ
قَطْعٍ، وَقَدْ يُقَالُ فِي أَكْلِ كُلِّ لُقْمَةٍ فَعَلَهُ أَحْمَدُ،
وَقَالَ: أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ) انْتَهَى.
(وَيُسْتَحَبُّ) لِلْآكِلِ (أَنْ يَجْلِسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى،
وَيَنْصِبَ الْيُمْنَى أَوْ يَتَرَبَّعَ) وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ
الِاتِّكَاءِ.
(وَ) يُسْتَحَبُّ (أَنْ يُصَغِّرَ اللُّقْمَةَ، وَيُجِيدَ فِي الْمَضْغِ
وَيُطِيلَ الْبَلْعَ) لِأَنَّهُ أَجْوَدُ هَضْمًا، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ: إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا هُوَ أَتَمُّ مِنْ الْإِطَالَةِ
(وَاسْتَحَبَّ) بَعْضُ الْأَصْحَابِ تَصْغِيرُ الْكِسَرِ يَعْنِي اللُّقَمَ
(وَإِذَا أَكَلَ مَعَهُ ضَرِيرٌ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُعْلِمَهُ بِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ) مِنْ الطَّعَامِ لِيَتَنَاوَلَ مِمَّا يَشْتَهِيهِ (وَيَنْوِي
نَدْبًا بِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ) لِحَدِيثِ:
«وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» .
تَنْبِيهٌ: وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَأَ الْأَكْبَرُ وَالْأَعْلَمُ
وَصَاحِبُ الْبَيْتِ بِالْأَكْلِ؛ لِحَدِيثِ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» وَيُكْرَهُ
لِغَيْرِهِمَا السَّبْقُ إلَى الْأَكْلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّنَاءَةِ
وَالشَّرَهِ.
(وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا بِالْأَدَبِ
وَالْمُرُوءَةِ، وَمَعَ الْفُقَرَاءِ بِالْإِيثَارِ وَمَعَ الْعُلَمَاءِ
بِالتَّعَلُّمِ، وَمَعَ الْإِخْوَانِ بِالِانْبِسَاطِ وَالْحَدِيثِ
الطَّيِّبِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِالْحَالِ) وَلَا يَتَصَنَّعُ
بِالِانْقِبَاضِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي الْحَاضِرِينَ مَعَهُ، وَيَتَكَلَّفُ
الِانْبِسَاطَ، قَالَ أَحْمَدُ يَأْكُلُ بِالسُّرُورِ مَعَ الْإِخْوَانِ،
وَبِالْإِيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ، وَبِالْمُرُوءَةِ مَعَ أَبْنَاءِ
الدُّنْيَا انْتَهَى. وَلَا يُكْثِرُ النَّظَرَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي
يَأْكُلُ مِنْهُ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ.
(وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ لَا يَسْكُتُوا
عَلَى الطَّعَامِ، بَلْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وَقَالَ: يَنْبَغِي
لِلْمُضِيفِ أَنْ يَتَوَاضَعَ فِي مَجْلِسِهِ، وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ
أَنْ لَا يَتَصَدَّرَ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ مَكَانًا
أَنْ لَا يَتَجَاوَزَهُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إسَاءَةُ أَدَبٍ
(5/244)
مِنْهُ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْصِدَ)
الْمَدْعُوُّ (بِإِجَابَتِهِ) الدَّعْوَةَ (نَفْسَ الْأَكْلِ) لِأَنَّهُ
سِمَةُ الْبَهَائِمِ، (بَلْ يَنْوِي بِهِ الِاقْتِدَاءَ بِالسُّنَّةِ
وَإِكْرَامَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، وَصِيَانَةَ نَفْسِهِ عَنْ سُوءِ ظَنِّ
تَكَبُّرٍ بِهِ) لِيُثَابَ عَلَيْهِ.
(وَمِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ ضَيْفِهِ لِبَابِ الدَّارِ)
تَتْمِيمًا لِإِكْرَامِهِ (وَيَحْسُنُ أَنْ يَأْخُذَ بِرِكَابِهِ إلَى
رِكَابِ ضَيْفِهِ) إذَا رَكِبَ (وَوَرَدَ) فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
مَرْفُوعًا: «مَنْ أَخَذَ بِرِكَابِ مَنْ لَا يَرْجُوهُ، وَلَا يَخَافُهُ،
غُفِرَ لَهُ» قَالَهُ فِي " الْآدَابِ " (وَلَهُ) أَيْ رَبِّ الطَّعَامِ
(تَخْصِيصُ بَعْضِ الضِّيفَانِ بِشَيْءٍ طَيِّبٍ إنْ لَمْ يَتَأَذَّ
غَيْرَهُ) لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ.
(وَيُسْتَحَبُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُفْضِلَ شَيْئًا) مِنْ الطَّعَامِ (لَا
سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِفَضْلَتِهِ) أَوْ كَانَ ثَمَّ
حَاجَةٌ إلَى بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ (وَ) فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ "
يُسْتَحَبُّ (لِأَهْلِ الطَّعَامِ أَنْ يَأْكُلُوا بَعْدَ فَرَاغِ
الضِّيفَانِ) لِحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ فِي الصَّحِيحِ
وَفِيهِ: «أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَذَهَبَ بِالضَّيْفِ وَقَالَ
لِامْرَأَتِهِ: هَذَا ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا عِنْدَنَا إلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ.
فَقَالَ: نَوِّمِي صِبْيَانَك، وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ، وَقَدِّمِي مَا
عِنْدَك لِلضَّيْفِ، وَنُوهِمُهُ أَنَّا نَأْكُلُ، فَفَعَلَا ذَلِكَ،
وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] » وَالْأَوْلَى النَّظَرُ فِي
قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى إبْقَاءِ شَيْءٍ
أَبْقَاهُ وَإِلَّا مَسَحَ الْإِنَاءَ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَغْفِرُ
لِلَاعِقِهَا.
(وَ) (أَكْلُهُ مَعَ زَوْجَةٍ وَطِفْلٍ وَمَمْلُوكٍ، وَتَكْثِيرِ
الْأَيْدِي عَلَى الطَّعَامِ) وَلَوْ مِنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ؛ لِتَكْثُرَ
الْبَرَكَةُ، وَلَعَلَّهُ صَادَفَ صَالِحًا يَأْكُلُ مَعَهُ، فَيُغْفَرُ
لَهُ بِسَبَبِهِ.
(5/245)
(وَالسُّنَّةُ جَعْلُ الْبَطْنِ أَثْلَاثًا
ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلنَّفَسِ)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ
لَقِيمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ، فَثُلُثٌ
لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» .
(وَيُسَنُّ إذَا فَرَغَ مِنْ الْأَكْلِ أَنْ لَا يُطِيلَ الْجُلُوسَ بِلَا
حَاجَةٍ بَلْ يَسْتَأْذِنَ) رَبَّ الْمَنْزِلِ (وَيَنْصَرِفَ) لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53] .
(وَ) يُسَنُّ (أَنْ يَخُصَّ بِدَعْوَتِهِ الْأَتْقِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ)
لِتَنَالَهُ بَرَكَتُهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى طَاعَةِ
اللَّهِ بِخِلَافِ ضِدِّهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى
مَعْصِيَتِهِ، فَيَكُونُ مُعِينًا لَهُمْ عَلَيْهَا (وَأَنْ لَا يَرْفَعَ
مِنْ أَكْلٍ مَعَ جَمَاعَةٍ يَدَهُ قَبْلَهُمْ؛ فَيُكْرَهُ) بِلَا
قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى شِبَعِ الْجَمِيعِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذْ لَوْ
وُضِعَتْ الْمَائِدَةُ فَلَا يَقُومُ رَجُلٌ حَتَّى تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ،
وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ وَإِنْ شَبِعَ حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ
وَلِيَعْذِرَ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُخْجِلَ جَلِيسَهُ فَيَقْبِضُ يَدَهُ،
وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةٌ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
(وَإِنْ طَبَخَ مَرَقَةً فَلْيُكْثِرْ مِنْ مَائِهَا وَيَتَعَاهَدَ بَعْضَ
جِيرَانِهِ. وَمِنْ آدَابِ) إحْضَارِ (الطَّعَامِ تَعْجِيلُهُ لَا سِيَّمَا
إذَا كَانَ) الطَّعَامُ (قَلِيلًا، وَمِنْ التَّكَلُّفِ أَنْ يُقَدِّمَ
جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ) وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
«إنَّ أَتْقِيَاءَ أُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَكَلَّفُوا؛ لِلضَّيْفِ فَتُبْغِضُوهُ؛
فَإِنَّهُ مَنْ أَبْغَضَ الضَّيْفَ فَقَدْ أَبْغَضَ اللَّهَ، وَمَنْ
أَبْغَضَ اللَّهَ أَبْغَضَهُ اللَّهُ» .
(وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ الْفَاكِهَةَ قَبْلَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ
أَصْلَحُ فِي بَابِ الطِّبِّ) ؛ لِأَنَّهَا أَسْرَعُ هَضْمًا، فَتَنْحَدِرُ
عَلَى مَا تَحْتَهَا، فَتُفْسِدُهُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
(وَإِذَا دُعِيَ) إلَى أَكْلٍ (فَلْيَأْكُلْ بِبَيْتِهِ مَا يَكْسِرُ
نَهِمَتَهُ قَبْلَ ذَهَابِهِ) انْتَهَى.
(وَلَا يَقْتَرِحُ
(5/246)
الزَّائِرُ طَعَامًا بِعَيْنِهِ وَإِنْ
خُيِّرَ) الزَّائِرُ (بَيْنَ طَعَامَيْنِ اخْتَارَ الْأَيْسَرَ) مِنْهُمَا
لِئَلَّا يَحْمِلَ رَبَّ الطَّعَامِ عَلَى التَّكَلُّفِ (إلَّا أَنْ
يَعْلَمَ أَنَّ مُضِيفَهُ يُسَرُّ) بِاقْتِرَاحِهِ، وَلَا يُقَصِّرُ؛ فَلَا
بَأْسَ بِالِاقْتِرَاحِ، لِأَنَّهُ مِنْ إدْخَالِ السُّرُورِ (وَلَا خَيْرَ
فِيمَنْ لَا يُضَيِّفُ. وَلَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ وَلَا
الْجَمَادَاتِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ) كَتَقْبِيلِ الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ (وَلَا يُكْرَهُ شُرْبُهُ قَائِمًا وَشُرْبُهُ قَاعِدًا
أَكْمَلُ) قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يُكْرَهُ
أَكْلُهُ قَائِمًا وَيُتَوَجَّهُ كَشُرْبٍ (وَإِذَا شَرِبَ) لَبَنًا أَوْ
غَيْرَهُ (سُنَّ أَنْ يُنَاوِلَ الْأَيْمَنَ) وَلَوْ صَغِيرًا أَوْ
مَفْضُولًا، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ فِي مُنَاوَلَتِهِ
الْأَكْبَرَ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ نَاوَلَهُ لَهُ (وَكَذَا غُسْلُ
يَدَيْهِ) يَكُونُ لِلْأَيْمَنِ فَالْأَيْمَنِ (وَرَشِّ نَحْوِ مَاءِ
وَرْدٍ) كَمَاءِ زَهْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ، وَكَذَا
التَّجْمِيرُ بِالْعُودِ وَنَحْوِهِ (وَيَبْدَأُ) فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
(بِأَفْضَلِهِمْ ثُمَّ بِمَنْ عَلَى الْيَمِينِ) لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الشُّرْبِ، وَقِسْ الْبَاقِي (وَلَا يَعُبُّ
الْمَاءَ عَبًّا بَلْ) يَمُصُّهُ (مَصًّا مُقَطَّعًا ثَلَاثًا) لِلْخَبَرِ
وَتَقَدَّمَ.
[فَصْلٌ الطَّعَامِ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ أَوْ وَسَطِهَا]
فَصْلٌ (يُكْرَهُ أَكْلُ) الطَّعَامِ (مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ أَوْ
وَسَطِهَا) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ
طَعَامًا فَلَا يَأْكُلُ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ، وَلَكِنْ لِيَأْكُلَ
مِنْ أَسْفَلِهَا؛ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا» وَفِي
لَفْظٍ آخَرَ: «كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا وَدَعُوا ذِرْوَتَهَا يُبَارَكْ
فِيهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
(وَ) كُرِهَ لِحَاضِرٍ (فِعْلُ مَا يَسْتَقْذِرُهُ مِنْ غَيْرِهِ نَحْوِ
مُخَاطٍ وَبُصَاقٍ وَنَفْضِ يَدِهِ فِي الْقَصْعَةِ) لِمَا فِيهِ مِنْ
الِاسْتِقْذَارِ (وَكُرِهَ تَقْدِيمُ رَأْسِهِ إلَيْهَا) أَيْ الْقَصْعَةِ
(عِنْدَ وَضْعِ لُقْمَةٍ بِفَمِهِ) لِأَنَّهُ رُبَّمَا سَقَطَ مِنْ فَمِهِ
شَيْءٌ فِيهَا فَقَذَّرَهَا (وَ) كُرِهَ (غَمْسُ بَقِيَّةِ لُقْمَةٍ أَكَلَ
مِنْهَا فِي الْمَرَقَةِ) لِأَنَّهُ قَدْ يَكْرَهُهُ غَيْرُهُ.
(5/247)
(وَ) كُرِهَ (تَكَلُّمٌ بِمَا يُسْتَقْذَرُ
أَوْ بِمَا يُضْحِكُهُمْ أَوْ يُحْزِنُهُمْ) قَالَهُ الشَّيْخ وَعَبْدُ
الْقَادِرِ.
(وَ) كُرِهَ (أَكْلُهُ مُتَّكِئًا أَوْ مُضْطَجِعًا) أَوْ مُنْبَطِحًا
وَفِي " الْغُنْيَةِ " وَغَيْرِهَا (أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ وَ) كُرِهَ
لِرَبِّ الطَّعَامِ (مَدْحُ طَعَامِهِ) وَلَا بَأْسَ بِهِ لِلضَّيْفِ
وَالزَّائِرِ (وَكُرِهَ تَقْوِيمُهُ وَعَيْبُهُ أَيْ: الطَّعَامِ
وَاحْتِقَارُهُ، فَإِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ) لِمَا
وَرَدَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا عَابَ طَعَامًا
قَطُّ، بَلْ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ لِلْأَكْلِ» .
(وَ) كُرِهَ (نَفْخُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) لِيَبْرُدَ قَالَ فِي "
الْمُسْتَوْعِبِ " النَّفْخُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
وَصَوَّبَ فِي " الْإِنْصَافِ " عَدَمَ كَرَاهَةِ نَفْخِ الطَّعَامِ إنْ
كَانَ ثَمَّ حَاجَةٌ إلَى الْأَكْلِ حِينَئِذٍ (وَأَكْلُهُ حَارًّا)
لِأَنَّهُ لَا بَرَكَةَ فِيهِ إنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّ حَاجَةٌ (أَوْ) أَيْ:
وَكُرِهَ أَكْلُهُ (كَثِيرًا بِحَيْثُ يُؤْذِيهِ) جَزَمَ بِهِ فِي
الْمُنْتَهَى " (أَوْ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَضُرُّهُ) لِحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ
وَلَا ضِرَارَ» .
(وَ) كُرِهَ (شُرْبُهُ مِنْ فَمِ سِقَاءٍ) نَصًّا، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ
مِنْ دَاخِلِ الْقِرْبَةِ مَا يُنَغِّصُ الشُّرْبَ أَوْ يُؤْذِي الشَّارِبَ
(وَ) مِنْ (ثُلْمَةِ إنَاءٍ) أَوْ مُحَاذِيًا لِلْعُرْوَةِ الْمُتَّصِلَةِ
بِرَأْسِ الْإِنَاءِ، وَكَذَا اخْتِنَاثُهُ الْأَسْقِيَةَ، وَهُوَ
قَلْبُهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: خَنَثْت الْإِنَاءَ وَاخْتَنَثْتُهُ إذَا
ثَنَيْته إلَى الْخَارِجِ فَشَرِبْت مِنْهُ فَإِنْ كَسَرْته إلَى دَاخِلٍ
فَقَدْ قَبَعْته بِالْقَافِ وَالْبَاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (وَ)
كُرِهَ شُرْبُهُ (فِي أَثْنَاءِ طَعَامٍ بِلَا عَادَةٍ) فَإِنَّهُ أَجْوَدُ
فِي الطِّبِّ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ: بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
إلَّا إذَا صَدَقَ عَطَشُهُ، فَيَنْبَغِي مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ، يُقَالُ:
إنَّهُ دَبَّاغٌ لِلْمَعِدَةِ (وَ) كُرِهَ (تَنَفُّسُهُ فِي الْإِنَاءِ
وَرَدِّ شَيْءٍ مِنْ فِيهِ إلَيْهِ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «وَلَا
يَتَنَفَّسُ أَحَدُكُمْ فِي الْإِنَاءِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
(5/248)
(وَ) كُرِهَ (أَكْلٌ وَشُرْبٌ بِشِمَالِهِ
بِلَا ضَرُورَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ كُرِهَ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
مَرْفُوعًا: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَلَا يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ» مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ (فَإِنْ أَمْسَكَ بِيَمِينِهِ خُبْزًا وَبِشِمَالِهِ أُدْمًا)
وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا، وَيَتَأَدَّمُ مِنْ هَذَا (فَكَذَلِكَ)
أَيْ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ بِشِمَالِهِ (وَلِمَا فِيهِ مِنْ
الشَّرَهِ، وَ) كُرِهَ (قِرَانُهُ فِي تَمْرٍ وَنَحْوِهِ) (مِمَّا جَرَتْ
الْعَادَةُ بِتَنَاوُلِهِ إفْرَادًا) لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّرَهِ أَيْضًا
(وَ) كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (أَنْ يَفْجَأَ قَوْمًا عِنْدَ وَضْعِ
طَعَامِهِمْ تَعَمُّدًا فَيَحْرُمُ أَكْلُهُ بِلَا إذْنِهِمْ) لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}
[الأحزاب: 53] . الْآيَةَ. وَكَذَا الَّذِي يَتْبَعُ الضَّيْفَ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يُدْعَى وَهُوَ الطُّفَيْلِيُّ (وَ) إنْ فَجْأَهُمْ (بِلَا تَعَمُّدٍ)
فَلَهُ أَنْ (يَأْكُلَ) نَصًّا إنْ كَانَ مِنْ عَادَةِ رَبِّ الْأَكْلِ
السَّمَاحَةُ.
(وَ) كُرِهَ (تَعْلِيَةُ قَصْعَةٍ بِخُبْزٍ وَطَبِيخٍ) لِأَنَّهُ
اسْتِبْذَالٌ لَهُ (وَ) كَرِهَ أَحْمَدُ (كَوْنَهُ) أَيْ: الْخُبْزِ
(كِبَارًا) وَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ بَرَكَةٌ، وَذَكَرَ مَعْمَرٌ أَنَّ أَبَا
أُسَامَةَ قَدَّمَ لَهُمْ طَعَامًا فَكَسَرَ الْخُبْزَ قَالَ أَحْمَدُ:
لِئَلَّا يَعْرِفُوا كَمْ يَأْكُلُونَ.
(وَ) تُكْرَهُ (إهَانَتُهُ فَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ أَوْ السِّكِّينَ بِهِ)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ»
.
(وَ) كُرِهَ أَكْلُ مَا انْتَفَخَ مِنْ خُبْزٍ أَوْ أَكْلُ (وَجْهِهِ،
وَتَرْكُ الْبَاقِي) مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كِبْرٌ.
وَيُسَنُّ تَخْلِيلُ أَسْنَانِهِ إنْ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الطَّعَامِ
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: تَرْكُ الْخِلَالِ يُوهِنُ الْأَسْنَانَ. وَلَا
يُخَلِّلُ أَسْنَانَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّعَامِ وَلَا بِعُودٍ يَضُرُّهُ
(وَ) كُرِهَ (بَلْعُ مَا أَخْرَجَهُ الْخِلَالُ،) (وَلَا) يُكْرَهُ بَلْعُ
(مَا قَلَعَهُ بِلِسَانِهِ) كَسَائِرِ مَا بِفِيهِ.
(وَحَرُمَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ بِلَا إذْنِ رَبِّهِ) لِمَا فِيهِ
مِنْ الِافْتِئَاتِ عَلَيْهِ (وَجَوَّزَهُ فِي الرِّعَايَةِ) الْكُبْرَى
فَقَالَ: لَهُ أَخْذُ مَا عَلِمَ وَرَضِيَ رَبُّهُ بِهِ، وَإِطْعَامُ
الْحَاضِرِينَ مَعَهُ وَإِلَّا فَلَا.
وَالْمَذْهَبُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ الصَّرِيحِ
(5/249)
قَالَ فِي الْفُرُوعِ (وَمَا جَرَتْ
عَادَةٌ بِهِ مِنْ إطْعَامِ نَحْوِ سَائِلٍ وَسِنَّوْرٍ فَوَجْهَانِ،
قَالَ: وَجَوَازُهُ أَظْهَرُ) وَقَالَ فِي آدَابِهِ الْأُولَى جَوَازُهُ
(وَلَا بَأْسَ بِوَضْعِ خَلٍّ وَبُقُولٍ عَلَى الْمَائِدَةِ غَيْرِ نَحْوِ
ثُومٍ وَبَصَلٍ) وَفُجْلٍ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ؛ فَإِنَّهُ
يُكْرَهُ أَكْلُهُ نِيئًا.
(وَلَا يُكْرَهُ قَطْعُ لَحْمٍ بِسِكِّينٍ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ لَا
يَصِحُّ) قَالَهُ أَحْمَدُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إلَى تَقْطِيعِ
اللَّحْمِ الَّذِي يُقَدَّمُ لَلضَّيْفَانِ حَتَّى يَأْذَنُوا لَهُ فِي
ذَلِكَ، قَالَ فِي الرِّعَايَةِ " (وَلَا يُلْقِمُ جَلِيسَهُ، وَلَا
يَفْسَخُ لِغَيْرِهِ بِلَا إذْنِ رَبِّ الطَّعَامِ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ
فِي مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ تَقْدِيمُ بَعْضِ
الضَّيْفَانِ مَا لَدَيْهِ، وَنَقْلِهِ بِلَا إذْنِ رَبِّ الطَّعَامِ،
قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: أَنْ لَا يُلْقِمَ أَحَدًا يَأْكُلُ مَعَهُ
إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الطَّعَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ
عَمَلًا بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ الْأَدَبَ
وَالْأَوْلَى الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ
عَلَى صَاحِبِهِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى طَعَامِهِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ
مِنْ غَيْر إذْنٍ صَرِيحٍ.
(وَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ تَرْكُ) أَكْلِ (الطَّيِّبَاتِ) لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 172] . (وَلَا بَأْسَ
بِالْجَمْعِ بَيْنَ طَعَامَيْنِ) مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ، وَمِنْ السَّرَفِ
أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْت» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيث
أَنَسٍ مَرْفُوعًا، قَالَ فِي " الْآدَابِ " وَفِيهِ ضَعْفٌ
(وَمَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعَ
بِهَا؛ نَقَصَتْ دَرَجَتُهُ فِي الْآخِرَةِ) لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ
قَالَ أَحْمَدُ: يُؤْجَرُ فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ، وَمُرَادُهُ مَا لَمْ
يُخَالِفْ
(5/250)
الشَّرْعَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ: مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ بِلَا سَبَبٍ شَرْعِيٍّ
فَمُبْتَدِعٌ.
(وَكُرِهَ النِّثَارُ) فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ (لِمَا فِيهِ مِنْ
النُّهْبَةِ) وَقَدْ «نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ
النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ (وَالْتِقَاطُهُ) دَنَاءَةٌ
وَإِسْقَاطُ مُرُوءَةٍ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ
وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا، وَلِأَنَّ فِيهِ تَزَاحُمًا وَقِتَالًا، وَقَدْ
يَأْخُذُهُ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَى صَاحِبِهِ (وَمَنْ حَصَلَ فِي
حِجْرِهِ مِنْهُ) شَيْءٌ (أَوْ أَخَذَهُ فَلَهُ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ
تَمَلُّكَهُ) لِأَنَّ مَالِكَهُ قَصَدَ تَمْلِيكَهُ لِمَنْ حَازَهُ، وَقَدْ
حَازَهُ مَنْ أَخَذَهُ، وَحَصَلَ فِي حِجْرِهِ، فَيَمْلِكَهُ، كَمَا لَوْ
وَثَبَتْ سَمَكَةٌ فِي الْبَحْرِ فَوَقَعَتْ فِي حِجْرِهِ، وَكَذَا لَوْ
دَخَلَ صَيْدٌ دَارِهِ أَوْ خَيْمَتَهُ فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ،
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَخْذُهُ مِنْهُ، فَإِنْ قَسَمَ الْآخِذُ لِلنِّثَارِ
مَا أَخَذَهُ عَلَى الْحَاضِرِينَ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ وَلَا لَهُمْ؛
لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، وَقَدْ أَبَاحَهُ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَهُ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَخْذِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ
فِيهِ تَنَاهُبٌ؛ فَيُبَاحُ، لِعَدَمِ مُوجِبِ الْكَرَاهَةِ.
(وَتُبَاحُ الْمُنَاهَدَةُ) وَيُقَالُ: النِّهْدُ بِكَسْرِ النُّونِ
(وَهِيَ أَنْ يَخْرُجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رُفْقَةٍ شَيْئًا مِنْ
النَّفَقَةِ) وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَوْا (وَيَدْفَعُونَهُ إلَى مَنْ
يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا، فَلَوْ أَكَلَ
بَعْضُهُمْ) مِنْ رَفِيقِهِ (أَوْ تَصَدَّقَ) بَعْضُهُمْ (مِنْهُ فَلَا
بَأْسَ) لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ نَصًّا.
[تَتِمَّةٌ جَعْلُ مَاءِ الْأَيْدِي فِي طَسْتٍ وَاحِدٍ بَعْد الْفَرَاغ
مِنْ الطَّعَام]
تَتِمَّةٌ: يُسْتَحَبُّ جَعْلُ مَاءِ الْأَيْدِي فِي طَسْتٍ وَاحِدٍ، فَلَا
يَرْفَعُهُ حَتَّى يَمْتَلِئَ، لِئَلَّا يَكُونَ مُتَشَبِّهًا
بِالْأَعَاجِمِ فِي زِيِّهِمْ، وَلَا يَضَعُ الصَّابُونَ فِي مَاءِ
الطَّسْتِ بَعْدَ غَسْلِ يَدَيْهِ، لِأَنَّهُ يُذِيبُهُ، وَظَاهِرُ
كَلَامِهِمْ لَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدِ بِالطِّيبِ؛ فَلَا يُكْرَهُ
بِالصَّابُونِ الْمُطَيَّبِ.
وَمَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اسْتِحْبَابًا: اللَّهُمَّ بَارِكْ
لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَإِذَا شَرِبَ لَبَنًا قَالَ:
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَزِدْنَا مِنْهُ.
وَإِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ وَنَحْوُهُ كَالزُّنْبُورِ وَالنَّحْلِ قَالَ
الْحَافِظُ: اسْمُ الذُّبَابِ يَقَعُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى الزَّنَابِيرِ
وَالنَّحْلِ وَالْبَعُوضِ وَغَيْرِهَا إذَا وَقَعَ فِي طَعَامٍ أَوْ
شَرَابٍ سُنَّ غَمْسُهُ فِيهِ كُلِّهِ
(5/251)
ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ
أَحَدِكُمْ أَوْ قَالَ: فِي طَعَامِ أَحَدِكُمْ؛ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ،
ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَفِي الْآخَرِ
شِفَاءٌ وَأَنَّهُ يَتَّقِي بِالدَّاءِ» .
وَظَاهِرُهُ اسْتِحْبَابُ غَمْسِهَا مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً،
وَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى مَوْتِهَا بِالْغَمْسِ، وَيَغْسِلُ يَدَيْهِ
وَفَمَهُ مِنْ ثُومٍ وَبَصَلٍ وَزُهُومَةٍ أَيْ دُسُومَةٍ وَرَائِحَةٍ
كَرِيهَةٍ تَنْظِيفًا لِذَلِكَ، وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ النَّوْمِ خَشْيَةَ
اللَّمَمِ، وَفِي الثَّرِيدِ فَضْلٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الطَّعَامِ؛
لِحَدِيثِ: «فَضْلُ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ كَفَضْلِ عَائِشَةَ عَلَى
النِّسَاءِ» وَهُوَ أَنْ يَثْرُدَ الْخُبْزَ ثُمَّ يَبُلَّهُ بِمَرَقِ
لَحْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَثَرَدَ غَطَّاهُ شَيْئًا حَتَّى يَذْهَبَ
فَوْرَهُ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ.
[فَصْلٌ إعْلَانُ نِكَاحٍ وَضَرْبٌ فِيهِ بِدُفٍّ مُبَاحٍ]
فَصْلٌ.
(يُسَنُّ إعْلَانُ نِكَاحٍ وَ) يُسَنُّ (ضَرْبٌ فِيهِ بِدُفٍّ مُبَاحٍ)
وَهُوَ مَا لَا حِلَقَ فِيهِ وَلَا صُنُوجَ (لِنِسَاءٍ وَلِرِجَالٍ) قَالَ
فِي " الْفُرُوعِ " وَظَاهِرُ نُصُوصِهِ وَكَلَامِ الْأَصْحَابِ
التَّسْوِيَةُ، قِيلَ لَهُ فِي رِوَايَةِ المروذي: مَا تَرَى النَّاسَ
الْيَوْمَ يُحَرِّكُ الدُّفَّ فِي إمْلَاكٍ أَوْ بِنَاءٍ بِلَا غِنَاءٍ،
فَلَمْ يَكْرَه ذَلِكَ، وَقِيلَ لَهُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ يَكُونُ لَهُ
فِيهِ جَرَسٌ قَالَ: لَا (خِلَافًا لَهُ) أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ
حَيْثُ قَالَ: وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ، وَقَدْ تَبِعَ فِيهِ صَاحِبَ
الرِّعَايَةِ وَالْمُوَفَّقَ حَيْثُ خَصَّصَاهُ بِالنِّسَاءِ،
وَالْمَذْهَبُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خَاطِبٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الصَّوْتُ وَالدُّفُّ فِي
النِّكَاحِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَحَسَّنَهُ.
وَحَدِيثُ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ» وَفِي لَفْظٍ: «أَظْهِرُوا النِّكَاحَ»
وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ بِالدُّفِّ. وَفِي لَفْظٍ:
«اضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
(قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا بَأْسَ بِالْغَزَلِ فِي الْعُرْسِ) لِقَوْلِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْأَنْصَارِ:
(5/252)
أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ فَحَيُّونَا
نُحَيِّيكُمْ وَلَوْلَا الذَّهَبُ الْأَحْمَرُ لَمَا حَلَّتْ بِوَادِيكُمْ
وَلَوْلَا الْحَبَّةُ السَّمْرَاءُ مَا سُرَّتْ عَذَارِيكُمْ» .
(وَقَالَ الْإِمَامُ: يُسْتَحَبُّ ضَرْبُ الدُّفِّ وَالصَّوْتِ فِي
الْإِمْلَاكِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا الصَّوْتُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّم
وَيَتَحَدَّثُ وَيُظْهِرُ) .
يُسَنُّ ضَرْبٌ بِدُفٍّ مُبَاحٍ فِي (خِتَانٍ وَقُدُومِ غَائِبٍ
وَوِلَادَةٍ كَنِكَاحٍ) لِمَا فِيهِ مِنْ السُّرُورِ (وَحَرُمَ مِزْمَارُ
طُنْبُورٍ وَرَبَابٍ وَجُنْكٍ) وَمُعْزِفَةٍ وَجِفَانَةٍ (وَعُودٍ وَنَايٍ
وَزَمَّارَةِ الرَّاعِي وَنَحْوِهِ، سَوَاءٌ اُسْتُعْمِلَتْ لِحُزْنٍ أَوْ
سُرُورٍ) وَفِي الْقَضِيبِ وَجْهَانِ، وَفِي " الْمُغْنِي " لَا يُكْرَهُ
إلَّا مَعَ تَصْفِيقٍ أَوْ غِنَاءٍ أَوْ رَقْصٍ وَنَحْوِهِ (وَكُرِهَ
رَقْصٌ وَتَخْرِيقُ ثِيَابٍ لِمُتَوَاجِدٍ عِنْدَ السَّمَاعِ، قَالَهُ فِي
" الْغُنْيَةِ ") وَكَرِهَ أَحْمَدُ التَّغْبِيرَ بِالْغَيْنِ
الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ؛ وَنَهَى عَنْ اسْتِمَاعِهِ،
وَقَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ وَمُحْدَثٌ، وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد وَلَا
يُعْجِبُنِي، وَنَقَلَ يُوسُفُ وَلَا تَسْتَمِعُهُ، قِيلَ: هُوَ بِدْعَةٌ،
قَالَ: حَسْبُك.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَالْمُغَبَّرَةُ قَوْمٌ يُغَبِّرُونَ لِذِكْرِ
اللَّهِ؛ أَيْ: يُهَلِّلُونَ وَيُرَدِّدُونَ الصَّوْتَ بِالْقِرَاءَةِ
وَغَيْرِهَا سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا يُرَغِّبُونَ النَّاسَ فِي
الْمُغَايِرَةِ إلَى الْبَاقِيَةِ انْتَهَى.
وَفِي " الْمُسْتَوْعِبِ " مَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْبِدْعَةِ
عَلَيْهِ وَمِنْ تَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ شِعْرٌ مُلَحَّنٌ كَالْحُدَاءِ
وَالْحَدْوُ لِلْإِبِلِ وَنَحْوِهِ، وَنَقَلَ إبْرَاهِيمُ الْقَلَانِسِيُّ
أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ عَنْ الصُّوفِيَّةِ: لَا أَعْلَمُ أَقْوَامًا
أَفْضَلَ مِنْهُمْ، قِيلَ: إنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَيَتَوَاجَدُونَ،
قَالَ: دَعُوهُمْ يَفْرَحُونَ مَعَ اللَّهِ سَاعَةً.
قِيلَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْشَى عَلَيْهِ،
فَقَالَ: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ،
وَلَعَلَّ مُرَادَهُ سَمَاعُ الْقُرْآنِ وَعَذَرَهُمْ لِقُوَّةِ
الْوَارِدِ، قَالَهُ فِي " الْفُرُوعِ ".
(5/253)
|