مطالب
أولي النهى في شرح غاية المنتهى [كِتَابُ الْحُدُودِ]
(الْحُدُودُ) وَهِيَ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ، وَحُدُودُ
اللَّهِ تَعَالَ مَحَارِمُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] وَهِيَ مَا حَدَّهُ وَقَدَّرَهُ،
فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُتَعَدَّى كَتَزَوُّجِ الْأَرْبَعِ، وَمَا حَدَّهُ
الشَّرْعُ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَلَا النُّقْصَانُ
وَالْحُدُودُ وَالْعُقُوبَاتُ الْمُقَدَّرَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ الْوُقُوعِ
فِي مِثْلِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَأَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ بِالْحُدُودِ
الَّتِي هِيَ الْمَحَارِمُ؛ لِكَوْنِهَا زَوَاجِرَ عَنْهَا، أَوْ
بِالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ الْمُقَدَّرَاتُ. وَالْحَدُّ عُرْفًا (عُقُوبَةٌ
مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا فِي مَعْصِيَةٍ) مِنْ زِنًا وَقَذْفٍ وَشُرْبٍ
وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَسَرِقَةٍ، وَإِنَّمَا شُرِعَ الْحَدُّ (لِيَمْنَعَ
مِنْ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا) ؛ أَيْ: الْمَعْصِيَةِ.
(6/158)
(وَلَا يَجِبُ حَدٌّ) إلَّا عَلَى
مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ لِحَدِيثِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ
إذَا سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْإِثْمُ فِي
الْمَعَاصِي؛ فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ
أَوْلَى، وَكَذَا لَا حَدَّ عَلَى نَائِمٍ وَنَائِمَةٍ (عَالِمٍ
بِالتَّحْرِيمِ) لِقَوْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ: لَا حَدَّ إلَّا
عَلَى مَنْ عَلِمَهُ. فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ جَهِلَهُ كَمَنْ جَهِلَ
تَحْرِيمَ الزِّنَا أَوْ عَيْنَ الْمَرْأَةِ كَأَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ
امْرَأَتِهِ، وَطِئَهَا ظَنًّا أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَنَحْوُهُ،
لِحَدِيثِ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
(مُلْتَزِمٍ) أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ (كَذِمِّيٍّ لَا) حَرْبِيٍّ "
مُعَاهِدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ " وَتَقَدَّمَ فِي هُدْنَةٍ يُؤْخَذُ مُهَادَنٌ
بِحَدٍّ لِآدَمِيٍّ كَحَدِّ قَذْفٍ وَسَرِقَةٍ لَا بِحَدٍّ لِلَّهِ
كَزِنًا.
(وَإِقَامَتُهُ) ؛ أَيْ: الْحَدِّ (لِإِمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ مُطْلَقًا) :
أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ الْحَدُّ لِلَّهِ كَحَدِّ زِنًا أَوْ لِآدَمِيٍّ
كَحَدِّ قَذْفٍ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُؤْمَنُ
فِيهِ الْحَيْفُ؛ فَوَجَبَ تَفْوِيضُهُ إلَى نَائِبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي
خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُقِيمُ
الْحُدُودَ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَا خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيَقُومُ
نَائِبُ الْإِمَامِ فِيهِ مَقَامَهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ
اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا» . وَأَمَرَ
بِرَجْمِ مَاعِزٍ وَلَمْ يَحْضُرْهُ وَقَالَ فِي سَارِقٍ أُتِيَ بِهِ:
«اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ» .
(وَتَحْرُمُ شَفَاعَةٌ) فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَ
الْإِمَامَ، (وَ) يَحْرُمُ (قَبُولُهَا) ؛ أَيْ: الشَّفَاعَةِ فِي (حَدٍّ
لِلَّهِ) تَعَالَى (بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَ الْحَاكِمَ) لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي
بِهِ» وَلِأَنَّ الشَّفَاعَةَ طَلَبُ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ عَلَى مَنْ طَلَبَهُ
مِنْهُ.
(وَلِسَيِّدٍ حُرٍّ مُكَلَّفٍ عَالِمٍ بِهِ) ؛ أَيْ: الْحَدِّ
(وَبِشُرُوطِهِ، وَلَوْ) كَانَ، السَّيِّدُ (فَاسِقًا أَوْ امْرَأَةً
إقَامَتُهُ) ؛ أَيْ: الْحَدَّ (بِجَلْدِ خَاصَّتِهِ) عَلَى رَقِيقِهِ؛
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ
فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا»
(6/159)
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ
مَرْفُوعًا: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ.
(وَ) لِلسَّيِّدِ (إقَامَةُ تَعْزِيرٍ عَلَى رَقِيقٍ كُلِّهِ) لَا
مُبَعِّضٍ لَهُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ تَأْدِيبَ رَقِيقِهِ
وَضَرَبَهُ عَلَى الذَّنْبِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِهِ، وَلِكَوْنِ سَبَبِ
وِلَايَتِهِ الْمِلْكَ، اسْتَوَى الْعَدْلُ وَالذَّكَرُ فِيهِ
وَضِدُّهُمَا، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِمُكَاتَبٍ وَلَا شَرِيكٍ
فِي قِنٍّ إقَامَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ، وَلَا لِغَيْرِ
مُكَلَّفٍ، لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ، (وَ) لَوْ كَانَ الرَّقِيقُ
(مُكَاتَبًا) عَلَى مَا قَطَعَ بِهِ فِي " التَّنْقِيحِ ".
وَتَبِعَهُ صَاحِبُ " الْمُنْتَهَى " " وَالْإِقْنَاعِ " قَالَ فِي "
الْمُنَوِّرِ " وَيَمْلِكُهُ " السَّيِّدُ مُطْلَقًا عَلَى قِنٍّ،
وَقَدَّمَهُ فِي " الشَّرْحِ " وَقَالَ فِي " الْإِنْصَافِ " إنَّهُ هُوَ
الْمَذْهَبُ، قَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " لِتَمَامِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ
(أَوْ مَرْهُونًا أَوْ مُسْتَأْجَرًا) ؛ أَيْ: فَلِلسَّيِّدِ إقَامَتُهُ
عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا مِلْكُهُ.
(وَلَا) يُقِيمُهُ سَيِّدٌ عَلَى أَمَةٍ (مُزَوَّجَةٍ) لِقَوْلِ ابْنِ
عُمَرَ: إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ مُزَوَّجَةً رُفِعَتْ إلَى السُّلْطَانِ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ جَلَدَهَا سَيِّدُهَا نِصْفَ مَا عَلَى
الْمُحْصَنِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ،
وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ مِلْكًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ
بِوَقْتٍ، أَشْبَهَتْ الْمُشْتَرَكَةَ (وَمَا ثَبَتَ) مِمَّا يُوجِبُ
الْحَدَّ عَلَى رَقِيقٍ (بِعِلْمِ سَيِّدٍ لَا حَاكِمٍ) بِرُؤْيَةٍ (أَوْ
بِإِقْرَارِ) رَقِيقٍ (كَ) كَالثَّابِتِ (بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّهُ يَجْرِي
مَجْرَى التَّأْدِيبِ، بِخِلَافِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ مُتَّهَمٌ.
وَلِلسَّيِّدِ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَى رَقِيقِهِ إذَا عَلِمَ
شُرُوطَهَا. (وَلَيْسَ لَهُ) ؛ أَيْ: السَّيِّدِ (قَتْلٌ فِي رِدَّةٍ وَلَا
قَطْعٌ فِي سَرِقَةٍ) لِأَنَّ الْأَصْلَ تَفْوِيضُ إقَامَةِ الْحَدِّ إلَى
الْإِمَامِ وَإِنَّمَا فُوِّضَ إلَى السَّيِّدِ الْجَلْدُ خَاصَّةً
لِأَنَّهُ تَأْدِيبٌ. وَالْحَدِيثُ جَاءَ فِي جَارِيَةٍ زَنَتْ؛
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ الْحَدَّ وَشِبْهَهُ،
وَلِأَنَّ فِي الْجَلْدِ سِتْرًا عَلَى رَقِيقِهِ، لِئَلَّا يَفْتَضِحَ
بِإِقَامَةِ الْإِمَامِ الْحَدَّ عَلَيْهِ، فَتَنْقُصُ قِيمَتُهُ، وَذَلِكَ
مُنْتَفٍ فِيهِمَا.
(وَتَجِبُ إقَامَةُ الْحُدُودِ وَلَوْ كَانَ مَنْ يُقِيمُهُ) ؛ أَيْ:
الْحَدَّ (شَرِيكًا)
(6/160)
لِمُقَامٍ عَلَيْهِ الْحَدُّ (أَوْ) كَانَ
مَنْ يُقِيمُهُ (عَوْنًا لِمُقَامٍ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ) ،
لِأَنَّ مُشَارَكَتَهُ أَوْ إعَانَتَهُ لَهُ مَعْصِيَةٌ وَعَدَمَ
إقَامَتِهِ مَعْصِيَةٌ؛ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ مَعْصِيَتَيْنِ (وَكَذَا
أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ) لَا يَسْقُطُ
بِالْمُشَارَكَةِ أَوْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، بَلْ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى (فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ مَعْصِيَتَيْنِ
بَلْ يَجِبُ الْإِقْلَاعُ عَنْهُمَا) .
(وَتَحْرُمُ إقَامَتُهُ) ؛ أَيْ: الْحَدِّ (بِمَسْجِدٍ) جَلْدًا كَانَ أَوْ
غَيْرَهُ؛ لِمَا رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ فِي
الْمَسَاجِدِ» . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِرَجُلٍ زَنَى فَقَالَ؛
أَخْرِجُوهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَاضْرِبُوهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ
أُتِيَ بِسَارِقٍ فَأَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَقَطَعَ يَدَهُ،
وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ، فَيُنَجِّسَهُ
وَيُؤْذِيَهُ، فَإِنْ أُقِيمَ بِهِ لَمْ يَعُدْ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ
مِنْ الزَّجْرِ.
(وَ) يَحْرُمُ (أَنْ يُقِيمَهُ إمَامٌ أَوْ نَائِبُهُ بِعِلْمِهِ) ؛ أَيْ:
بِلَا بَيِّنَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ
أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْ
يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
[النور: 13] وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكَلُّمُ بِهِ؛ فَالْعَمَلُ
أَوْلَى حَتَّى وَلَوْ رَمَاهُ بِمَا عَلِمَهُ مِنْهُ كَانَ قَاذِفًا
يُحَدُّ لِلْقَذْفِ.
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَيَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ (وَصِيٌّ عَلَى رَقِيقِ
مُوَلِّيهِ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ (كَأَجْنَبِيٍّ) فَلَا
يُقِيمُهُ عَلَى رَقِيقِ غَيْرِهِ (وَلَا يَضْمَنُ مَنْ) أَقَامَ حَدًّا
عَلَى مَنْ (لَا لَهُ إقَامَتُهُ) عَلَيْهِ (فِيمَا حَدُّهُ الْإِتْلَافُ)
مِنْ عُضْوٍ أَوْ نَفْسٍ كَقَتْلِ زَانٍ مُحْصَنٍ وَقَطْعٍ فِي سَرِقَةٍ،
فَلَوْ خَالَفَ وَفَعَلَهُ؛ لَمْ يَضْمَنْهُ نَصَّ عَلَيْهِ، لَكِنْ
يُؤَدَّبُ لِافْتِئَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ.
(وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ) الْحَدَّ (قَائِمًا) لِيُعْطَى كُلُّ عُضْوٍ
حَظَّهُ مِنْ الضَّرْبِ (بِسَوْطٍ لَا خَلَقٍ) نَصًّا (بِفَتْحِ اللَّامِ)
لِأَنَّهُ لَا يُؤْلِمُ (وَلَا جَدِيدٍ) لِئَلَّا يَجْرَحَ
(6/161)
(غَيْرَ جِلْدٍ) بَيْنَ الْيَابِسِ
وَالرَّطْبِ، (قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ " فَوْقَ الْقَضِيبِ وَدُونَ
الْعَصَا) وَلَا يُضْرَبُ فِي الْحَدِّ بِعَصًا وَلَا غَيْرِهَا مِنْ
جِلْدٍ أَوْ نَحْوِهِ، نَقُولُ: عَلَى ضَرْبٍ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، وَسَوْطٍ
بَيْنَ سَوْطَيْنِ يَعْنِي لَا شَدِيدٍ فَيَقْتُلَ، وَلَا ضَعِيفٍ فَلَا
يَرْدَعُ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا: «أَنَّ رَجُلًا
اعْتَرَفَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَأَتَى بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا، فَأَتَى بِسَوْطٍ
جَدِيدٍ لَمْ تُكْسَرْ ثَمَرَتُهُ، فَقَالَ: بَيْنَ هَذَيْنِ» (بِلَا مَدٍّ
وَلَا رَبْطٍ وَلَا تَجْرِيدٍ) مِنْ ثَبَاتٍ، لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ:
لَيْسَ فِي دِينِنَا مَدٌّ وَلَا قَيْدٌ وَلَا تَجْرِيدٌ (لِلْمَحْدُودِ)
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِعْلُ ذَلِكَ (بَلْ)
يَكُونُ الْمَحْدُودُ (فِي قَمِيصٍ أَوْ قَمِيصَيْنِ) وَيُنْزَعُ عَنْهُ
فَرْوٌ وَجُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ
يُبَالِ بِالضَّرْبِ.
(وَلَا يُبَالَغُ فِي ضَرْبٍ) بِحَيْثُ يَشُقُّ الْجِلْدَ، لِأَنَّ
الْقَصْدَ أَدَبُهُ لَا إهْلَاكُهُ. (وَلَا يُبْدِي ضَارِبٌ إبْطَهُ فِي
رَفْعِ يَدٍ) لِلضَّرْبِ نَصًّا (وَسُنَّ تَفْرِيقُهُ) ؛ أَيْ: الضَّرْبِ
(عَلَى الْأَعْضَاءِ) لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ حَظَّهُ، وَتَوَالِي
الضَّرْبِ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ يُؤَدِّي إلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ
بِعَدَمِهِ. (وَيُضْرَبُ مِنْ جَالِسٍ ظَهْرُهُ وَمَا قَارَبَهُ) ؛ أَيْ:
الظَّهْرَ (وَ) وَيُكْثَرُ مِنْهُ (فِي مَوَاضِعِ اللَّحْمِ
كَالْأَلْيَتَيْنِ وَالْفَخِذَيْنِ) لِأَنَّهُمَا أَشَدُّ تَحَمُّلًا، (وَ)
يَجِبُ فِي الْجَلْدِ (اتِّقَاءُ وَجْهٍ وَ) اتِّقَاءُ (رَأْسٍ وَ)
اتِّقَاءُ (فَرْجٍ وَ) اتِّقَاءُ (مَقْتَلٍ) كَفُؤَادٍ وَخُصْيَتَيْنِ
لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ضَرْبُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إلَى
قَتْلِهِ أَوْ ذَهَابِ مَنْفَعَتِهِ، وَالْقَصْدُ أَدَبُهُ فَقَطْ
(وَامْرَأَةٌ كَرَجُلٍ إلَّا أَنَّهَا تُضْرَبُ جَالِسَةً) لِقَوْلِ
عَلِيٍّ: تُضْرَبُ الْمَرْأَةُ جَالِسَةً وَالرَّجُلُ قَائِمًا، وَلِأَنَّ
الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ، وَهَذَا سَتْرٌ لَهَا وَتُشَدُّ عَلَيْهَا
ثِيَابُهَا، (وَتُمْسَكُ يَدَاهَا) لِئَلَّا تَنْكَشِفَ.
(وَيُجْزِئُ ضَرْبٌ فِي حَدٍّ بِسَوْطٍ مَغْصُوبٍ) عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى
النَّهْيِ؛ لِلْإِجْمَاعِ، ذَكَرَهُ فِي " التَّمْهِيدِ (وَلَا تُعْتَبَرُ)
لِإِقَامَةِ حَدٍّ (مُوَالَاةُ) الضَّرْبِ فِي الْجَلْدِ لِزِيَادَةِ
الْعُقُوبَةِ وَالسُّقُوطِ بِالشُّبْهَةِ، (بَلْ) تُعْتَبَرُ (نِيَّةٌ
لِيَصِيرَ قُرْبَةً، فَيَضْرِبُهُ لِلَّهِ، وَلَمَّا وَضَعَ اللَّهُ لَهُ
ذَلِكَ) لِحَدِيثِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ
(6/162)
بِالنِّيَّاتِ» (فَإِنَّ جَلْدَهُ
لِلتَّشَفِّي إثْمٌ) لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ وَلَيْسَ بِحَدٍّ (وَلَا
يُعِيدُهُ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمَحْدُودِ، قَطَعَ بِهِ فِي
" الْإِقْنَاعِ " " وَالْمُنْتَهَى " (وَفِي نُسَخِ الْإِنْصَافِ " "
وَالْفُرُوعِ " وَيُعِيدُهُ) ذَكَرَهُ فِي " الْمَنْثُورِ " عَنْ الْقَاضِي
(وَهُوَ أَنْسَبُ حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ النِّيَّةُ) .
قَالَ فِي " الْفُصُولِ: يُحْتَاجُ عِنْدَ إقَامَتِهِ إلَى نِيَّةِ
الْإِمَامِ أَنْ يَضْرِبَ لِلَّهِ وَلِمَا وَضَعَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ،
وَكَذَلِكَ الْجَلَّادُ، لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا تَوَلَّى أَوْ أَمَرَ
عَبْدًا أَعْجَمِيًّا يَضْرِبُ لَا عِلْمَ لَهُ بِالنِّيَّةِ؛ أَجْزَأَتْ
نِيَّتُهُ، وَالْعَبْدُ كَالْآلَةِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ:
عَلَى الْمُقِيمِ لِلْحُدُودِ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا النَّفْعَ
وَالْإِحْسَانَ، كَمَا يَقْصِدُ الْوَالِدُ بِعُقُوبَةِ الْوَلَدِ
وَالطَّبِيبُ بِدَوَاءِ الْمَرِيضِ، فَلَمْ يَأْمُرْ الشَّرْعُ إلَّا بِمَا
هُوَ نَفْعٌ لِلْعِبَادِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ
(وَأَشَدُّهُ) ؛ أَيْ: [الْجَلْدِ] فِي الْحُدُودِ (جَلْدُ زِنًا فَ)
جَلْدُ (قَذْفٍ فَ) جَلْدُ (شُرْبِ) خَمْرٍ (فَ) جَلْدُ (تَعْزِيرٍ)
لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الزِّنَا بِمَزِيدِ تَأْكِيدٍ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: " {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}
[النور: 2] وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْعَدَدِ فَيَكُونُ فِي الصِّفَةِ،
وَلِأَنَّ مَا دُونَهُ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْعَدَدِ فَكَذَا فِي
الصِّفَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا خَفَّ عَدَدُهُ خَفَّ فِي صِفَتِهِ.
(وَإِنْ رَأَى إمَامٌ أَوْ نَائِبُهُ الضَّرْبَ فِي حَدِّ شُرْبِ) مُسْكِرٍ
(بِجَرِيدٍ أَوْ بِنِعَالٍ) فَلَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ
أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْمُحَرَّرِ " " وَالشَّرْحِ
" " وَشَرْحِ ابْنِ مُنَجَّى وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ جَمْعٌ: مِنْهُمْ صَاحِبُ " الْهِدَايَةِ " " وَالْمُذَهَّبِ " "
وَالْمُسْتَوْعِبِ " " وَالْخُلَاصَةِ " " وَالرِّعَايَتَيْنِ " "
وَالْحَاوِي " " وَالْبُلْغَةِ " وَغَيْرِهِمْ وَبِأَيْدٍ، أَيْضًا، وَهُوَ
مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّ الشَّارِحُ بِذَلِكَ
(قَالَ الْمُنَقِّحُ: وَهُوَ أَظْهَرُ فَلَهُ ذَلِكَ) لِحَدِيثِ أَبِي
دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ» .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ
بِثَوْبِهِ وَالضَّارِبُ بِيَدِهِ.
(6/163)
(وَلَا يُؤَخَّرُ) اسْتِيفَاءُ (حَدٍّ
لِمَرَضٍ) هَذَا الْمَذْهَبُ نَصَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ
(وَلَوْ رُجِيَ زَوَالُهُ) لِأَنَّ عُمَرَ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى
قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ فِي مَرَضِهِ، وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ، وَانْتَشَرَ
ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكَرْ؛ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ (وَلَا
تُؤَخَّرُ النُّفَسَاءُ فَتُحَدُّ) النُّفَسَاءُ (بِمُجَرَّدِ وَضْعٍ)
(خِلَافًا لَهُ) ؛ أَيْ: لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ " فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ
كَانَ؛ أَيْ: الْحَدُّ جَلْدًا، فَإِذَا وَضَعَتْهُ وَانْقَطَعَ
النِّفَاسُ، وَكَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ تَلَفُهَا؛ أُقِيمَ عَلَيْهَا
الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا أَوْ ضَعِيفَةً يُخَافُ
عَلَيْهَا، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَحَتَّى تَقْوَى.
قَالَ: وَهَذَا الَّذِي تَقْتَضِيهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ وَالْمَذْهَبُ
مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا
يُؤَخَّرُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.
(وَلَا) يُؤَخَّرُ الِاسْتِيفَاءُ (لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ) وَلَوْ
مُفْرِطَيْنِ (أَوْ ضَعْفٍ لِوُجُوبِهِ فَوْرًا) لِمَا تَقَدَّمَ (فَإِنْ
كَانَ) الْمَحْدُودُ مَرِيضًا أَوْ نَصَفَ الْخِلْقَةِ أَوْ فِي شِدَّةِ
حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ كَانَ الْحَدُّ (جَلْدًا، أَوْ خِيفَ) عَلَى
الْمَحْدُودِ: (مِنْ السَّوْطِ لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ
الْحَدُّ بِطَرَفِ ثَوْبٍ أَوْ عُثْكُولِ نَخْلٍ) وَالْعُثْكُولُ بِوَزْنِ
عُصْفُورٍ هُوَ الضِّغْثُ بِالضَّادِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ
وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ (فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، فَيَضْرِبُ بِهِ
ضَرْبَةً وَاحِدَةً) أَوْ يَضْرِبُ بِخَمْسِينَ شِمْرَاخًا ضَرْبَتَيْنِ.
لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ بَعْضِ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ
رَجُلًا اشْتَكَى حَتَّى ضَنِيَ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ، فَهَشَّ
لَهَا، فَوَقَعَ بِهَا، فَسُئِلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «أَنْ يَأْخُذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةً
وَاحِدَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَلِأَنَّ ضَرْبَهُ التَّامَّ
يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِهِ، وَتَرْكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ؛
فَتَعَيَّنَ مَا ذُكِرَ.
[تَتِمَّةٌ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ]
تَتِمَّةٌ: وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ رَجْمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى
حَامِلٍ وَلَوْ مِنْ زِنًا حَتَّى تَضَعَ؛ لِئَلَّا يَتَعَدَّى إلَى
الْحَمْلِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَسْقِيَهُ
اللِّبَأَ، ثُمَّ إنْ كَانَ
(6/164)
لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ أَوْ تَكَفَّلَ
أَحَدٌ بِرَضَاعِهِ، رُجِمَتْ، وَإِلَّا تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ،
وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلُ الزَّانِيَةِ لَمْ تُؤَخَّرْ، لِاحْتِمَالِ
أَنْ تَكُونَ حَمَلَتْ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ وَاجِبَةٌ فَوْرًا،
وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ - أَيْ الْحَمْلِ - وَإِنْ ادَّعَتْ الزَّانِيَةُ
الْحَمْلَ قَبْلَ قَبُولِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ
الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ.
(وَيُؤَخَّرُ) الْحَدُّ (لِسُكْرٍ حَتَّى يَصْحُوَ) الشَّارِبُ نَصًّا
لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ وَهُوَ الزَّجْرُ (فَلَوْ
خَالَفَ) وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي سُكْرِهِ (سَقَطَ الْحَدُّ إنْ
أَحَسَّ) بِأَلَمِ الضَّرْبِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ سَكْرَانَ (وَإِلَّا)
يُحِسَّ بِأَلَمِ الضَّرْبِ (فَلَا) يَسْقُطُ الْحَدُّ (لِأَنَّ كُلَّ
حَدٍّ شَرْطُهُ التَّأْلِيمُ) وَلَمْ يُوجَدْ (وَيُؤَخَّرُ قَطْعٌ) فِي
سَرِقَةٍ وَنَحْوِهَا (خَوْفَ تَلَفٍ) مَحْدُودٍ بِقَطْعِهِ؛ لِمَا مَرَّ
أَنَّ الْقَصْدَ زَجْرُهُ لَا إهْلَاكُهُ.
(وَيَحْرُمُ بَعْدَ) إقَامَةِ (حَدٍّ حَبْسٌ وَإِيذَاءٌ بِكَلَامٍ) نَصَّ
عَلَيْهِ كَالتَّعْيِيرِ؛ لِنَسْخِهِ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْحَدِّ كَنَسْخِ
حَبْسِ الْمَرْأَةِ.
(وَمَنْ مَاتَ) بِجَلْدٍ (فِي تَعْزِيرٍ أَوْ حَدٍّ بِقَطْعٍ) فِي سَرِقَةٍ
(أَوْ جَلْدٍ) أَوْ تَأْدِيبٍ مُعْتَادٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ مُعَلِّمٍ
أَوْ وَالِدٍ أَوْ زَوْجٍ (وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْخِيرٌ) ، أَيْ: الْحَدِّ
(فَ) هُوَ (هَدَرٌ) لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا،
وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَكَانَ التَّلَفُ
مَنْسُوبٌ إلَى اللَّهِ، فَإِنْ لَزِمَ تَأْخِيرُ الْحَدِّ بِأَنْ كَانَتْ
حَامِلًا أَوْ كَانَ مَرِيضًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ،
فَاسْتَوْفَاهُ حِينَئِذٍ، (فَتَلِفَ الْمَحْدُودُ) ضَمِنَهُ،
لِعِدْوَانِهِ.
(وَمَنْ زَادَ) فِي عَدَدِ جَلْدٍ (وَلَوْ) كَانَ الزَّائِدُ (جَلْدَةً
أَوْ) زَادَ (فِي السَّوْطِ) الَّذِي ضَرَبَهُ بِهِ؛ بِأَنْ ضَرَبَهُ
بِأَكْبَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ (أَوْ اعْتَمَدَ) الْجَلَّادُ (فِي ضَرْبِهِ)
فَتَلِفَ الْمَحْدُودُ، ضَمِنَهُ بِدِيَتِهِ، (أَوْ ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ لَا
يَحْتَمِلُهُ) لِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ (فَتَلِفَ؛ ضَمِنَهُ) لِأَنَّهُ
تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ؛ أَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ الْحَدِّ
(بِدِيَتِهِ) كَامِلَةٍ؛ لِحُصُولِ تَلَفِهِ بِعُدْوَانِهِ، وَكَمَا لَوْ
أَلْقَى حَجَرًا أَوْ نَحْوَهُ عَلَى سَفِينَةٍ مَوْقُورَةٍ فَخَرَقَهَا.
(6/165)
(وَمَنْ أُمِرَ) بِالْبِنَاءِ
لِلْمَفْعُولِ (بِزِيَادَةٍ) عَلَى الْجَلْدِ الْوَاجِبِ فِي الْحَدِّ
(فَزَادَ جَهْلًا) بِعَدَدِ الضَّرْبِ الْوَاجِبِ أَوْ بِأَنَّ
الزِّيَادَةَ مُحَرَّمَةٌ، فَمَاتَ الْمَضْرُوبُ (ضَمِنَهُ آمِرٌ) لِأَنَّ
الْجَلَّادَ مَعْذُورٌ بِالْجَهْلِ، (وَإِلَّا) يَجْهَلْ الْجَلَّادُ
ذَلِكَ.
(فَضَارِبٌ) يَضْمَنُهُ وَحْدَهُ، كَمَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ
بِالْقَتْلِ ظُلْمًا فَقَتَلَ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ (وَإِنْ تَعَمَّدَهُ) ؛
أَيْ: الزَّائِدَ (الْعَادُّ فَقَطْ) ؛ أَيْ: دُونَ الْآمِرِ وَالضَّارِبِ؛
ضَمِنَهُ الْعَادُّ؛ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِسَبَبِ تَعَمُّدِهِ (أَوْ
أَخْطَأَ) الْعَادُّ (وَادَّعَى ضَارِبٌ الْجَهْلَ) بِالزِّيَادَةِ
(ضَمِنَهُ الْعَادُّ) لِحُصُولِ التَّلَفِ بِسَبَبِهِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ
ضَارِبٍ فِي الْجَهْلِ بِذَلِكَ بِيَمِينِهِ (وَتَعَمُّدُ إمَامٍ
لِزِيَادَةٍ شِبْهِ عَمْدٍ؛ تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ) لِأَنَّ الدِّيَةَ
وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، كَمَا لَوْ رَمَى
صَيْدًا فَقَتَلَ آدَمِيًّا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ خَطَئِهِ فِي حُكْمِهِ
لِيَكُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
(وَلَا يُحْفَرُ لِمَرْجُومٍ وَلَوْ) كَانَ الْمَرْجُومُ أُنْثَى؛
لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَحْفِرْ لِمَاعِزٍ
[قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَمَّا «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِ مَاعِزٍ] خَرَجْنَا بِهِ إلَى الْبَقِيعِ
فَوَاَللَّهِ مَا حَفَرْنَا لَهُ وَلَا أَوْثَقْنَاهُ؛ وَلَكِنْ قَامَ
لَنَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ. نَصَرَهُ فِي
" الْمُغْنِي " لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَرْكِ الْحَفْرِ،
وَسَوَاءٌ ثَبَتَ الزِّنَا بِإِقْرَارٍ أَوْ (ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ)
«لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَحْفِرْ
لِلْجُهَنِيَّةِ وَالْيَهُودِيِّينَ» ، وَتُشَدُّ ثِيَابُ الْمَرْأَةِ
عَلَيْهَا؛ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ؛ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ:
«فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
(وَيَجِبُ فِي) إقَامَةِ (حَدِّ زِنًا حُضُورُ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ) أَوْ
مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ صَحَّحَهُ فِي " الْإِنْصَافِ " (وَ) يَجِبُ فِي
حَدٍّ حُضُورُ (طَائِفَةٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) ، وَلَوْ وَاحِدًا؛ أَيْ:
مَعَ مَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ نَقَلَهُ فِي " الْكَافِي " عَنْ الْأَصْحَابِ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] .
(وَسُنَّ حُضُورُ مَنْ شَهِدَ) بِزِنًا، (وَ) سُنَّ (بَدْأَتُهُمْ) ؛ أَيْ:
الشُّهُودِ
(6/166)
(بِرَجْمٍ وَأَنْ يَدُورَ النَّاسُ حَوْلَ
مَرْجُومٍ) مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (كَالدَّائِرَةِ إنْ كَانَ ثَبَتَ
بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَمْكِينِهِ مِنْ الْهَرَبِ. وَ
(لَا) يُسَنُّ ذَلِكَ إنْ كَانَ زِنَاهُ ثَبَتَ (بِإِقْرَارٍ؛ لِاحْتِمَالِ
أَنْ يَهْرُبَ، فَيُتْرَكُ) وَلَا يُتَمَّمُ عَلَيْهِ الْحَدُّ (فَلَوْ
ثَبَتَ الزِّنَا بِإِقْرَارٍ سُنَّ بُدَاءَةُ إمَامٍ أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ)
إمَامٌ مُقَامَهُ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ عَنْ عَلِيٍّ: الرَّجْمُ رَجْمَانِ؛
فَمَا كَانَ مِنْهُ بِإِقْرَارٍ فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْإِمَامُ، وَمَا
كَانَ بِبَيِّنَةٍ فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ النَّاسُ،
وَلِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ أَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ فِي الْكَذِبِ
عَلَيْهِ.
(وَمَتَى رَجَعَ مُقِرٌّ بِهِ) ؛ أَيْ: بِزِنًا عَنْ إقْرَارٍ، لَمْ
يُقَمْ، أَوْ رَجَعَ مُقِرٌّ (بِسَرِقَةِ شَيْءٍ أَوْ شُرْبِ) خَمْرٍ عَنْ
إقْرَارِهِ (قَبْلَهُ) ؛ أَيْ: قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ
(وَلَوْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَى إقْرَارِهِ) بِالزِّنَا أَوْ
السَّرِقَةِ أَوْ الشُّرْبِ (لَمْ يُقَمْ) عَلَيْهِ (وَإِنْ رَجَعَ فِي
أَثْنَاءِ حَدٍّ لِلَّهِ) تَعَالَى (أَوْ هَرَبَ) ؛ (تُرِكَ وُجُوبًا)
لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ
اللَّهُ عَلَيْهِ» ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَمَعْمَرِ بْنِ هَزَّالٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَلِأَنَّ رُجُوعَهُ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ،
وَكَمَا لَوْ رَجَعَتْ الْبَيِّنَةُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ،
وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
(فَإِنْ تُمِّمَ) حَدٌّ عَلَى رَاجِعٍ عَنْ إقْرَارِهِ (فَلَا قَوَدَ)
فِيهِ؛ لِلشُّبْهَةِ (وَضَمِنَ رَاجِعٌ) صَرِيحًا (لَا هَارِبٌ
بِالدِّيَةِ) لِزَوَالِ إقْرَارِهِ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ، بِخِلَافِ
الْهَارِبِ، فَإِنْ قَالَ: رُدُّونِي لِلْحَاكِمِ، وَجَبَ رَدُّهُ، فَلَوْ
لَمْ يَرُدُّوهُ حَتَّى تَمَّ الْحَدُّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي رُجُوعِهِ.
(وَإِنْ ثَبَتَ) زِنًا أَوْ سَرِقَةٌ أَوْ شُرْبٌ (بِبَيِّنَةٍ عَلَى
الْفِعْلِ) ، أَيْ: فِعْلِ مَا ذَكَرَ لَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ
(فَهَرَبَ) مَحْدُودٌ (لَمْ يُتْرَكْ) لِثُبُوتِ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا
يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ رُجُوعُهُ وَلَا هَرَبُهُ.
(6/167)
(وَإِنْ أَقَرَّ مَنْ يُجَنُّ - أَحْيَانًا
- بِزِنًا، وَلَمْ يُضِفْهُ لِإِفَاقَتِهِ) فَلَا حَدَّ (أَوْ شَهِدَ
عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِزِنًا، وَلَمْ تُضِفْهُ) لِإِفَاقَتِهِ (فَلَا حَدَّ)
عَلَيْهِ؛ لِلشُّبْهَةِ.
(وَمَنْ أَتَى) مَا يُوجِبُ (حَدًّا سَتَرَ نَفْسَهُ) اسْتِحْبَابًا
(وَلَمْ) يَجِبْ، وَلَمْ (يُسَنَّ أَنْ يُقِرَّ بِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ)
لِحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ السِّتِّيرَ» .
(وَمَنْ قَالَ لَحَاكِمٍ أَصَبْت حَدًّا) فَقَطْ (لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ)
مَا لَمْ يُبَيِّنْ نَصًّا، وَيُحَدُّ مَنْ زَنَى هَزِيلًا وَلَوْ بَعْدَ
سُمْنَةٍ، وَكَذَا عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ كَمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ
زَنَى أُعِيدَتْ بَعْدَ بَعْثِهِ وَعُوقِبَ، ذَكَرَهُ فِي " الْفُنُونِ ".
(وَالْحَدُّ كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ الذَّنْبِ) الَّذِي أَوْجَبَهُ نَصًّا؛
لِلْخَبَرِ.
[فَصْلٌ اجْتَمَعَتْ حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ]
فَصْلٌ (وَإِنْ اجْتَمَعَتْ حُدُودٌ لِلَّهِ) تَعَالَى (مِنْ جِنْسٍ)
وَاحِدٍ (بِأَنْ زَنَى) مِرَارًا (أَوْ سَرَقَ) مِرَارًا (أَوْ شَرِبَ)
الْخَمْرَ (مِرَارًا تَدَاخَلَتْ، فَلَا يُحَدُّ سِوَى مَرَّةٍ) وَاحِدَةٍ
حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ إجْمَاعُ كُلِّ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الزَّجْرُ عَنْ إتْيَانِ مِثْلِ
ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِحَدٍّ وَاحِدٍ
وَكَالْكَفَّارَاتِ مِنْ جِنْسٍ.
(وَ) إنْ اجْتَمَعَتْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى (مِنْ أَجْنَاسٍ) كَأَنْ
زَنَى وَسَرَقَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ (وَفِيهَا قَتْلٌ) بِأَنْ كَانَ فِي
الْمِثَالِ مُحْصَنًا (اسْتَوْفَى) الْقَتْلَ (وَحْدَهُ) لِمَا رَوَى
سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ
حَدَّانِ أَحَدُهُمَا الْقَتْلُ أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ. وَلَا
يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَالْمُحَارِبِ إذَا قَتَلَ
وَأَخَذَ الْمَالَ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ الزَّجْرُ، وَمَعَ الْقَتْلِ لَا
حَاجَةَ إلَى زَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ
وَإِنْ اجْتَمَعَ مَا يُوجِبُ الرَّجْمَ وَالْقَتْلَ لِلْمُحَارَبَةِ
وَالرِّدَّةِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ
لِلْمُحَارَبَةِ، وَيَسْقُطُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ آدَمِيٍّ فِي
الْقِصَاصِ،
(6/168)
وَالْمُحَارَبَةُ إنَّمَا أَثَّرَتْ
بِتَحَتُّمِهِ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، (وَإِلَّا) يَكُنْ
فِيهَا قَتْلٌ وَهِيَ مِنْ أَجْنَاسٍ كَبِكْرٍ زَنَى وَشُرْبٍ وَسَرِقَةٍ
(وَجَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَحَقِّ فَالْأَحَقُّ) فَيَحُدُّ أَوَّلًا
لِشُرْبٍ ثُمَّ لِزِنًا ثُمَّ لِقَطْعٍ (وَتُسْتَوْفَى حُقُوقُ آدَمِيٍّ
كُلُّهَا) فِيهَا قَتْلٌ أَوْ لَا كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلِأَنَّ مَا
دُونَ الْقَتْلِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ؛ فَلَا يَسْقُطُ بِالْقَتْلِ
كَالدُّيُونِ، بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ
عَلَى الْمُسَامَحَةِ.
(وَيَبْدَأُ بِغَيْرِ قَتْلٍ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفُّ وُجُوبًا) فَمَنْ
قَذَفَ وَقَطَعَ عُضْوًا وَقَتَلَ مُكَافِئًا؛ حُدَّ أَوَّلًا لِقَذْفٍ
ثُمَّ قُطِعَ ثُمَّ قُتِلَ (وَكَذَا لَوْ اجْتَمَعَتْ) حُقُوقُ آدَمِيٍّ
(مَعَ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى) فَيَسْتَوْفِي كُلَّهَا (وَيُبْدَأُ
بِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَلَوْ زَنَى وَشَرِبَ، وَقَذَفَ، وَقَطَعَ يَدًا؛
قُطِعَ) ؛ أَيْ: قُطِعَتْ يَدُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ آدَمِيٍّ؛
لِسُقُوطِهِ بِإِسْقَاطِهِ؛ (ثُمَّ حُدَّ لِقَذْفٍ) لِلِاخْتِلَافِ فِي
كَوْنِهِ حَقًّا لِآدَمِيٍّ (فَشُرْبٍ فَزِنًا لَكِنْ لَوْ قَتَلَ)
مُكَافِئًا عَمْدًا (وَارْتَدَّ أَوْ سَرَقَ) مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ
(وَقَطَعَ يَدًا، قُتِلَ لَهُمَا أَوْ قُطِعَ لَهُمَا) لِاتِّحَادِ حَقِّ
مَحِلِّ الْحَقَّيْنِ، فَتَدَاخَلَا.
(وَلَا يُسْتَوْفَى حَدٌّ حَتَّى يَبْرَأَ مَا قَبْلَهُ) لِئَلَّا
يُؤَدِّيَ إلَى تَوَالِي الْحُدُودِ عَلَيْهِ إلَى تَلَفِهِ.
[تَتِمَّةٌ سَرَقَ وَقَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ]
تَتِمَّةٌ وَإِنْ سَرَقَ وَقَتَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَلَمْ يَأْخُذْ
الْمَالَ؛ قُتِلَ حَتْمًا لِلْقَتْلِ وَلَمْ يُطْلَبْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَأْخُذْ مَالًا، وَلَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ لِلسَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ حُدَّ
لِلَّهِ فَيَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ.
وَإِنْ قَتَلَ مَعَ الْمُحَارَبَةِ جَمَاعَةً قُتِلَ بِالْأَوَّلِ حَتْمًا،
وَلِأَوْلِيَاءِ الْبَاقِينَ مِنْ الْقَتْلَى دِيَاتُهُمْ فِي مَالِ
الْقَاتِلِ كَمَا لَوْ مَاتَ، لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ.
(6/169)
[فَصْلٌ قَتَلَ أَتَى حَدًّا خَارِجَ
مَكَّةَ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهَا أَوْ لَجَأَ حَرْبِيٌّ أومرتد إلَيْهِ]
فَصْلٌ (وَمَنْ قَتَلَ أَوْ قَطَعَ طَرَفًا) أَوْ أَتَى حَدًّا خَارِجَ
حَرَمِ مَكَّةَ لَا الْمَدِينَةِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ، (أَوْ) لَجَأَ
(حَرْبِيٌّ أَوْ) لَجَأَ مُرْتَدٌّ (إلَيْهِ؛ حَرُمَ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ)
؛ أَيْ: الْحَرَمِ (بِقَتْلٍ وَغَيْرِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وَهُوَ خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ
الْأَمْرُ؛ أَيْ: أَمِّنُوهُ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «حَرَّمَ سَفْكَ الدِّمَاءِ بِمَكَّةَ» ، وَلِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا إنَّ
اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ» . وَقَوْلُهُ: «إنَّ
أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ» ) رَوَاهُ
أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَحَدِيثِ أَبِي
شُرَيْحٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ عُمَرَ فِي
الْحَرَمِ مَا هَيَّجْتُهُ (لَكِنْ لَا يُبَايَعُ وَلَا يُشَارَى وَلَا
يُكَلَّمُ) وَلَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤَاكَلُ وَلَا يُشَارَبُ
وَلَا يُجَالَسُ؛ وَيُهْجَرُ (حَتَّى يَخْرُجَ) مِنْ الْحَرَمِ، (فَيُقَامُ
عَلَيْهِ) لِئَلَّا يَتَمَكَّنَ مِنْ الْإِقَامَةِ دَائِمًا، فَيَضِيعُ
الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ.
(وَمَنْ فَعَلَهُ) ؛ أَيْ: قَتَلَ أَوْ أَتَى حَدًّا فِيهِ - أَيْ فِي
الْحَرَمِ أُخِذَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (بِهِ) ؛ أَيْ بِمَا فَعَلَهُ
(فِيهِ) -، أَيْ: فِي الْحَرَمِ - قَالَ فِي " الْمُبْدِعِ ": بِغَيْرِ
خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ مَا أَحْدَثَ فِيهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] الْآيَةَ، فَأَبَاحَ
قَتْلَهُمْ عِنْدَ قِتَالِهِمْ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ
يَحْتَاجُونَ
(6/170)
إلَى الزَّجْرِ عَنْ الْمَعَاصِي حِفْظًا
لِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يُشْرَعْ
الْحَدُّ فِيهِ لَتَعَطَّلَتْ الْحُدُودُ فِي حَقِّهِمْ، وَفَاتَتْ
الْمَصَالِحُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا.
(وَمَنْ قُوتِلَ فِيهِ) ؛ أَيْ: الْحَرَمِ (دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَطْ)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} [البقرة: 191] قُرِئَ بِهِمَا، ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
أَنَّ مُجَاهِدًا وَغَيْرَهُ قَالُوا: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ. وَفِي
التَّمْهِيدِ " أَنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ
تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بَغْيُهُمْ إلَّا بِهِ؛
لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَحِفْظُهَا فِي حَرَمِهِ أَوْلَى مِنْ
إضَاعَتِهَا، وَذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ،
وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَحَمَلَ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَعُمُّ
إتْلَافَهُ كَالْمَنْجَنِيقِ إذَا أَمْكَنَ إصْلَاحٌ بِدُونِ ذَلِكَ.
(وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ لَوْ تَغَلَّبَ فِيهِ كُفَّارٌ
أَوْ بُغَاةٌ، وَجَبَ قِتَالُهُمْ فِيهِ) ؛ أَيْ: الْحَرَمِ
(بِالْإِجْمَاعِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: إنْ تَعَدَّى
أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى الرَّكْبِ؛ فَإِنَّهُ (يُدْفَعُ مُتَعَدٍّ فِيهِ) ؛
أَيْ: الْحَرَمِ (كَ) مَا يُدْفَعُ (الصَّائِلُ) وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ
يَدْفَعَ مَعَ الرَّكْبِ، بَلْ يَجِبُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ.
وَفِي " الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ " الطَّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ
بِالْحَرَمِ مِنْ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ لَا تُقَاتَلُ، لَا سِيَّمَا إنْ
كَانَ لَهَا تَأْوِيلٌ.
(وَلَا تَعْصِمُ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَسَائِرُ الْبِقَاعِ شَيْئًا مِنْ
الْحُدُودِ وَالْجِنَايَاتِ) فَلَوْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ
دَخَلَ شَهْرٌ حَرَامٌ؛ أُقِيم عَلَيْهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ؛
لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ.
(وَإِذَا أَتَى غَازٍ حَدًّا، أَوْ أَتَى قَوَدًا) وَهُوَ (بِأَرْضِ
الْعَدُوِّ أَوْ خَارِجِهَا، ثُمَّ دَخَلَ إلَيْهَا؛ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ) ؛
أَيْ: الْحَدِّ أَوْ الْقَوَدِ (حَتَّى يَرْجِعَ لِدَارِ الْإِسْلَامِ)
لِخَبَرِ بَشِيرِ بْنِ أَرْطَاةَ أَنَّهُ أَتَى بِرَجُلٍ فِي الْغَزَاةِ
قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَوْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي
فِي الْغَزَاةِ لَقَطَعْتُكَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. قَالَ فِي
" الْمُبْدِعِ ": وَهُوَ إجْمَاعٌ لِلصَّحَابَةِ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى
دَارِ
(6/171)
الْإِسْلَامِ يُقَامُ عَلَيْهِ، لِعُمُومِ
الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ.
وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى النَّاسِ أَنْ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ الْجَيْشِ
وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى
يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ وَقَدْ زَالَ،
وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا تَلْحَقُهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ فَيَلْحَقُ
بِالْكُفَّارِ.
تَتِمَّةٌ: وَإِنْ أَتَى بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا فِي
الثُّغُورِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهَا قَالَ فِي " الْمُبْدِعِ " بِغَيْرِ
خِلَافٍ نَعْلَمُهُ "؛ لِأَنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَاجَةُ
دَاعِيَةٌ إلَى زَجْرِ أَهْلِهَا كَالْحَاجَةِ إلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ؛
وَإِنْ أَتَى حَدًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ
أَوْ أُسِرَ؛ أُقِيمَ عَلَيْهِ إذَا خَرَجَ مِنْهَا.
[بَابٌ حَدُّ الزِّنَا]
الزِّنَا، بِالْقَصْرِ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ وَالْمَدِّ عِنْدَ تَمِيمٍ،
وَالزِّنَا اسْمٌ لِفِعْلٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ إيلَاجُ فَرْجٍ فِي مَحِلٍّ
مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى، وَمَعْنَاهُ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْفَرْجِ بِسَفْحِ
الْمَاءِ فِي مَحِلٍّ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى مِنْ غَيْرِ دَاعِيَةٍ
لِلْوَلَدِ، وَيُسَمَّى سِفَاحًا (وَهُوَ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ فِي قُبُلٍ
أَوْ فِي دُبُرٍ وَهُوَ) ؛ أَيْ: الزِّنَا (أَكْبَرُ الذُّنُوبِ)
الْمُوبِقَاتِ (بَعْدَ شِرْكٍ) قُدِّمَ الشِّرْكُ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ
عَلَى كُلِّ مُشْرِكٍ، وَأَبَاحَ دَمَهُ وَمَالَهُ وَأَهْلَهُ لِأَهْلِ
التَّوْحِيدِ، وَأَنْ يَتَّخِذُوهُمْ عَبِيدًا لَهُمْ لَمَّا تَرَكُوا
الْقِيَامَ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ، وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ
مُشْرِكٍ عَمَلًا أَوْ يَقْبَلَ فِيهِ شَفَاعَةً، أَوْ يَسْتَجِيبَ لَهُ
فِي الْآخِرَةِ دَعْوَةً، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ أَجْهَلُ الْجَاهِلِينَ
بِاَللَّهِ حَيْثُ جَعَلَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ نِدًّا، وَذَلِكَ غَايَةُ
الْجَهْلِ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ غَايَةُ الظُّلْمِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ
الْمُشْرِكُ لَمْ يَظْلِمْ رَبَّهُ وَإِنَّمَا ظَلَمَ نَفْسَهُ [
(وَقَتْلٍ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ] الْقَتْلَ بِإِزَاءِ الشِّرْكِ،
وَيَقْرَبُ مِنْهُ الزِّنَا وَاللُّوَاطَةُ؛ فَإِنَّ هَذَا يُفْسِدُ
الْأَدْيَانَ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْأَبْدَانَ، وَهَذَا يُفْسِدُ
الْأَنْسَابَ (قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ بَعْدَ الْقَتْلِ
ذَنْبًا أَعْظَمُ مِنْ
(6/172)
الزِّنَا) وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ؛
أَيُّ: الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ
خَلَقَكَ. قَالَ: قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ
مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ
تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
تَصْدِيقَهَا {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا
يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الْآيَةَ» . وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ أَعْلَاهُ لِيُطَابِقَ
جَوَابُهُ سُؤَالَ السَّائِلِ؛ فَإِنْ سَأَلَهُ عَنْ أَعْظَمِ الذَّنْبِ
فَأَجَابَهُ بِمَا تَضَمَّنَ ذِكْرَ أَعْظَمِ أَنْوَاعِهَا، وَمَا هُوَ
أَعْظَمُ كُلِّ نَوْعٍ.
فَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدُ لِلَّهِ نِدًّا،
وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ أَنْ يَقْتُلَ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ
يُشَارِكَهُ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الزِّنَا
أَنْ يَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِهِ؛ فَإِنَّ مَفْسَدَةَ الزِّنَا تُضَاعَفُ
بِتَضَاعُفِ مَا انْتَهَكَهُ مِنْ الْحَقِّ.
(وَ) عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الزِّنَا (يَتَفَاوَتُ) إثْمُهُ وَيَعْظُمُ
جُرْمُهُ بِحَسَبِ مَوَارِدِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ
(فَزِنًا بِذَاتِ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ) لَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ
(أَعْظَمُ مِنْ زِنًا بِمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ) إذْ
فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الزَّوْجِ، وَإِفْسَادُ فِرَاشِهِ، وَتَعْلِيقُ
نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ
أَذَاهُ، فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا وَجُرْمًا مِنْ الزِّنَا بِغَيْرِ ذَاتِ
الْبَعْلِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ (فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَارًا انْضَمَّ
لَهُ سُوءُ الْجِوَارِ) وَإِيذَاءُ جَارٍ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْأَذَى،
وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَائِقِ أَوْ كَانَ الْجَارُ أَخًا (أَوْ
قَرِيبًا) مِنْ أَقَارِبِهِ (انْضَمَّ لَهُ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ)
فَيَتَضَاعَفُ الْإِثْمُ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ
بَوَائِقَهُ» وَلَا بَائِقَةَ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا بِامْرَأَةِ
الْجَارِ، فَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَائِبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ
كَالْعِبَادَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ تَضَاعَفَ الْإِثْمُ
حَتَّى إنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوقَفُ
لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ: خُذْ عَلَى حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ.
«قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا:
ظَنُّكُمْ؟»
[أَيْ:] مَا ظَنُّكُمْ أَنْ يُتْرَكَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ قَدْ حَكَمَ
فِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا شَاءَ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ
(6/173)
إلَى حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، حَيْثُ لَا
يَتْرُكُ الْأَبُ لِابْنِهِ، وَلَا الصِّدِّيقُ لِصِدِّيقِهِ حَقًّا يَجِبُ
لَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ رَحِمًا لَهُ
انْضَافَ إلَى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِهَا، فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ
الزَّانِي مُحْصَنًا كَانَ الْإِثْمُ أَعْظَمَ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَانَ
أَعْظَمَ إثْمًا وَعُقُوبَةً، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَإِنْ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي شَهْرٍ
حَرَامٍ أَوْ بَلَدٍ حَرَامٍ أَوْ وَقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ
كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ تَضَاعَفَ الْإِثْمُ،
وَعَلَى هَذَا فَاعْتُبِرَ مَفَاسِدُ الذُّنُوبِ وَتَضَاعُفُ دَرَجَاتِهَا
فِي الْإِثْمِ وَالْعُقُوبَةِ.
وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى الزِّنَا مَوْجُودًا فِي اللِّوَاطِ مِنْ كَوْنِهِ
إيلَاجَ فَرْجٍ فِي مَحِلٍّ مُحَرَّمٍ إلَى آخِرِهِ، بَلْ هُوَ فَوْقَهُ
لِأَنَّهُ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، تَعَدَّى الْحُكْمُ إلَيْهِ
بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ: (وَيَتَّجِهُ وَأَفْظَعُهُ) ؛
أَيْ: أَفْظَعُ أَنْوَاعِ الزِّنَا (اللِّوَاطُ) وَإِنْ كَانَ الزِّنَا
وَاللِّوَاطُ مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْفُحْشِ، وَفِي كُلِّ فَسَادٍ يُنَافِي
حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، فَإِنَّ فِي اللِّوَاطِ مِنْ
الْمَفَاسِدِ مَا يَفُوتُ الْحَصْرَ وَالتَّعْدَادَ، وَلَأَنْ يُقْتَلَ
الْمَفْعُولُ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى فَإِنَّهُ يَفْسُدُ
فَسَادًا لَا يُرْجَى لَهُ بَعْدَهُ صَلَاحٌ أَبَدًا، وَيَذْهَبُ خَيْرُهُ
كُلُّهُ، وَتَمْتَصُّ الْأَرْضُ مَاوِيَّةَ الْحَيَاءِ مِنْ وَجْهِهِ،
فَلَا يَسْتَحْيِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ
خَلْقِهِ، وَتَعْمَلُ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ نُطْفَةُ الْفَاعِلِ مَا
يَعْمَلُ السُّمُّ فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يُوَفَّقَ
لِخَيْرٍ، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَكُلَّمَا عَمِلَ خَيْرًا
قُيِّضَ لَهُ مَا يُفْسِدُهُ عُقُوبَةً لَهُ؛ وَقَلَّ أَنْ تَرَى مَنْ
كَانَ كَذَلِكَ فِي صِغَرِهِ إلَّا وَهُوَ فِي كِبَرِهِ شَرٌّ مِمَّا
كَانَ، وَلَا يُوَفَّقُ لِعِلْمٍ نَافِعٍ، وَلَا عَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَا
تَوْبَةٍ نَصُوحٍ غَالِبًا. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَمَفْسَدَةُ اللِّوَاطِ
مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ، وَعُقُوبَاتُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. لِقَوْلِ [اللَّهِ تَعَالَى: " {أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}
[الأعراف: 80] .
وَقَالَ فِي الزِّنَا: " {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] وَلَمْ يَقُلْ مَا سَبَقَكُمْ، فَعُلِمَ مِنْهُ
أَنَّ اللِّوَاطَ أَفْظَعُ مِنْ الزِّنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ] (كَثِيرٌ)
مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ
(6/174)
وَعَلِيٌّ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ (بِقَتْلِهِ) ؛ أَيْ: اللَّائِطِ
وَالْمَلُوطِ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ مِنْ الْأَئِمَّةِ
بِقَتْلِهِ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ (عَلَى كُلِّ حَالٍ) مُحْصَنًا
كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَقَدْ أَطْبَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَتْلِهِ، لَمْ يَخْتَلِفْ
فِيهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي
صِفَةِ قَتْلِهِ؛ فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ
مِنْهُمْ فِي قَتْلِهِ، فَحَكَاهَا مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ بَيْنَ
الصَّحَابَةِ، وَهِيَ بَيْنَهُمْ مَسْأَلَةُ إجْمَاعٍ، لَا مَسْأَلَةُ
نِزَاعٍ.
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ
فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ،
وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ.
وَالْمَذْهَبُ أَنَّ حَدَّ اللُّوطِيِّ كَالزَّانِي سَوَاءٌ، وَيَأْتِي
(وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ) فِي " الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ " وَغَيْرِهِ
(قَالَ) بَعْضُ (الْأَصْحَابِ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ تَحْرِيقَ اللُّوطِيِّ
فَلَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ) ، أَيْ: الْقَوْلُ بِتَحْرِيقِ اللُّوطِيِّ
(مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَثْبُتُ عَنْ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا
يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ فَكَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحَابَةَ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ. فَقَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا إلَّا
أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ
بِهَا أَرَى أَنْ يُحْرَقَ؛ بِالنَّارِ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى
خَالِدٍ فَحَرَقَهُ.
(فَإِذَا زَنَى مُحْصَنٌ. وَجَبَ رَجْمُهُ حَتَّى يَمُوتَ بِحِجَارَةٍ
مُتَوَسِّطَةٍ) كَالْكَفِّ (فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُثْخَنَ بِصَخْرَةٍ
كَبِيرَةٍ، وَلَا أَنْ يُطَوَّلَ عَلَيْهِ بِحَصَيَاتٍ صَغِيرَةٍ) حَكَاهُ
ابْنُ حَزْمٍ إجْمَاعًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - رَجَمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ
التَّوَاتُرَ، وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ نَسَخَ
رَسْمَهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ الْخَبَرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَتْ فِي الْمَصَاحِفِ لَاجْتَمَعَ الْعَمَلُ
بِحُكْمِهَا، وَثَوَابُ تِلَاوَتِهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَجَابَ
(6/175)
ابْنُ عَقِيلٍ فَقَالَ: إنَّمَا كَانَ
ذَلِكَ لِيَظْهَرَ مِقْدَارُ طَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْمُسَارَعَةِ
إلَى بَذْلِ النُّفُوسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ
لِطَلَبِ طَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، كَمَا سَارَعَ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ بِمَنَامٍ، وَهُوَ أَدْنَى
طُرُقِ الْوَحْيِ وَأَقَلُّهَا. وَيَتَّقِي الرَّاجِمُ الْوَجْهَ (وَلَا
يُجْلَدُ) الْمَرْجُومُ (قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ الرَّجْمِ، رُوِيَ عَنْ
عُمَرَ وَعُثْمَانَ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا» . وَقَالَ:
«وَاغْدُ يَا أُنَيْسٌ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ
فَارْجُمْهَا» ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِجَلْدِهَا، وَكَانَ هَذَا آخَرَ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كَمَا تُرْشِدُ إلَيْهِ رِوَايَةُ الْأَثْرَمِ عَنْ أَحْمَدَ، وَلِأَنَّهُ
حَدٌّ فِيهِ قَتْلٌ فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِ الْجَلْدُ كَالرِّدَّةِ (وَلَا
يُنْفَى الْمَرْجُومُ) قَبْلَ رَجْمِهِ.
(وَالْمُحْصَنُ مَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ) لَا سُرِّيَّتُهُ (بِنِكَاحٍ
صَحِيحٍ) لَا بَاطِلٍ وَلَا فَاسِدٍ (وَلَوْ) كَانَتْ (كِتَابِيَّةً فِي
قُبُلِهَا) وَطْئًا حَصَلَ بِهِ تَغِيبُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ
مَقْطُوعِهَا (وَلَوْ) كَانَ وَطْؤُهُ إيَّاهَا (فِي حَيْضٍ أَوْ صَوْمٍ
أَوْ إحْرَامٍ وَنَحْوِهِ) كَفِي نِفَاسٍ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ مَعَ ضِيقِ
وَقْتِ فَرِيضَةٍ (وَهُمَا) ؛ أَيْ: الزَّوْجَانِ (مُكَلَّفَانِ حُرَّانِ)
فَلَا إحْصَانَ مَعَ صِغَرِ أَحَدِهِمَا (أَوْ جُنُونِهِ أَوْ رِقِّهِ،
وَلَوْ ذِمِّيَّيْنِ أَوْ مُسْتَأْمَنَيْنِ بِنِكَاحٍ يُقَرَّانِ عَلَيْهِ
لَوْ أَسْلَمَا) فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمَجُوسِيُّ الْمُتَزَوِّجُ
بِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَأُخْتِهِ؛ إذْ تَزْوِيجُهُ بِنَحْوِ
أُخْتِهِ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ لَوْ
تَرَافَعَا إلَيْنَا، وَكَذَا الْيَهُودِيُّ إذَا نَكَحَ بِنْتَ أَخِيهِ
أَوْ أُخْتِهِ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا إحْصَانَ بِمُجَرَّدِ
الْعَقْدِ وَلَا بِالْخَلْوَةِ وَلَا الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ وَمَا دُونَ
الْفَرْجِ، وَلَا بِوَطْءِ زِنًا أَوْ شُبْهَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي
الْإِحْصَانِ الْإِسْلَامُ؛ «لِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - بِرَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ، فَرُجِمَا» ،
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَيُفَارِقَ الْإِحْصَانُ إحْلَالٌ حَيْثُ تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا
بِوَطْءِ زَوْجٍ وَلَوْ رَقِيقًا أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ أَوْ مَجْنُونًا؛
لِأَنَّ الْإِحْصَانَ اُعْتُبِرَ لِكَمَالِ النِّعْمَةِ، فَمَنْ كَمُلَتْ
النِّعْمَةُ فِي حَقِّهِ؛ فَجِنَايَتُهُ أَفْحَشُ وَأَحَقُّ بِزِيَادَةِ
الْعُقُوبَةِ، وَالنِّعْمَةُ فِي حَقِّ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ أَكْمَلُ،
(6/176)
بِخِلَافِ الْإِحْلَالِ؛ فَإِنَّ
اعْتِبَارَ الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْمُطَلِّقِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
عُقُوبَةً لَهُ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَطَأَهَا غَيْرُهُ؛
فَإِنَّهُ مِمَّا تَأْبَاهُ الطِّبَاعُ وَيَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ (لَكِنْ
لَا حَدَّ عَلَى مُسْتَأْمَنٍ نَصًّا) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ
لِحُكْمِنَا بَلْ يَكُونُ مُحْصَنًا، فَإِذَا زَنَى بَعْدَ إسْلَامٍ أَوْ
بَعْدَ كَوْنِهِ ذِمِّيًّا فَإِنَّهُ يُحَدُّ اكْتِفَاءً بِإِحْصَانِهِ
بِالنِّكَاحِ فِي أَمَانِهِ السَّابِقِ.
(وَلَا يَسْقُطُ إحْصَانُ) مَنْ أَحْصَنَ كَافِرًا (بِإِسْلَامٍ) نَصًّا
كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. (وَيَتَّجِهُ وَيَسْقُطُ) إحْصَانُ كَافِرٍ زَنَى
بِغَيْرِ مُسْلِمَةٍ ثُمَّ اُسْتُرِقَّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ (بِطُرُوءِ)
عَلَيْهِ (مُدَّتِهِ) ؛ أَيْ: الرِّقِّ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ
بِزِنَاهُ السَّابِقِ عَلَى الِاسْتِرْقَاقِ مَا دَامَ رَقِيقًا،
مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَالِكِ، فَإِذَا زَنَى فِي مُدَّةِ رِقِّهِ أُقِيمَ
عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَذَا لَوْ صَارَ حُرًّا فَإِنَّهُ يُحَدُّ
اكْتِفَاءً بِإِحْصَانِهِ السَّابِقِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَتَصِيرُ هِيَ) ؛ أَيْ: الزَّوْجَةُ (أَيْضًا مُحْصَنَةً) حَيْثُ كَانَا
بِالصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ الْوَطْءِ (وَلَا إحْصَانَ لِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا) ؛ أَيْ: الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ (مَعَ فَقْدِ شَيْءٍ
مِمَّا ذُكِرَ) مِنْ الْقُيُودِ السَّابِقَةِ.
(وَيَثْبُتُ) إحْصَانُهُ (بِقَوْلِهِ) ؛ أَيْ: الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ
(وَطِئْتُهَا أَوْ جَامَعْتُهَا وَنَحْوِهِ) كَبَاضَعْتُهَا (أَوْ دَخَلْتُ
بِهَا) لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ الْوَطْءُ بِخِلَافِ أَصَبْتُهَا أَوْ
بَاشَرْتُهَا أَوْ أَتَيْتُهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ
إحْصَانٌ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا دُونَ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ
كَثِيرًا، ذَكَرَهُ فِي " الشَّرْحِ ". وَكَذَا لَوْ قَالَتْ هِيَ شَيْئًا
مِمَّا سَبَقَ، هَذَا الْمَذْهَبُ. وَفِي " الْإِقْنَاعِ " وَإِنْ قَالَتْ:
بَاشَرَهَا أَوْ مَسَّهَا أَوْ أَصَابَهَا أَوْ أَتَاهَا أَوْ دَخَلَ
(6/177)
بِهَا أَوْ قَالَهُ هُوَ فَيَنْبَغِي
أَلَّا يَثْبُتَ بِهِ إحْصَانٌ. انْتَهَى. وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ
الْإِشَارَةُ إلَى خِلَافِهِ. (وَيَتَّجِهُ أَوْ) ؛ أَيْ: وَيَثْبُتُ
الْإِحْصَانُ (بِالشَّهَادَةِ) مِنْ عَدْلَيْنِ (عَلَى فِعْلِهِ) الْوَطْءَ
وَأَمَّا لَوْ شَهِدَا بِدُخُولِهِ بِزَوْجَتِهِ فَلَا يَكُونُ إحْصَانًا
عَلَى الْمَذْهَبِ صَحَّحَهُ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ. وَيَتَّجِهُ
(أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ مُقِرٌّ بِهِ) أَيْ: بِالْوَطْءِ عَنْ إقْرَارِهِ
وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ (قُبِلَ) مِنْهُ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ شُبْهَةٌ؛
وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَلَا يَثْبُتُ) إحْصَانٌ (بِوَلَدِهِ) مِنْ امْرَأَتِهِ (مَعَ إنْكَارِ
وَطْئِهَا) لِأَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِإِمْكَانِ الْوَطْءِ،
وَالْإِحْصَانُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ وَكَذَا لَوْ
كَانَ لِامْرَأَةٍ وَلَدٌ مِنْ زَوْجِهَا فَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ
وَطِئَهَا؛ لَمْ يَثْبُتْ إحْصَانُهَا لِذَلِكَ، وَإِذَا جُلِدَ زَانٍ
عَلَى أَنَّهُ بِكْرٌ، فَبَانَ مُحْصَنًا، رُجِمَ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ: إنَّ
رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ، «فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجُلِدَ الْحَدَّ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ
مُحْصَنٌ، فَرُجِمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَيُكَفَّنُ الْمَحْدُودُ بِالرَّجْمِ، وَيُغَسَّلُ إنْ كَانَ مُسْلِمًا.
قَالَ أَحْمَدُ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ شُرَاحَةَ، وَكَانَ رَجَمَهَا،
فَقَالَ: اصْنَعُوا بِهَا مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ، وَصَلَّى عَلِيٌّ
عَلَيْهَا. وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي
الْجُهَنِيَّةِ «فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَرُجِمَتْ، وَصَلَّى عَلَيْهَا» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
[تَتِمَّةٌ زَنَى حُرٌّ ذِمِّيٌّ ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ
سُبِيَ فَاسْتُرِقَّ]
تَتِمَّةٌ: وَلَوْ زَنَى حُرٌّ ذِمِّيٌّ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ،
ثُمَّ سُبِيَ، فَاسْتُرِقَّ؛ حُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ
جَلْدٍ أَوْ تَغْرِيبٍ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ الْوُجُوبِ، وَقَدْ
كَانَ حُرًّا.
(6/178)
(وَإِنْ زَنَى غَيْرُ مُحْصَنٍ حُرٌّ
جُلِدَ مِائَةً) بِلَا خِلَافٍ لِلْخَبَرِ (وَغُرِّبَ، عَامًا وَلَوْ
أُنْثَى) مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ
حَدٌّ تَرَتَّبَ عَلَى الزِّنَا فَوَجَبَ عَلَى الْكَافِرِ كَالْقَوَدِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ وَغَرَّبَ» ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ
ضَرَبَ وَغَرَّبَ، (وَأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ وَغَرَّبَ) . وَيَكُونُ
تَغْرِيبُ أُنْثَى (بِمَحْرَمٍ بَاذِلٍ نَفْسَهُ) مَعَهَا (وُجُوبًا)
لِعُمُومِ نَهْيِهَا عَنْ السَّفَرِ بِلَا مَحْرَمٍ (وَعَلَيْهَا
أُجْرَتُهُ) ؛ أَيْ: الْمَحْرَمِ، لِصَرْفِ نَفْسِهِ فِي أَدَاءِ مَا
وَجَبَ عَلَيْهَا (فَإِنْ تَعَذَّرَتْ) أُجْرَتُهُ (مِنْهَا) لِعَدَمٍ أَوْ
امْتِنَاعٍ (فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ.
(فَإِنْ أَبَى) الْمَحْرَمُ السَّفَرَ مَعَهَا (أَوْ تَعَذَّرَ) بِأَنْ
لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ (فَوَحْدَهَا) تُغَرَّبُ (إلَى مَسَافَةِ
قَصْرٍ بِحَيْثُ عَيَّنَهُ حَاكِمٌ) لِلْحَاجَةِ كَسَفَرِ الْهِجْرَةِ
وَكَالْحَجِّ إذَا مَاتَ الْمَحْرَمُ فِي الطَّرِيقِ (وَيُغَرَّبُ غَرِيبٌ)
. زَنَى (وَ) يُغَرَّبُ (مُغَرَّبٌ) زَنَى مِنْ رَبَّتِهِ (إلَى غَيْرِ
وَطَنِهِمَا) لِأَنَّ عَوْدَهُ إلَى وَطَنِهِ لَيْسَ تَغْرِيبًا،
(وَيَتَدَاخَلُ تَغْرِيبٌ كَحَدٍّ) وَتَدْخُلُ بَقِيَّةُ مُدَّةِ
التَّغْرِيبِ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَدَّيْنِ مِنْ جِنْسٍ
فَتَدَاخَلَا، وَإِنْ عَادَ إلَى وَطَنِهِ قَبْلَ الْحُلُولِ مُنِعَ،
وَأُعِيدَ تَغْرِيبُهُ حَتَّى يُكْمِلَ الْحَوْلَ مُسَافِرًا، وَيَبْنِي
عَلَى مَا مَضَى قَبْلَ عَوْدِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ
لِزِيَادَتِهِ إذَنْ عَنْ الْعَامِ، وَالْبَدَوِيُّ يُغَرَّبُ عَنْ
حِلَّتِهِ وَقَوْمِهِ إلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ فَأَكْثَرَ، وَلَا يُمَكَّنُ
مِنْ الْإِقَامَةِ بَيْنَ قَوْمِهِ حَتَّى يَمْضِيَ الْعَامُ؛ لِيَحْصُلَ
التَّغْرِيبُ.
وَلَوْ أَرَادَ الْحَاكِمُ تَغْرِيبَهُ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَغَابَ
سَنَةً ثُمَّ عَادَ؛ لَمْ يَكْفِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الزَّجْرُ،
كَمَا لَوْ جَلَدَ نَفْسَهُ، وَلَا يُحْبَسُ الْمُغَرَّبُ فِي الْبَلَدِ
الَّذِي نُفِيَ إلَيْهِ؛ لِعَدَمِ وُرُودِهِ.
(وَإِنْ زَنَى قِنٌّ وَلَوْ عَتَقَ بَعْدَ جَلْدِ خَمْسِينَ) جَلْدَةً
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ
مِائَةُ جَلْدَةٍ، فَيَنْصَرِفُ التَّنْصِيفُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ،
وَالرَّجْمُ لَا يَتَأَتَّى بِهِ تَنْصِيفُهُ.
(6/179)
(وَلَا يُغَرَّبُ) قِنٌّ، زَنَى، لِأَنَّهُ
عُقُوبَةٌ لِسَيِّدِهِ دُونَهُ، إذْ الْعَبْدُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي
تَغْرِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَتَرَفَّهُ فِيهِ
بِتَرْكِ الْخِدْمَةِ، وَيَتَضَرَّرُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ.
(وَلَا يُعَيَّرُ) زَانٍ بَعْدَ الْحَدِّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ» يُقَالُ
ثَرَّبَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: لَامَهُ وَعَيَّرَهُ بِذَنْبِهِ. ذَكَرَهُ فِي
الْقَامُوسِ.
(وَإِنْ زَنَى) رَقِيقٌ (بَعْدَ عِتْقٍ وَقَبْلَ عِلْمٍ بِهِ) ؛ أَيْ:
الْعِتْقِ (حُدَّ كَحُرٍّ) وَلَا أَثَرَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعِتْقِ،
وَإِنْ أُقِيمَ حَدُّ الرَّقِيقِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِحُرِّيَّتِهِ، ثُمَّ
عُلِمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ تُمِّمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ
اسْتِدْرَاكًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ،
وَوُجِدَتْ شُرُوطُ الْإِحْصَانِ كُلُّهَا؛ رُجِمَ كَمَا سَبَقَ فِي
الْحُرِّ الْأَصْلِيِّ.
(وَيُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ مُبَعَّضٌ بِحِسَابِهِ) فَالْمُتَنَصَّفُ يُجْلَدُ
خَمْسًا وَسَبْعِينَ جَلْدَةً، وَيُغَرَّبُ نِصْفَ عَامٍ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ
تَغْرِيبُهُ عَامٌ، وَالْعَبْدُ لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِ، فَنِصْفُ
الْوَاجِبِ مِنْ التَّغْرِيبِ نِصْفٌ مَحْسُوبًا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ
نَصِيبِهِ الْحُرِّ، وَلِلسَّيِّدِ نِصْفُ عَامٍ بَدَلًا عَنْهُ؛ لِأَنَّ
نَصِيبَ السَّيِّدِ لَا تَغْرِيبَ فِيهِ، وَمَا زَادَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ
عَلَى النِّصْفِ وَنَقَصَ عَنْهَا فَبِحِسَابِ ذَلِكَ مِنْ جَلْدٍ
وَتَعْزِيرٍ (فَإِنْ كَانَ) فِي الْجَلَدَاتِ (كَسْرٌ كَمَنْ ثُلُثُهُ
حُرٌّ؛ فَحَدُّهُ سِتٌّ وَسِتُّونَ) جَلْدَةً (وَثُلُثَا جَلْدَةٍ
فَيَنْبَغِي سُقُوطُ الْكَسْرِ) لِئَلَّا يَحْصُلَ الْعُدْوَانِ
بِمُجَاوَزَةِ الْوَاجِبِ، وَلَمْ تُجْعَلْ كَالْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ،
لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ حَسَبَ الِاسْتِطَاعَةِ،
وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْقِنِّ لِحَدِيثِ
«الْمُكَاتَبُ قِنٌّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَالْبَاقِي
بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَفَا السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ الزَّانِي
وَنَحْوِهِ؛ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ لِأَنَّهُ لِلَّهِ فَلَا يَسْقُطُ
بِعَفْوِهِ.
(وَإِنْ زَنَى مُحْصَنٌ بِبِكْرٍ) أَوْ عَكْسُهُ (أَوْ) زَنَى (حُرٌّ
بِقِنٍّ فَلِكُلٍّ حَدُّهُ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ
خَالِدٍ: «فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّ ابْنِي كَانَ
عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي
(6/180)
افْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ
وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَقَالُوا:
إنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالرَّجْمُ
عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا
بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ
عَامٍ، وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً، وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا
الْأَسْلَمِيَّ يَأْتِي امْرَأَةَ الْآخَرِ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ
فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الْعَسِيفُ
الْأَجِيرُ.
(وَزَانٍ بِذَاتِ مَحْرَمٍ) كَأُخْتِهِ (كَ) زَانٍ (بِغَيْرِهَا) عَلَى مَا
سَبَقَ تَفْصِيلُهُ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ (وَعَنْهُ) ؛ أَيْ: الْإِمَامِ
أَحْمَدَ (يُقْتَلُ) زَانٍ بِذَاتِ مَحْرَمٍ (بِكُلِّ حَالٍ) أَيْ:
مُحْصَنًا كَانَ أَوْ لَا، قِيلَ لَهُ: فَالْمَرْأَةُ؟ قَالَ: كِلَاهُمَا
فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. وَالْمَذْهَبُ مَا تَقَدَّمَ.
(وَلُوطِيٌّ فَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ بِهِ كَزَانٍ) فَمَنْ كَانَ مِنْهُمَا
مُحْصَنًا رُجِمَ، وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ الْحُرِّ يُجْلَدُ مِائَةً
وَيُغَرَّبُ عَامًا، وَالرَّقِيقُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ وَالْمُبَعَّضُ
بِحِسَابِهِ؛ لِحَدِيثِ «إذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا
زَانِيَانِ» : وَلِأَنَّهُ فَرْجٌ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ؛ أَشْبَهَ
فَرْجَ الْمَرْأَةِ. (وَمَمْلُوكُهُ) إذَا لَاطَ بِهِ (كَأَجْنَبِيٍّ)
لِأَنَّ الذَّكَرَ لَيْسَ لِلْوَطْءِ فَلَا يُؤَثِّرُ مِلْكُهُ لَهُ.
(وَدُبُرُ أَجْنَبِيَّةٍ) ؛ أَيْ: غَيْرِ زَوْجَتِهِ وَسُرِّيَّتِهِ
(كَلِوَاطٍ) وَيُعَزَّرُ مَنْ أَتَى زَوْجَتَهُ أَوْ سُرِّيَّتَهُ فِي
دُبُرِهَا (وَمَنْ أَتَى بَهِيمَةً) وَلَوْ سَمَكَةً (عُزِّرَ) رُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ يَصِحُّ، وَلَا يَصِحُّ
قِيَاسُهُ عَلَى فَرْجِ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ،
وَالنُّفُوسُ تَعَافُهُ، وَيُبَالَغُ فِي تَعْزِيرِهِ؛ لِعَدَمِ
الشُّبْهَةِ فِيهِ كَوَطْءِ الْمَيِّتَةِ (وَقُتِلَتْ) الْبَهِيمَةُ
الْمَأْتِيَّةُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ،
وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ؛ لِئَلَّا
يُعَيَّرَ بِهَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «مَنْ وَقَعَ
عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ، وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ» ) رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَضَعَّفَهُ الطَّحَاوِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ،
وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ
الْبَهِيمَةِ؟ قَالَ: لِئَلَّا يُقَالَ هَذِهِ بِهَذِهِ» وَقِيلَ فِي
التَّعْلِيلِ لِئَلَّا تَلِدَ خَلْقًا مُشَوَّهًا، وَبِهِ عَلَّلَ ابْنُ
عَقِيلٍ
(6/181)
فِي " التَّذْكِرَةِ " وَقِيلَ لِئَلَّا
تُؤْكَلَ، أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَعْلِيلِهِ، وَصَحَّ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ
(لَكِنْ) لَا تُقْتَلُ إلَّا (بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فِعْلِهِ
بِهَا) إنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى
مِلْكِ غَيْرِهِ.
(وَيَكْفِي إقْرَارُهُ مَرَّةً إنْ مَلَكَهَا) مُؤَاخَذَةً لَهُ
بِإِقْرَارِهِ (وَيَحْرُمُ أَكْلُهَا) ؛ أَيْ: الْمَأْتِيَّةِ - وَلَوْ
مَأْكُولَةً - لِأَنَّهَا حَيَوَانٌ وَجَبَ قَتْلُهُ لِحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى؛ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولَاتِ (فَيَضْمَنُهَا) الْآتِي لَهَا
بِقِيمَتِهَا لِإِتْلَافِهَا بِسَبَبِهِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهَا فَمَاتَتْ.
(وَيَتَّجِهُ الْأَصَحُّ لَا تُقْتَلُ) الْبَهِيمَةُ الْمَأْتِيَّةُ؛
لِأَنَّهَا لَا ذَنْبَ لَهَا، قَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ " "
وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ " وَهُوَ رِوَايَةٌ؛ (فَإِنَّ) الْإِمَامَ
(أَحْمَدَ سُئِلَ) عَنْ حَدِيثِ قَتْلِهَا فَلَمْ يُثْبِتْهُ، (وَقَالَ
الطَّحَاوِيُّ: الْحَدِيثُ) الْوَارِدُ فِي قَتْلِهَا (ضَعِيفٌ) لَكِنْ
قَالَ: فِي " الْإِنْصَافِ " وَتُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ هَذَا الصَّحِيحُ
مِنْ الْمَذْهَبِ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " وَتُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ عَلَى الْأَصَحِّ،
وَقَطَعَ بِهِ الْخِرَقِيِّ صَاحِبُ " الْهِدَايَةِ " " وَمَسْبُوكِ
الذَّهَبِ " " وَالْمُسْتَوْعِبِ " " وَالْخُلَاصَةِ " " وَالْكَافِي " "
وَالْوَجِيزِ " وَغَيْرِهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الِاخْتِيَارُ
قَتْلُهَا، انْتَهَى. فَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الِاتِّجَاهَ فِيهِ مَا
فِيهِ (وَعَنْهُ) ؛ أَيْ: الْإِمَامِ أَحْمَدَ (مَنْ أَتَى بَهِيمَةً حُدَّ
كَلُوطِيٍّ) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اخْتَارَهَا الْقَاضِي، وَالْمَذْهَبُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يُعَزَّرُ فَقَطْ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ
الْأَصْحَابِ.
(وَمَنْ مَكَّنَتْ مِنْهَا قِرْدًا) حَتَّى وَطِئَهَا (عُزِّرَتْ)
تَعْزِيرًا بَلِيغًا كَوَاطِئِ الْبَهِيمَةِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ
وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.
[فَصْلٌ شُرُوطُ حَدِّ الزِّنَا]
فَصْلٌ (وَشُرُوطُ حَدِّ زِنًا ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا - تَغْيِيبُ حَشَفَةٍ
أَصْلِيَّةٍ مِنْ عَاقِلٍ، وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ) قَوِيٍّ أَنْ يَكُونَ
(بِلَا حَائِلٍ) قِيَاسًا عَلَى الْغُسْلِ، إذْ لَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ
بِحَائِلٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، فَدَلَّ أَنَّهُ
(6/182)
يَلْزَمُ مَنْ نَفَى وُجُوبَ الْغُسْلِ
نَفْيُ الْحَدِّ وَأَوْلَى " قَالَهُ فِي " الْفُرُوعِ " " وَالْمُبْدِعِ "
فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ غَيَّبَ بِحَائِلٍ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ (مِنْ آدَمِيٍّ) ، وَلَوْ مِنْ خَصِيٍّ (أَوْ مِنْ جَاهِلِ)
الْعُقُوبَةِ (أَوْ) تَغْيِيبُ (قَدْرِهَا) ؛ أَيْ: الْحَشَفَةِ
(لِعَدَمِهَا فِي فَرْجٍ أَصْلِيٍّ مِنْ آدَمِيٍّ حَيٍّ، وَلَوْ دُبُرًا)
لِذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى؛ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ
إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي
وَجَدْتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ فَأَصَبْتُ مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ
غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَنْكِحْهَا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ
وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
[هود: 114] » رَوَاهُ النَّسَائِيّ فَلَا حَدَّ بِتَغْيِيبِ بَعْضِ
الْحَشَفَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَلَا بِتَغْيِيبِ ذَكَرِ خُنْثَى مُشْكِلٍ،
وَلَا بِالتَّغْيِيبِ فِي فَرْجِهِ، وَلَا بِالْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ
دُونَ الْفَرْجِ، وَلَا بِإِتْيَانِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَيُعَزَّرُ
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ جَاءَ
تَائِبًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ حَالِهِ، عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ
تَرْكَ التَّعْزِيرِ إذَا رَآهُ، كَمَا فِي " الْمُغْنِي " " وَالشَّرْحِ
".
الشَّرْطُ (الثَّانِي - انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ) لِحَدِيثِ: «ادْرَءُوا
الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (فَلَا يُحَدُّ مَنْ وَطِئَ
زَوْجَتَهُ) أَوْ سُرِّيَّتَهُ (فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دُبُرٍ)
لِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ مِلْكًا (أَوْ) وَطِئَ (أَمَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ
أَبَدًا بِرَضَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ) كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ أَوْ
أُمِّ زَوْجَتِهِ، أَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ (الْمُزَوَّجَةَ) أَوْ (أَمَتَهُ)
الْمُعْتَدَّةَ أَوْ (أَمَتَهُ) (الْمُرْتَدَّةَ أَوْ) أَمَتَهُ
(الْمَجُوسِيَّةَ) (أَوْ) وَطِئَ أَمَةً (لَهُ فِيهَا) شِرْكٌ (أَوْ)
لِوَلَدِهِ (فِيهَا) شِرْكٌ (أَوْ لِمُكَاتَبِهِ) فِيهَا شِرْكٌ (أَوْ
لِبَيْتِ الْمَالِ فِيهَا شِرْكٌ، وَهُوَ) ؛ أَيْ: الْوَاطِئُ (مُسْلِمٌ
حُرٌّ) فَلَا حَدَّ لِشُبْهَةِ مِلْكِ الْوَاطِئِ أَوْ لِوَلَدِهِ؛
لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ؛ لِحَدِيثِ: «أَنْتَ
وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَلِشُبْهَةِ مِلْكِ مُكَاتَبٍ الْوَاطِئَ، وَكَذَا
إنْ كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ فِيهَا شِرْكٌ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ
فِيهِ حَقًّا.
وَفِي
(6/183)
بَعْضِ النُّسَخِ (وَيَتَّجِهُ لَا حَدَّ
عَلَى الرَّقِيقِ) الْمُسْلِمِ إذَا وَطِئَ أَمَةً لِبَيْتِ الْمَالِ
فِيهَا شِرْكٌ (قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ السَّرِقَةِ) الْآتِيَةِ فِي
بَابِهَا؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا هُنَا: الشَّرْطُ السَّادِسُ انْتِقَاءُ
الشُّبْهَةِ فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مُسْلِمٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ،
وَلَوْ قِنًّا، وَفِي " الْإِقْنَاعِ " وَغَيْرِهِ هُنَا الْحُرِّيَّةُ
مُعْتَبَرَةٌ؛ لِأَنَّ لِلْحُرِّ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ، بِخِلَافِ
الرَّقِيقِ فَعَلَى تَسْلِيمِ صِحَّةِ نِسْبَةِ هَذَا الِاتِّجَاهِ إلَى
الْمُصَنِّفِ؛ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِصَرِيحِ " الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ.
(أَوْ) وَطِئَ (فِي نِكَاحِ) مُخْتَلَفٍ فِيهِ (أَوْ فِي مِلْكٍ مُخْتَلَفٍ
فِيهِ يُعْتَقَدُ تَحْرِيمُهُ كَنِكَاحِ بِنْتِهِ مِنْ زِنًا وَنِكَاحِ
مُتْعَةٍ كَ) قَوْلِهِ لِامْرَأَةٍ (أَمْتِعِينِي نَفْسَكِ؛ فَتَقُولُ هِيَ
أَمْتَعْتُكَ) نَفْسِي (بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ) فَلَا حَدَّ.
(وَيَتَّجِهُ أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا حَدَّ بِوَطْئِهِ امْرَأَةً مُطَلَّقَةً
مِنْهُ (ثَلَاثًا دُفْعَةً أَوْ) مُطَلَّقَةً مِنْهُ ثَلَاثًا فِي
دُفُعَاتٍ (فِي طُهْرٍ) وَاحِدٍ (لِقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ
بِوُقُوعِ وَاحِدَةٍ فَقَطْ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ مَا يَخْتَلِفُ بِهِ عَدَدُ
الطَّلَاقِ فَلْيُرَاجَعْ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا حَدَّ بِوَطْءٍ بِشِرَاءٍ (فَاسِدٍ بَعْدَ قَبْضِهِ)
؛ أَيْ: الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِإِقْبَاضِهِ الْأَمَةَ كَأَنَّهُ
أَذِنَهُ فِي فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ، وَمِنْهُ
الْوَطْءُ (لَا قَبْلَهُ) ؛ أَيْ: الْقَبْضِ، فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ قَبْضِ
مَبِيعَةٍ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ؛ حُدَّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
(ذَكَرَهُ فِي " الْإِنْصَافِ ") أَوْ وَطِئَ فِي مِلْكٍ (بِعَقْدٍ)
فُضُولِيٍّ، (وَلَوْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ) فَلَا حَدَّ، أَوْ وَطِئَ
(امْرَأَةً وَجَدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ ظَنَّهَا
زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ) فَلَا حَدَّ (وَيَتَّجِهُ وَ) لَوْ وَجَدَهَا
(بِغَيْرِ فِرَاشِهِ وَ) كَذَلِكَ (بِغَيْرِ مَنْزِلِهِ؛ فَإِنَّهُ
يُحَدُّ، وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ الظَّنَّ) أَنَّهَا زَوْجَتُهُ أَوْ
أَمَتُهُ (حَيْثُ لَا قَرِينَةَ) عَلَى صِدْقِ ظَنِّهِ، أَمَّا إنْ كَانَ
ثَمَّ قَرِينَةٌ تُصَدِّقُهُ كَكَوْنِهَا
(6/184)
مَعَهُ فِي مَنْزِلِ الْغَيْرِ؛
فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ؛ لِجَوَازِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ.
(أَوْ) وَطِئَ أَمَةً (ظَنَّ أَنْ لَهُ فِيهَا شُرَكَاءَ أَوْ لِوَلَدِهِ
فِيهَا شُرَكَاءَ) فَلَا حَدَّ، أَوْ دَعَّى ضَرِيرٌ امْرَأَتَهُ أَوْ
أَمَتَهُ، فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا، فَوَطِئَهَا؛ فَلَا حَدَّ؛
لِاعْتِقَادِهِ إبَاحَةَ الْوَطْءِ فِيمَا يُعْذَرُ فِيهِ مِثْلُهُ
(أَشْبَهَ مَنْ أُدْخِلَ عَلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ) ، بِخِلَافِ مَا
لَوْ دَعَّى مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا، فَوَطِئَهَا
يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ؛ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ كَانَتْ
الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ كَالْجَارِيَةِ
الْمُشْتَرَكَةِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهَذَا،
أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا يَظُنُّهُ ابْنَهُ فَبَانَ أَجْنَبِيًّا.
(أَوْ جَهِلَ) زَانٍ (تَحْرِيمَهُ) ؛ أَيْ: الزِّنَا، وَكَانَ يُحْتَمَلُ
أَنْ يَجْهَلَهُ (لِقُرْبِ إسْلَامِهِ أَوْ نَشْؤُهُ بِبَادِيَةٍ
بَعِيدَةٍ) عَنْ الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا
يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ
لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِ النَّاشِئِ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَادَّعَى جَهْلَ تَحْرِيمِ ذَلِكَ؛
لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ
هُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ عُلِمَ كَذِبُهُ
(أَوْ) ادَّعَى جَهْلَ (تَحْرِيمِ نِكَاحٍ بَاطِلٍ إجْمَاعًا، وَمِثْلُهُ
يَجْهَلُهُ) بِأَنْ لَا يَكُونَ فَقِيهًا، فَلَا يُحَدُّ، لِأَنَّ عُمَرَ
قَبِلَ قَبُولَ الْمُدَّعِي الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِي
الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُجْهَلُ كَثِيرًا، وَيَخْفَى عَلَى
غَيْرِ أَهْل الْعِلْمِ.
(أَوْ ادَّعَى) وَاطِئُ امْرَأَةٍ (أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَأَنْكَرَتْ)
زَوْجِيَّتَهُ؛ فَلَا يُحَدُّ لِأَنَّ دَعْوَاهُ ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ
الْحَدَّ عَنْهُ، لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ
الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي
الْعُقُوبَةِ» وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ
جَبَلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الْحَدُّ
فَادْرَأْ مَا اسْتَطَعْتَ (فَإِنْ أَقَرَّتْ هِيَ) أَرْبَعَ مَرَّاتٍ
(أَنَّهُ زَنَى) بِهَا مُطَاوِعَةً عَالِمَةً بِتَحْرِيمِهِ (حُدَّتْ)
وَحْدَهَا وَلَا مَهْرَ نَصًّا مُؤَاخَذَةً لَهَا بِإِقْرَارِهَا.
(وَيُحَدُّ) مُكَلَّفٌ (بِوَطْءٍ فِي نِكَاحٍ بَاطِلٍ) [ (إجْمَاعًا مَعَ
عِلْمِهِ) ] بِبُطْلَانِ
(6/185)
النِّكَاحِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ
كَنِكَاحِ مُزَوَّجَةٍ أَوْ مُعْتَدَّةٍ مِنْ غَيْرِ زِنًا، لِأَنَّ
الْمُعْتَدَّةَ مِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا أَوْ خَامِسَةٍ
أَوْ ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ
وَطْءٌ [لَمْ] يُصَادِفْ مِلْكًا وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ، رَوَى أَبُو
نَصْرٍ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رُفِعَ إلَيْهِ امْرَأَةٌ
تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَقَالَ هَلْ عَلِمْتُمَا؟ قَالَا: لَا،
[فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُمَا لَرَجَمْتُكُمَا.
(أَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ) حُدَّ، لِأَنَّ الْأَمَانَ] .
لَا يُبِيحُ الْبُضْعَ. (وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ قَوِيٍّ) أَنَّهُ يَجِبُ
الْحَدُّ عَلَى وَاطِئِ الْحَرْبِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْتَأْمَنَةً
أَوْ لَا، لَكِنَّ وَطْءَ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنَةِ [مُوجِبٌ لِإِقَامَةِ
الْحَدِّ عَلَى (نَحْوِ أَسِيرٍ) كَتَاجِرٍ بِدَارِ حَرْبٍ؛ إذْ الْبُضْعُ
مُحَرَّمٌ إلَّا] عَلَى الْأَزْوَاجِ أَوْ مَا مَلَكَتْ الْأَيْمَانُ،
وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ نَحْوِ الْأَسِيرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ
بِوَطْءِ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي لَا أَمَانَ لَهَا بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ
(أَوْ) زَنَى بِحَرْبِيَّةِ مُسْتَأْمَنَةٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(أَوْ) زَنَى (بِمَنْ اسْتَأْجَرَهَا لِزِنًا أَوْ غَيْرِهِ) حُدَّ؛
لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ (أَوْ زَنَى بِمَنْ لَهُ
عَلَيْهَا قَوَدٌ) حُدَّ؛ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ
وَطِئَ مَنْ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ (أَوْ) زَنَى (بِامْرَأَةٍ ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا) (أَوْ) زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ (مَلَكَهَا) حُدَّ؛ لِوُجُوبِهِ
بِوَطْئِهَا أَجْنَبِيَّةً؛ فَلَا يَسْقُطُ بِتَغَيُّرِ حَالِهَا، كَمَا
لَوْ مَاتَتْ أَوْ أَقَرَّ عَلَيْهَا بِأَنْ قَالَ زَنَيْت بِفُلَانَةَ
وَهِيَ حَاضِرَةٌ فَسَكَتَتْ، فَلَمْ تُصَدِّقْهُ وَلَمْ تُكَذِّبْهُ أَوْ
جَحَدَتْ؛ حُدَّ.
[ (أَوْ) زَنَى] (بِمَجْنُونَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ يُوطَأُ مِثْلُهَا)
كَبِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ؛ حُدَّ بِلَا نِزَاعٍ. نَقَلَهُ
الْجَمَاعَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِأَنَّ الْوَاطِئَ مِنْ أَهْلِ
وُجُوبِ الْحَدِّ، وَسُقُوطُ الْحَدِّ عَنْ الْمَوْطُوءَةِ
(6/186)
لَا يَكُونُ سَبَبًا لِسُقُوطِهِ عَنْ
الْوَاطِئِ لِأَنَّ سَبَبَ السُّقُوطِ فِي الْمَوْطُوءَةِ [غَيْرُ
مَوْجُودٍ فِي الْوَاطِئِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْوَاطِئِ دُونَ
الْمَوْطُوءَةِ] لِعَدَمِ الْمُسْقِطِ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّغِيرَةُ لَا
يُوطَأُ مِثْلُهَا؛ فَلَا يُحَدُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، جَزَمَ بِهِ فِي "
الْوَجِيزِ " وَغَيْرِهِ (أَوْ) وَطِئَ (أَمَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ) عَلَيْهِ
(بِنَسَبٍ) كَأُخْتِهِ وَنَحْوِهَا، (حُدَّ لِعِتْقِهَا) عَلَيْهِ
(بِمُجَرَّدِ مِلْكِهِ) إيَّاهَا؛ فَلَمْ تُوجَدْ الشُّبْهَةُ.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ يُؤْخَذُ (مِنْهُ) ؛ أَيْ: مِنْ تَعْلِيلِهِمْ.
بِأَنَّهَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ (فَلَوْ كَانَ)
وَاطِئُ أَمَتِهِ (مُكَاتَبًا) حِينَ الْوَطْءِ (فَلَا حَدَّ) عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهَا لَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِمِلْكِهِ لَهَا، وَلَا يَمْلِكُ
عِتْقَهَا وَلَوْ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهَا لِأَنَّهُ نَوْعُ إعْتَاقٍ؛
أَشْبَهَ الْعِتْقَ بِغَيْرِ مَالٍ؛ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(أَوْ زَنَى مُكْرَهًا) حُدَّ، هَذَا الْمَذْهَبُ، نَصَّ عَلَيْهِ
جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ " وَغَيْرِهِ؛
لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِانْتِشَارِ الْحَادِثِ
بِالِاخْتِيَارِ (خِلَافًا لِجَمْعٍ) مِنْهُمْ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ
وَالنَّاظِمُ، فَإِنَّهُمْ اخْتَارُوا عَدَمَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى
الْمُكْرَهِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ يُحَدُّ الْمُكْرَهُ (إلَّا إنْ
أُكْرِهَ) عَلَى إيلَاجِ ذَكَرِهِ بِأُصْبُعِهِ (فَأَدْخَلَهُ بِلَا
انْتِشَارٍ) أَوْ بَاشَرَ الْمُكْرِهُ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) أَوْ
مَأْمُورُهُ إيلَاجَ الذَّكَرِ بِالْأُصْبُعِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يُنْسَبُ إلَيْهِ.
(وَإِنْ مَكَّنَتْ مُكَلَّفَةٌ مِنْ نَفْسِهَا مَجْنُونًا [أَوْ
مُمَيِّزًا] ) حُدَّتْ. (وَيَتَّجِهُ الْأَصَحُّ) أَنَّهُ يَلْزَمُهَا
الْحَدُّ إنْ كَانَ الْمُمَيِّزُ وَالْمَجْنُونُ (يَطَأُ مِثْلُهُ
كَعَكْسِهِ) ؛ أَيْ: كَمَا لَوْ وَطِئَ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً يُوطَأُ
مِثْلُهَا (وَأَوْلَى) كَمَا
(6/187)
تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (أَوْ
مَكَّنَتْ مَنْ يَجْهَلُهُ) ، أَيْ: التَّحْرِيمَ (أَوْ مَكَّنَتْ)
(حَرْبِيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا أَوْ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَ نَائِمٍ) فِي
فَرْجِهَا (حُدَّتْ) وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ عَنْ أَحَدِ
الْمُتَوَاطِئَيْنِ لِمَعْنًى يَخُصُّهُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْ
الْآخَرِ.
وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ (إنْ أُكْرِهَتْ) عَلَى الزِّنَا (أَوْ أُكْرِهَ
مَلُوطٌ بِهِ بِالْفِعْلِ) كَالضَّرْبِ (أَوْ بِتَهْدِيدٍ أَوْ مَنْعٍ مِنْ
طَعَامٍ) (أَوْ شَرَابٍ مَعَ اضْطِرَارٍ وَنَحْوِهِ) إلَيْهِ كَمَنْعِ
الدِّفْءِ فِي الشِّتَاءِ وَلَيَالِيِهِ الْبَارِدَةِ. (وَيَتَّجِهُ وَلَا
حُرْمَةَ) عَلَى مُكْرَهٍ (إذَنْ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا
اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ) . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ امْرَأَةً اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَرَأَ عَنْهَا
الْحَدَّ» ) رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عُمَرَ وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ،
وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
[تَتِمَّةٌ زَنَى مُكَلَّفٌ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الْعُقُوبَةِ عَلَى
الزِّنَا مَعَ عِلْمِهِ تَحْرِيمَهُ]
تَتِمَّةٌ: لَوْ زَنَى مُكَلَّفٌ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الْعُقُوبَةِ عَلَى
الزِّنَا مَعَ عِلْمِهِ تَحْرِيمَهُ (حُدَّ كَقِصَّةِ مَاعِزٍ) ، وَكَذَا
لَوْ زَنَى سَكْرَانُ أَوْ أَقَرَّ بِهِ فِي سُكْرِهِ.
(6/188)
الشَّرْطُ (الثَّالِثُ ثُبُوتُهُ) ؛ أَيْ:
الزِّنَا (وَلَهُ) ؛ أَيْ: الثُّبُوتِ (صُورَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ
يُقِرَّ بِهِ مُكَلَّفٌ) [ (وَلَوْ) كَانَ (قِنًّا) ] أَوْ مُبَعَّضًا
(أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) لِحَدِيثِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ: «اعْتَرَفَ عِنْدَ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُولَى
وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ؛ وَرَدَّهُ فَقِيلَ لَهُ إنَّكَ إنْ
اعْتَرَفَتْ عِنْدَهُ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ، فَاعْتَرَفَ الرَّابِعَةَ،
فَحَبَسَهُ ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا،
فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ» ) .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: إنِّي
زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ
شَهَادَاتٍ فَقَالَ أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا قَالَ هَلْ أُحْصِنْتَ؟
قَالَ نَعَمْ. قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
حَتَّى وَلَوْ كَانَ الِاعْتِرَافُ أَرْبَعًا فِي مَجَالِسَ لِأَنَّ
مَاعِزًا أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَالْغَامِدِيَّةَ أَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِذَلِكَ فِي
مَجَالِسَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ.
(أَوْ كَذَّبَتْهُ مُزْنًى بِهَا فَيُحَدُّ) دُونَهَا مُؤَاخَذَةً لَهُ
بِإِقْرَارِهِ. (وَيُعْتَبَرُ أَنْ يُصَرِّحَ) مُقِرٌّ (بِذِكْرِ حَقِيقَةِ
الْوَطْءِ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «لَعَلَّكَ
قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ. قَالَ لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ أَنِكْتَهَا لَا تُكَنِّي؟ قَالَ نَعَمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ
بِرَجْمِهِ» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ لِلْأَسْلَمِيِّ: «أَنِكْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ
كَمَا تُغَيِّبُ الْمِرْوَدَ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءَ فِي
الْبِئْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ:
نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ
حَلَالًا. قَالَ: فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ
تُطَهِّرَنِي. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ؛ فَلَا
تَكْفِي فِيهِ الْكِنَايَةُ وَ (لَا) يُعْتَبَرُ أَنْ يُصَرِّحَ بِمَنْ
(زَنَى) بِهَا (وَلَا ذِكْرِ مَكَانِهِ) ؛ أَيْ الزِّنَا.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، اخْتَارَهُ
ابْنُ حَامِدٍ، وَمَالَ إلَيْهِ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَغَيْرُهُمَا،
وَقِيلَ يُعْتَبَرُ ذِكْرُ
(6/189)
ذَلِكَ اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَقَطَعَ
بِهِ فِي الْمُنْتَهَى فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ
هُنَاكَ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَجْنُونِ، وَلَا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ
بِنَوْمٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ
مُعْتَبَرٍ. (وَ) يُعْتَبَرُ (أَنْ لَا يَرْجِعَ) مُقِرٌّ بِزِنًا (حَتَّى
يَتِمَّ الْحَدُّ) فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ، أَوْ هَرَبَ تُرِكَ.
(وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعٌ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ) ؛ أَيْ: الزِّنَا
(أَرْبَعًا فَأَنْكَرَ) إقْرَارَهُ بِهِ (أَوْ صَدَّقَهُمْ دُونَ أَرْبَعِ)
مَرَّاتٍ (فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِرُجُوعِهِ (وَلَا) حَدَّ (عَلَى
شُهُودٍ) لِكَمَالِهِمْ فِي النِّصَابِ (وَيُسْتَحَبُّ لِإِمَامٍ أَوْ
حَاكِمٍ) يَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ (التَّعْرِيضُ
لِمُقِرِّ) إذَا تَمَّ الْإِقْرَارُ (لِيَرْجِعَ) عَنْهُ، فَالتَّعْرِيضُ
لَهُ بِالتَّوَقُّفِ عَنْ الْإِقْرَارِ إذَا لَمْ يَتِمَّ؛ لِمَا رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنَّهُ
«أَعْرَضَ عَنْ مَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ
النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى تَمَّمَ إقْرَارُهُ
أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ» ) .
وَرُوِيَ «أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ: مَا أَخَالُكَ
فَعَلْتَ كَذَا» رَوَاهُ سَعِيدٌ.
تَتِمَّةٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ
بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ إنْ أَقَرَّ، أَوْ يَعْرِضُوا لَهُ قَبْلَ
الْإِقْرَارِ بِأَنْ لَا يُقِرَّ، لِأَنَّ سَتْرَ نَفْسِهِ أَوْلَى،
وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الْإِقْرَارِ،
لِمَا فِيهِ مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ.
الصُّورَةُ (الثَّانِيَةُ) لِثُبُوتِ الزِّنَا (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ)
أَيْ الزَّانِي فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ عُدُولٍ ( [وَلَوْ
جَاءُوا] مُتَفَرِّقِينَ) وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ (أَوْ صَدَّقَهُمْ)
زَانٍ، تَبِعَ فِي ذَلِكَ عِبَارَةَ الْمُنْتَهَى وَهِيَ دَخِيلَةٌ لَا
مَحِلَّ فِيهَا، وَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ
لَكَانَ أَرْشَقَ فِي الْعِبَارَةِ (بِزِنًا وَاحِدٍ) مُتَعَلِّقٍ
بِيَشْهَدُ (وَيَصِفُونَهُ) ؛ أَيْ: الزِّنَا (وَيَكْفِي) فِي الْوَصْفِ
قَوْلُهُمْ (رَأَيْنَا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا) أَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ
أَوْ قَدْرَهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي
الْمُكْحُلَةِ أَوْ الرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ. (وَالتَّشْبِيهُ) بِمَا
ذَكَرَ (تَأْكِيدٌ، وَيَجُوزُ لِلشُّهُودِ نَظَرُ ذَلِكَ) مِنْ
الزَّانِيَيْنِ (لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا؛ لِيَحْصُلَ
الرَّدْعُ) [بِالْحَدِّ (فَإِنْ شَهِدُوا) فِي]
(6/190)
(مَجْلِسَيْنِ فَأَكْثَرَ) مِنْ
مَجْلِسَيْنِ فَإِنْ شَهِدَ الْبَعْضُ وَلَمْ يَشْهَدْ الْبَاقِي حَتَّى
قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ، حُدَّ الْجَمِيعُ لِلْقَذْفِ؛ لِمَا
تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ، وَلَا يُنَافِيهِ كَوْنُ الْمَجْلِسِ لَمْ يُذْكَرْ
فِي (الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَيْضًا وَوَصْفَ الزِّنَا لَمْ
يُذْكَرْ فِيهَا مَعَ اعْتِبَارِهِمَا) ؛ لِدَلِيلٍ آخَرَ.
(أَوْ) شَهِدَ بَعْضٌ بِالزِّنَا وَ (امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ) مِنْ
الشَّهَادَةِ أَوْ لَمْ يُكْمِلُهَا؛ أَيْ: الشَّهَادَةَ؛ (حُدَّ مَنْ
شَهِدَ مِنْهُمْ لِلْقَذْفِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]
وَهَذَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى رَامٍ لَمْ يَشْهَدْ بِمَا قَالَهُ
أَرْبَعَةً، وَلِأَنَّ عُمَرَ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ وَصَاحِبَيْهِ حَيْثُ
لَمْ يُكْمِلْ الرَّابِعُ شَهَادَتَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ،
وَلَمْ يُنْكِرْهُ وَاحِدٌ؛ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ (أَوْ كَانُوا) ؛ أَيْ:
الشُّهُودُ.
(أَوْ) كَانَ (بَعْضُهُمْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهِ) ؛ أَيْ:
الزِّنَا لِعَمًى أَوْ فِسْقٍ أَوْ لِكَوْنِ (أَحَدِهِمْ زَوْجًا) [؛
(حُدُّوا لِلْقَذْفِ) ] لِعَدَمِ كَمَالِ شَهَادَتِهِمْ كَمَا (لَوْ لَمْ
يَكْمُلْ الْعَدَدُ) (وَكَمَا لَوْ بَانَ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ بِزِنًا
مَجْبُوبًا أَوْ) بَانَتْ مَشْهُودٌ عَلَيْهَا (رَتْقَاءَ) فَيُحَدُّونَ؛
لِظُهُورِ كَذِبِهِمْ.
(وَلَا) يُحَدُّ (زَوْجٌ لَاعَنَ) زَوْجَتَهُ بَعْدَ شَهَادَتِهِ عَلَيْهَا
بِالزِّنَا: وَتَقَدَّمَ (أَوْ كَانُوا) ؛ أَيْ: الْأَرْبَعَةُ (مَسْتُورِي
الْحَالِ، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ) ؛ أَيْ الْأَرْبَعَةِ (قَبْلَ وَصْفِهِ
عُدُولًا كَانُوا أَوْ مَسْتُورِينَ) ؛ [فَلَا يُحَدُّونَ] أَوْ (بَانَتْ
[مَشْهُودٌ عَلَيْهَا عَذْرَاءَ] بِقَوْلِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ فَيُكْتَفَى
بِشَهَادَتِهَا بِعُذْرَتِهَا كَسَائِرِ عُيُوبِ النِّسَاءِ تَحْتَ
الثِّيَابِ) ، وَحَيْثُ شَهِدَتْ فَلَا يُحَدُّونَ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ:
{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَقَدْ جِيءَ
هُنَا بِالْأَرْبَعِ، وَلَا تُحَدُّ هِيَ وَلَا الرَّجُلُ.
(وَإِنْ عَيَّنَ اثْنَانِ) مِنْ أَرْبَعَةٍ شَهِدَا بِزِنًا (زَاوِيَةً
زَنَى بِهَا فِيهَا مِنْ بَيْتٍ صَغِيرٍ عُرْفًا، وَ) عَيَّنَ (اثْنَانِ)
مِنْهُمْ زَاوِيَةً (أُخْرَى مِنْهُ) ؛ أَيْ: الْبَيْتِ الصَّغِيرِ؛
كَمُلَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِإِمْكَانِ صِدْقِهِمْ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ
يَكُونَ ابْتِدَاؤُهُ فِي أَحَدِ
(6/191)
الزَّاوِيَتَيْنِ وَتَمَامُهُ فِي
الْأُخْرَى، بِخِلَافِ الْكَبِيرِ لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا.
(أَوْ قَالَ اثْنَانِ) فِي شَهَادَتِهِمَا زَنَى بِهَا (فِي قَمِيصٍ
أَبْيَضَ أَوْ) قَالَ زَنَى بِهَا (قَائِمَةً، وَقَالَ اثْنَانِ) فِي
شَهَادَتِهِمَا زَنَى بِهَا فِي قَمِيصٍ (أَحْمَرَ أَوْ) زَنَى بِهَا
(نَائِمَةً كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ) لِعَدَمِ التَّنَافِي؛ لِاحْتِمَالِ
كَوْنِهِ فِي قَمِيصٍ أَبْيَضَ تَحْتَهُ قَمِيصٌ أَحْمَرُ، ثُمَّ خَلَعَ
قَبْلَ الْفَرَاغِ، وَلِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ ابْتَدَأَ بِهَا الْفِعْلَ
قَائِمَةً، وَأَتَمَّهُ نَائِمَةً.
(وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ كَبِيرًا) عَرَّفَا وَعَيَّنَ اثْنَانِ زَاوِيَةً
وَاثْنَانِ أُخْرَى فَقَذْفَةٌ (أَوْ عَيَّنَ اثْنَانِ بَيْتًا أَوْ)
عَيْنًا (بَلَدًا أَوْ) عَيْنًا (يَوْمًا وَ) عَيَّنَ (اثْنَانِ) فِي
شَهَادَتِهِمَا بَيْتًا أَوْ بَلَدًا أَوْ يَوْمًا (آخَرَ) (فَ)
الْأَرْبَعَةُ (قَذْفَةٌ) لِشَهَادَةِ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ بِزِنًا
غَيْرِ الَّذِي يَشْهَدُ بِهِ الْآخَرَانِ، وَلَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ
فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَيُحَدُّونَ لِلْقَذْفِ (وَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّ الزِّنَا وَاحِدٌ) لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِمْ.
(وَإِنْ قَالَ اثْنَانِ) مِنْ أَرْبَعَةٍ زَنَى بِهَا مُطَاوَعَةً،
(وَقَالَ: اثْنَانِ) زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً؛ (لَمْ تَكْمُلْ)
شَهَادَتُهُمْ؛ لِاخْتِلَافِهِمْ (وَعَلَى شَاهِدَيْ الْمُطَاوَعَةِ
حَدَّانِ) حَدٌّ لِقَذْفِ الرَّجُلِ، وَحْدٌ لِقَذْفِ الْمَرْأَةِ (وَعَلَى
شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لِقَذْفِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ)
لِشَهَادَتِهِمَا أَنَّهَا كَانَتْ مُكْرَهَةً.
(وَإِنْ قَالَ اثْنَانِ) مِنْ أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا بِالزِّنَا بِهَا
(وَهِيَ بَيْضَاءُ، وَقَالَ اثْنَانِ) مِنْهُمْ (غَيْرَهُ) ؛ أَيْ: زَنَى
بِهَا وَهِيَ سَوْدَاءُ وَنَحْوُهُ (لَمْ تُقْبَلْ) شَهَادَتُهُمْ؛
لِأَنَّهَا لَمْ تَجْتَمِعْ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ
السَّرِقَةِ.
(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ) بِزِنًا (فَرَجَعُوا) كُلُّهُمْ، (أَوْ) رَجَعَ
(بَعْضُهُمْ قَبْلَ حَدِّ) مَشْهُودٍ عَلَيْهِ (وَلَوْ بَعْدَ حُكْمٍ)
يُحَدُّ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ، وَ (حُدَّ) الشُّهُودُ
(الْجَمِيعُ) أَمَّا مَعَ رُجُوعِهِمْ فَلِإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ
قَذَفَةٌ، وَأَمَّا مَعَ رُجُوعِ بَعْضِهِمْ فَلِنَقْصِ عَدَدِ الشُّهُودِ،
كَمَا لَوْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ غَيْرُ ثَلَاثَةٍ فَأَقَلَّ. (وَ) إنْ
رَجَعَ بَعْضُهُمْ (بَعْدَ حَدٍّ) مَشْهُودٍ عَلَيْهِ (يُحَدُّ رَاجِعٌ)
عَنْ شَهَادَتِهِ (فَقَطْ) ؛ أَيْ: دُونَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ؛ لِأَنَّ
إقَامَةَ الْحَدِّ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ فَلَا يُنْقَضُ
(6/192)
بِرُجُوعِ الشُّهُودِ أَوْ بَعْضِهِمْ،
لَكِنْ يُحَدُّ الرَّاجِعُ لِإِقْرَارِهِ بِالْقَذْفِ، فَيَلْزَمُهُ
حَدُّهُ إذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا أَوْ رَجْمًا وَطَالَبَهُ بِهِ قَبْلَ
مَوْتِهِ، فَيُحَدُّ بِطَلَبِ الْوَرَثَةِ.
(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِزِنَاهُ) ، أَيْ: فُلَانٍ (بِفُلَانَةَ،
فَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ آخَرُونَ [أَنْ الشُّهُودَ هُمْ الزُّنَاةُ بِهَا] )
دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (حُدَّ) الْأَرْبَعَةُ (الْأَوَّلُونَ)
الشَّاهِدُونَ بِهِ (فَقَطْ) دُونَ الشُّهُودِ عَلَيْهِ لِقَدْحِ
الْآخَرِينَ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ (لِلْقَذْفِ وَالزِّنَا)
لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِزِنًا لَمْ يَثْبُتْ فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَيَثْبُتُ
عَلَيْهِمْ الزِّنَا بِشَهَادَةِ الْآخَرِينَ.
وَإِذَا كَمَلَتْ الشَّهَادَةُ بِحَدٍّ، ثُمَّ مَاتَ الشُّهُودُ أَوْ
غَابُوا، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ إقَامَةَ الْحَدِّ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ،
وَاحْتِمَالُ رُجُوعِهِمْ لَيْسَ شُبْهَةً يُدْرَأُ بِهِ الْحَدُّ،
لِبُعْدِهِ، وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِزِنًا قَدِيمٍ، أَوْ أَقَرَّ
الزَّانِي بِهِ، وَجَبَ الْحَدُّ، لِعُمُومِ الْآيَةِ وَكَسَائِرِ
الْحُقُوقِ.
وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالْحَدِّ مِنْ غَيْرِ مُدَّعٍ نَصَّصَ عَلَيْهِ
لِقِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ.
(وَإِنْ حَمَلَتْ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَيِّدَ، لَمْ تُحَدَّ
بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ) الْحَمْلِ، لَكِنْ تُسْأَلُ وَلَا يَجِبُ سُؤَالُهَا،
لِمَا فِيهِ مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِنْ
ادَّعَتْ إكْرَاهًا أَوْ وَطْئًا بِشُبْهَةٍ، أَوْ لَمْ تُقِرَّ بِزِنًا
أَرْبَعًا، لَمْ تُحَدَّ، وَرَوَى سَعِيدٌ أَنَّ امْرَأَةً رُفِعَتْ إلَى
عُمَرَ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ وَقَدْ حَمَلَتْ، وَسَأَلَهَا عُمَرُ
فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ
وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ حَتَّى نَزَعَ، فَدَرَأَ عَنْهَا
الْحَدَّ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ إذَا كَانَ فِي الْحَدِّ لَعَلَّ
وَعَسَى فَهُوَ مُعَطَّلٌ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ
بِالشُّبُهَاتِ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ.
[بَابُ الْقَذْفِ]
ِ (الْقَذْفُ وَهُوَ) لُغَةً الرَّمْيُ بِقُوَّةٍ ثُمَّ غَلَبَ عَلَى
(الرَّمْيِ بِزِنًا أَوْ لِوَاطٍ أَوْ شَهَادَةٍ بِأَحَدِهِمَا) ، أَيْ:
الزِّنَا وَاللِّوَاطِ (وَلَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ) بِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا، وَهُوَ مُحَرَّمٌ إجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى
(6/193)
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا وَمَا هِيَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ
النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا،
وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(فَمَنْ) (قَذَفَ وَهُوَ) ؛ أَيْ: الْقَاذِفُ (مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ وَلَوْ
أَخْرَسَ) وَقَذَفَ (بِإِشَارَةٍ) مَفْهُومَةٍ لَا بِكِتَابَةٍ وَلَوْ فِي
غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ (مُحْصَنًا وَلَوْ مَجْبُوبًا) ؛ أَيْ مَقْطُوعَ
الذَّكَرِ (أَوْ) كَانَتْ مَقْذُوفَةً (ذَاتَ مَحْرَمٍ) مِنْ قَاذِفٍ
(أَوْ) كَانَتْ مَقْذُوفَةً (رَتْقَاءَ) (حُدَّ) لِعُمُومِ الْآيَةِ
وَالْأَخْبَارِ (ثَمَانِينَ) جَلْدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
(وَ) حَدُّ قَاذِفُ (قِنٍّ وَلَوْ عَتَقَ عَقِبَ قَذْفٍ) اعْتِبَارًا
بِوَقْتِ الْوُجُوبِ كَالْقِصَاصِ (أَرْبَعِينَ) جَلْدَةً (وَ) حَدُّ
قَاذِفِ (مُبَعَّضٍ بِحِسَابِهِ) فَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ
يُجْلَدُ سِتِّينَ، لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ؛ فَكَانَ عَلَى الْقِنِّ
فِيهِ نِصْفُ مَا عَلَى الْحُرِّ وَالْمُبَعَّضُ بِالْحِسَابِ كَحَدِّ
الزِّنَا، وَهُوَ يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ.
(وَيَجِبُ) حَدُّ قَذْفٍ (بِقَذْفٍ) نَحْوُ (قَرِيبٍ) كَأُخْتٍ وَلَوْ
(عَلَى وَجْهِ الْغَيْرَةِ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (كَقَوْلِهِ
لِأُخْتِهِ) وَنَحْوِهَا (يَا زَانِيَةُ زَجْرًا لَهَا) كَأَجْنَبِيٍّ،
لِعُمُومِ الْآيَةِ.
وَ (لَا) يَجِبُ حَدُّ قَذْفٍ (عَلَى أَبَوَيْنِ وَإِنْ عَلَوَا بِقَذْفِ
وَلَدِهِمَا) وَإِنْ سَفَلَ مِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، كَمَا
لَا يَجِبُ قَوَدٌ لِوَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ عَلَى أَبَوَيْهِ (وَإِنْ
عَلَوَا فَلَا يَرِثُهُ) ؛ أَيْ حَدَّ قَذْفِ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ
(عَلَيْهِمَا) ؛ أَيْ: عَلَى أَبَوَيْهِ وَإِنْ عَلَوَا (وَإِنْ وَرِثَهُ)
؛ أَيْ: الْحَدَّ (أَخُوهُ) ؛ أَيْ: أَخُو الْوَلَدِ (لِأُمِّهِ) كَأَنْ
قَذَفَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ، وَطَالَبَتْهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ، ثُمَّ
مَاتَتْ عَنْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ
(6/194)
الْقَاذِفِ، فَلَا يَرِثُ الْحَدَّ عَلَى
أَبِيهِ (وَحَدُّ الْقَاذِفِ لَهُ) ، أَيْ: لِلْقَذْفِ بِطَلَبِ الْوَلَدِ
الْآخَرِ (لِتَبَعُّضِهِ) ؛ أَيْ: مَلَكَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ الطَّلَبَ
بِهِ كَامِلًا مَعَ تَرْكِ بَاقِيهِمْ إذَا طَالَبَ بِهِ مُوَرِّثُهُمْ
قَبْلَ مَوْتِهِ، لِلُحُوقِ الْعَارِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ
عَلَى انْفِرَادِهِ.
(وَالْحَقُّ فِي حَدِّهِ) أَيْ الْقَذْفِ (لِلْآدَمِيِّ) كَالْقَوَدِ
(فَلَا يُقَامُ) حَدُّ قَذْفٍ (بِلَا طَلَبٍ) ؛ أَيْ: الْمَقْذُوفِ، وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ إلَّا بِطَلَبِهِ. ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ إجْمَاعًا (لَكِنْ لَا يَسْتَوْفِيهِ) مَقْذُوفٌ (بِنَفْسِهِ،
فَلَوْ فَعَلَ) بِأَنْ اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ (لَمْ يَسْقُطْ) لِأَنَّهُ
يَعْتَبِرُ نِيَّةَ الْإِمَامِ أَنَّهُ حَدٌّ.
(وَيَسْقُطُ) حَدُّ قَذْفٍ (بِعَفْوِهِ) ؛ أَيْ: الْمَقْذُوفِ (وَلَوْ
عَفَا بَعْدَ طَلَبِهِ) بِهِ، كَمَا لَوْ عَفَا قَبْلَهُ، وَكَذَا يَسْقُطُ
بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِمَا قَذَفَهُ بِهِ، وَبِتَصْدِيقِ مَقْذُوفٍ
لَهُ فِيهِ، وَبِلِعَانِهِ إنْ كَانَ زَوْجًا، وَلَا يَسْقُطُ حَدُّ قَذْفٍ
بِعَفْوٍ (عَنْ بَعْضِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي) كَمَا لَوْ كَانَ
الْمَقْذُوفُ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا
وَاحِدًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ فِي مُطَالَبَتِهِ، فَلَوْ
كَانُوا خَمْسَةً مَثَلًا، وَعَفَا أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ، لَمْ يَسْقُطْ
حَقُّ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِينَ، فَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمْ حَقَّهُ،
فَلَمَّا جَلَدَ عِشْرِينَ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْ بَاقِي الْحَدِّ؛ لَمْ
يَسْقُطْ حَقُّ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِينَ مِنْ تَتِمَّتِهِ الْحَدَّ،
فَلَوْ طَلَبَهَا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِينَ فَلَمَّا جَلَدَ
عِشْرِينَ أُخْرَى قَالَ عَفَوْتُ عَنْ بَاقِي الْحَدِّ؛ لَمْ يَسْقُطْ
حَقُّ الِاثْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ مِنْ تَتِمَّتِهِ [فَلَوْ طَلَبَهَا]
أَحَدُهُمَا فَلَمَّا جَلَدَ عِشْرِينَ قَالَ عَفَوْتُ عَنْ تَتِمَّتِهِ؛
لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْوَاحِدِ الْبَاقِي؛ فَلَهُ طَلَبُ جَلْدِ
الْعِشْرِينَ الْبَاقِيَةِ مِنْ الثَّمَانِينَ.
(وَإِنْ عَفَا بَعْضُهُمْ) ؛ أَيْ الْمَقْذُوفِينَ عَنْ الْقَاذِفِ، وَلَمْ
يَعْفُ بَاقِيهِمْ (فَلِمَنْ لَمْ يَعْفُ إقَامَتُهُ) ؛ أَيْ: الْحَدَّ
(كَامِلًا) فَلَا يَسْقُطُ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ
بِمَالٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ عَفْوِ بَعْضِ مُسْتَحِقِّي الْقَوَدِ عَنْ
حَقِّهِ؛ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّ بَاقِيهِمْ؛ لِتَعَذُّرِ
اسْتِيفَائِهِ، فَلَا حَقَّ لِلْعَافِي فَلَمْ يَتَبَعَّضْ، بِخِلَافِ
حَدِّ الْقَذْفِ
(6/195)
لِأَنَّهُ لَيْسَ كَقَوَدٍ فَيَسْقُطُ،
وَلَا يُسْتَوْفَى نَاقِصًا كَبَاقِي الْحُدُودِ.
(وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَ مُحْصَنٍ [وَلَوْ قِنَّهُ] ) ؛ أَيْ: قِنَّ قَاذِفٍ
(أَوْ) قَذَفَ (مَنْ أَقَرَّ بِزِنًا وَلَوْ دُونَ أَرْبَعِ) مَرَّاتٍ
(عُزِّرَ) رَدْعًا لَهُ عَنْ أَعْرَاضِ الْمَعْصُومِينَ، وَكَفًّا عَنْ
إيذَائِهِمْ (وَالْمُحْصَنُ هُنَا) ؛ أَيْ: فِي بَابِ الْقَذْفِ (الْحُرُّ
الْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ) [الَّذِي يَطَأُ] : مِثْلُهُ كَابْنِ عَشْرٍ (أَوْ
يُوطَأُ مِثْلُهَا) كَبِنْتِ تِسْعٍ؛ لِلُحُوقِ الْعَارِ لَهُمَا، وَإِنْ
لَمْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ؛ إذْ الْبُلُوغُ لَيْسَ شَرْطًا لِلْوَطْءِ
(الْعَفِيفِ عَنْ الزِّنَا ظَاهِرًا) أَيْ: فِي ظَاهِرِ حَالِهِ (وَلَوْ)
كَانَ (تَائِبًا مِنْهُ) ؛ أَيْ: الزِّنَا؛ لِأَنَّ التَّائِبَ مِنْ
الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. (وَمُلَاعَنَةٌ وَوَلَدُهَا وَوَلَدُ
زِنًا [كَغَيْرِهِمْ] نَصًّا) فَيُحَدّ بِقَذْفِ كُلٍّ مِنْهُمْ إنْ كَانَ
مُحْصَنًا.
(وَلَا يُحَدُّ قَاذِفٌ غَيْرُ بَالِغٍ حَتَّى يَبْلُغَ) وَيُطَالَبُ بِهِ
بَعْدَ بُلُوغِهِ؛ إذْ لَا أَثَرَ لِطَلَبِهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِعَدَمِ
اعْتِبَارِ كَلَامِهِ، وَلَا طَلَبَ لِوَلِيِّهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ
مِنْهُ التَّشَفِّي؛ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ كَالْقَوَدِ
(وَكَذَا لَوْ جُنَّ) مَقْذُوفٌ (أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ طَلَبِهِ)
فَلَا يَسْتَوْفِي حَتَّى يُفِيقَ وَيُطَالِبَ بِهِ، (وَ) إنْ جُنَّ
مَقْذُوفٌ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ (بَعْدَهُ) ؛ أَيْ: بَعْدَ الطَّلَبِ
بِهِ (يُقَامُ) ، أَيْ: يُقِيمُهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ عَلَى
الْقَاذِفِ؛ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ.
(وَمَنْ قَذَفَ) مُحْصَنًا (غَائِبًا لَمْ يُحَدَّ) قَاذِفُهُ (حَتَّى
يَثْبُتَ طَلَبُهُ) ؛ أَيْ: الْمَقْذُوفِ الْغَائِبِ (فِي غَيْبَتِهِ)
بِشَرْطِهِ (أَوْ يَحْضُرَ وَيَطْلُبَ) بِنَفْسِهِ.
(وَمَنْ قَالَ لِمُحْصَنَةٍ زَنَيْت وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ، فَإِنْ فَسَّرَهُ
بِدُونِ تِسْعِ سِنِينَ عُزِّرَ) أَوْ قَالَهُ؛ أَيْ: زَنَيْت وَأَنْتَ
صَغِيرٌ لِمُحْصَنٍ (ذَكَرَ، وَفَسَّرَهُ بِدُونِ عَشْرِ) سِنِينَ؛ عُزِّرَ
لِمَا تَقَدَّمَ (وَإِلَّا) يُفَسِّرْهُ بِدُونِ ذَلِكَ (حُدَّ) لِأَنَّهُ
لَا يُشْتَرَطُ بُلُوغُ مَقْذُوفٍ.
(وَإِنْ قَالَ) لِمُحْصَنَةٍ زَنَيْت (وَأَنْتِ كَافِرَةٌ، أَوْ) وَأَنْتِ
(أَمَةٌ، أَوْ) وَأَنْتِ
(6/196)
(مَجْنُونَةٌ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَوْنَهَا
كَذَلِكَ) ؛ أَيْ: كَافِرَةً أَوْ أَمَةً أَوْ مَجْنُونَةً (حُدَّ) لِأَنَّ
الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ (كَمَا لَوْ قَذَفَ مَجْهُولَةَ النَّسَبِ،
وَادَّعَى رِقَّهَا فَأَنْكَرَتْ) فَيُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ
الْحُرِّيَّةُ (وَإِنْ ثَبَتَ كَوْنُهَا كَذَلِكَ) ؛ أَيْ: كَانَتْ
كَافِرَةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ أَمَةً (لَمْ يُحَدَّ) لِإِضَافَةِ
الزِّنَا إلَى حَالٍ لَمْ تَكُنْ فِيهَا مُحْصَنَةً.
(وَلَوْ قَالَتْ أَرَدْتُ قَذْفِي حَالًا) ؛ أَيْ فِي الْحَالِ
(وَأَنْكَرَهَا) لَمْ يُحَدَّ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي نِيَّتِهِ، وَهُوَ
أَعْلَمُ بِهَا، وَقَوْلُهُ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ وَنَحْوُهُ جُمْلَةٌ
حَالِيَّةٌ، (وَيُصَدَّقُ قَاذِفٌ) مُحْصَنٌ (ادَّعَى أَنْ [قَذْفَهُ)
كَانَ] (حَالَ صِغَرِ مَقْذُوفٍ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِغَرِهِ
الْبَرَاءَةُ مِنْ الْحَدِّ (فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ وَكَانَتَا
مُطْلَقَتَيْنِ) بِأَنْ قَالَتْ إحْدَاهُمَا قَذَفَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ
وَالْأُخْرَى وَهُوَ [كَبِيرٌ (أَوْ) كَانَتَا (مُؤَرِّخَتَيْنِ
تَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ) بِأَنْ قَالَتْ إحْدَاهُمَا قَذَفَهُ: وَهُوَ
صَغِيرٌ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَالْأُخْرَى وَهُوَ كَبِيرٌ سَنَةَ ثَلَاثِينَ،
مَثَلًا (فَهُمَا قَذْفَانِ مُوجَبُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ (أَحَدِهِمَا
الْحَدُّ) وَهُوَ] الْقَذْفُ فِي الْكِبَرِ (وَ) مُوجَبُ (الْآخَرِ) وَهُوَ
الْقَذْفُ زَمَنَ الصِّغَرِ (التَّعْزِيرُ) إعْمَالًا لِلْبَيِّنَتَيْنِ؛
لِعَدَمِ التَّنَافِي وَإِنْ أَرَّخَتَا تَارِيخًا وَاحِدًا (وَقَالَتْ:
إحْدَاهُمَا وَهُوَ) ؛ أَيْ: الْمَقْذُوفُ حَالَ قَذْفِهِ (صَغِيرٌ وَ)
قَالَتْ (الْأُخْرَى وَهُوَ) إذْ (ذَاكَ كَبِيرٌ؛ فَعَارَضَتَا،
وَسَقَطَتَا) لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
(وَكَذَا لَوْ كَانَ تَارِيخُ بَيِّنَةِ الْمَقْذُوفِ) الشَّاهِدَةِ
بِكِبَرِهِ (قَبْلَ تَارِيخِ بَيِّنَةِ الْقَاذِفِ) الشَّاهِدَةِ بِصِغَرِ
مَقْذُوفٍ؛ فَيَتَعَارَضَانِ؛ وَيَسْقُطَانِ؛ وَيُرْجَعُ لِقَوْلِ قَاذِفٍ
أَنَّ الْقَذْفَ كَانَ حِينَ صِغَرِ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ
بَرَاءَتُهُ مِنْ الْحَدِّ.
(وَمَنْ قَالَ لِابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً زَنَيْت مِنْ ثَلَاثِينَ عَامًا)
لَمْ يُحَدَّ (أَوْ) قَالَ لَهُ زَنَيْت (مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ) عَامًا
(لَمْ يُحَدَّ) لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ
(وَلَا يَسْقُطُ) حَدُّ قَذْفٍ (بِرِدَّةِ مَقْذُوفٍ بَعْدَ طَلَبٍ أَوْ
زَوَالِ إحْصَانٍ وَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِوُجُوبِهِ) ، أَيْ: الْحَدِّ،
اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، وَكَمَا لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا.
(6/197)
[فَصْلٌ تَحْرِيمُ الْقَذْفُ إلَّا فِي
مَوْضِعَيْنِ]
فَصْلٌ (وَيَحْرُمُ الْقَذْفُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ
يَرَى زَوْجَتَهُ تَزْنِي [فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْ] ) هَا (فِيهِ،
فَيَعْتَزِلُهَا، ثُمَّ تَلِدُ مَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْ الزَّانِي،
فَيَلْزَمُهُ قَذْفُهَا وَنَفْيِهِ) ؛ أَيْ: الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ؛
لِجَرَيَانِ ذَلِكَ مَجْرَى الْيَقِينِ فِي أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي
حَيْثُ أَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَطْئِهِ، وَإِنْ
لَمْ يَنْفِ الْوَلَدَ [لَحِقَهُ،] وَوَرِثَهُ وَوَرِثَ أَقَارِبَهُ،
وَوَرِثُوا مِنْهُ وَنَظَرَ إلَى بَنَاتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَنَحْوِهِنَّ،
وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ فَوَجَبَ نَفْيُهُ إزَالَةً لِذَلِكَ، وَلِحَدِيثِ:
«أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ
فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ
وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ احْتَجَبَ
اللَّهُ مِنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَوْلُهُ: وَيَنْظُرُ إلَيْهِ، يَعْنِي يَرَى الْوَلَدَ مِنْهُ، فَكَمَا
حَرَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ
مِنْهُمْ فَالرَّجُلُ مِثْلُهَا وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، وَوَقَعَ فِي
نَفْسِهِ صِدْقُهَا؛ فَهُوَ كَمَا لَوَرَآهَا تَزْنِي (وَكَذَا إنْ
وَطِئَهَا) هُوَ؛ أَيْ: زَوْجُهَا (فِي طُهْرٍ زَنَتْ فِيهِ، وَقَوِيَ فِي
ظَنِّهِ) ؛ أَيْ: الزَّوْجِ (أَنْ الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي لِشَبَهِهِ
بِهِ) ؛ أَيْ: الزَّانِي (وَنَحْوِهِ كَعُقُمِ زَوْجٍ) ؛ أَيْ: كَكَوْنِ
الزَّوْجِ عَقِيمًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ تَحَقُّقِ الزِّنَا دَلِيلٌ أَنَّ
الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي، وَلِقِيَامِ غَلَبَةِ الظَّنِّ مَقَامَ
التَّحْقِيقِ.
الْمَوْضِعُ (الثَّانِي أَنْ يَرَاهَا تَزْنِي، وَلَمْ تَلِدْ مَا) ؛ أَيْ:
وَلَدًا (يَلْزَمُهُ نَفْيُهُ) بِأَنْ لَمْ تَلِدْ، أَوْ وَلَدَتْ مَا لَا
يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ زَانٍ (أَوْ يَسْتَفِيضَ زِنَاهَا)
بَيْنَ النَّاسِ أَوْ يُخْبِرَهُ بِهِ ثِقَةٌ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا (أَوْ يَرَى رَجُلًا مَعْرُوفًا بِهِ) ؛ أَيْ: الزِّنَا
(عِنْدَهَا؛ فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا قَذْفُهَا بِهِ) ؛ أَيْ: بِالرَّجُلِ
الْمَعْرُوفِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يُغَلِّبُ عَلَى
الظَّنِّ زِنَاهَا، وَلَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى غَيْرِهَا
حَيْثُ لَمْ تَلِدْ، وَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ [يُمْكِنُ فِرَاقُهَا،
(وَفِرَاقُهَا أَوْلَى) مِنْ قَذْفِهَا؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ، وَلِأَنَّ
قَذْفَهَا يُفْضِي إلَى حَلِفِ] أَحَدِهِمَا كَاذِبًا إنْ تَلَاعَنَا أَوْ
إقْرَارِهَا؛ فَتَفْتَضِحُ.
وَلَا يَجُوزُ قَذْفُهَا بِخَبَرِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ
مَأْمُونٍ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْهَا، وَلَا بِرُؤْيَتِهِ رَجُلًا
عِنْدَهَا غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالزِّنَا إنْ لَمْ يَسْتَفِضْ زِنَاهَا؛
لِجَوَازِ دُخُولِهِ سَارِقًا وَنَحْوِهِ.
(6/198)
(وَإِنْ أَتَتْ) زَوْجَةُ شَخْصٍ (بِوَلَدٍ
يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَهُمَا) كَأَسْوَدَ. وَالزَّوْجَانِ أَبْيَضَانِ
(لَمْ يُبَحْ) لِزَوْجِهَا (نَفْيُهُ بِذَلِكَ) أَيْ: بِمُخَالِفَةِ
لَوْنِهِ لَوْنَهُمَا؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي فَزَارَةِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي جَاءَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ يُعَرِّضُ
بِنَفْيِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟
قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: إنَّ فِيهَا
لَوُرْقًا. قَالَ: فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ
نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: فَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» .
قَالَ: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ
النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَأَلْوَانُهُمْ وَخَلْقُهُمْ
مُخْتَلِفٍ، فَلَوْلَا مُخَالَفَتُهُمْ صِفَةَ أَبَوَيْهِمْ لَكَانُوا
عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ (بِلَا قَرِينَةٍ) فَإِنْ؛ كَانَتْ بِأَنْ رَأَى
عِنْدَهَا رَجُلًا يُشْبِهُ مَا وَلَدَتْهُ؛ فَلَهُ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ مَعَ الشُّبْهَةِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ.
[فَصْلٌ لِلْقَذْفِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ]
فَصْلٌ وَلِلْقَذْفِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ (وَصَرِيحُهُ يَا مَنْيُوكَةَ إنْ
لَمْ يُفَسِّرْهُ) قَاذِفٌ (بِفِعْلِ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ) فَإِنْ
فَسَّرَهُ بِذَلِكَ فَلَيْسَ قَذْفًا (وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ يُقْبَلُ
تَفْسِيرُهُ ذَلِكَ بِفِعْلِ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ (وَلَوْ تَرَاخَى) وَهُوَ
مُتَّجِهٌ (يَا مَنْيُوكَةَ يَا زَانِي يَا عَاهِرُ، أَوْ قَدْ زَنَيْتِ
أَوْ زَنَى فَرْجُكِ وَنَحْوُهُ) كَ رَأَيْتُكِ تَزْنِي، وَأَصْلُ
الْعِهْرِ إتْيَانُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ لَيْلًا لِلْفُجُورِ بِهَا،
ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الزِّنَا، سَوَاءٌ جَاءَهَا أَوْ جَاءَتْهُ؛ لَيْلًا
أَوْ نَهَارًا، (أَوْ) قَالَ لَهُ (يَا مَفْعُوجٍ) بِالْفَاءِ وَالْجِيمِ
نَصًّا، لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ لَهُ بِمَعْنَى
(6/199)
الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ، وَأَصْلُهُ
الضَّرْبُ (أَوْ) قَالَ لَهُ (يَا لُوطِيُّ) لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ مَنْ
يَأْتِي الذُّكُورَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ (فَإِنْ قَالَ
أَرَدْتُ) بِقَوْلِي: يَا زَانِي وَنَحْوُهُ (زَانِي الْعَيْنِ)
وَنَحْوَهُ، (أَوْ) أَرَدْتُ بِقَوْلِي يَا عَاهِرُ (عَاهِرَ الْيَدِ)
(أَوْ) قَالَ أَرَدْتُ بِقَوْلِي يَا لُوطِيُّ (أَنَّكَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ،
أَوْ إنَّكَ تَعْمَلُ عَمَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ إتْيَانِ الذُّكُورِ لَمْ
يُقْبَلْ مِنْهُ) ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا دَلِيلَ
عَلَيْهِ (وَحُدَّ) لِإِتْيَانِهِ بِصَرِيحِ الْقَذْفِ.
(وَ) قَوْلُ الْمُكَلَّفِ لِشَخْصٍ (لَسْت لِأَبِيك أَوْ) لَسْت (بِوَلَدِ
فُلَانٍ) الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ (قَذْفٌ لِأُمِّهِ) ؛ أَيْ: الْمَقُولِ
لَهُ لِإِثْبَاتِهِ الزِّنَا لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ لِأَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ فَقَدْ
أَثْبَتَ لِغَيْرِهِ، وَالْغَيْرُ لَا يُمْكِنُ إحْبَالُهُ لَهَا فِي
زَوْجِيَّةِ أَبِيهِ إلَّا بِزِنًا، فَكَانَ قَذْفًا، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ
يَنْظُرُوا لِاحْتِمَالِ الشُّبْهَةِ؛ لِبُعْدِهِ، وَمَحِلُّ ذَلِكَ إذَا
لَمْ يَسْأَلْ عَمَّا أَرَادَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ.
قَوْلُهُ (وَيَتَّجِهُ الْأَصَحُّ) أَنَّ قَوْلَهُ لَسْتَ لِأَبِيكَ، أَوْ
لَسْتَ بِوَلَدِ فُلَانٍ (لَا) يَكُونُ ذَلِكَ قَذْفًا لِأُمِّهِ؛
لِاحْتِمَالِ إرَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ أَبَاهُ فِي كَرَمِهِ
وَأَخْلَاقِهِ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ (إلَّا) أَنْ يَكُونَ الْمَقُولُ لَهُ
ذَلِكَ (مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ مُلَاعِنٌ) بَعْدَ
نَفْيِهِ، فَإِنْ اسْتَلْحَقَهُ فَهُوَ قَذْفٌ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ
لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ مُلَاعِنٌ (وَلَمْ يُفَسِّرْ) قَائِلُ ذَلِكَ (بِزِنَا
أُمِّهِ) فَلَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا وَلَا حَدَّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى الْوَلَدَ الْمَنْفِيَّ
بِاللِّعَانِ عَنْ أَبِيهِ، إلَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِأَنَّ أُمَّهُ زَنَتْ
(وَكَذَا إنْ نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ) بِأَنْ قَالَ: لَسْت مِنْ
قَبِيلَةِ كَذَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا لِأُمِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ
مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ أَبُوهُ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ
بِزِنَا أُمِّهِ.
لِحَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مَرْفُوعًا «لَا أُوتَى بِرَجُلٍ
يَقُولُ إنَّ كِنَانَةَ لَيْسَتْ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا جَلَدْتُهُ» وَعَنْ
ابْنِ مَسْعُودٍ: " لَا
(6/200)
أَجْلِدُ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ
قَذَفَ مُحْصَنَةً أَوْ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ " (وَ) قَوْلُهُ لِآخَر
(مَا أَنْتَ ابْنُ فُلَانَةَ لَيْسَ بِقَذْفٍ مُطْلَقًا) سَوَاءٌ أَرَادَ
قَذْفَهُ بِهِ أَوْ لَا إذْ الْوَلَدُ مِنْ أُمِّهِ بِكُلِّ حَالٍ، (وَ)
قَوْلُهُ لِوَلَدِهِ: (لَسْت بِوَلَدِي كِنَايَةٌ فِي قَذْفِ [أُمِّهِ] )
نَصًّا، لِأَنَّ الْوَالِدَ إذَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ وَلَدِهِ
يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهُ؛
لَا أَنَّهُ لَيْسَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ؛ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا
لِأُمِّهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ إلَّا مَعَ إرَادَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ
بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ.
(وَ) قَوْلُ إنْسَانٍ لِغَيْرِهِ: (أَنْتِ أَزَنَى النَّاسِ أَوْ) : أَنْتِ
أَزَنَى (مِنْ فُلَانَةَ) أَوْ فُلَانٍ صَرِيحٌ فِي الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ
فَقَطْ؛ لِاسْتِعْمَالِ أَفْعَلَ فِي الْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: " {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ
أَمَّنْ لا يَهِدِّي} [يونس: 35] وَقَوْلِهِ: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ
أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام: 81] .
(وَ) قَوْلِهِمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ (أَوْ قَالَ لَهُ) ؛
أَيْ: الرَّجُلِ (يَا زَانِيَةُ أَوْ قَالَ) [ (لَهَا) أَيْ الْمَرْأَةِ
(يَا زَانِي) ] (صَرِيحٌ فِي الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ) لِأَنَّ مَا كَانَ
قَذْفًا لِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ كَانَ قَذْفًا لِلْمُخَاطَبِ، وَقَدْ
يَكُونُ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ بِمُلَاحَظَةِ الذَّاتِ وَالشَّخْصِ
وَ (كَفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا) ؛ أَيْ: الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى (فِي زَنَيْتِ) لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُمَا، وَإِشَارَةٌ
إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الزِّنَا كَقَوْلِهِ لِامْرَأَةٍ: يَا شَخْصًا
زَانِيًا، وَلِرَجُلٍ: يَا نَسَمَةٌ زَانِيَةٌ (وَلَيْسَ) الْقَائِلُ
أَنْتِ أَزَنَى مِنْ فُلَانَةَ (بِقَاذِفٍ لِفُلَانَةَ) ، وَلِمَا
تَقَدَّمَ، لِقَوْمِ لُوطٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {هَؤُلاءِ
بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] ، أَيْ: مِنْ أَدْبَارِ
الذُّكُورِ، وَلَا طَهَارَةَ فِيهَا.
(وَمَنْ قَالَ عَنْ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا زَانٍ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا
أَنَا، فَقَالَ لَا فَهُوَ قَذْفٌ لِلْآخَرِ) لِتَعَيُّنِهِ بِنَفْيِهِ
عَنْ الْآخَرِ، (وَ) قَوْلِهِ لِآخَرَ (زَنَأَتْ مَهْمُوزًا صَرِيحٌ) فِي
قَذْفِهِ (وَلَوْ زَادَ فِي الْحِيَلِ أَوْ عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ) لِأَنَّ
عَامَّةَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ إلَّا
(6/201)
الْقَذْفَ كَغَيْرِ الْمَهْمُوزِ، وَإِنْ
كَانَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ طَلَعْتَ
(أَوْ) قَالَ لِرَجُلٍ (يَا نَاكِحَ أُمِّهِ) وَهِيَ حَيَّةٌ (يَلْزَمُهُ
حَدَّانِ) نَصًّا (وَكَذَا:) لَوْ قَالَ لَهُ (يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِي)
إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
(وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ، فَقَاذِفٌ [لَهَا] )
فَيَلْزَمُهُ حَدُّهُ (وَلَمْ يَلْزَمْهُ حَدُّ الزِّنَا) بِإِقْرَارِهِ
بِأَنْ لَمْ يُقِرَّ أَرْبَعًا، أَوْ أَقَرَّ أَرْبَعًا ثُمَّ رَجَعَ.
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: بِكَ زَنَيْت) لَمْ
تَكُنْ، قَاذِفَةً لَهُ، لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ (وَسَقَطَ حَقُّهَا) مِنْ
إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ (بِتَصْدِيقِهَا لَهُ وَ) لَا يَجِبُ عَلَيْهَا
حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّهَا (لَمْ تَقْذِفْهُ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الزِّنَا
مِنْهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ زَانِيًا بِهَا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ
وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، وَهِيَ عَالِمَةٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ
الزِّنَا، لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ (وَيُحَدَّانِ)
، أَيْ: الْمُتَكَلِّمَانِ (فِيمَا إذَا قَالَ) لِامْرَأَتِهِ (زَنَى بِكِ
فُلَانٌ، فَقَالَتْ: بَلْ أَنْتِ زَنَى بِكَ أَوْ) قَالَ لَهَا (يَا
زَانِيَةُ، فَقَالَتْ بَلْ: أَنْتَ زَانٍ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَذَفَ
الْآخَرَ.
[فَصْلٌ كِنَايَةُ الْقَذْفِ وَالتَّعْرِيضِ بِهِ]
فَصْلٌ (وَكِنَايَتُهُ) ، أَيْ الْقَذْفِ وَالتَّعْرِيضِ بِهِ نَحْوُ
(زَنَتْ يَدَاكَ، أَوْ) زَنَتْ (رِجْلَاكَ، أَوْ) زَنَتْ (يَدُكَ أَوْ)
زَنَتْ (رِجْلُكَ) لِأَنَّ زِنَا هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَا يُوجِبُ
الْحَدَّ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَيْنَانِ
تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ
وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا
الْمَشْيُ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ» (أَوْ) زَنَى
بَدَنُكَ لِأَنَّ زِنَاهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِزِنَا شَيْءٍ مِنْ
أَعْضَائِهِ عَلَى الْمَعْنَى السَّابِقِ غَيْرِ الْفَرْجِ (أَوْ يَا
خَنِثُ بِالنُّونِ يَا نَظِيفُ يَا عَفِيفُ) لِامْرَأَةٍ (يَا قَحْبَةُ يَا
فَاجِرَةُ يَا خَبِيثَةُ) فَإِنَّ ظَاهِرَهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ
كَنِسْبَةِ الزِّنَا
(6/202)
إلَيْهَا مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِ ذَلِكَ؛
فَإِنَّ الْفُجُورَ فِي اللُّغَةِ: الْكَذِبُ وَالِانْبِعَاثُ فِي
الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ فِي
الْعُرْفِ: هِيَ الْمُتَصَنِّعَةُ لِلْفُجُورِ، فَإِطْلَاقُ الْقَبْحَةِ
عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ إضَافَةَ الزِّنَا إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ
تَتَصَنَّعُ فِي نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ فُجُورٍ، وَأَقْحَبَتْ أَعَمُّ مِنْ
الْفُجُورِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ الْفُجُورُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
يُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْفُجُورِ مِنْ خُبْثِ النَّفْسِ وَالطَّوِيَةِ
وَالْأَفْعَالِ، وَإِذَا احْتَمَلَ مِثْلَ هَذَا الْمَعَانِيَ لَا يَكُونُ
صَرِيحًا فِيهِ.
(وَ) قَوْلُهُ (لِزَوْجَةِ شَخْصٍ قَدْ فَضَحْته وَغَطَّيْتِ) رَأْسَهُ
(أَوْ نَكَّسْتِ رَأْسَهُ) ؛ أَيْ: حَيَاءً مِنْ النَّاسِ بِشَكْوَاكِ
(وَجَعَلْتِ لَهُ قُرُونًا) ؛ أَيْ: أَنَّهُ مُسَخَّرٌ لَكَ، مُنْقَادٌ
كَالثَّوْرِ، (وَعَلِقْتِ عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ) ؛ أَيْ: مِنْ
زَوْجٍ آخَرَ، أَوْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ (وَأَفْسَدْتِ فِرَاشَهُ) ؛ أَيْ:
بِالنُّشُوزِ أَوْ الشِّقَاقِ وَبِمَنْعِ الْوَطْءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(وَ) قَوْلُهُ (لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ يَا فَارِسِيُّ يَا رُومِيُّ) ؛
لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ نَبَطِيَّ اللِّسَانِ، أَوْ
فَارِسِيَّ الطَّبْعِ، أَوْ رُومِيَّ الْخِلْقَةِ؛ (وَ) قَوْلُهُ
(لِأَحَدِهِمْ) ؛ أَيْ: النَّبَطِيِّ أَوْ فَارِسِيِّ أَوْ رُومِيِّ (يَا
عَرَبِيُّ) وَالنَّبَطُ قَوْمٌ يَنْزِلُونَ بِالْبَطَائِحِ بَيْنَ
الْعِرَاقِيِّينَ. [وَفَارِسُ] بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ، وَأَهْلُهَا
الْفُرْسُ، وَفَارِسٌ أَبُوهُمْ، وَالرُّومُ فِي الْأَصْلِ ابْنُ عِيصِ
بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وَلَوْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ: يَا أَعْجَمِيُّ بِالْأَلِفِ لَمْ يَكُنْ
قَذْفًا، لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى الْعُجْمَةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي
الْعَرَبِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا غَيْرَ فَصِيحٍ، (وَ) قَوْلُهُ (لِمَنْ
يُخَاصِمُهُ يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ مَا يَعْرِفُكَ النَّاسُ
بِالزِّنَا) فَإِنَّ هَذَا فِي الظَّاهِرِ مِنْ اللَّفْظِ لَيْسَ بِقَذْفٍ.
وَ (التَّعْرِيضُ) فِي الْقَذْفِ كَقَوْلِهِ لِآخَرَ (مَا أَنَا بِزَانٍ،
أَوْ مَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ أَوْ يَسْمَعُ مَنْ يَقْذِفُ شَخْصًا ثُمَّ
يَقُولُ لَهُ: صَدَقْت، أَوْ صَدَقْت فِيمَا قُلْت، أَوْ أَخْبَرَنِي)
فُلَانٌ أَنَّكَ زَنَيْت (أَوْ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ أَنَّكَ زَنَيْت
وَكَذَّبَهُ فُلَانٌ) لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ قَذَفَ،
فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا، كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ
رَجُلًا.
قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ أَوْ قَالَ لَهَا: لَمْ أَجِدْكِ عَذْرَاءَ
كِنَايَةً. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة حَنْبَلٍ: لَا أَرَى الْحَدَّ
إلَّا عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ أَوْ الشَّتْمَةِ (فَإِنْ نَوَى
بِمَا) مَرَّ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ الزِّنَا،
(لَزِمَهُ الْحَدُّ بَاطِنًا، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا إظْهَارُ نِيَّتِهِ)
اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ
(6/203)
آدَمِيٍّ، (وَإِلَّا) يَنْوِ بِذَلِكَ
الزِّنَا (عُزِّرَ، وَلَوْ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِمُحْتَمَلٍ غَيْرِ قَذْفٍ)
لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ (خِلَافًا
لِلْمُنْتَهَى) حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ
بِمُحْتَمَلٍ غَيْرِ الْقَذْفِ، قُبِلَ وَعُزِّرَ، فَيُفْهَمُ مِنْ
عِبَارَتِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُفَسِّرْهُ أَوْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِ
مُحْتَمَلٍ يَكُونُ قَاذِفًا، وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ لَا تُؤَدِّي
غَيْرَ مَا يُفْهَمُ مِنْ " الْمُنْتَهَى " فَلَوْ أَشَارَ لِخِلَافِهِمَا
لَكَانَ ظَاهِرًا، وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ (أَنَّهُ لَا يَكُونُ
قَاذِفًا إلَّا إنْ فَسَّرَهُ بِالزِّنَا) أَوْ نَوَاهُ؛ فَيَلْزَمُهُ
بَاطِنًا، وَيَلْزَمُهُ إظْهَارُ مَا نَوَاهُ عَلَى الْأَصَحِّ
(وَاخْتَارَ) أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيُّ (ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ أَلْفَاظَ
الْكِنَايَاتِ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ) كَمَا لَوْ نَشَأَتْ عَنْ
خُصُومَةٍ (صَرَائِحُ) لِاسْتِحَالَةِ إرَادَةِ عَكْسِ الْمَفْهُومِ
مِنْهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمُشْكَلِ " التَّعْرِيضُ
تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا، فَتَبْلُغُ بِهِ
إرَادَتَهَا بِوَجْهٍ لَطِيفٍ أَحْسَنَ مِنْ الْكَشْفِ وَالتَّصْرِيحِ؛
وَبِذَلِكَ يَقُولُ: إيَّاكَ - أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ.
فَقَرِينَةُ الْحَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ تُحِيلُ الْمَعَانِيَ
وَتَصْرِفُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا لِعَدَمِ إمْكَانِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى
ظَاهِرِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ التَّعْرِيضُ هُنَا
كَالتَّصْرِيحِ، لِظُهُورِ دَلَالَةِ الْحَالِ فِيهِ.
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاَللَّهِ مَا أَنَا بِزَانٍ
وَمَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ قَائِلٌ:
مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأُمِّهِ
وَأَبِيهِ مَدِيحٌ سِوَى هَذَا؛ نَرَى أَنْ يَجْلِدَهُ الْحَدَّ،
فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ " فِي طَرِيقِ أَحْمَدَ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اُشْتُهِرَ بَيْنَ
الصَّحَابَةِ،
(6/204)
وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مُخَالِفٌ، فَيَكُونُ
إجْمَاعًا، فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخُصُومَةِ، وَلَا وُجِدَتْ
قَرِينَةٌ؛ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا، قَالَهُ فِي " شَرْحِ الْوَجِيزِ "
وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْمَذْهَبُ.
(وَيُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ يَا فَاسِقُ يَا فَاجِرُ يَا حِمَارُ
يَا تَيْسُ يَا رَافِضِيُّ وَيَا خَبِيثَ الْبَطْنِ أَوْ) (يَا خَبِيثَ
الْفَرْجِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ يَا ظَالِمُ يَا كَذَّابُ) يَا سَارِقُ يَا
مُنَافِقُ يَا أَعْوَرُ يَا أَقْطَعُ يَا أَعْمَى يَا مُقْعَدُ يَا ابْنَ
الزَّمِنِ الْأَعْمَى الْأَعْرَجِ (يَا خَائِنُ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ يَا
قَرْنَانُ يَا دَيُّوثُ) وَهُوَ الَّذِي يُقِرُّ السُّوءَ عَلَى أَهْلِهِ،
وَقِيلَ الَّذِي يَدْخُلُ الرِّجَالُ عَلَى امْرَأَتِهِ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ (يَا كَشْخَان)
بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا الدَّيُّوثُ، قَالَهُ الْحَجَّاوِيُّ فِي
حَاشِيَتِهِ (يَا قَرْطَبَانُ) قَالَ ثَعْلَبٌ: الْقَرْطُبَانُ الَّذِي
يَرْضَى أَنْ يَدْخُلَ الرِّجَالُ عَلَى نِسَائِهِ، وَقَالَ: الْقَرْنَانُ
وَالْكَشْخَانُ لَمْ أَرَهُمَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَعْنَاهُمَا
عِنْدَ الْعَامَّةِ مِثْلُ مَعْنَى الدَّيُّوثِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ
(وَبِكُلِّ لَفْظٍ أَشْعَرَ بِالسَّبِّ كَيَا جَائِرُ يَا مُرَائِي يَا
قَوَّادُ) ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَامَّةِ السِّمْسَارُ فِي الزِّنَا، وَيَا
مُعَرِّصُ يَا عَرِصَةُ، وَيَنْبَغِي فِيهِمَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ أَنْ
يَكُونَا صَرِيحَيْنِ، وَيَا حَرُورِيُّ نِسْبَةً إلَى الْحَرُورِيَّةِ
فِرْقَةٍ مِنْ الْخَوَارِجِ (وَكَذَا) ؛ أَيْ: وَمِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ
قَوْلُ شَخْصٍ لِآخَرَ (يَا مُخَنَّثُ يَا عِلْقُ يَا مَأْبُونُ) ؛ أَيْ:
مَعْيُوبُ، وَفِي عُرْفِ زَمَنِنَا مَنْ بِهِ دَاءٌ فِي دُبُرِهِ.
(وَيَتَّجِهُ أَنَّهَا) ؛ أَيْ: هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَتْ
بِصَرَائِحَ، بَلْ هِيَ كِنَايَةٌ لِأَنَّهَا لَا تُعْطِي أَنْ يَفْعَلَ
بِمُقْتَضَاهَا إلَّا بِقَوْلِ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ
لِلْمَرْأَةِ يَا شَبِقَةُ يَا مُغْتَلِمَةُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا عَالِمُ يَا فَاضِلُ يَا كَرِيمُ إنْ كَانَ
أَهْلًا) لِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ مَدْحٌ، (وَإِلَّا) يَكُنْ أَهْلًا
(فَ) هُوَ (اسْتِهْزَاءٌ) فَيُعَزَّرُ خُصُوصًا مَعَ الْخِصَامِ؛
(6/205)
لِاقْتِضَاءِ قَرِينَةِ الْحَالِ إرَادَةَ
عَكْسِ الْمَفْهُومِ مِنْ اللَّفْظِ.
(وَ) قَالَ (فِي الرِّعَايَةِ " مَنْ قَالَ لِظَالِمِ ابْنِ ظَالِمٍ
جَبَرَكَ اللَّهُ وَيَرْحَمُ سَلَفَك احْتَمَلَ الْمَدْحَ) لِأَنَّهُ
الظَّاهِرُ (وَ) احْتَمَلَ (التَّهَزُّؤُ وَأَنَّهُ) ؛ أَيْ: التَّهَزُّؤُ؛
(أَظْهَرُ مِنْهُ؛ فَيُعَزَّرُ) لِعَدَمِ إمْكَانِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى
ظَاهِرِهِ.
[فَصْلٌ قَذَفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ]
فَصْلٌ (وَمَنْ قَذَفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ) عُزِّرَ (أَوْ) قَذَفَ (جَمَاعَةً
لَا يُتَصَوَّرُ الزِّنَا مِنْهُمْ عَادَةً) عُزِّرَ؛ لِأَنَّهُ لَا عَارَ
عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؛ لِلْقَطْعِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ (أَوْ اخْتَلَفَا فِي
شَيْءٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ ابْنُ الزَّانِيَةِ؛ عُزِّرَ،
وَلَا حَدَّ) عَلَيْهِ نَصًّا؛ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الْقَاذِفِ (كَقَوْلِهِ
مَنْ رَمَانِي بِالزِّنَا فَهُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ) وَيُعَزَّرُ. قَالَ
فِي " الْفُرُوعِ " لَكِنْ يُتَوَجَّهُ أَنَّهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى،
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ غِيبَةِ أَهْلِ قَرْيَةٍ لَا أَحَدَ
هَؤُلَاءِ.
أَوْ وَصَفَ رَجُلًا بِمَكْرُوهٍ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَتَأَذَّى غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، كَقَوْلِهِ فِي الْعَالِمِ مَنْ يَزْنِي
وَنَحْوَهُ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ بَعْدَ الْبَحْثِ.
(وَمَنْ قَالَ لِمُكَلَّفٍ: اقْذِفْنِي، فَقَذَفَهُ؛ لَمْ يُحَدَّ؛
لِأَنَّهُ) ؛ أَيْ: الْحَدَّ (حَقٌّ لَهُ) ؛ أَيْ: الْمَقْذُوفِ وَقَدْ
سَقَطَ بِالْإِذْنِ فِيهِ (وَعُزِّرَ) لِفِعْلِهِ مَعْصِيَةً، وَ
(لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُشْتَمَ أَوْ يُغْتَابَ أَوْ يُجْنَى عَلَيْهِ
وَنَحْوَهُ) كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِعَرْضِهِ عَلَى النَّاسِ؛ لَمْ
يَمْلِكْهُ وَلَمْ يُبَحْ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ
سَبَبِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ.
(6/206)
(وَلَيْسَ لِوَلَدِ مُحْصَنٍ) ذَكَرًا أَوْ
أُنْثَى (قُدِفَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (مُطَالَبَةٌ) عَلَى قَاذِفِ
وَالِدِهِ (مَا دَامَ وَالِدُهُ) أَيْ وَالِدُ الْمَقْذُوفِ (حَيًّا) ؛
لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ مَوْجُودٌ؛ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ الْمُطَالَبَةُ
بِدُونِ تَوْكِيلِهِ.
(فَإِنْ مَاتَ) مَقْذُوفٌ (وَلَمْ يُطَالِبْ) قَاذِفًا (بِهِ) ؛ أَيْ:
الْحَدِّ (سَقَطَ) كَالشَّفِيعِ إذَا مَاتَ قَبْلَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ،
(وَإِلَّا) بِأَنْ طَالَبَ بِهِ مَقْذُوفٌ قَبْلَ مَوْتِهِ (فَلَا)
يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ بِمُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ قَبْلَ مَوْتِهِ عُلِمَ
أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى حَقِّهِ؛ فَقَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ.
(وَهُوَ) ؛ أَيْ: حَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ (لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَلَوْ
زَوْجًا) أَوْ زَوْجَةً (كَإِرْثٍ) لِأَنَّهُ حَقٌّ وُرِثَ عَنْ
الْمَيِّتِ؛ فَاشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ
(فَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ) ؛ أَيْ: الْوَرَثَةِ (حُدَّ لِبَاقٍ) مِنْ
الْوَرَثَةِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ (كَامِلًا) لِلُحُوقِ الْعَارِ لِكُلٍّ
مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ
إلَى بَدَلٍ؛ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ إسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِ؛ فَوَجَبَ
لِمَنْ لَمْ يَعْفُ كَامِلًا، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ
مَوْتِهِ
(وَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا، وَلَوْ) كَانَ الْمَيِّتُ (غَيْرَ مُحْصَنٍ؛
حُدَّ) قَاذِفٌ (بِطَلَبِ وَارِثٍ مُحْصَنٍ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْحَقَّ
فِيهِ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعَارِ؛ فَاعْتُبِرَ
إحْصَانُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْذُوفَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ
شُرِعَ لِلتَّشَفِّي بِسَبَبِ الطَّعْنِ وَالْفَرِيَّةِ، وَكَمَا يَلْحَقُ
الْعَارُ بِقَذْفِهِ كَذَلِكَ يَلْحَقُ الْعَارُ وَارِثَ الْمَيِّتِ
بِقَذْفِ مُوَرِّثِهِ؛ لِأَنَّهُ طَعْنٌ فِي أَصْلِهِ الَّذِي يَسْتَنِدُ
إلَيْهِ؛ فَثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ رَفْعًا لِلْعَارِ عَنْهُ.
(وَمَنْ قَذَفَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - كُفِّرَ (أَوْ) قَذَفَ (أُمَّهُ) ؛ أَيْ: أُمَّ نَبِيٍّ
مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (كُفِّرَ)
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْقَدْحِ بِالنُّبُوَّةِ الْمُوجِبِ
لِلْكُفْرِ (وَقُتِلَ) حَتَّى (وَلَوْ تَابَ) نَصًّا؛ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ
لَا تُقْبَلُ ظَاهِرًا (أَوْ كَانَ) الْقَاذِفُ فِي الصُّورَتَيْنِ
(كَافِرًا مُلْتَزِمًا) لِأَحْكَامِنَا (فَأَسْلَمَ) بَعْدَ الْقَذْفِ؛
لِأَنَّ الْقَتْلَ هَا هُنَا حَدٌّ لِلْقَذْفِ.
وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَقَذْفِ غَيْرِهِمَا،
وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ لَسَقَطَ حَدُّهُ الَّذِي هُوَ
الْقَتْلُ؛ فَيَصِيرُ
(6/207)
أَحَقَّ حُكْمًا مِنْ قَذْفِ آحَادِ
النَّاسِ؛ لِأَنَّ حَدَّ غَيْرِهِمْ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ،
وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَدُّ مَعَ تَوْبَتِهِ، وَكَوْنِهِ يُقْتَلُ -
وَلَوْ قَذَفَ وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ - لِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ
حَدُّ قَذْفِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَّهَاتِهِمْ؛ فَلَا يَسْقُطُ
بِالْإِسْلَامِ كَحَدِّ غَيْرِهِمْ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ:
قَذْفُ نِسَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَذْفِهِ؛
لِقَدْحِهِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ
تَكَلَّمُوا قَبْلَ عِلْمِهِ بَرَاءَتَهَا وَأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ؛ لِإِمْكَانِ الْمُفَارَقَةِ فَتَخْرُجُ بِهَا مِنْهُنَّ،
وَتَحِلُّ لِغَيْرِهِ.
وَلَا يُقْتَلُ كَافِرٌ سَبَّ نَبِيًّا بِغَيْرِ الْقَذْفِ ثُمَّ أَسْلَمَ؛
لِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، فَسَبُّ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى، وَتَقَدَّمَ
آخِرَ بَابِ أَحْكَامِ الذِّمَّةِ (وَلَا يُكَفَّرُ مَنْ قَذَفَ أَبَا
شَخْصٍ إلَى آدَم) نَصًّا وَسَأَلَهُ حَرْبٌ عَنْ رَجُلٍ افْتَرَى عَلَى
رَجُلٍ، فَقَالَ يَا ابْنَ كَذَا وَكَذَا إلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ،
فَعَظَّمَهُ جِدًّا، وَقَالَ عَنْ الْحَدِّ لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ،
وَذَهَبَ إلَى حَدٍّ وَاحِدٍ.
(وَيَتَّجِهُ أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا يُكَفَّرُ مَنْ (لَعَنَ شَرِيفًا
وَأَجْدَادَهُ، أَوْ) لَعَنَ رَجُلًا (مُخْتَلَفٌ فِي نُبُوَّتِهِ
كَالْخَضِرِ وَلُقْمَانَ) - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - إذَا لَمْ
يَسْتَحِلَّهُ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ غَيْظًا أَوْ سَفَهًا أَوْ
عَبَثًا وَلَعْنًا كَسَبِّ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -
سَبًّا لَا يَقْدَحُ فِي دِينِهِمْ أَوْ عَدَالَتِهِمْ كَسَبِّهِ
أَحَدَهُمْ أَوْ إيَّاهُ سَبًّا يَقْصِدُ غَيْظَهُ وَالْكَذِبَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْغِيبَةَ لَهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ
الَّتِي عَلَّمَ اللَّهِ تَحْرِيمَهَا؛ فَإِنَّهُ مِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا؛ كُفِّرَ، لِأَنَّ اقْتِرَانَ السَّبِّ مَعَ
اعْتِقَادِ حِلِّهِ كُفْرٌ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً يُتَصَوَّرُ زِنَاهُمْ عَادَةً بِكَلِمَةٍ)
وَاحِدَةٍ كَقَوْلِهِ هُمْ زُنَاةٌ
(6/208)
(وَيَتَّجِهُ وَلَوْ كَرَّرَهَا) ؛ أَيْ:
الْكَلِمَةَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (فَطَالَبُوهُ) كُلُّهُمْ وَلَوْ
مُتَفَرِّقِينَ (أَوْ) طَالَبَهُ (أَحَدُهُمْ) (فَ) عَلَيْهِ (حَدٌّ
وَاحِدٌ) فَيُحَدُّ لِمَنْ طَلَبَهُ ثُمَّ لَا حَدَّ بَعْدَهُ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ
فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ قَذَفَ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، وَلِأَنَّهُ
قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجِبُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ حَدٍّ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ
إنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ،
وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ وَتَزُولُ
الْمَعَرَّةُ؛ فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ
كُلًّا مِنْهُمْ قَذْفًا مُنْفَرِدًا، فَإِنَّ كَذَّبَهُ فِي قَذْفِهِ لَا
يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي قَذْفِ آخَرَ، وَلَا تَزُولُ الْمَعَرَّةُ،
وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمْ؛ فَلِغَيْرِهِ الطَّلَبُ؛
لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِعَفْوِ صَاحِبِهِ.
(وَ) إنْ قَذَفَهُمْ (بِكَلِمَاتٍ) بِأَنْ قَذَفَ (كُلَّ وَاحِدٍ
بِكَلِمَةٍ) ؛ أَيْ: جُمْلَةٍ (فَ) عَلَيْهِ (لِكُلِّ وَاحِدٍ) مِنْهُمْ
(حَدٌّ) ؛ لِتَعَدُّدِ الْقَذْفِ وَتَعَدُّدِ مَحِلِّهِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ
كُلًّا مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْذِفَ الْآخَرَ.
(وَمَنْ حُدَّ لِقَذْفٍ، ثُمَّ أَعَادَهُ) ؛ أَيْ: الْقَذْفَ عُزِّرَ
لِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ حُدَّ لَهُ؛ فَلَا يُعَادُ كَمَا لَوْ أَعَادَهُ
قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ أَعَادَ مُلَاعِنٌ الْقَذْفَ (بَعْدَ لِعَانِهِ؛
عُزِّرَ، وَلَا) يُعَادُ (لِعَانٌ) لِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ لَاعَنَ
عَلَيْهِ مَرَّةً، كَمَا لَوْ أَعَادَهُ قَبْلَ اللِّعَانِ، (وَ) إنْ
قَذَفَ (بِزِنًا آخَرَ) غَيْرَ الَّذِي حُدَّ لَهُ (حُدَّ مَعَ طُولِ
الزَّمَنِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَحُرْمَةُ الْمَقْذُوفِ لَا
تَسْقُطُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاذِفِ أَبَدًا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ
قَذْفِهِ بِكُلِّ حَالٍ (وَإِلَّا) يَطُلْ الزَّمَنُ بَيْنَ الْحَدِّ
الْأَوَّلِ وَالْقَذْفِ الثَّانِي (فَلَا) يُحَدُّ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ
قَدْ حُدَّ مَرَّةً فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ (عَقِبَهُ) كَمَا لَوْ
قَذَفَهُ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ.
[تَتِمَّةٌ وُجُوبُ التَّوْبَةُ فَوْرًا مِنْ الْقَذْفِ وَالْغَيْبَةِ
وَغَيْرِهِمَا]
تَجِبُ التَّوْبَةُ فَوْرًا مِنْ الْقَذْفِ وَالْغَيْبَةِ وَغَيْرِهِمَا،
وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا
(6/209)
مِنْ ذَلِكَ إعْلَامُ مَقْذُوفٍ أَوْ
مُغْتَابٍ وَنَحْوِهِمَا. نَقَلَ مُهَنَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلِمَهُ؛
لِأَنَّ فِي إعْلَامِهِ دُخُولَ غَمٍّ عَلَيْهِ وَزِيَادَةَ إيذَاءٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: يَحْرُمُ عَلَى
الْقَاذِفِ وَنَحْوِهِ إعْلَامُ مَقْذُوفٍ وَمُغْتَابٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الصَّحِيحُ لَا يَجِبُ الِاعْتِرَافُ
لِلْمَظْلُومِ، وَلَوْ سَأَلَهُ فَيُعَرِّضُ فِي إنْكَارِهِ حِذَارًا (مِنْ
الْكَذِبِ - وَلَوْ مَعَ اسْتِحْلَافِهِ - لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ؛ لِصِحَّةِ
تَوْبَتِهِ فَيَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ وَمَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَإِلَّا
لَكَانَ تَعْرِيضُهُ فِي الْإِنْكَارِ كَذِبٌ، وَيَمِينُهُ غَمُوسٌ،
لِأَنَّهُ ظَالِمٌ) فَلَا يَنْفَعُهُ تَعْرِيضُهُ. وَقَالَ أَيْضًا:
وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا لَا يُعْلِمُهُ، بَلْ يَدْعُو لَهُ فِي
مُقَابَلَةِ مَظْلَمَتِهِ.
وَقَالَ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَتَمْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ
فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا
إلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ
تُخْلِفَنِيهِ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ
أَوْ شَتَمْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ
صَلَاةً» . الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا: زِنَاهُ بِزَوْجَةِ غَيْرِهِ كَالْغِيبَةِ.
وَذَكَرَ فِي " الْغُنْيَةِ " إنْ تَأَذَّى بِمَعْرِفَتِهِ كَزِنَاهُ
بِجَارِيَتِهِ أَوْ أَهْلِهِ وَغِيبَتُهُ بِعَيْبٍ خَفِيٍّ يَعْظُمُ
أَذَاهُ، فَهُنَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى أَنْ يَسْتَحِلَّهُ، وَيَبْقَى
لَهُ عَلَيْهِ مَظْلِمَةٌ فَيَجْبُرُهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا تُجْبَرُ
مَظْلِمَةُ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ، وَلَوْ أَعْلَمَهُ بِمَا فَعَلَ،
وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، فَحَلَّلَهُ فَهُوَ كَإِبْرَاءٍ مِنْ مَجْهُولٍ بِهِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ.
[بَابُ حَدِّ الْمُسْكِرِ]
ِ السُّكْرُ اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّكْرَانُ
خِلَافُ الصَّاحِي، وَالْجَمْعُ سَكْرَى وَسَكَارَى بِضَمِّ السِّينِ
وَفَتْحِهَا وَالْمَرْأَةُ سَكْرَى، وَلُغَةُ بَنِي أَسَدٍ سَكْرَانَةُ،
وَالْمُسْكِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَسْكَرَ الشَّرَابُ إذَا جَعَلَ
صَاحِبَهُ سَكْرَانَ، أَوْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهُوَ
مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا نُقِلَ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ
(6/210)
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ
وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سَهْلِ أَنَّهَا حَلَالٌ فَمَرْجُوعٌ عَنْهُ،
نَقَلَهُ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَغَيْرُهُمَا، وَسَنَدُهُمَا قَوْله
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] الْآيَةَ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَفِي لَفْظِ «كُلُّ مُسْكَرٍ
خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ (كُلُّ مُسْكِرٍ مَائِعٌ
خَمْرٌ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ) لِحَدِيثِ جَابِرٍ
مَرْفُوعًا قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ) رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (مُطْلَقًا) ؛
أَيْ: سَوَاءً كَانَ مِنْ الْعِنَبِ أَوْ مِنْ الشَّعِيرِ أَوْ غَيْرِهِمَا
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ، قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ
نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الْعِنَبِ
وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا
خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَلَوْ) شَرِبَ الْمُسْكِرَ (لِعَطَشٍ) لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَحْصُلْ مِنْهُ رَيٌّ بَلْ مَا فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ يَزِيدُ الْعَطَشَ
(بِخِلَافِ مَاءٍ نَجَسٍ) فَيَجُوزُ شُرْبُهُ لِعَطَشٍ عِنْدَ عَدَمِ
غَيْرِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ، وَلَا يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهُ لِدَوَاءٍ (إلَّا لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا؛ وَلَمْ
يَجِدْ غَيْرَهُ) ؛ أَيْ: الْمُسْكِرِ (وَخَافَ تَلَفًا) فَيَجُوزُ،
لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ (وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ) ؛ أَيْ: الْخَمْرِ فِي دَفْعِ
لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا (بَوْلٌ) لِوُجُوبِ الْحَدِّ بِاسْتِعْمَالِ
الْمُسْكِرِ دُونَ الْبَوْلِ (أَوْ) يُقَدَّمُ (عَلَيْهِمَا) ؛ أَيْ
الْمُسْكِرِ وَالْبَوْلِ.
(أَوْ) شُرْبُ (مَا خُلِطَ بِهِ) ؛ أَيْ: الْمُسْكِرِ (وَلَمْ
يُسْتَهْلَكْ) الْمُسْكِرُ (فِيهِ) ؛ أَيْ: الْمَاءِ؛ (حُدَّ) ؛ فَإِنْ
اسْتَهْلَكَهُ فِي الْمَاءِ فَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُبْ عَنْ
الْمَاءِ اسْمَهُ (أَوْ أُسْقِطَ) بِمُسْكِرٍ (أَوْ احْتَقَنَ بِهِ، أَوْ
أَكَلَ عَجِينًا لُتَّ بِهِ) ؛ أَيْ: الْمُسْكِرِ، لَا إنْ خُبِزَ
فَأَكَلَهُ (مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ) لَا صَغِيرٌ وَمَجْنُونٌ (عَالِمًا أَنَّ
كَثِيرَهُ يُسْكِرُ وَيُصَدَّقُ إنْ قَالَ لَمْ أَعْلَمْ بِهِ) أَنَّ
كَثِيرَهُ يُسْكِرُ (مُخْتَارًا) لِشُرْبِهِ.
(فَإِنْ
(6/211)
أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَمْ يُحَدَّ لِحِلِّهِ)
؛ أَيْ: الْمُسْكِرِ (لِمُكْرَهٍ) عَلَى شُرْبِهِ بِإِلْجَاءٍ أَوْ وَعِيدٍ
مِنْ قَادِرٍ؛ لِحَدِيثِ «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ
وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ) . (وَصَبْرُهُ) أَيْ: الْمُكْرَهِ عَنْ
شُرْبِ مُسْكِرٍ (عَلَى الْأَذَى أَفْضَلُ) مِنْ شُرْبِهَا مُكْرَهًا
نَصًّا، وَكَذَا كُلُّ مَا جَازَ لِمُكْرَهٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي
وَغَيْرُهُ.
(وَيَتَّجِهُ أَنَّهُ) لَا يَجُوزُ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ
تَرْكُهُ (إنْ أَدَّى الْإِكْرَاهُ إلَى قَتْلِهِ) بَلْ إذَا تَحَقَّقَ
ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّخَلُّفُ
اسْتِبْقَاءً لِنَفْسِهِ وَإِنْجَاءً لَهَا مِنْ التَّهْلُكَةِ
(بِخِلَافِهِ) ؛ أَيْ: الْإِكْرَاهِ عَلَى الدُّخُولِ (فِي الْكُفْرِ)
فَإِنَّ صَبْرَهُ عَلَى الْأَذَى وَتَلَقِّيَ الْقَضَاءِ بِالرِّضَا
أَفْضَلُ، وَلَوْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (أَوْ وُجِدَ)
مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ (سَكْرَانُ أَوْ تُقَيَّأهَا بِهِ) ؛ أَيْ: الْخَمْرَ
مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ.
(وَيَتَّجِهُ) الْقَوْلُ بِلُزُومِ هَذَا الْحُكْمِ (فِي) وُجُودِ سُكْرٍ
أَوْ قَيْءٍ مِنْ شَخْصٍ (مُرْتَابٍ) ؛ أَيْ: مُتَّهَمٍ (بِشُرْبِهَا) ؛
أَيْ الْخَمْرِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلرِّيبَةِ وَوُجِدَ
عَلَى هَذَا الْحَالِ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي الْإِغْضَاءُ عَنْهُ؛
لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَهَا جَاهِلًا أَنَّهَا خَمْرٌ أَوْ مُكْرَهًا
عَلَى شُرْبِهَا، وَفِي كُلُّ شُبْهَةٍ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ (حُدَّ) لِأَنَّهُ لَمْ يَسْكَرْ أَوْ يَتَقَيَّأْهَا إلَّا
وَقَدْ شَرِبَهَا (حُرٌّ) وُجِدَ مِنْهُ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ
(ثَمَانِينَ) جَلْدَةً؛ لِمَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ
وَغَيْرُهُمَا أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ،
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ
ثَمَانِينَ، فَضَرَبَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى خَالِدٍ
وَأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي
الْمَشُورَةِ إنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى،
فَحُدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي.
وَحَدُّ (قِنٍّ) فِيمَا تَقَدَّمَ (نِصْفُهَا) ؛ أَيْ: أَرْبَعِينَ
جَلْدَةً ذَكَرًا كَانَ أَوْ
(6/212)
أُنْثَى، وَلَوْ مُكَاتَبًا أَوْ
مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ (وَلَوْ ادَّعَى) شَارِبٌ وَنَحْوُهُ حُرًّا
كَانَ أَوْ قِنًّا (جَهْلَ وُجُوبِ الْحَدِّ) حَيْثُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزِّنَا.
(وَيُعَزَّرُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَتُهَا) ؛ أَيْ: الْخَمْرِ، وَلَا
يُحَدُّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا، أَوْ ظَنَّهَا مَاءً،
فَلَمَّا صَارَتْ فِي فِيهِ مَجَّهَا وَنَحْوَهُ (أَوْ) أَيْ: وَيُعَزَّرُ
مَنْ (حَضَرَ شُرْبَهَا) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَعَنَ
اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا
وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ» )
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (وَيَتَّجِهُ وَكَذَا كُلُّ مَنْ حَضَرَ) وَهُوَ
مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ (مَجْلِسًا مُحَرَّمًا) كَمَجْلِسٍ لِاسْتِمَاعِ آلَةِ
لَهْوٍ أَوْ لَعِبٍ بِشِطْرَنْجٍ أَوْ نَرْدٍ وَنَحْوِهِ؛ فَإِنَّهُ
يُعَزَّرُ؛ لِإِقْرَارِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَلَا حَدَّ عَلَى شَارِبِ خَمْرٍ جَهِلَ تَحْرِيمَهَا؛ لِقَوْلِ عُمَرَ
وَعُثْمَانَ لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ. وَلِأَنَّهُ
يُشْبِهُ مَنْ شَرِبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّهَا خَمْرٌ (وَلَا تُقْبَلُ
دَعْوَى الْجَهْلِ) بِالتَّحْرِيمِ (مِمَّنْ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ)
لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْفَى، بِخِلَافِ حَدِيثِ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ
وَنَاشِئٍ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ فَيُقْبَلُ مِنْهُ
ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ.
(وَلَا حَدَّ عَلَى كَافِرٍ) وَلَوْ ذِمِّيًّا (لِشُرْبِ) خَمْرٍ
لِاعْتِقَادِهِ حِلَّهُ كَنِكَاحِ مَجُوسِيٍّ ذَاتَ مَحْرَمٍ.
(وَيَثْبُتُ) شُرْبُ مُسْكِرٍ (بِإِقْرَارٍ بِهِ مَرَّةً كَقَذْفٍ) لِأَنَّ
كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا، بِخِلَافِ زِنًا وَسَرِقَةٍ
(وَ) كَذَا حَدُّ (قَوَدٍ) فَيَثْبُتُ بِإِقْرَارٍ بِهِ مَرَّةً؛ لِأَنَّهُ
حَقُّ آدَمِيٍّ (أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ) عَلَى الشُّرْبِ أَوْ
الْإِقْرَارِ بِهِ (وَلَوْ لَمْ يَقُولَا) شَرِبَ (مُخْتَارًا عَالِمًا
تَحْرِيمَهُ) لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَتَقَدَّمَ يُقْبَلُ رُجُوعُ مُقِرٌّ
بِهِ؛ فَلَا يُحَدُّ.
(وَيَحْرُمُ وَيَنْجَسُ عَصِيرُ) عِنَبٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ رُمَّانٍ (غَلَى)
كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ؛ بِأَنْ قَذَفَ بِزَبَدِهِ نُصَّ عَلَيْهِ فِي
رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ
(6/213)
يَسْكَرْ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ
الشِّدَّةُ الْحَادِثَةُ فِيهِ، وَهِيَ تُوجَدُ بِوُجُودِ الْغَلَيَانِ،
فَإِذَا غَلَى حَرُمَ.
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ فَتَحَيَّنْتُ فِطْرَهُ
بِنَبِيذٍ صَنَعْتُهُ فِي دُبَّاءَ ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهِ، فَإِذَا هُوَ
يَنِشُّ، فَقَالَ: اضْرِبْ بِهَذَا الْحَائِطَ، فَإِنَّ هَذَا شُرْبُ مَنْ
لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ (أَوْ) ؛ أَيْ: وَيَحْرُمُ عَصِيرٌ (أَتَى عَلَيْهِ
ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ) وَإِنْ لَمْ يُغْلَ نَصًّا؛ لِمَا
رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ
يَشْرَبُهُ إلَى مَسَاءِ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى
الْخَدَمَ، أَوْ يُهْرَاقُ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى الشَّالَنْجِيُّ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ «اشْرَبُوا الْعَصِيرَ ثَلَاثَةً مَا لَمْ يَغْلِ» ) وَعَنْ
ابْنِ عُمَرَ فِي الْعَصِيرِ: أَشْرَبُهُ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ شَيْطَانُهُ.
قِيلَ وَفِي كَمْ يَأْخُذُهُ شَيْطَانُهُ؟ قَالَ فِي ثَلَاثَةٍ. حَكَاهُ
أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَلِأَنَّ الشِّدَّةَ تَحْصُلُ فِي ثَلَاثٍ غَالِبًا،
وَهِيَ خَفِيَّةٌ تَحْتَاجُ إلَى ضَابِطٍ، وَالثَّلَاثُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ؛
فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِهَا.
(وَإِنْ طُبِخَ) الْعَصِيرُ (قَبْلَ تَحْرِيمِهِ) ؛ أَيْ: قَبْلَ
غَلَيَانِهِ وَقَبْلَ إتْيَانِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ
عَلَيْهِ (حَلَّ إنْ ذَهَبَ) بِطَبْخِهِ (ثُلُثَاهُ) فَأَكْثَرُ نَصًّا
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ أَبَا مُوسَى
كَانَ يَشْرَبُ مِنْ الطِّلَاءِ مَا بَقِيَ ثُلُثُهُ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ.
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَهُ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ
وَلِأَنَّ الْعَصِيرَ إنَّمَا يَغْلِي لِمَا فِيهِ مِنْ الرُّطُوبَةِ،
فَإِذَا غَلَى عَلَى النَّارِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ
أَكْثَرُ رُطُوبَتِهِ، فَلَا يَكَادُ يَغْلِي، وَإِذَا لَمْ يَغْلِ لَمْ
تَحْصُلْ فِيهِ الشِّدَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالرُّبَّى، وَلِهَذَا
قَالَ أَحْمَدُ حِينَ قَالَ لَهُ أَبُو دَاوُد أَنَّهُ يُسْكِرُ، فَقَالَ:
لَوْ كَانَ يُسْكِرُ مَا أَحَلَّهُ عُمَرُ.
(وَلَا) يَحِلُّ عَصِيرٌ طُبِخَ فَذَهَبَ بِطَبْخِهِ (أَقَلُّ) مِنْ
ثُلُثَيْهِ (خِلَافًا لِلْمُوَفَّقِ) وَالشَّارِحِ فَإِنَّهُمَا اعْتَبَرَا
فِي حِلِّهِ عَدَمَ إسْكَارِهِ؛ سَوَاءٌ ذَهَبَ بِطَبْخِهِ ثُلُثَاهُ أَوْ
أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ
(6/214)
[تَنْبِيهٌ النَّبِيذُ مُبَاحٌ مَا لَمْ
يَغْلِ أَوْ تَأْتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا]
، وَهُوَ مَاءٌ يُلْقَى فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ أَوْ عُنَّابٌ أَوْ
غَيْرُ ذَلِكَ لِيُحَلُّوا بِهِ الْمَاءَ، وَتَذْهَبَ مُلُوحَتُهُ. رَوَى
أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ
يَنْقَعُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّبِيبَ
فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إلَى مَسَاءِ
اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ فَيُسْقَى ذَلِكَ الْخَدَمَ
أَوْ يُهْرَاقُ» .
وَقَوْلُهُ إلَى مَسَاءِ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ يَكُونُ قَبْلَ تَمَامِ
الثَّلَاثِ بِقَلِيلٍ، فَيُسْقَى ذَلِكَ الْخَدَمُ إنْ شَاءَ أَوْ
يَشْرَبُهُ أَوْ يُهْرَاقُ قَبْلَ أَنْ تَتِمَّ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ
لِيُنْبَذَ غَيْرُهُ فِي وِعَائِهِ، فَإِنْ طُبِخَ قَبْلَ غَلَيَانِهِ
حَتَّى صَارَ غَيْرَ مُسْكِرٍ كَرِبَ الْخَرُّوبِ وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ
إذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
بِلَيَالِيِهِنَّ، وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
الْعَصِيرِ.
(وَوَضْعُ زَبِيبٍ فِي خَرْدَلٍ كَعَصِيرٍ؛ فَيَحْرُمُ إنْ غَلَى
وَنَحْوُهُ) كَأَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ
(وَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ) ؛ أَيْ: عَلَى زَبِيبٍ فِي خَرْدَلٍ (خَلٌّ قَبْلَ
ذَلِكَ) ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَغْلِيَ، أَوْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ (أُكِلَ) وَلَوْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ
الْخَلَّ يَمْنَعُ غَلَيَانَهُ.
(وَيُكْرَهُ الْخَلِيطَانِ كَنَبِيذِ تَمْرٍ مَعَ زَبِيبٍ) أَوْ بُسْرٍ
مَعَ تَمْرٍ أَوْ رُطَبٍ (وَكَذَا) نَبِيذُ (مُذْنِبٍ) ؛ أَيْ: مَا
نِصْفُهُ بُسْرٌ وَنِصْفُهُ رُطَبٌ (وَحْدَهُ) لِأَنَّهُ كَنَبِيذِ بُسْرٍ
مَعَ رُطَبٍ (لِمَا رَوَى جَابِرٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُنْبَذَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ
جَمِيعًا» ) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَخْلِطَ بُسْرًا بِتَمْرٍ، وَزَبِيبًا
بِتَمْرٍ، أَوْ زَبِيبًا بِبُسْرٍ، وَقَالَ: مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ
فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا أَوْ بُسْرًا
فَرْدًا» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ أَحْمَدُ فِي
الرَّجُلِ يَنْقَعُ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ الْهِنْدِيَّ وَالْعُنَّابَ
وَنَحْوَهُ يَنْقَعُهُ غُدْوَةً وَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً لِلدَّوَاءِ:
أَكْرَهُهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْبَذُ، وَلَكِنْ يَطْبُخُهُ وَيَشْرَبُ عَلَى
الْمَكَانِ.
وَ (لَا) يُكْرَهُ (وَضْعُ تَمْرٍ وَحْدَهُ أَوْ) وَضْعُ (زَبِيبٍ أَوْ)
وَضْعُ
(6/215)
(مِشْمِشٍ أَوْ) وَضْعُ (عُنَّابٍ فِي
مَاءٍ لِتَحْلِيَتِهِ) ؛ أَيْ: الْمَاءِ مَا لَمْ (يَشْتَدَّ) ؛ أَيْ:
يَغْلِ (أَوْ تَتِمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) بِلَيَالِيِهَا؛
فَيَحْرُمُ؛ لِمَا سَبَقَ.
[فَائِدَةٌ لَا يُكْرَهُ فُقَّاعٌ حَيْثُ لَمْ يَشْتَدَّ وَلَمْ يَغْلِ]
ِ؛ لِأَنَّهُ نَبِيذٌ يُتَّخَذُ لِهَضْمِ الطَّعَامِ وَصَدْقِ الشَّهْوَةِ
لَا لِلْإِسْكَارِ، وَمِثْلُهُ الْأَقْسَمَا إذَا كَانَ مِنْ زَبِيبٍ
وَحْدَهُ، مَا لَمْ يَغْلِ أَوْ تَأْتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
بِلَيَالِيِهَا، وَالْفُقَّاعُ شَرَابٌ يُتَّخَذُ مِنْ الشَّعِيرِ، سُمِّيَ
بِذَلِكَ لِمَا يَعْلُوهُ مِنْ الزَّبَدِ.
(وَلَا) يُكْرَهُ (انْتِبَاذٌ فِي دُبَّاءَ) بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ
الْبَاءِ (وَهِيَ الْقَرْعُ وَ) لَا فِي (حَنْتَمٍ) ؛ أَيْ: إنَاءٍ
أَخْضَرَ وَلَا فِي نَقِيرٍ (وَهُوَ مَا حُفِرَ مِنْ خَشَبٍ) كَقَصْعَةٍ
وَقَدَحٍ (وَ) لَا فِي (مُزَفَّتٍ) ؛ أَيْ: مُلَطَّخٍ بِالزِّفْتِ؛
(لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ
إلَّا فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ؛ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ
لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا.
(وَإِنْ غَلَا عِنَبٌ وَهُوَ عِنَبٌ) بِلَا عَصْرٍ (فَلَا بَأْسَ) بِهِ،
وَمِثْلُهُ بِطِّيخٌ وَنَحْوُهُ، وَإِنْ اسْتَحَالَ خَمْرًا حَرُمَ
وَتَنَجَّسَ.
[فَصْلٌ حُكْمِ الْقَهْوَةِ]
فَصْلٌ (فَرْعٌ سُئِلَ صَاحِبُ الْعُبَابِ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ
الْيَمَنِيُّ الشَّافِعِيُّ عَنْ حُكْمِ (الْقَهْوَةِ فَأَجَابَ)
بِقَوْلِهِ: الْقَهْوَةُ يَحْصُلُ لِشَارِبِهَا مِنْ النَّشَاطِ
وَالرُّوحَانِيَّةِ وَطِيبِ الْخَاطِرِ مَا لَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِهَا؛
لِأَنَّهَا تُجَفِّفُ الرُّطُوبَةَ، وَيَحْصُلُ لِلْبَدَنِ مِنْهَا خِفَّةٌ
عَظِيمَةٌ، فَيَنْشَطُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ الْكَسَلُ وَالنُّعَاسُ،
وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا النَّشَاطِ انْبِعَاثٌ لِمَا الشَّخْصُ بِصَدَدِهِ
مِنْ الْأَشْغَالِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذَا النَّشَاطُ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْزِجَةِ النَّاسِ، وَأَقْرَبُ مَا تُشْبِهُ
حَالَةُ صَاحِبِهِ حِينَئِذٍ حَالَةَ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ وَارِدٌ
(6/216)
بَسْطٌ مَجْهُولُ السَّبَبِ، وَأَطَالَ فِي
ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ: وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ
لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ، (فَإِنْ قُصِدَتْ لِلْإِعَانَةِ عَلَى
قُرْبَةٍ) كَالتَّقْوِيَةِ عَلَى السَّهَرِ لِمُطَالَعَةِ الْعُلُومِ
النَّافِعَةِ، أَوْ الْمُذَاكَرَةِ لِفَهْمِ الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ
وَنَحْوِهِ ذَلِكَ (كَانَتْ قُرْبَةً، أَوْ) قُصِدَتْ لِلْإِعَانَةِ عَلَى
قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ (مُبَاحٍ) كَمُسَامَرَةِ الْإِخْوَانِ وَالْأَهْلِ
(فَهِيَ مُبَاحَةٌ أَوْ) قُصِدَتْ لِلْإِعَانَةِ عَلَى (مَكْرُوهٍ)
كَتَطْوِيلِ السَّهَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مَعَ غَيْرِ أَهْلٍ وَضَيْفٍ (فَ)
هِيَ وَنَحْوُهُ (مَكْرُوهَةٌ، أَوْ) قُصِدَتْ لِلْإِعَانَةِ عَلَى
(حَرَامٍ) كَالسَّهَرِ لِسَمَاعِ الْغِنَاءِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ، (فَ) هِيَ
(مُحَرَّمَةٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ) لِأَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا.
(وَيَتَّجِهُ حِلُّ شُرْبِ الدُّخَانِ وَالْأَوْلَى لِكُلِّ ذِي مُرُوءَةٍ
تَرْكُهُمَا) ؛ أَيْ: الْقَهْوَةِ وَالدُّخَانِ، لِمَا فِيهِمَا مِنْ
الِاشْتِغَالِ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فِي
بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَعَنْ تَحْصِيلِ الْكِمَالَاتِ؛ إذْ مَنْ
اعْتَادَهُمَا قَدْ يَعْجِزُ عَنْ تَحْصِيلِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ،
أَوْ يَكُونُ مَجْلِسٌ لَا يَنْفِي اسْتِعْمَالَهُمَا فِيهِ أَوْ يَسْتَحِي
مِمَّنْ حَضَرَ فَيَتَشَوَّشُ خَاطِرُهُ لِفَقْدِهِمَا وَقَدْ يَلْحَنُ
بِحُجَّتِهِ؛ فَيَفُوتُهُ بَعْضُ مُطَالَبِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ،
(6/217)
خُصُوصًا الدُّخَانَ، فَقَدْ كَثُرَ فِيهِ
الْقِيلُ وَالْقَالُ، وَأُلِّفَ فِيهِ الرَّسَائِلُ الْقِصَارُ
وَالطِّوَالُ، فَتَشَتَّتَ فِيهِ فِكْرُ الْأَنَامِ وَتَحَيَّرَ فِي
شَأْنِهِ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ، وَمَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي
شُرْبِهِ بِالْكَلَامِ إلَى أَنْ صَارُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْسَامٍ، قِسْمٍ سَاكِتُونَ عَنْ الْبَحْثِ عَنْهُ، وَقِسْمٍ قَائِلُونَ
بِإِبَاحَتِهِ كَالْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ، وَقِسْمٍ قَائِلُونَ
بِكَرَاهَتِهِ، وَقِسْمٍ آخَرَ مُتَعَصِّبُونَ لِحُرْمَتِهِ مِمَّنْ
يَنْتَسِبُونَ إلَى الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُمْ
ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كُلُّ عَالِمٍ مُحَقِّقٌ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى أُصُولِ
الدِّينِ وَفُرُوعِهِ إذَا خَلَا مِنْ الْمَيْلِ مَعَ الْهَوَى
النَّفْسَانِيِّ سُئِلَ الْآنَ عَنْ شُرْبِهِ بَعْدَ اشْتِهَارِهِ
وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِهِ، وَبُطْلَانِ دَعْوَى الْمُدَلِّسِينَ فِيهِ
بِإِضْرَارِهِ لِلْعَقْلِ وَالْبَدَنِ لَا يُجِيبُ إلَّا بِإِبَاحَتِهِ؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا ضَرَرَ فِيهَا وَلَا نَصَّ
تَحْرِيمٍ الْحِلُّ وَالْإِبَاحَةُ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ
لَا الْحَظْرِ.
وَاتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ تَحَكُّمَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ
بِلَا مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ بَاطِلٌ؛ إذْ لَيْسَ الصَّلَاحُ بِتَحْرِيمِهِ
وَالتَّحَكُّمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِالْآرَاءِ الْعَقْلِيَّةِ
وَالْقِيَاسَاتِ الْوَهْمِيَّةِ، وَإِنَّمَا الصَّلَاحُ وَالدِّينُ
الْمُحَافَظَةُ بِالِاتِّبَاعِ لِلْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ عَنْ
الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ فَرَائِضَ وَمُسْتَحَبَّاتٍ
وَمُحَرَّمَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ بِلَا تَفْسِيرٍ وَلَا
تَبْدِيلٍ فِي سَائِرِ الْحَالَاتِ، وَهَلْ الطَّعْنُ فِي أَكْثَرِ
النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ
وَالطُّغْيَانِ صَلَاحٌ أَمْ فَسَادٌ بَيْنَ الْإِخْوَانِ، وَالْعَامَّةِ
مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَضْلًا عَنْ الْخَاصَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا
يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ.
وَقَدْ وَثَّقَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقَوْله تَعَالَى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ؛ أَيْ:
عُدُولًا، فَإِنْ قِيلَ مَتَى حَدَثَ شُرْبُ هَذَا الدُّخَانَ؟ أُجِيبُ
أَنَّهُ حَدَثَ فِي حُدُودِ الْأَلْفِ، وَكَانَ حُدُوثُهُ أَوَّلًا فِي
بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ، وَأَتَى بِهِ رَجُلٌ مِنْ الْحُكَمَاءِ إلَى
أَرْضِ الْمَغْرِبِ، وَعَرَضَهُ
(6/218)
عَلَى النَّاسِ، وَذَكَرَ لَهُمْ
مَنَافِعَهُ، فَلَمَّا انْتَشَرَ، حَرَّمَهُ بَعْضٌ، وَكَرِهَهُ بَعْضٌ،
وَأَبَاحَهُ بَعْضٌ، وَسَكَتَ عَنْهُ بَعْضٌ، وَكُلُّ أَهْلِ مَذْهَبٍ مِنْ
الْأَرْبَعَةِ فِيهِمْ مَنْ حَرَّمَهُ، وَفِيهِمْ مَنْ كَرِهَهُ، وَفِيهِمْ
مَنْ أَبَاحَهُ، وَلَكِنَّ غَالِبَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ
قَالُوا إنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، وَبَعْضُهُمْ مَنْ حَرَّمَهُ،
وَغَالِبُ الْمَالِكِيَّةِ حَرَّمَهُ، وَبَعْضٌ مِنْهُمْ كَرِهَهُ، وَكَذَا
أَصْحَابُنَا سِيَّمَا النَّجْدِيُّونَ إلَّا أَنِّي لَمْ أَرَ مِنْ
الْأَصْحَابِ مَنْ صَرَّحَ فِي تَأْلِيفِهِ بِالْحُرْمَةِ، وَظَاهِرُ
كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَفِي رِسَالَةٍ أَلَّفَهَا فِيهِ:
الْإِبَاحَةُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ مَنْصُورٍ فِي آدَابِ
النِّسَاءِ " الْكَرَاهَةُ ".
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَنْ يُسْكِرُهُ وَمَنْ لَا
يُسْكِرُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ إذْ الْإِنْسَانُ لَوْ تَنَاوَلَ مُبَاحًا
مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَسَكِرَ مِنْهُ، حُرِّمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ؛
لِأَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي عَقْلِهِ وَدِينِهِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَشُكُّ
فِي كَرَاهَتِهِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ النَّقْصِ فِي
الْمَالِ، وَلِكَرَاهَةِ رَائِحَةِ فَمِ شَارِبِهِ كَأَكْلِ الْبَصَلِ
النِّيءِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ وَنَحْوِهَا، وَلِإِخْلَالِهِ
بِالْمُرُوءَةِ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ الْفَضَائِلِ وَالْكَمَالَاتِ،
وَكَانَ أَحْمَدُ لَا يَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا. وَأَمَّا
التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ فَلَمْ أَقْطَعْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛
لِقِصَرِ بَاعِي وَقِلَّةِ اطِّلَاعِي، وَلِعَدَمِ الدَّلِيلِ الصَّرِيحِ.
. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إذَا شَكَكْنَا فِي الْمَطْعُومِ أَوْ
الْمَشْرُوبِ هَلْ يُسْكِرُ أَمْ لَا؟ لَمْ يَحْرُمْ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ،
وَلَمْ يُقَمْ الْحَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَأَمَّا
اخْتِصَاصُ الْخَمْرِ بِالْحَدِّ؛ فَإِنَّ فِي النُّفُوسِ بَاعِثًا
رَادِئًا إلَى الْخَمْرِ، فَنُصِبَ لِذَلِكَ رَادِعٌ شَرْعِيٌّ، وَزَاجِرٌ
دُنْيَوِيٌّ أَيْضًا؛ لِيَتَقَابَلَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهَا،
انْتَهَى. هَذَا مَا ظَهَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[تَتِمَّةٌ التَّشَبُّهُ بِشُرَّابِ الْخَمْرِ]
تَتِمَّةٌ: يَحْرُمُ التَّشَبُّهُ بِشُرَّابِ الْخَمْرِ، وَيُعَزَّرُ
فَاعِلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوبُ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ، فَلَوْ
اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ، وَرَتَّبُوا مَجْلِسًا، وَأَحْضَرُوا آلَاتِ
الشَّرَابِ وَأَقْدَاحَهُ، وَصَبُّوا فِيهَا السَّكَنْجَبِينَ وَنَحْوَهُ،
وَنَصَّبُوا سَاقِيًّا يَدُورُ عَلَيْهِمْ وَيَسْقِيهِمْ، فَيَأْخُذُونَ
مِنْ السَّاقِي وَيَشْرَبُونَ، وَيُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا
بِكَلِمَاتِهِمْ الْمُعْتَادَةِ بَيْنَهُمْ؛ حَرُمَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ
الْمَشْرُوبُ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ - لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهًا
بِأَهْلِ
(6/219)
الْفَسَادِ. قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي "
الْإِحْيَاءِ " وَهَذَا مُنْشَأُ مَا وَقَعَ فِي الْقَهْوَةِ حَيْثُ
اسْتَنَدَ إلَيْهِ مَنْ أَفْتَى بِتَحْرِيمِهَا، وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ
الْمُحَرَّمَ التَّشَبُّهُ لَا ذَاتُهَا، حَيْثُ لَا دَلِيلَ يَخُصُّ؛
لِعَدَمِ إسْكَارِهَا كَمَا هُوَ مَحْسُوسٌ، وَهَذَا يَشْهَدُهُ
الْوِجْدَانُ الصَّادِقُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ الْفَائِقِ.
[بَابُ التَّعْزِيرِ]
ِ (وَهُوَ) لُغَةً الْمَنْعُ، وَاصْطِلَاحًا (التَّأْدِيبُ) لِأَنَّهُ
يَمْنَعُ مِنْ تَعَاطِي الْقَبِيحِ. وَعَزَّرْتُهُ بِمَعْنَى نَصَرْتُهُ؛
لِأَنَّهُ مَنَعَ عَدُوَّهُ مِنْ أَذَاهُ. وَقَالَ السَّعْدِيُّ: يُقَالُ
عَزَّرْتُهُ وَقَّرْتُهُ، وَأَيْضًا أَدَّبْتُهُ، وَهُوَ مِنْ
الْأَضْدَادِ، وَهُوَ طَرِيقٌ إلَى التَّوْقِيرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ
بِهِ وَصُرِفَ عَنْ الدَّنَاءَةِ؛ حَصَلَ لَهُ الْوَقَارُ وَالنَّزَاهَةُ.
(وَيَجِبُ) التَّعْزِيرُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ؛ نَصَّ عَلَيْهِ فِي سَبِّ
صَحَابِيٍّ، وَكَحَدٍّ وَكَحَقِّ آدَمِيٍّ طَلَبَهُ (فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ
لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ) خَرَجَ بِهِ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ
وَشِبْهُ الْعَمْدِ.
(وَيَتَّجِهُ لَا يُعَزِّرُ حَاكِمٌ مَنْ) ؛ أَيْ: شَخْصًا (قَلَّدَ غَيْرَ
مَذْهَبِهِ فِيمَا) أَيْ: فَعَلَ (لَا يُنْقَضُ فِيهِ حُكْمٌ) كَمَا لَوْ
قَلَّدَ حَنْبَلِيٌّ أَبَا حَنِيفَةَ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ؛
فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ الْحَنْبَلِيِّ أَنْ يُعَزِّرَهُ (لِانْتِفَاءِ
الْمَعْصِيَةِ) بِتَقْلِيدِهِ إمَامًا يَرَى صِحَّةَ ذَلِكَ الْعَقْدَ،
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ الْحَنَفِيُّ؛ وَرُفِعَ بَعْدَ
ذَلِكَ إلَى الْحَنْبَلِيِّ؛ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَنْفِيذُهُ.
(أَوْ) أَيْ: وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى (مُعْتَقِدِ حِلِّ) شَيْءٍ فَعَلَهُ
(فَأَخْطَأَ) لِظُهُورِ عَدَمِ جَوَازِ فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ
لِلشُّبْهَةِ (لَا إنْ) عَزَمَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَ (تَرَدَّدَ) هَلْ
يَجُوزُ فِعْلُهُ أَوْ لَا؟ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ (إذْ لَا
يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ) الْمُتَرَدَّدِ فِيهِ إذَنْ، فَلَوْ
فَعَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَلِلْحَاكِمِ تَعْزِيرُهُ؛
لِارْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ؛ وَهُوَ
(6/220)
مُتَّجِهٌ (كَمُبَاشَرَةٍ دُونَ فَرْجٍ وَ)
إتْيَانِ (امْرَأَةٍ لِامْرَأَةٍ أَوْ سَرِقَةٍ لَا قَطْعَ فِيهَا)
لِفَقْدِ حِرْزٍ وَنَقْصِ نِصَابٍ، وَكَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّهُ
لَا كَفَّارَةَ فِيهَا (وَكَجِنَايَةٍ لَا قَوَدَ فِيهَا) كَصَفْعٍ
وَوَكْزٍ وَهُوَ الدَّفْعُ وَالضَّرْبُ بِجَمْعِ الْكَفِّ (وَكَقَذْفِ
غَيْرِ وَلَدِهِ بِغَيْرِ زِنًا) وَلِوَاطٍ كَقَوْلِهِ: يَا فَاسِقُ
وَنَحْوُهُ يَا شَاهِدَ زُورٍ (وَكَلَعْنِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَعَنَ
رَدُّهَا) عَلَى مَنْ لَعَنَهُ (وَكَدُعَاءٍ عَلَيْهِ وَشَتْمِهِ بِغَيْرِ
فِرْيَةٍ) ؛ أَيْ: قَذْفٍ، فَإِنْ شَتَمَهُ بِالْفِرْيَةِ؛ حُدَّ (وَكَذَا
اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَيْكَ وَنَحْوُ ذَلِكَ) كَقَوْلِهِ خَصْمُكُ اللَّهُ،
وَكَذَا تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ.
(وَفِي " الرَّوْضَةِ " إذَا زَنَى ابْنُ عَشَرَ وَبِنْتُ تِسْعٍ؛
عُزِّرَا، قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: لَا نِزَاعَ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ (أَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ كَالْمُمَيِّزِ يُعَاقَبُ عَلَى
الْفَاحِشَةِ تَعْزِيرًا بَلِيغًا وَكَذَا الْمَجْنُونُ يُضْرَبُ عَلَى
فِعْلِ) ؛ أَيْ: مِمَّا لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ فِعْلُهُ (لِيَنْزَجِرَ)
لَكِنْ لَا عُقُوبَةَ بِقَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ.
(وَإِنْ ضَرَبَ صَبِيٌّ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونٌ مَجْنُونًا أَوْ
بَهِيمَةٌ بَهِيمَةً؛ اُقْتُصَّ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ) وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ زَجْرٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، لَكِنْ (لِاشْتِفَاءِ
الْمَظْلُومِ) وَأَخْذِ حَقِّهِ، قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": فَيُتَوَجَّهُ
أَنْ يُقَالَ يُفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَخْلُو عَنْ رَدْعٍ وَزَجْرٍ،
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ ذَلِكَ
لِلْعَدْلِ بَيْنَ خَلْقِهِ.
قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: الْقِصَاصُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ وَالشَّجَرِ
وَالْعِيدَانِ جَائِزٌ شَرْعًا بِإِيقَاعِ مِثْلِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا
(وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا) مِنْهُمْ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ "
وَغَيْرُهُ (مَا أَوْجَبَ حَدًّا عَلَى مُكَلَّفٍ عُزِّرَ بِهِ
الْمُمَيِّزُ كَقَذْفٍ) انْتَهَى (وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَعْزِيرَ
بِشَتْمِ نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ، بِخِلَافِ عَكْسِهِ) فَيُعَزَّرُ
الْوَلَدُ إذَا شَتَمَ وَالِدَهُ لِحَقِّهِ كَمَا يُحَدُّ لِقَذْفِهِ،
وَيُقَادُ بِهِ (لَكِنْ) لَا يُعَزَّرُ الْوَلَدُ بِشَتْمِ وَالِدِهِ إلَّا
(بِطَلَبِ وَالِدِهِ) تَعْزِيرَهُ، جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ "
وَظَاهِرُ " الْمُنْتَهَى " خِلَافُهُ،
(6/221)
وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةُ
إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْوَالِدِ تَعْزِيرَهُ بِنَفْسِهِ لِلتَّأْدِيبِ،
وَلَا يَحْتَاجُ التَّعْزِيرُ إلَى مُطَالَبَةٍ فِي غَيْرِ هَذِهِ
الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّأْدِيبِ فَيُقِيمُهُ الْإِمَامُ
إذَا رَآهُ.
(وَإِنْ تَشَاتَمَ اثْنَانِ) غَيْرُ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ (عُزِّرَا) وَلَوْ
كَانَ جَدًّا وَوَلَدَهُ، أَوْ أُمًّا وَوَلَدَهَا، أَوْ أَخَوَيْنِ
(وَقَالَ جَمْعٌ مَنْ شَتَمَ مَنْ شَتَمَهُ، أَوْ دَعَا عَلَى مَنْ دَعَا
عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ فَلَا تَعْزِيرَ) لِلتَّعَادُلِ.
(وَإِقَامَةُ التَّعْزِيرِ حَقٌّ لِلَّهِ) تَعَالَى (فَلَا يَسْقُطُ
بِإِسْقَاطٍ، وَلَا يَحْتَاجُ) فِي إقَامَتِهِ (لِمُطَالَبَةٍ؛) لِأَنَّهُ
مَشْرُوعٌ لِلتَّأْدِيبِ (فَيُعَزَّرُ مَنْ سَبَّ صَحَابِيًّا وَلَوْ كَانَ
لَهُ وَارِثًا وَلَمْ يُطَالِبْ) بِالتَّعْزِيرِ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ
مَرْفُوعًا «مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَقَدْ سَبَّنِي، وَمَنْ سَبَّنِي
فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ» .
رَوَاهُ ابْنُ الْبَنَّا. وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ
اللَّهُ مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي» وَلِمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ قَالَ
إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: كَانَ يُقَالُ شَتْمُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ
الْكَبَائِرِ، وَإِذَا كَانَ شَتْمُهُمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَأَقَلُّ
مَا فِيهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا
حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْفِقْهِ
وَالْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَقَدْ أَجْمَعَ (أَهْلُ)
السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ،
وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، وَالتَّرَحُّمُ عَلَيْهِمْ، وَالتَّرَضِّي
عَنْهُمْ، وَاعْتِقَادُ مَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، وَعُقُوبَةُ مَنْ
أَسَاءَ فِيهِمْ الْقَوْلَ.
(وَيُعَزَّرُ بِعِشْرِينَ سَوْطًا بِشُرْبِ مُسْكِرٍ نَهَارَ رَمَضَانَ
مَعَ الْحَدِّ) لِمَا رَوَى أَحْمَدُ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ
بِالنَّجَاشِيِّ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ، فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ
الْحَدِّ، وَعِشْرِينَ سَوْطًا؛ لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ.
(وَ) يُعَزَّرُ (بِمِائَةِ) سَوْطٍ (بِوَطْءِ أَمَةِ امْرَأَتِهِ الَّتِي
أَحَلَّتْهَا لَهُ، وَإِلَّا تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ امْرَأَتُهُ حُدَّ)
وَلَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد
وَغَيْرُهُمَا عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ: «أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُنَيْنٌ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ،
فَرُفِعَ إلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى
الْكُوفَةِ، فَقَالَ: لَأَقْضِيَنَّ فِيكَ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(6/222)
إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَكَ جَلَدْتُكَ
مِائَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَكَ رَجَمْتُكَ بِالْحِجَارَةِ
فَوَجَدَهَا أَحَلَّتْهَا لَهُ فَجَلَدَهُ مِائَةً»
(وَلَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ) إنْ وَلَدَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي
غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَا شُبْهَةَ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إذَا عَلِمَ
التَّحْرِيمَ (فِيهِمَا) ؛ أَيْ: فِيمَا إذَا شَرِبَ مُسْكِرًا نَهَارَ
رَمَضَانَ، أَوْ وَطِئَ أَمَةَ امْرَأَتِهِ الَّتِي أَحَلَّتْهَا لَهُ،
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ
وَطِئَ فَرْجًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا مِلْكٍ؛ فَوَجَبَ عَلَيْهِ
الْحَدُّ كَوَطْءِ أَمَةِ غَيْرِ زَوْجَتِهِ. (وَلَا يَسْقُطُ حَدٌّ
بِإِبَاحَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ) ؛ أَيْ: مَا إذَا أَحَلَّتْ
امْرَأَةٌ أَمَتَهَا لِزَوْجِهَا؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى
وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي (وَ) يُعَزَّرُ (بِمِائَةٍ إلَّا سَوْطًا
بِوَطْءِ أَمَتِهِ الْمُشْتَرَكَةِ) نَصًّا؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي أَمَةٍ بَيْنَ
رَجُلَيْنِ وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا: يُجْلَدُ الْحَدُّ إلَّا سَوْطًا.
وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ (وَيَلْحَقُهُ نَسَبُهُ) لِلشُّبْهَةِ (وَلَا
يُزَادُ فِي جَلْدٍ) تَعْزِيرٌ (عَلَى عَشْرٍ) مِنْ الْأَسْوَاطِ (فِي
غَيْرِ مَا مَرَّ) ؛ أَيْ إبَاحَةِ الزَّوْجَةِ أَمَتَهَا لِزَوْجِهَا،
وَشُرْبِ مُسْكِرٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَوَطْءِ الْأَمَةِ
الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ مَرْفُوعًا: «لَا يُجْلَدُ
أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ
تَعَالَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (وَلِلْحَاكِمِ نَقْصُهُ) ؛ أَيْ:
التَّعْزِيرِ (عَنْ عَشْرِ) جَلَدَاتٍ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - قَدَّرَ أَكْثَرَهُ، وَلَمْ يُقَدِّرْ أَقَلَّهُ؛ فَرَجَعَ
فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَيُشْهَرُ لِمَصْلَحَةٍ، نَقَلَهُ
عَبْدُ اللَّهِ فِي شَاهِدِ زُورٍ.
(وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالصَّفْعِ
وَالتَّوْبِيخِ وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَةِ، وَبِإِقَامَةٍ مِنْ
الْمَجْلِسِ، وَبِالنِّيلِ مِنْ عِرْضِهِ كَ) قَوْلِ: الْحَاكِمِ لَهُ (يَا
ظَالِمُ يَا مُعْتَدِي) حَسْبَمَا يَرَاهُ.
وَقَالَ فِي: " الِاخْتِيَارَاتِ " إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ دَفْعُ
الْفَسَادِ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ، وَحِينَئِذٍ
فَمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ جِنْسُ الْفَسَادِ وَلَمْ يَرْتَدِعْ بِالْحُدُودِ
الْمُقَدَّرَةِ، بَلْ اسْتَمَرَّ عَلَى الْفَسَادِ؛ فَهُوَ كَالصَّائِلِ
الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ؛ فَيُقْتَلُ.
(وَلَا بَأْسَ بِتَسْوِيدِ وَجْهِهِ، وَنِدَاءٍ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ،
وَيُطَافُ بِهِ مَعَ ضَرْبِهِ،
(6/223)
وَيَجُوزُ صَلْبُهُ) حَيًّا (وَلَا
يُمْنَعُ مِنْ أَكْلٍ وَوُضُوءٍ، وَيُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ وَلَا يُعِيدُ)
وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ الْعَفْوَ عَنْهُ جَازَ. قَالَ فِي " الْمُغْنِي "
وَالشَّرْحِ " وَقَالَ فِي " الْمُبْدِعِ ": مَا كَانَ مِنْ التَّعْزِيرِ
مَنْصُوصًا عَلَيْهِ كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَةٍ
مُشْتَرَكَةٍ؛ يَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ. وَمَا لَمْ يَكُنْ
وَرَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ وَجَبَ كَالْحُدُودِ، وَإِنْ رَأَى
الْعَفْوَ جَازَ لِلْأَخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ فَطَلَبَهُ؛
لَزِمَهُ إجَابَتُهُ.
(وَحُرِّمَ تَعْزِيرٌ بِحَلْقِ لِحْيَةٍ وَقَطْع طَرَفٍ وَجُرْحٍ)
لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ (وَكَذَا) يَحْرُمُ تَعْزِيرٌ (بِأَخْذِ مَالٍ أَوْ
إتْلَافِهِ) لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَمَّنْ
يُقْتَدَى بِهِ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ أَدَبُهُ وَالْأَدَبُ لَا يَكُونُ
بِالْإِتْلَافِ (خِلَافًا لِلشَّيْخِ) تَقِيِّ الدِّينِ؛ فَإِنَّ عِنْدَهُ
التَّعْزِيرَ بِالْمَالِ سَائِغٌ إتْلَافًا وَأَخْذًا.
(وَمَنْ قَالَ لِذِمِّيٍّ يَا حَاجُّ) أُدِّبَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ
تَشْبِيهِهِمْ فِي قَصْدِ كَنَائِسِهِمْ لِقُصَّادِ بَيْتِ اللَّهِ
الْحَرَامِ، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِذَلِكَ (أَوْ لَعَنَهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ
أُدِّبَ) قَالَ فِي " الْفُرُوعِ " (أَدَبًا خَفِيفًا) لِأَنَّهُ لَيْسَ
لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ إلَّا إنْ صَدَرَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ.
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (فِيمَنْ اتَّخَذَ الطَّوَافَ
بِالصَّخْرَةِ دِينًا أَوْ قَالَ: أَنْذِرُوا لِي لِتُقْضَى حَاجَتُكُمْ)
وَاسْتُغِيثُوا بِي إنْ أَصَرَّ، وَلَمْ يَتُبْ قُتِلَ، (وَكَذَا مَنْ
تَكَرَّرَ شُرْبُهُ الْخَمْرَ مَا لَمْ يَنْتَهِ بِدُونِهِ) ؛ أَيْ:
الْقَتْلِ.
(وَجَوَّزَ ابْنُ عَقِيلٍ قَتْلَ مُسْلِمٍ جَاسُوسٍ لِلْكُفَّارِ، وَفِي "
الْفُنُونِ " لِابْنِ عَقِيلٍ: لِلسُّلْطَانِ سُلُوكُ السِّيَاسَةِ وَهُوَ
الْحَزْمُ عِنْدَنَا، وَلَا تَقِفُ السِّيَاسَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ
الشَّرْعُ) انْتَهَى.
(وَمَنْ عُرِفَ بِأَذَى النَّاسِ) وَأَذَى مَا لَهُمْ (حَتَّى بِعَيْنِهِ
حُبِسَ حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ يَتُوبَ) قَالَ فِي " الْأَحْكَامِ
السُّلْطَانِيَّةِ ": لِلْوَالِي فِعْلُهُ لَا لِلْقَاضِي (وَنَفَقَتُهُ)
مُدَّةَ حَبْسِهِ (مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) مَعَ عَجْزِهِ؛ لِيَدْفَعَ
ضَرَرَهُ، وَقَالَ (الْمُنَقِّحُ لَا يُبْعَدُ أَنْ يُقْتَلَ الْعَائِنُ
إذَا كَانَ يَقْتُلُ بِعَيْنِهِ غَالِبًا، وَأَمَّا مَا أَتْلَفَهُ
فَيَغْرَمُهُ) انْتَهَى (قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ إلَّا أَنْ يَقَعَ
الْإِتْلَافُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ؛ فَيُتَوَجَّهُ عَدَمُ الضَّمَانِ؛)
لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِالْعَيْنِ نَادِرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، فَاعْتُبِرَ
فِيهِ الْقَصْدُ (وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ) فِي
(6/224)
شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ ": (لَا
يُقْتَلُ الْعَائِنُ بِالسَّيْفِ) إنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ،
بَلْ غَلَبَ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ. وَإِنْ عَمَدَ بِهِ
ذَلِكَ، وَقَدَرَ عَلَى رَدِّهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَقْتُلَ بِهِ سَاغَ
لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ (بِالْعَيْنِ) ؛ أَيْ: فَيُعَيِّنُهُ إنْ
شَاءَ كَمَا عَانَ هُوَ الْمَقْتُولَ، فَيَقْتُلُهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ
بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَلَا هُوَ
مُمَاثِلٌ لِجِنَايَتِهِ (وَكَذَا) قَالَ: سَأَلْتُ شَيْخَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ (مَنْ يُقْتَلُ بِالْحَالِ فَ) قَالَ
(لِوَلِيِّهِ) ؛ أَيْ: الْمَقْتُولِ (قَتْلُهُ بِالْحَالِ) كَمَا قَتَلَ
بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقَتْلِ
بِالسِّحْرِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنَّ
السَّحَرَ يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا كَثِيرٌ
فِي السِّحْرِ، وَفِيهِ مَقَالَاتٌ وَأَبْوَابٌ مَعْرُوفَةٌ لِلْقَتْلِ
عِنْدَ أَرْبَابِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْتَصَّ
مِنْهُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ؛ لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ؛
فَهُوَ كَمَا (لَوْ) قَتَلَهُ بِاللِّوَاطِ وَتَجْرِيعِ الْخَمْرِ؛
فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالسَّيْفِ انْتَهَى.
(وَمَنْ اسْتَمْنَى مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ حَرُمَ)
فِعْلُهُ ذَلِكَ (وَعُزِّرَ) عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ (وَ) إنْ
فَعَلَهُ (خَوْفًا) عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا أَوْ
اللِّوَاطِ (أَوْ) خَوْفًا (عَلَى بَدَنِهِ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) قَالَ
مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَأْمُرُونَ فِتْيَانَهُمْ يَسْتَغْنُوا بِهِ (فَلَا
يُبَاحُ) الِاسْتِمْنَاءُ (إلَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نِكَاحٍ، وَلَوْ
أَمَةً) لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ
مُنْدَفِعَةٌ بِذَلِكَ، وَقِيَاسُهُ الْمَرْأَةُ؛ فَلَا يُبَاحُ لَهَا
(إلَّا) إذَا لَمْ يَرْغَبْ أَحَدٌ فِي نِكَاحِهَا (وَلَهُ أَنْ
يَسْتَمْنِيَ بِيَدِ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ) الْمُبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ
كَتَقْبِيلِهَا (وَلَوْ اضْطَرَّ إلَى جِمَاعٍ، وَلَيْسَ مَنْ يُبَاحُ
وَطْؤُهَا؛ حَرُمَ الْوَطْءُ) بِخِلَافِ أَكْلِهِ فِي الْمَخْمَصَةِ مَا
لَا يُبَاحُ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْأَكْلِ لَا تَبْقَى مَعَهُ
الْحَيَاةُ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ، فَإِبَاحَةُ الْفَرْجِ بِالْعَقْدِ دُونَ
الضَّرُورَةِ، وَإِبَاحَتُهُ الْمَيْتَةَ بِالضَّرُورَةِ دُونَ الْعَقْدِ.
(فُرُوعٌ: لَا يَجُوزُ لِلْجَذْمَاءِ مُخَالَطَةُ الْأَصِحَّاءِ عُمُومًا،
وَلَا مُخَالَطَةُ صَحِيحٍ مُعَيَّنٍ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَعَلَى وُلَاةِ
الْأُمُورِ إلْزَامُهُمْ بِذَلِكَ بِأَنْ يَسْكُنُوا فِي مَكَان مُنْفَرِدٍ
(6/225)
لَهُمْ، فَإِنْ امْتَنَعَ وَلِيُّ
الْأَمْرِ أَوْ الْمَجْذُومُ مِنْ ذَلِكَ؛ أَثِمَ، وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى
تَرْكِ الْوَاجِبِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ؛ فَسَقَ) قَالَهُ فِي "
الِاخْتِيَارَاتِ " وَقَالَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ كَمَا ذَكَرَ
الْعُلَمَاءُ (وَالْقَوَّادَةُ: الَّتِي تُفْسِدُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ
تُعَزَّرُ بَلِيغًا وَيَنْبَغِي شُهْرَةُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْتَفِيضُ فِي
النَّاسِ، وَقَالَ الشَّيْخُ: لِوَلِيِّ الْأَمْرِ صَرْفُ ضَرَرِهَا إمَّا
بِحَبْسِهَا أَوْ بِنَقْلِهَا عَنْ الْجِيرَانِ) دَفْعًا لِمَفْسَدَتِهَا.
(وَقَالَ: سُكْنَى الْمَرْأَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَعَكْسُهُ) ؛ أَيْ:
سُكْنَى الرَّجُلِ بَيْنَ النِّسَاءِ (يُمْنَعُ مِنْهُ لِحَقِّ اللَّهِ)
تَعَالَى (وَمَنَعَ الْإِمَامُ عُمَرُ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
(الْعَزَبَ أَنْ يَسْكُنَ بَيْنَ الْمُتَأَهِّلِينَ وَعَكْسَهُ) ؛ أَيْ
تَسْكُنَ الْمَرْأَةُ الْأَيِّمُ بَيْنَ الْمُتَأَهِّلِينَ، (وَنَفَى)
الْإِمَامُ عُمَرُ (شَابًّا) جَمِيلَ الْوَجْهِ ارْتَابَ مِنْهُ وَ (خَافَ
الْفِتْنَةَ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ) لِتَشَبُّبِ النِّسَاءِ بِهِ،
«وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْيِ
الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الْبُيُوتِ» .
(وَقَالَ) الشَّيْخُ أَيْضًا (يُعَزَّرُ مَنْ يَمْسِكُ الْحَيَّةَ)
لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَجِنَايَةٌ، وَتَقَدَّمَ لَوْ قَتَلَتْ مُمْسِكًا
مِمَّنْ يَدَّعِي مَشْيَخَةً وَنَحْوَهُ فَقَاتِلٌ نَفْسَهُ، (أَوْ) ؛
أَيْ: وَيُعَزَّرُ مَنْ (يَدْخُلُ النَّارَ وَنَحْوَهُ) مِمَّنْ يَعْمَلُ
الشَّعْبَذَةَ وَنَحْوَهَا.
(وَكَذَا) يُعَزَّرُ (مَنْ تَنَقَّصَ مُسْلِمًا بِكَوْنِهِ مَسْلَمَانِيًّا
مَعَ حُسْنِ إسْلَامِهِ) لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً بِإِيذَائِهِ
تَتِمَّةٌ: إذَا كَانَ ذَنْبُ الظَّالِمِ إفْسَادُ دِينِ الْمَظْلُومِ لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ دِينَهُ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ
عَلَيْهِ بِمَا يُفْسِدُ بِهِ دِينَهُ مِثْلَ مَا فَعَلَ، وَكَذَا لَوْ
افْتَرَى إنْسَانٌ عَلَيْهِ الْكَذِبَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ
عَلَيْهِ الْكَذِبَ (لَكِنْ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ عَلَيْهِ بِمَنْ
يَفْتَرِي عَلَيْهِ الْكَذِبَ نَظِيرَ مَا افْتَرَاهُ) وَإِنْ كَانَ هَذَا
الِافْتِرَاءُ مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ إذَا عَاقَبَهُ بِمَا يَفْعَلُ
بِهِ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقْبُحْ مِنْهُ سُبْحَانُهُ وَلَا ظُلْمَ فِيهِ؛
لِأَنَّ الْمَالِكَ يَفْعَلُ فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِذَا كَانَ لَهُ
أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَخْلُوقٍ مِنْ وَكِيلٍ وَوَالٍ وَغَيْرِهِمَا
فَاسْتِعَانَتُهُ بِخَالِقِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ قَالَهُ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ وَقَالَ
(6/226)
الْإِمَامُ أَحْمَدُ الدُّعَاءُ قِصَاصٌ،
فَمَنْ دَعَا فَمَا صَبَرَ؛ أَيْ: فَقَدْ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ {وَلَمَنْ
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] .
[بَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ]
ِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَقَوْلُهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «تُقْطَعُ
الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» إلَى غَيْرِهِ مِنْ النُّصُوصِ.
[شُرُوطُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ]
(وَشُرُوطُهُ) ؛ أَيْ: الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ (ثَمَانِيَةٌ:) .
(أَحَدُهَا: السَّرِقَةُ) لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقَطْعَ عَلَى
السَّارِقِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ السَّرِقَةُ لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ
سَارِقًا (وَهِيَ) ؛ أَيْ: السَّرِقَةُ (أَخْذُ مَالٍ مُحْتَرَمٍ
لِغَيْرِهِ) ؛ أَيْ السَّارِقِ (عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ مِنْ مَالِكِهِ
أَوْ) مِنْ (نَائِبِهِ) ؛ أَيْ: الْمَالِكِ، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِرَاقُ
السَّمْعِ وَمُسَارَقَةُ النَّظَرِ إذَا كَانَ يَسْتَخْفِي بِذَلِكَ
(فَيُقْطَعُ الطَّرَّارُ) مِنْ الطَّرِّ - بِفَتْحِ الطَّاءِ - أَيْ:
الْقَطْعِ (وَهُوَ مِنْ يَبُطُّ) ؛ أَيْ: يَشُقُّ (جَيْبًا أَوْ كُمًّا)
أَوْ صَفْنًا (وَيَأْخُذُ مِنْهُ) نِصَابًا، أَوْ يَأْخُذُ (بَعْدَ
سُقُوطِهِ) مِنْ نَحْوِ جَيْبٍ (نِصَابًا) لِأَنَّهُ سَرِقَةٌ مِنْ حِرْزٍ
(وَكَذَا) يُقْطَعُ (جَاحِدُ عَارِيَّةٍ) يُمْكِنُ إخْفَاؤُهَا (قِيمَتُهَا
نِصَابٌ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «كَانَتْ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ
الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِقَطْعِ يَدِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ عَائِشَة مِثْلُهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
مُطَوَّلًا. قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ، وَفِي
رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ هُوَ حُكْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ يَدْفَعُهُ شَيْءٌ.
(6/227)
(وَلَا) يُقْطَعُ جَاحِدُ (وَدِيعَةٍ،
وَلَا) يُقْطَعُ (مُنْتَهِبٌ) وَهُوَ (مَنْ يَعْتَمِدُ الْقُوَّةَ
وَالْغَلَبَةَ) فَيَأْخُذُ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ الْغَنِيمَةِ لِمَا رَوَى
جَابِرٌ مَرْفُوعًا قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ قَطْعٌ» . رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد.
(وَلَا مُخْتَلِسٌ) وَهُوَ مَنْ يَعْتَمِدُ الْهَرَبَ فَيَخْتَطِفُ
الشَّيْءَ؛ وَيَمُرُّ بِهِ (وَلَا غَاصِبٌ وَلَا خَائِنٌ فِي وَدِيعَةٍ) ؛
أَيْ: يُؤْتَمَنُ عَلَى شَيْءٍ فَيَخْفِيهِ أَوْ بَعْضَهُ، أَوْ يَجْحَدُ؛
مَأْخُوذٌ مِنْ التَّخَوُّنِ، وَهُوَ التَّنْقِيصُ لِحَدِيثٍ: «لَيْسَ
عَلَى الْخَائِنِ وَالْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ ابْنِ
الزُّبَيْرِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: بَلَغَنِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ إنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ يَاسِينَ الزَّيَّاتِ.
وَلِأَنَّ الِاخْتِلَاسَ مِنْ نَوْعِ النَّهْبِ، وَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ
الْخَائِنُ وَالْمُخْتَلِسُ فَالْغَاصِبُ أَوْلَى.
(الشَّرْطُ: الثَّانِي كَوْنُ سَارِقٍ مُكَلَّفًا) لِأَنَّ غَيْرَ
الْمُكَلَّفِ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ (مُخْتَارًا) لِأَنَّ الْمُكْرَهَ
مَعْذُورٌ (عَالِمًا بِمَسْرُوقٍ وَتَحْرِيمِهِ) أَيْ الْمَسْرُوقِ
عَلَيْهِ (اعْتِبَارًا بِمَا فِي ظَنِّ الْمُكَلَّفِ) ؛ فَلَا قَطْعَ عَلَى
صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ (وَمُكْرَهٍ عَلَى السَّرِقَةِ) لِمَا تَقَدَّمَ
(وَلَا بِسَرِقَةِ مِنْدِيلٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (بِطَرَفِهِ نِصَابٌ
مَشْدُودٌ) (وَلَمْ يَعْلَمْ سَارِقُهُ؛ أَيْ: النِّصَابَ الْمَشْدُودِ
بِطَرَفِهِ) (وَلَا) بِسَرِقَةِ جَوْهَرٍ يَظُنُّ السَّارِقُ (أَنْ
قِيمَتَهُ دُونَ نِصَابٍ) فَبَانَتْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ
إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ (وَلَا) قَطْعَ (عَلَى جَاهِلِ تَحْرِيمِ)
سَرِقَةٍ، لَكِنْ لَا تُقْبَلُ مِمَّنْ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
الشَّرْطُ (الثَّالِثُ كَوْنُ مَسْرُوقٍ مَالًا) لِأَنَّ غَيْرَ الْمَالِ
لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْمَالِ وَلَا يُسَاوِيه؛ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ
وَالْأَخْبَارُ مُقَيِّدَةٌ لِلْآيَةِ (مُحْتَرَمًا) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ
يَكُنْ مُحْتَرَمًا كَمَالِ الْحَرْبِيِّ تَجُوزُ سَرِقَتُهُ بِكُلِّ
طَرِيقٍ، وَجَوَازُ الْأَخْذِ مِنْهُ يَنْفِي وُجُوبَ الْقَطْعِ، (وَلَوْ)
كَانَ الْمَسْرُوقُ (مِنْ غَلَّةِ وَقْفٍ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَلَيْسَ)
السَّارِقُ (مِنْ مُسْتَحَقِّيهِ) ؛ أَيْ: مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ،
لِأَنَّهُ مَالٌ مُحْتَرَمٌ لِغَيْرِهِ، وَلَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ؛
أَشْبَهَ مَالَ غَيْرِ الْوَقْفِ.
(6/228)
وَ (لَا) يُقْطَعُ (بِسَرِقَةٍ مِنْ
غَلَّةِ وَقْفٍ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَكُتُبِ عِلْمٍ وَسِلَاحٍ)
مَوْقُوفٍ ذَلِكَ (عَلَى طَلَبَةٍ أَوْ غُزَاةٍ أَوْ) كَانَتْ الْكُتُبُ
مَوْقُوفَةً (عَلَى مَسَاجِدَ) وَمَدَارِسَ، وَلَا مِنْ غَلَّةِ وَقْفٍ
عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
(وَلَا) يُقْطَعُ (إنْ سَرَقَ مِنْ سَارِقٍ أَوْ غَاصِبٍ مَا سَرَقَهُ)
السَّارِقُ (أَوْ غَصَبَهُ) الْغَاصِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْهُ مِنْ
مَالِكِهِ وَلَا نَائِبِهِ.
(وَثَمِينٌ) مُبْتَدَأٌ (كَجَوْهَرٍ وَمَا يَسْرُعُ فَسَادُهُ كَفَاكِهَةٍ)
كَغَيْرِهِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي التَّمْرِ: «مَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا، فَبَلَغَ ثَمَنَ
الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ.
، وَرَوَى مَالِكٌ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ أُتْرُجَّةً فِي
زَمَنِ عُثْمَانَ، فَأَمَرَ عُثْمَانُ أَنْ تُقَوَّمَ؛ فَقُوِّمَتْ
بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشْرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ،
فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ: الْأُتْرُجَّةُ الَّتِي تَأْكُلُهَا النَّاسُ.
(وَمَا أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ كَمَلْحٍ وَتُرَابٍ وَحَجَرٍ وَلَبِنٍ)
بِكَسْرِ الْبَاءِ (وَكَلَأٍ وَثَلْجٍ وَصَيْدٍ كَغَيْرِهِ) خَبَرُ
الْمُبْتَدَأِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، فَيُقْطَعُ السَّارِقُ إذَا بَلَغَتْ
قِيمَتُهُ نِصَابًا لِلْعُمُومَاتِ (سِوَى مَاءٍ) فَلَا يُقْطَعُ
بِسَرِقَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً (وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ
سِرْجِينٍ طَاهِرٍ وَإِنَاءِ نَقْدٍ وَدَنَانِيرَ) أَوْ دَرَاهِمَ فِيهَا
تَمَاثِيلُ لِأَنَّ صِنَاعَتَهَا الْمُحَرَّمَةَ لَا تُخْرِجُهَا عَنْ
كَوْنِهَا مَالًا مُحْتَرَمًا.
(وَ) يُقْطَعُ بِسَرِقَةٍ (كُتُبُ عِلْمٍ) مُبَاحٍ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ
حَقِيقَةً وَشَرْعًا لَا مُحَرَّمًا وَلَا مَكْرُوهًا.
(وَ) يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ (قِنٍّ نَائِمٍ أَوْ قِنٍّ أَعْجَمِيٍّ وَلَوْ
كَانَا كَبِيرَيْنِ) لَا كَبِيرٍ غَيْرِ نَائِمٍ وَلَا غَيْرِ أَعْجَمِيٍّ؛
لِأَنَّهُ لَا يُسْرَقُ، وَإِنَّمَا يُخْدَعُ.
(وَ) يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ قِنٍّ (صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ) لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ
تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا، أَشْبَهَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ، وَرُوِيَ
عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَتَى بِرَجُلٍ يَسْرِقُ الصِّبْيَانَ ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فَيَبِيعُهُمْ
فِي أَرْضٍ أُخْرَى، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ فَقُطِعَتْ.»
(6/229)
وَ (لَا) يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ (مُكَاتَبٍ)
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِتَمَامٍ؛
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَلَا اسْتِخْدَامَهُ وَلَا أَخْذَ
أَرْشِ جِنَايَاتٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُمَلِّكُهُ نَفْسَهُ؛ أَشْبَهَ
الْحُرَّ (وَ) لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ (أُمِّ وَلَدٍ، وَلَا حُرٍّ وَلَوْ
صَغِيرًا، وَلَا مُصْحَفٍ، وَلَا بِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ حُلِيٍّ
وَنَحْوِهِ) كَثَوْبٍ صَغِيرٍ، وَكِيسِ مُصْحَفٍ وَلَوْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ
نِصَابًا، لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا لَا يَقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ.
(وَلَا بِ) سَرِقَةَ (كُتُبِ بِدَعٍ أَوْ) كُتُبِ (تَصَاوِيرَ) لِأَنَّهَا
وَاجِبَةُ الْإِتْلَافِ، وَمِثْلُهَا سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُحَرَّمَةِ
(وَلَا بِ) سَرِقَةِ (آلَةِ لَهْوٍ) كَزَمْرِ وَطَبْلِ غَيْرِ حَرْبٍ؛
لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ كَالْخَمْرِ، وَمِثْلُهُ نَرْدٌ وَشِطْرَنْجٌ،
وَلِأَنَّ لِلسَّارِقِ حَقًّا فِي أَخْذِهَا لِكَسْرٍ؛ فَهُوَ شُبْهَةٌ،
وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ
لِمَا لَا يُقْطَعُ بِهِ، (وَلَا) يُقْطَعُ (بِ) سَرِقَةِ (صَلِيبٍ)
نَقْدًا (أَوْ صَنَمِ نَقْدٍ) ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ تَبَعًا لِلصِّنَاعَةِ
الْمُحَرَّمَةِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، بِخِلَافِ صِنَاعَةِ
الْآنِيَةِ؛ أَشْبَهَتْ الْأَوْتَارَ الَّتِي بِالطُّنْبُورِ.
(وَيَتَّجِهُ) هَذَا إنْ وَجَدَتْ الصَّلِيبُ وَالصَّنَمُ (عِنْدَ مَنْ
يُعَظِّمُهَا) أَمَّا لَوْ وُجِدَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فَيُقْطَعُ
سَارِقُهُمَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُرِيدُ كَسْرَهَا لِيُصِيغَ
مِنْهُمَا حُلِيًّا مُبَاحًا، أَوْ يَبِيعُهُمَا بَعْدَ الْكَسْرِ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ.
(وَلَا) : يُقْطَعُ (بِ) سَرِقَةِ (آنِيَةٍ فِيهَا خَمْرٌ أَوْ) فِيهَا
(مَاءٌ) لِاتِّصَالِهَا بِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ.
(وَيَتَّجِهُ وَلَوْ تَخَيَّلَ) سَارِقُ الْآنِيَةِ (بِوَصْفِهِ) ؛ أَيْ:
الْخَمْرِ أَوْ الْمَاءِ (فِيهَا) أَيْ الْآنِيَةِ قَبْلَ إخْرَاجِهَا مِنْ
الْحِرْزِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا كَذَلِكَ؛ فَلَا يُقْطَعُ؛ لِاتِّصَالِ
الْآنِيَةِ بِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ؛ أَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ شَيْئًا
مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَهُوَ
(6/230)
مُتَّجِهٌ لَوْ لَمْ تُعَارِضْهُ حُرْمَةُ
التَّحَيُّلِ.
الشَّرْطُ (الرَّابِعُ كَوْنُهُ) ؛ أَيْ: الْمَسْرُوقِ (نِصَابًا وَهُوَ) ؛
أَيْ: نِصَابِ السَّرِقَةِ (ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ خَالِصَةٍ أَوْ) ثَلَاثَةَ
دَرَاهِمَ (تُخَلَّصُ بِهِ مِنْ) فِضَّةٍ (مَغْشُوشَةٍ) بِنَحْوِ نُحَاسٍ
(أَوْ رُبْعِ دِينَارٍ) ؛ أَيْ: مِثْقَالَ ذَهَبٍ، وَيَكْفِي الْوَزْنُ
مِنْ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ أَوْ التِّبْرِ الْخَالِصِ (وَلَوْ لَمْ
يَضْرِبَا) فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَا دُونَ ذَلِكَ؛ لِحَدِيثِ: «لَا
تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا
تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ» وَكَانَ رُبْعُ الدِّينَارِ
يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَالدِّينَارُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا
رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَهَذَانِ يَخُصَّانِ عُمُومَ الْآيَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ، فَتُقْطَعُ
يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَيُحْمَلُ عَلَى حَبْلٍ يُسَاوِي ذَلِكَ، وَكَذَا الْبَيْضَةُ وَنَحْوُ
ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا بَيْضَةُ السِّلَاحِ، وَهِيَ
تُسَاوِي ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ.
(وَيُكَمَّلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ) فَلَوْ سَرَقَ أَحَدٌ دِرْهَمًا
وَنِصْفَ دِرْهَمٍ خَالِصٍ مِنْ الْفِضَّةِ وَثُمُنَ دِينَارٍ مِنْ خَالِصِ
الذَّهَبِ؛ قُطِعَ لِأَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا (أَوْ) سَرَقَ (مَا يَبْلُغُ
قِيمَةَ أَحَدِهِمَا) ؛ أَيْ: نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (مِنْ
غَيْرِهِمَا) كَثَوْبٍ (وَنَحْوِهِ) يُسَاوِي ذَلِكَ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ
يَدَ سَارِقٍ سَرَقَ بُرْنُسًا مِنْ صِيغَةِ النِّسَاءِ قِيمَتُهُ
ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» رَوَاهُ
الْجَمَاعَةُ. وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِيمَا
دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ قِيلَ لِعَائِشَةَ مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ؟
قَالَتْ: رُبْعُ دِينَارٍ.» رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ النَّقْدَيْنِ أَصْلٌ،
وَالْمِجَنُّ التُّرْسِ.
(وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ) ؛ أَيْ: قِيمَةُ مَسْرُوقٍ لَيْسَ ذَهَبًا وَلَا
فِضَّةً (حَالَ
(6/231)
إخْرَاجِهِ مِنْ الْحِرْزِ اعْتِبَارًا
بِوَقْتِ السَّرِقَةِ) ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ لِوُجُوبِ السَّبَبِ
فِيهِ، لَا مَا حَدَثَ بَعْدُ (فَلَوْ نَقَصَتْ) قِيمَةُ مَسْرُوقٍ (بَعْدَ
إخْرَاجِهِ مِنْهُ؛ قُطِعَ) لِوُجُودِ النَّقْصِ بَعْدَ السَّرِقَةِ، كَمَا
لَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ.
(وَلَا) يُقْطَعُ (إنْ أَتْلَفَهُ) ؛ أَيْ: الْمَسْرُوقَ (فِيهِ) ؛ أَيْ:
الْحِرْزِ (بِأَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ) كَإِرَاقَةِ مَائِعٍ (أَوْ نَقَصَهُ
بِذَبْحٍ) كَشَاةٍ قِيمَتُهَا نِصَابٌ، فَذَبَحَهَا فِي الْحِرْزِ،
فَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا عَنْهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا؛ فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يُخْرِجْ مِنْ الْحِرْزِ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا (أَوْ) نَقَصَهُ
(بِغَيْرِهِ) ؛ أَيْ: الذَّبْحِ بِأَنْ شَقَّ فِيهِ ثَوْبًا، فَنَقَصَتْ
قِيمَتُهُ عَنْ النِّصَابِ (ثُمَّ أَخْرَجَهُ) فَلَا قَطْعَ؛ لِمَا
تَقَدَّمَ.
(وَإِنْ مَلَكَهُ) ؛ أَيْ: النِّصَابَ (سَارِقٌ بِنَحْوِ بَيْعٍ أَوْ
هِبَةٍ) أَوْ نَحْوِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ
حِرْزِهِ (وَبَعْدَ تَرَافُعٍ إلَى الْحَاكِمِ؛ لَمْ يَسْقُطْ الْقَطْعُ)
قَوْلًا وَاحِدًا وَلَيْسَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْ السَّارِقِ
نَصًّا؛ لِحَدِيثِ «صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّهُ نَامَ عَلَى
رِدَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُخِذَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ، فَجَاءَ
بِسَارِقِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُرِدْ
هَذَا، رِدَائِي عَلَيْهِ صَدَقَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ.»
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْجُوزَجَانِيُّ. وَفِي لَفْظٍ. قَالَ:
«فَأَتَيْته، فَقُلْت أَتَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؟
أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا، قَالَ: فَهَلَّا كَانَ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَأَبُو دَاوُد فَدَلَّ
عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الرَّفْعِ لَدَرَأَ الْقَطْعَ؛
لِتَعَذُّرِ شَرْطِ الْقَطْعِ.
قَالَ " فِي " الْمُغْنِي " " وَالشَّرْحِ ". يَسْقُطُ قَبْلَ التَّرَافُعِ
إلَى الْحَاكِمِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا عِنْدَهُ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ
فِيهِ خِلَافًا.
(وَإِنْ سَرَقَ فَرْدَ خُفٍّ قِيمَةُ كُلٍّ) مِنْهُمَا (مُنْفَرِدًا
دِرْهَمَانِ، وَ) قِيمَةُ الْمُنْفَرِدَيْنِ (مَعًا عَشَرَةُ) دَرَاهِمَ
(لَمْ يُقْطَعْ) السَّارِقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا
(وَعَلَيْهِ) إنْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْفَرْدِ الَّذِي سَرَقَهُ
(ثَمَانِيَةُ) دَرَاهِمَ (قِيمَةُ) الْفَرْدِ (الْمُتْلَفِ اثْنَانِ
(6/232)
وَنَقْصُ التَّفْرِقَةِ سِتَّةُ) دَرَاهِمَ
(وَكَذَا جُزْءٌ مِنْ كِتَابٍ سَرَقَهُ) وَأَتْلَفَهُ وَنَقَصَ
بِالتَّفْرِيقِ، وَنَظَائِرُهُ كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ.
(وَيَضْمَنُ) مُتَعَدٍّ (مَا فِي وَثِيقَةٍ) مِنْ نَحْوِ دَيْنٍ
(أَتْلَفَهَا إنْ تَعَذَّرَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِدُونِهَا) وَكَذَا لَوْ
تَلِفَتْ بِتَعَدِّيهِ (وَهِيَ كَالْكَفَالَةِ تَقْضِي إحْضَارَ
الْمَكْفُولِ أَوْ ضَمَانَ مَا عَلَيْهِ وَيَتَّجِهُ وَعَلَى قِيَاسِهِ) ؛
أَيْ: ضَمَانِ مَا فِي الْوَثِيقَةِ لَوْ أَتْلَفَ مُتَعَدٍّ (حُجَّةٌ)
فِيهَا (وَظِيفَةٌ) لِغَيْرِهِ؛ فَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْوَظِيفَةِ
بِدُونِ إحْضَارِ الْحُجَّةِ؛ فَيَضْمَنُهَا مُتْلِفُهَا؛ لِتَعَدِّيهِ،
فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةً، وَتَلِفَتْ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا
تَفْرِيطٍ؛ لَمْ يَضْمَنْ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي) سَرِقَةٍ (نِصَابٍ قُطِعُوا) كُلُّهُمْ؛
لِوُجُودِ سَبَبِ الْقَطْعِ مِنْهُمْ كَالْقَتْلِ (حَتَّى مَنْ لَمْ
يُخْرِجْ) مِنْهُمْ (نِصَابًا) كَامِلًا نَصًّا؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي
هَتْكِ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ النِّصَابِ كَمَا لَوْ كَانَ ثَقِيلًا
فَحَمَلُوهُ (وَلَوْ لَمْ يُقْطَعْ بَعْضُهُمْ لِنَحْوِ شُبْهَةٍ)
كَكَوْنِهِ شَرِيكًا لِأَبِي رَبِّ الْمَالِ أَوْ عَبْدًا لَهُ أَوْ غَيْرَ
مُكَلَّفٍ (قُطِعَ الْبَاقِي) إنْ أَخَذَ نِصَابًا، وَقِيلَ أَوْ أَقَلَّ.
قَالَهُ فِي " الْمُبْدِعِ "؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ
الْقَطْعِ عَنْ أَحَدِهِمْ لِمَعْنًى لَيْسَ فِي غَيْرِهِ أَنْ يَسْقُطَ
عَنْ الْغَيْرِ كَشَرِيكِ أَبٍ قَتَلَ وَلَدَهُ.
(وَإِنْ اعْتَرَفَا) ؛ أَيْ: اثْنَانِ (بِسَرِقَةِ نِصَابٍ ثُمَّ رَجَعَ
أَحَدُهُمَا) عَنْ إقْرَارِهِ (قُطِعَ الْآخَرُ) وَحْدَهُ دُونَ الرَّاجِعِ
(وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِمُشَارَكَةِ آخَرَ) فِي سَرِقَةِ نِصَابٍ
(فَأَنْكَرَهُ) وَلَمْ يَقْرَبَا لِسَرِقَةٍ قُطِعَ الْمُقِرُّ (وَيُقْطَعُ
سَارِقُ نِصَابٍ لِجَمَاعَةٍ) ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَالنِّصَابَ
شَرْطَانِ لِلْقَطْعِ، وَقَدْ وُجِدَا، فَوَجَبَ الْقَطْعُ كَمَا لَوْ
كَانَ الْمَالُ وَاحِدٌ.
(وَإِنْ هَتَكَ اثْنَانِ حِرْزًا فَدَخَلَاهُ فَأَخْرَجَ أَحَدُهُمَا
الْمَالَ) دُونَ الْآخَرِ؛ قُطِعَا نَصًّا؛ لِأَنَّ الْمُخْرِجَ أَخْرَجَهُ
بِقُوَّةِ صَاحِبِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَمَعُونَتِهِ، أَوْ هَتَكَ اثْنَانِ
حِرْزًا (أَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمَا) الْحِرْزَ (فَقَرَّبَهُ) ؛ أَيْ:
النِّصَابَ الْمَسْرُوقَ (مِنْ
(6/233)
النَّقْبِ، وَأَدْخَلَ الْآخَرُ يَدَهُ
فَأَخْرُجَهُ) ؛ أَيْ: النِّصَابَ قُطِعَا؛ لِأَنَّهُمَا ااشْتَرَكَا فِي
هَتْكِ الْحِرْزِ وَإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ، (أَوْ) هَتَكَ اثْنَانِ حِرْزًا؛
وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا (فَوَضَعَهُ وَسَطَ النَّقْبِ، فَأَخَذَهُ
الْخَارِجُ) مِنْهُمَا (قُطِعَا) لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْهَتْكِ
وَالْإِخْرَاجِ: (وَإِنْ رَمَاهُ) ؛ أَيْ: النِّصَابَ مَنْ دَخَلَ
مِنْهُمَا (إلَى) رَفِيقِهِ (الْخَارِجِ) مِنْ الْحِرْزِ (أَوْ نَاوَلَهُ)
إيَّاهُ (فَأَخَذَهُ) الْخَارِجُ (أَوَّلًا) ؛ أَيْ: لَمْ يَأْخُذْهُ
مِنْهُ (أَوْ أَعَادَهُ) ؛ أَيْ: الْمَتَاعَ (فِيهِ) ؛ أَيْ: الْحِرْزِ
(أَحَدُهُمَا) ؛ أَيْ: الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ (قُطِعَ الدَّاخِلُ)
مِنْهُمَا الْحِرْزَ (وَحْدَهُ) لِأَنَّهُ الْمُخْرِجُ لِلنِّصَابِ
وَحْدَهُ، فَاخْتَصَّ الْقَطْعُ بِهِ.
(وَإِنْ هَتَكَهُ) ؛ أَيْ: الْحِرْزَ (أَحَدُهُمَا، وَدَخَلَ الْآخَرُ،
فَأَخْرَجَ الْمَالَ) وَحْدَهُ (فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا) ؛ أَيْ: عَلَى
وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْرِقْ؛ وَالثَّانِيَ لَمْ
يَهْتِكْ الْحِرْزَ (وَلَوْ تَوَاطَئَا) عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ مُنَجَّى: هَذَا الْمَذْهَبُ؛؛ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ
لِأَحَدِهِمَا فِيمَا فَعَلَهُ الْآخَرُ؛ فَلَا يَبْقَى إلَّا الْقَصْدُ،
وَالْقَصْدُ إذَا لَمْ يُقَارِنْهُ الْفِعْلُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
حُكْمٌ.
(وَمَنْ نَقَبَ وَدَخَلَ) الْحِرْزَ (فَابْتَلَعَ) فِيهِ (ذَهَبًا أَوْ
جَوْهَرًا) أَوْ نَحْوَهُمَا (وَخَرَجَ بِهِ) قُطِعَ كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ
فِي كُمِّهِ (أَوْ تَرَكَ الْمَتَاعَ) فِي الْحِرْزِ (عَلَى بَهِيمَةٍ،
فَخَرَجَتْ بِهِ) الْبَهِيمَةُ - وَلَوْ بِلَا سَوْقٍ - قُطِعَ؛ لِأَنَّ
الْعَادَةَ مَشْيُ الْبَهِيمَةِ بِمَا وُضِعَ عَلَيْهَا (أَوْ) تَرَكَ
الْمَتَاعَ (فِي مَاءِ جَارٍ) فَأَخْرَجَهُ الْمَاءُ؛ قُطِعَ؛ لِأَنَّ
الْبَهِيمَةَ وَالْمَاءَ لَا إرَادَةَ لَهُمَا فِي الْإِخْرَاجِ (أَوْ
أَمَرَ) مَنْ هَتَكَ الْحِرْزَ (غَيْرَ مُكَلَّفٍ) كَصَغِيرٍ أَوْ
مَجْنُونٍ (بِإِخْرَاجِهِ) ؛ أَيْ: النِّصَابِ (فَأَخْرَجَهُ) غَيْرُ
الْمُكَلَّفِ قُطِعَ الْآمِرُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لَا حُكْمَ
لِفِعْلِهِ؛ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْبَهِيمَةِ (أَوْ تَرَكَ هَاتِكُ)
الْحِرْزِ الْمَتَاعَ (عَلَى جِدَارٍ) دَاخِلِ الْحِرْزِ (فَأَخْرَجَتْهُ
رِيحٌ) قُطِعَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ مِنْهُ؛ فَلَا أَثَرَ
لِلرِّيحِ (أَوْ) هَتَكَ الْحِرْزَ، وَ (رَمَى بِهِ) ؛ أَيْ: الْمَتَاعَ
(خَارِجًا) عَنْ الْحِرْزِ؛ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ، أَوْ هَتَكَ
الْحِرْزَ (وَجَذَبَهُ) ؛ أَيْ:
(6/234)
الْمَتَاعَ بِشَيْءٍ وَهُوَ خَارِجُ
الْحِرْزِ؛ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ (أَوْ اسْتَتْبَعَ سَخْلَ شَاةِ)
بِأَنَّهُ قَرَّبَ إلَيْهِ أُمَّهُ؛ وَهُوَ فِي حِرْزِ مِثْلِهِ،
فَتَبِعَهَا، وَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا؛ قُطِعَ، لَا أَنَّ تَبِعَهَا
السَّخْلُ بِلَا اسْتِتْبَاعٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَكَذَا
عَكْسُهَا (أَوْ) هَتَكَ الْحِرْزَ (وَتَطَيَّبَ فِيهِ) بِطِيبٍ كَانَ
فِيهِ، خَرَجَ بِهِ مِنْ الْحِرْزِ، (وَ) كَانَ مَا تَطَيَّبَ بِهِ (لَوْ
اجْتَمَعَ بَلَغَ) مَا يُسَاوِي (نِصَابًا) ؛ قُطِعَ؛ لِهَتْكِهِ الْحِرْزَ
وَإِخْرَاجِهِ مِنْهُ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا، كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ
طِيبٍ.
(أَوْ هَتَكَ الْحِرْزَ) وَقْتًا (وَأَخَذَ الْمَالَ وَقْتًا آخَرَ)
وَقَرُبَ مَا بَيْنَهُمَا؛ قُطِعَ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ عَقِبَ الْهَتْكِ،
(أَوْ) هَتَكَ الْحِرْزَ (وَأَخَذَ بَعْضَهُ) ؛ أَيْ: النِّصَابِ (ثُمَّ
أَخَذَ بَقِيَّتَهُ) ؛ أَيْ: النِّصَابِ (وَقَرُبَ مَا بَيْنَهُمَا) مِنْ
الزَّمَنِ؛ قُطِعَ؛ لِأَنَّهَا سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّ فِعْلَ
الْوَاحِدِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ أَوْلَى مِنْ بِنَاءِ فِعْلِ أَحَدِ
الشَّرِيكَيْنِ عَلَى فِعْلِ الْآخَرِ، وَإِنْ بَعُدَ بَيْنَهُمَا كَمَا
لَوْ كَانَا فِي لَيْلَتَيْنِ؛ فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ كُلَّ سَرِقَةٍ
مِنْهُمَا لَا تَبْلُغُ نِصَابًا، وَإِنَّ عَلِمَ الْمَالِكُ هَتْكَ
الْحِرْزِ، وَأَهْمَلَهُ، فَلَا قَطْعَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ
الثَّانِيَةَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ أَوْ هَتَكَ حِرْزًا (أَوْ فَتَحَ
أَسْفَلَ كِوَارَةٍ، فَخَرَجَ الْعَسَلُ شَيْئًا فَشَيْئًا) أَوْ
أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا؛ قُطِعَ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يُهْمِلْ الْأَخَذَ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ جُمْلَةً (أَوْ
أَخْرَجَهُ) أَيْ: الْمَتَاعَ السَّارِقُ (إلَى سَاحَةِ دَارٍ مِنْ بَيْتٍ
مُغْلَقٍ مِنْهَا) ؛ أَيْ: الدَّارِ الَّتِي بِهَا الْبَيْتُ (مُغْلَقٌ؛
قُطِعَ) ؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ الْحِرْزَ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ نِصَابًا، كَمَا
لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّارِ بَابٌ آخَرُ.
(وَلَوْ عَلَّمَ) إنْسَانٌ (قِرْدًا أَوْ عُصْفُورًا) وَنَحْوَهُ
(السَّرِقَةَ) فَسَرَقَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا فَعَلَى مُعَلِّمِهِ
(الْغُرْمُ) ؛ أَيْ: غُرْمُ قِيمَةِ مَا أَخَذَهُ (فَقَطْ) ؛ أَيْ: دُونَ
الْقَطْعِ؛؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْتِكْ الْحِرْزَ.
الشَّرْطُ (الْخَامِسُ إخْرَاجُهُ) ؛ أَيْ النِّصَابِ (مِنْ حِرْزٍ) ؛
لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا
مِنْ مُزَيْنَةُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَنْ الثِّمَارِ، فَقَالَ: مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ
أَكْمَامِهِ، وَاحْتَمَلَ فَفِيهِ قِيمَتُهُ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، وَمَا
(6/235)
كَانَ فِي الْجَرِينِ فَفِيهِ الْقَطْعُ
إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ،
وَهُوَ مُخَصِّصٌ لِلْآيَةِ (فَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ) بِأَنْ
وَجَدَ حِرْزًا مَهْتُوكًا أَوْ بَابًا مَفْتُوحًا فَأَخَذَ مِنْهُ
نِصَابًا (فَلَا قَطَعَ) لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ،
دَاخِلَ الْحِرْزِ بِأَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ.
(وَمِنْ أَخْرَجَ بَعْضَ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ) ؛ أَيْ بَعْضِ الثَّوْبِ
(نِصَابٌ؛ قُطِعَ بِهِ) أَيْ بِالْبَعْضِ الَّذِي أَخْرَجَهُ (إنْ
قَطَعَهُ) مِنْ الثَّوْبِ؛ لِتَحَقُّقِ إخْرَاجِهِ مِنْ الْحِرْزِ
(وَإِلَّا) يُقْطَعُ مَا أَخْرَجَهُ (فَلَا قَطَعَ) عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ
أَخْرَجَ بَعْضَ خَشَبَةٍ وَبَاقِيهَا دَاخِلُ الْحِرْزِ، وَلَمْ
يَقْطَعْهَا لِلتَّبَعِيَّةِ.
(وَلَوْ أَمْسَكَ غَاصِبٌ طَرَفَ عِمَامَتِهِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ فِي
يَدِ مَالِكِهَا؛ لَمْ يَضْمَنْهَا) لِأَنَّ بَعْضَهَا لَا يَنْفَرِدُ عَنْ
بَعْضٍ، وَمَنْ هَتَكَ حِرْزًا أَوْ احْتَلَبَ لَبَنَ مَاشِيَةٍ، فَإِنْ
أَخْرَجَهُ وَبَلَغَ نِصَابًا، قُطِعَ، وَإِنْ شَرِبَهُ دَاخِلَهُ أَوْ
أَخْرَجَ دُونَ نِصَابٍ؛ فَلَا قَطْعَ.
(وَحِرْزُ كُلُّ مَالٍ مَا حُفِظَ فِيهِ عَادَةً) ؛ لِأَنَّ مَعْنَى
الْحِرْزِ الْحِفْظُ وَمِنْهُ اُحْتُرِزَ مِنْ كَذَا، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ
الشَّرْعِ بَيَانُهُ، وَلَا لَهُ عُرْفٌ لُغَوِيٌّ يَتَقَدَّرُ بِهِ
كَالْقَبْضِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبَيْعِ.
(وَيَخْتَلِفُ) الْحِرْزُ (بِاخْتِلَافِ) جِنْسِ الْمَالِ وَبِاخْتِلَافِ
بَلَدٍ (5) كِبَرًا أَوْ صِغَرًا؛ لِخَفَاءِ السَّارِقِ بِالْبَلَدِ
الْكَبِيرِ لِسَعَةِ أَقْطَارِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْبَلَدِ
الصَّغِيرِ، وَيَخْتَلِفُ الْحِرْزُ أَيْضًا بِاخْتِلَافِ (عَدْلِ
سُلْطَانٍ وَقُوَّتِهِ وَجَوْرِهِ وَعَجْزِهِ وَضَعْفِهِ) ؛ فَإِنَّ
السُّلْطَانَ الْعَدْلَ يُقِيمُ الْحُدُودَ فَتَقِلُّ السُّرَّاقُ خَوْفًا
مِنْ الرَّفْعِ إلَيْهِ؛ فَيَقْطَعُ؛ فَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَى
زِيَادَةِ حِرْزٍ، وَإِنْ كَانَ جَائِرًا يُشَارِكُ مَنْ الْتَجَأَ إلَيْهِ
مِنْ الذُّعَّارِ وَيَذُبُّ عَنْهُمْ قَوِيَتْ صَوْلَتُهُمْ، فَيَحْتَاجُ
أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ لِزِيَادَةِ التَّحَفُّظِ، وَكَذَا الْحَالُ مَعَ
قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ.
(فَحِرْزُ جَوْهَرٍ وَنَقْدٍ) ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ (وَقُمَاشٍ فِي
الْعُمْرَانِ) ؛ أَيْ:
(6/236)
الْأَبْنِيَةِ الْحَصِينَةِ فِي
الْمَحَالِّ الْمَسْكُونَةِ مِنْ الْبَلَدِ (بِدَارٍ وَدُكَّانٍ وَرَاءَ
غَلْقٍ وَثِيقٍ) أَيْ: قُفْلِ خَشْبٍ أَوْ حَدِيدٍ فَإِنْ كَانَتْ
الْأَبْوَابُ مُفَتَّحَةً وَلَا حَافِظَ فِيهَا فَلَيْسَتْ حِرْزًا (فَإِنْ
كَانَتْ فِيهَا خَزَائِنُ مُغْلَقَةٌ فَالْخَزَائِنُ حِرْزٌ لَهَا وَمَا
خَرَجَ عَنْهَا فَلَيْسَ بِمُحَرَّزٍ) كَمَا لَا يَخْفَى.
(وَصُنْدُوقٌ) مُبْتَدَأٌ (بِسُوقٍ، وَثَمَّ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ
(حَارِسٌ) بِالسُّوقِ (حِرْزٌ) خَبَرٌ لِمَا فِي الصُّنْدُوقِ، فَمَنْ
أَخَذَ مِنْهُ نِصَابًا، قُطِعَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَارِسٌ؛
فَلَيْسَ حِرْزًا.
(وَحِرْزُ بَقْلٍ وَقُدُورِ بَاقِلَّا وَقِدْرِ طَبِيخٍ، وَحِرْزُ خَذَفٍ
وَثَمَّ حَارِسٌ وَرَاءَ الشَّرَائِجِ) جَمْعُ شَرِيجَةٍ شَيْءٌ مِنْ
نَحْوِ قَصَبٍ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ بِنَحْوِ حَبْلٍ؛ لِأَنَّ
الْعَادَةَ إحْرَازُ ذَلِكَ بِذَلِكَ.
(وَحِرْزُ خَشَبٍ وَحَطَبٍ الْحَظَائِرُ) جَمْعُ حَظِيرَةٍ بِالْحَاءِ
الْمُهْمَلَةِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مَا يُعْمَلُ لِلْإِبِلِ
وَالْغَنَمِ مِنْ الشَّجَرِ تَأْوِي إلَيْهِ فَيُعَبَّرُ بَعْضُهُ
بِبَعْضٍ، وَيُرْبَطُ بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَصْلُ
الْحَظْرِ الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَتْ بِخَانٍ فَهُوَ أَحْرَزُ (وَ) حِرْزُ
(مَاشِيَةٍ) مِنْ إبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ الصِّيَرُ جَمْعُ صِيرَةٍ،
وَهِيَ حَظِيرَةُ الْغَنَمِ (وَ) حِرْزُ مَاشِيَةٍ (فِي مَرْعًى بِرَاعٍ
يَرَاهَا فِيهِ غَالِبًا) ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ حِرْزُهَا بِذَلِكَ، فَمَا
غَابَ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ خَرَجَ عَنْ الْحِرْزِ.
(وَحِرْزُ سُفُنٍ فِي شَطٍّ بِرَبْطِهَا فِيهِ) بِهِ عَلَى الْعَادَةِ.
(وَحِرْزُ إبِلٍ بَارِكَةٍ مَعْقُولَةٍ بِحَافِظٍ حَتَّى نَائِمٍ) ؛
لِأَنَّ عَادَةَ مُلَّاكِهَا عَقْلُهَا إذَا نَامُوا (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
مَعْقُولَةً) فَبِحَافِظٍ يَقْظَانَ (وَ) حِرْزُ (حُمُولَتِهَا) بِفَتْحِ
الْحَاءِ؛ أَيْ: الْإِبِلِ الْمُحَمَّلَةِ (بِتَقْطِيرِهَا مَعَ قَائِدٍ
يَرَاهَا بِحَيْثُ يَكْثُرُ الْتِفَاتُهُ إلَيْهَا) وَكَذَا مَعَ سَائِقٍ
يَرَاهَا بَلْ أَوْلَى (وَمَعَ عَدَمِ تَقْطِيرِ) الْإِبِلِ الْمُحَمَّلَةِ
(بِسَائِقِ يَرَاهَا) لِأَنَّهُ الْعَادَةُ فِي حِفْظِهَا.
(6/237)
(وَمَنْ سَرَقَ الْجَمَلَ بِمَا عَلَيْهِ
وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ؛ لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ؛ قُطِعَ.
(وَحِرْزُ بُيُوتٍ فِي صَحْرَاءَ وَبَسَاتِينَ بِمُلَاحَظٍ) يَرَاهَا إنْ
كَانَتْ مَفْتُوحَةً فَإِنْ كَانَتْ مُغْلَقَةً (فَبِنَائِمٍ) فِيهَا،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ وَلَا مُلَاحِظٌ ثَمَّ يَرَاهَا؛
فَلَيْسَتْ حِرْزًا، مُغْلَقَةً كَانَتْ أَوْ مَفْتُوحَةً، (وَكَذَا) ؛
أَيْ: كَالْبُيُوتِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْبَسَاتِينِ (نَحْوُ خَيْمَةٍ)
كَخَرْكَاةٍ وَبَيْتِ شَعْرٍ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُلَاحِظٌ أَوْ كَانَتْ
مُغْلَقَةً وَفِيهَا نَائِمٌ؛ فَمُحَرَّزَةٌ، وَإِلَّا فَلَا قَطْعَ عَلَى
سَارِقِهَا وَلَا عَلَى سَارِقٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّزَةٍ
عَادَةً.
(وَحِرْزُ ثِيَابٍ فِي حَمَّامٍ وَ) (حِرْزُ أَعْدَالٍ وَ) حِرْزُ (غَزْلٍ
بِسُوقٍ أَوْ فِي خَانٍ وَمَا كَانَ مُشْتَرَكًا فِي دُخُولٍ) كَرِبَاطٍ
(بِحَافِظٍ) يَرَاهَا (كَقُعُودِهِ عَلَى مَتَاعٍ وَتَوَسُّدِهِ كَمَا
تَقَدَّمَ) فِي قَطْعِ سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ
مُتَوَسِّدُهُ (وَإِنْ فَرَّطَ حَافِظٌ) فِي حَمَّامٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ
مَكَانٍ مُشْتَرَكِ الدُّخُولِ كَالْمَضْيَفَةِ وَالتَّكِيَّةِ
وَالْخَانِكَاتِ فَنَامَ أَوْ اُشْتُغِلَ، (فَلَا قَطْعَ) عَلَى
السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْرِقْ مِنْ حِرْزٍ (ضَمِنَ) الْمَسْرُوقَ
حَافِظٌ (مُعَدٌّ) لِلْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ (فَرَّطَ، وَإِنْ لَمْ
يُسْتَحْفَظْ) لِتَفْرِيطِهِ.
(وَمَنْ كَانَ مَتَاعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَبَزْرِ بَزَّارٍ وَخُبْزِ
خَبَّازٍ بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ، فَهُوَ حِرْزٌ) يُقْطَعُ سَارِقُهُ
بِسَرِقَتِهِ.
(وَمَنْ اسْتَحْفَظَ شَخْصًا مَتَاعَهُ بِمَسْجِدٍ، فَسُرِقَ بِتَفْرِيطِهِ
فِي حِفْظِهِ؛ فَلَا قَطَعَ) عَلَى سَارِقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْرَقْ
مِنْ حِرْزٍ (وَلَزِمَهُ) أَيْ لَزِمَ مَنْ اُسْتُحْفِظَ (الْغُرْمُ إنْ
كَانَ الْتَزَمَ حِفْظَهُ وَأَجَابَهُ إلَى مَا سَأَلَهُ) صَرِيحًا (وَإِنْ
لَمْ يُجِبْهُ، لَكِنْ سَكَتَ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمٌ) ؛ لِأَنَّهُ مَا
قَبِلَ الِاسْتِيدَاعَ وَلَا قَبَضَ الْمَتَاعَ، وَإِنْ حَفِظَ الْمَتَاعَ
بِنَظَرِهِ إلَيْهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ، فَسُرِقَ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ؛
لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، وَعَلَى السَّارِقِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ
نِصَابًا مِنْ حِرْزِهِ.
(وَحِرْزُ كَفَنٍ مَشْرُوعٍ
(6/238)
بِقَبْرٍ طُمَّ كَوْنُهُ عَلَى مَيِّتٍ)
وَلَوْ بَعُدَ الْقَبْرُ عَلَى الْعُمْرَانِ، فَمَنْ نَبَشَ قَبْرًا،
وَأَخَذَ مِنْهُ كَفَنًا أَوْ بَعْضَهُ يُسَاوِي نِصَابًا؛ قُطِعَ
لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَقَوْلِ عَائِشَةَ: سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ
أَحْيَائِنَا.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَطَعَ نَبَّاشًا، فَإِنْ لَمْ
يُخْرِجْ الْكَفَنَ مِنْ الْقَبْرِ بَلْ مِنْ اللَّحْدِ، وَوَضَعَهُ فِي
الْقَبْرِ؛ فَلَا قَطْعَ كَنَقْلِ الْمَتَاعِ فِي الْبَيْتِ مِنْ جَانِبٍ
إلَى جَانِبٍ، وَكَذَا إنْ أُكِلَ الْمَيِّتُ وَنَحْوُهُ وَبَقِيَ
الْكَفَنُ؛ فَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ كَمَا لَوْ زَالَ نَائِمٌ
بِنَحْوِ مَسْجِدٍ عَنْ رِدَائِهِ ثُمَّ سُرِقَ (وَهُوَ) ؛ أَيْ: الْكَفَنُ
(مِلْكٌ لَهُ) ؛ أَيْ: الْمَيِّتِ اسْتِصْحَابًا لِلْحَيَاةِ (يُوَفَّى
مِنْهُ دَيْنُهُ لَوْ عَدِمَ) وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا عَمَّا لَا
حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ (وَالْخَصْمُ فِيهِ الْوَرَثَةُ) لِقِيَامِهِمْ
مَقَامَهُ كَوَلِيِّ غَيْرِ مُكَلَّفٍ (فَإِنْ عُدِمُوا) ؛ أَيْ:
الْوَرَثَةُ (ف) الْخَصْمُ فِيهِ (نَائِبُ الْإِمَامِ) لِأَنَّهُ وَلِيُّ
مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ كَالْقَوَدِ، وَإِنْ كَفَّنَهُ أَجْنَبِيٌّ
مُتَبَرِّعٌ فَكَذَلِكَ، وَهُوَ الْخَصْمُ فِيهِ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ
عَلَيْهِ؛ لِانْتِفَاءِ صِحَّةِ تَمْلِيكِ الْمَيِّتِ، بَلْ هُوَ إبَاحَةٌ.
(وَمَنْ سَرَقَ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثِ لَفَائِفَ رَجُلٍ وَخَمْسِ
لَفَائِفَ امْرَأَةٍ) لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ
غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ (أَوْ) تُرِكَ الْمَيِّتُ فِي تَابُوتٍ فَأَخَذَ
السَّارِقُ (تَابُوتَه أَوْ أَخَذَ مَا مَعَهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ
أَوْ جَوْهَرٍ لَمْ يُقْطَعْ) السَّارِقُ (لِأَنَّهُ) ؛ أَيْ: الْمَذْكُورُ
سَفَهٌ (غَيْرُ مَشْرُوعٍ) وَتَرْكُ غَيْرِهِ مَعَهُ يَضِيعُ فَلَا يَكُونُ
مُحَرَّزًا بِالْقَبْرِ.
(وَيَتَّجِهُ أَوْ) ؛ أَيْ: وَلَا يُقْطَعُ سَارِقٌ إنْ (سَرَقَ الْمَيِّتَ
بِكَفَنِهِ) لِاتِّصَالِ الْكَفَنِ بِمَا لَا قَطْعَ فِيهِ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ
(وَحِرْزُ بَابٍ تَرْكِيبُهُ بِمَوْضِعِهِ) مَفْتُوحًا كَانَ أَوْ
مُغْلَقًا؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ (وَ) حِرْزُ (حَلَقَتِهِ) ؛ أَيْ:
الْبَابِ (بِتَرْكِيبِهَا فِيهِ) ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ
كَبَعْضِهِ، فَمَنْ أَخَذَ بَابًا مَنْصُوبًا أَوْ مِنْهُ مَا يَبْلُغُ
نِصَابًا؛ قُطِعَ؛ (وَتَازِيرٌ) ؛ أَيْ: مَا يُجْعَلُ فِي أَسْفَلِ
الْحَائِطِ مِنْ لِبَادٍ أَوْ رُفُوفٍ وَنَحْوِهَا (وَ) حِرْزُ
(6/239)
(جِدَارِ دَارٍ) كَوْنُهُ مَبْنِيًّا
فِيهَا إذَا كَانَتْ فِي الْعُمْرَانِ.
(وَحِرْزُ) سَقْفٍ (كَبَابٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ) الدَّارُ
(بِالصَّحْرَاءِ وَفِيهَا حَافِظٌ) فَإِنْ أَخَذَ مِنْ أَجْزَاءِ الدَّارِ
أَوْ خَشَبِهِ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا؛ وَجَبَ قَطْعُهُ؛؛ لِأَنَّ
الْحَائِطَ حِرْزٌ لِغَيْرِهِ، فَيَكُونُ حِرْزًا لِنَفْسِهِ، وَلَا
يُقْطَعُ إنْ هَدَمَ الْحَائِطَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ
الْمَتَاعَ بِحِرْزٍ، بَلْ يَغْرَمُ أَرْشَ الْهَدْمِ إنْ تَعَدَّى بِهِ.
وَأَمَّا أَبْوَابُ الْخَزَائِنِ فِي الدَّارِ فَإِنْ كَانَتْ أَبْوَابُ
الدِّيَارِ مُغْلَقَةً فَهِيَ مُحَرَّزَةٌ (مُغْلَقَةً) كَانَتْ (أَبْوَابُ
الْخَزَائِنِ) أَوْ مَفْتُوحَةً وَإِنْ كَانَ بَابُ الدَّارِ مَفْتُوحًا
لَمْ تَكُنْ أَبْوَابُ الْخَزَائِنِ مُحْرَزَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ
مُغْلَقَةً أَوْ يَكُونَ فِي الدَّارِ حَافِظٌ يَحْفَظُهَا (وَنَوْمٌ)
مُبْتَدَأٌ (عَلَى رِدَاءِ) بِمَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ (أَوْ عَلَى مِجَرِّ
فَرَسٍ وَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ) ؛ أَيْ: الرِّدَاءِ أَوْ مَجَرِّ الْفَرَسِ
(وَنَعْلٌ بِرِجْلٍ) وَمِثْلُهُ خُفٌّ (وَعِمَامَةٌ عَلَى الرَّأْسِ
حِرْزٌ) خَبَرٌ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا يُحْرَزُ عَادَةً؛؛ لِأَنَّهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ
مِنْ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُتَوَسِّدُهُ» ، فَإِنْ زَالَ النَّائِمُ عَنْ
الرِّدَاءِ أَوْ مَجَرِّ الْفَرَسِ، أَوْ كَانَتْ النَّعْلُ بِغَيْرِ
رِجْلِهِ؛ فَلَا قَطْعَ إنْ لَمْ يَكُنْ بِنَحْوِ دَارٍ.
(فَمَنْ نَبَشَ قَبْرًا أَوْ أَخَذَ الْكَفَنَ) الْمَشْرُوعَ وَبَلَغَ
نِصَابًا؛ قُطِعَ، لَا مَنْ وَجَدَ قَبْرًا مَنْبُوشًا، فَأَخَذَ مِنْهُ
كَفَنًا.
(أَوْ سَرَقَ رِتَاجَ الْكَعْبَةِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ بَابُهَا الْعَظِيمُ؛
قُطِعَ؛ (أَوْ) إنْ سَرَقَ (بَابَ مَسْجِدٍ) قُطِعَ (أَوْ سَقْفَهُ أَوْ
تَازِيرُهُ) قُطِعَ (أَوْ سَحَبَ رِدَاءَهُ) ؛ أَيْ: النَّائِمِ مِنْ
تَحْتِهِ، (أَوْ) سَحَبَ (مَجَرَّ فَرَسٍ مِنْ تَحْتِهِ، أَوْ سَحَبَ
نَعْلًا مِنْ رِجْلٍ، وَبَلَغَ) مَا أَخَذَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ
(نِصَابًا؛ قُطِعَ) سَارِقُهُ؛ لِسَرِقَتِهِ نِصَابًا مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ
لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِمَا يَتَعَلَّقُ
بِالْمَسْجِدِ لِلْإِمَامِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَ (لَا) يُقْطَعُ
بِسَرِقَةِ (سِتَارَةِ الْكَعْبَةِ الْخَارِجِيَّةِ) نَصًّا (وَلَوْ)
كَانَتْ (مَخِيطَةً عَلَيْهَا) كَغَيْرِ الْمَخِيطَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ
مُحَرَّزَةٍ (وَلَا بِ) سَرِقَةِ (قَنَادِيلِ مَسْجِدٍ، وَيَتَّجِهُ
وَلَوْ) كَانَتْ الْقَنَادِيلُ (لِزِينَةٍ) وَهَذَا الِاتِّجَاهُ حَشْوٌ
لَا طَائِلَ تَحْتَهُ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقْطَعْ
(6/240)
بِقَنَادِيلِ الشَّعْلِ، فَلَأَنْ لَا
يُقْطَعَ بِقَنَادِيلِ الزِّينَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ قَنَادِيلَ الزِّينَةِ
لَا حُرْمَةَ لَهَا، وَكَذَلِكَ قَنَادِيلُ الشَّعْلِ؛ فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْمَسْجِدِ (وَحُصْرِهِ)
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُعَدٌّ لِنَفْعِ الْمُصَلِّينَ كَقَفَصٍ
يَضَعُونَ نِعَالَهُمْ فِيهِ وَخَابِيَةٍ يَشْرَبُونَ مِنْهَا (إنْ كَانَ)
السَّارِقُ (مُسْلِمًا) ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا كَسَرِقَتِهِ مِنْ
بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا؛ قُطِعَ.
(وَمَنْ سَرَقَ ثَمَرًا) يَنْتَفِعُ بِهِ، سَوَاءً كَانَ مَأْكُولًا أَوْ
لَا (أَوْ) سَرَقَ (طَلْعًا أَوْ) سَرَقَ (جُمَّارًا) وَهُوَ قَلْبُ
النَّخْلَةِ، وَمِنْهُ يَخْرُجُ التَّمْرُ وَالسَّعَفُ وَتَمُوتُ
بِقَطْعِهِ، وَيُرَادِفُهُ الْكُثْرُ (أَوْ) سَرَقَ (مَاشِيَةً) فِي
الْمَرْعَى (مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ كَمِنْ شَجَرَةٍ وَلَوْ) كَانَتْ
الشَّجَرَةُ (بِبُسْتَانٍ مَحُوطٍ عَلَيْهِ فِيهِ حَافِظٌ؛ فَلَا قَطْعَ)
لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مَرْفُوعًا. «لَا قَطْعَ فِي تَمْرٍ وَلَا
كَثَرٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.
(وَأُضْعِفَتْ) عَلَى سَارِقِهِ (قِيمَتُهُ) ؛ أَيْ: الْمَسْرُوقِ مِنْ
شَجَرٍ أَوْ طَلْعٍ أَوْ جُمَّارٍ أَوْ مَاشِيَةٍ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ
فَيَضْمَنُ عِوَضًا عَمَّا سَرَقَهُ مَرَّتَيْنِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
«سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الثَّمَرِ
الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ مِنْهُ بُغْيَةً مِنْ ذِي حَاجَةٍ
غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ
مِنْهُ؛ فَعَلَيْهِ غَرَامَةٌ مِثْلِيَّةٌ وَالْعُقُوبَةُ وَمَنْ سَرَقَ
مِنْهُ شَيْئًا بَعْد أَنْ يَأْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ
الْمِجَنِّ؛ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ
وَأَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ لَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا
يَدْفَعُهُ.
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ غَرَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي
بَلْتَعَةَ حِينَ
(6/241)
نَحَرَ غِلْمَانُهُ نَاقَةَ رَجُلٍ مِنْ
مُزَيْنَةُ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ
وَالْخُبْنَةُ بِخَاءِ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ بَاءَ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ نُونٍ
الْحُجْزَةُ - وَهِيَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ، وَمِنْ السَّرَاوِيلِ مَوْضِعُ
التِّكَّةِ. قَالَ فِي " الْقَامُوسِ ": نُكِلَ الطَّعَامَ غَيَّبَهُ
وَخَبَّأَهُ لِلشِّدَّةِ، وَالْخُبْنَةُ بِالضَّمِّ مَا تَحْمِلهُ فِي
حِصْنِك. انْتَهَى.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّ سَارِقَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ
مَرَّتَيْنِ (وَلَوْ) كَانَ (مِثْلِيًّا) لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ (كَمَاشِيَةٍ تُسْرَقُ مِنْ الْمَرْعَى بِلَا حِرْزٍ وَكَكَاتِمٍ
مُحَرَّمٍ الْتِقَاطُهُ فَتَلِفَ) فَلَا يُقْطَعُ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ
مَرَّتَيْنِ.
(وَيُقْطَعُ) مَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ (بَعْدَ وَضْعٍ
بِجَرِينٍ وَنَحْوِهِ) كَمِسْطَاحٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحَرَّزًا، (أَوْ)
سَرَقَ نِصَابًا مِنْ ثَمَرٍ (مِنْ شَجَرَةٍ بِدَارٍ مُحَرَّزَةٍ)
لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ السَّابِقِ، وَلَا تُضَعَّفُ الْقِيمَةُ
فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ
الْقِيَاسِ لِلنَّصِّ.
(وَلَا قَطْعَ) بِسَرِقَةٍ (عَامَ مَجَاعَةٍ غَلَاءٍ إنْ لَمْ يَجِدْ)
سَارِقٌ (مَا يَشْتَرِيه أَوْ مَا يَشْتَرِي بِهِ) نَصًّا. قَالَ
جَمَاعَةٌ: مَا لَمْ يُبْذَلْ لَهُ وَلَوْ بِثَمَنٍ غَالٍ. وَفِي "
التَّرْغِيبِ " مَا تَحْيَا بِهِ نَفْسُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُضْطَرِّ.
(الشَّرْطُ السَّادِسُ انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ؛ فَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةٍ) [
(مِنْ) مَالٍ (عَمُودَيْ نَسَبِهِ) ] ؛ أَيْ: السَّارِقِ، أَمَّا
سَرِقَتُهُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ فَلِحَدِيثِ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيكَ»
) وَأَمَّا سَرِقَتُهُ مِنْ مَالِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ
جَدَّتِهِ وَإِنْ
(6/242)
عَلَوْا، أَوْ مِنْ مَالِ وَلَدِ ابْنِهِ
أَوْ وَلَدِ بِنْتِهِ وَإِنْ سَفُلَا؛ فَلِأَنَّ بَيْنهمْ قَرَابَةً
تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَلِأَنَّ
النَّفَقَةَ تَجِبُ لِأَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ حِفْظًا لَهُ؛ فَلَا
يَجُوزُ إتْلَافُهُ حِفْظًا لِلْمَالِ.
(وَلَا) قَطْعَ بِسَرِقَةٍ (مِنْ مَالٍ لَهُ) ؛ أَيْ: السَّارِقِ (فِيهِ
شِرْكٌ، أَوْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ لَا يُقْطَعُ) السَّارِقُ (بِالسَّرِقَةِ
مِنْهُ) فِيهِ شِرْكٌ كَأَبِيهِ وَوَلَدِهِ؛ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ فِيهِ
بِالْبَعْضِ الَّذِي لَا يَجِبُ بِسَرِقَتِهِ قَطْعٌ، وَ (لَا) قَطْعَ
بِسَرِقَةٍ (مِنْ غَنِيمَةٍ لِأَحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ) مِنْ سَارِقٍ
وَعَمُودَيْ نَسَبِهِ (فِيهَا حَقٌّ) قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَكَذَا لَوْ
سَرَقَ قِنٌّ مِنْ غَنِيمَةٍ لِسَيِّدِهِ فِيهَا حَقٌّ.
(وَلَا) قَطْعَ بِسَرِقَةِ (مُسْلِمٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِقَوْلِ
عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا قَطْعَ،
مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ. وَرَوَى سَعِيدٌ
عَنْ عَلِيٍّ: لَيْسَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَطْعٌ
(وَلَوْ) كَانَ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ (قِنًّا) صَرَّحَ بِهِ
ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، وَقَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ " وَغَيْرِهِ،
وَصَحَّحَهُ فِي " التَّنْقِيحِ "؛ لِأَنَّ قِنَّ الْمُسْلِمِ لَهُ
شُبْهَةٌ، وَهُوَ أَنَّ سَيِّدَهُ لَوْ افْتَقَرَ عَنْ نَفَقَتِهِ، وَلَمْ
يَكُنْ لِلْقِنِّ كَسْبٌ فِي نَفْسِهِ؛ كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ
الْمَالِ (وَ) ؛ لِأَنَّهُ (لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةٍ مِنْ مَالٍ لَا
يُقْطَعُ بِهِ سَيِّدُهُ) وَسَيِّدُهُ لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ
بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا هُوَ، (وَلَا) قَطْعَ (بِسَرِقَةِ) مُكَاتَبٍ مِنْ
مَكَاتِبِهِ (وَعَكْسُهُ كَقِنِّهِ) إذْ الْمُكَاتَبُ قِنٌّ مَا بَقِيَ
عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ
عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنْ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ إلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقْطَعْهُ،
وَقَالَ: مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا» .
(وَلَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ مِنْ الْآخَرِ وَلَوْ
أُحْرِزَ عَنْهُ) رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عَمْرٍو بِإِسْنَادِ جَيِّد،
وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرِثُ صَاحِبَهُ بِغَيْرِ حَجْبٍ يَتَبَسَّطُ
فِي مَالِهِ، أَشْبَهَ الْوَلَدَ مَعَ الْوَالِدِ، وَكَمَا لَوْ مَنَعَهَا
نَفَقَتَهَا.
(وَلَا) قَطْعَ (بِسَرِقَةِ مَسْرُوقٍ مِنْهُ أَوْ) سَرِقَةِ (مَغْصُوبٍ
مِنْهُ مَالُ سَارِقٍ
(6/243)
أَوْ) مَالُ (غَاصِبٍ مِنْ الْحِرْزِ
الَّذِي فِيهِ الْعَيْنُ الْمَسْرُوقَةُ أَوْ) مِنْ الْحِرْزِ الَّذِي
فِيهِ الْعَيْنُ (الْمَغْصُوبَةُ) ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مِنْهُمَا شُبْهَةً
فِي هَتْكِ الْحِرْزِ إذَنْ لِأَخْذِ عَيْنِ مَالِهِ، فَإِذَا هَتَكَهُ
صَارَ كَأَنَّ الْمَالَ الْمَسْرُوقَ مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ أَخَذَهُ مِنْ
غَيْرِ حِرْزٍ (وَإِنْ سَرَقَهُ) ؛ أَيْ: سَرَقَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَوْ
الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مَالَ سَارِقٍ أَوْ غَاصِبٍ (مِنْ حِرْزٍ آخَرَ)
غَيْرِ الَّذِي بِهِ مَا سَرَقَ مِنْهُ أَوْ غَصَبَ مِنْهُ؛ قُطِعَ
بِسَرِقَتِهِ مِنْ حِرْزِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ.
(وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ
مَالِ سَارِقٍ أَوْ غَاصِبٍ مِنْ حِرْزٍ غَيْرِ الَّذِي بِهِ الْمَالُ
الْمَسْرُوقُ أَوْ الْمَغْصُوبُ [ (عَلَى تَوَهُّمٍ أَنَّهُ) ؛ أَيْ:
الْمَالَ الْمَسْرُوقَ أَوْ الْمَغْصُوبَ فِيهِ] لِلشُّبْهَةِ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ (أَوْ سَرَقَ مِنْ مَالِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ) قُطِعَ؛
لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَالِ وَلَا فِي الْحِرْزِ (لَا) إنْ
سَرَقَ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ (بِقَدْرِهِ) ؛ أَيْ: الدَّيْنِ (لِعَجْزِهِ)
عَنْ اسْتِخْلَاصِهِ بِحَاكِمٍ؛ لِإِبَاحَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْأَخْذَ
إذَنْ كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحِ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَإِنْ سَرَقَ أَكْثَرَ
مِنْ دَيْنِهِ، وَبَلَغَ الزَّائِدُ نِصَابًا قُطِعَ (أَوْ) سَرَقَ
(عَيْنًا قُطِعَ بِهَا) ؛ أَيْ: بِسَرِقَتِهَا (فِي سَرِقَةٍ أُخْرَى)
مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ حِرْزِهَا الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرِهِ؛ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ؛ أَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ
غَيْرَهَا؛ بِخِلَافِ حَدِّ قَذْفٍ فَلَا يُعَادُ بِإِعَادَةِ الْقَذْفِ؛
لِأَنَّ الْغَرَضَ إظْهَارُ كَذِبِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ
(أَوْ أَجَّرَ إنْسَانٌ دَارِهِ أَوْ أَعَارَ دَارِهِ، ثُمَّ سَرَقَ)
مُؤَجِّرٌ (مِنْهَا مَالُ مُسْتَأْجِرٍ، أَوْ) سَرَقَ مِنْهَا مَالُ
(مُسْتَعِيرٍ) قُطِعَ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَالِ وَلَا فِي
هَتْكِ الْحِرْزِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ
الْمُسْتَعِيرِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَغْصُوبَ دَارُهُ لَا قَطْعَ
عَلَيْهِ بِسَرِقَتِهِ مِنْهَا.
(أَوْ) سَرَقَ (مِنْ) مَالِ (قَرَابَةٍ) لَهُ (غَيْرِ عَمُودَيْ نَسَبِهِ
كَأَخِيهِ) وَعَمِّهِ وَخَالِهِ؛ قُطِعَ؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهُ لَا تَمْنَعُ
قَبُولَ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ؛ فَلَا تَمْنَعُ الْقَطْعَ.
(أَوْ) سَرَقَ (مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ مِنْ مُسْتَأْمَنٍ) أَوْ
سَرَقَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ
(6/244)
(قُطِعَ) سَارِقٌ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلٍّ
مِنْهُمَا مَعْصُومٌ كَسَرِقَةِ مُسْلِمٍ مِنْ مُسْلِمٍ، وَيُقْطَعُ
الْمُرْتَدُّ إذَا سَرَقَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ قُتِلَ
لِلرِّدَّةِ اُكْتُفِيَ بِقَتْلِهِ.
(وَمَنْ سَرَقَ) وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ السَّرِقَةُ (بِبَيِّنَةٍ) شَهِدَتْ
أَنَّهُ سَرَقَ (عَيْنًا) فَأَنْكَرَ؛ لَمْ يُسْمَعْ إنْكَارُهُ.
وَإِنْ قَالَ: احْلِفُوا أَنِّي سَرَقْت مِنْهُ لَمْ يُجَبْ لِذَلِكَ؛
لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ ثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي الْإِحْلَافِ
قَدْحٌ فِي الشَّهَادَةِ (ف) إنْ (ادَّعَى مِلْكَهَا) ؛ أَيْ: الْعَيْنِ
(أَوْ) ادَّعَى مِلْكَ (بَعْضِهَا) وَأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ الْمَسْرُوقِ
مِنْهُ رَهْنًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ غَصْبًا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ثَبَتَتْ لَهُ،
فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَى السَّارِقِ، وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ
لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ، وَلِهَذَا حَلَّفْنَا الْمَسْرُوقَ مِنْهُ، وَإِنْ
نَكَلَ قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ (أَوْ) سَرَقَ عَيْنًا وَادَّعَى
الْإِذْنَ مِنْ صَاحِبِ الْحِرْزِ (فِي دُخُولٍ؛ لَمْ يُقْطَعْ وَلَوْ)
كَانَ (مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ) لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ؛
فَهُوَ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ السَّارِقَ
الظَّرِيفَ (وَ) حَيْثُ تَقَرَّرَ أَنْ لَا قَطْعَ فَإِنَّ الْعَيْنَ
الْمَسْرُوقَةَ (يَأْخُذُهَا) مِنْ السَّارِقِ الْمُدَّعِي مِلْكَهَا أَوْ
مِلْكَ بَعْضِهَا (مَسْرُوقٌ مِنْهُ بِيَمِينِهِ) أَنَّهَا مِلْكُهُ،
وَلَيْسَ لِلسَّارِقِ فِيهَا مِلْكٌ.
الشَّرْطُ (السَّابِعُ ثُبُوتُهَا) ؛ أَيْ السَّرِقَةِ (بِشَهَادَةِ
عَدْلَيْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَكَانَ الْقِيَاسُ قَبُولَ اثْنَيْنِ فِي
كُلِّ شَهَادَةٍ، لَكِنْ خُولِفَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ النَّصِّ فِيهِ
فَبَقِيَ فِيمَا عَدَاهُ عَلَى عُمُومِهِ (يَصِفَانِهَا) ؛ أَيْ:
السَّرِقَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا، وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ
فَيُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كَالزِّنَا (وَلَا تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمَا
قَبْلَ الدَّعْوَى) مِنْ مَالِك الْمَسْرُوقِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ
فَلَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي وَقْتِ السَّرِقَةِ أَوْ مَكَانِهَا
أَوْ فِي الْمَسْرُوقِ؛ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَرَقَ يَوْمَ
الْخَمِيسِ أَوْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ سَرَقَ ثَوْرًا أَوْ ثَوْبًا
أَبْيَضَ أَوْ هُرُوبًا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَرَقَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ أَوْ مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بَقَرَةً أَوْ حِمَارًا أَوْ ثَوْبًا
(6/245)
أَسْوَدَ أَوْ مَرْوِيًّا؛ لَمْ يُقْطَعُ
الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ اتِّفَاقِهِمَا، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا
فِي الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ، (أَوْ بِإِقْرَارِ) السَّارِقِ
(مَرَّتَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا، فَاعْتُبِرَ تَكْرَارُ
الْإِقْرَارِ فِيهِ كَالزِّنَا، أَوْ يُقَالُ إنَّ الْإِقْرَارَ أَحَدُ
حُجَّتَيْ الْقَطْعِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا التَّكْرَارُ كَالشَّهَادَةِ،
وَقَدْ رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ:
لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ،
حَكَاهَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا، وَاحْتَجَّ بِهِ (وَيَضَعُهَا) ؛
أَيْ: السَّرِقَةَ السَّارِقُ (فِي كُلِّ مَرَّةٍ) لِاحْتِمَالِ ظَنِّهِ
وُجُوبَ الْقَطْعِ عَلَيْهِ مَعَ فَقْدِ بَعْضِ شُرُوطِهِ (وَلَا يَرْجِعُ)
عَنْ إقْرَارِهِ (حَتَّى يُقْطَعَ) فَإِنْ رَجَعَ؛ تُرِكَ (وَلَا بَأْسَ
بِتَلْقِينِهِ) ؛ أَيْ: السَّارِقِ (الْإِنْكَارَ) لِحَدِيثِ ابْنِ
أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ فَقَالَ: مَا أَخَالُكَ سَرَقْت
قَالَ: بَلَى، فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ قَالَ بَلَى: فَأَمَرَ
بِهِ فَقُطِعَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
الشَّرْطُ (الثَّامِنُ مُطَالَبَةُ مَسْرُوقٍ مِنْهُ بِمَالِهِ هُوَ أَوْ)
مُطَالَبَةُ (وَكِيلِهِ أَوْ) مُطَالَبَةُ (وَلِيِّهِ) إنْ كَانَ
مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِحَظِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يُبَاحُ بِالْبَذْلِ
وَالْإِبَاحَةِ، فَيُحْتَمَلُ إبَاحَةُ مَالِكِهِ إيَّاهُ وَإِذْنُهُ لَهُ
فِي دُخُولِ حِرْزِهِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُسْقِطُ الْقَطْعَ، فَإِذَا
طَالَبَ رَبُّ الْمَالِ زَالَ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَانْتَفَتْ
الشُّبْهَةُ.
وَلَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُمْ (جَمَاعَةً) فَلَا بُدَّ أَنْ
يُطَالِبَ (كُلُّهُمْ) بِالسَّرِقَةِ فَلَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ بِطَلَبِ
بَعْضِهِمْ كَأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا.
(فَلَوْ أَقَرَّ) شَخْصٌ بِسَرِقَةٍ مِنْ غَائِبٍ أَوْ قَامَتْ بِهَا
بَيِّنَةٌ (اُنْتُظِرَ حُضُورُهُ وَدَعْوَاهُ) أَيْ الْغَائِبِ
(وَمُطَالَبَتِهِ) لِلسَّارِقِ؛ لِتَكْمُلَ شُرُوطُ الْقَطْعِ، وَلَكِنْ
لَا يُخْلَى سَبِيلُهُ (فَيُحْبَسُ السَّارِقُ) إلَى قُدُومِ الْغَائِبِ
وَطَلَبِهِ أَوْ تَرْكِهِ (وَتُعَادُ) شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ
دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَهَا عَلَيْهَا شَرْطٌ لِلِاعْتِدَادِ بِهَا
(وَإِنْ كَذَّبَ مُدَّعٍ نَفْسَهُ) فِي شَيْءٍ مِمَّا يُوجِبُ الْقَطْعَ
(سَقَطَ الْقَطْعُ) لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَلَا بُدَّ فِي السَّارِقِ أَنْ
يَكُونَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ شُبْهَةٌ فِي جَوَازِ
السَّرِقَةِ، فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى
الْقَذْفِ.
(6/246)
تَتِمَّةٌ: وَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ
عَلَى إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ جَحَدَ، وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ
بِذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ وَلَوْ أَقَرَّ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ ثَبَتَ
بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَوْ إقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ؛ لَزِمَهُ
غَرَامَةُ الْمَسْرُوقِ، وَلَا قَطْعَ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ وَقَدْ
قُطِعَ بَعْضُ الْمَفْصِلِ لَمْ يُتَمِّمْ إنْ كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ،
لِكَوْنِهِ قَطَعَ الْأَقَلَّ، وَإِنْ قُطِعَ لِأَكْثَرَ فَالْمَقْطُوعُ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَهُ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ تَعْلِيقِ كَفِّهِ،
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَلَا يَلْزَمُ الْقَاطِعَ قَطْعُهُ؛ لِأَنَّ
قَطْعَهُ تَدَاوٍ وَلَيْسَ بِحَدٍّ.
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا
أَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا، فَطَالَبَ، وَلَمْ يُطَالِبْ الْآخَرُ، لَمْ
يُقْطَعْ، فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ شَخْصٍ شَيْئًا يَبْلُغُ
نِصَابًا، فَقَالَ الشَّخْصُ قَدْ فَقَدْتُهُ مِنْ مَالِي، فَيَنْغِي أَنْ
يُقْطَعَ.
[فَصْلٌ إذَا وَجَبَ قَطْعُ السَّارِقِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى]
فَصْلٌ (وَإِذَا أُوجِبَ الْقَطْعُ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى)
لِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " فَاقْطَعُوا " أَيْمَانَهُمَا وَهُوَ إمَّا
قِرَاءَةٌ أَوْ تَفْسِيرٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إذْ لَا يُظَنُّ بِمِثْلِهِ أَنْ يُثْبِتَ فِي
الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَا
مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ (لِإِهْدَارِهَا) بِسَبَبِ
جِنَايَتِهَا؛ إذْ السَّرِقَةُ لَا تَكُونُ غَالِبًا إلَّا بِهَا
فَأُهْدِرَتْ لِذَلِكَ (مِنْ مِفْصَلِ كَفِّهِ) لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنْ الْكُوعِ وَلِأَنَّ الْيَدَ
تُطْلَقُ عَلَيْهَا إلَى الْكُوعِ وَإِلَى الْمِرْفَقِ وَإِلَى
الْمَنْكِبِ، وَإِرَادَةُ مَا سِوَى الْأَوَّلِ مَشْكُوكٌ فِيهِ؛ فَلَا
يُقْطَعُ مَعَ الشَّكِّ.
(وَحُسِمَتْ وُجُوبًا) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فِي سَارِقٍ: «اقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي
إسْنَادِهِ مَقَالٌ.
وَحَسْمُهَا بِغَمْسِهَا فِي زَيْتٍ مَغْلِيٍّ لِسَدِّ أَفْوَاهِ
الْعُرُوقِ، فَيَنْقَطِعُ الدَّمُ، إذْ لَوْ تُرِكَ بِلَا حَسْمٍ لَنَزَفَ
الدَّمُ، فَأَدَّى إلَى مَوْتِهِ الْعُرُوقُ.
(6/247)
(وَسُنَّ تَعْلِيقُهَا) ؛ أَيْ: يَدُ
السَّارِقِ الْمَقْطُوعَةِ (فِي عُنُقِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامِ إنْ رَآهُ
الْإِمَامُ) ؛ أَيْ: أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ لِتَتَّعِظَ
السُّرَّاقُ (فَإِنْ عَادَ) مَنْ قُطِعَتْ يَمِينُهُ إلَى السَّرِقَةِ
(قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى) مَعَ بُرْءِ يَدِهِ (الْأُولَى) ؛ أَيْ:
الَّتِي قُطِعَتْ أَوَّلًا (وَإِلَّا) بِأَنْ عَادَ ثَانِيًا إلَى
السَّرِقَةِ قَبْلَ الْبُرْءِ (ف) لَا تُقْطَعُ رِجْلُهُ (حَتَّى
تَنْدَمِلَ) يَدُهُ؛ أَيْ يَبْرَأَ جُرْحَهَا (مِنْ مِفْصَلِ كَعْبِهِ
بِتَرْكِ عَقِبِهِ) لِفِعْلِ عُمَرَ، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ
يَقْطَعُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ مِنْ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَيَتْرُكُ لَهُ
عَقِبًا يَمْشِي عَلَيْهَا، وَالْأَصْلُ فِي قَطْعِ الرَّجُلِ فِي
الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي السَّارِقِ: إنْ سَرَقَ
فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ» .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ
الصَّحَابَةِ، فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا قُطِعَتْ الرِّجْلُ
الْيُسْرَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي
الْمُحَارَبَةِ ثَبَتَ فِي السَّرِقَةِ قِيَاسًا عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ
قَطْعَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى أَرْفَقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى
الرِّجْلِ الْيُمْنَى أَسْهَلُ وَأَمْكَنُ، وَيَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَنْ
يَتَمَكَّنَ مِنْ الْمَشْيِ عَلَى الْيُسْرَى، فَوَجَبَ قَطْعُ الْيُسْرَى
لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ بِلَا ضَرُورَةٍ (وَحُسِمَتْ)
وُجُوبًا، وَصِفَةُ الْقَطْعِ أَنْ يَجْلِسَ السَّارِقُ وَيُضْبَطَ،
لِئَلَّا يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَتُشَدَّ يَدُهُ
بِحَبْلٍ، أَوْ تُجَرَّ حَتَّى يَتَيَقَّنَ الْمِفْصَلَ، ثُمَّ تُوضَعُ
السِّكِّينُ، وَتُجَرُّ بِقُوَّةٍ لِيُقْطَعَ فِي مَرَّةٍ (فَإِنْ عَادَ)
فَسَرَقَ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ (حُبِسَ حَتَّى يَتُوبَ،
وَيَحْرُمُ أَنْ يُقْطَعَ) .
رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " حَضَرْت
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أُتِيَ بِرَجُلٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ
قَدْ سَرَقَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا؟ قَالُوا:
اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: أَقْتُلُهُ إذَنْ، وَمَا
عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ الطَّعَامَ؛ بِأَيِّ شَيْءٍ
يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ؛ بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ لِحَاجَتِهِ؟ فَرَدَّهُ
إلَى السِّجْنِ أَيَّامًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ،
فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوَّلِ؛ وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ
أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ فَجَلَدَهُ جَلْدًا شَدِيدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ ". رَوَاهُ
سَعِيدٌ.
وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ يَدِهِ
(6/248)
الْأُخْرَى تَفْوِيتًا لِمَنْفَعَةِ جِنْسِ
الْيَدِ وَذَهَابِ عُضْوَيْنِ مِنْ شِقٍّ وَحِكْمَةُ حَبْسِهِ كَفُّهُ عَنْ
السَّرِقَةِ وَتَعْزِيرُهُ.
(فَلَوْ سَرَقَ) شَخْصٌ (وَيَمِينُهُ) ؛ أَيْ: يَمِينُ يَدَيْهِ ذَاهِبَةٌ
(أَوْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ذَاهِبَةٌ قُطِعَ الْبَاقِي مِنْهُمَا) ؛ أَيْ:
مِنْ يَمِينِ يَدَيْهِ وَيُسْرَى رِجْلَيْهِ، فَتُقْطَعُ رِجْلُهُ
الْيُسْرَى فِي الصُّورَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا خَرَجَتْ
عَنْ كَوْنِهَا مَحَلًّا لِلْقَطْعِ انْتَقَلَ الْقَطْعُ إلَى مَا يَلِي
ذَلِكَ، وَهُوَ الرِّجْلُ الْيُسْرَى، وَتُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي
الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا الْآلَةُ أَوْ مَحَلُّ الْقَطْعِ، لِأَنَّهُ
مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ لَا تَتَعَطَّلُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ شِقٍّ
وَاحِدٍ.
(وَلَوْ كَانَ الذَّاهِبُ) مِنْ السَّارِقِ (يَدَهُ الْيُسْرَى وَرِجْلَهُ
الْيُمْنَى؛ لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ) لِتَعْطِيلِ مَنْفَعَةِ
الْجِنْسِ، وَذَهَابِ عُضْوَيْنِ مِنْ شِقٍّ بِذَلِكَ الْقَطْعِ لَوْ
فَعَلَ (وَلَوْ كَانَ) الذَّاهِبُ (يَدَيْهِ أَوْ يُسْرَاهُمَا؛ لَمْ
تُقْطَعْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى) لِذَهَابِ عُضْوَيْنِ مِنْ شِقٍّ (وَلَوْ
كَانَ) الذَّاهِبُ (رِجْلَيْهِ أَوْ يُمْنَاهُمَا) أَيْ يُمْنَى رِجْلَيْهِ
(قُطِعَتْ يُمْنَا يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهَا الْآلَةُ، وَمَحَلُّ النَّصِّ)
وَلَا يَذْهَبُ بِقَطْعِهَا مَنْفَعَةُ جِنْسِهَا (وَلَوْ ذَهَبَ بَعْدَ
سَرِقَتِهِ يُمْنَى) يَدَيْهِ (أَوْ يُسْرَى يَدَيْهِ أَوْ) ذَهَبَ بَعْدَ
سَرِقَتِهِ يُمْنَى أَوْ يُسْرَى يَدَيْهِ (مَعَ رِجْلَيْهِ أَوْ) ذَهَبَ
يُمْنَى أَوْ يُسْرَى يَدَيْهِ مَعَ (إحْدَاهُمَا) ؛ أَيْ: إحْدَى
رِجْلَيْهِ (سَقَطَ الْقَطْعُ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِتَلَفِ مَحَلِّ
الْقَطْعِ كَمَا لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ قَوَدٌ، وَأَمَّا سُقُوطُهُ فِي
الثَّانِيَةِ فَلِذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ بِقَطْعِ يُمْنَاهُ،
وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَكَذَلِكَ وَأَوْلَى.
وَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعَ (إنْ كَانَ الذَّاهِبُ) بَعْدَ سَرِقَتِهِ
(يُمْنَى) رِجْلَيْهِ (أَوْ يُسْرَى رِجْلَيْهِ أَوْ هُمَا) ، أَيْ:
رِجْلَيْهِ؛ لِبَقَاءِ مَنْفَعَةِ جِنْسِ الْمَقْطُوعَةِ.
(وَالشَّلَّاءُ) مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ (وَلَوْ أَمِنَ تَلَفَهُ
بِقَطْعِهَا) كَمَعْدُومَةٍ (وَمَا ذَهَبَ مُعْظَمُ نَفْعِهَا) مِنْ يَدٍ
أَوْ رِجْلٍ (كَمَعْدُومَةٍ) كَأَنْ ذَهَبَ مِنْهَا ثَلَاثُ أَصَابِعَ (لَا
مَا) أَيْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ (ذَهَبَ مِنْهَا خِنْصِرٌ أَوْ بِنْصِرٌ)
بِكَسْرِ الصَّادِ فِيهِمَا فَقَطْ (أَوْ) ذَهَبَ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ
(أُصْبُعٌ سِوَاهُمَا) أَيْ الْخِنْصِرِ وَالْبِنْصِرِ
(6/249)
(وَلَوْ) كَانَتْ الْإِصْبَعُ الذَّاهِبَةُ
(الْإِبْهَامَ) فَلَيْسَتْ كَالْمَعْدُومَةِ؛ لِبَقَاءِ مُعْظَمِ
نَفْعِهَا؛ فَيُقْطَعُ مِنْ السَّارِقِ مَا وَجَبَ قَطْعُهُ.
(وَإِنْ وَجَبَ قَطْعُ يُمْنَاهُ) هُوَ، أَيْ: السَّارِقِ (فَقَطَعَ
قَاطِعٌ يُسْرَاهُ) بِلَا إذْنِهِ عَمْدًا فَعَلَيْهِ (الْقَوَدُ)
لِقَطْعِهِ عُضْوًا مَعْصُومًا، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِبْ قَطْعُ يُمْنَاهُ
(وَإِلَّا يَتَعَمَّدْ قَطْعَ يُسْرَاهُ؛ ف) عَلَيْهِ (الدِّيَةُ) ؛ أَيْ:
دِيَةُ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ.
(وَلَا تُقْطَعُ يُمْنَى السَّارِقِ) بَعْدَ قَطْعِ يُسْرَاهُ؛ لِئَلَّا
يُفْضِيَ إلَى تَعْطِيلِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ.
جَزَمَ بِهِ فِي التَّصْحِيحِ وَالنَّظْمِ، وَصَحَّحَهُ فِي " الْإِنْصَافِ
" وَقَدَّمَهُ فِي الْمُنْتَهَى "؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مَرَّةً
ثَالِثَةً لَا تُقْطَعُ يُسْرَى يَدَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَفِي "
التَّنْقِيحِ " بَلَى) قَالَ: " وَإِنْ قَطَعَ الْقَاطِعُ يُسْرَاهُ
عَمْدًا أَوْ خَطَأً قُطِعَتْ يُمْنَاهُ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
(وَيَجْتَمِعُ قَطْعٌ وَضَمَانٌ) عَلَى سَارِقٍ نَصًّا؛ لِأَنَّهُمَا
حَقَّانِ يَجِبَانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ؛ فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا
كَالْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ فِي صَيْدِ مَمْلُوكٍ مِنْ الْحَرَمِ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا (فَيَرُدُّ) سَارِقٌ " مَا سَرَقَهُ " (لِمَالِكِهِ،
وَإِنْ تَلَفَ) مَسْرُوقٌ فَعَلَى سَارِقٍ (بَدَلُهُ) وَيَكُونُ مِثْلَ
مِثْلَيْ وَقِيمَةَ مُتَقَوِّمٍ؛ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَرْفُوعًا: «إذَا
أَقَمْتُمْ الْحَدَّ عَلَى السَّارِقِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ» . قَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْحَدِيثُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ
(وَيُعِيدُ) السَّارِقُ (مَا خَرَّبَ مِنْ حِرْزٍ) مُحْتَرَمٍ
بِالنِّسْبَةِ لَهُ، لِتَعَدِّيهِ، لَا إنْ كَانَ لَهُ شُبْهَةٌ فِي
هَتْكِهِ وَمِثْلُهُ مُحْرَزٌ كَمَا لَوْ سَرَقَ حَدِيدًا وَصَنَعَهُ
إبَرًا، أَوْ أَوْ سَرَقَ ثَوْبًا، وَقَطَعَهُ، فَعَلَيْهِ إعَادَةُ
الْإِبَرِ كَمَا كَانَتْ، وَرَدُّ الثَّوْبِ مَعَ أَرْشِ النَّقْصِ،
لِتَعَدِّيهِ بِذَلِكَ كَالْغَاصِبِ.
(وَعَلَيْهِ) ؛ أَيْ: السَّارِقِ (أُجْرَةُ قَاطِعٍ) يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ؛
لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَكَانَتْ
مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ (وَ) عَلَيْهِ (ثَمَنُ زَيْتٍ
حُسِمَ) حِفْظًا لِنَفْسِهِ؛ إذْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا التَّلَفُ
بِدُونِهِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ صَحَّحَهُ فِي " التَّصْحِيحِ " "
وَالنَّظْمِ "
(6/250)
وَتَصْحِيحِ الْمُحَرَّرِ " وَجَزَمَ بِهِ
فِي الْوَجِيزِ.
[بَابُ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ]
ِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ نَزَلَتْ فِي قُطَّاعِ
الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: "
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}
[المائدة: 34] " وَالْكُفَّارُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهِمْ وَقَبْلَهَا، وَأَمَّا الْحَدُّ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ
بَعْدَ وُجُوبِهِ.
(وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ الْمُلْتَزِمُونَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ
ذِمَّةٍ وَيُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُهُمْ (وَلَوْ) كَانَ الْمُكَلَّفُ
الْمُلْتَزِمُ (أُنْثَى) ؛ لِأَنَّهَا تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ،
فَلَزِمَهَا حُكْمُ الْمُحَارَبَةِ كَالرَّجُلِ بِجَامِعِ التَّكْلِيفِ
(الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِسِلَاحٍ وَلَوْ) كَانَ سِلَاحُهُمْ
(عِصِيًّا أَوْ حَجَرًا فِي صَحْرَاءَ أَوْ بُنْيَانٍ أَوْ بَحْرٍ)
لِعُمُومِ الْآيَةِ بَلْ ضَرَرُهُمْ فِي الْبُنْيَانِ أَعْظَمُ
(فَيَغْصِبُونَ مَالًا مُحْتَرَمًا مُجَاهَرَةً) فَخَرَجَ الصَّغِيرُ
وَالْمَجْنُونُ وَالْحَرْبِيُّ وَمَنْ يَعْرِضُ لِنَحْوِ صَيْدٍ، أَوْ
يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِلَا سِلَاحٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ مَنْ
قَصَدَهُمْ، وَخَرَجَ أَيْضًا مَنْ يَغْصِبُ نَحْوَ كَلْبٍ أَوْ سِرْجِينٍ
نَجِسٍ أَوْ مَالٍ حَرْبِيٍّ وَنَحْوِهِ (وَمَنْ يَأْخُذُ خِفْيَةً) ؛
لِأَنَّهُ سَارِقٌ، وَأَمَّا الْمُحَارِبُ فَيَعْتَصِمُ بِالْقِتَالِ دُونَ
الْخُفْيَةِ؛ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ مُخْتَفِينَ
فَهُمْ (سُرَّاقٌ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إلَى مَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ،
فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ (وَ) إنْ خَطَفُوا الْمَالَ (خَطْفًا)
وَهَرَبُوا بِهِ (ف) هُوَ (نَهْبٌ لَا قَطْعٌ عَلَيْهِمْ) . لِأَنَّهُمْ
لَيْسُوا قُطَّاعَ طَرِيقٍ.
[شُرُوطُ قَطْعِ الْمُحَارَبَةِ]
(وَيُعْتَبَرُ) لِوُجُوبِ قَطْعِ الْمُحَارَبَةِ ثَلَاثُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا (ثُبُوتُهُ) ؛ أَيْ: قَطْعِ الطَّرِيقِ (بِبَيِّنَةٍ أَوْ
إقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ) كَالسَّرِقَةِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
(6/251)
(وَ) الثَّانِي (الْحِرْزُ) بِأَنْ
يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِ مُسْتَحِقِّيهِ وَهُوَ بِالْقَافِلَةِ، فَلَوْ
وَجَدَهُ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ سَارِقِهِ أَوْ غَاصِبِهِ أَوْ مُنْفَرِدًا
عَنْ قَافِلَةٍ، لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا (وَ) الثَّالِثُ (النِّصَابُ)
الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ (فَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ) مِنْ
الْمُحَارِبِينَ (وَقَدْ قَتَلَ) إنْسَانًا فِي الْمُحَارَبَةِ، وَلَوْ
كَانَ الْقَتْلُ بِمُثْقَلٍ أَوْ سَوْطٍ أَوْ عِصِيٍّ وَلَوْ قَتَلَ (مَنْ
لَا يُقَادُ بِهِ) الْمُحَارِبُ لَوْ قَتَلَهُ فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ
(كَوَلَدِهِ وَكَقِنٍّ) يَقْتُلُهُ حُرٌّ (وَكَذِمِّيٍّ) يَقْتُلُهُ
مُسْلِمٌ، وَكَانَ قَتْلُ كُلٍّ مِمَّنْ ذُكِرَ لِقَصْدِ مَالِهِ، وَأَخَذَ
مَالًا، (قُتِلَ حَتْمًا وَلَوْ عَفَا وَلِيٌّ) لِوُجُوبِهِ لِحَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ (ثُمَّ صُلِبَ عَقِبَهُ) ؛
أَيْ بَعْدَ الْقَتْلِ وَقَبْلَ التَّغْسِيلِ وَالتَّكْفِينِ (قَاتَلَ مَنْ
يُقَادُ بِهِ) لَوْ قَتَلَهُ فِي الْمُحَارَبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] " (حَتَّى يَشْتَهِرَ)
فَيَرْتَدِعَ غَيْرُهُ بِهِ، ثُمَّ يُنْزَلُ (أَوْ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصْلَبُ بَعْدَ ذَلِكَ) ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ
إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ صَلْبِهِ زَجْرُ غَيْرِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ، سَوَاءٌ
كَانَ قَبْلَ التَّغْسِيلِ وَالتَّكْفِينِ أَوْ بَعْدَهُ (وَلَا يُقْطَعُ
مَعَ ذَلِكَ) ؛ أَيْ: مَعَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ
مَعَهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ
بِإِسْنَادِهِ: «إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا،
وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا،
وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا؛ قُطِعَتْ أَيْدِيهُمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ
يَأْخُذُوا مَالًا؛ نُفُوا مِنْ الْأَرْضِ» ) وَرَوَى نَحْوَهُ مَرْفُوعًا،
وَلِأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ عُقُوبَتَانِ تَتَضَمَّنُ إحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْبَدَنِ يَتَضَمَّنُ إتْلَافَ الْيَدِ
وَالرِّجْلِ، فَاكْتَفَى بِقَتْلِهِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ
وَرِجْلَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ فِي الْحَالِ.
(وَلَوْ مَاتَ) مَنْ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ (أَوْ
قُتِلَ قَبْلَ قَتْلِهِ لِلْمُحَارَبَةِ؛ لَمْ يُصْلَبْ) لِعَدَمِ
الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَهِيَ إشْهَارُ أَمْرِهِ فِي الْقَتْلِ فِي
الْمُحَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ فِيهَا وَكَذَا قَاتِلُ مَنْ لَا
يُكَافِئُهُ كَوَلَدِهِ وَذِمِّيٍّ وَقِنٍّ.
(6/252)
(وَلَا يَتَحَتَّمُ قَوَدٌ فِيمَا دُونَ
نَفْسٍ) عَلَى مُحَارِبٍ، فَإِنْ قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَنَحْوَهُمَا،
فَلِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْقَوَدُ أَوْ الْعَفْوُ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ
إنَّمَا يَتَحَتَّمُ إذَا قُتِلَ؛ لِأَنَّهُ حَدُّ الْمُحَارَبَةِ؛
بِخِلَافِ الطَّرَفِ؛ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى قِصَاصًا لَا حَدًّا،
فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَغَيْرِ الْمُحَارِبِ، فَإِذَا عَفَا وَلِيُّ
الْقَوَدِ؛ سَقَطَ لِذَلِكَ، جَزَمَ بِهِ فِي التَّنْقِيحِ وَتَبِعَهُ فِي
الْمُنْتَهَى وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ وَقَطَعَ بِهِ فِي " الْإِقْنَاعِ "
يَتَحَتَّمُ الْقَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إذَا كَانَ قَدْ قَتَلَ
بَعْدَ أَنَّ جَنَى عَلَى غَيْرِ الْمَقْتُولِ، فَهُنَا يَتَحَتَّمُ
قَتْلُهُ، وَعِبَارَةُ " الْإِنْصَافِ " تُوهِمُ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ فِي النَّفْسِ بِتَحَتُّمِ الْقَوَدِ فِي النَّفْسِ؛
لِأَنَّهُ يَسْقُطُ التَّحَتُّمُ فِي الطَّرَفِ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ
أَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ.
(وَرِدْءُ) مُحَارِبٍ: مُبْتَدَأٌ؛ أَيْ مُسَاعِدُهُ وَمُعِينِهِ إنْ
احْتَاجَ إلَيْهِ (وَطُلَيْعٌ) يَكْشِفُ لِلْمُحَارِبِ حَالَ الْقَافِلَةِ
لِيَأْتُوا إلَيْهَا (كَمُبَاشِرٍ) : خَبَرٌ، كَاشْتِرَاكِ الْجَيْشِ فِي
الْغَنِيمَةِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ وَبَاشَرَ بَعْضُهُمْ
الْقِتَالَ وَوَقَفَ الْبَاقُونَ لِلْحِرَاسَةِ مِمَّنْ يَدْهَمُهُمْ مِنْ
وَرَائِهِمْ، وَكَذَا الْعَيْنُ الَّذِي يُرْسِلُهُ الْإِمَامُ لِيَعْرِفَ
أَحْوَالَ الْعَدُوِّ، وَظَاهِرُهُ فِي ضَمَانِ الْمَالِ، هَذَا
الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.
(فَرِدْءُ غَيْرِ مُكَلَّفٍ كَهُوَ) ؛ أَيْ: كَالْمُبَاشِرِ غَيْرِ
الْمُكَلَّفِ، وَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّ الرِّدْءَ تَبَعٌ لِلْمُبَاشِرِ،
وَدِيَةُ قَتْلِ غَيْرِ مُكَلَّفٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
(وَلَوْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ) ؛ أَيْ؛ الْمُحَارِبِينَ الْمُكَلَّفِينَ،
وَلَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَالًا (وَيَتَّجِهُ بِاحْتِمَالٍ قَوِيٍّ
لَا) إنْ كَانَ الْقَتْلُ (خَطَأً) أَوْ مِمَّنْ بِهِ جُنُونٌ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ (ثَبَتَ حُكْمُ الْقَتْلِ فِي حَقِّ جَمِيعِهِمْ) فَإِنْ قَدَرَ
عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتُوبُوا قُتِلَ مَنْ قَتَلَ وَمَنْ لَمْ
يَقْتُلْ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الرِّدْءِ حُكْمُ
الْمُبَاشِرِ.
(وَإِنْ قَتَلَ بَعْضٌ مِنْهُمْ) لِأَخْذِ الْمَالِ (وَأَخَذَ الْمَالَ
بَعْضٌ آخَرُ؛ تَحَتَّمَ قَتْلُ الْجَمِيعِ وَصَلْبُهُمْ) كَمَا لَوْ
فَعَلَ ذَلِكَ كُلٌّ مِنْهُمْ.
(6/253)
(وَيَتَّجِهُ إهْدَارُ دَمٍ مُتَحَتِّمٍ) ؛
أَيْ: إذَا تَحَتَّمَ قَتْلُ شَخْصٍ مِنْ الْمُحَارَبِينَ وَقَتَلَهُ
غَيْرُ الْحَاكِمِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَلَا إثْمَ؛ لِأَنَّ دَمَهُ
مُهْدَرٌ كَالْحَرْبِيِّ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَإِنْ قُتِلَ) مُحَارِبٌ (فَقَطْ لِقَصْدِ الْمَالِ؛ قُتِلَ حَتْمًا،
وَلَمْ يُصْلَبْ) لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ
جِنَايَتَهُمْ بِالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الْمَالِ تَزِيدُ عَلَى جِنَايَتِهِمْ
بِالْقَتْلِ وَحْدَهُ، فَوَجَبَ اخْتِلَافُ الْعُقُوبَتَيْنِ.
(وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ) مُحَارِبٌ (وَأَخَذَ نِصَابًا لَا شُبْهَةَ لَهُ
فِيهِ) مِنْ بَيْنِ الْقَافِلَةِ (لَا مِنْ مُفْرَدٍ عَنْ قَافِلَةٍ؛
قُطِعَتْ يَدُهُ) ؛ أَيْ: يَدُ كُلِّ مِنْ الْمُحَارِبِينَ (الْيُمْنَى
ثُمَّ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ حَتْمًا) فَلَا يَنْتَظِرُ
بِقَطْعِ إحْدَاهُمَا انْدِمَالَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ
بِقَطْعِهِمَا بِلَا تَعَرُّضٍ لِتَأْخِيرٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [ {مِنْ
خِلافٍ} [المائدة: 33] وَرِفْقًا بِهِ فِي إمْكَانِ مَشْيِهِ،] وَالْأَمْرُ
لِلْفَوْرِ فَتُقْطَعُ يُمْنَى يَدَيْهِ، وَتُحْسَمُ، ثُمَّ رِجْلُهُ
الْيَسَرَيْ وَتُحْسَمُ (وَحُسِمَتَا) وُجُوبًا؛ لِحَدِيثِ: «اقْطَعُوهُ
وَاحْسِمُوهُ» (وَخُلِّيَ) سَبِيلَهُ؛ لِاسْتِيفَاءِ مَا لَزِمَهُ
كَالْمَدِينِ يُوفِي دَيْنَهُ (فَلَوْ كَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى
مَفْقُودَةً) قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فَقَطْ (أَوْ) كَانَتْ
(يَمِينُهُ؛ شَلَّاءَ أَوْ) كَانَتْ يَمِينُهُ (مَقْطُوعَةً أَوْ) كَانَتْ
يَمِينُهُ (مُسْتَحَقَّةً فِي قَوَدٍ؛ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى
فَقَطْ) لِئَلَّا تَذْهَبَ مَنْفَعَةُ جِنْسِ الْيَدِ (وَإِنْ عَدِمَ
يَمِينَ يَدَيْهِ، لَمْ تُقْطَعْ يُمْنَى رِجْلَيْهِ) بَلْ يُسْرَاهُمَا
فَقَطْ كَمَا تَقَدَّمَ.
(وَإِنْ حَارَبَ) مَرَّةً (ثَانِيَةً) بَعْدَ قَطْعِ يُمْنَى يَدَيْهِ
وَيُسْرَى رِجْلَيْهِ (لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ) لِمَا تَقَدَّمَ فِي
السَّارِقِ، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ (وَيَتَعَيَّنُ
دِيَةُ قَوَدٍ لَزِمَ بَعْدَ مُحَارَبَتِهِ) بِأَنْ قَتَلَ بَعْدَهُمَا
عَمْدًا مُكَافِئًا (لِتَقْدِيمِهَا) ؛ أَيْ:
(6/254)
الْمُحَارَبَةِ (بِسَبَقِهَا، وَكَذَا لَوْ
مَاتَ) مُحَارِبٌ لَزِمَهُ قَوَدٌ بَعْدَ مُحَارَبَتِهِ (قَبْلَ قَتْلِهِ
لِلْمُحَارَبَةِ) فَتَتَعَيَّنُ الدِّيَةُ؛ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْقَوَدِ
(وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ) أَحَدٌ مِنْ الْمُحَارِبِينَ أَحَدًا (وَلَا أَخَذَ
مَالًا يَبْلُغُ نِصَابًا لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ مِنْ حِرْزِهِ نُفِيَ
وَشُرِّدَ وَلَوْ قِنًّا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الأَرْضِ} [المائدة: 33] وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّفْيَ يَكُونُ فِي هَذَا الْحَالِ، وَلِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ
يَكُونَ الْأَخَفُّ بِإِزَاءِ الْأَخَفِّ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَوْ فِي
الْآيَةِ لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ، وَلَا لِلشَّكِّ، بَلْ لِلتَّنْوِيعِ
(فَلَا يُتْرَكُ يَأْوِي إلَى بَلَدٍ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ) عَنْ
قَطْعِ الطَّرِيقِ (وَتُنْفَى الْجَمَاعَةُ مُتَفَرِّقَةً) كُلٌّ إلَى
جِهَةٍ لِئَلَّا يَجْتَمِعُوا عَلَى الْمُحَارَبَةِ ثَانِيًا.
(وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ) ؛ أَيْ: الْمُحَارِبِينَ (قَبْلَ قُدْرَةٍ
عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صَلْبٍ وَقَطْعِ) يَدٍ
أَوْ رِجْلٍ (وَنَفْيٍ وَتَحَتُّمِ قَتْلٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا
الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] (وَكَذَا خَارِجِيٌّ وَبَاغٍ
وَمُرْتَدٌّ وَمُحَارِبٌ) تَابَ قَبْلَ قُدْرَةٍ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ
تَابَ مِنْهُمْ بَعْدَ قُدْرَةٍ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ
مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] وَلِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ مَنْ تَابَ
قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَنَّ تَوْبَتَهُ تَوْبَةُ إخْلَاصٍ، وَمَا
بَعْدَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَوْبَةُ تَقِيَّةٍ مِنْ إقَامَةِ
الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ قَبْلَ الْحَدِّ
تَرْغِيبًا لَهُ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛
فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَرْغِيبِهِ فِيهَا.
(وَيُؤْخَذُ ذِمِّيٌّ) وَمُعَاهَدٌ وَمُسْتَأْمَنٌ (أَسْلَمَ بِحَقِّ
اللَّهِ) تَعَالَى: إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَالَ كُفْرِهِ كَنَذْرٍ
وَكَفَّارَةٍ لَا حَدِّ زِنًا وَنَحْوِهِ (بِحَقِّ آدَمِيٍّ طَلَبَهُ مِنْ
قِصَاصٍ فِي نَفْسٍ أَوْ دُونَهَا وَغَرَامَةِ مَالٍ وَدِيَةِ مَا لَا
قِصَاصَ فِيهِ وَحَدِّ قَذْفٍ كَمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وقَوْله تَعَالَى:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ
سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَحَدِيثُ:
(6/255)
«الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» فِي
الْحَرْبِيِّينَ، أَوْ خَاصٌّ فِي الْكُفْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
(وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ سَرِقَةٍ أَوْ) حَدُّ (زِنًا أَوْ) حَدُّ
(شُرْبٍ، فَتَابَ) مِنْهُ (قَبْلَ ثُبُوتِهِ) عِنْدَ حَاكِمٍ (سَقَطَ)
عَنْهُ (بِمُجَرَّدِ تَوْبَتِهِ قَبْلَ إصْلَاحِ عَمَلٍ) لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ
تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] وَقَوْلِهِ
بَعْدَ ذِكْرِ حَدِّ السَّارِقِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] وَقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ
لَا ذَنْبَ لَهُ» . «وَلِإِعْرَاضِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-] عَنْ الْمُقِرِّ بِالزِّنَا حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَعًا» .
فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمْ يَسْقُطْ بِالتَّوْبَةِ؛ لِحَدِيثِ:
«تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ
فَقَدْ وَجَبَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ
(ك) مَا يَسْقُطُ حَدُّهُ مُطْلَقًا (بِمَوْتٍ) لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ
كَسُقُوطِ غُسْلِ مَا ذَهَبَ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ.
(وَيَتَّجِهُ) لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ عَلَى شَخْصٍ بِمُوجَبِ حَدٍّ،
فَأَنْكَرَ، فَشَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِمُوجَبِ الْحَدِّ، فَادَّعَى
وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَنَّهُ تَابَ قَبْلَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ ظَانًّا
أَنَّهُ يَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ (لَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ تَقَدُّمَ
تَوْبَتِهِ) عَلَى الثُّبُوتِ، كَمَا لَوْ تَابَ بَعْدَهُ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ.
(6/256)
[فَصْلٌ فِي الدفاع عَنْ النَّفْس والعرض
والمال]
فَصْلٌ (وَمَنْ أُرِيدَتْ) ؛ أَيْ: قُصِدَتْ (نَفْسُهُ) لِيُقْتَلَ (أَوْ)
يُفْعَلَ بِهَا الْفَاحِشَةُ، أَوْ أُرِيدَتْ (حُرْمَتُهُ) كَأُمِّهِ أَوْ
أُخْتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَنَحْوِهِنَّ لِزِنًا أَوْ قَتْلٍ، أَوْ أُرِيدَ
أَخْذُ مَالِهِ (وَلَوْ قَلَّ) مَا أُرِيدَ مِنْ مَالِهِ (أَوْ لَمْ
يَكْفِ) مَنْ أُرِيدَتْ نَفْسُهُ أَوْ حُرْمَتُهُ أَوْ مَالُهُ
(الْمَرِيدَ) لِذَلِكَ (فَلَهُ دَفْعُهُ) عَنْ نَفْسِهِ وَحُرْمَتِهِ
وَمَالِهِ (إنْ لَمْ يَخَفْ) الدَّافِعُ (مُبَادَرَتَهُ لَهُ بِالْقَتْلِ
بِأَسْهَلِ مَا) ؛ أَيْ: شَيْءٍ (يَظُنُّ انْدِفَاعَهُ بِهِ) ؛ لِأَنَّهُ
لَوْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ لَأَدَّى إلَى تَلَفِهِ وَأَذًى فِي نَفْسِهِ
وَحُرْمَتِهِ وَمَالِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَتَسَلَّطَ
النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [، وَأَدَّى إلَى الْهَرَجِ وَالْمَرَجِ،
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ] . قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟
قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: قَاتِلْهُ
قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ؟ قَالَ:
أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «أَوَّلًا
أَنْشِدْهُ اللَّهَ قَالَ: فَإِنْ أَبَى عَلَيَّ؟ قَالَ: قَاتِلْهُ» .
لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ الدَّفْعُ؛ فَإِنْ انْدَفَعَ بِالْأَسْهَلِ
حَرُمَ الْأَصْعَبُ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ
إلَّا بِالْقَتْلِ أُبِيحَ) قَتْلُهُ (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِظَاهِرِ
الْخَبَرِ (وَإِنْ قُتِلَ) الدَّافِعُ (كَانَ شَهِيدًا) لِلْخَبَرِ،
(وَمَعَ عِلْمِ مَزْحٍ) يَحْرُمُ عَلَى دَافِعٍ (قَتْلٌ، وَيُقَادُ بِهِ)
لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الدَّفْعِ إذَنْ.
(وَلَا يَضْمَنُ بَهِيمَةً صَالَتْ عَلَيْهِ) وَلَمْ تَنْدَفِعْ بِدُونِ
قَتْلٍ، فَقَتَلَهَا دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ مَالِهِ
كَصَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ صَائِلٍ بِجَامِعِ الصَّوْلِ.
(وَلَا) يَضْمَنُ إذَا قَتَلَ (مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ مُتَلَصِّصًا) ؛
أَيْ: طَالِبًا لِلسَّرِقَةِ (حَيْثُ دَفَعَهُ بِالْأَسْهَلِ) فَيَأْمُرُهُ
رَبُّ الْمَنْزِلِ أَوَّلًا بِالْخُرُوجِ، فَإِنْ خَرَجَ لَمْ يَفْعَلْ
بِهِ
(6/257)
شَيْئًا؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، فَإِنْ
لَمْ يَخْرُجْ ضَرَبَهُ بِأَسْهَلِ مَا يَظُنُّهُ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ،
فَإِنْ انْدَفَعَ بِعَصَى لَمْ يَضْرِبْهُ بِحَدِيدٍ، وَإِنْ وَلَّى
هَارِبًا لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ كَالْبُغَاةِ، وَإِنْ ضَرَبَهُ
ضَرْبَةً غَلِيظَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ أَرْشٌ؛ لِأَنَّهُ، كُفِيَ،
شَرُّهُ، وَإِنْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَمِينَهُ فَوَلَّى هَارِبًا،
فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ؛ ضَمِنَهَا بِخِلَافِ الْيَدِ، فَإِنْ مَاتَ
بِسِرَايَةِ الْقَطْعَيْنِ؛ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ عَادَ
إلَيْهِ بَعْدَ قَطْعِ رِجْلِهِ، فَقَطَعَ يَدَهُ الْأُخْرَى؛ فَالْيَدَانِ
غَيْرُ مَضْمُونَتَيْنِ.
(فَإِنْ) قَتَلَ رَجُلًا، وَ (ادَّعَى أَنَّهُ هَجَمَ مَنْزِلَهُ، وَلَمْ
يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إلَّا بِقَتْلِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ) بِغَيْرِ
بَيِّنَةٍ؛ لِحَدِيثِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى
مَنْ أَنْكَرَ» .
(وَيَتَّجِهُ) مَحَلُّ مَا ذَكَرَ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ قَوْلِهِ (حَيْثُ
لَا قَرِينَةَ) فَإِنْ كَانَتْ ثَمَّ قَرِينَةٌ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ
بِأَنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَشْهُورًا بِالْفَسَادِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَى
نَهْبِ أَمْوَالِ الْعِبَادِ؛ فَلَا مَانِعَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ رَبِّ
الْمَنْزِلِ بِلَا بَيِّنَةٍ؛ حَيْثُ كَانَ ثِقَةً مَشْهُورًا
بِالْعَدَالَةِ، لِدَلَالَةِ الْحَالِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهُوَ مُتَّجِهٌ
لَكِنَّهُ مَرْجُوحٌ؛ لِمُخَالَفَتِهِ صُنْعَ الْمُتَأَخِّرِينَ إذَا
تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ.
(وَلَوْ عُرِفَ) الْمَقْتُولُ (بِسَرِقِهِ) قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنْ شَهِدَتْ
بَيِّنَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْمَقْتُولَ مُقْبِلًا إلَى الْقَاتِلِ
بِسِلَاحٍ مَشْهُورٍ، فَضَرَبَهُ هَذَا الْقَاتِلُ؛ فَدَمُهُ هَدَرٌ؛
لِثُبُوتِ صِيَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا
الْمَقْتُولَ دَاخِلَ دَارِهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سِلَاحًا أَوْ ذَكَرُوا
سِلَاحًا غَيْرَ مَشْهُورٍ؛ لَمْ يَسْقُطْ الْقَوَدُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ يَدْخُلُ لِحَاجَةٍ.
(6/258)
(وَيَجِبُ دَفْعُهُ عَنْ حَرِيمِهِ) إذَا
أَرَدْنَ نَصًّا، فَمَنْ رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتِهِ وَنَحْوِهَا
رَجُلًا يَزْنِي بِهَا أَوْ مَعَ وَلَدِهِ، وَنَحْوِهِ رَجُلًا كَانَ
يَلُوطُ بِهِ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ إنْ لَمْ يَنْدَفِعْ بِدُونِهِ؛
لِأَنَّهُ يُؤَدِّي بِهِ حَقَّ اللَّهِ مِنْ الْكَفِّ عَنْ الْفَاحِشَةِ
وَحَقَّ نَفْسِهِ بِالْمَنْعِ عَنْ أَهْلِهِ؛ فَلَا يَسَعُهُ إضَاعَةُ
الْحَقَّيْنِ (وَكَذَا) يَجِبُ الدَّفْعُ (فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ عَنْ
نَفْسِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] فَكَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ
يَحْرُمُ عَلَيْهِ إبَاحَتُهَا (وَ) كَذَا يَجِبُ الدَّفْعُ فِي غَيْرِ
فِتْنَةٍ عَنْ (نَفْسِ غَيْرِهِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ
إيثَارُ الشَّهَادَةِ كَإِحْيَائِهِ بِبَذْلِ طَعَامِهِ.
ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ فِتْنَةٌ لَمْ يَجِبْ
الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا نَفْسِ غَيْرِهِ، لِقِصَّةِ عُثْمَانَ (لَا
عَنْ مَالِهِ) ؛ أَيْ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ مَنْ أَرَادَ مَالَهُ
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ مَا فِي النَّفْسِ (وَلَا
يَلْزَمُهُ) ؛ أَيْ: رَبَّ الْمَالِ (حِفْظُهُ عَنْ الضَّيَاعِ
وَالْهَلَاكِ) ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
(وَيَتَّجِهُ) عَدَمُ لُزُومِ حِفْظِهِ مَالَهُ عَنْ الضَّيَاعِ
وَالْهَلَاكِ (مَا لَمْ تَضِعْ عَائِلَتُهُ) بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَمَّا إنْ
خَشِيَ ضَيَاعَ عَائِلَتِهِ؛ فَيَلْزَمُهُ حِفْظُ مَالِهِ مِنْ أَجْلِهَا،
(أَوْ) مَا لَمْ (يَعْجَزْ عَنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ) فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ
إذَا تَرَكَ مَالَهُ يَضِيعُ لَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ؛ وَجَبَ
عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ تَبْرِئَةً لِذِمَّتِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَلَهُ بَذْلُهُ) ؛ أَيْ: بَذْلُ مَالَهُ (لِظَالِمٍ) أَرَادَهُ مِنْهُ،
وَلَوْ (أَمْكَنَهُ دَفْعُهُ) ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ بَذْلَهُ أَفْضَلُ
مِنْ الدَّفْعِ عَنْهُ، وَأَنَّ حَنْبَلًا نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَدَ
وَلَفْظُهُ: أَرَى دَفْعَهُ إلَيْهِ، وَلَا يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ؛
لِأَنَّهَا لَا عِوَضَ لَهَا.
وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ: لَا بَأْسَ. قَالَ: الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ:
كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَصِرُ
لَهَا.
(وَيَجِبُ) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (أَنْ يَدْفَعَ عَنْ حُرْمَةِ) غَيْرِهِ
(وَ) كَذَا عَنْ (مَالِهِ)
(6/259)
أَيْ: الْغَيْرِ؛ لِئَلَّا تَذْهَبَ
الْأَنْفُسُ أَوْ الْأَمْوَالُ أَوْ تُسْتَبَاحَ الْحُرَمُ.
قَدَّمَهُ فِي " الْإِنْصَافِ " وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى " وَهُوَ
الْمَذْهَبُ، وَفِي " الْإِقْنَاعِ " وَلَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ عَنْ
مَالِهِ وَلَا حِفْظُهُ مِنْ الضَّيَاعِ كَمَالِ غَيْرِهِ، وَكَانَ عَلَى
الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةُ إلَى خِلَافِهِ (مَعَ ظَنِّ سَلَامَةِ دَافِعٍ
وَمَدْفُوعٍ عَنْهُ، وَإِلَّا) تُظَنُّ سَلَامَتُهُمَا مَعَ الدَّفْعِ
(حَرُمَ) لِإِلْقَائِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ وَيَسْقُطُ (وُجُوبُ الدَّفْعِ)
حَيْثُ وَجَبَ (بِإِيَاسِهِ) مِنْ فَائِدَةِ دَفْعِهِ (لَا بِظَنِّهِ
أَنَّهُ لَا يُفِيدُ) لِتَيَقُّنِ الْوُجُوبِ فَلَا يُتْرَكُ بِالظَّنِّ.
(وَيَتَّجِهُ وَكَذَا كُلُّ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ) يَسْقُطُ وُجُوبُهُ
بِإِيَاسِهِ فِي امْتِثَالِهِ لَا بِظَنِّهِ أَنَّ أَمْرَهُ لَا يُفِيدُ
(وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ) كَذَا قَالَ: الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي
جُنْدٍ قَاتَلُوا عَرَبًا نَهَبُوا أَمْوَالَ تُجَّارٍ لِيَرُدُّوهُ
لِمَالِكِيهِ: هُمْ مُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمْ
نَاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ قَتَلُوهُ
مِنْ الْعَرَبِ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ حَيْثُ لَمْ
يَنْدَفِعُوا إلَّا بِذَلِكَ كَالصَّائِلِ، فَإِنْ قَاتَلُوهُمْ
لِيَأْخُذُوا لِأَنْفُسِهِمْ فَهُمَا ظَالِمَتَانِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي
الْبَابِ بَعْدَهُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
(وَمَنْ عَضَّ يَدَ شَخْصٍ وَحَرُمَ) أَيْ فِي الْحَالِ أَنَّهُ عَضٌّ
مُحَرَّمٌ لِكَوْنِهِ مُعْتَدِيًا؛ لِأَنَّ الْعَضَّ لَا يُبَاحُ إلَّا
أَنْ لَا يَقْدِرَ الْعَاضُّ عَلَى التَّخَلُّصِ إلَّا بِهِ
(فَانْتَزَعَهَا) مِنْ فَمِهِ (وَلَوْ) كَانَ نَزْعُهُ (بِعُنْفٍ) ؛ أَيْ:
بِشِدَّةٍ (فَسَقَطَتْ ثَنَايَاهُ) [؛ أَيْ: ثَنَايَا] الْعَاضِّ
(فَهَدَرٌ) ؛ أَيْ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ثَنَايَا الْعَاضِّ؛
لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «أَنَّ رَجُلًا عَضَّ رَجُلًا،
فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، فَسَقَطَتْ ثَنَايَاهُ، فَاخْتَصَمُوا إلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَعَضُّ
أَحَدُكُمْ يَدَ أَخِيهِ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَك» .
رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد.
لِأَنَّهُ عُضْوٌ تَلِفَ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّ صَاحِبِهِ فَلَمْ
يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إلَّا
بِقَطْعِ يَدِهِ (وَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ) نَحْوُ أَنْ حَبَسَهُ فِي
بَيْتِهِ،
(6/260)
أَوْ رَبَطَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ،
فَخَلَّصَ نَفْسَهُ، فَتَلِفَ بِتَخْلِيصِهِ شَيْءٌ؛ لَمْ يَضْمَنْ (فَإِنْ
عَجَزَ) الْمَعْضُوضُ عَنْ التَّخَلُّصِ (دَفَعَهُ) ؛ أَيْ: الْعَاضَّ
(كَصَائِلٍ) بِأَسْهَلِ مَا يُظَنُّ انْدِفَاعُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ
الْعَضُّ مُبَاحًا مِثْلَ أَنْ يُمْسِكَهُ بِمَوْضِعٍ يَتَضَرَّرُ
بِإِمْسَاكِهِ كَخُصْيَتَيْهِ، أَوْ يَعَضُّ بِيَدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ إلَّا بِعَضِّهِ، فَعَضَّهُ
فَمَا سَقَطَ مِنْ أَسْنَانِهِ، ضَمِنَ الْمَعْضُوضُ.
(وَمَنْ نَظَرَ وَيَتَّجِهُ) كَوْنُ النَّاظِرِ (مُكَلَّفًا) إذْ غَيْرُ
الْمُكَلَّفِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُدُودِ، وَهُوَ
مُتَّجِهٌ (فِي بَيْتِ غَيْرِهِ مِنْ خُرُوقِ بَابٍ مُغْلَقٍ وَنَحْوِهِ)
كَفُرُوجٍ بِحَائِطٍ أَوْ بَيْتِ شَعْرٍ وَكُوَّةٍ وَنَحْوِهَا (وَلَوْ
لَمْ يَعْمِدْ) النَّاظِرُ الِاطِّلَاعَ (لَكِنْ ظَنَّهُ) ؛ أَيْ: رَبُّ
الْبَيْتِ (مُتَعَمِّدًا) وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الدَّارِ نِسَاءٌ أَوْ لَا،
أَوْ كَانَ مَحْرَمًا، أَوْ نَظَرَ مِنْ الطَّرِيقِ، أَوْ مِلْكِهِ أَوْ
لَا (فَحَذَفَ) ؛ أَيْ: رَمَى (عَيْنَهُ) بِحَصَاةٍ (أَوْ طَعَنَهُ بِعُودٍ
فَتَلِفَتْ) عَيْنُهُ أَوْ حَاجِبُهُ (فَهَدَرٌ) لَا شَيْءَ فِيهِ، لَا إنْ
رَمَى بِحَجَرٍ كَبِيرٍ، أَوْ رَشَقَهُ بِسَهْمٍ، أَوْ طَعَنَهُ
بِحَدِيدَةٍ (وَلَا يَتْبَعُهُ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:
«مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ؛ فَلَا دِيَةَ وَلَا
قِصَاصَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ
اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ؛ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ
يَفْقَئُوا عَيْنَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّائِلِ؛ لِأَنَّ الْمَسَاكِنَ حِمَى
سَاكِنِهَا، وَالْقَصْدَ مِنْهَا سَتْرُ عَوْرَاتِهِمْ عَنْ النَّاسِ،
وَالْعَيْنُ آلَةُ النَّظَرِ (بِخِلَافِ مُتَسَمِّعٍ) أَعْمَى أَوْ بَصِيرٍ
(وَضَعَ أُذُنَهُ) فِي خَصَاصِ الْبَابِ الْمُغْلَقِ فَلَيْسَ لَهُ قَصْدُ
أُذُنِهِ بِطَعْنٍ وَنَحْوِهِ (قَبْلَ إنْذَارِهِ) اقْتِصَارًا عَلَى
مَوْرِدِ النَّصِّ، وَلِأَنَّ النَّظَرَ أَبْلُغُ مِنْ السَّمْعِ، فَإِنْ
أُنْذِرَ فَأَبَى فَلَهُ طَعْنُهُ كَدَفْعِ الصَّائِلِ
(6/261)
(وَ) بِخِلَافِ (نَاظِرٍ مِنْ) بَابٍ (مُنْفَتِحٍ) لِتَفْرِيطِ رَبِّهِ
بِتَرْكِهِ مَفْتُوحًا، وَإِنْ عَقَرَتْ كَلْبَةٌ مَنْ قَرُبَ إلَى
أَوْلَادِهَا، أَوْ خَرَقَتْ ثَوْبَهُ؛ لَمْ تُقْتَلْ بِذَلِكَ؛ وَلَمْ
يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْعَقُورِ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ جُبِلَتْ عَلَى
الدَّفْعِ عَنْ الْوَلَدِ، بَلْ تُنْقَلُ إلَى مَكَان مُنْفَرِدٍ دَفْعًا
لِأَذَاهَا.
تَتِمَّةٌ: وَإِنْ رَاوَدَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَنْ نَفْسِهَا لِيَفْجُرَ
بِهَا، فَقَتَلَتْهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهَا إنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا
بِهِ؛ لَمْ تَضْمَنْهُ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ، وَلِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي
قَتْلِهِ شَرْعًا لِدَفْعِهِ عَنْهَا.
(وَكَرِهَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى صَيْحِهِ لَيْلًا؛
لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُ مَاذَا يَكُونُ) نَقَلَهُ صَالِحٌ. |