نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

كتَاب الجَنَائز
بفتح الجيم جمع جِنازة، بكسرها، والفتح لغة. وقيل: بالفتح للميت، وبالكسر اسم للنعش عليه ميت. ويقال عكسه. فإن لم يكن ميتٌ فلا يقال: نعشٌ، ولا جنازة، إنما يقال: سرير.
(يسن الاستعداد للموت) بالتوبةِ من المعاصي والخروجِ من المظالم (والإِكثار من ذكره) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أكْثِروا من ذِكْرِ هَاذِمِ اللذّاتِ" (1).
(ويكره الأنين) لأنه يترجِمُ عن الشكوى المنهيّ عنها (2)، ما لم يغلبه.
ويستحب للمريض الصبرُ على المرض، والرضا بقضاء الله تعالى.

[تمني الموت]
(و) يكره (تمنِّي الموت) نزل به ضُرّ، أو لم ينزل، ويستثنى من
__________
(1) حديث "أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت" حديث صحيح رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر (الفتح الكبير وصحيح الجامع الصغير).
(2) النهي عن الشكوى. قال البعض: دليله الأمر بالصبر الجميل. فتكره الشكوى إلى المخلوقين. والشكوى إلى الله عبادة. والأنين يُنَفِّسُ بعض الألم، كما قال الشاعر:
لعل انحدار الدمع يُعْقَب راحةً ... من الوجد أو يشفي شجيَّ البلابلِ
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه لعائشة: "بل أنا وا رأساه".

(1/216)


ذلك حالتان لا يكره تمنيه فيهما:
أشار للأولى بقوله: (إلا لخوفِ فتنةٍ) في دينِهِ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أردْتَ بقومٍ فتنةً فاقبضني إليك غيرَ مفتونٍ" (1).
الحالة الثانية: تمنّي الشهادة، لا سيّما عند حضور أسبابها، فتستحبّ، لما في الصحيح "مَنْ تمنَّى الشهادةَ خالصاً من قلبِه أعطاه الله منازلَ الشهداءِ" (2).

[عيادة المريض]
(وتسنّ عيادَةُ المريضِ المسْلِمِ) ونصه "غير المبتدع" كرافضيّ، ومن يَجْهَرُ بالمعصية، من أوّل مرضِه.
قال في الإِقناع: وظاهره: ولو من وجع ضرسٍ، ورمَدٍ، ودُمَّلٍ، خلافاً لأبي المعالي وابن المَنْجَا. قال: ثلاثةٌ لا تعاد ولا يسمّى صاحبها مريضاً: الضَّرس، والرمَد، والدُّمَّل.
وتحرُم عيادة الذميّ.
ولا يجبُ التَّداوي، ولو ظُنَّ نَفْعُهُ، وتركُه أَفْضَل (3).

[تلقين المحتضر وما يصنع به]
(و) سنّ (تلقينه) أي المريض المنزول به (عند موته) قول (لا إله إلا الله) لما روى مسلمٌ عن أبي سعيد مرفوعاً "لقِّنُوا مَوْتَاكُم: لا إله إلا
__________
(1) حديث "وإذا أردت بقوم فتنة ... " رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
(2) حديث "تمنّى الشهادة بصدق .. " رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
(3) علل في شرح المنتهى بأن ترك التداوي أقرب إلى التوكُّل. قُلْتُ: النُّصوص بالأمر بالتداوي تدلّ على الاستحباب. وهي كثيرة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتداوى. وهذا هو الصحيح إن شاء الله. وربما وجب في بعض الأحوال لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

(1/217)


الله"، وعن معاذٍ مرفوعاً "من كان آخرُ كلامِهِ: لا إله إلا اللهُ، دَخَلَ الجنة" رواه أحمد (1).
ويلقَّنُ (مَرةً) نقله مُهنَّا. واختار الأكثر: ثلاثاً (ولم يَزِدْ إلاَّ أنْ يتكلّم) قال في الإِنصاف: قال في مجمع البحرين: المنصوص أنه لا يزيد على مرة، ما لم يتكلمْ. وإنما استُحِبَّ تكرار الثلاثِ إذا لم يُجِبْ أوّلاً، لجوازِ أن يكون ساهياً، أو غافلاً. وإذا كرر الثلاثَ عُلِمَ أن ثَمَّ مانعاً. انتهى.
(و) سنَّ (قراءةُ الفاتحةِ، و) قراءةُ سورة (يس) عند من نُزِلَ به، لأن قراءةَ ذلك تُسَهِّل خروج الروح.
(و) سن (توجيهُهُ) إلى القبلة على جنبه الأيمنِ مع سِعةِ المكانِ، وإلا) أي وإن لم يمكنْ توجيهُهُ لضيقِ المكان (فعلى ظهرِهِ) أي فيلقى على قفاه، وأخْمَصاهُ إلى القبلة، كالموضوعِ على المُغْتَسَل. زاد جماعة: وُيرفعُ رأسَه قليلاً ليصيرَ وجهه إلى القبلة.
فائدة: ينبغي للمريض أن يستحضرَ في نفسِهِ أنه حقيرٌ من مخلوقاتِ الله تعالى، والله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن عباداتِه، وطاعاتِه، وأنّه لا يطلبُ العفوَ والإِحسانَ إلا منه، وأنه أكرمُ الأكرمين، وأرحمُ الراحمين، وأن يكثرَ ما دامَ حاضرَ الذهنِ من قراءةِ القرآنِ، ويشكرَ الله تعالى بقلبِه ولسانِه، وأن يبادِرَ إلى أداء الحقوق إلى أهلها، بردّ المظالم، والودائع، والعواري، واستحلالُ أهلِهِ من والدٍ، وزوجةٍ، وأولادٍ، وغلمانٍ، وجيرانٍ، وأصحابٍ، وكلِّ من كان بينُهُ وبينه معاملة أو تعلُّقٌ في شيء، ويحافظَ على الصلواتِ الخمسِ واجتنابِ النجاساتِ، ويصبر
__________
(1) حديث "من كان آخر كلامه ... " حديث صحيح. ورواه أيضاً أبو داود والحاكم (صحيح
الجامع).

(1/218)


على مشقة ذلك، ويحذِّر نفسَهُ من التساهُل في ذلك، فإنّ من أقبح الأمورِ أن يكونَ آخِرُ عمرهِ وخروجِه من الدنيا التي هي مزرعةٌ للآخرةِ مفرّطاً فيما وجب عليه، أو نُدِبَ إليه، وأن يتعاهد نفسَهُ بتقليم أظفاره، وأخذِ شعرِ شاربِه، وإبطِهِ، وعانَتِهِ، وأن يعتمدَ على اللهِ تعالى فيمن يحب من بنيه وغيرِهم، ويوصي للأرْجَحِ في نظره.
(فإذا ماتَ سُنَّ تغميضُ عينيهِ) ويباحُ من مَحْرمٍ ذكرٍ أو أنثى. ويكرَهُ من حائضٍ وجُنُبِ وأن يَقْرَباهُ.
(و) سنّ (قولَ: "بسم الله وعلى وفاةِ رسولِ اللهِ) - صلى الله عليه وسلم - "لما روى البيهقيّ عن بكرِ بن عبد الله المزنيّ، ولفظه: "وعلى ملّةِ رسولِ الله".
وسنَّ شَدُّ لَحْيَيْهِ بعصابة، وتليينُ مفاصله، بأن يردّ ذراعيِه إلى عَضُدَيْهِ، ثم يردهما، ويردّ أصابعَ يديهِ إلى كفَّيْهِ، ثم يبسطهما، ويردُّ فخذيه إلى بطنِه، وساقيه إلى فخذيه، ثم يمدُّهما. والمقصود منه السهولةُ في الغسلِ.
(ولا بأسَ بتقبيلِهِ والنظر إليه) ممن يباحُ له ذلك حال حياته (ولو بعدَ تكفينه.)

فصل في غسل الميت
(وغَسْل الميتِ) مرةً واحدةً، أو تيممُه لعذرٍ، كخوفٍ عليه من تقطع وتهرٍّ، كالمحترقِ والمسمومِ، ونحوهم (فرضُ كفايةٍ) إجماعاً، على كلِّ من عُرِفَ به وأمكنَهُ.
وهو من حقوق الله تعالى الواجبةِ للِإنسان المسلم بعدِ موتِهِ، حتى ولو وصّى بإسقاطه. قال في التنقيح: وغسلُه فرضُ كفايةٍ، ويتعيّن مع

(1/219)


جنابةٍ أو حيضٍ. ويسقطانِ به. انتهى. فيحمل كلام المنقّح على أن الغسلَ تعيَّنَ على الميِّتِ قبل موتِهِ ثم مات. وأنَّ الذي يتولى غسلَه يقومُ مقامَه في ذلك، ويكونُ ثوابُهُ كثوابِهِ.
(وشُرِطَ) بالبناء للمفعولِ، لصحةِ غسلِهِ (في الماء الطهوريَّةُ) كسائر الطهاراتِ (والإِباحةُ) كباقي الأغسال.
(و) شُرِطَ (في الغاسِلِ الإِسلام) فلا يصح من كافرٍ، والمرادُ: غيرَ نائبِ مسلمٍ نَوَاه، (والعقلُ) لأن غير العاقلِ ليس أهلاً للنية، (والتمييزُ) لا البلوغُ، لصحةِ غسلِ المميِّز لنفسِهِ.
(والأفضل) أن يُخْتارَ لغسل الميت (ثقةٌ عارفٌ بأحكامِ الغَسْل) ونَقَل حنبلٌ: لا ينبغي إلا ذلك، وأوجبَهُ أبو المعالي ولو جُنُباً أو حائضاً.
(والأوْلى به) أي الغسل (وصيُّهُ العدلُ،) عمومُهُ يتناول ما لو وصّى لامرأتِهِ. وهو مقتضى استدلالِهِم بأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه وصَّى لامرأتِهِ، فغسّلته. وكذا لو وصَّتْ لزوجها. ولعل المرادَ الاكتفاءُ بالعدالةِ الظاهرة.
وتعتبر العدالة أيضاً في غير الوصيّ، لعدم الفرق، أو فيه وحدَه.
والأوْلى بعد وصيِّه العدلِ أبوهُ وإن علا، ثم الأقربُ فالأقربُ، كالميراث.
(وإذا شَرَع) الغاسل (في غسله سَتَر عورتَهُ وجوباً) وهي ما بين سرَّةٍ وركبةٍ إلا منْ دونَ سبعٍ، ثم جَرَّدهُ من ثيابِه ندباً. (ثم يلفُّ على يدِه خرقةٌ فينجِّيهِ) أي يمسح مخرجَه (بها) أي بالخرقة. (ويجبُ غسلُ ما بِهِ) أي الميت (من نجاسةٍ) لأن المقصودَ بالغَسْلِ تطهيرُه حَسَبَ الإِمكان.
(ويحرم مسُّ عورةِ من بلغَ سبعَ سنينَ) لأن التطهيرُ يمكنُ بدونِ مسٍّ، فأشْبَهَ حال الحياةِ.

(1/220)


(وسُنَّ أن لا يمسَّ) الغاسلُ (سائرَ) أي باقيَ (بدنه إلا بخرقةٍ) فحينئذ يُعِدُّ الغاسل خِرّقَتَينِ: إحداهما للسبيلين، والأخرى لبقيّة بدنه.
(وللرجلِ أن يغسلَ زوجتَهُ) إن لم تكن ذمّيّةً، ولو قَبلَ الدخولِ.
(و) للسَّيِّدِ أن يغسِلَ (أمَتَهُ) وَطئَها أَوْ لا، وأُمَّ ولدِهِ، ومكاتَبَتَهْ، ولو لم يشترطْ وطأَها. ولا يغسل سيُّدٌ أَمتَهُ المزوَّجة، ولا المعتدَّةَ من زوجٍ، ولا المعتَقَ بعضُها، ولا من هي في استبراءٍ واجبٍ، ولا تَغْسِلُه.
(و) للرجلِ أن يغسلَ (بنتَ دونِ سبعِ سنينَ).
(وللمرأةِ غَسْلُ زوجِها) ولو قبلَ الدخولِ. ولو وضعتْ عقبَ موتِهِ أو طلاقٍ رجعيٍّ ما لم تتزوّجْ أو تكنْ ذمّيّة، (وسيّدِها، وابنِ دونِ سبعِ) سنين.
(وحُكْمُ غسلِ الميِّت فيما يَجِبُ وُيسَنُّ كغَسْلِ الجَنَابَةِ، لكنْ لا يُدْخِلُ) الغاسِلُ (الماءَ في فمهِ) أي الميّت (و) لا في (أَنْفِهِ) خشيةَ تحريكِ النجاسة، (بل يأخذُ خرقةً مبلولةً) بماءٍ (فيمسَحُ بها) أي بالخرقة (أسنانَه ومِنْخَريِهِ) وينظّفها ثم يَغسِلُ شِقَّهُ الأيمنَ، ثم شِقَّه الأيسرَ، ثم يفيضُ الماء على جميع بدنِهِ، ليعُمَّه بالغسل.
ويثلَّثُ ذلك. (ويكره الاقتصارُ في غسلِه) أي الميت (على مرّةٍ) واحدةٍ (إن لم يخرجْ منه شيء. فإن خرج) منه شئ (وجب إعادةُ الغسلِ إلى سبعِ) مراتٍ. قال في شرح الإِقناع: لأن المقصود من غسلِ الميتِ أن يكون خاتمةُ أمرِهِ الطهارةَ الكاملةَ، ألا ترى أنّ الموت جرى مجرى زوال العقل؟
ولا فرقَ بين الخارجِ من السبيلين، وغيرهما.
(فإن خرج منه) شيءٌ (بعدها) أي السبع غسلاتٍ (حُشِيَ) محلُّ الخارج (بقطنٍ) ليمنع الخارجَ. (فإن لم يستمسكْ) الخارجُ بعد حشوِ

(1/221)


محله بالقطن (فـ) إنه يُحشى (بطينٍ حرٍّ) أي خالصٍ، لأن فيه قوةً تمنع الخارج.
(ثم يُغْسَل المحل) أي محل النجاسةِ (ويُوَضَّأ) الميتُ (وجوباً)، كالجُنُبِ إذا أحدث بعد غسلِهِ، لتكون طهارةً كاملة (ولا غسلَ) أي لا غسل بعدَ السبعِ واجبٌ. (وإن خرجَ) منه شيء قليلٌ أو كثيرٌ (بعد تكفينه لم يُعِدِ الوضوءَ ولا الغسلَ،) لما في ذلك من المشقة، بالاحتياجِ إلى إخراجِهِ من الكفن، وإعادةِ غسلِه وتطهيرِ أكفانِهِ وتجفيفِها أو إبدالِها، ثمّ لا يؤْمَن أن يخرجَ شيء بعد ذلك.

[الشهيد]
(وشهيدُ المعركة المقتولُ ظلماً لا يغسلُ) وجوباً (ولا يكفَّنُ، ولا يصلَّى عليه، ويجب بقاء دَمِهِ عليه) إلا أن تخالطه نجاسة، فيغسلا.
(ودفْنُهُ في ثيابه) التي قتِل فيها بعد نزعِ آلة الحرب، ونحوِ خفٍّ وفَرْوٍ.
(وإن حُمِلَ فأَكَلَ أو شرب أو نام أو بال أو تكلم أو عطس، أو طال بقاؤه عرفاً، أو قتل وعليه ما يوجب الغسل من نحو جنابةٍ) كغسل حيضٍ ونفاسٍ وإسلامٍ (فهو كغيره) في أنه يغْسَل ويكفَّن ويصلَّى عليه.
وإن قتل وعليه حدثٌ أصغرُ لم يوضّأ.
(وسِقْطٌ لأربعة أشهرٍ) فأكثر (كالمولود حيًّا) يعني أنه يغسل ويصلى عليه.
فائدة: يحرُم سوءُ الظنَّ بمسلمٍ ظاهرِ العدالةِ. قال القاضي وغيره: ويستحبُّ ظنُّ الخير، بالأخِ المسلم. وفي "نهاية المبتدئين" حُسْنُ الظنِّ بأهل الدين حَسَنٌ. وذكر المهدويّ والقرطبيّ عن أكثرِ العلماء: أنه يحرم ظنُّ السوءِ بمن ظاهرُهُ الخير. وأنه لا حرج بظنِّ السوءِ لمن ظاهره

(1/222)


الشر. وأما ما روي من حديث "إياكم والظنَّ فإِن الظنَّ أكذب الحديث" (1) محمولٌ والله أعلم على الظن المجرّد الذي لم يعضده قرينةٌ تدل على صدقِهِ.
(ولا يغسِل مسلمٌ كافراً ولو ذمّياً) سواء كان قريباً أو أجنبيًّا، (ولا يكفِّنُه ولا يصلي عليه) أما تكفينُه فإنه تَوَلٍّ، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وأما الصلاةُ عليه فهي شفاعةٌ للميّت، والكافرُ ليس من أهلها.
(ولا يتَّبعُ جنازَتَه) لأن في ذلك تعظيماً له. (بل يُوَارَى لعدم من يواريه) من الكفّار. ولا فرقَ في ذلك بين الذمّيّ، والحربيّ، والمرتدّ، والمستأمِن، لأنّ في تركِهِ سبباً للمُثْلَةِ به، وهي ممنوعةٌ في حقّه، بدليل عموماتِ النهيِ عنها.

فصل في الكلام على الكفن
(وتكفينُه) أي الميت (فرضُ كفايةٍ) على كل من علم به (والواجب) لحق الله تعالى وحقّه (سترُ جميعِهِ سوى رأسِ المُحْرِمِ، (ووجهِ المحرِمَةِ بثوب) واحدٍ، متعلقٌ بتكفينِهِ إلا يَصِفُ البشَرَةَ) أي سوادَها وبياضَها.
(ويجب أن يكون من ملبوسِ مثلِهِ) أي مثل الميت (ما لم يوصِ الميت بدونه) أي بدونِ ملبوسِ مثلِهِ. وُيكْرَه في أعلى من ملبوس مثله.
وتكونُ مؤنةُ تجهيزِه من رأسِ ماله مقدَّماً حتى على دينٍ بِرَهْنٍ وأرشِ جنايتِهِ ونحوهما.
__________
(1) حديث "إياكم والظن ... " رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم (الفتح الكبير).

(1/223)


فإنْ لم يكن له مال فممن تلزَمُه، إلا الزوجَ. إنه لا يلزمه كفَنُ زوجته، ولا مُؤْنَة تجهيزها.
ثم من بيت المال، إنْ كان الميِّت مسلماً.
ثمَّ إن لم يكن بيتُ مالٍ، أو كانَ وتعذَّر، فَعَلَى كلِّ مسلم عالم به.
(والسنّة تكفينُ الرجل في ثلاثِ لفائِفَ بِيضٍ من قطن.)
وكره تكفين الرجل في أكثر من ثلاثةِ أثوابٍ، وتعميمُه (1)، ظاهرُهُ: وإن وَرِثَهُ غيرُ مكلّف، أو كان عليه دين.
(تُبْسَطُ) اللفائفُ الثلاثُ (على بعضها) (2) بأن تُبْسَطَ واحدةٌ، ثم أخرى فوقها، ليوضع الميت عليها مرة واحدةً، ولا يُحتاجُ إلى حملِه ووضعِه على واحدةٍ بعدِ واحدة. بعد تَبْخيرها، ويجعل الظاهرة أحسنَها، والحنوطَ فيما بينها. (ويوضع) الميتُ (عليها) أي على اللفائفِ الثلاثِ المبسوطات (مستلقياً) لأنه أمكن لإِدراجِهِ. (ثم يُرَدُّ طرفُ) اللفافَةِ (العليا من الجانبِ الأيسر) أي جانب الميت الأيسَرِ (على شِقِّهِ الأيمنِ، ثم) يرد (طرفها) أي طرف اللفافة (الأيمنَ على) شق الميت (الأيسَرِ، ثم الثانية) تُرَدُّ كذلك، (ثُمَّ الثالثة) ترد (كذلك،) فَيُدْرِجُه فيها إدراجاً. ويجعل أكثر الفاضلِ عند رأسِهِ. ثم تعقدُ. وتُحَلُّ في القبر.
(و) تكفَّن (الأنثى) والخنثى (في خمسة أثوابٍ بيضٍ من قطنٍ) استحباباً: (إزارٍ، وخمارٍ، وقميصٍ، ولفافتين) قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهلِ العلم يرى أن تكفين المرأة في خمسة أثواب.
(و) يكفَّن (الصبيُّ في ثوب واحد. ويباحُ) أن يكفن الصبيّ (في
__________
(1) تعميمُه: أي أن يجعل على رأسه عمامة.
(2) كذا في (ب، ص) وفي (ف):"بعضها على بعض" وهو أصحّ لغةً.

(1/224)


ثلاثةٍ) من الثياب، ما لم يرثْهُ غيرُ مكلفٍ من صغيرٍ أو مجنونٍ. (و) تكفَّنُ (الصغيرةُ في قميصٍ ولفافتينِ) استحباباً نصاً، لا خمارَ فيه.
فائدة: قال في الإِقناع: قال ابن عقيل: ومن أخرجَ فوقَ العادةِ، فأكثَرَ الطيبَ والحوائجَ، وأعطا المُقْرِئينَ بين يدي الجنازة (1)، وأعطى الحمَّالين والحفّارين زيادةً على العادة، على طريق المروءة، لا بقدر الواجب، فمتبرِّع. فإن كان من التَّرِكَةِ فمن نصيبِه. انتهى.
قال في شرحه: وكذا ما يعطى لمن يرفع صوتَهُ بالذِّكرِ، وما يُصْرَفُ من طعام ونحوه لياليَ جُمَعٍ، وما يُصْنَعُ في أيامها من البِدَعِ المستحدثة، خصوصاً إذا كان في الورثة قاصِرٌ. انتهى.
(ويكره التكفين بشعَرٍ وصوفٍ) لأنه خلاف فعل السلفِ.
(و) يكره التكفين (بـ) مُزَعْفَرٍ ومُعَصْفَرٍ (ومنقوشٍ) ولو لامرأة، لأنه غير لائقٍ بحال الميّتِ.
(ويحرم) التكفين (بجلْدٍ) لأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بنزع الجلود عن الشهداء، وأن يدفنوهم في ثيابهم.
(و) يحرم التكفين (بحريرٍ ومُذَهَّب) في حق الذَّكَرِ والأنثى والخنثى. ويجوز التكفين بالحرير عند عدمِ ثوبٍ واحدٍ يستر جميعَه، لِوجوِبهِ، ولأنّ الضرورة تندفع به.

فصل في الصلاةِ على الميّت
(والصلاةُ عليه) أي على الميّت حيثُ قلنا يُشرَعُ تغسيلُه (فرضُ
__________
(1) إعطاء المقرئين لا يكون واجباً. فما أعطاه لهم ينبغي أن يكون المعطي متبرعاً به على كل حال. فقوله لا بقدر الواجب راجع إلى الحمالين والحفارين. ولا تشرع القراءة بين يدي الجنازة عالياً.

(1/225)


كفايةٍ) بقوله - صلى الله عليه وسلم -:"صلُّوا على من قال لا إله إلا الله" (1). والأمْرُ للوجوب. وإنما يجب على العالم بالميِّتِ من المسلمين، لأن من لم يعلم معذور.
(ويسقط) فرضُ الصلاة على الميت (بـ) صلاةِ واحدٍ (مكلفٍ ولو أنثى) أو خنثى، لأن الصلاةَ على الميت فرضٌ تعلَّق بالواحِدِ، كغسله وتكفينه، ودفنه.
(وشروطُها) أي الصلاة على الميت (ثمانية): الأول: (النية؛ و) الثاني: (التكليف؛ و) الثالث: (استقبال القبلة؛ و) الرابع: (ستر العورة؛ و) الخامس: (اجتناب النجاسة) في ثوب المصلي وبدنِهِ وبُقْعَتِهِ؛ (و) السادس: (حضور الميّت) بين يدي المصلي، فلا تصحّ على جنازةٍ محمولةٍ، ولو صلى وهي من وراءِ جدارٍ لم تصح (إن كان بالبلد؛ و) السابع: (إسلام المصلّي والمصلِّى عليه، لأن الصلاة على الميت شفاعةٌ، والكافر لا يستجابُ فيه دعاءٌ؛ (و) الثامن: (طهارتهما) أي المصلي والمصلَّى عليه (ولو بترابِ، لعذر) مثلِ فقدِ الماء.
(وأركانُها سبعة) أشياء، قال في المنتهى: "وواجباتها" (2):
الأول: (القيام) من قادرٍ (في فرضِها)، فلا تصح من قاعد، ولا ممن على راحلة، إلا لعذرٍ فيهما، كبقية الصلواتِ المفروضة. قال في شرح المنتهى: وعلم من قوله: "فرضها" أن الصلاة لو تكررتْ لم يَجبِ القيامُ على من صلَّى على الجنازةِ، بعد أن صلَّى عليها غيْرُه، لسقوط الفرض بالصلاة الأولى.
(و) الثاني: (التكبيراتُ الأربعُ) فإن ترك منها غيرُ مسبوقٍ ولو
__________
(1) حديث "صلوا على من قال لا إله إلا الله .... " رواه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم (الفتح الكبير) والدارقطني. وسند الحديث ضعيف جداً (الإرواء 2/ 304)
(2) أي سماها صاحب المنتهى: واجبات، وهي أركان.

(1/226)


تكبيرةً واحدةً عمداً بطلت صلاتُه، وسهواً يكبر وجوباً، ما لم يطل الفصل. وصحَّتْ. فإن طال، أو وُجِد منافٍ للصلاة استأنف.
(و) الثالث: (قراءة الفاتحة) لإِمامٍ ومنفردٍ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتابِ" (1) ولأنها صلاةٌ مفروضة، فوجبت القراءة فيها، كالمكتوبة، وُيسَنُّ إسرارُها، ولو ليلاً.
(و) الرابع: (الصلاة على) النبيّ (محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -) زاد الأثرم: والسنةُ أن يفعلَ من وراءَ الإِمام مثلَ ما يفعل إمامهم.
(و) الخامس: (الدعاءُ للميت.) ويكفي أدنى دعاءٍ له.
(و) السادس: (السلام).
(و) السابع: (الترتيب) للأركان، فتتعين القراءة في الأُولى، والصلاةُ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، في الثانية. صرح به في المستوعِبِ والكافي والتلخيص والبُلْغة. (لكن لا يتعيَّن كونُ الدعاءِ) للميت (في) التكبيرةِ (الثالثةِ) أي بعدها، (بل يجوز) الدعاء للميت (بعد) التكبيرةِ (الرابعة،) نقله الزركشي عن الأصحابِ.
(وصفتُها) أي صفة الصلاة على الجِنازة، أن يقومَ إمامٌ عند صدرِ رجلٍ، ووسطِ امرأةٍ، وبين ذلك من خنثى. و (أن ينوي) والأوْلى معرفةُ ذكوريّته وأنوثيّته. ولا يعتبر ذلك.
(ثم يكبّر،) ويضَعُ يمينَه على شمالِه، ويتعوّذ، ويبسمل، ولا يستفتح، (ويقرأُ الفاتحةَ) كما سبق (ثم يكبر، ويصلي على محمد) - صلى الله عليه وسلم - (كَفِي التشهُّدِ) ولا يزيد عليه، (ثم يكبِّر، ويدعو للميت) في الثالثةِ سرًّا (بنحو: اللَّهم ارحمه) لأنه لا تحديدَ فيه.
ويسنُّ بالمأثور، فيقول: "اللهمّ اغفرْ لحيِّنا، وميِّتنا، وشاهِدِنا،
__________
(1) حديث "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" متفق عليه (منار السبيل).

(1/227)


وغائِبِنا، وصغيرِنا، وكبيرِنا، وذكرِنا، وأنثانا، إنك تعلم مُتَقَلَّبَنَا، ومثْوانا، وأنت على كل شيء قدير.
اللهمّ من أحييته منّا فأحْيِهِ على الإسلام والسنّة، ومن توفيته منّا فتوفَّهُ على الإيمان.
اللهم اغفرْ له، وارحمه، وعافِهِ، واعفُ عنه، وأكرمْ نُزُلَهُ، ووسِّع مُدْخَلَهُ بالماءِ والثلجِ والبَرَدِ، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَسِ، وأبدلْهُ داراً خيراً من دارِهِ، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخْله الجنةَ، وأعِذْهُ من عذابِ القبرِ وعذابِ النارِ، وافسحْ له في قبرِهِ، ونَوِّر ْلَهُ فيه.
اللهم إنه عبدك [وابن عبدك] (1) وابنُ أَمتِكَ، نَزَلَ بِكَ، وأنْتَ خيرُ منزولٍ به، ولا نعلم إلا خيراً" (2).
(ثم يكبر) الرابعة، (ويقفُ) بعدها (قليلاً، ويسلم).
(وتجزئُ) تسليمةٌ (واحدةٌ، ولو لم يقل ورحمةُ الله).
(ويجوز أن يصلِّي على الميت) من فاتته الصلاةُ قبلُ الدفن (مِنْ دَفْنِهِ إلى شهرٍ وشيء) قال القاضي: كاليومِ واليومين.
(وتحرم الصلاةُ بعد ذلك) أي بعد الزيادة اليسيرة على الشهر نصَّ عليه، لأنه لم يُتحقَّق بقاؤه بعدَ المدةِ المذكورة.
__________
(1) زيادة من شرح المنتهى.
(2) هذا الدعاء للميت في صلاة الجنازة ورد أوله من حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه. وفيه ابن إسحاق. وآخره، من قوله: اللهم اغفر له .. من رواية مسلم من حديث عوف بن مالك. وفي كلا الطرفين زيادة واختلاف (شرح المنتهى).

(1/228)


فصل في حمل الميت ودفنه
(وحملُهُ ودفنُه فرضُ كفايةٍ) وهو إكرام الميت، فإنه لو تُرِكَ لأنْتَنَ وتأَذَّى الناسُ برائحتِهِ، واستُقذِرَ، وربما أكلته الوحوش. (لكن يسقطُ الحملُ والدفنُ والتكفينُ بالكافِر) لأن فاعلَ كلٌّ من ذلك لا يختصُّ أن يكون من أهلِ القربة.
(ويكره أخْذُ الأجرةِ على ذلك) أي الحمل والدفن، لأنه يُذْهِبُ الأجر. (و) كذا يكره أخذ الأجرة (على الغسلِ) والتكفينِ.
(ويسن كونُ الماشي أمامَ الجنازةِ) قال ابن المنذر: ثبتَ أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمرَ كانوا يمشونَ أمام الجنازةِ: رواهُ أحمد عن ابن عُمَرَ، ولأنهم شفعاء، والشفيعُ يتقدمُ على المشفوعِ له، ولا يكره خلفَها.
(و) سُنَّ كون (الراكبِ) ولو في سفينة (خلفَها) أي الجنازة، بل قال الأوزاعى: إنه أفضل، لأنها متبوعة.
ويكره الركوب هنا إلا لحاجة. ولا يكره لِعَوْدٍ (1).
(والقربُ منها أفضلُ) من البُعْدِ عنها.
(ويكره القيامُ لها) إذا جاءتْ أو مرتْ به وهو جالس. (و) يكره (رفع الصوتِ) والصيحةُ (معها) وعند رفعِها، (ولو بالذِّكر والقرآنِ) بل يسن الذكر والقرآن سرًّا. ويسن لمتبعها أن يكون متخشعاً متفكراً في مآله. متعظاً بالموت وبما يصير إليه الميّت.
وقول القائل مع الجنازة: "استغفِروا له" ونحوه، بدعة، عند الإمام أحمد. وكرِهَهُ وحرمه أبو حفصٍ.
ويحرم أن يتَّبعها من منكَرٍ وهو عاجزٌ عن إزالته.
__________
(1) أي عند الرجوع من المقبرة بعد الدفن.

(1/229)


(ويسن أن يعمَّقُ القبرُ ويوسِّع بلا حدّ) لأن تعميقَ القبر أنفى لظهور الرائحة التي يستضِرّ بها الأحياء، وأبعدُ لقدرةِ الوحشِ على نبشه. والتوسعةُ هي الزيادة في الطول والعرضِ، والعُمقُ هو الزيادة في النزول. وهو بالعين المهملة. (ويكفي ما يمنَعُ من السباع والرائِحة) فمتى حصل ذلك حصل المقصود.
ولا فرق في ذلك بين قبرِ الرجلِ وقبر المرأةِ.
(وكُرِه إدخال القبرِ خشباً) إلا لضرورة. (وما) أي شيء (مسَّه نار) كالآجر، ودفنٌ في تابوتٍ، ولو امرأةً.
(و) كره (وضعُ فراشٍ تحته. و) كره (جعلُ مِخَدًةٍ تحت رأسِهِ) نص عليه الإِمام أحمد، لأنه لم ينقل عن أحد من السلف.
(وسُنّ قول مُدْخِلِه القبرَ "بسم اللهِ وعلى ملَّة رسولِ اللهِ) - صلى الله عليه وسلم -.
(ويجب أن يستقبلَ به) أي بالميت (القبلةَ) لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة (1): "قبلتكم أحياءً وأمواتاً" ولأن ذلك طريقةُ المسلمين بنقل الخلَفِ عن السلَفِ.
(ويسن على جنبه الأيمنِ) لأنه يشبه النائمَ، والنائمُ سنّته النوم على جنبه الأيمن، وأن يجعلَ تحتَ رأسِهِ لَبِنةً.
(ويحرم دفَنُ غيرِه عليهِ أو معَهُ إلا لضرورةٍ) أو حاجةٍ لكثرةِ الموتى وقلةِ من يدفنهم، خوفَ الفسادِ عليهم. ومتى ظنّ أنه بَلِيَ، وصار رميماً جاز نبشُه ودفن غيرِهِ فيهِ. وإن شكَّ في ذلك رُجِعَ إلى قولِ أهلِ الخبرةِ. فإن حَفَرَ فوجد فيها عظاماً دفنَها مكانَها وأعادَ الترابَ كما كان،
__________
(1) (ب، ص): بحذف "في"، وإثباتها الصواب كما في (ف)، ولأن لفظ "الكعبة" ليس في الحديث. المشار إليه ونصّه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: "الكبائر تسع: الإشراك بالله ...... واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً" رواه أبو داود والنسائي. وهو حديث حسن (الإِرواء 3/ 155)

(1/230)


ولم يجزْ دفنُ ميتٍ آخرَ عليه نصًّا.
(وسُنَّ) لكل من حضر (أن يحثوَ الترابَ عليهِ) أي على الميت (ثلاثاً) أي ثلاث حَثَيَاتٍ باليد، (ثم يهالُ) عليه التراب، لأنّ مواراتَهُ فرضٌ. وبالحثْيِ يصيرُ ممن شارك فيه، وفي ذلك أقوى عبرةٍ وتذكارٍ، فاستُحب لذلك.

[تلقين الميت]
(واستَحَبَّ الأكثرُ تلقينَهُ (1) بعدَ الدفنِ) فيقوم الملقن عند رأسه بعد تسوية التراب عليه فيقول: "يا فلانُ بن فلانة" ثلاثاً، فإن لم يعرف اسم أُمِّه نَسَبَهُ إلى حوّاء، ثم يقول: "اذكُرْ ما خرجتَ عليهِ من الدنيا: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وأنك رضيتَ بالله ربًّا، وبالإِسلام ديناً، وبمحمد نبيًّا، وبالقرآنِ إماماً، وبالكعبةِ قبلةً، وبالمؤمنين إخواناً، وأنّ الجنة حقّ، وأنّ النار حقّ، وأن البعثَ حقّ، وأن الساعة آتيةُ لا ريبَ فيها، وأن الله يبعثُ من في القبور" (2).

[صفة القبر وصيانة القبور]
(وسن رشُّ القبرِ بالماءِ) ووضع حصاً صغارٍ عليه، ليحفَظَ ترابَه.
(و) سن (رفعُه قدرَ شِبرٍ) ليُعْرَفُ أنه قبر فَيُتَوقَّى ويترحَّمُ على صاحبه. ويكره رفعُه فوقَ شبرٍ.
__________
(1) ذكر ابن تيمية في الاختيارات (ط حامد الفقي ص 88) أن للعلماء فيه ثلاثة أقوال: الاستحباب، والكراهة لأنه بدعة، والإباحة. والقائلون بالكراهة: يقولون: لم يثبت في فعله دليل. والصحيح مما ورد أنه يُدْعى له بالتثبيت عند السؤال.
(2) لحديث ورد في ذلك عن أبي أمامة الباهلي مرفوعاً. أخرجه أبو بكر عبد العزيز في "الشافي" ولا يعرف عند غيره (شرح المنتهى 1/ 351 والتعليق عليه) وهو ضعيف. كذا (في الإرواء). وفيه: ورواه الطبراني أيضاً.

(1/231)


(ويكره تزويقُهُ، وتجصيصُه، وتبخيرُه، وتقبيلُه، والطوافُ به، والاتِّكاءُ إليه، والمبيتُ) عنده، (والضحكُ عنده) وكتابةُ الرقاعِ إليه، ودسها في الأنقاب، (والحديثُ في أمر الدُّنْيَا. والكتابةُ عليهِ (1)، و) يكره (الجلوسُ) عليه، ويكره الوطء عليه (والبناءُ) سواء لاصَقَ البناءُ الأرضَ أوْ لا، ولو في ملكِهِ، من قُبَّةٍ أو غيرها، للنهْيِ عن ذلك.
(و) يكره (المشي بالنعلِ، إلا لخوفِ شوكٍ ونحوه) مما يُتَأذّى به، كحرارةِ الأرض.
(ويحرم إسراجُ المقابر) لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"لعنَ الله زوَّاراتِ القبورِ، والمتخذين عليها المساجد والسرج" (2) رواه أبو داود والنسائي بمعناه، ولأنّ في ذلك تضييعاً للمالِ من غير فائدةٍ، ومغالاةً في تعظيمِ الأموات.
(و) يحرم (الدفن بالمساجِدِ) ونحوها كَرُبُطٍ.
(و) يحرم الدفن (في ملك الغير) ما لم يأذَنْ رَبذُ المِلْكِ في دفنه.
(وُينْبَشُ) من دُفِنَ في المسجد نحوِه نصًّا، ومن دُفِنَ في ملكِ الغيرِ بغيرِ إذنِهِ، والأوْلى تركهُ في الثانية.
(والدفنُ بالصحراءِ أفضلُ) من الدفن بالعُمْرانِ، لأنه أقلُّ ضرراً على الأحياء من الوَرَثَةِ، وأشْبَهُ بمساكنِ (3) الآخرةِ، وأكثرُ للدُّعاءِ له، والترحُّمَ عليه.
__________
(1) حديث جابر "نهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه" رواه مسلم. وأبو داود والترمذي والحاكم وأحمد. زاد الترمذي والحاكم "وأن يكتب عليه" وصححه في الإرواء بزيادته هذه.
قلت: يعارضه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضعه الحجر على قبر عثمان بن مظعون "أُعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي" فإن الكتابة إعلام.
(2) رواه أبو داود والنسائي. وهو ضعيف (الإرواء ح 761) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
(3) (ب، ص): "مساكن" بحذف الباء، والصواب إثباتها، كما في شرح المنتهى.

(1/232)


[من ماتت وجنينها حي]
(وإن ماتت) المرأةُ (الحاملُ) بمن ترجى حياته (حَرُمَ شقُّ بطنِها) من أجل الحمل، مسلمةً كانت أو ذمّيةً، على الأصحّ، لما في ذلك من هَتْكِ حرمةٍ متيقَّنةٍ، لإبقاءِ حياةٍ موهومةٍ، لأن الغالبَ والظاهرَ أنّ الولدَ لا يعيشُ، (وأخْرَجَ (1) النساءُ من ترجى حياتُهُ) وهو ما إذا كان يتحرَّكُ حركةً قويّةً، وانتفَخَتِ المَخَارجُ، بعد تمامِ ستَّةِ أشهرٍ، (فإن تعذّر) عليهنَّ إخراجُه (لم تدفنْ) وتُرِكَ حتّى يموت، ولا تدفَنُ قبلَهُ، ولا يوضَعُ عليه ما يموّته، ولو قَدر الرِّجالُ على إخراجه (2) (وإن خرج بعضه) أي الحمل (حيًّا شُقَّ) بطنها (للباقي)، لتيقُّنِ حياتِهِ، بعد أن كانت موهومة.

فصل في أحكام المصاب والتعزية
(تسن تعزيةُ المسلم) ولو صغيراً، قبلَ الدفنِ وبعدَه، وتُكرَهُ لشابةٍ أجنبيةٍ، (إلى ثلاثةِ أيام) بلياليهن، فلا تعزيةَ بعدَها.
(فيقال) في التعزية (له) أي لمسلم مصابٍ بمسلم: (أعظمَ اللهُ أجرَكَ، وأحْسَنَ عزاءَكَ، وغَفَرَ لميتك. ويقول هو) أي المصاب: (استجابَ اللهُ دعاءَك، ورَحِمَنَا وإياك.)
__________
(1) في الأصول "وإخراج" ولا يستقيم الكلام بذلك، فصححناه من المنتهى ومنار السبيل. والمراد: يخرجنه دون شق.
(2) أي لما فيه من هتك الحرمة. وفي هذا الاجتهاد نظر، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه، في شأن تركِ تكفينه بجديد الثياب "الحيُّ أول بالجديد من الميت." فكيف لا يكون الحيُّ أولى بالإبقاء على حياته من المحافظة على حرمة الميتة؟ ولذلك فشقّ بطنِها عند الضرورة، وإخراج الرجالِ له، جائز إن شاء الله، بل واجب. وإخراجه حينئذ مذهبُ الشافعي، وذكره صاحبُ المغني (2/ 551) احتمالاً.

(1/233)


وكُرِهَ تكرارُها، فلا يعزِّي عند القبر من عزَّى.
وإذا رأى الرجلَ قد شقَّ ثوبه على المصيبةِ عزّاه، ولم يتركْ حقًّا لباطلٍ. وإن نهاه فحسَنٌ.

[البكاء والندب والنياحة]
(ولا بأسَ بالبكاءِ على الميت) قبلَ الموتِ وبعدَهُ لكثرة الأخبارِ بذلك.
(ويحرُم النَّدْبُ وهو البكاءُ مع تعدادِ محاسِنِ الميت) بلفظ النداءِ، بـ (وا) مع زيادة الأَلِفِ والهاءِ في آخرِه، كَوَاسَيِّدَاهْ. واخليلاهْ. واانقطاعَ ظهراهْ (1).
(و) تحرمُ (النياحة)، وهي رفع الصوتِ بذلك بِرَنَّةٍ.
ويحرُم شقُّ الثوبِ، ولطمُ الخدّ، والصراخُ، ونتقُ الشعَر، ونَشرُه، وحلْقُه) وفي الفصولِ: يحرم النَّحيبُ، والتَّعْدَادُ، وإظهار الجزَعِ، لأن ذلك يشبه التظلُّم من الظالم، وهو عدْلٌ من الله تعالى.

[زيارة القبور]
(وتسن زيارة القبورِ للرجالِ.) وأن يقف زائرٌ أمامَه قريباً منه.
وتباح زيارة المسلم لقبر كافر.
(وتكره) زيارة القبور (للنساءِ،) وإن علمْنَ أنَّه يقعُ منهن محرَّم حرمتْ زيارتهن القبور، قولاً واحداً.
(وإن اجتازَتْ المرأةُ بقبرٍ في طريقِها) ولم تكنْ خرجتْ له (فسلمتْ عليه ودعتْ له فحسَنٌ) لأنها لم تخرج لذلك.
(وسنّ لمنِ زارَ القبورَ) إذا كان للمسلمين (أو مرّ بها أن يقول)
__________
(1) في الأصول "بواه .. وانقطاع" فصححناه كما تقتضيه اللغة.

(1/234)


معرفاً: (السلامُ عليكُمْ دارَ قومٍ مؤمنينَ إن شاءَ اللهُ بكم للاحقون. ويرحَمُ الله المستقدمينَ منكم والمستأخرين. نسألُ الله لنا ولكم العافيةَ اللهم لا تحرمْنا أجرَهم، ولا تفتِنّا بعدهم، واغفرْ لنا ولهم) فقوله للاحقون للتبرك (1).

[ابتداء السلام ورده]
(وابتداءُ السلامِ على الحيّ سُنّة) ومن جماعةٍ سنة كفايةٍ.
والأفضلُ السلامُ من جميعِهِمْ، فلو سلم عليه جماعةٌ، فقال: وعليكم السلام، وقَصَد الرد على الذين سلَّموا عليه جميعاً، جاز ذلك، وسقط الفرضُ في حقٌّ الجميع.
ويكرهُ الانحناء.
ورفعُ الصوتِ بابتداءِ السلام سنة، ليسمعه المسلَّم عليهم سماعاً محقَّقاً.
وإن سلَّم على أيقاظٍ عندهم نيامٌ، أو على من لم يعلم هل هم أيقاظٌ أو نيامٌ، خفَضَ صوته بحيثُ يُسْمِعُ الأيْقاظ ولا يوقظُ النيام.
ولو سلم على إنسانٍ، ثم لَقِيَهُ على قربٍ سُنَّ أن يسلّم عليهِ ثانياً وثالثاً وأكثرَ.
وسُنَّ أن يبدأ بالسلام قبل كل ّكلامٍ.
ولا يتركُ السلامَ إذا كان يغلبُ على ظنِّهِ أن المسلم عليهِ لا يردُّ عليه.
وإن دخل على جماعةٍ فيهم علماءُ سلَّم على الكلِّ، ثم يسلم على العلماءِ ثانياً.
__________
(1) في شرح المنتهى (1/ 360) "وقوله إن شاء الله للتبرك".

(1/235)


(وردُّه) فرضُ عينٍ على المسلم عليهِ المنفرد، و (فرضُ كفايةٍ) على الجماعة المسلَّمِ عليهم، فيسقُطُ بردِّ واحدٍ منهم.
ويجب الرد فوراً بحيثُ يُعَدُّ جواباً للسلام، وإلا لم يكن ردًّا.
ورفع الصوتِ بالردِّ واجبٌ قدر الإبلاغ.
وتُزادُ الواو في ردّ السلام وجوباً. ويخيَّر بين تعريفِهِ وتنكيرِه في سلامِه على الحيّ.
ويكره أن يسلّم على امرأةٍ أجنبيةٍ إلا أن تكونَ عجوزاً أو بَرْزَةً.
ويكره في الحمّام، وعلى آكلٍ، وتالٍ، ومقاتلٍ، وذاكرٍ، وملبٍّ، ومحدِّثٍ، وخطيبٍ، وواعظٍ، وعلى من يسمَعُ لهمْ، ومكرِّرِ فقهٍ، ومدرسٍ، ومن يبحث في العِلْم، وعلى من يؤذّن، أو يقيمُ، وعلى من هو على حاجَتِه، أو يتمتّع بأهْلِهِ، أو مشتغلٍ بالقضاءِ، ونحوهم.
ومن سلّم في حالةٍ لا يستحبُّ فيها السّلامُ لم يستحقَّ جواباً.

[تشميت العاطس]
(وتشميتُ العاطسِ إذا حَمِدَ فرضُ كفاية) فيقولُ له: يرحمك الله، أو: يرحمكم الله.
(وردُّه) أي العاطسِ على من شَمَّتَهُ (فرضُ عينٍ) فيقول: "يهديكم الله ويصلحُ بالَكُم".
ويكرَهُ أن يشمِّت من لم يحمِدَ، وإن نسيَ لم يذكّره، لكن يعلِّم الصغيرَ ونحوَهُ أن يَحمد. قال الشيخ عبد القادر: ويقال للصبيّ إذا عطَسَ: بورك فيكَ، وجبرك الله (1). فإن عَطَسَ ثانياً وحَمِدَ شمَّتَهُ، وإن
__________
(1) لم يرد في التفريق بين تشميت الصغير وتشميت الكبير نصٌّ مذكور، ولا يقتضيه قياس ولا غيره.

(1/236)


عطس ثالثاً وحَمِدَ شمَّته، وإن عطس رابعاً دَعَا لَه بالعافيةِ، ولا يشمِّت للرابعةِ إلا إذا لم يكن شمَّته قبلها ثلاثاً. فالاعتبار بالتشميتِ، لا بعدَدِ العَطَسات. فلو عطس أكثر من ثلاثٍ متواليات شمّته بعددها (1) إذا لم يتقدَّم تشميت. قال في شرح المنظومة: قولاً واحداً.

[الميت وعمل الأحياء]
(ويعرف الميت زائرَهُ يومِ الجمعةِ قبلَ طلوعِ الشمسِ) وفي الغُنْية: يعرفه كل وقت، وهذا الوقت آكد (2). (ويتأذى بالمنكرِ عندَه وينتفع بالخير) عنده.
ويجب الإيمان بتعذيب الموتى في قبورِهم.
ويسنُّ لزائرِ الميتِ فعلُ ما يخفّفُ عن الميت، ولو بجعل جريدةٍ رطبةٍ في القبر.
وكلَّ قربةٍ فَعَلَها مسلمٌ وجعَلَ ثوابَها لمسلمٍ حيٍّ أو ميّتٍ حصَل له ثوابُها، ولو جهلَ الجاعلُ من جعلَه لهُ، كالدعاءِ إجماعاً، والاستغفارِ، وواجبٍ تدخله النيابَةُ كالحجِّ، وصدَقةِ التطوّع، وكذا العتقُ، والقراءةُ والصلاةُ، والصيام (3).
وهل يُشتَرَطُ في إهداءِ القُرْبَةِ إلى الميّتِ أن ينويَه قبل فعلِها؟ به جزم الحلواني، في التبصرة.
وإهداءُ القُرَبِ مستَحبٌّ. قال في الفنون: ويستحبُّ إهداؤُها حتَّى للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذا قال صاحب المحرر.
__________
(1) (ب، ص) بعدها. والتصويب من (ف).
(2) ورد بذلك حديث واهٍ رواه الضحّاك، ولا يثبت بمثله شرع ولا اعتقاد.
(3) في ذلك نظر، فإن الأخبار الصحيحة، وردت في الأفعال المتعدية كالحج عن الميت والصدقة عنه، وورد الدعاء له والاستغفار بنص القرآن. أما الصلاة والصيام عنه ونحو ذلك، فلم يرد فيه قرآن أو حديث صحيح فيما نعلم.

(1/237)