شرح زاد المستقنع للحمد

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

[شرح زاد المستقنع]

لفضيلة الشيخ/ حمد بن عبد الله الحمد

كتاب الطهارة

كانت البداية في هذا الدرس المبارك يوم الأحد بعد صلاة المغرب الموافق 8/10/1414هـ وكانت الدروس كل ليلة ما عدا ليلتيّ الجمعة والسبت*.

نسأل الله الإعانة على ما بدأنا به، كما نسأله التوفيق والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله.

كتبه: أبو حافظ عبد العزيز الغسلان غفر الله له.
__________
* هذا في البداية لكن تغيّر هذا ـ كما ستلاحظه في تاريخ الدروس ووقتها ـ وهذا التغيير هو أنّ الدروس أصبحت كل ليلة سوى ليلتي الخميس والجمعة.


وهذا الدفتر الأول، ويشتمل على شيء من كتاب الطهارة
من أول الكتاب إلى:

(باب: المسح على الخفين)

الدرس الأول
(الأحد: 8 / 10 / 1414 هـ)
المقدمة:

إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ وَنستَعينُهُ ونَتُوبُ إَلَيهِ، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنَا ومن سيئاتِ أعمالِنَا من يهدِهِ اللهُ، فلا مُضِلَّ لَه، وَمَن يُضلِلْ، فَلا هَادِيَ لَه.
وأشهدُ أَن لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدهُ ورسولُه.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُون)) آل عمران آية (102) .
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَّخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مَنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَّنِسَاءاً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَام إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رقِيبَا)) النساء آية (1) .


((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَولاً سَدِيداً، يُصْلِح لَكُم أَعْمَالَكُم وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُم وَمَن يُّطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) الأحزاب آية (70، 71) .
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدي، هدي محمدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُهَا، وَكُلَّ مُحدثةٍ بِدْعَة، وكُلَّ بدعةٍ ضلالة، وَكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّار.
هذه المجالس نتدارس فيها الفقه وهو من أعظم العلوم ومن أفضلها، فإن هذا العلم يتعرف به المسلم على كيفية عبادته لربه سبحانه، ويعبد الله على بصيرة من أمره. إذ العمل لا يتقبل مع الإخلاص إلاّ بأن يكون على السنة صواباً فوجب على المسلم أن يعبد الله على بصيرة من أمره بالتفقه في دين الله تعالى، وبه يعرف المسلم ما أحله الله وما حرمه من البيوع والأنكحة وغير ذلك، وبه يتعلم الحدود والجنايات، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية التكليفية التي كلف الله بها عباده وقننها لهم سبحانه وتعالى.
فعلم الفقه من أهم العلوم الشرعية فليس يفضل عنه إلا علم التوحيد الذي هو متعلق بالله سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته عز وجل.
وإن من الطرق التي يتدارس بها الفقه أن يتعلم من خلال أحد الكتب الفقهية المذهبية فإن ذلك من الطرق الصحيحة السليمة في تعلم الفقه، وليس المقصود من ذلك أن يتلقى ما فيها من صواب وخطأ. بل أن يتدارس وأن يتحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام فيما وقع بين أهل العلم من الخلاف. فإن ما يذكره صاحب المؤلَّف الذي نتدارسه أو غيره من المؤلفين بالفقه ليس كله صواباً، وليس كله مجمعاً عليه. بل قد وقع كثير من الخلاف بين أهل العلم.
إلا أن هذه الطريقة في التدارس وهي التلقي عن بعض الكتب الفقهية المذهبية أن هذا في الحقيقة فيه فوائد كثيرة: من ذلك:


ـ أنه أسهل ترتيباً من التلقي عن طريق الكتب التي جمع فيها مؤلفها الأحاديث النبوية المشتملة على المسائل الشرعية، فإن هذا بلا شك أسهل ترتيباً وأوضح. بل إن أصحاب الكتب المؤلفة الحديثية، كصاحب بلوغ المرام، والمنتقى من أخبار المصطفى وغير ذلك من الكتب إنما استفادوا ذلك الترتيب من هذه الكتب الفقهية.
ـ الأمر الثاني: أنه أبعد عن تشتت ذهن الطالب، فإنه من المعلوم أن الكتب التي جمعت الأحاديث النبوية في الأحكام ليست جامعة للأحكام كلها، إذ الأحكام الشرعية مستفادة من الأحاديث النبوية ومن غيرها؛ فإنها تستفاد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإجماعات، والقياسات الصحيحة وأقوال الصحابة.
وكتب الحديث الفقهية إنما تجمع الأحاديث التي قالها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مسائل الأحكام التكليفية فلا شك أنه ـ حينئذ ـ يكون أبعد للتشتيت فإن الطالب عندما يقرأ الكتاب الفقهي يجد فيه جميع المسائل العلمية التي استفادها العلماء من القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأحكام الشرعية.
فيكون أبعد لأَنْ يتشتت ذهنه بأن تجمع له المسائل من مصادر أخرى، بل يجد هذه المسائل موجودة في الكتاب الذي يتدارسه.
فإن التدارس من الكتب الفقهية ليس منكراً ـ كما ينكره بعض طلبة العلم ـ هذا أمر ليس بصحيح، بل تدارس ذلك من الطرق السليمة التي مازال يبينها أهل العلم، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية وكذلك ابن القيم وغيرهم من أهل العلم قد تلقوا الفقه من مثل هذه الطريقة.
لكنهم لم يكتفوا ـ كما اكتفى كثير من الناس المقلدين، اكتفوا بها فتلقوا العلم من هذه الكتب ثم اكتفوا بذلك ولم يحرروا ولم يبحثوا عن الحق، بل اكتفوا بما فيها، فهذا أمر ليس بصحيح، وليس مشروعاً وهذا هو التقليد المذموم.


لكن كون المسلم يتعلم منها ويتفقه ويتفهم ثم يبحث عن الحق بدليله؛ فإن هذا أمر سائغ جائز، مازال عليه أهل العلم، والذّم إنما يقع في الصورة المتقدمة بأن يتلقى منها تلقي العلم مجرداً عن دليله، فيأخذ المسائل مقلداً هؤلاء من غير أن يبحث عن الحق بدليله، بل لو عرض له الحق بدليله أباه ورفضه.
أو هو قادر على أن يجد الحق بدليله لكنه يعرض عن ذلك، ويكتفي بما تقدم.
بخلاف العاجز عن البحث والنظر فإنه يجوز له التقليد، فإن العاجز الذي لا نظر له في المسائل العلمية يسوغ له أن يقلد أحداً من أهل العلم من غير أن يحدد ذلك بصاحب مذهب ولا غيره، بل كل أهل العلم يقلدون كما قال تعالى:
{فاسْأَلُوا أهلَ الذّكرِ إنْ كنتُم لا تعلَمُون} (1) .

* قوله: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) :
ومؤلف الكتاب هو شرف الدين أبو النجا موسى بن أحمد المقدسي، المتوفى سنة 960هـ، وهو حنبلي المذهب، وله مؤلفات نافعة في المذهب الحنبلي منها هذا الكتاب (زاد المستقنع) ، ومنها كذلك كتاب: (الإقناع) .
وقام بشرحهما البهوتي، المتوفى سنة 1046هـ شرح (زاد المستقنع) بكتاب أسماه: (الروضُ المُرْبِع) ، وشرح الإقناع بكتاب أسماه: (كشاف القناع عن متن الإقناع) .
وهما كتابان نافعان.
والمؤلف مشهور من مشايخ المذهب الحنبلي، وقد شرع المؤلف بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز.
__________
(1) سورة النحل (43)


واقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رسائله وكتبه فإنه كان يفتتحها بالبسملة، كما ثبت ذلك في الصحيحين من كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى هرقل عظيم الروم، فإنه كتب فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم: من مُحمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم) (1) ، فشرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالبسملة فيه.
وقد قال تعالى عن ملكة سبأ: {قالت يا أيها الملأُ إني أُلقي إلى كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} (2) . فهي من سنن أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وأما ما رواه الخطيب، والحافظ الرهاوي في أربعينه: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) (3) فهذا الحديث فيه ابن الجندي، وهو متهم، فالحديث، ضعيف جداً، لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
(بسم الله) هنا الباء للاستعانة، و (اسم) مجرور بحرف الجر و (الله) مضاف إليه، مضاف إلى اسم، وهما متعلقان بمحذوف فعلي متأخر مناسب، تقديره هنا: (بسم الله أُؤَلِّف) ، وعندما نتوضأ تقديره: (بسم الله أَتَوَضَّأ) ، وعندما نقرأ تقديره: (بسم الله أقرأ) ؛ فهو فعل متأخر عن الجار والمجرور يناسب المقام.
(بسم الله) : أي أستعين بالله في قراءتي وأستعين به في وضوئي، وأتبرك بالبداءة باسمه سبحانه وتعالى في تأليفي وفي وضوئي أو في قراءتي ونحو ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري: في كتاب بدء الوحي، رقم 7، وأخرجه كذلك برقم 51، 2681، 2804، 2940، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل (1773) .
(2) سورة النمل (30) .
(3) قال في الإرواء [1 / 29] رقم (1) : " ضعيف جداً، وقد رواه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (1 / 6) " وقال: " وهذا سند ضعيف جداً آفته ابن عمران هذا، ويعرف بابن الجندي ".


و (الله) : هو العَلَم الأعظم لله عز وجل؛ فهو اسم الله سبحانه وتعالى الذي هو عَلَم من أعلامِهِ.
وأصله من الإله: وهو المعبود، وهو يطلق على المعبود سواء كانت عبادته حقاً أو كانت باطلاً، كما قال تعالى: {أنه لا إله إلا أنا} (1) ، وقوله {واتخذوا من دونه آلهة} (2) : فهي آلهة لكنها باطلة. لذا يقال: لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
فإذاً (الله) : مشتق من الإله: وهو المعبود، والله هو الاسم الأعظم لله، وهو علمٌ له.
(الرحمن) : أيضا اسم من أسمائه وتعالى متضمن لصفته الرحمة التي هي صفة من صفاته تعالى.
و (الرحيم) كذلك اسم من أسمائه متضمن لصفة الرحمة أيضا إلا أن الرحمة في الرحمن صفة متعلقة بذاته سبحانه، أي ذو الرحمة الواسعة الشاملة.
وأما الرحيم فهي صفة متعلقة بفعله سبحانه: أي ذو الرحمة الواصلة أي إلى من يشاء من خلقه سبحانه.
والرحمن: نظراً إلى صفتة الذاتية.
والرحيم: نظراً إلى صفته سبحانه وتعالى الفعلية.

* قوله: ((الحمد لله حمداً لا ينفد)) .
هنا شرع المؤلف بالحمد لما ورد في سنن أبي داود وابن ماجه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع) (3) أي ذاهب البركة، فلا بركة فيه.
وهذا الحديث رواه الحفاظ عن الزهري مرسلاً.
__________
(1) سورة النحل (2) ، سورة الأنبياء (25) .
(2) سورة الفرقان (3) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام (4840) بلفظ: (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) ، أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب خطبة النكاح (1894) " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن يحيى ومحمد بن خلف العسقلاني قالوا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع ".


ورواه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف، رواه عنه موصولاً بذكر أبي هريرة، والصواب ترجيح رواية من أرسله، فهم الحفاظ ولذلك قال الدارقطني: " فالحديث الصواب أنه مرسل " وعليه فالحديث ضعيف.
وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفتتح كلامه بالحمد والثناء على الله.
وكذلك اقتداء بالكتاب العزيز، فإن فيه {بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين} . فالحمد يشرع للمسلم أن يفتتح كلامه به.
أما هذا الحديث الوارد فهو حديث ضعيف مرسل لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم، وقد حسنه بعض العلماء كالنووي، وابن الصلاح وغيرهما.
والصواب أنه ضعيف مرسل من مراسيل الزهري وهي من ضعاف المراسيل.
والحمد: هو ذكر محاسن المحمود محبة له وإجلالاً.
" ذكر محاسن المحمود " أي فضائله، خيراته، ما عنده من الصفات الحميدة والأفعال الطيبة، هذا كله يسمى حمداً.
" محبة وإجلالاً ": فليس مقابل النعمة فحسب، بخلاف الشكر، فإن الشكر أخص منه من هذه الحيثية، فإنه إنما يكون ـ أي الشكر ـ مقابل النعمة، أما الحمد فإنه سواء كان من هذا المحمود نعمة قد أسديت إليك أو لم يكن منه ذلك، فإنك تحمد فلاناً على شجاعته وقوله الحق وصلاحه ونحو ذلك، وإن كان هذا كله لا يصل إليك منه شيء.
وكذلك إن أسدى إليك معروفاً فكذلك يسمَّى حمداً.
أما الشكر فهو أخص منه، فالشكر: لا يكون إلا مقابل النعمة، والله عز وجل يحمد على كل حال، ولا يحمد على كل حال سواه سبحانه وتعالى.


وقد ثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال) (1) .
إذاً الحمد: هو ذكر محاسن المحمود سواء كان مقابل النعمة أو لم يكن مقابلها.
فالله يحمد على كل صفاته سواء التي يصل إلينا منها شيء من النعم، أو كانت الصفات اللازمة منه سبحانه كحياته سبحانه.
فالله يحمد على حياته، ويحمد على غيرها من صفاته سواء كانت الصفات اللازمة أو الصفات المتعدية.
إذن: الحمد هو ذكر محاسن المحمود تحية له وإجلالاً.
(حمداً لا ينفد) : أي نفس الحمد لا ينفد. أما قول الحامد فإنه سينفد بنفاده وموته، فإنه ينقطع حمده لكن هذه المحاسن وهذه الفضائل، هذه الصفات التي يتصف الله بها لا تنفد، فهي صفات لا تنفد، فالله عز وجل لا يزال متصفاً بصفات الكمال ولن يزال على ذلك.
كما أنه سبحانه لا يزال محموداً من خلقه: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (2) أما من حيث الأفراد فإن من مات منهم أو شغل بأمر من الأمور فإن حمده يقف وينقطع.
لكن الله عز وجل لا يزال محموداً من خلقه من حيث العموم.
كما أنه سبحانه لا يزال متصفاً بصفات الحمد.
(لا ينفد) : أي لا ينقطع.

* قوله: ((أفضل ما ينبغي أن يحمد)) .
فهو أهل الثناء والمجد ـ سبحانه ـ ولا يحصى الثناء عليه، فيثنى عليه سبحانه بما ينبغي له سبحانه.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل الحامدين (3803) قال: " حدثنا هشام بن خالد الأزرق أبو مروان حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا زهير بن محمد عن منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية بنت شيبة عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يحب قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: (الحمد لله على كل حال) .
(2) سورة الإسراء 44.


* قوله: ((وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد)) .
(صلى الله) : أي أثنى.
فالصلاة من الله عز وجل هي الثناء؛ كما قال ذلك أبو العالية.
وقيل: هي الرحمة، وهو ضعيف.
والصواب أن الصلاة من الله هي الثناء؛ لأن الله عز وجل قد عطف أحدهُما على الآخر.
{عليهم صلوات من ربهم ورحمة} (1) فدل على أنهما متغايران إذ الأصل في التعاطف هو التغاير؛ كما أن الرحمة عامة، وأما الصلاة فهي خاصة فناسب ألا تفسر الصلاة بها.
إذن الصلاة من الله عز وجل هي الثناء فعندما تقول: " اللهم صل على محمد " أي بمعنى: اللهم اثن على محمد واثن عليه عند ملئك المقربين.
وعندما يدعو الإنسان بالصلاة؛ فالمراد من ذلك أنه يدعو له بأن يثني الله عز وجل عليه.
إذن الصلاة من الله هي: الثناء.
(وسلم) : السلام من السلامة؛ وهي البراءة من النقائص والعيوب والآفات: أي يدعو الله بأن يسلمه من كل نقص وعيب لا يليق به ـ أي الآدمي، ومن كل آفة. فإذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجمع له بين الصلاة والسلام.
الصلاة: بأن يثني الله عليه وهذا جلب خير.
والسلام: أن يدعي الله بأن يسلم عليه: أي يلقي عليه السلامة من الآفات والعيوب فهذا دفع ضر، فيجتمع له بين جلب الخير ودفع الضر.

* (على أفضل المصطفين) : المصطفين: جمع مصطفى وهو المختار من الصفوة: وهي خلاصة الشيء. فالمصطفون هم المختارون من الله سبحانه، الذين اختارهم الله على خلقه؛ لأنهم خلاصة خلقه.
__________
(1) البقرة 157.


وهم الأنبياء والرسل، وهو عليه الصلاة والسلام أفضل هؤلاء، فهو أفضل رسل الله عليهم صلاة الله وسلامه جميعاً. ويدخل في ذلك أولو العزم، كإبراهيم عليه السلام وموسى وعيسى عليهم السلام، وغيرهم من أنبياء الله فكلهم مفضولون بالنسبة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو سيدهم وأفضلهم، فهو سيد البشر ولا فخر؛ كما صح ذلك عنه في الحديث المتفق عليه (1) .

* قوله: ((وعلى آله وصحبه ومن تبعهم)) .
(آله) : من آل يؤول إذا رجع.
وقيل بمعنى أهل وهو ضعيف، ضعّفه ابن القيم في كتابه في الصلاة [على] النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة أوجه، ليس هذا موضع ذكرها.
فـ: (آله) : أصلها من آل يؤول، إذا رجع. فآل الرجل: هم الراجعون إليه المضافون إليه المنتسبون إليه. هم آل الرجل.
وآل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم إطلاقان:
1ـ إطلاق خاص، 2ـ إطلاق عام.
* أما الإطلاق الخاص: فهم قرابته وزوجاته.
فزوجاته وذريته وسائر قرابته هم آله، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أما علمت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة) (2) : فالمراد من (آل محمد) : هم أقاربه من بني هاشم، وذريته عليه الصلاة والسلام من فاطمة رضي الله عنها وزوجاته على قول قاله بعض أهل العلم تقدم البحث فيه.
__________
(1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ... ) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - (2278) ، وفي لفظ: (أنا سيد الناس يوم القيامة) برقم (194) . وأخرجه البخاري (4712) ، (3340) .
(2) أخرجه البخاري بلفظ (أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة) في كتاب الزكاة، باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل، وأخرجه أيضاً في مواضع أخرى دون ذكر (الآل) ، وأخرجه مسلم كذلك (1069) .


وقوله عليه الصلاة والسلام أيضاً: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) (1) : فهنا زوجاته وأهل بيته خاصة فهم آله هنا. وهذا أخص من الإطلاق السابق أيضا.

* أما الإطلاق العام: فهم أتباعه عامة من قرابته المؤمنين، ومن ذريته ومن زوجاته ومن سائر أتباعه من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد قال تعالى: {أدْخلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ العَذَاب} (2) ، فهنا لا شك أن آل فرعون ليس أهله خاصة، وإنما أهله ومن اتبعه على باطِلِهِ فَهُم آلُ فِرعَوْن.
كما أنه يدخل فيه - وهذا أخص إطلاقات آل، يدخل فيه - الشخص نفسه.
فالشخص نفسه عندما يقال آل فلان، يدخل فيه الشخص نفسه، ما لم تكن هناك قرينة تمنع من دخوله، ومنه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (اللهم صل على آل أبي أوفى) ، فإن هذا المتصدق المزكي، وهو أبو أوفى أحق الناس بالدخول في هذه الجملة (اللهم صل على آل أبي أوفى) (3) : أي عليه وعلى آله ـ كما أن قوله تعالى {أدخلوا آل فرعون أشدّ العَذاب} (4) ، يدخل فيهم فرعون ولا شك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، نهاية باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم من الدنيا (6260) بلفظ (اللهم ارزق آل محمد قوتاً) . وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (1055) وفي كتاب الزهد والرقاق باب ما بين بعد (2969) . وابن ماجه في كتاب الزهد، باب معيشة آل محمد - صلى الله عليه وسلم - (4139)
(2) سورة غافر (46) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (1497) ، وأخرجه كذلك برقم (4166) ، (6332) ، 6359) ، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقة (1077) ، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة (1796) .
(4) سورة غافر (46) .


إذن تبين من هذا أن (آل) يدخل فيها الشخص نفسه وتدخل فيها زوجاته وذريته، ويدخل فيها سائر قرابته، ويدخل فيها على وجه العموم أتباعه والسياق يحكم، فالسياق هو [الـ]ـحاكم.
فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) (1) ، هنا: النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يدعو بهذا الدعاء لأهله خاصة بأن لا يكون عندهم غنى زائد، وإنما يكون عندهم ما يتقوتون به كفاية، ومثل هذا الدعاء اللائق أن يكون للشخص نفسه وأهله خاصة دون أن يتعدى هذا إلى سائر قرابته ممن قد لا يكون متحملاً لمثل هذه المعيشة بأن يكون قوتاً، وممن قد يكون محباً للغنى، ونحو ذلك.
لذا كان أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهن رضوان الله، كُنَّ قد أجيبت لهنّ هذه الدعوة، فكُنَّ حتى بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معيشتهنّ قوتاً وما فَضَلَ فإنهنّ يتصدقن به.
وأما آله من قرابته من بني هاشم فإنه كان فيهم الأغنياء وكان فيهم الفقراء.
إذن لفظة (آل) : من آل يؤول، إذا رجع، ومعناها الحاكم فيه السياق، فإنه قد يراد بها العموم وقد يراد بها القرابة والذرية والزوجات، وقد يدخل فيها الشخص نفسه، وحكم ذلك كما تقدم إلى السياق.
(مُحمد) : هو اسمه الذي هو أعظم أسمائه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو اسم مفعول على وزن: مُفَعَّل، نحو مُعَظَّم، ومُقَدّس، ومُبجَّل، ونحو ذلك.
وهذا الوزن يراد منه تكرار حدوث الفعل الذي اشتق منه هذا الاسم، فيكون المعنى: من لا يزال يحمد، فهو لا يزال يُحمَد حَمْداً بعد حمد من الله عز وجل وملائكته: أي لا يزال يثنى عليه ويذكر بمحاسن أفعاله وفضائله عليه الصلاة والسلام من الله والملائكة ومن المؤمنين.
بل يحمد من الناس عامة؛ كما يكون هذا يوم يكون له المقام المحمود.
__________
(1) سبق قريباً.


حتى مَن كَذَّبَ بِهِ، وأنكر نُبُوَّته؛ فإنه يحمد على ما فيه عليه السلام من الصفات الحميدة، فهو محمود، قد تكرر فيه الحمد فلا يزال يحمد.
وهذا الاسم " محمد ": هذا اسمه في التوراة.
ومن أسمائه (أحمد) : وهو اسمه في الإنجيل، كما قال تعالى: {ومبشراً برسُولٍ يأتي من بعدي اسمُهُ أحمد} (1) .
واسم " أحمد": فيه مزيد معنى على المعنى المتقدم؛ وهو أنه أحمد لله عز وجل من غيره: أي أكثر حمداً لله سبحانه وتعالى.
ومنه (2) معنى آخر؛ أنه أفضل حمداً من غيره يعني: كما أن له الكمية في كونه محمداً: أي حمده كثير لا يزال متكرراً من الله: أي ليس لله إنما من الله فهو كذلك أحمد أي أحمد من غيره عند الله وعند ملائكته.
فهو محمود حمداً أفضل وأكثر، أكثر كمية، وأفضل كيفية من غيره، فهو محمد أي لا يزال يحمد وحمده عليه الصلاة والسلام فاضل عن حمد غيره، فحمده أي ثناء الله عليه، وثناء غيره عليه، أعظم وأبجل من ثنائهم على غيره صلوات الله وسلامه عليه.
كما أنه أحمد لله سبحانه من غيره، محمد عليه الصلاة والسلام، أفضل كيفية وأكثر كمية من حمد غيره؛ فهو أكثر الناس حمداً وأعظم الحامدين لله عز وجل.
(وآله) : وآله هنا: هم قرابته وزوجاته وذريته، للعطف، فإنه عطف الصحابة عليهم.
فيكون حينئذ: نقول بالمعنى الخاص لدخول أتباعه بالمعنى العام.
(وأصحابه) : جمع صحب، وصحب جمع صاحب وهو من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمنا به، ومات على ذلك، فعلى ذلك لو أن رجلاً لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمناً ونظر إليه، لكنه ارتد ثم رجع إلى الإسلام فهو صحابي؛ لأن هذا الوصف ثابت فيه، فقد لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مؤمن به، وإن طرأ على ذلك ردة.
__________
(1) سورة الصف (6) .
(2) لعل الأقرب: وفيه.


وعليه أيضا، من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجالسه لكنه لم يكن مؤمناً به ثم آمن بعد ذلك لكنه لم يسعد برؤيته؛ فإنه لا يكون صحابياً وإنما يكون تابعياً.
فإذن الصحابي هو من رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان في تلك الحال مؤمناً بالله عز وجل.
ومثل ذلك من منعت رؤيته مانع كأن يكون أعمى لا يبصر فهو صحابي لأن الذي منع من الرؤية إنما هو كونه أعمى وليس المقصود هو مجرد الرؤية فحسب بل اللُّقيا ثابتة له فيكون صحابياً أيضاً.
(ومن تعبد) : أي تعبد لله وتذلل له وأطاعه، والعبادة ـ كما قال شيخ الإسلام: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

* قوله: ((أما بعد)) .
(أمّا) : أي مهما يكن من شيء، فأما هنا تنوب عن أداة الشرط وعن فعله، و (أما) بمعنى (مهما يكن من شيء) .
(بعدُ) : هنا ظرف زمان، مبني على الضمة في محل نصب، لكون المضاف إليه محذوف، والأصل "بعد ذلك"، والمعنى: (مهما يكن من شيء بعد ذلك) .

* قوله: ((فهذا مختصر في الفقه)) .
المختصر: اسم مفعول من الاختصار.
والاختصار في الكلام: هو أن تقل الألفاظ وتكثر المعاني.
وهذا ممدوح ـ حقيقة ـ؛ لأنه أسهل للحفظ وأجمع للأحكام ولكن بشرط ألاّ يكون ذلك فيه غموض بحيث يحتاج إلى مشقة وتعب لتفهمه وتفهيمه، يعني تعلمه وتعليمه يحتاج إلى مشقة؛ لأن ألفاظه غامضة فهذا مذموم.
(الفقه) : الفقه لغة: الفهم ومنه قوله تعالى: {واحْلُل عقدة من لساني يفقَهُوا قولي} (1) : أي يفهموه.
اصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية التكليفية العملية من أدلتها التفصيلية.
__________
(1) سورة طه (28) .


(معرفة) : سواء كان هذا علماً يقينياً جازماً أو كان ظناً غالباً يغلب على الظن، لأن العلم لا يدرك باليقين كله، بل منه ما يكون ظناً غالباً ليس من الظن المذموم الظن المرجوح أو الظن السيئ، وإنما المراد به أن يغلب على ظنه، فيكون احتمال الصواب أكثر من احتمال الخطأ، فإنه ليست المسائل الشرعية كلها - بل ولا أكثرها - يدرك باليقين، بل الكثير أو الأكثر إنما يدرك بالظن الغالب، لذا يقال: " الراجح " أي من القولين المحتملين للصواب أي هذا هو القول الراجح الذي احتمال الصواب فيه أكثر من احتمال الخطأ.
(الأحكام الشرعية) : ليست أحكاماً عقلية ولا عادية، وإنما هي أحكام شرعية أي منسوبة إلى الشرع.
(التكليفية) : التي يكلف بها العباد.
(العملية) : تخرج بذلك الاعتقادية، فهي ليست داخله فيها، فليس البحث هنا في باب التوحيد ولا الأسماء والصفات ولا اليوم الآخر.
هذا محل بحثه كتب العقائد وكتب التوحيد، إنما هنا في الأحكام العملية من صلاة وصوم وطلاق وبيوع ونحو ذلك.
(بأدلتها التفصيلية) : لابد أن يكون ذلك مع الدليل وإلا لم يكن فقها، فإن الرجل إذا عرف مسألة من المسائلِ الشرعيةِ لكنه لا يعرف دليلها فليس بفقيهٍ فيها.
وكذلك لو كان عالماً بكتاب من كتب الفقهاء مطلعاً عليهِ عارفاً بمعانيه، لكن ليس عنده أدلة شرعية تدل على هذه المسائل فهو ليس بفقيه.
فالفقيه من جمع بين فهم المسألة ومعرفة دليلها، لابد من فهم المسألة مع معرفة دليلها.
فليس بعالم من فهم المسائل وأحاط بمعانيها لكنه جاهل بأدلتها الشرعية بإجماع العلماء، لذا أجمع العلماء - كما حكى ذلك ابن عبد البر - على أن المقلد ليس بعالم.


و (التفصيلية) : ضد الإجمالية، فالإجمالية: هي الأصول العامة كالقياس والإجماع والسنة والكتاب هذه تسمى أدلة إجمالية لكنَّ الأدلة التفصيلية هي: ما تضمنه باب القياس من القياس في مسألة معينة، والأحاديث النبوية بأفرادها، يسمى أدلة تفصيلية، لكن السنة من حيث العموم تسمى أدلة إجمالية وقد تقدم البحث في هذا في شرح الأصول.

* قوله: ((من مقنع الإمام الموفق أبي محمد)) .
المقنع: هو كتاب ألَّفَهُ الشيخ: موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي ـ رحمه الله تعالى ـ المتوفى سنة 620هـ.
وهو شيخ المذهب وإمام الحنابلة ـ رحمهم الله تعالى ـ مع علمه بالسنة والعقيدة فهو من أهل العلم المشهورين.
وله هذا المُؤلف وهو المقنع، هذا المؤلف: جمع فيه المسائل الفقهية في المذهب الحنبلي لكنه لم يكتف بقول واحد في المسألة بل يذكر في المسألة روايتين أو وجهين أو احتمالين.
ـ والفرق بين الرواية والوجه والاحتمال:
(وهذه كلها داخله في المذهب يعني: المذهب الحنبلي فيه مسائل خلافية، وكذلك المذهب الشافعي في (1) مسائل خلافية في المذهب نفسه) .
فالرواية هي: ما قاله الإمام نفسه.
فإذا قيل: " وفي هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان " أي قولان منسوبان إليه نفسه.
بمعنى: أفتى بقول ثم أفتى بقول آخر لكنهم لا يعرفونه التاريخ حتى يرجحوا أو أنهم عرفوا التاريخ فرجحوا وبقيت تلك الرواية.
ومعلوم أن الإمام مهما علا قدره وكثر علمه فإنه يتغير قوله فيبدو له من الترجيحات ما لم يبدُ له سابقاً فيقول قولاً وبعد فترة من الزمن يقول قولاً آخراً؛ لأنه تبين له أن ذاك الدليل الذي استدل به مثلاً ضعيف أو لا وجه أو نحو ذلك أو أنه منسوخ أو غير ذلك فينتقل إلى قول آخر أو يبلغه دليل لم يكن قد بلغه، فحينئذ ينتقل إلى قول آخر.
__________
(1) لعل الصواب: فيه.


أما ما أضيف إلى أصحابه ـ أي أصحاب الإمام أحمد ـ أي العلماء الذين تقعدوا بقواعده وتأصلوا بأصوله فخرّجوا على مذهبه وفرعوا المسائل؛ لأن ما نقل عن الإمام أحمد لا يحيط بالمسائل الفقهية كلها. لكن العلماء الذي اقتدوا به أو أخذوا هذه الأصول والقواعد فجعلوها أصولاً وفرعوا منها مسائل، فجمع لنا هذا الفقه.
فليست كل مسألة من المسائل في الفقه الحنبلي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي مضافة إلى الإمام نفسه الذي ينتسب إليه، ليس كذلك.
وإنما هي مضافة إما إليه نفسه وإما إلى أصحابه الذين تقعدوا بقواعده، وهذا تخريج على نفس القواعد، فليست خارجة عن قواعد الإمام لكنهم اختلفوا فبعضهم رأى هذا القول وبعضهم رأى القول الآخر فيقال في المسألة وجهان.
ـ أما الاحتمال: فهو ما يصح أن يكون وجهاً في المذهب.
إذن ليس بوجه لكن يأتي عالم بعد ذلك فيقول: " هذا احتمال" ينفي أن يكون وجهاً فينفى أن تخرج على قواعد الإمام رحمه الله.
وحينئذٍ تبين لنا: أن العارف بقواعد أحمد وأصوله يمكنه أن يختار القول الراجح من هذين القولين.
لذا المذهب فيه راجح ومرجوح، فمثلاً: ألّف صاحب الإنصاف كتابه في الراجح من مسائل الخلاف أي في مذهب أحمد.
وكذلك صاحب الفروع يرجح، وكذلك الموفق وغيره.
وعندما يقال (ظاهر المذهب) : أي الراجح منه.
(والمشهور في المذهب) : أي الراجح في المذهب.
فالمتفقه في مذهب الحنابلة يمكنه أن يرجح الحق من مسائل الخلاف فيه.
كما أن العارف بالأدلة الشرعية والمتمرس فيها يمكنه أن يرجح فيما يختلف فيه أهل العلم عامة من الحنابلة وغيرهم.
إذن المقنع: ليس فيه قول واحد عن الإمام أحمد أو أصحابه، وإنما يذكر احتمالات.
فأتى هذا المؤلف واختار من الروايتين رواية واختار من كل وجهين وجها هو الظاهر والمذهب والمشهور فيه عنده، وإلا فقد يقع خطأ منه فيختار ما ليس بمشهور في المذهب ويكون المشهور في المذهب بخلاف ما اختاره.


ـ والمقنع: لم يذكر فيه الأدلة أو التعليلات للاختصار، والموفق له أربع مؤلفات في الفقه جعلها مرتبة.
1ـ كتاب العمدة وهذا المؤلف لا يذكر فيه الخلافات في المذهب وإنما يكتفي بقول واحد وربما ذكر الدليل أحياناً ليتمرس الطالب على معرفة الأدلة الشرعية.
2ـ ثم يترقى معه إلى كتاب المقنع وقد تقدمت صفته.
3ـ ثم يترقى إلى كتاب الكافي: وهو على طريقة المقنع، لكن فيه زيادة أدلة وتعليلات فيضيف الأدلة والتعليلات التي تركها في كتاب المقنع.
4ـ ثم يأتي بعد ذلك كتاب (المغني) في الفقه المقارن يذكر أقوال الحنابلة ويذكر أقوال الشافعية وغير ذلك من أقوال أهل العلم فهو في الفقه المقارن، ويذكر أدلة هؤلاء وهؤلاء ويستدل للحنابلة فهو كتاب واسع.
قال بعضهم جامعاً كتبه:
كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً ... بمقنع فقه عن كتاب مطول
وأغني بمغني الفقه من كان باحثاً ... وعمدته من يعتمدها يحصل.
ولا شك أن كتبه واختياراته ومؤلفاته ـ رحمه الله ـ من أنفع المؤلفات في الفقه الحنبلي وأكثرها بركة ونفعاً فرحمه الله تعالى.

* قوله: ((وربما حذفت فيه مسائل نادرة الوقوع وزدت على ما مثله يعتمد، إذ الهمم قد قصرت 000)) :
ففيه مسائل قد حذفها من المقنع لا لشيء إلا لندرة وقوعها، فهي مسائل يقل وقوعها فلم يحتج إلى ذكرها؛ لأن الحاجة إليها ضعيفة.
(وزدت على ما مثله يعتمد) : فهو قد زاد على المقنع زيادات رأى أنها مهمة فزادها.
قال: (إذ الهمم قد قصرت والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت) : هذا تعليل للاختصار ولحذف المسائل النادرة الوقوع.
(والأسباب المثبطة عن نيل المراد) : ومن أعظمها المعاصي.

* قوله: ((ومع صغر حجمه حوى - جمع - ما يغني عن التطويل)) :
فهو كتاب مع صغر حجمه كما قال، قد حوى مسائل كثيرة تغني عن التطويل الموجود في غيره من الكتب.

* قوله: ((ولا حول ولا قوة إلا بالله)) :


لا حول: أي لا تحول لنا من حال إلى حال لا يمكننا أن نتحول من شدة إلى خفة من فقر إلى غنى من جهل إلى علم من شرك إلى توحيد من معصية إلى طاعة لا حول لنا إلا بالله سبحانه وتعالى.
أي لا تحول لأحد من حال إلى حال من حال سيئة إلى حسنة إلا بالله سبحانه وتعالى.
(ولا قوة) : كذلك لا قوة يستعان بها إلا قوة الله عز وجل.

* قوله: ((وهو حسبنا)) :
حسبنا: أي كافينا، فالحسب هو الكافي {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله} (1) أي كافيك الله.

* قوله: ((ونعم الوكيل)) :
أي نعم الوكيل الله سبحانه وتعالى.
أي نعم المتوكل عليه الذي تفوض الأمور إليه فيدفع الضر ويجلب النفع الله سبحانه، فهو المتوكل عليه سبحانه وتعالى.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثاني
(يوم الاثنين 9/10/1414هـ)

* قوله: ((كتاب الطهارة))

الكتاب: مصدر كتب يكتب كتبا وكتاباً وكتابة، وهو بمعنى مكتوب.
والكتب في اللغة: الجمع، يقال: (تكتب بنو فلان) إذا اجتمعوا.
ومنه سميت الكتيبة " وهي جماعة الخيل " سميت كتيبة لاجتماعها.
فيكون المعنى هنا: الجامع لأحكام الطهارة.
فهذا المكتوب هنا قد جمع فيه المؤلف ما يحتاج إليه في مسائل الطهارة.
ـ أما الطهارة في اللغة: فهي النظافة والنزاهة عن الأقذار سواء كانت هذه الأقذار حسية أو معنوية.
فإذا أزال القذر الثابت على بدنه أو على ثوبه أو على بقعته فإن هذا طهارة.
وإذا أزال القذر المعنوي كالشرك بالله والمعاصي فهذه طهارة أيضاً.
ومنه سمي المشركون نجس؛ لكونهم قد وقع فيهم القذر المعنوي، وإن كانوا طاهرين طهارة حسية وأن الكافر إذا صوفح أو جلس على بقعة فلا تتنجس اليد ولا البقعة؛ لأن نجاسته نجاسة معنوية.
فالنجاسة الحسية والمعنوية: التنزه عنهما يسمى طهارة، هذا هو تعريف الطهارة لغة.
والذي يهمنا تعريفها اصطلاحاً، وقد عرفها المؤلف بقوله:
__________
(1) سورة الأنفال 64.


* قوله: ((وهي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث)) :
(ارتفاع الحدث)
الحدث هو: وصف " أي معنى من المعاني فهو ليس حسياً " يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما يشترط فيه الطهارة كمس المصحف والطواف عند جمهور أهل العلم ونحوه مما تشترط فيه الطهارة.
فهو إذن ـ أي الحدث ـ ليس شيئاً محسوساً يرى بالأبصار أو يمس بالأيدي وإنما هو شيء معنوي.
إذن الطهارة: هي ارتفاع الحدث: فلا يبقى قائماً في الجسد بل يزول عنه ويرتفع.
فإذا توضأ المسلم الوضوء الشرعي وكان قد أحدث قبل ذلك، فإن هذا الوضوء يرفع الحدث الذي قام به، فهو طهارة.
والغسل كذلك، فالجنب مثلاً قد قام به وصف - فليس شيئاً محسوساً قام به - يمنعه من الصلاة، وإنما هو شيء معنوي، فإذا اغتسل ذهب منه هذا الشيء المعنوي فبقي ليس بمحدث بل طاهر.
(وما في معناه) :
كذلك ما في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة كما أن ارتفاع الحدث بالغسل أو الوضوء يسمى طهارة فكذلك ما يكون في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة.
وفي هذه الصورة إما أن يكون الحدث موجوداً أو لا يكون موجودا، وهو إن كان موجوداً فإن هذا الفعل الذي يسمى طهارة لم يزله بل هو باق، لذا قلنا (ما في معناه) ؛ لأنه لو كان ارتفاعاً لما قلنا (في معنى ارتفاع الحدث) .
إذاً: يدخل في لفظة (وما في معناه) صورتان:
1ـ الصورة الأولى: أن يكون الحدث ليس بمرتفع بل هو باق، ومع ذلك يسمى طهارة.
2ـ ألا يكون محدثاً لكنه فَعَلَ فِعْل الطهارة.
أما الصورة الأولى: فمثالها من لديه سلس بول والمرأة المستحاضة ونحو ذلك، فإنهم عندما يتوضؤون الوضوء الشرعي حدثهم باقٍ غير ذاهب؛ لأن الحدث عندهم متجدد ولكنهم قد تطهروا طهارة شرعية صحيحة، فهي على صورة الوضوء الشرعي الصحيح، ولكن مع ذلك الحدث باقٍ، فهذه تسمى طهارة شرعية لكنها ليست ارتفاعاً للحدث.
فالحدث باق وإنما هي في معنى ارتفاع الحدث.


ـ وأما إذا كان الحدث غير موجود، فمثال ذلك: الوضوء المستحب أو الغسل المستحب كغسل الجمعة؛ فإنه يسمى طهارة، والشخص عندما يغتسل غسل الجمعة ليس عليه حدث، فهو في معنى ارتفاع الحدث؛ لأنه شابهه في الصورة فغسل الجمعة كغسل الجنابة تماماً.
وكذلك: الوضوء المستحب: وهو ما يسمى بتجديد الوضوء، فعندما يجدد وضوءه فإنه عليه طهارة وليس بمحدث ومع هذا فإن الفعل يسمى تطهراً وما فعله فهو طهارة.
كذلك الغسلات التي بعد الغسلة الأولى؛ فإن الشخص عندما يتوضأ، الواجب عليه أن يغسل كل عضو مرة مرة، فالتكرار لا يرد على الحدث؛ لأن الوارد على الحدث إنما هو غسل واحد، فعندما يغسل يديه ثلاثاً فالغسلة الأولى تزيل الحدث المتعلق بيديه، وأما الغسلتان الأخريان فإنهما لا تردان على حدث فهما في معنى ارتفاع الحدث.
إذن: ما يكون في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة، فمن به سلس بول أو نحوه من الأحداث المتجددة، فوضوءه أو غسله يسمى طهارة.
والغسل المستحب كغسل الجمعة - أو على القول بوجوبه أيضاً - فهو لا يرد على حدث حتى على القول بوجوبه ويسمى طهارة.
وكذلك غسل الميت يسمى طهارة، وكذلك الوضوء المستحب يسمى طهارة، وسائر الأغسال المستحبة تسمى كذلك طهارة ونحو ذلك.

(وزوال الخبث) :
الخبث: المراد به هنا: النجاسة الحسية؛ لأن الفقهاء ليس مبحثهم في الخبث المعنوي كالشرك، وإنما مبحثهم في الخبث الحسي: وهي النجاسة التي حكم الشارع بنجاستها.
وسيأتي البحث في هذا؛ فإن المؤلف قد بوَّب باباً كاملاً في النجاسة وإزالتها، والذي يهمنا هنا هو تعريف الطهارة.
فالنجاسة الحسية كالبول والعذرة ونحو ذلك زوالها عن البدن أو البقعة أو الثوب يسمى طهارة، فعندما يزول الخبث الواقع الطارئ على الثوب فينظَّف بالماء أو يزول بغير ذلك؛ فإن هذا يسمى طهارة.
وقال هنا (زوال الخبث) ، ولم يقل: (إزالة الخبث) ؛ لأن النية لا تشترط في إزالة النجاسة.


فلو أن رجلاً علق ثوباً فنزل عليه مطر وفيه نجاسة؛ فإنه لم يفعل المكلف هنا التطهير، والثوب قد طهر بزوال نجاسته بسبب نزول المطر عليه.
ولو غسل ثيابه وفيها نجاسة وهو لا يعلم بوجود هذه النجاسة وغسل ثيابه لإزالة ما فيها من الأوساخ الأخرى ولا يعلم أن فيها نجاسة، فهو لم ينو إزالة النجاسة ومع ذلك تزول؛ لأن النجاسة من باب التروك وليس من باب الأفعال، فالمقصود هو إزالتها سواء زالت بفعل المكلف ونيته أو بفعله بدون نية أو زالت بفعل غير واقع عليه التكليف كماء السماء أو نحو ذلك، فإن النجاسة تزول وعلى هذا فلو أن المؤلف قال: (رفع الحدث) : لكان الأولى؛ لأن الحدث لابد في رفعه من نية.
فلو أن رجلاً اغتسل بغير نية وتبيّن أن عليه جنابة، فإن هذا الغسل لا يجزئه؛ لأنه لم ينو إزالة الجنابة الواقعة عليه، وسيأتي الكلام على هذا في بابه إن شاء الله.

* قوله: ((المياة ثلاثة)) :
المياه: جمع كثرة لماء، وأصله موه، لذا جمع القلة منه (أمواه) ، وجمع الكثرة منه (مياه) .
(ثلاثة) : أي شرعاً، وإلا فإنها في الواقع قد تنقسم إلى أكثر من هذه الأقسام، لكن المقصود هنا أقسامها من حيث حكم الشارع فيها.
فذكر هنا أن المياه تنقسم إلى ثلاثة وهي:
1ـ الطهور أي المطهر 2ـ والطاهر وهو الطاهر بنفسه غير المطهر لغيره.
3ـ والنجس.
هكذا قسمه فقهاء الحنابلة وغيرهم فهو مذهب الجمهور، وأن المياه تنقسم إلى ثلاثة.
والمؤلف هنا سيذكر القسم الأول وما يتعلق به من مسائل ثم يذكر القسم الثاني وما يتعلق به من مسائل ثم يذكر القسم الثالث وما يتعلق به من مسائل، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم من أن المياه تنقسم إلى ثلاثة.
والراجح ما ذهب إليه المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية من أن المياه تنقسم إلى قسمين اثنين:
ماء طاهر، وماء نجس، فالطاهر هو الطهور المطهر، والقسم الثاني هو الماء النجس.


قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: " وإثبات ماء طاهر غير مطهر لا أصل له في الكتاب والسنة " (1) .
وسيأتي البحث في هذا عند الكلام في القسم الثاني من أقسام المياه.
ـ إذن: قوله: (ثلاثة) : فيه نظر، فالصواب والصحيح ـ وسيأتي الاستدلال له ـ أن المياه إنما تنقسم إلى قسمين: مياه طاهرة يصح للمسلم أن يتطهر بها، ومياه نجسة.
وأما أن يكون هناك ماء يسمى ماءً وهو مع ذلك لا يطهر فهذا ليس بصحيح وسيأتي مزيد بحث فيه في موضعه – إن شاء الله -.

قوله: ((طهور لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره)) :
هذا القسم الأول: هو الطهور: فهو طاهر بنفسه مطهر لغيره، بل لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره.
(النجس الطارئ) : لأن هناك نجس ليس بطارئ، بل هو نجس نجاسة عينيّة.
النجس الطارئ: هو الموضع أو المحل الذي وردت عليه النجاسة، فهو في أصله طاهر لكن وردت عليه نجاسة، فهذا يسمى النجس حكماً، والنجاسة هنا طارئة عليه، ليست بأصلية، فهذا هو الذي قابل لإزالة النجاسة فيعود طاهراً كما كان.
وأما النجس عيناً: فهو الذي قد خلقه الله نجساً فهذا لا يُزال بأي شيء كان.
مثال ذلك: البول أو العذرة أو الكلب أو الخنزير ونحو ذلك، فهذه نجاستها نجاسة عينية، بمعنى: أنها لا يمكن أبداً أن تزول عنها هذه النجاسة التي خلقها الله عز وجل عليها مهما فعل فيها من أدوات التطهير.
إذن الكلام إنما هو على المحل الذي ترد عليه النجاسة، فهذا هو النجس حكماً؛ لأنه طاهر في الأصل فالنجاسة طرأت عليه فأصبح في حكم الشيء النجس.
فإذا أزيلت هذه النجاسة فإنه حينئذ يعود طاهراً.
(ولا يزيل النجس الطارئ غيره) :
إذن يقرر المؤلف أن هذا النوع من المياه أولاً يرفع الحدث، وهو كذلك يزيل النجس، بل لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره.
أما كونه لا يرفع الحدث غيره فسيأتي البحث في باب التيمم، عن التيمم أهو رافع أو مبيح؟


وفقهاء الحنابلة يرون أنه مبيح، لذا هذا التعريف يجري على قاعدتهم، وسيأتي البحث في هذا.

* وقوله هنا كذلك: ((لا يزيل النجس الطارئ غيره)) :
يدل على أنه لو كانت هناك نجاسة فصب عليها شيء آخر من المواد كالكيميائية مثلا، أو أزيل بتراب أو نحو ذلك فإن النجاسة تبقى ولا تزول.
بمعنى: ثوب أزيلت نجاسته بغير الماء أو زالت نجاسته بغير الماء، هل يزول ذلك أم لا؟
قالوا: لا يزول إلا بالماء، هذا هو مذهب الحنابلة. فعلى ذلك إذا أزيل بحكة مثلاً وكان مما يقبل الحك، أو أزيل بأي طريق آخر، بمواد كيميائية أو نحو ذلك أو بتراب فإنه عندهم لا يزول واستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: في دم الحيض يصيب الثوب: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه) (1) متفق عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم (227) : عن أسماء قالت: جاءت امرأةٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع؟ قال: (تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه) ، وانظر (307) . وأخرجه مسلم (291) كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله عن أسماء قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع به؟ قال: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه) .


قالوا: فقد خصص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الماء بالذكر، واستدلوا كذلك بالحديث المتفق عليه في أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهراق على بول الأعرابي ذنوباً من ماء) (1) متفق عليه.
قالوا: فخصص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك الماء بالذكر.
ـ وذهب فقهاء الأحناف: إلى أن الماء ليس فقط هو المزيل للنجاسة، بل أي شيء تزول به النجاسة؛ فإن المحل يطهر، كأن يزول بالتراب أو بمرور الزمن ونحو ذلك مما تزول به النجاسة بالشمس وغير ذلك، فمتى زالت النجاسة ولم يبق لها أثر يمكن إزالته فإنها حينئذ تطهر، وهذا هو القول الراجح.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد (220) : أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) وانظر 219، 221، 6128. وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد (284) ، (285) عن أنس: أن أعرابياً بال في المسجد فقام إليه بعض القوم، فقال رسولا لله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوه ولا تزرموه) قال: فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبه عليه ".


ودليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت في سنن أبي داود: (إذا وطئ أحدكم الأذى في نعله فإن التراب لها طهور) (1) .
فجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التراب طهوراً للنعل إذا أصابها الأذى.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب النعل (385) قال: " حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو المغيرة ح وحدثنا عباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي، ح، وحدثنا محمود بن خالد، حدثنا عمر - يعني بن عبد الواحد - عن الأوزاعي، المعنى، قال: أُنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور) . وأخرجه برقم (386) من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه قال: (إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب) . وبرقم (387) قال: " حدثنا محمود بن خالد حدثنا محمد يعني ابن عائذ، حدثني يحيى - يعني ابن حمزة - عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد أخبرني أيضاً سعيد بن أبي سعيد عن القعقاع بن حكيم عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعناه.


ومثل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود، أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإذا رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه ثم يصل فيهما) (1)
فهذا الحديث يدل على أن المسح كاف في إزالة الأذى الواقع في النعلين.
ـ ثم إن النجاسة هي علة التنجس، فإذا زالت هذه النجاسة بأي طريق فإنه لا مبرر لانتفاء الحكم عليه.
وقد قعّد الفقهاء القاعدة المشهورة: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
فإذا ثبتت العلة ثبت الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم.
إذن الراجح: أنه ليس الماء الطهور فقط هو المزيل للنجاسة. بل كل طريق تزول به النجاسة فإنه يكون الشيء طاهراً.
فمثلاً: رجل وضع ثوبه في محل تشرق فيه الشمس فزالت النجاسة عنه، ولم يبق لها أثر مطلقاً فإنه حينئذ يكون الشيء طاهراً وهكذا.

* قوله: ((وهو الباقي على خلقته)) :
هذا هو الماء الطاهر، وهو الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها من مياه الأنهار ومياه البحار ومياه الآبار ومياه الأمطار ونحو ذلك.
فالباقي على خلقته هو الطهور، ويدخل في ذلك البرد، والثلج ونحو ذلك كل هذا داخل في ذلك الباب.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب الصلاة في النعل (650) قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن زيد عن أبي نُعامة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: (ما حملكم على إلقاء نعالكم؟) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن جبريل - صلى الله عليه وسلم - أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً) أو قال: أذى، وقال: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما) .


وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد) (1) . لكن يجب أن يعلم أن الثلج والبرد لا يثبت به - مع كونه طهوراً لا يثبت به - الغسل حتى يجري على الأعضاء؛ لأن حقيقة الغسل جريان الماء على أعضاء المغسل أو المتوضئ.
فغسل الأعضاء حقيقته جريان الماء عليها. فإذا كان البرد أو الثلج خفيفاً يجري الماء عند إدراته (2) على الأعضاء - يجري عليها - فإنه يثبت غسلاً ويصح الوضوء به أو الغسل.
وأما إذا كان لا يجري كأن يكون ثخيناً ثقيلاً فإنه حينئذ لا يجزئ، فإذا ماع فتوضأ أو اغتسل فإنه حينئذ يجزئه ذلك.
ـ وهل يستثنى من الماء شيء؟
(أ) ذهب بعض الفقهاء المتقدمون (3) كما يروى ذلك عن ابن عمرو، من أن مياه البحار ليست بطهورة، وخالف في ذلك جماهير الفقهاء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وقالوا بطهوريتها وأنها مياه طهورة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير (744) بلفظ " اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ". وفي كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من أرذل العمر (6375) بلفظ: (اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد.. ". وأخرجه مسلم في كتاب في كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر الفتن (بعد (2705) بلفظ " اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد " وفي كتاب المساجد، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة (598) بلفظ: (اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) .
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: إدارته.
(3) لعل الصواب: المتقدمين.


وهذا هو الحق وقد دل عليه الحديث الذي رواه الأربعة وغيرهم وصححه البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له: يا رسول الله: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر، قال: (هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته) (1) .
فالبحر هو الطهور ماؤه، فمياه البحار يجوز للمسلم أن يتوضأ منها وأن يغتسل ولا حرج في شيء من ذلك.
(ب) واستثني بالنصوص الصحيحة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام، آبار ثمود سوى بئر الناقة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الظهارة، اب الوضوء بماء البحر (83) : " أن المغيرة بن أبي بُردة - وهو من بني عبد الدار - أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هو الظهور ماؤه الحل ميتته) ، وأخرجه الترمذي في الطهارة (69) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الطهارة (59) و (333) وفي الصيد (4355) وابن ماجه (386) . سنن أبي داود مع المعالم (1 / 64) .


فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (نزل الناس مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة) (1) .
فهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يتطهر بمياه آبار ثمود سوى بئر الناقة فإنه يجوز له أن يتطهر به.
(ج) الثانية: بئر برهوت:
فقد كره الفقهاء أن يتوضأ منها أو يغتسل وهي بئر بحضرموت.
وقد روى الطبراني في "الكبير"، وقد رواه الضياء في "المختارة" من طريق الطبراني في "الكبير" أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم) إلى أن قال: (وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت) (2) وهو حديث حسن.
وهي بئر معروفة في حضرموت. فهذا الحديث يدل على كراهية الغسل أو الوضوء فيها كما قال ذلك الفقهاء.

* مسألة: (ماء زمزم) :
هل يكره أن يتوضأ وأن يغتسل وأن يزيل الخبث منه أم لا يكره؟؟
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وإلى ثمود..} (3379) : " أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره: أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض ثمود، الحِجْر، فاستقوا من بئرها واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُهَريقوا ما استقوا من بئرها وأن يعلقوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة "، وراجع (3378) . وأخرجه مسلم (2981) في كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا


ـ أما الوضوء منه، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك جائز، واستدلوا بما رواه الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على مسند أبيه، من حديث علي بن أبي طالب: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ (1) .
هذا الحديث يدل على جواز الوضوء من ماء زمزم وأنه لا حرج في ذلك ولا بأس.
ـ وعند الإمام أحمد خلاف المشهور في المذهب عنه كراهية ذلك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بكراهية الاغتسال دون الوضوء وأن الغسل مكروه دون الوضوء.
ـ أما القول بأن الوضوء مكروه فإنه لا دليل عليه والحديث النبوي الذي تقدم ذكره يرده.
وأما الغسل منه فليس في الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اغتسل.
وهل هناك ما يمنع من الاغتسال أم يقال إن الاغتسال مثل الوضوء؟؟
روى الفاكهي في "أخبار مكة" وهو من علماء القرن الثالث، بإسناد صحيح عن العباس بن عبد المطلب وابنه "والعباس هو ساقي الناس من ماء زمزم فكان على سقاية زمزم ـ رضي الله عنه" قالا: (لا أحله لمغتسل وهو لمتوضئ وشارب حل وبِلّ) (2) أي برؤ من الأمراض.
فهنا قال هذان الصحابيان من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهما. قالا: (لا أحله لمغتسل) فكل واحد منهما قال هذه المقالة.
ولم يصب النووي عندما قال فيه: أنه لم يصح ما ذكروه عن العباس، بل قد صح ذلك بإسنادين أحدهما إسناد حسن والآخر إسناد صحيح، وقد احتج بهذا الأثر الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى.
وهذا الأثر عن العباس وابنه يدل على النهي عن الاغتسال من ماء زمزم وأن ذلك منهي عنه.
وقد كرهه ـ كما تقدم شيخ الإسلام ابن تيمية وحكى ذلك عن طائفة من العلماء. ولم أر أحداً من أهل العلم صرّح بتحريمه.
ـ ثم إن هناك شيء من الفارق بين الغسل والوضوء فإن إزالة الجنابة أشد من إزالة الحدث الأصغر.


فإن إزالة الحدث الأكبر أشد من إزالة الحدث الأصغر. لذا لا تزال إلا بتعميم الماء في البدن كله، بخلاف الحدث الأصغر فإنه يزول بغسل بعض الأعضاء التي أمر الله عز وجل بغسلها.
فما ذهب إليه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قوي في النظر، وهو كراهية الاغتسال من ماء زمزم.
وأما الوضوء فلا حرج فيه.
ـ وأعظم من الاغتسال أن يزيل به النجس فإن كراهيته أشد؛ لأن هذا الماء ماء مبارك وقد قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسلم: (هو طعام طعم) ، وزاد الطيالسي بإسناد صحيح: (وشفاء سقم) (1) .
وقال عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له) (2) .
فهو ماء مبارك فلا ينبغي أن يزيل الخبث به، فإزالة الخبث مكروهة وقد نص على ذلك فقهاء الحنابلة وغيرهم.
والحمد لله رب العالمين.

قال المصنف رحمه الله:
((فإن تغيّر بغير ممازج كقطع كافور أو دهن أو بملح مائي أو سُخِّن بِنَجِس كره، وإن تغيّر بمكثه أو بما يشق صون الماء عنه من نابت فيه وورق شجر أو بمجاورة ميتة أو سخن بالشمس أو بطاهر لم يكره، وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة وغسلة ثانية وثالثة كره)) :
قوله: (فإن تغير بغير ممازج كقطع كافور أو دهن أو بملح مائي) :
(فإن تغير) : أي هذا الماء الطهور الذي تقدم أنه هو الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها.
وهو الذي يرفع به الأحداث وتزال به الأنجاس كما تقدم تقريره في المذهب.
(بغير ممازج) : بأن يحدث في هذا الماء تغير في لونه أو رائحته أو طعمه، ويكون سبب هذا التغير وقوع شيء غير ممازج، يعني: لا يمازجه ولا يخالطه بل يحدث التغير بغير ممازجة.
يعني: يقع في الماء هذا الشيء ولا يخالطه مخالطة الممازج، وإنما خالطه مخالطة غير الممازج، فهذا المخالط ما يزال باقياً على حالته ومع ذلك أحدث ذلك التأثير.


مثال ذلك: (كقطع كافور) : والكافور طيب معروف، وإنما ذكر القطع؛ لأنه إذا دُقَّ فإنه يمازج ويخالط، لكنه وهو على هيئة القطع إذا وقع في الماء فإنها تبقى قطع غير متحللة تحللاً واضحا في الماء لكنها تقع فيه وتؤثر فيه من غير ممازجة.
(أو دهن) : دهن من الأدهان سواء كان من الأدهان الحيوانية أو النباتية، فإذا وقع هذا الدهن في الماء أو قطع الكافور أو عود الغماري ومثله الشمع أو القطران والزفت، فكل هذه الأشياء إذا وقع شيء منها في الماء فإنه يؤثر فيه لكنه ليس عن ممازجة وإنما بمجرد المجاورة.
فهنا ما حكمه؟؟
هل يكون ليس بطهور أو نقول: هو طهور لكنه يكره التطهر به، أو يقال: إنه ليس بمسلوب الطهورية بل هو طهور وليس بمكروه شرعاً؟؟
ـ ثلاثة أقوال في مذهب الحنابلة:
(1) القول الأول: ما ذكره المؤلف هنا، حيث قال بعد ذلك: " كره ".
إذن هو طهور تصح الطهارة به، فيصح أن يتوضأ به أو يغتسل به وتزال به النجاسة لكنه مكروه.
قالوا: هو طهور؛ لأن هذا التغير لم يكن عن ممازجة وإنما كان عن مجاورة.
ـ وهو مكروه قالوا: للخلاف فيه، فقد وقع الخلاف فيه، هل هو طهور أو طاهر (وقد تقدم الكلام أن تقسيم الماء إلى طهور وطاهر ونجس ليس بصحيح على هذه القسمة الثلاثية، وإنما الراجح أنه ينقسم إلى قسمين طهور ونجس) ، هم يعتقدون أن الماء ينقسم إلى طهور وطاهر ونجس.
قالوا: فبعض العلماء قد نازعنا فقال: هو ليس بطهور، بل هو طاهر فلأجل هذه المنازعة قلنا بكراهيته خروجاً من الخلاف، هذا هو المشهور في المذهب.
(2) القول الثاني: قالوا: هو طاهر مسلوب الطهورية فهو طاهر بنفسه لكنه لا يطهر.
قالوا: لأن التأثر قد وقع فيه والتغيّر قد وقع فيه، وما ذكرتموه من التفريق بين المجاورة والممازجة فارق ليس بمؤثر، فما دام قد حدث التغيير والتأثير فهذا فارق ليس بمؤثر.


وهذا القول أصح من القول السابق؛ لأن ذلك ليس بمؤثر يعني: هذا التفريق ليس بمؤثر إذ الماء قد تغير سواء كان هذا التغير بممازجة أو بغير ممازجة.
(3) القول الثالث - وهو القول الراجح، وهو قول الجمهور -، قالوا: الماء طهور وليس بمكروه.
أما كونه طهور فنحن نستدل عليه بما سنستدل عليه على صحة القول بأن الماء ينقسم إلى طاهر ونجس.
فنقول: هذا يسمى ماء وكونه قد تغيّر أو تأثر فإن هذا لا يخرجه عن مسمى الماء، وقد قال تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (1) هذه هو دليلنا.
ـ أما الجمهور فاستدلوا بالدليل الذي تقدم تضعيفه وهو التفريق بين المجاورة وبين الممازجة.
ونحن نقول بهذا القول لكن بغير هذا الدليل. ولكن بدليل آخر، وهو أن هذا طهور وقع فيه شيء، هذا الشيء طاهر ولم ينقله عن مسمى الماء، بل مازال يسمى ماءً، فلم ينتقل عن مسماه.
ـ فلو أن رجلاً غسل كأساً - قد وقع فيها شيء من الشاي أو القهوة - في إناء فإن هذا الإناء الذي فيه ماء سيتأثر ويتغير شيئاً قليلاً لكنه مع ذلك يبقى يسمى ماء.
بخلاف ما إذا وضع فيه ما يغيره فأصبح شاياً أو قهوة أو غير ذلك، فإنه حينئذ لا يسمى ماءً.
وقد قال تعالى {فلم تجدوا ماءً فتيمموا} ، وهذا ماء، وسيأتي مزيد بحث عن هذا وذكر من قال به من أهل العلم.
ـ والذي يهمنا هنا: هو ترجيح هذا القول وأن الماء إذا وقع فيه شيء لا يمازجه فإنه يبقى طهوراً.
__________
(1) سورة المائدة (6) ، وسورة النساء (43) .


ـ وهو كذلك ليس بمكروه؛ لأن التعليل الذي عللوه ليس بقوي من أجل أن نحكم على هذا الماء بأنه ماء مكروه الاستعمال؛ ذلك لأن التعليل بالخلاف ضعيف، فكثير من المسائل العلمية وقع فيها الخلاف بين أهل العلم، فهل نقول بكراهية هذه المسائل التي وجدنا الأدلة الشرعية أو القواعد العامة الشرعية – أيضا، التي (1) - تدل على جوازها وإباحتها لوجود هذا الخلاف، هذا ليس بصحيح.
نعم: إذا كان الخلاف معتبراً قوياً فإننا نجتنب ما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم إن أمكننا اجتناب ذلك من باب قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (2)
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) أخرجه أحمد في المسند من حديث الحسن بن علي [1 / 200] برقم (1723) ، (1727) ، ومن حديث أبي سعيد الخدري [3 / 112] برقم (12123) ، [3 / 153] برقم (12578) ، وأخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة (2518) قال: " حدثنا أبو موسى الأنصاري حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا شعبة عن بُريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة) وفي الحديث قصة.
قال: وأبو الحوراء السعدي اسمه ربيعة بن شيبان.
قال: وهذا حديث حسن صحيح ".
وأخرجه النسائي في كتاب الأشربة (5711) قال رحمه الله: " أخبرنا محمد بن أبان قال حدثنا عبد الله بن إدريس قال أنبأنا شعبة عن بُريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن ما حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حفظت منه.. "


رواه أحمد النسائي وغيرهما، من غير أن نكره ذلك، فإن الكراهية حكم شرعي، فإن الأحكام الشرعية أحدها الكراهية، فلا يحل لمسلم أن يحكم على شيء بكراهية ولا تحريم ولا تحليل ولا إيجاب ولا استحباب إلا بدليل شرعي.
إذن الصحيح: أن الماء ـ كما ذهب [إليه] الجمهور - الذي خالطه شيء قد أثّر به من غير ممازجة، فإن هذا الماء طهور، وهذا الماء ليس بمكروه الاستعمال.

قوله: ((أو بملح مائي)) :
هنا أعاد حرف الجر؛ لأن الملح المائي ليس من المخالِط غير الممازج بل هو مخالط ممازج.
الملح المائي هو الملح المنعقد عن الماء، وهو الملح الذي يوضع في الأطعمة وهو المستخرج من المياه.
ـ وقيده بالمائي: احترازاً من الملح المعدني، وهو ما يستخرج من باطن الأرض فهذا يسمى ملحاً معدنياً، والملح المعدني في المذهب إذا خالط الماء فإنه ينتقل الماء إلى الطاهرية، فيكون مسلوب الطهورية، وسيأتي الكلام عليه.
أما الملح المائي، فإنه منعقد عن الماء وأصله من الماء وهو مستخرج من الماء وهو شبيه بماء البحر، فإذا خالط الماء فغيّره وأوجد فيه ملوحة يغير عذوبه، فإن الماء يبقى طهوراً، لكنه قال: يكره؛ لأن بعض أهل العلم من الحنابلة ذهب إلى أن الماء يكون طاهراً.
وهذا تعليل بالخلاف وهو ضعيف كما تقدم بل هو ماء طهور ولا كراهية في استعماله.
إذن: إذا وضع في الماء ملح فغيّره وأوجد فيه طعم الملوحة فإنه حينئذ يكون شبيها بماء البحر الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) (1) .
ثم إن هذا المغيِّر أصله من الماء فليس بمؤثر.
إذن: الماء الذي خالطه الملح المائي أو البحري هو طهور لا كراهية في استعماله، وهو قول في مذهب أحمد ـ رحمه الله.

قوله: (أو سخن بنجس) :
إذا سخن الماء بنجس، قال: (كره) .
ـ رجل أتى بإناء فيه ماء فسخنه بنجاسة، فقال هنا: يكره.
هكذا على الإطلاق.


ـ والواجب أن يفصل، فيقال: لا يخلو هذا من ثلاثة أحوال:
1ـ الحال الأول: أن تسري النجاسة إلى الماء، فحينئذ: إما أن تغيّره وإما أن لا تغيّره.، فإن غيّرته فهو حينئذ نجس. وإن لم تغيّره فلا يخلو، إما أن يكون يسيراً أو كثيراً.
ـ فإن كان يسيراً فهو على المذهب نجس، والصحيح أنه ليس بنجس، كما سيأتي تقريره إن شاء الله.
ـ إذن على القول الراجح: إذا سرت النجاسة على الماء فإن غيرته فهو نجس، وإن لم تغيره فليس بنجس سواء كان كثيراً أو قليلاً.

2ـ الحالة الثانية: أن يكون الإناء محكماً، وتحقق أن النجاسة لم تصل إليه فحينئذ: لا معنى للقول بكراهيته، وهما قولان في المذهب.
القول الأول: أنه مكروه، والقول الثاني: أنه ليس بمكروه، وأصحهما أنه ليس بمكروه إذ لا معنى لكراهيته.
ذلك فإننا قد تحققنا وتيقنا من عدم وصول النجاسة؛ لأن هذا الإناء محكم قد أحكم تمام الإحكام فليس للنجاسة إليه نفوذ، فحينئذ لا معنى لكراهيته.

3ـ الحالة الثالثة: ألا نتحقق أن النجاسة لم تصل ولا نتحقق وصولها، فوصولها محتمل فهنا:
المشهور في المذهب أنه مكروه حينئذ: وعليه قول المؤلف هنا: (كره) .
وذهب الجمهور إلى أنه لا يكره، وهذا هو الراجح.
ـ أما حجة المذهب في كراهية ذلك فقالوا: لأنه لا يؤمن أن تصل إليه هذه النجاسة فحينئذ قلنا بكراهيته.
ـ والراجح: أنه ليس بمكروه؛ لأن هذا مجرد احتمال والأصل في الماء أنه طهور ووصول هذه النجاسة إليه مجرد احتمال فلا يكون ذلك مؤثراً.
إذن: الراجح أنه إذا سخن بنجس فاحتمل أن تصل النجاسة إلى الماء؛ فإنه لا يقال بكراهيته كما أنه لا يقال بأنه طاهر أو بأنه نجس، بل هو طهور وليس بمكروه الاستعمال.
إذن: إذا سُخّن الماء بنجاسة فلا يخلو من أحوال ثلاثة على الراجح.
1ـ الحال الأولى: أن تصل إليه شيء من النجاسة، فإذا وصل إليه شيء من النجاسة نظرنا:
فإذا تغيّر الماء فهو نجس.
وإذا لم يتغيّر فهو طهور.


2ـ الحال الثانية: أن نتحقق عدم وصول النجاسة إليه تحققا تاماً لإحكام الإناء، فحينئذ: لا مجال للقول بكراهيته.
3ـ الحال الثالثة: أن يكون الأمر محتملاً فكذلك لا يقال بكراهيته على القول الراجح.

قوله: ((وإن تغيّر بمكثه 0000 لم يكره)) :
إن تغيّر بمكثه: بمعنى: ماء نزل من السماء ثم أقام في أرض زمناً فحدث له شيء من التغير بسبب طول الإقامة فإن الأرض تؤثر في الماء بسبب طول الإقامة لكنه مازال يسمى ماءً ولم يغير هذا المكث مسماه، بل ما زال يسمى ماءً.
فحينئذ: هو طهور وليس بمكروه أيضا، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم.
إذن الماء إذا تغير بسبب طول مكثه فهو ماء طهور وليس بمكروه وهو ما يسمى بالماء الآجن أي المتغيّر بسبب طول المكث.

قوله: (أو بما يشق صون الماء عنه من نابت فيه وورق شجر) :
كذلك قد يتغير الماء في بِرْكَةٍ أو موضع يجتمع فيه الماء فحدث فيه تغير وكان هذا التغير يشق الاحتراز من سببه، كأن يتغير بسبب تساقط أوراق الأشجار التي تحفه أو بسبب هبوب الرياح فتأتي بشيء من الأوراق أو نحو ذلك فتقع فيه أو بسبب ما ينبت فيه أو الطحالب أو نحو ذلك، فإن الماء قد تغير لكن هذا التغير ليس بأمر يسهل الاحتراز منه بل هو بأمر يشق علينا الاحتراز منه. فهو باتفاق العلماء طهور وليس بمكروه لمشقة الاحتراز منه.

قوله: (أو بمجاورة ميتة) :
الميتة عندهم نجسة.
فإذا سقطت شاة ميتة حول بركة ماء وبسبب تحرك الرياح أحدثت في هذا الماء رائحة كريهة بسبب مجاورة هذه الميتة لهذه المياه فتغيرت المياه أي تغيرت رائحتها بسبب مجاورة الميتة.
قال هنا (هو طهور ليس بمكروه) :
قال في المبدع: (بغير خلاف تعلمه) (1) ، وكذلك قال غيره، فهي إذن مسألة اتفاقية بل هي مسألة تقرب أن تكون إجماعية ولم أر في هذه المسألة خلافاً وقد قال صاحب المبدع وغيره بما تقدم.


وهذا مشكل، وهو على قاعدتهم المتقدمة من أن المجاورة تفرق عن الممازجة، فما يتغير بالمجاورة لا يؤثر وما يتغير بالممازجة فإنه يؤثر.
وهذا تفريق في الحقيقة ليس بمؤثر فإن الماء الذي جاورته أشياء نجسة فتغيرت رائحته فتُشم النجاسة منه، هو ماء متغير بالنجاسة، فإن لم يكن هناك إجماع في هذه المسألة فالأقوى أن يقال بنجاسته؛ لأنه قد تغير بالنجاسة ونحن لا يهمنا إلا التغير سواء كان هذا التغير بمخالطة أو كان ذلك بمجاورة؛ لأن الماء قد تغيّر وهو مادة التطهر، وهو ماء متغير بالنجاسة.
فإذن: الجمهور بل لم يذكر فيه نزاع أن الماء الذي جاورته ميتة ونحوها فتغيرت بها رائحته، فهو ماء طهور بل لا يكره التطهر به.

قوله: (أو سخن بالشمس) :
إذا سخن الماء بالشمس قال: (لم يكره) ، وهذا كذلك مذهب الجمهور.
وأما ما رواه الدارقطني من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعائشة وقد سخنت الماء بالشمس فقال لها: (ياحميراء ـ وهو تصغير حمراء ـ لا تفعلي فإنه يورث البرص) (1) ، فهذا حديث ضعيف جداً لا يصح نسبته إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ورُوي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ كما عند الدارقطني (2) ، وفي إسناده جهالة.
وهذا مذهب جمهور الفقهاء وأن الماء إذا سخن بالشمس فإنه لا حرج فيه ـ إلا أن يثبت طبياً أن فيه ضرراً.
فإذا ثبت طبياً أنه فيه ضرر فإنه ينهى عنه كما قال الإمام الشافعي: (لا أكره الماء المشمس إلا أن يكره من جهة الطب) (3) .
__________
(2) وأخرجه الشافعي في الأم [1 / 3]
(3) الأم للشافعي [1 / 3] بلفظ: " ولا أكره الماء المشمس إلا من جهة الطب ".


فإذا ثبت طبياً أن له أثراً على البدن فإنه ينهى عنه لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) (1)
__________
(1) قال النووي في الأربعين: " حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً، ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضاً ".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2341) قال رحمه الله: " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) .
(2340) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار ".
وأخرجه الدارقطني في سننه (4 / 227) قال: " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرار) .
نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا إضرار) .
نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا إضرار) .

نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه) ".


ولم يثبت عندي أن ذلك فيه أثر طبي، فيبقى ذلك على الخيار.
فإذا نقل من طريق الثقات عن الأطباء، أو أثبته الأطباء في كتبهم فإنه ينهى عنه لضرره.
قوله: (أو بطاهر لم يكره) :
كذلك إذا سخن بطاهر قال (لم يكره) .
ـ قد يستغرب البعض فيقول: هذا طاهر وسخن، فكيف يذكر، فإن مثل هذا أمر معلوم لا يحتاج إلى ذكر؟؟
والجواب على ذلك:
ـ أن مراده كون الماء ساخناً حاراً، أي هل يكره للمسلم أن يستخدم الماء الحار الساخن أم لا يكره له ذلك؟؟
فليست المسألة في كونه سخن بطاهر وإنما المسألة بكونه ماءً ساخناً، فهل يكره ذلك أم لا؟؟
قال: (هو طهور ولا يكره) :
ولا شك في طهوريته لكن قد يقع في القلب شيء من اعتقاد كراهيته؛ ذلك لإخراجه عن أصل الماء وطبيعته وهو ليس بمكروه بل قد ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، الاغتسال به.
ـ من ذلك: ما رواه الدارقطني أن عمر ـ رضي الله عنه ـ (كان يسخن له ماءً في قمقم "الجرة" فيغتسل منه) (1) .
وثبت عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يغتسل بالحميم) (2) .
ـ وإنما ينهى عنه وضوءاً أو غسلاً إذا كان مانعاً لإكمال الطهارة، ومثله البارد برداً شديداً، فإنه إذا كان مؤثراً في إتمام الطهارة فإنه ينهى عنه.
إذا كان بسبب شدة حرارته أو شدة برودته يؤثر في كمال الطهارة فإنه ينهى عنه لذلك أما إذا كان ساخناً سخونة أو بارداً برودة لا تؤثر في تمام الطهارة، فإنه حينئذ لا يقال بكراهيته مطلقاً.

قوله: (وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغسلة ثانية وثالثة كره) :
ما هو الماء المستعمل؟
الجواب: الماء المستعمل هو الماء المتساقط من الأعضاء بمعنى: عندما يجري الماء على الأعضاء ويتساقط منها قد يجتمع فهذا المجتمع هو الماء المستعمل الذي يبحث فيه الفقهاء.
ـ هذا الماء المستعمل وهو المتساقط من أعضاء المتوضئ أو المغتسل له ثلاثة أحوال:


1ـ الحال الأولى: أن يكون متساقطاً عن حدث سواء كان حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر وسيأتي الكلام عليه.
والحنابلة يرون أن الماء يكون طاهراً، فلا يصح التطهر به.
2ـ الحال الثانية: وهي المذكورة هنا: وهي ألا يكون عن حدث لكنه عن طهارة مستحبة كتجديد وضوء أو غسل جمعة أو غسل عيد أو غسل يوم عرفة أو غسلة ثانية وثالثة، فإن المتساقط عن غسلة ثانية وثالثة ليس عن حدث، ومثل ذلك ما يكون عن غسل جمعة أو وضوء مستحب، فإن ذلك كله ليس عن حدث.
فما حكم هذا الماء؟
الجواب:
هنا قال: (كره) ، إذن هو مكروه عندهم.
قالوا: للخلاف فيه، فقد اختلف فيه هل هو طهور أم لا، فلما كان الأمر كذلك قلنا بكراهيته خروجاً من الخلاف.
وقد تقدم أن هذا تعليل ضعيف.
ـ فإن قيل: هل فيه خلاف؟؟
فالجواب: أنه قد ذهب بعض الحنابلة إلى أن الماء المتساقط من الوضوء المستحب أو الغسل المستحب هو كالمتساقط من الغسل الواجب أو الوضوء الواجب لا فرق قالوا: كلاهما طهارة.
والصواب: أن بينهما فرقاً، فإن ذاك غسل أو وضوء عن حدث.
وهذا وضوء أو غسل عن غير حدث ففرق بين الأمرين، وسيأتي أن الصحيح أن كليهما طهور لا شيء فيه.
إذن: الحنابلة في المشهور عنهم كرهوه لوجود الخلاف فيه، فإذا توضأ الرجل وضوءاً مستحباً فصار الماء يقع على الإناء فيكره أن نستعمله في طهارة.
فإذا تساقط عن حدث فإنه لا يحل له.
3ـ وهناك صورة ثالثة: اتفق العلماء على أن الماء المتساقط فيها أنه ليس بمكروه بل هو طهور لا كراهية فيه وهو: ما إذا تساقط فيه عن غير حدث وعن غير طهارة مستحبة بل عن تبريد ونحوه.
مثلاً: رجل اغتسل للتبريد ونحوه فتساقط الماء فهو ليس عن حدث ولا عن طهارة مستحبة بل للتبريد، فإن الماء يكون طهوراً لا كراهية فيه باتفاق العلماء.
إذن أصبح عندنا ثلاث صور، الراجح فيها كلها أن الماء طهور لا كراهية فيه.
أما على المذهب:
فالأولى (1) : الماء يكون طاهراً وليس بطهور.
__________
(1) ما كان عن حدث.


والثانية (1) : الماء يكون فيها طهوراً مكروهاً.
والثالثة (2) : الماء فيها طهور وليس بمكروه. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.

قوله: ((وإن بلغ قلتين وهو الكثير، وهما خمسمئة رطل عراقي تقريباً، فخالطته نجاسة غير بول آدمي أو عذرته المائعة فلم تغيره، أو خالطه البول أو العذرة، ويشق نزحه كمصانع طريق مكة فطهور)) :

قلتين: تثنية قلة، وهي مقدار معروف مشهور عند العرب، ويسمى بالقلة الهجرية نسبة إلى هجر التي شبّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبق سدرة المنتهى بقلالها وهذه القلة ذكر المؤلف أنها تسع (500 رطل) عراقي وهذه ليست من المقاييس المشهورة عندنا.
وهي تساوي في المقاييس المشهورة ثلاثة وتسعون صاعاً نبوياً وثلاثة أرباع الصاع النبوي، (¾ 93 صاع نبوي) .
وهو ما يساوي في المقاييس الحاضرة مئتان وسبعون لتراً (270 لتراً) .
وهما ـ أي القلتان ـ تساويان خمس قرب.
ـ هذه المسألة ذات شطرين.
1ـ الشطر الأول: أن هناك تقسيم للماء من حيث الكثرة والقلة، وأن الماء ينقسم إلى قليل وكثير، وأن ضابط الكثير هو ما بلغ القلتين، فما بلغ قلتين فأكثر فهو الكثير، وما نقص عن ذلك فهو القليل هذا هو أصل المسألة.
2ـ الشطر الثاني: أن الماء الكثير البالغ قلتين إذا وقعت فيه نجاسة ولم يكن بول آدمي أو عذرته فإن الماء إذا لم يتغير فهو طهور.
أما إن خالطه البول أو العذرة من الآدمي فهو نجس وإن كان كثيراً لم يتغير.
3ـ وهناك شطر ثالث وهو تبع للشطر الثاني:
وهو: أنه إذا كان هذا الكثير الذي وقع فيه البول أو العذرة من الآدمي ولم يتغير إذا كان ما وقع فيه يشق نزحه عنه فإنه طهور.
ـ إذن أصبح ينقسم الماء إلى قليل وكثير:
أما القليل: فإنه ينجس عندهم بمجرد الملاقاة سواء تغير أو لم يتغير.
__________
(1) ما كان عن طهارة مستحبة.
(2) ما كان عن تبريد.


فإذا وقعت نجاسة، أياً كانت هذه النجاسة سواء في قربة أو قربتين أو ثلاث دون القلتين فإن الماء ينجس وإن لم تغير رائحته أو طعمه أو لونه.
ـ فإن كان الماء كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير سوى بول الآدمي وعذرته فإنهما ينجسان الماء كما لو كان قليلاً بمجرد الملاقاة، لكن يستثنى من ذلك إن شق نزحه بأن شق إخراج الماء من هذه البئر أو البركة لكثرته فإنه إن شق نزحه أي استخراجه حتى يتغير ويوضع مكانه ماء آخر فإنه حينئذ يكون طهوراً لمشقة ذلك والمشقة تجلب التيسير.
هذا هو تقرير المذهب.
ـ وذهب بعض فقهاء الحنابلة وهو المشهور عند المتأخرين منهم، فهذا القول قد اختاره أكثر المتأخرين: إلى أنه لا فرق بين النجاسات، فلا فرق بين بول الآدمي وعذرته، وبين سائر النجاسات.
إذن: المشهور في المذهب وهو مذهب المتقدمين أن بول الآدمي وعذرته إذا وقعت في ماء كثير فإنه يتنجس. إلا إذا كان ذا كمية كثيرة شق نزحها، فإنه لا ينجس لا لشيء إلا لمشقة ذلك والمشقة تجلب التيسير.
ودليلهم على التفريق بين بول الآدمي وعذرته وبين غيرها من النجاسات، دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) (1) . وفي رواية: (منه) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم (239) بلفظ (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) . وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد (282) بلفظ عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه) ، وفي لفظ له: (لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه) .


قالوا: فهنا أطلق في الماء الذي لا يجري، فيدخل في ذلك الماء الكثير والماء القليل، فدل ذلك على أن البول إذا وقع على الماء الدائم الذي لا يجري سواء كان كثيراً أو قليلاً فإنه ينجس، ولا فرق بين أن يتغير أو لا يتغير بل قد أطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ذلك.
ـ أما الذين ذهبوا إلى أنه لا فرق بين وقوع البول والعذرة وبين وقوع سائر النجاسات، فقالوا: إن هذا الحديث لا يدل على ما قلتموه، فإن الحديث ليس فيه أن الماء ينجس بذلك بل قد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذا لأمرين اثنين:
1ـ الأمر الأول: أن ذلك ذريعة لتنجيسه، فإن الماء الدائم الذي لا يجري، إذا وقعت فيه النجاسة اليسيرة التي لا تغيره ثم أهمل ذلك ولم ينه عنه فتكرر ذلك فإن ذلك سوف يؤول إلى تنجيس هذا الماء وهو ماء دائم لا يجري ليس كالأنهار أو كالبحار التي تجري وهي كثيرة بحيث أن مثل ذلك لا يؤثر فيه.


2ـ أما الأمر الآخر: قُبْح الجمع بين الأمرين، بين أن يبول فيه وبين أن يغتسل منه أو فيه، وذلك كقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المتفق عليه: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم بجامعها) (1) ، فالجمع بين الأمرين قبيح وليس فيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم على هذا الماء بالتنجس، فحينئذ لا فرق بين بول الآدمي وعذرته وبين غيرهما من النجاسات.
ـ ثم إن قولهم يلزم منه أن يكون بول الكلب والخنزير أو نحو ذلك أنه ليس له هذا الحكم، وبول الآدمي له هذا الحكم وهذا لا شك باطل.
فإذن الراجح أنه لا فرق بين الأمرين وهذا هو المشهور عند المتأخرين.
إذن الماء إذا وقعت فيه النجاسة فلم تغيره وهو كثير فالأصح من قولي المذهب أنه لا فرق بين بول الآدمي وعذرته وبين غيرهما من النجاسات.
ـ تقدم التفريق بين القليل والكثير وأن ضابطه أن الكثير ما بلغ قلتين فأكثر، والقليل ما دون ذلك، والدليل على هذا:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب ما يكره من ضرب النساء (5204) بلفظ (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم) . وأخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون (2855) بلفظ: " عن عبد الله بن زمعة قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الناقة وذكر الذي عقرها، فقال: (إذ انبعث أشقاها، انبعث بها رجلٌ عزيز عارم منيع في رهطه، مثل أبي زمعة، ثم ذكر النساء فوعظ فيهن ثم قال: (إلام يجلد أحدكم امرأته - وفي رواية أبي بكر: جلد الأمة، وفي رواية أبي كريب: جلد العبد - ولعله يضاجعها من آخر يومه) ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة، فقال: (إلام يضحك أحدكم مما يفعل) .


ما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) (1) . وهذا الحديث صحيح، صححه جماهير العلماء منهم يحيى بن معين والدارقطني والنووي وابن حجر وابن منده وغيرهم من أهل العلم.
ـ وذهب بعض الحفاظ إلى تضعيفه كابن عبد البر وأعله المزي وابن تيمية بالوقف، وأعله ابن القيم بعدم شهرته عند أهل العلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء (63) قال: حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي وغيرهم قالوا: حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله – كذا في النسخة التي بين يدي، ولعل الصواب: عبيد الله - بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) قال أبو داود: وهذا لفظ بن العلاء، وقال عثمان والحسن بن علي: عن محمد بن عباد بن جعفر، قال أبو داود: وهو الصواب. وقال (64) : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ح وحدثنا أبو كامل حدثنا يزيد يعني ابن زريع، عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر قال أبو كامل: ابن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه: أن رسو ل الله سئل عن الماء يكون في الفلاة، فذكر معناه. وقال في (65) : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: حدثني أبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس) .وأخرجه الترمذي في الطهارة برقم (329) ، (67) ، والنسائي برقم (52) وابن ماجه في الطهارة برقم (517) ، (518) . سنن أبي داود مع المعالم [1 / 51] .


ـ إذن هم استدلوا بهذا الحديث ورأوا صحته، وقد صححه ـ كما تقدم ـ جماهير أهل العلم، وهو الراجح فإنه صحيح، والطعن فيه ضعيف.
فهذا الحديث يدل على أن الماء إذا بلغ قلتين فإنه لا يحمل الخبث، قالوا: ومفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل النجاسات والأخباث فيكون حينئذ نجساً خبيثاً.
هذا هو مذهب الحنابلة والشافعية.
ـ القول الثاني: هو مذهب مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من المحققين: وهو مذهب بعض الحنابلة كابن عقيل (1) ، قالوا:


لا فرق بين قليل الماء وكثيره، بمعنى: أن الماء لا ينجس إلا بالتغيير قليلاً كان أو كثيراً، فإذا وقعت النجاسة في الماء فإننا ننظر فإن حملها وتنجس بها وظهرت رائحة النجاسة فيه أو طعمها أو لونها، فإن الماء يكون نجساً وإلا فهو طاهر لا فرق بين قليل أو كثير بلغ القلتين أو لم يبلغهما واستدلوا بالحديث الذي رواه الثلاثة (أبو داود والترمذي والنسائي) ، وصححه الإمام أحمد وهو كما قال، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن بئر بضاعة، وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة (66) قال: " حدثنا محمد بن العلاء والحسن بن علي ومحمد بن سليمان الأنباري قالوا: حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسول الله: أنتوضأ من بئر بُضاعة، وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الماء طهور لا ينجسه شيء) قال أبو داود: وقال بعضهم: عبد الرحمن بن رافع. (67) : حدثنا أحمد بن أبي شعيب وعبد العزيز بن يحيى الحرانيان قالا: حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سليط بن أيوب عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري ثم العدوي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقال له: إنه يُستقى لك من بئر بُضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض وعِذَرُ الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) ". وأخرجه النسائي برقم 327، 328. والترمذي 66، قال الإمام أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح " سنن الترمذي مع المعالم [1 / 54] .


فهنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أثبت للماء الطهورية وأنه لا ينجسه شيء أي (1) إلا ما غيره وبدله، فعلَّق النبي عليه الصلاة والسلام الحكم بالطهورية وجعل الماء متصفاً بهذه الصفة ملازماً لها لا ينجسه شيء ولم يربط ذلك بتحديد بقلتين ولا بغيرهما.
قالوا: والحديث الذي استدللتم به حديث ضعيف، فقد رواه مجاهد عن ابن عمر موقوفاً من قوله (2) ، وهذا الحديث لم يشتهر عن غير ابن عمر وهو أمر عظيم فيه تحديد في المياه، فينبغي أن يشتهر كالتحديد في الزكاة ونحوها.
ـ ولكن الراجح أن هذا الحديث صحيح، وأما تعليلهم بالوقف له فهو ضعيف؛ لأنه قد رواه عنه ليث بن أبي سليم، وليث ضعيف.
ثم إنه هنا لا يعلل رفعه بوقفه، فلو صح موقوفاً لصحّ أن يكون أيضا مرفوعاً إذ الإسنادان كلاهما صحيح لا مرجح لأحدهما على الآخر.
ومادام أنه لا مرجح لأحدهما على الآخر فإننا نقبله مرفوعاً وموقوفاً.
ـ أما التعليل بعدم الشهرة، فنقول: هذا حديث ثابت صحيح رواه كثير من الأئمة في كتبهم وصححه جماعات كثيرة من أهل العلم، فلا يشترط فيه الشهرة المقصودة المطلوبة، ثم إنه سيأتي تأويل له يدل على أنه ليس كتحديد الزكوات ولا غيرها، وهو الوجه الثاني لإثبات هذا القول.
ـ وهو أن يقال: إن هذا الحديث ليس فيه أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه ينجس.
وإنما فيه إثبات أن الماء إذا بلغ القلتين فإنه لا يحمل الخبث لكثرته وقوته.
وأنه إذا كان دون القلتين فإنه قد يحمل الخبث لضعفه.
إذن هذا الحديث فيه إخبار من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الماء الكثير لكثرته لا يحمل الخبث، فليس فيه أن الماء القليل يحمل الخبث بل فيه إلفات النظر والانتباه إلى هذا الماء، فإنه لقلته قد يحمل الخبث فعليك أن تنظر فيه وأن تتحرز من تغيير النجاسة له.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أي شيء.
(2) لم أر الموقوف في السنن الأربعة ولا في المسند.


إذن هذا الحديث ليس فيه أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، ثم إنه لو كان فيه ذلك فإنه مفهومه، ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم؛ لأن قوله (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) (1) ، منطوقه أنه سواء كان قليلاً أو كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير، فهذه دلالة منطوق.
وأما الحديث فإنه دلالة مفهومه على القول تدل على أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث ويتنجس بذلك فهذه دلالة مفهوم، ودلالة المنطوق مقدمة عليها.
ـ ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث قد علّق الأمر وأناطه بالحمل فقال: (لم يحمل الخبث) ، فدل على أن مناط الحكم هو حمل الخبث، وهذا يدل على القاعدة الشرعية التي تقول: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً) ، فهنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لم يحمل الخبث) ، فدل على أن مناط الحكم هو حمل الخبث.
فعلى ذلك إذا استُهلك الخبث في القليل فإنه حينئذ لا ينجس وإذا حمله القليل فإنه ينجس.
إذن القول الراجح عدم التفريق بين قليل الماء وكثيره.
فالماء إذا كان قليلاً أو كان كثيراً فوقعت فيه نجاسة فإننا ـ حينئذ ـ ننظر هل غيرته أم لا؟؟ فإن غيرته فهو نجس، وإن لم تغيره فهو طهور، هذا هو الراجح.
وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، فلا فرق بين قليل الماء وكثيره.


وقد روى ابن ماجه من حديث رشدين بن سعد وهو ضعيف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه) (1) ، والحديث ضعفه أبو حاتم لكن الإجماع عليه.
فالإجماع على أن الماء إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة فهو ماء نجس.
أما إذا لم يتغير فسيأتي الخلاف الذي تقدم والراجح أنه إذا لم يتغير فإنه لا ينجس سواء كان قليلاً أو كثيراً.

* قوله: ((ومصانع مكة)) :
جمع مصنع والمراد بها أحواض المياه التي كانت موضوعة في طريق مكة من العراق، كانت هناك مصانع أي مجابي للمياه، وأحواض للمياه يردها الحجاج وهي مياه كثيرة يشق نزحها.

* قوله: ((ولا يرفع حدث رجل طهورٌ يسيرٌ خلتْ به امرأةٌ لطهارةٍ كاملة عن حدث)) :
هذه مسألة ذات قيود كثيرة:
(ولا يرفع حدث رجل) : إذن يرفع نجسه وخبثه ويطهره الطهارة المستحبة لغسل جمعة وتجديد وضوء لكنه لا يرفع حدثه الأكبر أو الأصغر.
(رجل) : قالوا ويلحق به الخنثى، فحكمه حكم الرجل هنا. ويخرج من ذلك المرأة والصبي، فإنه يرفع حدثهما.
(طهور يسير) : فلا بد أن يكون يسيراً، فإن كان كثيراً فإنه لا يدخل في هذه المسألة.
(خلت به امرأة) : خلت به امرأة عن المشاهد فلا يشاهدها أحد من الناس.
ـ وهل يشترط في المشاهد أن يكون مكلفاً مسلماً أو لا يشترط ذلك فلو كان صبياً أو امرأة أو كافراً صح؟؟
قولان في المذهب.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه باب الحياض من كتاب الطهارة وسننها (521) قال: حدثنا محمود بن خالد والعباس بن الوليد الدمشقيان قالا حدثنا مروان بن محمد حدثنا رشدين أنبأنا معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه ".


(لطهارة كاملة) : كذلك أن يكون هذا لطهارة كاملة فلو كان لبعض طهارة كأن تكون غسلت وجهها ويديها وبقي غسل الرجلين فإنه حينئذ لا يدخل في هذه المسألة.
(عن حدث) : فلو خلت به عن غسل نجاسة أو لغسل جمعة أو غيره من الأغسال المستحبة فإنه لا يدخل في ذلك.
ـ فهذه مسألة ذات قيود كثيرة.
وإيضاحها: أن الماء الذي تخلو به المرأة المكلفة سواء كانت مسلمة أو ذمية تخلو به هذه المرأة - وهكذا قالوا: ذمية، وهو مشكل لكن هذا على أن يكون هناك قول بإيجاب طهارة الجنابة عليهم -.
إذن: إذا خلت امرأة مكلفة بماء يسير، وهو ما دون القلتين لتزيل حدثاً أكبر وأصغر وقد خلت به عن المشاهدة فلا يشهدها مكلف مسلم على قول.
وعلى قول آخر امرأة أو صبي أو كافر.
فخلت بهذا الماء عن طهارة كاملة فإنه لا يحل للرجل أن يتطهر به.
ـ هل يحل لها هي أن تتطهر به؟
الجواب: نعم.
وهل يحل لامرأة أخرى أن تطهر به؟
الجواب: نعم.
وإنما هو محرم على الرجل بالخصوص.
ودليلهم: ماثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً) (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك قال: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير عن داود بن عبد الله ح وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله عن حميد المحيري قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين كما صحبه أبو هريرة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، زاد مسدد: وليغترفا جميعاً ". وأخرجه النسائي برقم 239. سنن أبي داود مع المعالم [1 / 63] .


وعند الخمسة بإسناد صحيح من حديث الحكم بن عمرو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) (1) .
ونعود إلى القيود مرة أخرى:
هذا الحديث فيه النهي أن يغتسل الرجل، أو أن يتطهر من فضل المرأة.
إذن ليست المرأة منتهية عن هذا الحكم فالحكم مختص بالرجل، فلا يحل لرجل أن يتوضأ أو يغتسل بفضل طهور المرأة.
إذن هو مختص بالرجل لدلالة هذا الحديث أولاً، والثاني: قوله في الحديث: (بفضل المرأة) : يطلق على المرأة المكلفة.
الأمر الآخر: أنه قال بعد ذلك (وليغترفا جميعاً) فدل على أن المرأة قد خلت به.
لكن هذا الإستدلال ضعيف.
لذا الراجح من قولي المذهب ـ فهو قول في المذهب ـ أن خلوّ المرأة فيه، معناه أن تخلو عن الرجل فتتوضأ به أو بمفردها أو تغتسل بمفردها وإن كانت مشاهده من الرجل أو غيره، ولكن الخلوة المراد بها أن تكون مشتركة مع الرجل؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال هنا (وليغترفا جميعاً) .
أما قولهم: أنه من طهارة كاملة، فلفظة (طهور) فالأصل أن تكون طهارة كاملة، والأصل كذلك أن تكون عن حدث.
إذن قول المذهب: أن الرجل لا يحل له أن يغتسل بفضل المرأة الذي قد خلت به لطهارة كاملة عن حدث، هذا هو قول المذهب.
ـ وذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك جائز لا حرج فيه واستدلوا بحديثين صحيحين.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك قال: حدثنا ابن بشار حدثنا أبو داود يعني الطيالسي حدثنا شعبة عن عاصم بن أبي حاجب عن الحكم بن عمرو وهو الأقرع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة ". وأخرجه ابن ماجه بلفظ قريب منه (374) .


1ـ ما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يغتسل بفضل ميمونة (1) .
2ـ وما ثبت عند الأربعة بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (اغتسلت بعض أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حفنة فجاء يغتسل منها، فقالت: إني كنت جنباً فقال: إن الماء لا يَجْنُب) (2) .
فهذان الحديثان يدلان على أن الرجل يغتسل بفضل المرأة.
ثم إن الحديث الذي استدللتم به يدل كذلك على النهي عن اغتسال المرأة من فضل الرجل فلم لم تقولوا به.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة.. (323) بلفظ: " أن ابن عباس أخبره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب (68) قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو الأحوص حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله: إني كنت جنباً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الماء لا يجنب) وأخرجه النسائي في الطهارة برقم 326، بلفظ: (لا ينجسه شيء) ، والترمذي برقم 65، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الطهارة برقم 370، 371.


قالوا: لوجود الإجماع عليه، فقد أجمع أهل العلم على أن الرجل إذا خلا بالماء فإن المرأة تغتسل به ولا حرج وهذا هو شطر الحديث، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نهى الرجل أن يغتسل بفضل المرأة فقد نهى المرأة أن تغتسل بفضل الرجل، وقال: (وليغترفا جميعاً) ، وهذا الإجماع المذكور يقوي ما ذهب إليه الجمهور من أن النهي في هذا الحديث لا يدل على التحريم، وإنما يدل على الأولوية أو الإرشاد فهو نهي إرشاد أي: الأولَى للرجل أن يغتسل بماء جديد غير فضل المرأة، والأولى للمرأة أن تغتسل بماء جديد غير فضل الرجل وإن احتاجا إلى شيء من ذلك فليغترفا جميعاً.
إذن: هذا الحديث لا يدل على التحريم بدلالة فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبدلالة شطره الآخر فإن فيه نهياً للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل.
ـ وقول الحنابلة فيه شيء من النظر القوي؛ ذلك، لأن نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل أن يغتسل بفضل المرأة ورد في السُّنة ما يعارضه وهو ما تقدم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه.
وأما نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اغتسال المرأة بفضل الرجل فلم يرد في السنة ما يدل على جوازه فهو أعظم إحكاماً من ذلك، ولولا الإجماع الوارد فيه لكان القول به قوياً، ولكن تقدم ذكر الإجماع ومع ذلك فقد قالوا بما وردت السنة بخلافه ولم يقولوا بما لم ترد السنة بخلافه.
فإذن: الصحيح الراجح وهو مذهب الجمهور واختيار غير واحد من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: أن الماء إذا خلت به المرأة لطهارة كاملة أو غير ذلك فإن الرجل يجوز له أن يتطهر به ولا حرج مع أن الأولى له أن يتطهر بماء غير فضلها.
وكذلك المرأة فالمستحب لها والمشروع أن تتوضأ وتغتسل بغير فضل الرجل ولكن إن اغتسلت به فلا حرج ولا بأس والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.

الدرس الخامس
(السبت: 14 / 11 / 1414 هـ)
* قال المصنف رحمه الله:


((فإن تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه 0000 فطاهر)) :
(وإن تغيّر) : الضمير يعود إلى الماء الطهور.
(بطبخ) : كأن توضع فيه ورق شاي أو حب قهوة أو نحو ذلك.
(أو ساقط فيه) : كأن تسقط فيه ثمرة أو يسقط فيه ورق أو نحو ذلك أو يسقط فيه زعفران وغيره مما قد يسقط في الماء.
فهو إذن ماء طهور في الأصل لكنه قد تغير وتكدر بشيء ليس بنجس بل هو طاهر سقط فيه فغيّر طعمه أو لونه أو ريحه، فما حكمه؟
قال المصنف: (00 فطاهر) : أي طاهر غير مطهر، فهو طاهر في نفسه ليس بنجس لكنه ليس بمطهر، وهذا هو المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم.
وأن الماء إذا وقع فيه شيء من الطاهرات فغيّر رائحته أو طعمه أو لونه فإن الماء طاهر وليس بطهور، فهو طاهر في نفسه وليس بمطهر لغيره، فعلى ذلك على المذهب لا يزيل النجس ولا يرفع الحدث.
قالوا: لأن الماء ليس بماء مطلق بل هو ماء أضيف إليه شيء فهو ليس ماء مطلقاً بل ماء مضاف إليه مادة أخرى، هذا هو قول المذهب وهو مذهب الجمهور ـ كما تقدم.
ـ والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة وأحد الروايتين عن الإمام أحمد بل قال شيخ الإسلام: " إن أكثر نصوص أحمد على هذا " أي على القول: بأنه طهور.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من المحققين.
قالوا: الماء طهور، فكما أنه طاهر في نفسه فهو مطهر لغيره ما دام باقياً على مسماه.
ويتضح قولنا: (ما دام باقياً على مسماه) بضرب مثالين:
1ـ المثال الأول: وهو ما كان فيه الماء باقياً على مسماه، كأن يوضع في إناء شيء من أوراق الشاي أو شيء من الطعام فيتغير لونه فيأخذ من لون هذا الشيء الواقع فيه.
2ـ المثال الثاني: وهو ما تغير فيه مسمى الماء، كأن يوضع في إناء أوراق شاي ثم يطبخ على النار، فإنه يسمى شاياً فهو لم يبق على مسماه بل تغيّر.


أما هذه الحال الثانية: فالراجح أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به، ومثله لا ينبغي الخلاف فيه لأنه ليس بماء، والشارع إنما خصص الماء بالطهارة عند وجوده، فإذا ثبت ذلك وهو أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به.

ـ أما الحال الأولى: فهو المختلف فيها وهي ما إذا كان الماء قد تغير بهذا الشيء الطاهر لكنه لم يتغير مسماه بل بقي ماءً على مسماه.
فحينئذ: ذهب من تقدم إلى أنه طهور، وهذا هو الراجح، والأدلة على ذلك ما يلي:

1ـ قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءاً فَتَيَمَّمُوا} (1) ولفظه (ماء) نكره في سياق النفي، والقاعدة الأصولية أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فهذا يعم كل ماء.
فكل ماء يتطهر به قبل اللجوء إلى التراب "أي إلى التيمم"، فإذا وقع فيه شيئ من الورق أو شيئ من الثمر أو غير ذلك فتغيرت رائحته أو طعمه أو لونه مع بقائه على مسماه فهو ماء فيدخل في عموم الآية (فلم تجدوا ماء) .

2ـ الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للنساء المغسلات لابنته: (إغسليها بماء وسدر) (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم: في المتفق عليه، فيمن وقصته راحلته فمات (اغسلوه بماء وسدر) (3) .
ومعلوم أن السدر يؤثر في الماء ويغير منه، ومع ذلك فإنه يتطهر به هنا.
فالشريعة قد دلت على التطهر به كما في هذا الحديث.

3ـ الدليل الثالث: ما روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة بإسناد صحيح أن أم هانيء، قالت: (إغتسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر عجين) (4) .
والشاهد قوله: (في قصعة فيها أثر عجين) : ومعلوم أن العجين يغيِّر الماء ويؤثر فيه ومع ذلك اغتسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به وميمونة.


4ـ الدليل الرابع: الأصل، فالأصل في الماء أنه طهور، وقد أنزل الله من السماء ماءاً طهوراً لنتطهر به، فالأصل في الماء الطهورية ما لم يدل دليل على نقله إلى الطاهرية أو غيرها، وليس هناك دليل يدل على ذلك بل الشريعة تدل على أن الماء يتطهر به.
إذن الراجح مذهب أبي حنيفة وأحد الروايتين عند الإمام أحمد، وهي ليست المشهورة عن أصحابه لكن عليها أكثر نصوصه، وهو إختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.

* قوله: ((أو رفع بقليله حدث 00000 فطاهر)) :
تقدم تعريف القليل عندهم وهو ما دون القلتين.
(أو رفع بقليله حدث) :أي استعمل في رفع حدث أكبر أو أصغر فتساقط الماء من أعضائه فاجتمع في إناء، فهذا هو الماء المستعمل في رفع حدث سواء كان الحدث أصغر أو أكبر، فهل هو طهور أم طاهر؟؟
قال المصنف: (فطاهر) : فهو لا يرفع الحدث، بل طاهر وليس بطهور.
واستدلوا: بما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) (1) .
قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب ليرفع حدثه، وذلك لكون الماء المغتسل فيه عن حدث يتأثر بهذا الغسل فيه وينتقل من الطهورية إلى غيرها.
قالوا: ولا ينتقل إلى النجاسة لما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (صبّ على جابر من وضوئه) (2) ، ولو كان نجساً لما صبّ عليه منه، قالوا: فهو ماء طاهر.
فلما نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الاغتسال بالماء الطهور وليس ذلك إنتقالاً إلى النجاسة بل إلى الطاهرية لحديث جابر المتقدم.
ـ إذن الماء المستعمل المتساقط من الأعضاء لا يحل للمسلم أن يتطهر به.
فلوا أن أحداً مسح رأسه بفضل يديه فهل يجزئ أم لا؟؟
فالجواب: لا يجزئ ذلك؛ لأن الماء طاهر وليس بطهور هذا هو مذهب الحنابلة.


ـ وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أشهر إحدى الروايتين عن الإمام مالك، وأحد قولي الشافعي، وهو قول ابن المنذر واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين، أن الماء طهور وليس بطاهر.
1ـ واستدلوا: بما روى أبو داود وأحمد بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (مسح رأسه بفضل ماء في يديه) (1) ، فهنا الماء الذي في يديه ماء مستعمل، وقد مسح به رأسه.

2ـ واستدلوا: بالأصل، فالأصل أن هذا الماء طهور يتطهر به وهو ماء داخل في عموم قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} .
ـ وأما الحديث الذي استدل به أهل القول الأول، فأجابوا عليه بجواب صحيح وهو: أن الحديث إنما فيه نهي المسلم أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب وليس فيه أن الماء ينتقل إلى الطاهرية فهذه مسألة أخرى.
ـ بل العلة الصحيحة في ذلك ـ للأدلة المتقدمة ـ العلة الصحيحة أن يقال: إن ذلك ذريعة إلى تقذيره وإفساده فإن الماء إذا اغتسل فيه من الجنابة ومن الأحداث ونحوها فإن ذلك يودي إلى تقذيره، فهو ماء دائم ثابت فإذا تكرر الغسل فيه من الأحداث الكبرى أو الصغري فإن ذلك يؤدي إلى تقذيره.
وسواء قلنا إن ذلك يؤدي إلى تقذيره حساً أو يؤدي إلى تقذيره معنى.
وأما أن نحكم على الماء بأنه ينتقل عن الطهورية، فليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل الأدلة تدل على خلاف ذلك.
ـ كما أن الماء عنما يوضع على المرفق وهو يجري على بقية اليد فإنه يرفع حدث الجزء الأعلى حتى يصل إلى أطراف الأصابع، فعندما ينتقل من جهة إلى جهة إلى أسفل اليد فإنه يكون في نزوله بآخر اليد فهو في الحقيقة ماء قد استعمل في أعلى اليد ثم نزل إلى أسفلها.


لذا الاستعمال عندهم أن ينتقل من عضو إلى عضو آخر ولم يرو ذلك استعمالا؛ لأنه لو كان استعمالاً لأدى ذلك إلى أن يكون هذا الفعل غير جائز، وقد دلت الأدلة الشرعية المعلومة ضرورة أن مثل هذا لا ينهى عنه أي انتقال الماء من جهة إلى أخرى في العضو نفسه.
فالراجح: هو القول الثاني وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد، وهو أن الماء المستعمل في الحدث أنه طهور.
ونحن باقون على الأصل حتى يأتينا الدليل الواضح اليقيني الذي ينقلنا عن ذلك.
وما ذكروه في الحديث المتقدم إنما هو مجرد نظر ومثل هذا النظر لا يترك بسببه المحكم بل يحكم الذي تقدم على غيره من الأحاديث.

* قوله: ((أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء000 فطاهر)) :
أي إذا أدخل من هو مستيقظ من نوم ليل ناقضٍ للوضوء إذا أدخل يده في الإناء فإن هذا الماء ينتقل من الطهورية إلى الطاهرية.

ـ واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده) (1) .
قالوا: هذا يدل على أن المستيقظ من نوم الليل إذا غمس يده في الإناء فإن الماء ـ حينئذ ـ ينتقل إلى الطاهرية.
* وهذا الحديث فيه مسائل:
1ـ المسألة الأولى: أن هذه الحديث يدل على وجوب غسل اليدين لمن استيقظ من نوم الليل وهذا هو مذهب الحنابلة.
ـ والجمهور على سنيته.
ـ واستدل الحنابلة على وجوب ذلك بأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأمر يدل على الوجوب.
ـ وأما الجمهور فقالوا: إنه للاستحباب بقوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده) ، وهذا شك فلهذا الشك ليس لنا أن نقول بوجوب ذلك بل نقول بمشروعيته، فليس لنا أن نقول بالوجوب بل نقول بالاستحباب.
ـ وهذا فيه نظر، فإن هذا الشك إنما هو من المكلف فإنه لا يدري أين وقعت يده، وأما الشارع فإن الحكم المنطلق منه هو إيجاب ذلك.


ـ وأما كونه لا يدري، فهذا تردد واقع على المكلف.
وأما الشارع فقد أمر بغسل يديه إذا أستيقظ من نومه.
ـ فالأرجح: مذهب الحنابلة وهو وجوب ذلك أي وجوب غسل اليدين ثلاثاً لمن استيقظ من النوم وأراد أن يغمس يده في الإناء.
2ـ المسألة الثانية: هل هذا خاص بنوم الليل، أم فيه وفي نوم النهار؟؟
ـ المذهب أنه إنما هو خاص في نوم الليل، ولم أر أحداً من المذاهب المتبوعة يخالف ذلك ودليل هذا وجهين:

1ـ الوجه الأول: ما في رواية أبي داود: (إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل) محل قوله: (من نومه) التي تفيد العموم.
2ـ الوجه الثاني: قوله (باتت) : والأصل في البيتوتة أن تكون ليلاً.
ـ وذهب الحسن البصري إلى أنه عام في نوم الليل والنهار وأن حكمهما واحد.
ويستدل له بعموم: قوله: (من نومه) .
ولكن هذا الإستدلال فيه ضعف لما تقدم من الوجهين السابقين.
ـ فإن قيل: ألا يقاس نوم الليل على نوم النهار؟
فالجواب: أن القياس ضعيف من وجهين:
أـ الوجه الأول: أن إلحاق نوم النهار بنوم الليل إلحاق مع الفارق. فإن الليل هو محل النوم، الأصل فيه أن يستغرق في نومه وتطول مدة النوم، بخلاف نوم النهار، فليس في الأصل محلاً للنوم والأصل فيه ألا يكون طويل المدة.

ب ـ الوجه الثاني: أن العلة تعبدية، فقوله: (أين باتت يده) فلا تدري ما العلة من ذلك.
لذا قال أهل العلم لو أن رجلا وضع يده في قفازين أو نحو ذلك فإنه مع ذلك يجب عليه أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء؛ لأن العلة تعبدية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليستنثر ثلاثاً فإن الشيطان يبيت على خيشومه) (1) .
فإذن هي أمور معنوية، وهو لا يدري أين باتت يده، فقد يكون هذا في أمر مشاهد أو أمر غائب، فالمسألة تعبدية.
وعندما يثبت ذلك، أي أن العلة تعبدية غير معقولة المعنى، فلا قياس حينئذ.
فالقياس لا بد منه أن تكون العلة معنوية فالراجح أن نوم النهار ليس كنوم الليل.


قوله: (ناقض للوضوء) : لقوله: (من نومه) والأصل في النوم أن يكون ناقضاً للوضوء.
ـ وعلى القول الراجح أنه نوم مستغرق لقوله: (لا يدري أين باتت يده) ؛ لأن من ليس بمستغرق يدري أين باتت يده، فهو لايزال في الشاهد ولم يغب.
فإذن: هو نوم الليل وهو ناقض للوضوء.
ـ إذا تبين هذا فهل في الحديث المتقدم أن الماء ينتقل إلى الطاهرية؟؟
الجواب: أن الحديث ليس فيه ذلك، بل النهي منه صلى الله عليه وسلم، ألا يغمسها في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، وليس فيه أن الماء ينتقل من الطهورية إلى غيرها.
والأصل في الماء أن يكون طهوراً، ونقله إلى غير الطهورية يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك.

ـ وهناك قول ثالث في المذهب واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، أن الماء طهور وهو الراجح؛ لأنه ماء لم يتغيّر بالنجاسة، وهو ماء كذلك باق على أصله في الطهورية، فأي دليل ينقله عن الطهور إلى الطاهر، فهو ماء قد تحلل عن محل يراد تطهيره، ولم يتغيّر بالنجاسة فحينئذ لا معنى للقول بطاهريته ولا بنجاسته بل هو طهور وهو الراجح.

ـ وننتهي ـ حينئذ ـ من مسائل القسم الثاني من أقسام المياه، وهو الطاهر وتبين لنا أنها كلها مسائل مرجوحة، وليس هناك ماء طاهر.
ـ والأصل أن الماء قسمان طهور، ونجس وليس هناك ماء طاهر، وهذا هو الأصل أن الماء طهور يحل التطهر به ما لم ينتقل عن مسماه فيكون شيئاً آخر أو يتغير بالنجاسة فيكون حينئذ ماء نجساً وقد تقدمت الأدلة الدالة على ذلك والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين.

(الدرس السادس)
* قال المصنف رحمه الله:
((والنجس: ما تغيّر بنجاسة أو لاقاها وهو يسير أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها)) :
هذا هو القسم الثالث من أقسام المياه.


وهو: (ما تغير بنجاسة) : أي سقط فيه شيئ من الأشياء النجسة من بول أو عذرة أو نحوهما، فتغير بهذه النجاسة ريحه أو طعمه أو لونه، فهو في الأصل طهور رائحته وطعمه ولونه، لكن قد تدنست هذه الأوصاف كلها أو بعضها، تدنست بهذه النجاسة.
فحكمه: أنه ماء نجس، وهذا بإجماع أهل العلم، فقد أجمع أهل العلم على أن الماء المتغير بالنجاسة أنه نجس سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو ماء نجس لا يحل التطهر به.
قوله: (أو لاقاها وهو يسير) : هذا هو النوع الثاني من أنواع الماء النجس.
"وهو يسير": اليسير وعندهم ـ هو ما دون ـ القلتين.
فمثلاً: عندنا ماء يبلغ قلة أو قربتين أو مائة لتر، فهو ماء قليل فوقعت فيه نجاسة، وهذه النجاسة لم تغيره فأوصافه كلها لم تتغير بالنجاسة فطعمه ولونه وريحه نقيات من هذه النجاسة الواقعة فيه، قالوا: فهذا ماء نجس، وهذا هو مذهب فقهاء الحنابلة وهو مذهب الجمهور.
ـ وذهب الإمام مالك كما تقدم إلى أن الماء طهور وهو قول في المذهب ـ أي أنه طهور ـ واختاره المجد ابن تيمية، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الراجح.
فالماء الذي غمس فيه يد من قائم من نوم الليل، أن هذا الفعل محرم، والماء يبقى طهوراً مطهراً، وليس بطاهر فقط كما هو في المذهب.
ـ والمشهور في المذهب أن الغمس يكون من مسلم مكلف لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن أحدكم) وهو خطاب للمسلمين، وقوله: (فلا يغمس) وهو خطاب للمكلف.
ـ وهناك قول في المذهب أنه عام في المكلف وغيره. ولا شك أن هذا أقوى، فإنه إذا ثبت هذا الحكم الذي ذكروه من إنتقاله إلى الطاهرية، إذا ثبت بغمس المسلم المكلف، فأولى من ذلك أن يثبت بغمس الكافر والصبي.
ولأن العلة المذكورة (فإنه لا يدري أين باتت يده) تنطبق على الكافر والصبي.
ـ وأما الخطاب فإنه موجه إلى من يجيب، فهو إلى المسلم إلى من يجب عليه وهو على المكلف وهذا قول في المذهب.


ـ لكن الراجح ـ ما تقدم ـ أنه لا ينتقل إلى الطاهرية بل هو طهور مطهر.

* قوله: ((أو كان آخر غسلة زالت النجاسة بها فطاهر)) .
هذا المشهور في المذهب وسيأتي بيانه ـ أن النجاسة يجب أن تغسل سبع مرات.
فإذا وقع على الثوب نجاسة فيجب أن تغسل هذه النجاسة سبع مرات بالماء.
وعندهم أن الغسلات الست بالماء المتحلل منها ماء نجس؛ لأنه ماء لاقى النجاسة، وما لاقى النجاسة فهو نجس.
وأما الغسلة السابقة التي زالت بها النجاسة فقالوا: هذا الماء طاهر وليس بطهور وليس نجس.
ـ أما كونه ليس بنجس فقالوا: لأنه قد انفصل عن محل طاهر.
وأما الست فقد انفصلت عن محل نجس، فكلما غسلناه في مرة فهو مازال نجساً وأما المرة السابقة فقد انفصل عن محل طاهر.
ـ وهناك قول في المذهب أنه نجس، وهو أصحّ وأقيس بالنسبة للمذهب؛ لأنه إنما طهر المحل بانفصال الماء في آخره، وأما في ابتداء ذلك فالمحل لايزال نجساً.
وهذا القول هو الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد وهو إختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، كما تقدم.
وقد تقدم الاستدلال بحديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) (1) ، فهذا ماء طهور باق على أصله وقد وقعت فيه النجاسة فلم تغيره بل استهللت فيه سواء كان قليلاً أو كثيراً فإن الماء لا ينجس بل الماء طهور.
إذن: هذا القول فيه نظر كما تقدم، فقوله: (أو لاقاها وهو يسير) : هذا قول ضعيف.
بل النجاسة إذا لاقت الماء اليسير فلم تغيره فهو ماء طهور؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
إذن: لا يصح تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام (طهور وطاهر ونجس) ، ولا يصح كذلك تقسيم الماء إلى قليل وكثير؛ لأن هذا التقسيم يترتب عليه عندهم أن الماء الكثير لا ينجس إلا بالتغير، أما القليل فإنه ينجس بمجرد الملاقاة.

* قوله: ((أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها)) :
إذا انفصل عن محل النجاسة قبل أن تزول.


بمعنى: مازالت النجاسة باقية والماء يزال به النجاسة والمحل يتنظف ويتطهر به، فالماء المنفصل عنها ماء نجس؛ لأنه ماء قليل، وهذا هو الأصل، فهو ماء قليل قد لاقى نجاسة فيكون نجساً.
ـ وكذلك الغسلات الست، فقد تقدم أن الغسلة السابعة للماء المستعمل منها ماء طاهر.
أما الغسلات الست الأولى، فإن الماء فيها نجس.
إذن: مالاقي النجاسة أثناء الغسل والتنظيف فعندهم أنه ماء نجس.

ـ أما على القول الراجح: فنحن باقون على القاعدة المتقدمة وهي: أنه إن تغيّر بالنجاسة فهو نجس وإلا فهو طهور.

* قوله: ((فإن أضيف إلى الماء النجس طهور كثير غير تراب ونحوه أو زال تغير النجس الكثير بنفسه أو نزح منه فبقي بعده كثير غير متغير طهر)) :
هذه مسألة: في طريقة إزالة النجاسة في الماء وتحويل الماء من نجس إلى طهور.
وقد ذكر المؤلف هنا ثلاث طرق بذلك:
1ـ الطريقة الأولى: أن يضاف إلى الماء النجس طهور كثير والكثير عندهم ـ قلتان ـ فما فوق.
فمثلاً: تأتي إلى الماء النجس سواء كان قليلاً أو كثيراً، فتضيف إليه ماء كثيراً فيصبح طهوراً.
وقالوا: (كثير) : لأن الذي يريد أن يطهره بنجس، فإذا أضيف ماء قليل فإنه ينجس أي هذا الماء بمجرد الملاقاة؛ لأنه ماء قليل.
فلابد حينئذ من أن يضيف إليه قلتين فأكثر؛ لأنه إذا كان المضاف دون القلتين فإنه ينجس بملاقاة الماء الذي يراد تطهيره.
فإذن: يضاف إلى الماء المتنجس سواء كان قليلاً أو كثيراً فيضاف إليه ماء كثير فحينئذ ينتقل إلى طهور.
إن كان قليلاً فأصبح مع الكثير والنجاسة أصبحت لا تؤثر فيه.
وإن كان الماء من الأصل فتغير فإن مثل هذه الإضافة لا بد وأن تنظر فيها هل غيرت ريحه وطعمه ولونه، فإن غيرته فإن الماء تطهر، وإن لم تغيره فإننا نضيف حتى يذهب هذا التغير.
وهنا مثالان:


1ـ المثال الأول: فيه ماء قليل وقعت فيه نجاسة فهو ماء لم يتغير بالنجاسة لكنه، على المذهب ماء نجس فإذا أضيف إليه قلتان فأصبح بعد ذلك قطعاً طهوراً؛ لأن الماء أصبح كثيراً والنجاسة لم تغير فيه.
2ـ المثال الثاني: إذا كان الماء قد تغير وقد أضفنا إليه قلتين فما زال متغيراً فإنه لا يطهر بذلك.
ـ فإذا أضفنا قلة أو قلتين فزال التأثر فحينئذ يصبح الماء طهوراً.
قوله: (غير تراب أو نحوه) : التراب إنما نص عليه؛ لأنه يعتبر عند بعض المذاهب مطهراً.
والمذاهب كلها على أن الماء رافع للحدث ـ كما سيأتي بيانه في باب التيمم.
قالوا: فإذا أضيف إلى الماء تراب فزالت النجاسة بعد إضافته فهذا لا يؤثر بل يبقى نجساً أو أضيف إليه نحو التراب كأن يضاف إليه صابون أو نحو ذلك.
فإذا أضيف إليه تراب أو نحو ذلك فهذا ليست طريقة ـ عندهم ـ للتطهير ولا يتطهر الماء بذلك.
ـ وذهب بعض الحنابلة إلى أنه يطهر بذلك. وهذا هو القول الراجح؛ لأن المقصود إزالة النجاسة وقد زالت فإن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
فبأي طريقة زالت النجاسة فإن الماء يصبح طهوراً؛ لأن الخبث الذي نقل الماء من الطهورية إلى النجاسة قد زال فلا معنى ـ حينئذ ـ لأن يجعله من النجس وقد زال المؤثر والمفسر له، وأي طريق فصلناه، فإنه يكون صحيحاً.
ـ إذن التراب أو غيره ـ على القول الراجح ـ يعتبر مطهراً بل لو أضيف إليه شيء من المواد الكيميائية أو بعض الطرق الحديثة فزالت النجاسة فإنه يصبح ماء طهوراً.

2ـ الطريقة الثانية: قوله: (أو زال تغير النجس الكثير بنفسه) فالطريقة الأولى: طريقة لتطهير الماء القليل والماء الكثير جميعاً.
ـ لكن هذه الطريقة لتطهير الماء الكثير فقط.
فإذا مكث ماء كثير مدة فزالت عنه النجاسة من غير مؤثر، فهو قد طهر نفسه فإنه يصبح طهوراً.


ـ ولو كان قليلاً لم نقل به ـ على المذهب ـ؛ لأن الماء القليل نجس بمجرد الملاقاة أصلا فضلاً عن أن نقول أن النجاسة ذهبت منه.
فإذن: الماء الكثير إذا تغير بالنجاسة ثم ذهبت عنه بنفسه فإنه ماء طهور، قالوا: لأنه مطهر لغيره فهو كذلك مطهر لنفسه.
ـ وعلى القول الراجح كذلك الماء القليل المتغير بالنجاسة إذا زالت عنه النجاسة بنفسه فإنه يطهر ويصبح طهوراً؛ لأن الماء متى زالت عنه النجاسة فإنه طهور، بل كل عين تنجست ثم زالت عنها النجاسة فهي عين طاهرة.
3ـ الطريقة الثالثة: (أو نزح منه فبقى بعده كثير غير متغير) : ما تقدم طريقة إضافة، وهذه طريقة أخذ.
صورة ذلك: ماء كثير تغيّر بالنجاسة فأخذنا ننزح منه ونخرج حتى ذهبت النجاسة. مثال ذلك:
رجل عنده بركة فيها ماء فوقع في طرقها نجاسه فأخذ لينزح من الماء ويخرج حتى لم يبق أثر للنجاسة في هذه البركة، فحينئذ يصبح الماء طهوراً؛ لأنه بهذا النزح أصبح الماء المتبقي طهوراً غير متغير.

ـ فإن كان الماء قليلاً فما الحكم؟؟
فالجواب: ما تقدم من أنه ينجس بمجرد الملاقاة على المذهب.
ـ وعلى القول الراجح لاحاجة إلى هذه الطرق بل القاعدة: أنه متى ما زالت النجاسة فإن الماء يطهر فيصبح طهوراً على أصله، قال تعالى: ((وأنزلنا من السماء ماءاً طهوراً)) (1) فمتى زالت النجاسة فإن الماء يعود إلى أصله من الطهورية.
ـ وعلى تقرير مذهب فقهاء الحنابلة:
هنا صاحب الزاد لم يستثن ما استثناه في مسألة سابقة وهي بول الآدمي وعذرته، فإن البول إذا أصاب الماء ثم أضيف إليه ماء كثير فإنه ـ حينئذ ـ لا يطهر، إلا أن يكون قد شق نزحه، كما تقدم.


ـ إذن لابد وأن يبقى بعد عملية التطهير؛ لابد وأن يبقى ماء تتوفر فيه الشروط السابقة ومن الشروط السابقة: أن العذرة والبول في الآدمي إذا وقعا في الماء فإنه يبقى نجساً مطلقاً سواء كان قليلاً أو كثيراً ما لم يكن قد سبق نزحه؛ فإنه حينئذ يكون طهوراً لمشقة النزح.

* قوله: ((وإن شك في نجاسة ماء أو طهارته بنى على اليقين)) :
هذا داخل في القاعدة الشرعية العامة التي تقول: (اليقين لايزول بالشك) .
وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن زيد أنه شكى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل يجد الشيئ في الصلاة أو يُخيّل إليه الشيئ، فقال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) (1) .
ـ فإذا تيقنا أن الماء طهور ثم شككنا فيه هل وقعت فيها نجاسة أو لا؟؟
ـ أو وقع فيه شيء ونحن لا ندري، هل هذا الشيئ نجس أم لا؟؟
ـ أو هو ماء كثير فوقعت فيه نجاسة ثم شككنا هل غيرته أم لا؟؟
ـ وعلى الراجح إذا كان ماء قليلاً فوقعت فيه نجاسة ثم شككنا هل غيرته أم لا؟؟
فحينئذ: حكم الماء أنه يبقى على أصله وهو أنه ماء طهور، فاليقين لا يزال بالشك.

فاليقين ـ هنا، أنه ماء طهور ونحن عندما نشك في تنجسه في هذا الشيئ فهذا شك وأما ذاك فهو يقين.
والعكس كذلك: فإذا كان الماء نجساً وقد تغيّر شيئ من أوصافه بالنجاسة ثم شككنا هل زال هذا التغير أو لا؟؟
فاليقين أنه نجس، واليقين لا يزول بالشك.
ـ أما أن نرى في أحد أوصافه تغيراً.
ـ أو بأن يخبره مسلم مكلف مستور الحال كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة) (2) ، فإذا أتى خبر من مسلم ذكر أو أنثى مكلف بالغ عاقل مستور الحال ـ كما هو المشهور في المذهب ـ فإنه حينئذ يقبل قوله.
ـ أو رأى هو أن الماء قد تغير فزالت عنه النجاسة فإن الماء حينئذ ينتقل من النجاسة إلى الطهورية.
فإذا: اليقين لا يزول بالشك.


فالماء طهور ما لم تثبت لنا نجاسته، والماء النجس نجس ما لم تثبت لنا طهوريته.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس السابع

ـ تقدم الكلام على ما إذا شك في نجاسة ماء أو طهارته وأنه يبني على اليقين؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
ـ وتقدم أنه يقبل خبر المسلم المكلف المستور في إثبات النجاسة.
ـ واعلم أن الخبر يشترط فيه في الأظهر من قولي العلماء، وهما قولان في المذهب، يشترط فيه أن يبين سبب النجاسة وذلك لاختلاف أهل العلم في النجاسة.
مثال ذلك: أن يقول له: هذا ماء نجس والسبب عنده أنه لاقى النجاسة وهو ماء قليل وهذا المخبر لا يعتقد أن اليسير ينجس بمجرد الملاقاة، كأن يخبر شافعي مالكاً أو حنفي مالكياً بذلك.
فإذا تبين السبب علم ذلك المخبر أن الماء ليس بنجس.
إذن: لابد أن يبين له سبب النجاسة لاختلاف الناس في النجاسة طهارة ونجاسة.

ـ واعلم أن السؤال عن النجاسة ـ أي الإستخبار ـ عن طهارة الماء ونجاسته، ليس بمشروع وأنه من التكلف وقد كرهه الإمام أحمد وغيره، وقد نصّ على ذلك شيخ الإسلام.
فإذن: ليس من المشروع أن يسأل المسلم هل هذا الماء وقعت فيه نجاسة أم لا؟؟.
وذلك؛ لأن الأصل أن الماء طهور ويتطهر به، ومثل هذا السؤال تكلف وتعنت.
ـ ما لم تقيم أمارة تقوى القول بنجاسته، فإذا حدثت قرينة توقع الشك بالماء فإنه ـ حينئذ ـ يجوز له أن يسأل لوجود هذه القرينة.
ـ ومثل ذلك الأطعمة من اللحوم ونحوها، فإنه إذا قام في قلبه قرينه على أن صاحب المنزل يأتي باللحوم المذبوحة على غير الطريقة الإسلامية، فإنه يسأل.

أما إذا لم يقم في قلبه شيئ فإنه لا يشرع له ذلك.
فإذن: إنما يشرع له أن يسأل إذا قامت القرينة التي تجعل السؤال له محله فإذا لم تكن هناك قرينة فإن ذلك ليس بمشروع.

* قوله ـ رحمه الله ـ: ((وإن اشتبه طهور بنجس حرم استعمالهما ولم يتحر ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما)) .


إشتبه على المسلم مائين أحدهما طهور والآخر نجس، وهو يريد أن يتطهر فما الحكم؟؟ فهو لا يدري الطاهر من النجس.
الحكم: قال هنا: (حرم استعمالهما) : فيحرم عليه أن يستعمل أياً من المائين.
قالوا: لأن استعمال الماء النجس محرم، واستعماله لهما كليهما متضمن لاستعمال الماء النجس، هذا إذا استعملهما كلهما.
ـ أما إذا كان الإستعمال لأحدهما فقد يكون هو الماء النجس، والواجب عليه أن يتحرز من استعمال النجس وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإذن: لا يحل له أن يستعمل أحدهما ولا كليهما؛ لأن ذلك إما أن يكون يقينا يستعمل فيه الماء النجس وذلك إذا استعمل الماء من كليهما، وأما إن استعمل أحدهما فإن ذلك ذريعة إلى استعمال الماء النجس، والواجب التحرز منه وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ـ وهل يتحرى أم لا؟؟
قال هنا (ولم يتحر) : أي ليس له أن يتحرى، بمعنى: ليس له أن ينظر إلى القرائن التي تقوي أن يكون أحدهما هو الطهور فيستعمله ويدع الآخر؟؟
فلا يجوز له إلا أن يدع الإثنين كليهما، ولو كان في قلبه قرينة تقوي أن هذا الماء هو الطهور وأن الآخر هو النجس.
إذن: لا يجوز له أن يتحرى مطلقاً سواء كان هناك مرجح ـ أي قرينة تقوي أحد الجانبين ـ أو لم يكن.
ـ أما إذا لم تكن هناك قرينة فلا إشكال في هذا، ولكن إذا كان هناك قرينة:
فقد ذهب بعض أهل العلم وهو مذهب الشافعية إلى أنه يتحرى الطهور منهما فيستعمله.
قالوا: لأن ما يعجز عن اليقين فيه فإنه يلجأ إلى الظن الغالب، ونحن قد عجزنا أن نتيقن أن هذا الماء الذي نستعمله طهور فحينئذ: يلجأ إلى الظن الغالب فنرجح أحدهما.
كما أن الرجل إذا استبهت عليه القبلة وغلب على ظنه إحدى الجهتين فإنه يرجح إحداهما. هذا هو مذهب الشافعية.


وأما الحنابلة، فقالوا: يكون الترجيح حيث كانت الضرورة؛ لأنه إذا رجح فقد يقع في الأمر المحرم من استعمال النجس، فقد يقع فيه وإن كان يظن أنه لم يقع فيه وإعمال الظن إنما يكون عند الضرورة، وأما هنا فلا ضرورة فإنه بحكم غير الواجدين للماء فحينئذ يلجأ إلى التيمم، ولا حاجة إلى أن يتحرى وإنما يلجأ إلى التيمم.
ـ كما أنه إذا اشتبه ماء مباح وماء محرم وليس مضطراً إلى أحدهما فإنه يدع الجميع، ولا يمكن أن يتورع إلا بمثل ذلك ـ فإنه ـ حينئذ ـ يدع الجميع ويلجأ إلى شيء آخر سواهما.
أما إذا كان مضطراً كأن يكون إنسان عنده ماءان به أحدهما طهور والآخر نجس وهو مضطر؛ لأن يشرب أحدهما فإنه ـ حينئذ ـ يتحرى فما غلب على ظنه أنه ماء طهور فإنه يشرب منه للضرورة.
وقد ذكر شيخ الإسلام القولين ولم يرجح بينهما.
ـ والأقوى فيما يظهر، ما ذهب إليه الحنابلة للأمر الذي تقدم وهو أن الأمر ليس فيه ضرورة داعية إلى التحري، واستعمال أحد الماءين مع إحتمال قوي أن يكون هذا المستعمل هو الماء النجس المحرم استعماله، فلا ضرورة تدعو إلى ذلك فحينئذ يلجأ إلى التيمم. لذا قال المؤلف:
((ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما)) :
فإنهم يرون أنه ـ حينئذ ـ يتيمم.
ـ إذا كان عنده ماءان أحدهما طهور والآخر نجس ويمكنه أن يضيف أحدهما إلى الآخر فيطهران بذلك، فلا يجوز له أن يلجأ إلى التيمم؛ لأنه يمكنه أن يحول هذين الماءين إلى ماء طهور.
ـ مثال: إذا كان عندهما ماءان أحدهما قليل والآخر كثير، والقليل قد نجس بالملاقاة أو كلا الماءين كثير وقد تنجس لكنه يشق وليس عنده استطاعة على تمييز الطهور من النجس كأن يكون أعمى أو نحو ذلك.
فحينئذ: يضيف أحدهما إلى الآخر ويطهران بذلك ولا يجوز له أن يتيمم.


ـ لكن هنا إذا كان لا يستطيع ذلك بمعنى: لا يمكنه أن يحول الماءين إلى ماء طهور يتيقن عند استعماله أنه استعمل ماءاً طهوراً فحينئذ: يدع الجميع ويحرم عليه استعمالهما ويلجأ إلى التيمم.
ـ وهل يشترط للتيمم إراقتهما أو خلطهما ليكون غير واجد للماء، فقد قال تعالى: (فلم تجدوا ماءاً) (1) فهل يشترط ذلك أم لا؟؟.
قال: (ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما) .
ـ وهناك قول آخر في المذهب أنه يشترط ذلك لكي يكون عادماً للماء حقيقة فإنه إذا خلطهما فأصبحا كليهما نجساً أو كان منه أن إراقهما فإنه لا يكون واجداً للماء.
ـ والقول الثاني وهو الأصح أن ذلك ليس بشرط؛ لأن العاجز عن استعمال الماء كعادمه، فهذا الرجل عاجز عن الماء أو جاهل، أيهما الطهور من النجس فهو كالعادم للماء وقد قال تعالى: (فلم تجدوا ماءاً فتيمَّمُوا صعيداً طيباً) ، وهذا غير واجد للماء حكماً لا حقيقة، ولا يشترط أن يكون عادماً للماء حقيقة.
لذا نفي المؤلف للإشتراط إنما هو دفع للقول الضعيف الذي يقول بإشتراط ذلك.

* قوله: ((وإن اشتبه بطاهر توضأ منهما وضوءاً واحداً من هذا غرفة ومن هذا غرفة، وصلى صلاةً واحدة)) :
إذا اشتبه عليه ماءان أحدهما طاهر والآخر طهور. ولا يدري أيهما الطاهر من الطهور.
ـ هذه المسألة مبنية على القول المرجوح الذي تقدم وهو تقسيم الماء إلى طاهر وطهور ونجس، وعلى هذا القول تتفرع هذه المسألة.
ونحن عندما نرجح ذلك القول الذي تقدم ترجيحه لا نحتاج إلى هذه المسألة فهي لا تكون واقعة على ذلك المترجح، وإنما هذا مبني على المذهب ومن وافقه في أن الماء ينقسم إلى طاهر وطهور ونجس.
ـ فالمسألة:
إذا اشتبه عليه ماءان أحدهما طاهر والآخر طهور ولا يدري أيهما الطاهر من الطهور؟؟
فالحكم قال: (يتوضأ منهما وضوءاً واحدة من هذه غرفة ومن هذا غرفة ومع صلاة واحدة) .


فإذن: يتوضأ منهما وضوءاً واحداً، ولكم بغسل العضو مرتين مرة بالماء الطهور ومرة بالماء الطاهر.
ـ وهو لا يدري أيهما الطاهر من الطهور ولكن الأمر يقع هكذا فيكون مرة بماء طهور ومرة بماء طاهر فحينئذ يتيقن أن العضو قد وقع عليه ماء طهور، ويكون وضوؤه وضوءاً واحداً فيغسل العضو مرتين. مرة بهذا الماء ومرة بالماء الآخر لكي يتيقن أنه قد تطهر بالماء الطهور.
فإذن: تغسل الأعضاء مرتين وله ثلاثاً بتكرار أحدهما، ولكن الواجب أن يكون مرتين مرتين من هذا مرة ومن هذا مرة، فيكون حينئذ قد تيقن من وصول الماء الطهور إلى أعضائه.
ـ فإن توضأ من هذا وضوءاً ومن هذا وضوءاً؟ فالمصرّح به في المغني وغيره أن هذه هي الصورة.
ـ وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في العمدة التي شرحها على طريقة الحنابلة ذكر أنه أن شاء توضأ وضوءين.
ـ وينبغي أن يكونا وجهين في المذهب.
فبعض الحنابلة قال: إنه يتوضأ وضوءاً واحداً كما تقدمت صورته.
ـ وبعضهم قال: يتوضأ وضوءين وضوء بهذا الماء ووضوء بالماء الآخر.
ـ ولكن القول الأول أصحّ؛ لأنه إذا فعل الطريقة الأخرى فإنه يكون في نيته غير جازم، فإنه في كلا الوضوءين غير جازم أنه يستخدم ما تصح به الطهارة.
والواجب أن تكون النية في الوضوء جازمة وهو ـ حينئذ ـ لا يكون جازماً بارتفاع حدثه في كلا الغسلين أو الوضوءين بخلاف ما إذا كان الوضوء واحداً.
إذن: هذه الطريقة هي الطريقة السالمة من هذا الإعتراض الذي تقدم ذكره، فيتوضأ وضوءاً واحداً بغسل كل عضو مرتين مرة بالماء الطهور ومرة بالماء الطاهر.
قال: (وصلى صلاة واحدة) :
فإذا توضأ بالماءين حينئذ يصلي صلاة واحدة.
ـ فإذا احتاج لأحد الماءين للشرب فما الحكم؟
قالوا: يتحرى فيبقى الماء الطاهر لشربه ويتوضأ بالماء الطهور.
وليس هذا بيقين. لذا قالوا: فيحتاج حينئذ أن يتيمم مع ذلك.


وفي هذا نظر بل الأظهر أنه إذا احتاج إلى الماء للشرب فإنه ليس له أن يتوضأ من الآخر بل يكتفي بالتيمم.
ـ ولكن هذه المسألة كلها ـ كما تقدم ـ مبنية على القول بتقسيم الماء إلى طاهر وطهور ونجس والصحيح خلاف ذلك.

* قوله: ((وإن اشتبهت ثياب طاهرة ينجسه أو بمحرمه صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس وزاد صلاة)) :

ـ رجل عنده ثياب قد أصابت بعضها نجاسة وهو لا يعرف الثياب النجسة بعينها ولا يمكنه أن يأخذ ثوباً فيغسله ويتأكد من تطهره فما الحكم؟؟
قالوا: يصلي بعدد الثياب النجسة ويزيد واحدة.
مثال: رجل عنده عشرة ثياب يعرف أن ثمان (8) منها نجسه ولكن لا أدري ما هي بعينها، فيقال له: صلّ ثمان صلوات ثم زد صلاة تاسعة فيكون قد صلى تسع صلوات ويكون بذلك قد تيقن أنه صلى بثوب طاهر؛ لأنه قد أنفذ ثمان صلوات بثمان ثياب، ولنفرض أنها هي الثياب النجسة.
فتبقى هذه الصلاة الأخيرة يُتأكد من كونه قد صلى بثوب طهور.
فعلى ذلك: لو أن رجلاً عنده مائة ثوب نجس وثوب طاهر فإنه يصلي مائة صلاة ويزيد صلاة واحدة. هذا هو مذهب الحنابلة.
قالوا: هذا إذا علم عدد ثيابه النجسة.
ـ أما إذا لم يعلم، قالوا: يصلي حتى يتيقن ولا يمكن أن يتيقن حتى يصلي فيها كلها، هذا إذا كان يقول: غالبها أو نصفها نجسه لكنه لا يدري عددها.
ـ أما إذا كانت كلها نجسه فإنه لا يحل له أن يصلي بشيء منها، هذا هو المشهور في المذهب حتى في المسألة الأخرى.
ـ وذهب بعض الحنابلة في المسألة الأخرى، أنه يتحرى لمشقة ذلك كما قال ذلك ابن عقيل وغيره.
ـ وذهب الشافعية والأحناف إلى القول بالتحري وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهذا هو القول الراجح؛ لأن الله عز وجل قال: (فاتقوا الله ما استطعتم) (1) .


ولأن الله رفع الحرج عن هذه الأمة وفي فعل ذلك حرج، فكونه يضع هذه الصلوات الكثيرة منه حرج، كما أن الصلاة لا تصلى في أكثر من مرة إلا إذا ثبت فيها خلل فإنها تعاد، أما إذا لم يثبت فيها خلل فإنه ليس له أن يعيدها كما نهى عن ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
إذن: الصواب: أنه إذا اختلطت عليه الثياب الطاهر والنجسة فلا يدري أين الطاهرة من النجسة.
فإنه يتحرى سواء علم عدد الثياب أو لم يعلم ذلك، فإنه يتحرى ويجتهد ثم يصلي وتجزئ صلاته، هذا هو القول الراجح.
ـ ومثل ذلك إذا كانت الثياب منها ثياب محرمة عنده وثياب مباحة ومنها ثياب محرمة لا يعلمها بعينها كأن يكون ثوباً أو مغصوباً ولم يتميز هذا الثوب المغصوب منها فإنه حينئذ يصلي بعدد الثياب المغصوبة ويزيد صلاة. أو يصلي حتى يتيقن إن لم يعلم عدد الثياب النجسة، هذا هو المذهب.
ـ والراجح أنه يتحري (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (1) .
والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثامن: الثلاثاء 17/10/1414هـ
(باب الآنية)

الباب: هو ما يدخل منه إلى المقصود سواء كان حسياً كأبواب الدور أو معنوياً كأبواب العلم.
والآنية: جمع إناء، ويجمع على "أواني": فهي جمع لها، فالإناء جمعه آنية، والآنية جمعها أواني.
ومثل ذلك: سقاء، وإسقية، وأساقي.
والإناء: هو الوعاء.
ـ واعلم أن المؤلف بدأ بباب المياه؛ لأن المياه هي مادة التطهر، والطهور هو مفتاح الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وقد روى الإمام أحمد وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (مفتاح الصلاة الطهور) .
وهنا شرع المؤلف بعد باب المياه بباب الآنية؛ لأن الماء بطبيعته سيّال: يحتاج إلى طرق يحفظه، فشرع بذكر حكمها بعد باب المياه.

* قوله: ((كل إناء طاهر ولو ثميناً يباح اتخاذه واستعماله)) :
كل إناء: من خشب أو صفر أو نحاس.


والإتخاذ المراد به: اتخاذه في المحل من غير استعمال وما دام الإستعمال مباحاً فأولى منه أن يباح الإتخاذ.
فكل إناء من الأواني من خشب أو صفر أو جلد ونحو ذلك يباح إستعماله كما يباح كذلك إتخاذه، وقوله: (ولو ثميناً) : لفظة: (لو) إشارة إلى خلاف.
ومثلها لفظة: (حتى) و: (إنْ) .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ: (لو) : للخلاف القوي و (حتى) : للخلاف المتوسط و (إنْ) للخلاف الضعيف.
وقد قال: هنا: (لو) فهي للخلاف القوي، لكن ليس الأمر في الحقيقة على هذا، فإن الأمر من حيث القائل ضعيف، فإن ذلك هو قول الشافعي في أحد قوليه والشافعية اختاروا إتفاقاً قوله الثاني وهو جواز ذلك ـ أي جواز استعمالها ـ وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
إذن: جمهور الفقهاء وهو أحد قولي الشافعي الذي اختاره أصحابه أن الأوعية الثمينة من الجواهر والزمرد أنها مباحة لا حرج فيها.
ـ وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنها محرمة ـ أي إستعمالها ـ.
ـ أما حجة أهل القول الأول: فهي الأصل، فالأصل في الأشياء الإباحة كما قال تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) فكل ما في الأرض فهو مباح ما لم يثبت تحريمه، والأواني التي من الجواهر الثمينة مباحة ما لم يأت دليل يدل على تحريمها وليس هناك دليل على ذلك.
أما حجة الإمام الشافعي في قوله الآخر فهي: أن الأواني الثمينة فيها من الخيلاء والإسراف والكبر وكسر قلوب الفقراء.
وهذا القول قوي؛ لأن الشارع حرم الخيلاء والكبر والإسراف وكل ما هو ذريعة إلى المحرم فهو محرم.
ـ ثم إن الشارع حرم الإسراف، وفي الحديث (كلوا واشربوا والبسوا في غير اسراف ولا مخيلة) ، وهذا فيه إسراف وكسر لقلوب الفقراء.
فهذا قول قوي، والجمهور على خلافه وأن الأواني الثمينة استعمالها جائز.
والقول بتحريمها قول قوي لما في إستعمالها من الكبر والخيلاء والإسراف وكسر قلوب الفقراء.
وأجاب الجمهور ـ عن ذلك ـ بأن إستعمال الجواهر نادر.


ولكن هذا الجواب ضعيف؛ لأن الحكم تبع للوجود فمتى ما وجد هذا فإنه محرم ولو كان هذا على هيئة الندرة، نعم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينص على ذلك لندرته، فهذا يصح أن يكون دليلاً على عدم تنصيص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تحريم ذلك؛ لأن الغالب الكثير إنما هو استخدام الأواني من الذهب والفضة، وأما استخدامها من الجواهر ونحوها فإن ذلك نادر قليل.
فيصبح أن يكون ذلك سبباً لعدم ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحريم استخدام الجواهر الثمينة في المطاعم والمشارب ونحوها.
وأما أن يكون ذلك دليلاً على الجواز فلا؛ فإن هذا الشيء وإن وقع نادراً فإن فيه علة الكبر والخيلاء ونحو ذلك من العلل فهو حرام. فهذا القول قول قوي.

* قوله: ((إلا آنية ذهب وفضة)) :
فآنية الذهب والفضة من سائر الأواني قد نصّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تحريمها، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) .
(صحافها) : جمع صحفة وهي ما يشبع الخمسة، ومثل ذلك غيرها من الأواني، وهذا إنما هو للغالب، فالغالب في الأواني أن يكون كذلك، وغيرها من الأواني لها نفس الحكم فالقصعة وهي ما تكفي العشرة، والمئكلة وهي ما يشبع الأثنين والثلاثة لها نفس الحكم.
(فإنها لهم في الدينا) : أي للكفار.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) .
ـ قوله: (الذي يشرب في آنية الفضة) : وأولى منها آنية الذهب فإنها أعظم وأشد وأقبح من الفضة في هذا الحكم:
بل ثبت في مسلم في هذا الحديث نفسه: (من شرب في إناء ذهب وفضة) .


وقوله: (إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) : أي إنما يصب في جوفه نار جهنم، والجرجرة: هي صوت الشراب الواقع في الجوف أو المتحرك في الحلق.
فهذا يدل على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب.
فهذه عقوبة عظيمة لا يثبت مثلها، إلا لفاعل كبيرة.
فإذن: الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة من كبائر الذنوب وهذا مجمع عليه إلا ما روى عن داود الظاهري من إباحته للأكل ولعل ذلك لعدم بلوغ الحديث إليه.

* قوله: ((أو مضبباً بهما)) :
المضبب هو الإناء ينكسر فيوضع فيه صحفة من حديد أو نحاس أو ذهب أو فضة فتصل بعضه ببعض وتضم بعضه إلى بعض.
فهو إذن أن يكون في الإناء شعبة أو كسر ثم يؤتي بصحفة أو سلسلة من معدن من المعادن فيصل الطرفين بعضهما ببعض فهذه الضبة وهذا هو الإناء المضبب.
وقوله: (أو مضبباً بهما) أي كذلك ما كان مضبباً بالذهب والفضة.
وظاهره سواء كان قليلاً أو كثيراً فأي ضبه من فضة أو ذهب فإنها تحرم الأكل والشرب في الإناء وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من أن الضبة سواء كانت يسيرة أو كبيرة فإنها محرمة سواء كانت من ذهب أو فضة وسيأتي الكلام على الفضة إن شاء الله.
فإذن: الضبة محرمة وذلك لأن الشارع إذا نهى عن الشيء فإنه يدخل في النهي أجزاء ذلك الشيء.
فإذا حرم الشرب في آنية الذهب والفضة فكذلك الذي تتخلله فضة أو ذهب فهو محرم كذلك.
فإذن: الإناء الذي فيه ضبة من ذهب أو فضة محرم.
ـ ومثل ذلك المموه والمطلي بالذهب والفضة فهو محرم كذلك.
صورة المموه: بأن يؤتي بالإناء ثم يوضع في إناء قد صهر فيه ذهب أو فضة فتتموه ويأخذ من لون الذهب والفضة، فهذا محرم كذلك لوجود الذهب أو الفضة.
ـ وصورة المطلي: أن يجعل الذهب والفضة كهيئة الورق ثم بعد ذلك يلصقها بالإناء.


ـ ومثله ـ كذلك: المكفت: وصورته: أن يبرد الإناء حتى يخرج هذا البرد كهيئة المجاري الصغيرة ثم يلصق بها قطع ذهب أو قطع فضة، فهذا ونحوه كله محرم للتعليل المتقدم، وهو وجود الذهب والفضة فيه، والشارع إذا نهى عن شيء فهذا نهي عن أبعاضه وأجزائه.

* قوله: ((فإنه يحرم إتخاذها واستعمالها)) :
أما الإستعمال فهذه اللفظة شاملة للإستعمال في الأكل والشرب وغيرهما.
فنبدأ بهذه اللفظة ثم نعود إلى لفظة الإتخاذ فهي مترتبة عليها.
أما الإستعمال: فأما الأكل والشرب فقد نصّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على النهي عن الأكل والشرب فيهما، فالأكل والشرب فيهما لا شك في تحريمه.
ـ وما هي العلة؟؟
العلة عند جماهير أهل العلم هي ما فيها من الكبر والخيلاء والإسراف وكسر قلوب الفقراء، فحرمه الشارع لما فيه من الإستطالة على عباد الله ولما فيه من الإسراف والكبر والخيلاء.
ولذلك فإنه من تعاطاه في الدنيا فإنه لا يتعاطاه في الآخرة، كما في الحديث:
((فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) .
وفي سنن النسائي بإسناد قوي: (آنية الذهب والفضة آنية أهل الجنة) .
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسلم: (فإن من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة) .
فإذن: هي آنية أهل الجنة ومن شرب فيها في الدنيا فإنه لا يشرب فيها في الآخرة.
ـ لكن هذا ـ أي كونها آنية أهل الجنة ـ في الحقيقة ليس هو التعليل، كما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرم الخمر وأخبر أنها شراب أهل الجنة، وأنه من شرب منها في الدنيا لم يشرب منها في الآخرة، ولكن العلة فيها أضرارها الواقعة على العقول فحرمها الشارع لذلك، فلذلك هنا ـ في آنية الذهب، والفضة فإنها آنية أهل الجنة في الجنة وهي آنية أهل الكبر والخيلاء والمستطيلين على عباد الله في الدنيا فليست من آنية المؤمنين بل هي من آنية الكفار في الدنيا، وأما المؤمنون فهي آنيتهم في الآخرة.


فالعلة هي ما فيها من الكبر والإسراف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء.
لذا ذهب عامة أهل العلم على أن المحرم ليس الأكل والشرب فحسب بل ذلك يشمل الأكل والشرب وغيرهما من الإستعمالات، بل حكاه النووي وغيره إجماعاً.
ـ ولكن ذهب أهل الظاهر، وممن ذهب إليه الشوكاني والصنعاني إلى أن المحرم الأكل والشرب فحسب؛ لأن النص وارد فيها فحسب.
الراجح هو القول الأول: وكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نص عليها فحسب لا يعني أنهما المحرمان فقط، فإن الشارع يذكر الشيء في الحكم ثم يلحق به ما شابهها من باب القياس.
فالله ـ عز وجل ـ قال في كتابه: ((وربائبكم اللاتي في حجوركم)) . ومعلوم أن الربيبة محرمة مطلقاً سواء كانت في حجر زوج أمها أم لا.
فيكون نص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة بناءاً على الغالب، فالغالب في استعمال الذهب والفضة إنما هو في الشرب ولكن يلحق بالأكل والشرب ما شابههما من الإستعمالات كأن يتوضأ أو يغتسل أو يتطيب أو نحو ذلك من الإستعمالات.
ـ فإذن: كل استعمال لأواني الذهب والفضة فإنه محرم.
ـ فإن قيل: قد ثبتت أدلة تدل على جواز إستعمال الفضة؟؟ من ذلك ما ثبت في البخاري: أن أم سلمة كان عندها جلجل فيه شعر من شعرات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تستشفي بهن أي إذا أتاها أحد من المرضى فإنها تضع في هذا الجلجل ماءاً ثم تحركه ثم يشرب منه فيشفى بإذن الله.
قالوا: فهذا يدل على جواز إستعمال الفضة.
واستدلوا بما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) أي تصرفوا بها كيف شئتم.
ـ وقد ذكر شيخ الإسلام أن الأصل في الفضة الإباحة ما لم يثبت دليل يدل على التحريم.
ـ لذا الذي يتبين ـ والعلم عند الله ـ أن استعمال الفضة في غير الأكل والشرب أن ذلك مباح، فإذا استعملها في قلم ومكحلة ومدخنة ونحو ذلك فإنه مباح.


ـ أما الذهب فهو محرم على الإطلاق لا يحل منه إلا حلي النساء، وما اضطر المسلم إليه.
أما الفضة: فالأكل والشرب فيها محرم.
أما في غير الأكل والشرب فإن ذلك جائز.

ـ ولا يخفى أن الأثر عن أم سلمة أثر راو، فإنها هي التي روت قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفضة ومع ذلك فإنها كان عندها جلجل وكانت تضع فيه شعرات النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
فعلى ذلك الذي يتبين: أن استعمال الفضة في غير الأكل والشرب مباح أما الذهب فإنه محرم على الإطلاق.
إلا ما تقدم من حلي النساء وما أضطر إليه المسلم، وسيأتي مزيد بحث عن هذا إن شاء الله.

* وقوله ((فإنه يحرم إتخاذها)) :
يحرم الإتخاذ؛ لأن الإتخاذ وسيلة الإستعمال والشارع قد يسد الذرائع الموصلة إلى المحرمات.
ـ فلو كان هناك إناء يمكن أن يشرب فيه أو يؤكل فيه وهو من ذهب أو فضة فإذا وضعه صاحب المنزل وإن قال إنه لا يأكل به ولا يشرب فإن ذلك محرم؛ لأنه قد إتخذه والإتخاذ وسيلة الإستعمال وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم.
ـ كما أنه يحرم إتخاذ آلات اللهو والطرب ونحوها من الآلات؛ لأن التي تبث المنكرات فيحرم إتخاذها؛ لأن ذلك ذريعة إلى إستعمالها.
فالإتخاذ محرم للشيء الذي يحرم إستعماله وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
* قوله: ((ولو على أنثى)) :
فإن الإنثى إنما يباح لها الحلي ـ وسيأتي إن شاء الله ـ.

* قوله: ((وتصح الطهارة فيه)) :
أي من آنية الذهب والفضة.
إذن: لا يحل لها أن تتوضأ في إناء ذهب أو فضة أو يغتسل لكنه لو فعل ذلك فإن وضوءه صحيح.
ـ هذا هو مذهب جمهور الفقهاء.
وذلك لأن هذا الفعل فيه لم يقع على شرط العبادة ولا ركنها. بل هو أجنبي عن العبادة فإنه قد توضأ وضوءاً صحيحاً قد توفرت فيه شروطه والماء كذلك ليس بمغصوب ـ بخلاف الماء المغصوب فسيأتي الكلام عليه.
إذن الطهارة صحيحة، مع تحريم الفعل، وهذا مذهب جمهور الفقهاء.

* قوله: ((إلا ضبة يسيرة من فضة لحاجة)) :


هذا إستثناء من التحريم، فإن الضبة اليسيرة التي تكون من الفضة لحاجة فإن ذلك جائز في المشهور من المذهب.
إذن: المشهور من المذهب أن الضبة اليسيرة من الفضة للحاجة في الإناء إن ذلك جائز.
والحاجة هي ألا يكون ذلك للزينة وإن كان يمكنه أن يسوي هذا إلاناء بغير الفضة بأن يسويه بحديد أو نحاس أو نحو ذلك.
ـ إذن ليست المسألة ضرورة بحيث أن الفضة تعينت، بل المسألة حاجة، فالفضة لم تتعين بل يمكنه أن يستعمل غير الفضة.
قالوا: فذلك جائز.
ـ فالضبة اليسيرة من الذهب محرمة فتبقى في العموم المتقدم، والضبة الكثيرة من الفضة محرمة فتبقى في العموم المتقدم.
والضبة اليسيرة لغير حاجة كزينه ونحوها فإن ذلك محرم.
وإنما المباح الضبة اليسيرة عند الحاجة هذا هو مذهب الحنابلة.
ـ وذهب بعض الحنابلة إلى أنه مباح للحاجة وغيرها. وهذا هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا أصح، إذ الحاجة لا تبيح محرماً، ونحن إذا قلنا بجوازه فلا فرق بين أن يكون ذلك للحاجة أو غيرها.
ـ واستدل الحنابلة وهو مذهب الجمهور على قولهم، بما ثبت في البخاري من حديث أنس بن مالك: ((أنه كان عنده قدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنكسر فاتخذ مكان الشَّعب سلسلة من فضة)) .
قالوا: لفظة (فاتخذ) تدل على أن المتخذ هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالمتخذ ـ عندهم ـ هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي إتخذ مكان الشعب ـ أي هذا الشق اتخذ مكانه سلسلة من فضة، فالمتخذ ـ على هذا القول هو: النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
ـ وذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ وهو مذهب الليث وهو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين إلى أن الضبة اليسيرة كذلك لا تجوز.
وقالوا: المتخذ هنا إنما هو أنس بن مالك ويدل على ذلك ما في البخاري من رواية عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند أنس بن مالك، وقد انصدع فسلسلة سلسلة من فضة) فالمسلسل هنا إنما هو أنس.


وأصرح منه رواية محمد بن سيرين قال: إنه كان فيه ـ أي في هذا القدح ـ حلقة من حديد فأراد أنس بن مالك أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة فقال له أبو طلحة: ((لا تغيرن شيئاً صنعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتركه)) .
إذن: كان هذا الإناء الذي هو قدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يغيرها فنهاه أبو طلحة الإنصاري ـ زوج أمه ـ ثم بعد ذلك غيَّره أنس وجعل ذلك فضة على الإختيار.
إذن: فاعل ذلك ليس هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما هو أنس.
ـ وأنس ـ رضي الله عنه ـ صحابي وقوله حجة لكن إذا لم يعلم له مخالف.
وهنا له مخالف وهو ابن عمر، فقد ثبت في سنن البيهقي بإسناد صحيح: أنه كان لا يشرب من إناء فيه حلقة فضة، أو ضبة فضة) .
إذن: قد خالفه ابن عمر، فلم يبق قوله حجة.
فالقول الراجح: هو ما ذهب إليه الإمام مالك من النهي عن ذلك مطلقاً فالضبة محرمة مطلقا كثيرة كانت أو يسيره من فضة أو غيرها لحاجة أو وغير حاجة كما هو مذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ.
ـ واعلم أن مما استدل به أهل العلم على تحريم الضبة على الإطلاق: مارواه الدارقطني وقال: إن إسناده حسن: من حديث ابن عمر: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن يشرب من إناء ذهب أو إناء فضة أو إناء فيه شيء منهما فمن فعل ذلك فإنما بجرجر في بطنه نار جهنم) ، لكن الحديث من حديث زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن ابن عمر. وزكريا مجهول وكذلك أبوه فالحديث ضعيف، وقول الدارقطني: "إسناده حسن" ليس بحسن بل الحديث ضعيف وقد ضعفه ابن القطان وابن تيمية والذهبي وابن حجر، فالحديث ضعيف لا يحتج به، ومع ذلك فإن الضبة محرمة للتعليل المتقدم.

* قوله: ((وتكره مباشرتها لغير حاجة)) :
إذن: هي جائزة أولاً، ولكن مباشرتها مكروهة لغير حاجة.


فكونه يستعملها فيشرب مباشرة من هذه الضبة فَتُمَس بَشْرَتُه ذلك مكروه إلا إذا احتاج إلى ذلك، فإذا احتاج إلى ذلك فإن الكراهية تزول.
وعللوا ذلك: بأن مباشرتها إستعمال لها، ومقتضى هذه العلة التحريم؛ لأن الإستعمال محرم.
والظاهر أن ذلك لا حرج فيه مادام أن هذه الضبة جائزة، وأبيح فعلها في الإناء فإنه ـ حينئذ ـ لا حرج في مباشرتها، والكراهية حكم شرعي لابد له من دليل.
والحمد لله رب العالمين.
* قوله: ((وتباح آنية الكفاية ولو لم تحل ذبائحهم، وثيابهم إن جهل حالها)) .
ـ (تباح آنية الكفار) : من المشركين، وأهل الكتاب.
(ولو لم تحل ذبائحهم) : أي وإن كانوا غير كتابيين.
فالمشركون إو كفار وإن كانوا غير كتابيين فإن آنيتهم طاهرة يحل للمسلم أن يتطهر فيها ويحل له أن يأكل فيها ويشرب، وهذا هو الأصل؛ فإن الأصل في الأشياء الإباحة. قال تعالى:
((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً))
ـ ولكن إن ثبت أن فيها نجاسة أو عين محرمة فإنه لا يحل له أن يتسعملها حتى يغسلها.
ـ والأدلة الدالة على هذه المسألة ـ أي مسألة حل آنيتهم وأنها لا تحل إن علمت النجاسة فيها ـ.
ـ ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أضافه يهوديّ على إهالة ـ وهي الودك المذاب (سنخه) أي متغيرة) فهذه آنية يهودي وهو من أهل الكتاب.
ـ أما أواني المشركين: فقد ثبت في الصحيحين من حديث عِمران بن الحصين وهو حديث طويل: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (توضأ من مزادة امرأة مشركة) ، فهذان الحديثان تدلان على طهارة آنية الكفار.


ـ أما إذا ثبت أن فيها نجاسة، فإنه لا يحل له أن يأكل أو يشرب أو نحو ذلك من الإستعمالات ـ لا يحل له ذلك، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ثعلبه الخشني قال: (قلت يا رسول الله: إنا بأرض قوم أهل كتاب "وفي رواية لأبي داود: وإنهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر"، فنأكل في آنيتهم فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا، إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها) .، وقد تقدم في رواية أبي داود أن هؤلاء النصارى كانوا بطبخون في قدورهم الخنازير ويشربون في أوانيهم الخمر.
ـ وقد ثبت في مسند أحمد بإسناد حسن عن ابي ثعلبة الخشني أنه قال: للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها "وآنية المجوس الغالب فيها أنها تستعمل في الطعام المحرم فإنه لا تحل ذبائحهم وهم يأكلون الميتة" فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إذا اضطررتم إليها فاغسلوها واطبخوا فيها".
ـ إذن: هذه الأدلة تدل على أن آنية الكفار طاهرة ما لم يثبت أن فيها نجاسة فإنه لا يحل للمسلم أن يأكل فيها حتى يغسلها.
ـ مما يدل على طهارة أواني الكفار ـ أيضاً ـ ما ثبت في مسند أحمد وسننن أبي داود بإسناد صحيح عن جابر قال: كنا نغزو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، فنستمتع بها فلم يعب ذلك علينا) .
ـ ومثل ذلك ثيابهم التي يستعملونها في اللبس فإنها كذلك حلال لبسها وهي طاهرة إن جهل حالها.
إذن: إذا علمت طهارتها فلا شك في جواز لبسها وفي طهارتها.
ـ وإذا جهل حالها ـ أي لم تعلم نجاستها فإنها كذلك.
أما إذا ثبتت نجاستها فلا تحل حتى تُغسل.
ـ أما أوانيهم أو ثيابهم التي صنعوها أو نسجوها للمسلمين فهذه لا يشك في حلها. وقد ذكر الموفق وابن القيم، وهو أمر لا يحتاج إلى استدلال بدليل خاص، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلبسون من ثياب الكفار التي صنعوها) .


فإن هذا لا شك في حله، وإنما البحث في الثياب التي استعملت أو الأواني التي استعملت.
ـ وثياب الصبيان لبسها ـ كذلك ـ لا يؤثر،وإذا كان شيء من ثيابهم التي لم تعلم نجاستها ـ إذا وقع على ثوب فصلي أو كان على شيء من ثيابه، فإن ذلك لا حرج فيه، وقد ثبت في الصحيحين، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (صلى وهو حامل أمامة بنت زينب، وهو لا يعلم ـ ولا شك ـ وجود نجاسة فالأصل هو عدم النجاسة) .

* قوله: ((ولا يطهر جلد ميتة بدباغ، ويباح إستعماله بعد الدبغ في يابسي إذا كان من حيوان طاهر في الحياة)) .
(ولا يطهر جلد ميتة بدباغ) : هذا هو المشهور في المذهب، وهو إحدى الراويتين عن الإمام أحمد ـ وهو كذلك المشهور في مذهب المالكية ـ وهو أن جلد الميتة مطلقاً لا يطهر بدباغه سواء كان مأكول اللحم كالشاة ونحوها، أو لم يكن مأكوله.
ـ أما قبل الدباغ فاتفق أهل العلم على أن الجلد لا يحل الإنتفاع به ـ إلا ما روى عن الزهري ـ رحمه الله ـ من أباحته ذلك، وهو محجوج بالسنة كما سيأتي.
ـ إذن: اتفق أهل العلم على أن جلد الميتة قبل الدباغ لا يحل الإنتفاع به.
وإنما الخلاف فيه بعد الدباغ.
فالمشهور في مذهب أحمد ومالك أن جلد الميتة إذا دبغ فإنه لا يطهر بذلك.
لكن يباح أن يستعمل مع يابس إن كان يابساً لأن الجلد نجس، وإذا ماس شيئاً يابساً فإن النجاسة التي فيه لا تنتقل؛ لأن النجاسة لا تنتقل من يابس إلى مثله.

قوله: (ويباح إستعماله بعد الدبغ في يابس، إذا كان هذا الجلد من حيوان طاهر في الحياة) .
واستدلوا على القضية الأولى، أي أنه لا يطهر الجلد بدباغة بما روى الإمام أحمد ـ والحديث صحيح ـ وقد ضعفه بعض أهل العلم، والأظهر هو تصحيحه، عن عبد الله بن عكيم، قال: (قُرأ علينا كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أرض جهينة، وأنا غلام شاب ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) .


قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإهاب لا يحل الإنتفاع به.
قالوا: والإهاب هو الجلد.
ـ واستدلوا بما رواه ابن وهب بإسناده ـ وقال غير واحد كالموفق إسناده حسن، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء) ، وقال الموفق إسناده حسن.
ـ لكن الصحيح أن الحديث ضعيف فيه زمعة بن صالح، وهو ضعيف.
ـ فإن قيل: فما هو الدليل على جواز إستعماله بعد الدبغ؟؟ قالوا: الأحاديث التي ورد ذكر الدبغ فيها، فنحن نستدل به على جواز إستعماله، ونجاسته عندنا، فنحن نشترط أن يكون في يابس، هذا هو القول الأول.
ـ والقول الثاني، وهو مذهب جمهور أهل العلم وهي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد وهي الرواية المتأخرة التي رجع إليها واختارها بعض أصحابه أن جلد الميتة إن دبغ فإنه يطهر.
وهذا القول هو مذهب الجمهور ـ في الجملة ـ أي أن هناك لكل مذهب تفاصيل.
فمذهب الظاهرية إلى أن كل جلد يطهر بالدباغ أي ولو كان جلد خنزير أو كلب.
ـ وقال الشافعية يطهر ـ بالدباغ ـ كل جلد سوى جلد الخنزير والكلب.
ـ واستثنى الأحناف جلد الخنزير.
ـ وأما الحنابلة في الرواية الأخرى فإنهم قالوا: يطهر جلد كل طاهر في الحياة.
ـ وهناك قول آخر (ثالث) : أنه يطهر جلد مأكول اللحم، وسيأتي.
واستدل ـ أهل القول الثاني ـ وهو الجمهور، بأدلة كثيرة منها:
ـ ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: قال تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر عليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: هلا أخذتم أهابها، فدبغتموه) هكذا في مسلم، وليست هذه اللفظه في البخاري (فانتفعتم به، فقالوا يا رسول الله أنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها) .
وهذه في المسند بلفظ: (إنما حرم لحمها) .
فهذا الحديث فيه أن جلد هذه الشاة قد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدبغها، وأخبر أن الميتة إنما يحرم أكلها وأما غيره فليس بمحرم.


ـ واستدلوا: بما رواه مسلم من حديث ابن عباس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا دبغ الأديم فقد طهر) .
وهو عند الأربعة بلفظ: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) .
وفي صحيح ابن حبان عن عائشة قالت: (أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستمتع بجلود الميتة إذا دبغت) .
وثبت ـ عنده ـ أي ابن حبان ـ بإسناد صحيح أنه قال: (دباغ جلود الميتة طهورها) .
فهذه أحاديث تدل على أن الميتة جلدها إذا دبغ فإنه يطهر.
ـ أما الجواب على دليل أهل القول الأول. فالجواب أن يقال: أما على القول يتضعيف الحديث فلا إشكال.
ـ أما على القول بتصحيحه ـ وهو الراجح ـ فالجواب: أن يقال إن الإهاب كما ذكر غير واحد من اللغويين كالخليل وغيره إن الإهاب إنما يطلق على الجلد قبل أن يدبغ، أما إذا دبغ فإنه لا يسمى إهاباً.
فعلى ذلك، حديث عبد الله بن عكيم (ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) معناه: أي لا تنتفعوا من جلود الميتة قبل أن تدبغوها ـ وهذا ما اتفق عليه أهل العلم.
ـ والجواب الآخر: أن يقال: إن هذه الأحاديث التي استدللنا بها أصح من هذا الحديث الذي لم يروه أحد من أهل الصحيحين، وهو كذلك مختلف في صحته كما تقدم ـ وليس صريحا ـ كذلك ـ في تحريمه.
ـ أما أهل القول الأول: فقد أجابوا على أهل القول الثاني: بأن قالوا: إن حديث عبد الله بن عكيم ناسخ للأحاديث، فإن في بعض رواياته: (قبل موته بشهر أو شهرين) .
والجواب على هذا: أن يقال: وما المانع أن تكون الأحاديث الأخرى قد وردت قبل شهرين دون ذلك فإنها ليس فيها التصريح بأنها كانت قبل هذه المدة التي قرأ فيها كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أرض جهينة.
إذن: الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني من القول بأن جلود الميتة تطهر بالدباغ.
ـ فإذا ثبت لنا هذا، فاعلم أن الأصحّ أن هناك مذهبان هما أصح المذاهب فيمن قال بطهارة جلود الميتة بعد دباغها:


1ـ القول الأول: أن جلد ما كان طاهر في الحياة فإنه يطهر بالدباغ سواء كان مأكول اللحم أم لم يكن مأكول اللحم.
فكل جلد لحيوان طاهر في الحياة سواء أكل لحمه كالأنعام أم لم يكن مأكول اللحم كالهر فإنه يطهر إذا دبغ وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وقد اختارها بعض أصحابه.
وحكى صاحب الإنصاف أن شيخ الإسلام ابن تيمية اختار هذا القول أن جلد الميتة التي هي طاهرة مأكولة اللحم أم لم تكن مأكولة، وقد اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم ـ وسيأتي بحث أهل العلم فيما يكون نجساً في الحياة.

2ـ القول الثاني: أن الحيوانات التي يطهر جلدها إنما هي مأكولة اللحم فحسب.
فإذا كان الحيوان يؤكل لحمه فإن الدبغ يؤثر في جلده فيكون طاهراً، وهذا مذهب الليث وإسحاق والأوزاعي، وهو ما اختاره شيخ الإسلام كما في الفتاوي وكما في شرح العمدة، فعلى ذلك يكون ما ذكره صاحب الإنصاف من اختيار شيخ الاسلام للقول الأول فيه نظر، أو أن يكون المشهور عن شيخ الإسلام ابن تيمية هو هذا القول؛ لأن شيخ الاسلام شرح العمدة على طريقة المذهب وقد شرحه قبل أن يشتهر بالترجيح والاجتهاد وأما الفتاوى فهي بهد أن اشتهر بالإجتهاد.
فهذا إذن: هو قول شيخ الاسلام ابن تيمية، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وطائفة من المعاصرين.
إذن عندنا قولان هما أصح الأقوال عند القائلين بطهارة الجلد بعد دباغها.
أما القول الأول: فهو أن الحيوان الطاهر في الحياة سواء أكل لحمه أم لم يؤكل فإنه يطهر.
واستدلوا: بعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) ، وأصرح منه عموماً: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) .
وكذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (دباغ جلود الميتة طهورها) وقد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستمتع بجلود الميتة إذا دبغت.
فهذه كلها عمومات تدل على أن كل حيوان يدبغ جلده فإن الجلد يطهر.


وإنما استثينا ما كان نجساً في الحياة؛ لأنه نجس عين، لذا هو نجس حياً ميتاً فلم يكن الدبغ مؤثراً فيه: (وهذا فيه لمن عم الحيوانات النجسة في الحياة) .
ـ أما أهل القول الثاني: فالذين قالوا: لا يطهر إلا جلد مأكول اللحم: فاستدلوا: بما رواه أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (دباغ الأديم ذكاته) .
فقالوا: قد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن دباغ الأديم الذكاة له، فلم يكن ذلك مؤثراً ـ أي الدباغ ـ إلا فيما تؤثر فيه الزكاة من الحيوانات.
ـ وفي هذا الدليل نظر: فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (دباغ الأديم ذكاته) فنسب إضافة الذكاة إلى الإهاب أو الأديم، ومعلوم أن الذكاة التي جعلوها دليلاً على هذه المسألة إنما تنسب إلى الحيوان نفسه ولا تنسب إلى أديمه.
فيكون المعنى هنا: (دباغ الأديم طهوره) أي ذكاته أي كما أن الذكاة تؤثر فيه طهارة وحلاً، فإن دباغ الجلود كذلك يؤثر فيه طهارة وحلاً.
وحديث ابن عباس في بعض ألفاظه: (دباغة طهوره) وقد تقدم حديث سلمة بن المحبق (دباغ جلود الميتة طهورها) على ذلك: الذكاة هي نفسها الطهور.
ـ ولذا: لا يقال بحله طعاما وهو مذهب جمهور الفقهاء يقول تعالى: (حرمت عليكم الميتة) ، وقوله: (إنما حرم أكلها) .
خلافا لما ذهب إليه بعض الشافعية وبعض الحنابلة إستدلالاً بهذه اللفظة.
فإن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما حرم أكلها) صريح بتحريم كل شيء وأن الجلد إنما ينتفع به في غير الأكل.
فالأرجح: هو هذا القول وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية المتأخرة عنه: وأن الجلد الذي يطهر إنما هو جلد الحيوان الطاهر في الحياة فهذا هو الذي يؤثر فيه الدباغ وأما غيره فإنه لا يؤثر فيه.
ـ وقريب منه في القوة المذهب الذي هو أضيق منه وهو القائل: بأنه لا يطهر من جلود الميتة إلا جلد ما كان مأكول اللحم.


ـ ومن أدلة أهل القول الثاني: ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن جلود السباع) وفي الترمذي: (أن تفترش) .
قالوا: فهذا دليل ـ وقد استدل به شيخ الاسلام ـ على هذا القول.
ـ ولكن هذا الإستدلال فيه نظر، فنعم الحديث إسناده صحيح لكن الاستدلال به فيه نظر فإن الحديث إنما فيه تحريم الإفتراش ونحوه الذي بجلود السباع وليس فيه أنها نجسه.
كما حرم الشارع الذهب والحرير على الرجال وليس ذلك لنجاستها.
وإنما حرم الشارع الجلوس والإفتراش على جلود السباع لما فيها من الخيلاء والاستطالة ونحو ذلك فليس في الحديث أن ذلك لنجاستها ـ على أنه لا يحل دباغها؛ لأن في دباغها إستعمالاً لها ـ ولكن لا يعني ذلك أنه إذا فعل ذلك فإنها تكون نجسة بحيث أنها إذا أصابت ماءاً أو نحوه فإنها تنجسه فإن الحديث ليس فيه شيء من ذلك وإنما فيه النهي فحسب وليس فيه ذكر نجاسها.
ـ كما كان من شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كما تقدم في مسألة النهي عن البول في الماء الراكد ـ وذكر أن ذلك ليس لنجاسته وإنما فيه مجرد النهي وهذا نظير له.
فالأرجح إذن: طهارة الجلود أولاً: من حيث الجملة، ثانياً: أن الجلد الذي يؤثر فيه الدبغ إنما هو جلد ما كان طاهراً في الحياة.
ـ واعلم أن الدبغ: يشترط أن يكون فيما يذهب خبثه ونجاسته ورجسه من القرظ ونحوه وقد ثبت في سنن أبي داود والنسائي أن النبي عليه الصلاة والسلام: (مرّ بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم أهابها، فقالوا: إنها ميتة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يطهرها الماء والقرْظ)
والقرظ: مادة مطهرة معروفة.
ـ وإذا طهر كذلك بعدها فلا بأس، والواجب أن تكون هذه المادة مطهرة تزيل النجس، والخبث الموجود في هذا الجلد.


وقد ثبت في مستدرك الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي وقال: إسناده صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى إلى سقاءٍ يتوضأ منه، فقيل: إنه ميته ـ أي هذا الجلد من ميته ـ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (دباغه يذهب خبثه أو نجسه أو رجسه) .
فالدباغ لابد وأن يذهب الخبث أو النجس أو الرجس.
ـ وهل يشترط أن يكون مع هذا المزيل ماء أو لا يشترط ذلك؟؟
قولان في مذهب الحنابلة.
1ـ أنه يشترط 2ـ أنه لا يشترط ذلك.
والأظهر: عدم إشتراط ذلك للقاعدة التي تقدم ذكرها، وإنما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ لأنه من أفضل المطهرات، فقال: (يطهرها الماء والقرظ) .
لذا نحن لا نشترط القرظ بعينه بل نجيزه كذلك بغيره فكل شيء أزال خبثه ونجسه من قرظ أو غيره مع ماء أو دون ماء، فإن ذلك يزيله، فإذا أزال الخبث الذي فيه فإنه لا يشترط أن يكون ماءً ولا قرظاً.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس العاشر:
* قال المصنف: رحمه الله: ((ولبنها وكل أجزائها نجسة غير شعر ونحوه)) :
ـ تقدم البحث في جلد الميتة، وأن الراجح من أقوال أهل العلم: أن جلد الميتة يطهر بدباغه إن كان طاهراً في الحياة.
أما هنا: ففي قصة أجزاء الميتة.
ـ أما لبن الميتة فالمشهور في المذهب أنه نجس، وكذلك أنفحتها، والإنفحة هي سائل أبيض صفراوي يوجد في وعاء في بطن الجدي ونحوه، فيجبن اللبن ويسمى (المخبّنة: فهي التي تجعل اللبن ـ عندما توضع فيه ـ وتجعله جبنا.
فهذه ومثلها اللبن في المشهور من المذهب وهو مذهب الجمهور: هي نجسة واستدلوا: بالأثر والنظر.
أما الأثر: فاستدلوا بأثار عن الصحابة منها:


ما روى الطبراني ورجاله ثقات: كما قال الهيثمي، وقد رواه البيهقي عن ابن مسعود قال: (لا تأكلوا الجبن إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب) ، وذلك لأنه يستخرج من ذبائحهم وذبائحهم حلال، كما قال البيهقي وقد ذكره البيهقي عن ابن عباس وأنس ابن مالك ـ رضي الله عنه ـ وقال: وكل استدل بآثار ينقلها عن الصحابة.
قالوا: ـ أي الجمهور ـ فهذه آثار عن الصحابة ولم يتبين لنا مخالف لهم فحينئذ: تكون حجة على نجاسة الإنفحَّة، ومثلها اللبن.
ـ أما النظر: فقالوا: هذا وعاء نجس، وقد لاقى ـ أي اللبن أو الإنفحة ـ نجاسة فينجس بها، فهذه الميتة نجسه وهذه الإنفحة أو هذا اللبن قد لاقاها فيكون نجساً، وهذا على القول بأن المائعات تنجس بملاقاة النجاسة ولو لم تتغير وهذا قول ضعيف.
بل الراجح أن المائعات لا تنجس إلا بالتغير كالماء.
قالوا: وهي جزء من الميتة، فالأنفحة جزء من الميتة وكذلك اللبن قبل أن يستخرج منها فما هو إلا جزء فيها، فعلى ذلك هو ميتة، وقد قال تعالى (حرمت عليكم الميتة) .
2ـ وذهب الأحناف إلى أن الإنفحة ليست بنجسه ومثلها اللبن وهو إحدى الروايتين عن أحمد إختارها صاحب الفائق، وقال الشافعية إن كانت السخلة لا تشرب إلا اللبن دون غيره فهي طاهرة وهو قول الأكثرين واختاره النووي.
واستدلوا: بأن الصحابة لما أتوا المدائن كانوا يأكلون الجبن، مع أن أهل المدائن كانوا مجوساً وذبائحهم لا تحل ومع ذلك أكل الصحابة هذا الجبن المصنوع.
أما النظر: فقالوا: اللبن والإنفحة منفصل عن الميتة فهي ليست من الميتة فعلى ذلك هي طاهرة.
ـ والأظهر هو القول الأول وهو مذهب جمهور أهل العلم.
ـ واختار قول الأحناف شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوي وغيرها.
والراجح القول الأول لصحة الآثار الثابتة عن الصحابة في ذلك.
ـ أما ما ذكره الأحناف وذكره شيخ الإسلام فإنهم لم يسندوه إلى كتاب فينظر في صحته هذا أولاً.


وثانياً: وهو أضعف من الجواب المتقدم ـ قيل أن الجزارين الذين كانوا يذبحون ذبائحهم كانوا من اليهود والنصارى وذبيحة اليهود والنصارى حلال، فهي دولة ذات ملك عظيم وكان الذابحون لهم من اليهود والنصارى فإذا ذبحوا فذبيحتهم حلال.
ـ لكن الوجه الأول أقوى، وهو أن يقال: إن الآثار لم تسند إلى كتاب فينظر في صحتها، وعندنا آثار عن الصحابة لا نعلم لها مخالف.
والثاني: أنها جزء من الميتة وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما حرم أكلها) وقال تعالى: ((قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة)) .
والجبن مطعوم وهو متضمن للأنفحة، وكذلك اللبن مطعوم وهو يستخرج من الميتة، كما أنه لا يؤمن أن يتسرب إليه أشياء من تعفنات الميتة، فعلى ذلك لا تحل الأجبان المصنوعة من الأنفحة التي تؤخذ من ذبائح غير شرعية تكون نجسة، لأنها من الميتة وقد قال تعالى: (حرمت عليكم الميتة) وقبل ذلك الألبان التي يستخرج منها فإنها نجسة وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وهو مذهب من تقدم ذكرهم من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف.
ـ أما البيضة التي في الميتة:
فالمشهور في المذهب: أنها إذا كانت ذات قشر فإنها تكون طاهرة وذلك لأنها قد تم تخلقها وهي ـ حينئذ ـ منفصلة عن الميتة فأشبهت الولد الذي يكون في بطن الميتة فإنه إذا استخرج منها فإنه له حكم الأحياء.
فإذن: إذا كان فيها قشر فهي كالولد.
وإن لم يكن بها قشر فهي كالأنفحة واللبن.
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب بعض الأحناف وبعض الشافعية.
ـ وأما مذهب أبي حنيفة فإنه كمذهبه في اللبن والأنفحة فقد رأى أنها مطلقاً تكون طاهرة وهذا هو المشهور في مذهب المالكية.
ـ وذهب بعض الشافعية إلى نجاستها مطلقاً.


والراجح هو القول الأول للتعليل السابق: فهي إذا كانت ذات قشر فإنها كالولد في الميتة منفصل وهي ذات أجزاء منفصلة إنفصالاً تاماً لا مماسة إلا من خارجه، ولا يكون مؤثراً فيه ولا يمكن أن يتسرب إلى البيضة شيء من ذلك فهي طاهرة.
أما إن لم تكن ذات قشر فهي كاللبن والأنفحة.
وهذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب بعض الأحناف وبعض الشافعية وهو الراجح.
أما عظم الميتة وظفرها أو حافرها ونحوه هل هو نجس أم لا؟؟
1ـ فذهب جمهور أهل العلم إلى القول بنجاسته؛ لأنه داخل في الميتة وقد قال تعالى: ((حرمت عليكم الميتة)) .
قالوا: وقد كان العظم أو نحوه يتألم ويتحرك وهذه هي الحياة، فما كان قابلاً للحياة فهو قابل للموت فيدخل في قوله تعالى: ((حرمت عليكم الميتة)) .

2ـ وذهب الأحناف وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى أن العظم والظفر ونحوهما ليس بنجس.
وهذا القول أصح من القول الأول، ويدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما حرم أكلها) وفي رواية أحمد: (إنما حرم لحمها) .
ـ أما كون العظم: يتحرك ويتألم ونحو ذلك فهذه ليست صفة ثابتة فيه بنفسه وإنما ثابتة له تبعاً لوجوده في هذا الكائن الحي، فهي صفة ليست ثابتة فيه بإرادته فهو يتحرك بلا إرادة وإنما هو تبع هذا الكائن الحي ـ هذا هو الرد على تعليلهم.
وأما الدليل على ذلك: فهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حكم على الماء الذي يقع فيه الذباب بأنه لا ينجس وقاس عليه أهل العلم، باتفاقهم كل ما ليس له دم من الكائنات. فالكائنات التي لا دم لها فلا تنجس بالموت كالجراد، ونحوه، فإذا ثبت هذا فأولى منه في هذا الحكم العظم فإنه لا دم فيه.
وكذلك الحركة فيه أضعف من الحركة فيها، فالحركة فيها بإرادتها فهي حركة تامة في حيوان تام، أما هو فحركته تبعاً وليست بإرادية وهذا هو الأرجح وإنه ليس بنجس.
فإن قيل: قلنا بنجاسة الجلد؟؟


قالوا: لأن الجلد يتسرب إليه النجاسات بخلاف العظم.
فإن الجلد يتسرب إليه الدم الذي يكون محبوساً في هذا الحيوان وهذا القول ـ في الحقيقة ـ راجح.
إلا أنه قد يضعف فيما إذا تبين رقة العظم وأنه يتسرب إليه النجاسات ويمكن إنتقالها إليه فإنه ـ حينئذ ـ يقوى القول بنجاسته.
ـ هذا على القول بأن سبب نجاسة الميتة هذا الدم المحبوس فيها وهذا هو مذهب جماهير العلماء ـ أي أن سبب ـ نجاسة الميتة هو الدم المحبوس فيها.
إذن: عظم الميتة، وظفرها ونحوه ليس بنجس كما هو مذهب الأحناف واختيار شيخ الإسلام.
ـ أما ريش الميتة وشعرها ووبرها وصوفها، فقد اختلف فيه أهل العلم:
1ـ فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه طاهر.
ـ وذهب الشافعية إلى أنه نجس، فدليلهم هو نفس الدليل المتقدم، وهو قوله تعالى: ((حرمت عليكم الميتة)) ، والميتة شامل لكل ذي روح قد فارقته روحه، وما يتصل به، والشعر متصل به فعلى ذلك هو مُحَرَّم.
ـ وأما الجمهور فقالوا إنا بالإجماع نقول: إن الحيوان إذا جُزّ شعره وهو حي فإن هذا الشعر طاهر فدل على المفارقة بين اللحم والشعر، فإن اللحم إذا فارق الحي فإنه نجس وهو ميتة.
أما الشعر فإنه طاهر بالإجماع وهو حلال، فدل على أن هناك فرقاً بين الشعر وبين اللحم.
فالشعر ينجس بجزه من الحي، ويكون طاهراً بإجماع أهل العلم كما حكاه ابن حجر.
وأما اللحم فإنه بالإجماع إذا قطع من الحية فإنه ميتة نجس محرم.
فدل على أن الشارع فرق بين الأمرين.
ـ على أن الشعر لا يحل فيه الحياة مطلقاً، فهو ليس موضعاً للحياة على الإطلاق وعلى قولنا بأن العظم ليس بنجس وهذا الراجح فأولى منه الشعر وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما حرم لحمها) .
فإذن: الميتة شعرها ووبرها وريشها وصوفها: كل ذلك طاهر سواء جُزّ منها ميتة أو حية ـ وسيأتي بيان هذا إن شاء الله عند الكلام على القضية الأخرى.


ـ ومما استدل به أهل العلم على أن هذه الأشياء ـ أي الصوف ـ أنها طاهرة وليست بنجسه، قوله تعالى: ((ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين)) ، فذكر الله ـ عز وجل ـ أن مِنْ مِنَنِهِ على عباده أنه منّ عليهم بالأصواف والأوبار والشعور يتمتعون بها في هذه الحياة، وما كان في سياق الإمتنان فإنه يدل على العموم ـ كما هو معروف عند أهل العلم ـ فتكون هذه الأصواف وغيرها طاهره في كل حال لأن الآية تدل على العموم.
وهي ـ عند جمهور العلماء طاهرة، وقالوا: يشترط أن تكون من طاهر في الحياة.
إذن: إذا جُزّت من بهيمة الأنعام ونحوها مما هو طاهر في الحياة سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول فإنها طاهرة.
ـ أما إذا جُزّت من كلب ونحوه مما هو نجس في الحياة فمذهب جمهور أهل العلم أنها لا تكون طاهرة.
ـ وذهب شيخ الإسلام إلى أنها طاهرة ـ وهذا على مذهبه ـ في أن المستحيل من النجس ليس بنجس، فإذا استحال شيء من النجاسات إلى شيء آخر فليس بنجس، فالشعر الخارج من الحيوانات النجسة ليس بنجس وهذا القول هو الراجح ـ وسيأتي تقريره في باب إزالة النجاسة.
إذن شيخ الإسلام يرى أن كل صوف أو شعر طاهر سواء كان من طاهر أو نجس.
أما الطاهر فلا إشكال، وأما النجس فلأنه طهر باستحالته.

* قوله: ((وما أبين من حي فهو كميتته)) :
أي ما قطع من البهيمة فإن حكم هذا المقطوع كحكم ميتته أي كما لو أنك قطعتها وهي ميته.
ـ فإذا قطعت منها رِجْلاً مثلاً وهي حية، فكما أنه قطعتها منها وهي ميته فتكون محرمة نجسة وإن كان هذا الحيوان طاهراً لأنه حي، وهذه القطعة التي قطعت منه بها حكم الميتة.
ـ ويدل على ذلك ما ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة بإسناد حسن، والحديث حسنه التّرمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) .


وفي الترمذي: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدم المدينة وهم يحبون أسنمة الإبل وبقطعون أليات الغنم فقال: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو كميتته) .
فالسمك ميتته حلال فما قطع منها وهي حية فهو طاهر حلال، وكذلك الجراد ونحوها.
أما بهيمة الأنعام فميتتها محرمة كذلك ما قطع منها وهي حية فهو نجس.
ـ وهل مثل ذاك المسك والطريدة؟؟
المسك: هو ما يستخرج من غزلان المسك، وذلك بأن يشد عليه حتى تجري جرياً سريعاً، حتى يخرج عند سرته شيء يتعلق كأنه دم، ثم تربط في أعلاها بعد أن تخرج ثم بعد فترة تقع) .
ـ فهل هذا داخل في ذلك؟؟
الجواب: ليس داخل في ذلك بل هي أشبه بالمولود وهي أشبه بالبيض وأشبه باللبن ونحو ذلك وليست من الدم في شيء بل هي مستحيلة إلى مادة أخرى وهي المسك لذا باتفاق أهل العلم هي طاهرة لا شيء فيها.
ـ وأما الطريدة: فهو بعض الصيد الذي لا يمكن أن يدرك صيداً فإنه يجري خلفه بالسيف ونحوه ثم يقطع منه فهذه القطع كذلك مباحة؛ لأنه لا يمكن ذبحه وسمي بالطريدة وسيأتي بيان حكمها في باب الصيد.
إذن: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) كما قال ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.

انتهى باب: الآنية) بحمد الله.
باب: [الاستنجاء]

الاستنجاء: استفعال من نجوْت الشيء: أي قطعته، يقال: نجوْت الشجرة أي قطعتها.
فكأنه قطع الأذي الخارج من السبيلين.
ـ وقيل هو من النَّجْو: وهو المحل المرتفع، كما قال ذلك ابن قتيبة، وذلك لأن القاضي حاجته يقضيها عند محل مرتفع فسمي بذلك.
ـ وقيل غير ذلك.
وأما الاستنجاء في الإصطلاح الفقهي فهو: (إزالة الخارج من السبيلين بالماء أو حكمه بحجر أو نحوه) .
قوله: (أو حكمه) : لأنه لا يزول تماماً بل يبقى شيء من أثره الذي لا يضر وهو معفو عنه، لذا قلنا (أو حكمه) أي حكم النجاسة.

* قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((يستحب)) :


ما سيذكره المصنف من المسائل التي في هذا الدرس يثبت فيها حكم الاستحباب، فمنها ما هو ثابت صراحة في السُّنَّة، فيكون استحبابه عن الشارع بالنص.
ومنها ما يكون تعليلاً وقياساً فيكون استحبابه للتعليل أي ليس للدليل الوارد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما يكون بالقياس ونحوه.

* قوله: ((يُسْتحَبّ عند دخولِ الخلاء قول: بسم الله أعُوذُ باللهِ من الخُبُثِ والخبائثِ وعند الخروج منه: غُفرَانَك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)) :
الخلاء: هو موضع قضاء الحاجة، وسمي خلاءً: لأنه يُخلي به وينفرد به ويسمى: بالمرفق والمرحاض والكنيف والمذهب والبراز، فكل هذه من أسماء الخلاء وهذه أسماء للمبني لقضاء الحاجة، وقد يكون في الصحراء.
((بسم الله)) : يستحب لمن أراد أن يدخل هذا البيت أن يقول: (بسم الله) .
ويقولها ـ إذا كان في صحراء ـ قبيل أن يشرع في قضاء الحاجة، فهذا ـ أي الذكر ـ ليس للكنيف ونحوه فحسب بل حتى إذا كان في الصحراء فالحكم كذلك، ويكون ذلك عند أول تشمره لثيابه.
ويدل على ذلك ما روى الترمذي وأبي داود والحديث صحيح لشواهده، وإلا فقد ضعفه الترمذي لكنه صحيح لا لطريقه الذي رواه الترمذي بل لشواهده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (سَتْرُ ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنيف أن يقولوا: بسم الله) أي إذا أرادوا أن يدخلوا.
وكذلك يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث) ، لذا قال المؤلف هنا: (أعوذ بك من الخبث والخبائث) وهي رواية.
وفي المتفق عليه: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث) ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث) .


ويقول ذلك إذا أراد أن يدخل الخلاء، كما صرحت بذلك رواية البخاري في الأدب المفرد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان إذا أراد أن يدخل الخلاء قال..) .
الخُبُْث: تسكين الباء وضمها.
أما بالتسكين: الخُبْث: فهي الشر والقبح، فتكون الخبائث بمعنى النفوس الشريرة. فيكون المعنى: اللهم إني أعوذ بك من الشر وأهله.
أما بالضم: الخُبُث: فهي جمع خبيث فيكون المعنى: أعوذ بك من ذكران الشياطين وإناثهم.
ـ وعند خروجه من الخلاء: (غفرانك) ، كما ثبت ذلك عن عائشة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يخرج من الخلاء قال: (غفرانك) : أي أسألك غفرانك، والحديث رواه الخمسة إلا النسائي وإسناده صحيح.

غفرانك: أي أسألك غفرانك، من المغفرة وهي الستر عن الذنب والتجاوز عنه.
ـ وقد بحث العلماء عن الحكمة من قولها عند الخروج من الخلاء ـ أما قول: (بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) عند الدخول فواضح مناسبتها.
أما المناسبة من قول (غفرانك) : فقد استشكل على بعض العلماء.
فقال بعضهم: لانقطاعه عن ذكر الله فإنه يستغفر الله؛ لأن هذا ليس محلاً للذكر، لكن هذا ضعيف.
إذن: مقتضى ذلك أن يستغفر الله من كل حال لم يذكر الله فيها والشريعة لم تدل على ذلك.
ـ والراجح: أنه تقول هذا؛ لأنه لما ذهب عنه ثقل الأذي تذكر ثقل الذنب الذي يؤذيه ويثقل عليه. فهذا أشد من ثقل الأذي الدنيوي، فلما تذكر ذلك دعا الله أن يغفر له ذنبه.
وقوله: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) :
هذا حديث آخر رواه ابن ماجة وغيره، لكن إسناده ضعيف.
ومثله: الحم لله الذي أذاقني لذته ـ أي الطعام ـ وأبقى فيّ قوته، وأذهب عني الأذى) فقد رواه ابن السُّنِّي بإسناد ضعيف.
ومثله: (الحمد لله على ما أحسن في الأولى والأخرى) .


ومثل ذلك ـ أي في الضعف ـ الحديث المشهور عند دخول الخلاء من قول: (اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم) ، فقد رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف، فهذه أحاديث ضعيفه لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ فإذا قالها لا على أنها تثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن ذلك على أنها سنة فلا بأس بذلك ولا حرج.
وقوله: (المخبث) : أي المفسد خبثاً الموقع وغيره في الخبث.
وكما تقدم فإنه يقول غفرانك إذا خرج من الخلاء.
أما إذا كان في صحراء فإنه يقولها إذا قام من حاجته، فإذا قام من حاجتة وتحول عن موضعه فإنه يقول ذلك:
ـ ومثل هذا ـ في تقديم الرجل اليسرى دخولاً، واليمنى خروجاً ـ كما سيأتي دليله. فكذلك إذا كانت الصحراء فإنه إلى الموضع الذي يقضي فيه حاجته قدم رجله اليسرى، وإذا قام قدّم اليمنى.

* قوله: ((وتقديم رجله اليسرى دخولاً واليمنى خروجاً عكس مسجد ونعل)) :
ولما لم يكن هناك دليل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منصوص عليه فإنه ـ حينئذ ـ يلجأ إلى القياس لإثبات هذه المسألة، فقال: (عكس مسجد ونعل) .
وهذا هو قياس العكس، فإن المسجد يستحب ذلك أن تبدأ برجلك اليمنى دخولاً واليسرى خروجاً كما روى ذلك الحاكم في "المستدرك" من حديث أنس بن مالك، وأما النعل فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ برجله اليمنى، وإذا نزع فليبدأ برجله اليسرى) .
وعكس ذلك بيت الخلاء ونحوه قال النووي: (وهو متفق عليه) أي بين أهل العلم.
فقد اتفق أهل العلم على أنه إذا دخل بيت الخلاء فإنه يقدم الرجل اليسرى دخولاً واليمنى خروجا.
ـ وهذا في كل ما هو ضد ما يكون من باب التكريم مما يكون من أذي ونحوه فإنه يقدم رجله اليسرى.

* قوله: ((واعتماده على رجله اليسرى)) :
هنا: استحباب في المذهب أن يكون حال قضائه للحاجة قد إعتمد على رجله اليسرى.


وصورة ذلك: أن يكون قد وضع رجله اليمنى في الأرض كأنه جالس للتشهد في الصلاة، فيجعل اليمنى بمنزلة اليسرى في التشهد في الصلاة، فإنك إذا تشهدت في الصلاة تنصب قدمك اليمنى، وكذلك ينصب قدمه اليمنى، وينصب ساقه اليسرى ويتورك عليها.
ـ واستدلوا بما رواه الطبراني في "الكبير" عن سراقة بن مالك،قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن نتوكأ على رجلنا اليسرى وأن ننصب اليمنى) أي عند قضاء الحاجة.
وقالوا: لأنه أسهل للخارج وأكرم لليمين.
ـ أما الحديث الذي استدلوا به فهو حديث ضعيف فيه راو متهم.
ـ وأما العلة التي ذكروها فإن فيها شيئاً من النظر، وأما قولهم: أكرم لليمين: فإنه قد يكون الأيسر خلاف ذلك.
فالأظهر أنه يفعل ما يكون أيسر له.

* قوله: ((وبعده في قضاء واستتارة)) :
يستحب لمن أراد أن يقضي حاجته إذا كان في فضاء أن يستتر ويبعد، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة، وفيه: (فانطلق، أي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى توارى عني فقضى حاجته) .
وروى أهل السنن بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان إذا ذهب المذهب أبعد) .
وفي سنن أبي داود بإسناد ضعيف ـ لكن الأحاديث المتقدمة تشهد له، أن النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ (كان إذا أراد البراز أبعد حتى لا يراه أحد) .
ـ أما استتارة: فالمراد به إستتار بدنه كلية، ذلك لأن ستر العورة ليس من باب المستحبات، وإنما من باب الواجبات، يدل على ذلك ما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إحفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك) .
أما إستتاره بالبدن فهو المستحب، وقد ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان أحب ما يستتر به هدف أو حائش نخل) .
أما الهدف: فهو المكان المرتفع الذي يستتر به.


أما حائش النخل: فهو مجمع النخل الذي يستتر به ومثله حائش الشجر، فهذا هو المستحب وهو أن يكون في موضع يستتر فيه بدنه كله.
أما ستر العورة فهو واجب كما تقدم.
* قوله: ((وارتياده لبوله موضعاً رخواً)) :
رَُِخواً: بتثليث الراء: وهو المكان السهل اللين، وذلك لئلا يعود عليه رشاش البول فيدخل في قلبه شيء من الوسواس أو يصيبه شيء من النجاسة.
والدليل على ذلك: ما رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إرتاد لبوله محلاً دَمِثاً ـ أي سهلاً ليناً، فقال: (إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله) لكن الحديث في إسناده جهالة فالحديث ضعيف.
لكن معناه صحيح فإن ذلك يورث الوسوسة وقد يقع عليه شيء من النجاسة، فعليه أن يأتي إلى محل دمث أو نحوه مما لا يبعد إليه رشاش بوله فيقضي حاجته فيه.

* قوله: ((ومسحه بيده اليسرى إذا فرغ من بوله من أصل ذكره إلى رأسه ثلاثاً ونتره ثلاثاً)) :
معنى هذا: قالوا، يمسح ذكره من أصله ـ أي من دون الأنثيين إلى أعلاه، يفعل ذلك ثلاثاً، وينتره من جوفه ثلاثاً فإن ذهب وإلا فليمش خطوات قيل: أكثرها سبعون خطوة، فإن لم يذهب فليتنحنح، وإلا فليتعلق بحبل ويرتفع ثم يجلس حتى يقضي حاجته من البول لئلا يخرج ذلك بعد الوضوء، هذا هو مذهب الحنابلة.
ـ ومثل هذا: يبعد أن ينسب إلى الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وقد سأله بعضهم: عما يكون من البلل بعد الوضوء، فقال: (إذا بلت فاتضح على ذكرك ولا تجعل ذلك همك واله عنه) هذا هو قول الإمام أحمد ـ رحمه الله.
لذا قال شيخ الإسلام: (بدعة ـ أي هذا الفعل ـ ولم يقل بوجوبه ولا باستحبابه أحد من أئمة المسلمين والحديث الوارد فيه ضعيف لا أصل له.
وكل ذلك بدعة، فكل ما تقدم من الأوصاف التي تقدم ذكرها كل ذلك يدعه لا أصل له في الشريعة بل لا أصل له في قول أحد من أئمة الإسلام.


ـ وهذا في الحقيقة يورث الوسوسة ويورث سلس البول، وكما قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ (بل يترك بطبيعته ويخرج بطبيعته ويقف بطبيعته، قال: وكما قيل هو كالضرع إن حلبته درّ وإن تركته قر) فرحمه الله وهذا هو الذي يقتضيه النظر الصحيح.
ـ فإن قيل: فما رواه أحمد وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثاً) فنقول: هذا الحديث فيه علتان:
الأولى: أن روايه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو يزداد اليماني ولا تصح له صحبه، فالحديث مرسل.
الثانية: أن فيه زَمْعة بن صالح، وهو ضعيف، فالحديث لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
إذن: عندهم أنه يمسح بذكره ثلاثاً وينتر من الداخل ثلاثاً، والحديث الوارد في ذلك ضعيف وما ذكره من الأوصاف كل ذلك لا أصل له، بل يورث الوسوسة وغيرها من الأمراض.
ـ فإن كان أصيب بشيء من الوسوسة وغيرها فيستحب له أن ينضح على ثوبه شيء من الماء.
ـ ويستحب له مطلقاً ـ أي سواء كان فيه وسوسة أم لا ـ أن ينضح على ذكره بعد بوله ماءً، فقد صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في أبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (بال ثم نضح على ذكره) .
وأما الثوب: فلكي يدفع بذلك الوسوسة، وقد قال الموفق: (يستحب له أن ينضح على ذكره وعلى ثيابه ليرفع عن نفسه الوسوسة) .

* قوله: ((وتحوله من موضعه ليستنجي في غيره إن خاف تلوثاً)) :
يستحب له أن يتحول من موضعه الذي قضى منه حاجته إلى مكان غيره ليستنجي فيه.
فإذا أراد أن يستنجي ويزيل الخبث فعليه أن ينتقل إلى موضع آخر لئلا يتنجس بهذه النجاسة أو يقع شيء من الماء على النجاسة فيصيبه شيء من رشاش الماء المختلط بالنجاسة.
ـ وقد روى أهل السنن الأربعة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يبولن أحدكم في مستحمه ـ أي مغتسله ـ ثم يغتسل فيه) وفي رواية: (فإن عامة الوسواس من ذلك) .
فإن ذان يورث الوسواس.


وكذلك هنا: فإنه إذا قضى حاجته انتقل للوضوء أو الغسل إلى موضع آخر لئلا بصيبه شيء من رشاش نجاسته.
ـ واعلم أن مما يستحب له أن يغطي رأسه وهي سنة بكرية ثابتة عن أبي بكر رضي الله عنه.
وروى ذلك البيهقي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أنه كان إذا جامع أهله غطى رأسه وإذا دخل الخلاء غطى رأسه) .
واستنكره البيهقي، وهو كما قال. لكن قال: "وروى عن أبي بكر وهو صحيح عنه) وهو ثابت عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أي من كونه مغطي رأسه عند قضاء الحاجة، وقد نص على استحبابه الموفق والنووي رحمهما الله.
فهذه من المستحبات والآداب التي يستحب للمسلم أن يتأدب بها.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثاني عشر.
* قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((ويكره دخوله بشيء فيه ذكر الله تعالى إلا لحاجة)) :
يكره لقاضي الحاجة أن يدخل إلى موضع الحاجة بشيء من الأوراق أو شيء من الخواتيم أو بشيء من الدراهم أو الدنانير مما فيه ذكر الله تعالى ـ أي فيه ذكر اسمه ـ سبحانه وتعالى.
قال: ((إلا لحاجة)) : لأن الحاجة تزيل الكراهية.
وأولى من ذلك أن يدخل بشيء فيه ذكر الله تعالى أصلاً كأن يدخل بأوراق فيها ـ إذا كان نحو ـ (سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر) أو شيء من كتب العلم.
وأولى من ذلك أن يكون دخوله إلى الخلاء بمصحف، بل قال صاحب الأنصاف من الحنابلة: " لا شك في تحريمه ـ أي الدخول بالمصحف إلى الخلاء ـ ولا يتوقف فيه عاقل ".
وتقييده بالحاجة فيه نظر، فإن ظاهره أنه لو أن هناك رجلاً غنياً ومعه مصحف ويخشى عليه السرقة فإنه يجوز له أن يدخل المصحف معه في بيت الخلاء مع أنه يمكنه أن يشتري غيره ـ للحاجة الثابتة هنا، فليس هنا ضرورة وإنما حاجة، فظاهر قوله أن ذلك جائز.
وفيه نظر، فالأظهر أنه لا يجوز ذلك مطلقاً إكراماً للقرآن وإبعاداً له عن مواضع القاذورات.


ـ أما إذا كانت أوراق فيها ذكر الله أصلاً، كأن تكون أوراق فيها الأذكار الصباحية والمسائية نحو ذلك من ذكر الله فيكره دخوله بها.
ويدل على ذلك ـ وسيأتي من الإستدلال على كراهيته أن يتلفظ في الخلاء بشيء من ذكر الله ـ وأولى منه ما كان مكتوباً لثبوته ولزوقه، فإن ما كان مكتوباً ثابت مستقر بخلاف التلفظ بذكر الله فإنه غالباً ما ينقطع.
ومما يدل على أن المكتوب أولى بالكراهية من المنطوق أن الشارع نهى المحدث حدثاً أصغر أو أكبر أن يمس المصحف ولم ينهه عن تلاوته بلسانه، وقد اتفق العلماء على هاتين المسألتين كليهما.
فكونه يكره أن يتلفظ بشيء من ذكر الله أولى منه أن يكون حاملا لشيء فيه ذكر الله.
ـ أما ما ذكره المؤلف فمراده: أن يدخل إلى الخلاء ومعه شيء فيه ذكر اسم الله ـ عز وجل ـ كأن يدخل بورقة فيها إسم (عبد الله) أو نحو ذلك، من الأوراق التي ليس فيها أذكار وإنما تضمنت إسم الله ـ عز وجل.
فإن المذهب كراهية ذلك.
واستدلوا: بما رواه أهل السنن الأربعة من حديث همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس بن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) .
وفي المتفق عليه من حديث أنس بن مالك: (أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم، محمد رسول الله) . لكن الحديث ـ أي حديث همام ـ ضعيف، فقد تفرد به هكذا همام، وفي حفظه شيء من الضعف.
وقد رواه الثقات عن الزهري عن زياد بن سعيد عن أنس ابن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه) لذلك أعله أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم.
ـ وصححه الترمذي واستغربه، فلعل استغرابه لهذه العلة المتقدمة، وصححه المنذري وابن دقيق العيد.
والصواب تضعيفه للعلة المتقدمة، لذلك ضعفه ابن القيم في تهذيب السنن. فالحديث معلول.


فالثقات لم يأتوا لهذه اللفظة التي ذكرها همام، وإنما ذكروا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه، وليس في شيء من روايات حديث أنس، مطلقاً، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يضعه إذا دخل الخلاء، هذا هو دليل الحنابلة على الكراهية.
ـ وهناك رواية عن الإمام أحمد: أن ذلك لا يكره، وهو الراجح.
ودليله: ما ثبت لنا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أنه كان له خاتم ونقشه محمد رسول الله) ، ولم يثبت لنا في حديث صحيح مطلقاً أنه كان يضعه إذا دخل الخلاء، ولو كان ثابتاً لنقل ذلك فعلى ذلك لا كراهية في ذلك.
ـ ومثل ذلك الدراهم التي فيها ذكر اسم من أسماء البشر فيها ذكر الله.
ـ أما إذا كان فيه لفظه: (لا إله إلا الله) فإنه يدخل في الباب المتقدم.
وعن الإمام أحمد، في كراهية الدراهم التي فيها ذكر الله، عنه قولان:
الكراهية، وعدمها.
والأظهر: الكراهية، إذا كانت فيها لفظة: (لا إله إلا الله) و (سبحان الله) ونحو ذلك من الألفاظ التي هي ذكر الله عز وجل.
ـ أما إذا كان فيها لفظة: (عبد الله) ونحو ذلك؛ فإنه لا يكره لمجرد هذا اللفظ الذي لا يقصد منه ذكر الله، فليس المقصود منه إلا التسمية لهذا الشخص.
ـ ومع ذلك فإن الحاجة في الدخول بالدراهم إلى بيوت الخلاء ترفع كراهية ذلك.
فإذن: ـ أما المصحف فيحرم أن يدخل به.

ـ وأما الأوراق التي فيها ذكر الله عز وجل ويكون الذكر فيها مقصوداً فإنه يكون مكروها.
ـ وأما إذا كان ذكر الله عز وجل قد أتى عرضا ولم يكن مقصوداً بالذكر فإنه لا حرج في ذلك.

* قوله: ((ورفع ثوبه قبل دنوه من الأرض)) :
يكره له أن يرفع ثوبه قبل دنوه من الأرض هذا إذا أراد أن يبول قاعداً، والدليل على ذلك:
ما روى ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) رواه أبو داود، والترمذي من حديث الأعمش عن رجل عن ابن عمر، وهذا الرجل مبهم.


وفي البيهقي أنه القاسم بن محمد، فعلى ذلك الحديث صحيح.
ـ وهذا متفق عليه أي استحباب ذلك؛ لأن كشف العورة مكروه فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إحفظ عورتك إلا من زوجك وما ملكت يمينك) ، فقيل يا رسول الله: (أرأيت الرجل يكون في الخلاء فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (الله أحق أن يستحي منه) .
أما ما رواه الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: (إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وعندما يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم) فإن الحديث فيه ليث بن أبي سُليم وهو ضعيف فالحديث ضعيف.
ما تقدم من كراهية رفع الثوب حتى يدنو من الأرض، هذا إذا كان يبول قاعداً.
مسألة: حكم البول قائماً:
ثبت في الصحيحين عن حذيفة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أتى سُباطة ـ أي زبالة ـ قوم فبالَ قائماً) .
وثبت في سنن النسائي من حديث عبد الرحمن بن حسنة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بال قاعداً فقال بعض القوم انظروا يبول كما تبول النساء) ، ولعل القائلين كفار أو لعلهم مسلمين لم يذكروه على سبيل السخرية بل أرادوا الأخبار.
فهذه الأحاديث تدل على جواز ذلك.
ـ وقال بعض أهل العلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بال قائماً لجرحٍ كان في مأبضه ـ أي باطن ركبته ـ، وقد روى ذلك الحاكم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بال قائماً لجرحٍ كان في مأبضه) لكن إسناده ضعيف.
فعلى ذلك لا بأس به ولا حرج ولا كراهية في ذلك.
ـ فإن قيل: قد ثبت عن عائشة ـ كما روى ذلك الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم ـ أنها قالت: (من حدثكم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) .
فالجواب: أنها حدثت بما علمت ورأت، وأخبر حذيفة بما رأى وعلم.
ومن حديث عائشة يُستفاد أن الأغلب في حاله أنه كان يبول قاعداً، لذا استنكرت ذلك أم المؤمنين عائشة وكانت من أعلم الناس بحاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.


ـ فإن قيل: قد روى ابن ماجة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعمر: (يا عمر لا تبل قائماً) (1) ، وقد روى ابن ماجة من حديث جابر (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل قائماً) .
فالجواب: هذان حديثان ضعيفان لا يثبتان عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد قال ابن القيم: (لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث) أي في النهي عن ذلك.
وهذا هو المذهب أي عدم كراهية ذلك، إلا إذا خاف تلوثاً أو خاف ناظراً فإنه يكره لذلك.
ـ كما أنه يُستدل على جواز البول قائماً بالأصل؛ فإن الأصل في الأشياء الإباحة فالأصل في العادات الإباحة ما لم يأت دليل على التحريم أو الكراهية.

* قوله: ((وكلامه فيه)) :
أي يكره أن يتكلم في الخلاء، والكلام: منه ما يكون كلاماً فيه ذكر الله عز وجل ومنه ما ليسن كذلك.
ـ أما إذا كان الكلام ذكراً لله فإنه مكروه كما ذكره المؤلف يدل على ذلك ما ثبت في مسلم من حديث ابن عمر: (أن رجلاً سلم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبول فلم يردّ عليه) ، وفي ابن ماجة بإسناد ضعيف: (فتيمم ثم ردّ عليه) (2) .
وقد ثبت في سنن أبي داود وغيره بإسناد صحيح من حديث المهاجر ابن قُنفُذة ـ رضي الله عنه ـ (أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبول فسلم عليه فلم يردّ عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه وقال: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) (3) .
فهذه الأحاديث تدل على كراهية ذكر الله، والسلام من ذكر الله.
فإذن: يكره أن يذكر الله ومن ذلك السلام، فإن الله هو السلام ومنه السلام.

ـ فإن قيل: فإذا عطس أو سمع الأذان فماذا يفعل؟؟
فالجواب: أن في ذلك قولين لأهل العلم ـ هما روايتان عن الإمام أحمد.
1ـ القول الأول: أنه يذكر الله في قلبه وهو ضعيف، فإن الذكر القلبي فاقد للذكر اللساني، وإنما يحمد العاطس الله، ويجيب المؤذن بلسانه والقلب وهذا لم يذكر الله بلسانه.


2ـ القول الثاني: أنه يذكر الله مخافته، كقراءته في الصلاة، بمعنى: يذكر الله بقلبه وبلسانه لكنه لا يرفع صوته بالذكر.
وهذا هو إختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا قول قوي.
ـ وأقوى منه أن يقال: له أن يذكر الله بعد خروجه من الخلاء، فإذا خرج حمد الله وأجاب المؤذن ويدل عليه حديث أبي داود المتقدم فإنه: أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه) (1) .
إذن: ردّ عليه النبي عليه السلام بعد أن توضأ، فدل ذلك على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجبه لا في قلبه ولا مخافتة، وإنما أجابه بعد ذلك.
فكذلك إجابة المؤذن وحمد العاطس الله مثل رد السلام: بل ردّ السلام أعظم من ذلك فإنه واجب بخلاف حمد العاطس الله، وإجابة المؤذن فإنهما سنتان، فهذا القول هو الظاهر.
ـ أما الكلام بشيء آخر غير ذكر الله عز وجل فلا يثبت حديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهي عنه.
وأما ما روى أبو داود من حديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير إلى أبي سعيد الخدري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك) (2) .
فالحديث رواه عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير موصولاً ورواه الأوزاعي وغيره عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً، وهو الراجح كما قال ذلك أبو حاتم.
ورواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير فيها ضعف.
وقد رواه مرسلاً بغير ذكر الصحابي، فعلى ذلك الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
وفيه ذكر كشف العورة وهي محرمة، فالحديث لا يدل على كراهية الحديث أبداً.
ولكن مع ذلك فإنه غير لائق من غير أن يكون ذلك مكروها في الشريعة.
أما إذا احتاج إليه فلا شك أنه لا يكون فيه كراهية.
إذن: مجرد الكلام الذي ليس فيه ذكر الله لا حرج فيه مطلقاً إلا أن تركه أولى مروءة لا شرعاً.


ولكن مع ذلك لا يكره ـ وإذا احتاج إليه فيزول المنع منه مطلقاً.

* قوله: ((وبوله في شق ونحوه)) :
الشق: هو المستدير.
وقوله: (ونحوه) : كأن يكون ذلك من سرب وهو ما يكون منه الدواب وهو المستطيل.
وذكر بعض أهل التاريخ أن سعد بن عبادة بال في جحر فخرّ ميتاً فسمعوا قائلاً يقول:
نحن قتلنا سيد ال ... خزرج سعد بن عبادة
رميناه بسهمين ... فلم يخطىء فؤاده
وهؤلاء ـ على هذه الرواية ـ الجِنّ.
لكن هذه الرواية ضعيفة لا تصح.
ـ مستنده من كره ذلك، حديث رواه أبو داود والنسائي وأحمد بإسناد صحيح ـ كما قال ذلك النووي من حديث قتادة عن عبد الله بن سَرْجِس أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن يبول الرجل في الجحر) (1) فقيل لعبادة: ما يكره من البول في الجحر، فقال: أنها مساكن الجن.
وقد ذكر حرب عن أحمد أن قتادة لم يسمع من عبد الله بن سرجس، فعلى ذلك يكون الحديث منقطع الإسناد.
وقد أثبت سماع قتادة من عبد الله بن سرجس، علي ابن المديني، ومن علم حجة على من لم يعلم.
فعلى ذلك قد ثبت سماعه كما ذكر ذلك ابن المديني وإنكار الإمام أحمد لذلك، يكون بناءاً على علمه وقد صححه ابن خزيمة وابن السكن، فالحديث إسناده صحيح.
وكراهية ذلك متفق عليها عند أهل العلم ـ كما حكى ذلك النووي.

* قوله: ((وَمَسّ فرجه بيمينه)) :
هذا كذلك من المكروهات باتفاق العلماء، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يمسَّنَّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسَّح من الخَلاء بيمينه ولا يتنفَّس في الإناء) (2) .
والشاهد قوله: (لا يمسَّن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) .
ـ لكن المؤلف هنا قد أطلق فذكر أنه يكره أن يمس فرجه بيمينه، فظاهره أنه يكره له ذلك مطلقاً سواء كان في حال بوله أو بعدها أو قبلها، وإلى ذلك ذهب بعض أهل العلم.


قالوا: إذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى عن مس الذكر في حال البول مع كونه يحتاج إلى ذلك، فأولى من ذلك إذا كان بعد البول مع عدم الحاجة.
ـ والأظهر أن يقال: إنما يكره ذلك ـ أي مس الفرج باليمين ـ عند البول فقط للتقييد الذي تقدم.
ـ وقد ذكر شارح "المقنع" (إبن مفلح) ذكر أن هذا هو ظاهر الحديث، وحكى عن بعض أهل العلم أن صاحب "المقنع" إنما ترك ذلك ـ أي إنما ترك التقييد بقوله (وهو يبول) ، إنما ترك ذلك لوضوحه ـ وهكذا يقال في مختصره مؤلف الكتاب فإنه ترك ذلك لوضوحه.
ـ والذي يدل على صحة ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إنما هو بضعة منك) (1) ، كما في حديث طلق بن علي وهو حديث حسن.
فعلى ذلك مس الذكر باليمين لا كراهية فيه إلا إذا كان في حال البول.
ـ وذهب الظاهرية إلى تحريمه، وجمهور الفقهاء على كراهيته.
إذن: يكره له أن يمس ذكره بيمينه وهو يبول، أما إن لم يكن في حال البول فإنه لا حرج في ذلك لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما هو بضعة منك) .

* قوله: ((واستجازه واستجماره بها)) : أي باليمين.
فيكره له أن يستنجى أو يستجمر بيمينه، ويدل عليه الحديث المتقدم من حديث أبي قتادة: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) وبذلك قال جمهور الفقهاء، فكرهوا أن يستنجى بيمينه.
فإذن: يكره أن يمس ذكره بيمينه وهو يبول، وكذلك يكره أن يستنجى بيمينه.
ـ وفي قوله: (ومس فرجه) عموم، فيدخل فيه القبل والدبر فكل ذلك مكروه.

* قوله: ((واستقبال النيرين)) :
وهما الشمس والقمر ـ أي يكره إستقبال الشمس أو القمر عند قضاء الحاجة.
والدليل على ذلك:
قالوا: أن فيهما نور الله الذي يستضيء به الخلق.
فنقول: لازمه أيضاً أن ينهى كذلك عن استقبال النجوم، فحينئذ: لا يجوز له أن يقضي حاجته إلا في بين خلاء، أو ما هو أضيق من ذلك في الليل، لكونها فيها نور الله الذي تستهدي به العباد، وهي علة ضعيفة.


ـ وقالوا: فيها أسماء الله مكتوبة عليها.
والجواب: أنه لا دليل على ذلك، كيف والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأهل المدينة: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا) (1) قال ابن القيم: (ليس لهذه المسألة أصل) .
أما ما رواه الحكيم الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن ذلك) فقال فيه النووي: باطل لا أصل له، وهو كما قال، فلا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الباب شيء.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثالث عشر: الثلاثاء 24/10/1414هـ.

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ((ويحرم إستقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان)) :
يحرم على المسلم أن يستقبل القبلة أو يستدبرها بغائط أو بول ويستثنى من ذلك: البنيان، فإذا كان في كنيف أو مرحاض أو نحو ذلك من البيوت المبنية فإنه لا يحرم ذلك هذا هو مذهب جمهور الفقهاء.
واستدلوا ـ أولاً ـ على تحريم استقبال القبلة واستدبارها عند الغائط والبول ـ بحديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا)) .
وبما ثبت في مسلم عن سلمان الفارسي قال: (نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) (2) ونحوه من حديث أبي هريرة في مسلم.
فهذه الأحاديث تدل على تحريم إستقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول.
ـ أما استثناء البنيان: فدليله ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (رقيت على بيت حفصة فرأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حاجته يبول مستقبل الشام مستدبر الكعبة) (3) .


وقد كان في بنيان، كما في رواية ابن خزيمة (محجوباً بلبن) (1) وروى الحكيم الترمذي وقال الحافظ إسناده صحيح: أنه كان في كنيف، وهذا هو المعهود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإنه كان يستتر غاية الإستتار، فكان ما وقع من رواية ابن عمر كان ذلك في بنيان.
ـ وقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد جيد، وهو من حديث محمد بن إسحاق وهو مدلس لكنه صرح بالتحديث في بعض روايات هذا الحديث، عن جابر قال: (نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستقبل القبلة أو نستدبرها بفروجنا إذا نحن أهرقنا الماء ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة) (2) ، والحديث اسناده جيد، وقد حسنه الترمذي، وصححه البخاري وابن خزيمة والحاكم وابن السكن فالحديث حسن وهو حجة.
قالوا: فهذان الحديثان يدلان على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قضى حاجته مستقبل القبلة ومستدبرها وذلك إنما كان في البنيان.
ـ وقد روى مروان بن الأصفر عن ابن عمر: (أنه أناخ راحلته قِبَل الكعبة فجعل يبول، فقيل له: أليس قد نُهِيَ عن ذلك؟ فقال: إنما نهي عن ذلك إذا كنت في فضاء أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء فلا بأس) (3) رواه أبو داود.
فهذه أدلة الجمهور في أن قضاء الحاجة قِبَل القبلة أو استدبارها محرم في غير البنيان أي في الفضاء، أما في البنيان أو إذا كان بينه وبين القبلة شيء ساتر كراحلة أو مركبة، فإنه لا حرج في ذلك ولا بأس، وهذا هو إختيار الإمام البخاري كما في صحيحه.
ـ وعن الإمام أحمد رواية أخرى ـ وذهب إليها بعض الفقهاء أن ذلك جائز مطلقاً في البنيان وغير البنيان.
ودليل ذلك حديث ابن عمر وأنه يدل على النسخ.
لكن هذا القول قول ضعيف؛ لأن القول بالنسخ صعب فلا يقال بالنسخ إلا مع عدم إمكان الجمع.


وقد تقدم كيف أن الجمهور قد جمعوا، وسيأتي كذلك موقف أهل القول الآخر من هذا الحديث فهذا القول هو أضعف الأقوال، وهو مروي عن الإمام أحمد وذهب إليه داود الظاهري.
ـ والقول الآخر: وهو كذلك رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه بعض الفقهاء جواز استدبار الكعبة دون استقبالها.
وهؤلاء قد أخذوا بحديث ابن عمر في رؤيته النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مستدبر الكعبة، ولم يأخذوا بحديث جابر لكونهم يضعفونه، ولكن تقدم تصحيح هذا الحديث.
ـ والقول الرابع: ذهب إليه أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد ذهبوا إلى أن ذلك محرم على الإطلاق ـ أي في البنيان وغيره ـ.
واستدلوا: بعمومات الأحاديث التي تقدم ذكرها كحديث أبي أيوب وأبي هريرة وسلمان رضي الله عنهم، فهي أحاديث عامة في البنيان وغيره.
وهذا هو قول أبي أيوب الأنصاري، فقد قال بعد ما روى الحديث: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل الكعبة فننحرف ونستغفر الله) (1) .
فهذا هو مذهب أبي أيوب الأنصاري، فعلى ذلك مذهب ابن عمر مخالف لقول أبي أيوب.
ـ وما هو جوابهم على الأحاديث الفعلية المتقدمة؟؟
قالوا: أما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رؤية ابن عمر له ورؤية جابر فإن هذا الفعل الذي فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما يحكي حاله تلك فإن الفعل لا عموم له ولا صفة له وإنما هو حكاية حال فقط. لذا يحتمل فيه الخصوصية والنسيان وغير ذلك.


وإن كان على القول الصحيح أن احتمال الخصوصية هنا ضعيف؛ لأن الأصل عدمها وكذلك النسيان فإن الأصل عدمه، هذا في معارضة الفعل القول، فإنه: يجب الجمع بين أفعال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقواله ـ هذا في الأصل ـ أما هنا ـ في هذه المسألة ـ فإن أفعال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـالتي تقدم ذكرها قد حدثت منه في غير محل التشريع وليست أفعالاً ظاهرة أمام أصحابه وإنما فعلها في محل لا يظن أنه يرى فيه، فهو ليس محل تشريع والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجوز عليه النسيان في غير الشريعة وكذلك يجوز عليه الخطأ في غير الشريعة.
فهو إنما يقضي حاجته مختفياً عن الناس حتى لا يراه أحد وكون هديه الصحابيين أطلعا عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن ذلك في غير محل التشريع، بخلاف الفعل الذي يكون ظاهراً، وقد قال تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)) (1) .
أما هذا الفعل فليس في محل التشريع لعدم ظهوره، ولما عرف من حاله من قضائه حاجته في غاية الإستتار والبعد عن الناس.
ـ ويدل على صحة هذا القول وأن هذه أفعال من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غير محل التشريع وأنها قد حدثت منه نسياناً، أن الفارق بين البنيان وغيره ـ في هذه المسألة ـ غير معتبر ذلك لأن النهي إنما هو لإكرام القبلة، ومعلوم أن الرجل عندما يقضي حاجته في فضاء، فإن بينه وبين القبلة جبالاً وأشجاراً وغيرها مما تكون حائلة بينه وبين القبلة، وكونه يقضي حاجته مستقبلاً القبلة في البنيان لا فرق ـ في الحقيقة ـ بين ذلك وبين قضائه في الفضاء الواسع، ولكن بينه وبين القبلة ولابد حوائل تمنع عيانه للكعبة.


ـ وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما روى ذلك أبو داود وابن خزيمة وصححه والحديث صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه) (1) ، فإذا كان هذا في التفل تجاه القبلة فأولى منه في الغائط والبول، ولم يفرق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين بنيان وغيره بل أطلق ذلك في هذا الحديث.
وفي حديث: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا) (2) .
فهذا القول هو القول الراجح، وهو إختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو قول ابن العربي من المالكية وأبي ثور من الشافعية وذهب إليه من الحنابلة أبو بكر ابن عبد العزيز وذهب إليه الشيخ محمد بن إبراهيم من المتأخرين وهذا هو القول الراجح فإن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتقدم، فعل ليس في محل التشريع.
والتفريق بين البنيان وغيره غير منظور إليه هنا؛ لأن المقصود إنما هو إكرام القبلة والبول في البنيان يترتب عليه عدم إكرامها كترتبه في غير بنيان.
فإنه إذا قضى حاجته في الفضاء فإنه لابد أن يكون بينه وبين القبلة حوائل كثيرة من جبال ونحوها، فحينئذ لا فرق بين ذلك وبين البنيان.
ـ وفي قوله النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (ولكن شرقوا أو غربوا) دليل لما ذهب إليه بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه لا يكفي الإنحراف اليسير خلافاً للمشهور عند الحنابلة من أنه يكفي الإنحراف اليسير.
والراجح عدم الإعتبار به، وأنه لابد وأن يشرق أو يغرب، فلا يكفي أن ينحرف يسيراً.
ويقاس كذلك على الصلاة فإن الرجل إذا انحرف عن القبلة شيئاً يسيراً فذلك لا يبطل صلاته، أما إذا كان كثيراً فإنه يبطلها، فإذا انحرف عن القبلة شيئاً يسيراً فذلك لا بأس به كما سيأتي وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) (3) .


والواجب أن يشرق أو يغرب ولا يكفي أن ننحرف شيئاً يسيراً.
ـ وظاهر المذهب: في مسألة جواز البول والغائط مستقبلاً القبلة أو مستدبرها في البنيان ـ ظاهر المذهب أنه لا فرق بين أن يدنوا من السترة أو يبعد عنها.
وهذا على القول المرجوح، وإلا فالراجح ما تقدم من عدم الجواز مطلقاً.
ـ وهل يجوز الاستنجاء أو الإستجمار إلى القبلة؟؟
1ـ المشهور في مذهب الحنابلة أن ذلك مكروه، فيكره له أن يستنجي أو يستجمر قبل القبلة.
2ـ وقيل ـ أي في المذهب ـ أنه لا يكره.
3ـ وقال في "الإنصاف" ـ وهو من الحنابلة ـ: (ويتوجه التحريم) .
وهذا أظهر، فإن في إستنجائه واستجماره فيهما أعظم مما في التفل الذي تقدم تحريمه كما أنه قد يخرج منه شيء في حال إستنجائه أو استجماره، فالأظهر أن ذلك محرم لا يجوز.

* قوله: ((ولبثه فوق حاجته)) :
أي لا يحل له أن يلبث فوق حاجته، ودليل ذلك ما تقدم من النهي عن كشف العورة إلا لحاجة وأن ذلك محرم.
وقد تقدم ترجيح كراهية ذلك وأنه مكروه ليس بمحرم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الله أحق أن يستحي منه) (1) .
فالأرجح أنه لا يحرم له كشف عورته ولكنه يكره إلا إذا كان هناك ناظر فإنه يحرم عليه كما تقدم.
وقالوا: إنه يورث بعض المرض.
والجواب على هذا: أنه إن ثبت ذلك فنعم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، ومرجع ذلك إلى الطب، فإن ثبت في ذلك ضرر فإنه يحرم.
إذن: الراجح في هذه المسألة الكراهية لكونه كشف عورته من غير حاجة، وأما التحريم فلا، إلا إن ثبت ضرر طبي في ذلك فإنه يحرم لذلك.

* قوله: ((وبوله في ظل نافع وتحت شجرة عليها ثمرة)) :
لقوله صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسلم: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان، قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) (2) .


فهذا الحديث يدل على تحريم التخلي في طريق الناس أو ظلهم والمراد بالطريق: قارعة الطريق التي يطرقها الناس ويطؤونها بأقدامهم، أما الطرق المهجورة فليس لها ذلك الحكم.
ـ كما أن المراد بالظل، الظل الذي ينتفع به في الإستظلال وإلا فقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقضي حاجته في جانبي النخل وهو ذو ظل، ولكنه ظل لا يحتاج إليه ولا ينتفع به.
إذن: المحرم إنما هو الظل الذي ننتفع به، ومثل ذلك المجلس المشمس فكل مجلس ينتفع به لا يحل قضاء الحاجة فيه.
ـ وقد روى أبو داود ـ والحديث حسن ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد ـ أي التي يرد إليها الناس للشرب والسقي ـ وقارعة الطريق والظل) (1) والحديث حسن لشواهده.
وأما قوله: (وتحت شجرة عليها ثمرة) : فذلك لاحتياج الناس إلى هذه الثمرة فقد يحتاج الرجل إلى صعودها، وقد تسقط الثمرة فتتنجس بالنجاسة فيحرم ذلك.
فإذن: هذا من باب المعنى، وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار) وقال تعالى ((والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا)) (2) .
وقد ورد هذا عند الطبراني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن قضاء الحاجة تحت شجرة فيها ثمرة) (3) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً، ولكن دليله ما تقدم من ثبوت الضرر في ذلك والأذية.

وقد ثبت عند الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (من آذى المسلمين في طرقهم فقد وجبت عليه لعنتهم) (4) .
فالملاعن لكونها تسبب لعنة من الناس ولكونها تسبب قبول الله اللعنة من الناس.
(مسألة) :

حكم إستقبال بيت المقدس واستدباره في البول أو الغائط. هل يحرم ذلك أم لا؟؟


روى أبو داود في سننه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن إستقبال بيت المقدس بغائط أو بول) ، فالحديث فيه راو مجهول، فعلى ذلك الحديث ضعيف، فلا يكره ولا يحرم فعل ذلك وهو أحد القولين، وهو مذهب المالكية، وقال الشافعية يكره.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الرابع عشر: السبت 28/10/1414هـ

قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((ويستجمر بحجر ثم يستنجى بالماء)) :
أي يجمع بين الإستجمار بالحجارة ونحوها وبين الاستنجاء بالماء وهذه إحدى صور إزالة الخبث وهي أفضلها بإجماع أهل العلم كما حكى ذلك العيني.
فقد اتفق أهل العلم بل أجمعوا على أن هذه الصفة هي أفضل الصفات؛ وذلك لأنها تجمع بين إزالة النجس عيناً بالحجارة وبين إزالته أثراً بالماء، فإن الحجارة إنما تزيل عين النجاسة ولا تزيل أثرها.
أما الاستنجاء بالماء فإنه يزيل النجاسة عيناً وأثراً، لكن ذلك يكون بإصابة اليد للخبث، فإذا اجتمعا ـ أي الإستجمار بالحجارة والاستنجاء بالماء، كانت هي الصفة الفضلى.
وهناك أدلة يستدل بها الفقهاء على هذه الصورة سوى الدليل المتقدم وهو تعليل.
ـ منها ما روى عن سعيد بن منصور ـ كما في المغني ـ عن عائشة قالت: (مُرْن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة بالماء من أثر الغائط والبول، فإني أستحييتهم، كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله) (1) واحتج به الإمام أحمد.
ولكن سُنَنْ سعيد بن منصور ليست كلها مطبوعة، بل ولا كلها موجودة، فمنها ما هو مفقود، ومما هو مفقود جزء الطهارة، وهذا الحديث ثابت في سنن الترمذي والنسائي ومسند أحمد بإسناد صحيح من غير ذكر الحجارة، إنما فيه: (مُرْن أزواجكن أن سيتطيبوا ـ أي يستنجوا ـ بالماء، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفعله) (2) .
فهذا الحديث ليس فيه ذكر الجمع بينهما، وإنما ذكر الاستنجاء بالماء دون ذكر الإستجمار بالحجارة.


ـ ومنها: ما رواه البزار بإسناد ضعيف جداً، نزلت: ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)) ، نزلت في طائفة من الأنصار كانوا يتبعون الحجارة بالماء) .
والحديث إسناده ضعيف جداً.
ـ وفي الخمسة إلا النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (أنها نزلت ـ أي آية ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا)) في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء) (1) إسناده صحيح.
فإذن: نزلت في أهل قباء لكونهم يتطهرون بالاستنجاء بالماء وليس فيه إضافة الإستجمار بالحجارة. وهذا الحديث إسناده صحيح.
إذن: عندنا الإجماع لذلك المعنى المتقدم، وهو أنه يجمع بين ألا تمس يده القذر وبين أن يزول أثر النجاسة فلا يبقى للنجاسة عين ولا أثر، هذه هي الصورة الفضلى باتفاق أهل العلم بل حكى إجماعاً.
ـ ثم بعد ذلك الصورة الثانية: وهي الاستنجاء بالماء وهي أفضل من الإستجمار بالحجارة باتفاق أهل العلم.
ـ وقد كرهه ـ أي الإستجمار بالماء ـ طائفة من الصحابة والتابعين لكن السنة حجة عليهم.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجى بالماء) (2) .
وقد تقدم حديث عائشة وحديث أبي هريرة في نزول الآية: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) وهذه الصورة فيها إزالة الأثر والعين جميعاً.
وقد قال الترمذي: (والعمل على هذا عند أهل العلم يختارون الاستنجاء بالماء وإن كان الإستجمار يجزئ، واستحبوا الاستنجاء بالماء ورأوه أفضل) .
إذن: هذه الصورة العمل عليها عند أهل العلم على جوازها وعلى استحبابها بل على تفضيلها على الإستجمار بالحجارة.
ـ الصورة الثالثة: هي الإكتفاء بالحجارة ونحوها، وهذه الصورة ثابته صحيحه من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوله، وسيأتي أدلة ذلك عند ذكر بعض المسائل ـ إن شاء الله ـ. وقد أجمع أهل العلم على جوازها.


إذن: هذه الصورة كلها جائزة، وأفضلها أن تجمع بين الإستجمار بالحجارة والاستنجاء بالماء ثم بعد ذلك الإستجمار بالحجارة، وهذه الصور كلها جائزة وإن كان الإستجمار بالحجارة لا يزيل أثر النجاسة وإنما يزيل عينها، وهذا معفو عنه في الشريعة، أي بقاء أثرها معفو عنه في الشريعة.

* قوله: ((ويجزئه الإستجمار إن لم يتعد موضع العادة)) :
إذن: تقدم أن الإستجمار يجزئ لكن بقيد، وهو ألا يتعدى ـ أي لا يتجاوز ذلك موضع العادة.
فإذا تجاوز موضع العادة ـ أي موضع الأذى ـ فإنه لا يجزئه أن يكتفي بالإستجمار بالحجارة، بل لا بد أن يغسل هذا الزائد بالماء؛ لأن هذا الزائد قد تعدى موضع العادة، كأن يصيب ما حول قبله أو دبره شيئاً من النجاسة، فلا يجزئه الإستجمار بل لابد أنه يستنجى بالماء، وذلك: لأن الشارع إنما عفى عن بقاء الأثر ما دام في موضع العادة.
فإذا تعدى موضع العادة فإنه لابد من الاستنجاء بالماء إذ لا مشقة في ذلك، هذا هو المشهور في المذهب.
ـ وذهب بعض أهل العلم من الحنابلة ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ إلى أنه يجزئه الإستجمار بالحجارة وإن تعدى ذلك موضع العادة؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إجازته الإستجمار بالحجارة لم يقيد ذلك.
والأظهر القول الأول لقوة دليله.
أما كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقيد ذلك، فإن ذلك بناءاً على الأصل فإن الأصل بقاؤه في موضع العادة، وأما كونه يتعدى ذلك فله حكم آخر وهو اشتراط إزالته إزالة تامة حقيقية ـ أي عينه وأثره ـ وهذا هو الراجح.
* قوله: ((ويشترط للإستجمار بأحجار ونحوها أن يكون طاهراً منقياً غير عظم وروث وطعام ومحترم ومتصل بحيوان، ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر ولو بحجر ذي شعب)) :
هذه شروط ما يستنجى به.


إذن: يجوز أن يستنجى بغير الحجارة، فليس الإستجمار خاصاً بالأحجار، فلوا استجمر بما يزيل الأذى عيناً أي جرماً وإن لم يزله أثراً كالأوراق في الجريد ونحوها فإنه يجوز ذلك، وظاهر المذهب أنه يجزئ، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، بل هو مذهب أكثر أهل العلم.
ـ وذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى أنه لا يجزئ إلا الحجارة؛ لأن الشارع خصص الحكم بذلك فلم تجزئ غيرها.
والراجح هو مذهب جمهور أهل العلم؛ لأن هذا من باب القياس، بل الأدلة الشرعية فيها إشارة إلى جوازه، فمن ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن يستنجى برجيع أو عظم) (1) .
فإذا: استثنى ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن ذلك يدل على أن سواه جائز ولو لم يكن سوى الحجر جائزاً لما احتاج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن يستثنيه، ونحوه ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (سئل عن الإستطابة ـ أي الاستنجاء، وسميت بذلك؛ لأنها تطيب البدن بإزالة الخبث عنه ـ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع) (2) .
فهنا استثنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجيع، وذلك لأن غيره جائز.
فإذن: الراجح هو ما ذهب إليه أكثر العلماء وهو الذي يدل عليه المعنى، فإن الشريعة قد أتت بالقياس الصحيح من إلحاق الشيء بنظيره، فإذا ثبت في شيء من الأشياء ما ثبت في الحجر من إزالة النجاسة عيناً وجرماً فإنه يصح ذلك وهذا هو مذهب جمهور العلماء.


قوله: ((أن يكون طاهراً)) : إذن: النجس لا يحل أن يستنجى به ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين ـ وهو دليل على جواز الإستجمار ـ عن ابن مسعود قال: (أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الغائط فأخبرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فوجدت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: هذا ركس) ، وفي رواية ابن ماجة: (هذا رجس) وفي الترمذي: (يعنى نجساً) (1) .
وقال النسائي: (ركس أي طعام الجنّ) واستغربه الحافظ ابن حجر وهو كما قال: فإن لفظة: (ركس) معناها نجس، والأصل النجس أن يكون نجساً حسياً، ما لم يدل دليل على نقله عن ذلك.
وهذا يدل على أنه لابد أن يكون طاهراً ليس بنجس.

وقوله: ((منقية)) : فإن كان فيه رطوبة أو كان أملساً أو نحو ذلك كالزجاج أو حجر أملس أو أن يكون منه رطوبة لا يزيل الخبث فإنه لا يجزئه أن يستجمر به.

وقوله: ((غير عظم وروث)) : فالعظم والروث لا يجوز له أن يستجمر بهما.
ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن سلمان قال: (لقد نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستنجى باليمين أو أن نستجمر بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستجمر برجيع أو عظم) (2) .
وثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للجنّ: (لكم كل عظم ذكر إسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة ـ أي روثه ـ علفت لدوابكم، ثم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم) .
وفي حديث رُوَيْفَع أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: (أخبر الناس) الحديث، وفيه: (وأن من استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً برئ منه) (3) والحديث رواه أبو داود وغيره.
فهذه الأحاديث تدل على تحريم الاستنجاء بالعظم والروث.
ـ فإذا استجمر بعظم أو روث فهل يجزئه ذلك؟؟
المشهور في مذهب الحنابلة أنه لا يجزئه ذلك.


واستدلوا بما روى الدارقطني، وقال: إسناده صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: نهى عن الإستجمار بالرجيع أو العظم، وقال: (إنهما لا يطهران) (1) وأعله ابن عدي.
ـ وذهب شيخ الإسلام إلى ثبوت الإجزاء لهذا الفعل وإن كان الفعل محرماً؛ لأن الخبث قد زال، والمقصود من النجاسة إزالتها فبأي طريق زالت فإن حكمها يذهب والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمادام أن النجاسة قد ذهبت وإن كان باستعمال ما يحرم عليه استعماله فإنه يجزئه ذلك وهذا قول قوي.
قال الزركشي: (وهذا جيد لولا حديث الدارقطني) .
والذي يظهر قول شيخ الإسلام.
وأما الحديث فإنه يحمل على الغالب في العظم والروث.
فالغالب فيهما أنهما لا يطهران، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بناءاً على الغالب بينهما (هذا على التسليم بصحة إسناده) .
وأما إذا ثبت أنهما يطهران ويزيلان النجس فلا موجب لعدم الإجزاء.
فإذن: يحرم عليه ذلك لكنه يجزئه إن فعله على الإثم، أما إذا فعله ناسياً أو جاهلاً فإنه يرفع عنه الإثم مع ثبوت الأجزاء له.
وقوله: ((وطعام)) : وهذا من باب القياس، قالوا: فإذا كان طعام الجنّ ودوابهم يحرم الاستنجاء به، فأولى منه طعام الإنس، وطعام دوابهم فهو أولى منه بهذا الحكم.
وقوله: ((ومحترم)) : مثل كتب العلم، فإذا كان الشيء محترماً فلا يجوز الاستنجاء به، وهذا من تعظيم شعائر الله: ((ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)) (2) والإستجمار بها إهانة لها، وهذه الإهانة محرمة، فلا يجوز إهانة ما يجب إحترامه.
وقوله: ((ومتصل بحيوان)) : قالوا: لو أن رجلا استنجى بصوف أو شيء من بدن حيوان، قالوا: فإن ذلك محرم، هذا هو المشهور في المذهب، وأن الإستجمار بشيء متصل بالحيوان محرم، وهذا هو مذهب الشافعية.
ـ وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس في ذلك.
ولم يتبين لي دليل على تحريم ذلك.


فالأقوى هو القول بحله، كيف والرجل يستنجى بيده اليسرى وهي عضو متصل به فأولى منه أن يستنجى بمتصل بحيوان، والله أعلم.
وقوله: ((ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر ولو بحجر ذي شعب)) :
يشترط أن يكون استنجاؤه بثلاث مسحات فإن كان بمسحتين أو يمسحه فلا يجزئه.
ـ ويشترط أن يكون بثلاثة أحجار، لما تقدم من حديث سلمان وفيه: (وأن يستنجى بأقل من ثلاث أحجار) : وهذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية، وهذا الذي يدل عليه هذا الحديث.
وكذلك يدل عليه ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من ذهب إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئه) (1) ، ومفهومه أنها إن قلت فإنها لا تجزئه.
ـ وذهب المالكية إلى جواز ذلك ـ أي أن تقل عن ثلاثة أحجار ـ إذا أنقت ـ فإذا أنقت ولو كان ذلك حجراً واحداً فإنها تجزئه.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من استجمر فليوتر) (2) ، والوتر يطلق على الواحد.
وكذلك بما ثبت في البخاري من حديث ابن مسعود في اتيانه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحجرين وليس فيه إعادته ليأتيه حجر آخر.
ـ والإستدلال بهذين الحديثين على هذه المسألة ضعيف.
أما الحديث الأول: فإن لفظة الوتر مطلقة هنا، وقد أتانا حديث سلمان فقيده بإيجاب ثلاثة أحجار فموجب أن نقيده بثلاث.
ـ وأما حديث ابن مسعود، فهو وإن لم يأته بحجر ثالث لكن الأمر مازال متعلقاً بذمته، فقد أمره أن يأتيه بثلاثة أحجار فمازال الأمر متعلقاً بذمته.
وكونه لم يأت بها فهو لايزال مطالباً بإحضار ثالثة ثم إن قوله: (فالتمست الثالث فلم أجده) : فيه أنه لم يجد ذلك، فهو إن لم يجد ذلك، فإنه يكون معذوراً والراجح هو القول بوجوب الإستجمار ثلاثة أحجار فأكثر وهو مذهب الشافعية والحنابلة.

ـ وهل يشترط أن يكون كل حجر يعم المحل كله؟؟


ظاهر الحديث أنه لا يشترط ذلك مطلقاً، بل يستنجى بثلاثة أحجار لكل حجر جزءاً من المحل، فظاهر الحديث أنه لا يشترط أن يعمم المحل لكل حجر وهو قول في مذهب الحنابلة.
ـ والمشهور في المذهب أنه يشترط أن يعمم المحل بكل حجر وقد تقدم أن ظاهر الحديث إطلاق ذلك.
وقد روى الدارقطني، وقال: إسناده حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار حجرين للصفحتين وحجرة للمَسْرَبَة) وهي محل الأذى.
لكن الحديث فيه أُبيِّ (1) بن العباس وهو ضعيف، فالأرجح: أنه لا يشترط ذلك.

وقوله: ((ولو بحجر ذي شعب)) : بمعنى: أتى بحجر ذي ثلاث شعب فإنه بجزئه ذلك، فكل شعبة تقوم مقام حجرة وهذا قياس واضح صحيح.
وقال هنا: (ولو) إشارة إلى خلاف في المذهب فهناك رواية عن الإمام أحمد أنه لا يجزئ ذلك بل لابد من ثلاثة أحجار لظاهر الحديث المتقدم.
والأظهر هو القول الأول لأن هذه الحجارة التي هي ذات ثلاث شعب بمقام ثلاثة أحجار فإنها تجزئه على الراجح.

* قوله: ((ويسن قطعه على وتر)) :
لقوله صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتقدم: (ومن استجمر فليوتر) .

* قوله: ((ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح)) :
يجب الاستنجاء لكل خارج عيني إلا الريح، قال الإمام أحمد: (الاستنجاء من الريح ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة وإنما فيه الوضوء) .
فليس من الريح إستنجاء، وإنما الاستنجاء من البول أو الغائط أو نحوهما مما قد يخرج من أحد السبيلين، وأما الريح فليس فيه استنجاء، وليس للإستنجاء به أصل في الكتاب والسنة.
وأما ما رواه الطبراني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من استنجى من الريح فليس منا) (2) ، فالحديث اسناده ضعيف جداً.

* قوله: ((ولا يصح قبله وضوء ولا تيمم)) :
هذه المسألة: فيها أنه لا يصح للشخص أن يتوضأ أو يتيمم ثم يستنجى.
__________
(1) بفتح الهمزة وتشديد الباء مع الكسرة: ((أَبِّي)) .


ـ فإن قيل: هذه مسألة متكررة، فَلِمَا ذَكَرَهَا المؤلف؟؟ فالجواب: أنه يقع مثل هذا، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى صحته مع وجوده.
ـ فلوا أن رجلاً توضأ أو تيمم ثم بعد ذلك استنجى وأزال الخبث، فهل تجزئه ذلك؟؟
المشهور في المذهب أنه لا يجزئه، واستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أصابه المذي: (يغسل ذكره ويتوضأ) (1) رواه مسلم.
وفي رواية النسائي: (ثم يتوضأ) لكن هذه اللفظة اسنادها ضعيف منقطع.
ـ فإن قيل: ألا يستدل بالرواية المتقدمة.
فالجواب: لا يستدل بها، لأن لفظة (الواو) لا تفيد إلا الإشتراك: (يغسل ذكره ويتوضأ) .
بل قد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (توضأ وانضح فرجك) فقدم الوضوء هنا.
ـ فإن قيل: المشهور من فعله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يستنجى ثم يتوضأ؟
فالجواب: قالوا: هذا فعل، والفعل لا يدل على الوجوب.
ـ وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وهو الراجح، فلو أنه استنجى بعد وضوئه أو تيممه لكان وضوؤه صحيحاً وعلى ذلك: إن هذا الفعل منه لا يعدو، إلا أن يكون إزالة للخبث، وإزالة الخبث ليست من شروط صحة الوضوء، فلو أن رجلا أصاب شيء من بدنه نجاسة في غير محل الأذى فتوضأ ثم قام بإزالته فوضوؤه صحيح.
فالمسألة لا تعدو إلا أن تكون إزالة أذى أما كونه يمس ذكره أولا، فهذه مسألة أخرى سيأتي تكريرها في بابها إن شاء الله؛ لأنه لا يشترط أن يكون مس ذكره فقد يكون استنجى بحجر أو خرقة أو نحوها.
وهذا القول هو الراجح لعدم الدليل المانع منه، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن أصابه المذي: (توضأ واغسل ذكرك) (2) .

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الخامس عشر (الأحد) التاريخ 29/10/1414هـ.

باب: السواك وسنن الوضوء:


السواك: هو العود الذي يدلك في الفم ويحرك فيه ليطهره ويطلق أيضاً على الفعل أي الدَّلك والتحريك ويسمى سواكاً فيطلق على الأداة التي يستاك بها، ويطلق على التسوك فكلاهما سواك.
وهو من التحرك والاضطراب، يقال: جاءت الإبل بساوك هزلاً: إذا اضطربت أعناقها من هزالها أي من ضعفها.

ـ أما الوُضوء: فهو بالضم، الفعل، وبالفتح: الماء المتوضىء به وهذا في لغة العرب: النظافة والحسن، يقال: وجه وضيء: أي حسن نظيف.
أما اصطلاحاً: فهو غسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.

ـ قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((السواك بعود لين منق غير مضرٍ لا يتفتت لا بأصبع أو خرقة، مسنون)) :
فالسواك مسنون بما يكون متصفاً بالشروط التي ذكرها المؤلف فهو مسنون باتفاق العلماء.
وهو أن يسوك بعود لين غير خشن يضر بلثته، وليس كذلك بمضر، ولا يتفتت وهو منقٍ مطهر منظف فما كان على هذه الصفة فإنه يسن أن يستاك به.
كعود الأراك والعرجون وعود الزيتون ونحو ذلك.
ـ قد ثبت في البخاري معلقاً مجزوماً به ووصله أحمد والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) .
ـ وأفضله كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم من بعض الحنابلة وبعض الشافعية وبعض المالكية، أفضلة الأراك، ويدل على ذلك:
ما ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد من حديث ابن مسعود قال: (كنت أجتبي للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواكاً من أراك) .
وثبت عند الطبراني وقال الهيثمي اسناده حسن في حديث وفد عبد القيس قال الراوي: فزودنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأراك نستاك به) فهذا أفضل أنواع الأعواد التي يستاك بها.
فإذن: السواك في كل عود منق لا يتفتت ولا يضر، مشروع مستحب.
ـ أما إذا كان من الأعواد الضارة كعود الريحان ونحوه فإنه ليس بمشروع لكونه مضراً وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار) .


قوله: ((لا بأصبع أو خرقه)) : هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية وأن السواك بالأصابع والخرق والمناديل ونحوها لا يجزئه؛ لأن الثابت إنما هو السواك بعود ونحوه؛ لأنه لا يحصل في السواك بالأصابع ما يحصل بالسواك بالأعواد من الإنقاء.
ـ وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد ـ إلى أنه يجزئ ذلك، واستدلوا:
بما روى البييهقي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (يجزئ من الساك الأصابع) لكن الحديث إسناده ضعيف وقد ضعفه البيهقي، فالحديث ضعيف.
واستدلوا: بما رواه أحمد أن علي بن أبي طالب توضأ وفيه: أنه تمضمض وأدخل بعض أصابعه في فيه، إلى أن قال: (رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ذلك) .
وفيه أنه أدخل أصابعه في فيه أي يستاك.
لكن الحديث فيه مختار بن نافع الكوفي وهو ضعيف. فعلى ذلك الحديث ضعيف.
ـ وصحح الموفق ـ رحمه الله ـ أنه يحصل له من الفضيلة والسنة بقدر ما يحصل له من الأنقاء وهذا قوي.
ـ وقال بعض الحنابلة: إنما يجزئ عنه إن لم يجد عوداً وهذا قوي. فإن لم يجد عوداً فإن مالا يدرك كله لا يترك كله.
فإنه إن لم يجد سواكا فإنه يستاك بأصبع أو نحوها ويحصل له من الثواب بقدر ما يحصل له من الإنقاء.
قوله: ((كل وقت)) :
لعمومات الأدلة كما تقدم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) ، وهذا عام في كل وقت، وقد ثبت في البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أكثرت عليكم بالسواك) أي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر على أصحابه من الحث والترغيب في فعل السواك وهذا يدل على تأكيد استحبابه.

قوله: ((لغير صائم بعد الزوال)) :
هذا هو المشهور في المذهب وأن السواك مكروه للصائم بعد الزوال فإنه لا يكره، وهذا هو مذهب الشافعية.
واستدلوا:


ـ بما روى البيهقي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي) (1) قالوا: والعشي يكون من بعد زوال الشمس، والحديث اسناده ضعيف.
ـ وأصح منه ثبوتاً ما في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـقال: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) (2) .
قالوا: فإذا استاك بالعشي ـ وغالباً ما تطهر هذه الرائحة التي هي أطيب عند الله من ريح المسك، غالباً ما تطهر بعد زوال الشمس، فيكره السواك بعد الزوال لأنه سبب لإزالتها.
ـ وذهب أكثر أهل العلم وهو مذهب الأحناف والمالكية ورواية عن الإمام أحمد واختاره كثير من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واستظهره في الفروع، وقواه صاحب الشرح الكبير.
ورأوا أنه ليس بمكروه بل هو مستحب مشروع في كل وقت.
واستدلوا: بما روى أبو داود والترمذي وقال الحافظ إسناده صحيح عن عامر بن ربيعة قال: (رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مالا أحصي يستاك وهو صائم) (3) .
لكن الحديث ليس إسناده بصحيح خلافاً لما قال الحافظ فإن فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف فالحديث إسناده ضعيف.
وأصح منه استدلالاً: استدلالهم بالعمومات الدالة على عموم فضل السواك من غير أن يستثنى من ذلك شيء، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) (4) .
أما الجواب على أدلة أهل القول الأول:
ـ أما حديث: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي) فقد تقدم أن الحديث ضعيف.
ـ أما حديث: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) .
فالجواب عنه: أن الحديث ليس فيه أنه لا يستاك وأنه يدع هذه الرائحة الكريهة، وإنما فيه الترغيب بالصوم وأن هذه الرائحة الكريهة التي يكرهها المسلم أطيب عند الله من ريح المسك.


وقد روى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن غنم قال: قلت لمعاذ بن جبل: أستاك وأنا صائم قال: نعم، فقلت أي النهار، فقال: غدوة وعشياً، فقلت: إن الناس يكروهون الإستياك في العشي، ويقولون: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فقال: سبحان الله ((وهي هنا للعجب)) إنما أَمَرَهُم بالسواك وليس بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً، ليس في هذا من الخير شيء إنما إنما هو شيء) .
ـ ثم إن هذه الرائحة إنما تخرج من المعدة، وغاية السواك أن يطهر الفم، فهو مطهر للفم، وأما هذه الرائحة فإنها مخرجها من الجوف على أن هذا ليس فيه إلا استحباب الصوم والترغيب فيه وأن الرائحة التي تخرج أطيب عند الله من ريح المسك وليس في الحديث الترغيب في تركها، هذا هو القول الراجح.

قوله: ((متأكد عند صلاة وانتباه وتغير فم)) :
والسواك مستحب مشروع لكنه يتأكد في مواضع فيكون السواك منها آكد استحباباً فمن ذلك:
(عند الصلاة) : كما في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وفي الحديث الحسن لشواهده، وقد جوده غير واحد من أهل العلم، وقد رواه الحاكم وابن خزيمة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك) (1) .
وظاهر هذه الأحاديث أنه يتأكد استحبابه صلاة الفرض والنفل.
قوله: (وانتباه) : أي الإنتباه من النوم سواء كان نوم ليل أو نوم نهار.
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: كان إذا قام من الليل "أي من النوم" يشوص "أي يدلك" فاه بالسواك) (2) .
قوله: (وتغير فم) : أي تغير رائحة الفم إلى الكراهية سواء كان بسبب سكوت أو من طعام أو من شراب أو جوع ونحو ذلك لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) .


فهذا الفم الذي أصيب بشيء من كراهية الرائحة بسبب جوع أو أكل أو نحوه يستحب له أن يدلكه بالسواك ليطهره.
ـ ويستحب ـ ولم يذكره المؤلف ـ عند دخول المنزل لما ثبت في مسلم عن عائشة: أنها سئلت بأي شيء كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبدأ إذا دخل المنزل قالت: بالسواك (1) .
ـ وهل يقاس عليه دخول المسجد؟.
صرح بذلك بعض الحنابلة ـ وأنه يستحب له ـ من باب القياس أن يستاك عند دخول المسجد.
وعللوا ذلك: بأن علة استحبابه عند دخول المنزل كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي النافلة فيه، فكذلك في المسجد فإنه سيدخل ويصلي فيه النافلة أو تحية المسجد أو الفريضة وفي هذا نظر، فإن عائشة لم تستثن حالة عن حالة ولم يكن كل دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد صلاة يصلي نفلها ـ ثم إن هناك علة قوية ـ أقوى من هذه العلة فيما يظهر أو تنازعها في القوة ـ وهي أن يكون ذلك من حسن معاشرته عليه الصلاة والسلام لأهله كالتطيب ونحوه فيكون هذا من تطهير الفم، وهي علة قوية.
فحينئذ لا يصح هذا القياس.
ولم يصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا فيما أعلم عن أحد من أصحابه الإستياك عند دخول المسجد.
ولكنه إذا استاك للصلاة فنعم، فإنه حينئذ يدخل في عموم الحديث المتقدم (عند كل صلاة) .
ـ وسيأتي تأكد استحبابه عند الوضوء.
ـ ويتأكد السواك عند قراءة القرآن، لما روى البزار بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (طهروا أفواهكم للقرآن) (2) ، فيستحب له أن يطهر فمه لقراءة القرآن.
ـ وإن قيل: إنه يستحب لذكر الله والدعاء فهو حسن، لقوله صلى الله عليه وسلم ـ (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) ومن الطهارة السواك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم) .

قوله: ((ويستاك عرضاً مبتدئاً بجانبه الأيمن)) :
هذه صفة الإستياك وكيفيته. وهي أن يستاك عرضاً


ودليل ذلك، ما رواه الطبراني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يستاك عرضا) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف.
ـ وله شاهد من مراسيل عطاء، وهو مرسل، وفيه راوٍ مجهول فيكون ضعيفاً جداً فلا يصلح شاهداً.
ـ إذن لم يثبت ذلك في السُّنَّة الصحيحة، وقد ضعف هذا الحديث النووي وابن الصلاح والضياء.
ـ وقال بعض أهل العلم: أنه يستاك طولا ـ هكذا قال بعض الحنابلة.
ـ وذكر بعضهم أن أهل الطب يستحبون ذلك ـ أي السواك طولاً.
والقائلون عرضاً ذكروا أن الإستياك طولاً أضر على اللثة وعللوا استحباب الإستياك عرضاً بأنه أبعد عن مضرة اللثة وأبعد عن فساد الأسنان.
فعلى ذلك لا يثبت شيء من السنة لا في الإستياك عرضاً ولا في الأستياك طولاً ومرجع ذلك إلى الطب أو إلى الإختيار، فإذا ثبت أن الأبعد له عن الضرر أن يستاك طولاً أو عرضاً فإنه يفضل ذلك.

قوله: ((مبتدأ بجانب فمه الأيمن)) :
وذلك لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعجبه التيمن أو التيامن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله) (2) ، وفي أبي داود (وسواكه) ، فهذا الحديث صريح في مشروعية البداءة بالجانب الأيمن قبل الأيسر عند الإستياك.
ـ وهل المستحب أن يكون الإستياك باليد اليمنى أم باليسرى؟
نص الإمام أحمد على استحباب ذلك باليد اليسرى، وقال شيخ الإسلام: (ولا أعلم أحداً من الأئمة خالف في ذلك إلا المجد) يعني المجد ابن تيمية هو جده وهو من كبار الحنابلة وهو صاحب المنتقى وهو كبار الفقهاء، وكان يستحب أن يستاك بيده اليمنى، ويستدل: بحديث عائشة المتقدم.
والإستدلال بحديث عائشة فيه نظر، فإنما هو دليل على البداءة بالجهة اليمنى.
وأما هنا فإن الباب آخر والبحث هنا آخر، فالبحث في الأداة التي يتطهر بها.


وعليه ما ذهب إليه عامة أهل العلم: أن السواك من باب التطهر لقوله (مطهرة للفم) هذا هو الغالب فيه وإلا فقد يكون لمجرد مرضاة الرب سبحانه وتعالى.
لكن الأصل فيه أن يكون مطهرة للفم، وما كان هذا بابه فإنه مستحب باليد اليسرى، كما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستنشق باليد اليسرى كما ثبت في النسائي بإسناد صحيح، وكذلك هنا فإنه يستحب أن يستاك باليداليسرى؛ لأن ذلك من باب التطهر أو من باب إزالة الأذى وإماطته.
أما حديث التيامن فإنما ذلك دليل على استحباب البداءة بالجهة اليمنى قبل الجهة اليسرى.
روى ابن أبي شيبة ـ ولم أقف على اسناده ـ أن عبادة بن الصامت وأصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يروحون والسواك على آذانهم) (1) .
وفيه حديث ضعيف عن البيهقي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يضعه على أذنه كما يوضع القلم) (2) .

والحمد لله رب العالمين.

الدرس السادس عشر ... …الإثنين…30/10/1414هـ

قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ((ويدهن غباً ويكتحل وتراً)) :
غباً: أي يوماً يدهن، ويوماً لا يدهن.
ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن النسائي والترمذي وأبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن الترجل إلا غباً) (3) .
والترجل هو: تسريح الشعر مع دهنه، فهو منهي عنه إلا يوماً بعد يوم.
ـ وهل ذلك مستحب أم لا؟
ظاهر هذه اللفظه من المؤلف: أن ذلك مستحب، ويدل على استحبابه ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من كان له شعر فليكرمه) (4) ، وهذا عام في شعر الرأس وشعر اللحية.
ولكنه لا يستحب إلا غباً للحديث المتقدم.
ـ فإن قيل: أو ليس المقصود إزالة شعث الرأس، وإذا كان الأمر كذلك فلو أنه ترجل بماء ونحوه غير الدهن فهل يكون مستحباً كذلك أو لا؟.


الجواب: الصحيح أنه يكون مستحباً كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه يفعل ما هو الأصلح لبدنه، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا فعل فعلاً معيناً لمعنى مقصود، وكان هذا المعنى المقصود يثبت بهذا الفعل وغيره، فإن كل فعل يثبت فيه هذا المعنى الخاص فإنه مستحب.
وهنا: الادهان، هل المقصود الادهان ذاته أم المقصود إكرام الرأس؟
الجواب: أن المقصود إكرام الرأس، فإذا ثبت إكرامه بغير الادهان بإنه يكون مستحباً كالادهان تماماً.
وقد ثبت من حديث رجل من الصحابة قال: (نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يمتشط أحدنا في كل يوم) (1) فهذا أمر مكروه، وذلك لأن الشارع ينهى عن كثير من الأرفاه وكثير من التنعم.
وقد روى أبو داود بإسناد صحيح أن رجلاً من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد بمصر ثم قال له: (أما إني لم آتك زائراً ولكني سمعت أنا وأنت حديثاً من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرجوت أن يكون عندك منه علم، فقال له: ما هو، قال: (كذا وكذا) "إذن أخبره بهذا الحديث" قال: فمالي أراك شعثاً وأنت أمير الأرض فقال: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينهانا عن كثير من الإرفاه "أي كثير من التنعم" قال: فما لي لا أرى عليك حذاء، فقال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرنا أن نحتفي أحيانا) (2) .
ـ إذن هذا الحديث يدل على كراهية كثير الإرفاه وفي أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن البذاذة من الإيمان) (3) : أي ترك كثير من التنعم في الثوب والبدن وهو البذاذة أنه من الإيمان.


فإذن: يستحب له أن يدهن غباً، ويكره له أن يدهن كل يوم، ولكن إذا كان كثير الشعر بحيث يكون فيه شعث كثير جداً، فحينئذ تزول الكراهية، وقد روى النسائي بإسناد صحيح أن أبا قتادة الإنصاري: كان له جُمَّة "أي شعر كثير يضرب على كتفه" فأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحسن إليه) (1) .
ـ وهنا عند هذه الفقرة التي ذكرها المؤلف مباحث:
[المبحث الأول] : هل السنة إتخاذ الشعر أم حلقه؟
قال الإمام أحمد: (إتخاذ الشعر سنة ولو قدرنا عليه لفعلنا، ولكن له كلفة ومؤؤنه) أي يحتاج إلى كلفة من مشط وترجيل ودهان ونحو ذلك.
وأما الدليل على سنيته: فهو أنه فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـكان له شعر يضرب على منكبه) (2) .
وثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان له شعر إلى شحمة أذنه) (3) يعني: كان أحياناً إلى منكبه، وأحياناً إلى شحمة أذنه، إذا أخذ منه في حج أو عمره.
ـ ومن أبقاه فعليه أن يكرمه فيكون له كلفة ومؤونة كما قال الإمام أحمد.
ـ أما حلق الرأس فقد أجمع العلماء على إباحته، كما قال ذلك: ابن عبد البر رحمه الله ـ

لكن هل يكره له حلقه أم لا؟.
نص الإمام أحمد على كراهية حلقه، وقال: (كانوا يكرهونه) أي كان السلف.
وفي رواية عنه أن تركه أفضل، فيكون حلقه غير مكروه.
وقد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صفة الخوارج أن سيماهم التحليق، وهذا لا يقتضي التحريم؛ لأن ليس كل تشبه محرم.
فالأظهر: أن تركه أولى إلا في حج أو عمرة.
[المبحث الثاني] : إذا اتخذ شَعْراً فهل يسدله سدلاً أم يفرقه فرقاً؟
السدل هو أن ترسل الشعر من غير أن تفرقه، والفرق: هو أن تجعل الشعر على صفقتين، صفقه بيمينه وصفقه شماله، فيظهر أصل الرأس.
والجواب:


أن كلا الفعلين فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي السدل والفرق، لكن الأول وهو السدل قد تركه لكونه قد نسخ فعله، فقد ثبت في الصحيحين: (كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم ـ أي يرسلونها ـ وكان المشركون ـ أي من العرب ـ يفرقون رؤوسهم وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسدل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناصيته ثم فرق بعدُ) (1) .
وفي رواية: (ثم أمر بالفرق ففرق) .
وقد اتفق أهل العلم على استحباب ذلك.
فإذا: فرقه فهل يجعله دؤابتين أو عقيصتين؟
قال الإمام أحمد: (وأبو عبيدة له عقيصتان وعثمان له عقيصتان) أي يجعله عقيصين وهذا كان فعل العرب.
إذن: والمستحب أن يفرق رأسه لفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه أمر بذلك.
ـ ولكن اتخاذ الشعر إن كان فيه فتنة فإنه لا يجوز ذلك سداً للذريعة.
ـ هذا في شعر الرأس وإدهانه ومثل ذلك شعر اللحية، وقد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإعفاء اللحية، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى) (2) .
وفي الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (خالفوا المشركين وفِّروا الحى وأحفوا الشوارب) (3) .
وفي مسلم: (أرخوا اللحى) .
واللحية: الشعر النابت على الخدين والذقن) . كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب وغيره.
ـ الأحاديث المتقدمة تدل على وجوب إعفائها، وقد صرح بتحريم حلقها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ويدل على ذلك الأحاديث السابقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، والأصل في التشبه التحريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين) .
ـ وهل يجوز له أن يأخذ منها ما فوق القبضة؟
ثبت ذلك من فعل ابن عمر في الحج والعمرة، فقد روى البخاري أن ابن عمر: (كان إذا حج أو اعتمر قبض لحيته، فما فضل أخذه) (4) .


ونص الإمام أحمد على جواز ذلك، وكذلك نص عليه الشافعي إذا كان في حج أو عمره.
ـ وكره ذلك الحسن وقتادة.
فإذن: ذهب بعض أهل العلم إلى النهي عن ذلك، وبعضهم ذهب إلى جوازه.
ـ أما القائلون بجوازه، فقد استدلوا بفعل ابن عمر.
ـ وأما القائلون بالنهي عنه فاستدلوا بعمومات النصوص المتقدمة: (أرخوا اللحى) (واعفوا اللحى) وغيرها.
وكونه يأخذ شيئاً منها وإن كان فاضلاً عن القبضة، فإن ظاهر الحديث وجوب إعفائها وهو فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت في البخاري أن خباب بن الأرتّ سئل فقيل له: (أكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ في الظهر والعصر، فقال: نعم، فقيل له: بم كنتم تعرفون ذلك، فقال: باضطراب لحيته.
فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يثبت أنه يأخذ من لحيته شيء بل كان يدعها عرضاً وطولاً.
أما ما روى الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأخذ من لحيته عرضاً وطولاً) (1) فالحديث منكر لا يصح، قد استنكره البخاري وغيره.
ـ والأظهر من القول بالمنع منه، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام، أمر بإعفائها وإرجائها وأخذ شيء منها ينافي ذلك. والعمل برواية الصحابي لا برأيه إذا خالف رأيه روايته.
فابن عمر وإن كان من رواة الأحاديث في إعفاء اللحية لكن رأيه خالف روايته، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإعفائها وتركها مطلقاً وهذا ينافي ذلك. فالأظهر هو القول بالمنع.
ـ أما الشوارب فيجب ـ على الراجح ـ قص شيء منها بإحفائها وجزها وإنهاكها، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أحفوا الشوارب) (2) وفي رواية: (جزوا الشوارب) وفي رواية: (أنهكوا الشوارب) وهو أن يبالغ في قصها.
ـ وجمهور أهل العلم على سنيته، وقد قال النووي: (متفق على استحبابه) .
وقد صرح الحنابلة بتأكد سنيته.
ـ والأظهر التحريم؛ لأن الأمر للوجوب.


ـ وأصرح منه ما في الترمذي وصححه وهو كما قال أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) (1) .
وقد قال صاحب الفروع: (وهذه الصفة تقتضي ـ عند أصحابنا ـ التحريم) ؛ لأنه قال: (ليس منا) .
وهذا هو مذهب الظاهرية ـ وهو الراجح ـ وهو أن قص الشارب وإحفاءه واجب، ومن لم يفعله فليس منا: أي ليس على هدينا وطريقتنا. ويقتضي ذلك تحريمه وهو مذهب الظاهرية، والأدلة الشرعية عليه.

قوله: ((ويكتحل وتَراً)) :
أي يسن له أن يكتحل وتراً.
ويسن أن يكون ذلك بالإثمد، والإثمد: نوع من أنواع الكحل، وقد ثبت في ابن ماجة بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر) (2) أي شعر العينين.
وأما الإكتحال بغيره مما هو من باب الزينة، فإن كان للنساء فذلك جائز.
وأما للرجال فهو محل توقف، وقد توقف فيه شيخ الإسلام. وذكر أنه يقوي جوازه فيمن كان كبير السن يبعد ذلك عن الفتنة، بخلاف الشاب، ومثل ذلك محل توقف؛ لأنه زينة وهو مختص بالنساء.
ومن لم يكن كبير السن وهو ليس محل فتنة فهو محل توقف.
والذي ينبغي أن يكون التوقف كذلك في كبار السن، لأن التوقف عام. إلا أن التحريم يقوي في الشاب لما في ذلك من الفتنة، والعلم عند الله.
وقوله: ((وتراً)) : استدلوا عليه بما رواه أحمد وأبو داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) (3) لكن الحديث فيه جهالة، فهو ضعيف. فعلى ذلك يكتحل بما يكون مناسباً لعينه بالإثمد من غير أن يكون ذلك محدداً بوتر، إلا أن يكون مناسباً.

قوله: ((وتجب التسمية في الوضوء مع الذكر)) :
أي: يجب على من أراد أن يتوضأ وكذلك من أراد الغسل أو التيمم يجب عليه أن يقول: (بسم الله) ولكن ذلك ـ أي الوجوب ـ مع الذكر، أما إن نسي فلا حرج عليه.


ـ أما الدليل على وجوب التسمية: فهو ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (1) .
وهذا الحديث في إسناده ضعف، لكن له شواهد كثيرة يرتقي إلى درجة الحسن.
وقد قال العيني: (روى هذا الحديث من طريق أحد عشر صحابياً) وقال ابن أبي شيبة: (ثبت لنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاله) أي من كثرة طرقه.
وقد حسنه العراقي وابن الصلاح وابن كثير وابن حجر والمنذري، ومن المحدثين المعاصرين الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ فالحديث حسن.
ـ أما سقوط التسمية بالنسيان: فاستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2) .
1ـ هذا هو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم: أن التسمية واجبة عند الوضوء ونحوه من الغسل والتيمم مع الذكر، فلو ترك التسمية عمداً بطل وضوؤه.
2ـ وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها بعض أصحابه أن التسمية سنة.
وأجابوا: عن الحديث بأنه ضعيف لا يثبت، قال الإمام أحمد: (لا أعلم فيها إسناداً جيداً) أي التسمية.
وكلامه ـ رحمه الله ـ إنما هو في الأسانيد بمفردها، أي في كل إسناد بمفرده، أما الأسانيد بمجموعها فإنها ترتقي إلى درجة الحسن.
قالوا: وإن ثبت الحديث فإن قوله: (لا وضوء) يؤول بأن (لا وضوء كامل) ، فليس وضوءاً باطلاً، بل هو صحيح لكنه ليس بكامل بل هو ناقص لتركه السنة.
وهذا القول ضعيف؛ لأن الأصل حمل الكلام على حقيقته، فيقال: (لا وضوء موجود) ثم (لا وضوء صحيح) وهي المرتبة الثانية ثم (لا وضوء كامل) وهي المرتبة الثالثة.


و (لا وضوء موجود) : هذا لا يمكن أن يقال به؛ لأن الوضوء قد وجد دون التسمية، فننتقل إلى المرتبة الثانية (لا وضوء صحيح) ثم (لا وضوء كامل) ولا يجوز أن ننصرف عن مرتبة إلا إذا امتنعت المرتبة التي قبلها فنقول ـ حينئذ ـ (لا وضوء صحيح) كما هو ظاهر اللفظة أي لا وضوء صحيح شرعي.
3ـ وذهب الإمام أحمد في رواية عنه واختارها أبو الخطاب من الحنابلة والمجد بن تيمية وابن عبد القوي إلى أن التسمية فرض عند الذكر والنسيان.
فلو تركها ناسياً فإن وضوءه باطل ـ وهذا هو أصح الأقوال ـ وذلك لصحة الحديث الوارد في ذلك، وظاهره أنه لا وضوء صحيح مطلقاً سواء كان ذاكراً أو ناسياً.
ـ أما حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي 0000) الحديث، فإن ذلك لا يكون في ترك الواجبات، فإن من ترك واجباً فإنه لايزال مطالباً بفعله، فإذا فعله برأت ذمته.
ويكون ـ حينئذ ـ مغفوراً له غير آثم بسبب نسيانه، أما كونه لا يجب عليه أن يفعل فلا.
فلوا أن رجلاً صلى بلا وضوء ناسياً، فإنه لا يأثم لكنه يجب عليه أن يعيد الصلاة، وهو معذور لنسيانه، فلا تبرأ ذمته حتى يفعله.
وهذا القول هو أرجح الأقوال، وأن من ترك التسمية ذاكراً أو ناسياً فوضوءه باطل.
فإن كان فعل ذلك في مرات سابقة فإنه لا يجب عليه الإعادة للمشقة.
لكن إذا كان الوقت مازال حاضراً فإنه يعيد الوضوء والصلاة وكذلك التيمم والغسل ـ وهذا هو مذهب الظاهرية، (ثم رجح الشيخ وفقه الله قول الجمهور بالاستحباب) .
ـ قال الإمام مالك: (حلق الشارب بدعه) ، وهذا إذا كان على وجه العبادة ـ أما إذا كان على غير وجه العبادة فإنه محرم للأمر بإحفائه؛ ولأنه من التشبه بالأعاجم.
ـ ذهب بعض الحنابلة إلى أنه إن كانت اللحية على صورة قبيحة قد يستهزأ به من أجلها فإنه يجوز تسويتها وهذا حسن لا بأس به، لأنه نادر، أما إذا كان تهذيباً فإن ذلك لا يجوز.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس السابع عشر ... يوم الثلاثاء: 1/11/1414هـ


قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ((ويجب الختان ما لم يخف على نفسه)) :
الختان: من أمور الفطرة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط) (1) .
وهذه اللفظة: (من الفطرة) لا تفيد وجوباً ولا استحباباً أي بالتنصيص.
وإنما تفيد أن هذا مشروع فقد يكون من الواجب وقد يكون من المستحب.
الختان: هو فعل الخاتن، وهو ما يسمى عندنا بـ: (الطهارة) : وهو قطع الجلدة فوق الحشفه.
ما حكمه؟.
قال المؤلف: (ويجب الختان) : وظاهره مطلقاً للذكر والأنثى وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
فجمهور أهل العلم قالو: إن الختان واجب للذكر والأنثى واستدلوا: بما ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لمن أسلم: (ألق عنك شعر الكفر ثم اختتن) (2) فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب.
ـ ولأن في ذلك كشف عورة، ولا يجوز كشفها إلا إذا كان الفعل واجباً.
ـ وعن الإمام أحمد رواية: أنه واجب في الرجال دون النساء.
ـ ومذهب أبي حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه سنة مطلقاً للرجال والنساء، ودليل من قال بسنيته مطلقاً، وهو كذلك دليل من قال بوجوبه على الرجال دون النساء: ما رواه أحمد في مسنده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) (3) .
أما من قال بأنه سنة مطلقاً ـ أي لرجال والنساء ـ فإنه رأى أن لفظة (سُنَّة) ترادف الاستحباب.
ـ وأما من استثنى النساء عن السنية وأثبت الحكم للرجال، فإنه رأى أن لفظة: (سُنَّه) لا تفيد الاستحباب،وأن لفظة (مكرمة) تفيد الاستحباب.


لكن الحديث ضعيف فيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف، على أن لفظة (سُنّة) لا تفيد الوجوب ولا تفيد الاستحباب بعينه، وإنما تدل على أن هذه طريقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما نريد بالاستحباب بعينه ما ينافي الوجوب فلا شك أن الأمر الذي يحكم بأنه سنة محبوب إلى صاحب الشريعة لكن هل هو واجب أم مستحب ـ يستحب من دليل آخر ـ وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيحين: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) (1) فالسُّنَّة هي الطريقة.
بخلاف السُّنَّة عند الأصوليين فإنها: ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام، وهي ما ترادف المستحب والمندوب.
والقول الأول أرجحها وهو وجوب الختان مطلقاً على الرجال والنساء.
وهو ميزة المسلمين عن النصاري، فإن النصارى لا يختتنون، بخلاف اليهود فإنهم يختتنون، فالختان يتميز به المسلم وهو من شعار المسلمين،كما في حديث البخاري في قول هرقل: "إني أجد ملك الختان قد ظهر) .
قوله: ((ما لم يخف على نفسه)) :
كأن يكون رجلاً كبيراً شيخاً هرماً، فدخل في الإسلام فحينئذ: لا يجب عليه الختان إذا خشي على نفسه التلف، لأن الواجب يسقط عند العجز.
وعند خوف التلف، وقد قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) .
ـ فإن قيل: متى يكون الختان؟
فالجواب: أما وقت وجوبه فهو البلوغ، فلا يجوز له أن يبلغ إلا وقد اختتن.
يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس: أنه سئل، مثل من أنت حين قبض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (أنا يومئذ مختون، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك) (2) أي حتى يناهز البلوغ.
فهذه سنة العرب، وهو أنهم لا يختنون حتى يدرك.
ـ فإن اختتن قبل ذلك فما الحكم؟.
الجواب: سئل الإمام أحمد عن ذلك فقال: (لا أدري لم أسمع فيه شيئاً) أي لم أسمع فيه سُنَّة صحيحه فحينئذ: يبقى على الأصل، فالأصل في الأشياء الحل ما لم يثبت دليل يمنع من ذلك.


ـ أما حكم الإختتان في اليوم السابع للمولود، ففيه روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى: الكراهية وهو قول الحسن البصري.
قالوا: لأنه فعل اليهود، فإنهم يختنون في اليوم السابع.
الرواية الثانية: أنه لا يكره وهو قول ابن المنذر، وقد قال ابن المنذر: (وليس مع من منع من الختان في اليوم السابع حجة) .
ـ وقد ذكر شيخ الإسلام أن إبراهيم عليه السلام خَتَنَ إسحاق في يوم سابعه فكانت سنة في بنيه أي في بني إسحاق ومنهم اليهود.
وختن إسماعيل عند بلوغه فكانت سنة في بنيه.
فإذا ثبت هذا، فإن فعل اليهود يكون سنة إبراهيمية عن إبراهيم عليه السلام.
ـ والأظهر: أنه لا مانع من ذلك.
فإذن: لا تحديد لذلك، فلو اختتن في اليوم الأول أو الثاني أو السابع أو العاشر أو عند ذلك فلا بأس لكن لا يجوز أن يبلغ إلا وقد اختتن؛ لأنه حينئذ يكون مكلفاً، والختان واجب عليه، فلا يجوز له أن يبلغ ولم يختتن.
كما أن له أثراً في الطهارة ـ فحينئذ ـ: لا يحل له أن يبلغ إلا وقد اختتن أما قبل ذلك فلا بأس ولا حرج.
ـ الثاني: من أمور الفطرة: (الإستحداد) : وهو حلق العانة، وهذا مستحب بالإتفاق كما قال ذلك النووي.
ـ الثالث: من أمور الفطرة: (قص الشارب) وقد تقدم البحث فيه.
ـ الرابع: من أمور الفطرة: (تقليم الأظافر) ، وتقليم الأظاهر مستحب بالإتفاق.
ـ وهنا مسائل في تقليم الأظاهر:
1ـ المسألة الأولى: في كيفية تقليم الأظاهر: ذكر الحنابلة في المشهور عندهم أن طريقة تقليم الأظافر أن يبدأ بخنصر اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم يأتي بعد ذلك البنصر ثم السبابة ثم يأتي إلى اليسرى: فيشرع بالإبهام ثم الوسطى ثم الخنصر ثم يعود إلى السبابة ثم إلى البنصر، وهذه صفة المخالفة.
ـ فإن قيل: فما الفائدة؟.
قالوا: الفائدة من ذلك أنه لا يصاب بالرَّمَد، فإذا فعل ذلك فإنه لا ترمد عيناه.
ـ فإن قيل: فما الدليل على ذلك؟


فالجواب: ما ينسب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو وضع عليه أو اختلق أنه قال: (من قلم أظفاره مخالفاً لم ير رمداً) (1) لكن الحديث لا أصل له، بل قال ابن القيم: (هذا من أقبح الموضوعات.
ـ فإن قيل: فما السنة في ذلك؟
فالجواب: أن السنة: التيامن فيبدأ بيده اليمنى ثم اليسرى، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) (2) ، كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
2ـ المسألة الثانية: أنهم قالوا: يستحب أن يدفن قلامة أظفاره أو ما يأخذه من شعر.
وفي ذلك حديث رواه الطبراني بإسناد ضعيف جداً أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يدفن أظفاره) (3) .
ونص على استحبابه ذلك ـ أي دفن الأظافر وما يأخذ من شعره ـ الإمام أحمد، وقال: كان ابن عمر يفعله، وقد أسنده إلى ابن عمر، وفي بعض أسانيده العمري وهو ضعيف فإن ثبت ذلك عن ابن عمر كما ذكر ذلك الإمام أحمد واحتج به فإنه يكون مستحباً لفعل ابن عمر.
وقد وردت أحاديث صريحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكنها ضعيفه لا تثبت.
3ـ المسألة الثالثة: في اليوم الذي نُقَلِّمُ فيه الأظفار، روى البغوي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان يأخذ أظفاره وشاربه في كل جمعة) (4) ، لكن الحديث إسناده ضعيف جداً، لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
الخامس: من أمور الفطرة: (نتف الإبط) .
والسنة أن ينتفه نتفاً، فإن قدر على ذلك فإنه المتسحب، وإن لم يقدر على ذلك فحلقه فلا حرج في ذلك ونتف الإبط مستحب باتفاق أهل العلم.
إذن: أمور الفطرة كلها مستحبه عند أهل العلم سوى الختان فإنه واجب، وخالف في ذلك أبو حنيفة وكذلك على الراجح قص الشارب فإنه واجب خلافاً لجمهور العلماء.


ـ وقد ورد حديث في مسلم عن أنس بن مالك، قال: (وُقِّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألاّ نترك ذلك أكثر من أربعين يوماً) (1) .
قال النووي ـ في بيان هذا الحديث ـ ومعناه: ((أنهم إذا لم يفعلوها في وقتها ـ أي مع كونها تحتاج إلى قص أو حلق أو نحوه ـ فإنهم لا يؤخرونها أكثر من أربعين يوماً، وليس معنى ذلك الإذن في التأخير مطلقاً، وهذا تأويل لكنه تأويل صحيح، لذا قال بعد ذلك: (وإنما الإعتبار بطولها وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال)) .
لأنه من المعلوم أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلو أنها طالت بعد عشرة أيام، فهل نقول إنه يتركها أربعين يوماً مع أنها تحمل الأوساخ.
لكن المراد: أنه إذا تركها فلا ينبغي أن يتعدى أربعين. اهـ

قوله: ((ويكره القَزَع)) :
القَزَع: جمع قَزْعة، والقزعة هي: القطعة من السحاب، فإذا كان في السماء قطع من السحاب فيجمع على قزع.
والمراد به هنا: أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه الأخر سواء كان ما يحلقه مقدم رأسه أو مؤخره أو كان مبقياً لأعلاه آخذاً لجوانبه كما يفعله الأوباش والسفل ـ كما قال ابن القيم.
ـ والدليل على النهي: ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (نهى عن القزع) قيل لنافع: ما القزع؟ قال: (أن يحلق بعض رأس الصبي ويُترك بعضه) (2) .
ـ وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (رأى صبياً قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (إحلقوه كله أو اتركوه كله) (3) .
ـ وجماهير أهل العلم على أنه مكروه.
ولم أر أحداً صرح بتحريمه، وظواهر الأدلة تحريمه. لا سيما إذا كان فيه تشبه، فإنه يكون واضح التحريم، وفي الحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) .

مسألة:
لو أن رجلاً لم يختن حتى مات، فهل يختن بعد موته أم لا؟


الجواب: أنه لا يختن باتفاق أهل العلم؛ لأن الفائدة منه في الحياة وهذا قد مات.
ـ مناسبة ذكر النهي عن القزع في هذا الباب:
أنه ذكر السواك ومناسبة أنه سُنة من سُنَن الوَضوء فذكر المسائل التي تشابهه، فهذا من باب ذكر المسألة مع ما يناسبها، فقد ذكر السواك وهو من أمور الفطرة كما ورد في مسلم ومسند أحمد، فذكر ما يشابهه من أمور الفطرة.
ـ ومن المعلوم أن هناك مسائل قد لا تنضبط في باب معين، فحينئذ تذكر في أبواب مختلفة عندما يذكر شيء يشابهها في الحكم معه.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثامن عشر ... …الأربعاء: 2/11/1414هـ

قال المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: ((ومن سنن الوضوء السواك)) :
يدل على ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء (1)) ، فهذا الحديث يدل على مشروعية السواك، وأنه ليس بواجب بدليل قوله: (لولا أن أشق على أمتي) .
ـ فإن قيل: فهل يستحب له السواك قبل الوضوء أم أثنائه؟
فالجواب:
صرح بعض الحنابلة ـ كما في كشاف القناع ـ أن المستحب أن يكون ذلك مع المضمضة، ودليل ذلك ما تقدم من حديث علي رضي الله عنه: وفيه أنه تمضمض وأدخل بعض أصابعه في فيه) أي يستاك ورفع ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تقدم تضعيف هذا الحديث وأنه لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.


ـ ولو قيل: إنه يستاك قبل الوضوء لكان قوياً، ودليل ذلك ما ثبت في مسلم عن ابن عباس، والحديث أصله في الصحيحين أنه بات عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: فقام نبي الله من آخر الليل فخرج ثم نظر إلى السماء ثم قرأ هذه: (إن في خلق السموات والأرض.. إلى قوله: (فقنا عذاب النار) قال: ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ ثم قام يصلي، ثم اضطجع ثم قام فخرج ونظر إلى السماء فقرأ الآية، إي قوله: (إن في خلق السموات والأرض..، ثم رجع فتسوك فتوضأ، ثم قام يصلي) ، فلفظة: (فتسوك فتوضأ) ، ولفظة: (فتسوك وتوضأ) ظاهرهما أنه فعل التسوك قبل وضوئه.
فالأظهر: أنه يتسوك قبل وضوئه كما هو ظاهر حديث ابن عباس المتقدم.

قوله: ((وغسل الكفين ثلاثاً)) :
وذلك مستحب باتفاق أهل العلم، قال الموفق: (بغير خلاف نعلمه) على أن المستحب أن يغسل كفيه ثلاثاً فهو مستحب باتفاق العلماء.
وهو ثابت في حديث عثمان ـ كما ثبت في الصحيحن: أنه دعا بوضوء فغسل كفيه ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ثم غسل رجليه ثلاثاً ثم قال: (هكذا رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوضأ وقال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه) ، والمراد بغسل الكفين: أن يغسل يديه من أطراف الأصابع إلى الرُّسْغِ.

قوله: ((ويجب من نوم ليل ناقض للوضوء)) :
تقدم هذا، وأنه هو مذهب الحنابلة وأنه هو الراجح وهو وجوب غسل الكفين لمن استيقظ من النوم خلافاً للجمهور.
قلت: مراد شيخنا بوجوبه ـ أي لمن أراد أن يغمس بده في الإناء وليس مطلقاً (أبو حافظ) .

قوله: ((والبداءة بمضمضة واستنشاق والمبالغة فيهما لغير صائم)) :
((البداءة بالمضمضة والاستنشاق)) : أي المستحب أن يبدأ بالمضمضة ثم الاستنشاق وأن يكون ذلك قبل غسل الوجه.


ودليل ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم (تمضمض ثم استنشق) فأتى بلفظة (ثم) التي تفيد الترتيب.
ـ وهل هذا الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والترتيب بينهما وبين الوجه، هل هو واجب أم لا؟.
سيأتي الكلام على هذه المسألة، وأن مذهب الحنابلة الاستحباب.
ـ والمتسحب له أن يكونا ـ أي المضمضة والاستنشاق ـ من غرفه واحدة، لما ثبت في المتفق عليه من حديث عبد الله بن زيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات) فهو قد تمضمض واستنشق ثلاثاً، وكان ذلك بثلاث غرفات فكل مرة بغرفة واحدة.
ـ والمتسحب أن يكون استنثاره بيده اليسرى، كما صح ذلك في سنن النسائي بإسناد صحيح.
والمضمضة هي: تحريك الماء في الفم.
والاستنشاق هو: إدخاله إلى الإنف.
والإستنثار هو: طرحه منه.
والأظهر أن المضمضة والاستنشاق تكون باليد اليمنى؛ لأنهما من التعبد لله، بخلاف الإستنثار فإنه إزالة أذى وإخراجه، فاستحب أن يكون ذلك بيده اليسرى.
ـ وقد روى أبو داود في سننه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفصل بين المضمضة والاستنشاق) (1) أي يتمضمض بكف ثم يستنشق بكف آخر.
لكن الحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وقد قال ابن القيم: (لم يجىء في الفصل بين المضمضة والاستنشاق حديث صحيح البتة) .
وقد ذكر صاحب الفتح حديثاً رواه ابن السكن من حديث عثمان وعلي وفيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصل بين المضمضة والإشتنشاق) ولم يذكر سنده، وسكت عنه الحافظ والقاعدة: أن ما سكت عنه الحافظ فإنه حسن عنده.
ولكن مع ذلك نكون متوقفين في هذا الحديث الذي سكت عنه، ولم يسق سنده لا سيما وأن ابن القيم ذكر أنه لم يجىء فيه حديث صحيح، ولا سيما أنه ثبت لنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتمضمض ويستنشق من كف واحدة.


قوله: ((والمبالغة فيهما لغير صائم)) : فالمستحب له أن يبالغ فيهما ـ أي المضمضة والاستنشاق ـ إن لم يكن صائماً لما روى الأربعة وأحمد من حديث لقيط بن صبرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: (أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)
وقوله: (بالغ في الاستنشاق) : فيه أن السنة في الاستنشاق ومثله المضمضة المبالغة إن لم يكن صائماً.
والمبالغة في الاستنشاق ليست مجرد إدخال إلى الأنف بل هي أشد من ذلك بأن يجذب الماء بنفسه حتى يصل إلى أقصى أنفه.
ـ وأما المبالغة في المضمضة فهي أن يحرك الماء في أقاصي فمه، وقد يستدل عليها بقوله: (أسبغ الوضوء) .
إذن: يستحب له أن يبالغ في المضمضة والاستنشاق ما لم يكن صائماً.
ـ وفي قوله: (أسبغ الوضوء) : فيه أن المشروع إسباغ الوضوء، وهو إتمامه وتوفيته وتكميله، فإن كان في الواجبات فهو واجب، وإن كان في المستحبات فهو مستحب.
ـ وهل من المشروع أن يزيد على المفروض بأن يغسل اليدين إلى العضدين أو المنكبين ويغسل الرجلين إلى الساقين، هل يستحب هذا أم لا؟
ـ قولان لأهل العلم:
1ـ فمذهب جمهور أهل العلم إلى أن ذلك مستحب واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين فمن آثار الوضوء من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) .
وراوي هذا الحديث وهو أبو هريرة ثبت عنه ـ كما في مسلم ـ أنه غسل يديه حتى كاد أن يبلغ المنكبين وغسل رجليه حتى ارتفع في الساقين) فمذهبهم أنه يستحب أن يزيد على المفروض.
2ـ وذهب المالكية وهو روايه عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين ـ ذهبوا إلى أن المستحب عدم الزيادة على المفروض بل يبقى على ما رود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ـ وأجابوا عن هذا الحديث بأن لفظة: (من استطاع منكن أن يطيل غرته فليفعل) بأن هذه مدرجة من كلام أبي هريرة.


وقد ذكر الحافظ: أن هذا الحديث ورد عن عشرة من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس في حديث واحد منهم ذكر هذه الجملة.
ـ وأن هذه الجملة لم يذكرها أحد من الرواة عن أبي هريرة إلا نعيم بن عبد الله المجمر، فثبت لنا أن هذا موقوف على أبي هريرة، فليس مرفوعاً.
فإذا ثبت هذا، فإنه قد خالف السنة، وقول الصحابي إذا خالفته السنة فليس بحجة، وقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي ـ وهذا لفظ أبي داود ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: (هكذا الوضوء فمن زاد أو نقص ـ وقوله نقص ـ في أبي داود دون غيره ـ فقد أساء وظلم) .
وتكلم الإمام مسلم في لفظة: (أو نقص) ، وتأولها البيهقي بأن المراد أن ينقص عن القيام بغسل شيء من الأعضاء، وذلك لأن غسل الأعضاء مرة مرة أو مرتين مرتين ليس فيه حرج ولا بأس.
ـ وهذا القول ـ أي عدم الاستحباب ـ هو الراجح، ولم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يزيد على المرفوع.
ـ أما ما ثبت في مسلم أن أبا هريرة كان يغسل يديه حتى يشرع في العضد، ويغسل رجليه حتى يشرع في الساق ويقول: (هكذا رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوضأ) .
فالجواب:
أن هذا نحن نقول به، ولا ننكر ذلك، وذلك بأن يغسل يديه حتى يشرع في العضد أن بداية العضد؛ لأنه يكون قد تيقن من غسل المرفقين.
ومثل ذلك عندما يغسل رجليه فيدير الماء على الكعبين فإنه يكون قد شرع في الساق، وَغُسل الكعبين واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ـ وقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث لقيط بن صبرة: (وخلل بين الأصابع) .
فيه أن المشروع أن يخلل بين أصابعه.
والتخليل: إدخال الشيء في خلل شيء آخر.
قال تعالى: (لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) (1) أي لأسرعوا فيما بينكم في إبقاء الفتنة وبثها فيما بينكم.
فهذا فيه مشروعية تخليل الأصابع، ولفظه (الأصابع) عام في أصابع اليدين والرجلين.


وقد ورد هذا مصرحاً به فيما رواه الترمذي بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فخلل بين أصابعك) (1) .
أما تخليل أصابع اليدين فهو بأن يدخل أصابع كل يد في الآخر بمعنى يشبك بين أصابعه.
ـ وأما تخليل أصابع الرجلين، فقد ورد في الترمذي وابن ماجة بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يخلل أصابع ـ وفي روايه يُدَلِّك ـ رجليه بخنصره) (2) .
والأظهر: أن هذه الخنصر هي خنصر اليد اليسرى؛ لأن ذلك في الغالب يكون موضع قذر وأذى فاستحب أن يكون باليد اليسرى.
ـ إذن: يشرع له أن يخلل أصابعه.
فإذن ثبت له أن الماء لم يصل فإنه يجب عليه أن يفعل ذلك ـ أي التخليل.
ولكن هذا التخليل لمزيد الطهارة ولكمالها.
أما إذا ثبت له أن شيئاً من ذلك لم يصل إليه الماء، فإنه يجب عليه التخليل فيوصل الماء إلى هذا الموضع الذي لم يصل إليه الماء.

قوله: ((وتخليل اللحية الكثيفة والأصابع)) :
تقدم الكلام على تخليل الأصابع.
أما تخليل اللحية، فقوله (الكثيفة) : قيد يُخْرِج اللحية الخفيفة وضابط الخفيفة: التي تتضح منها البشرة، فإذا كانت البشرة تتضح منها فيجب عليه تخليلها؛ لأنها ظاهرة من الوجه، والوجه يجب أن يغسل، كما قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) (3) .
ـ أما اللحية الكثيفة: فهي التي لا تتضح منها البشرة.
فأما ظاهرها فيجب غسله؛ لأنها ظاهرة من الوجه، وقد قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) .
ـ وأما باطنها فيستحب تخليله.
يدل على ذلك ما رواه الترمذي وغيره من حديث عثمان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (كان يخلل لحيته) وهذا الحديث له طرق كثيرة، حتى ذكر ابن القيم أنه قد ورد عن ثلاثة عشرة صحابياً، فالحديث ثابت وقد قال الإمام أحمد: (لم يثبت في تخليل اللحية شيء) .
ـ لكن هذه الطرق الكثيرة تتظافر على إثباته.


ـ ولما لم ينقل نقلاً بيناً ظاهراً فإنه يستدل به على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يديم ذلك.
لذا قال ابن القيم: (وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله ولم يكن يداوم عليه) (1) .
لأن أكثر الأحاديث في صفة وضوء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تنقل تخليل لحيته: (أنظر شرح البلوغ للشيخ ـ حفظه الله ـ فإن فيه حديثاً عن ابن عباس يدل على ذلك) .
لذا ذهب جماهير العلماء إلى أن ذلك ليس بواجب ـ أي التخليل.
ـ وذهب طائفة من العلماء إلى أن ذلك واجب.
ـ والأظهر ما تقدم وهو مذهب جماهير أهل العلم (المالكية والأحناف والشافعية والحنابلة) ـ إلى أنه ليس بواجب.
ودليل استحبابه حديث عثمان المتقدم.
ـ وصفة التخليل: ما ورد في أبي داود بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يأخذ كفاً من الماء فيدخله تحت حنكه ثم يخلل لحيته، ويقول: (هكذا أمرني ربي عز وجل) (2) .
والحديث: إسناده حسن.
فإذن: تخليل اللحية الخفيفة واجب.
أما الكثيفة فهو مستحب تخليلها، أما غسل ظاهرها فهو واجب؛ لأنه من الوجه الذي يواجه به.
ـ وينبغي أن يكون هذا لما هو ظاهر منها في الوجه.
أما ما يكون على الحلق فإن إيجاب غسله موضع نظر ومع ذلك فالإحتياط أن يعمم ذلك.
قوله: ((والتيامن)) :
لما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) (3) .
وثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة وأبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم) (4) .
فهذا يدل على أن المشروع أن يبدأ بميامنه، وهو مستحب باتفاق أهل العلم.
ـ وليس هناك أحد من أهل العلم أوجب الإعادة في المخالفة.
فإذا غسل يده اليسرى قبل اليمنى فوضوؤه صحيح لكنه ترك المستحب والسنة.

قوله: ((وأخذ ماء جديد لأذنيه)) :


هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو أن المستحب أن يأخذ لأذهيه ماء غير الذي أخذه لرأسه.
وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، واستدلوا:
بما رواه البيهقي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي مسح به رأسه) (1) .
لكن الحديث شاذ، فقد رواه مسلم بسنده نفسه: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح رأسه بغير فضل يديه) (2) .
فالرأس عضو واليدان عضو آخر، وقد مسح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـالرأس بغير فضل يديه، أما الأذنان فإنهما من الرأس، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الأذنان من الرأس) (3) رواه أحمد وغيره، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.
وقد روى أبو داود من حديث الرُّبيِّع بنت عفراء أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة) (4) وإسناده حسن.
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ـ أي أنه يمسح أذنيه بالماء الذي مسح به رأسه ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ وقد ضَعَّف ابن القيم الحديث واختار هذا القول طائفة من أصحاب أحمد كالمجد ابن تيمية والقاضي.
إذن: المستحب له أن يمسح أذنيه بماء رأسه فيأخذ ماء واحدا فيمسح به رأسه وأذنيه ـ هذا هو الراجح.

قوله: ((والغسلة الثانية والثالثة)) :
هذه سنة من سنن الوضوء وهي الغسلة الثانية والثالثة فغسل اليدين المرة الثانية والثالثة مستحب، وأما الغسلة الأولى فهي فرض.
وغسل الوجه ثلاثاً، الغسلة الأولى فرض، أما الثانية والثالثة بهما فمستحبان.
وقد ثبت في البخاري عن ابن عباس: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ مرة مرة) (5) .
وثبت في البخاري من حديث عبد الله بن زيد: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ مرتين مرتين) (6) .


وثبت في البخاري من حديث عثمان بن عفان: (أن ـ صلى الله عليه وسلم ـ: توضأ ثلاثاً ثلاثاً (1)) ورواه أيضاً أبو داود الذي تقدم ذكره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ ثلاثاً ثلاثاً.
ـ وقد ثبت أنه توضأ فخالف، فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله ابن زيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: غسل يديه ثلاثاً وتمضمض واستنشق ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه) .
فهنا غَسَل الرجلين مرة وَغَسَلَ يديه مرتين وغَسَلَ بقية الأعضاء ثلاثاً ثلاثاً.
وكل ذلك سنة، على أن الأكثر في حاله هو أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً.
والفرض إنما هو الغسلة الأولى، وما سواها فهو سنة.
ـ والذي ينبغي له أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، وأن يكون غالب حاله الوضوء ثلاثاً ثلاثاً.
لأن ما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـفعله في صور مختلفة، فالسنة أن يفعل هكذا تارة وهكذا تارة.
فإذن السنة: أن يتوضأ مرة مرة، وكذلك مرتين مرتين وكذلك ثلاثاً ثلاثاً وكذلك أن يخالف.
فهذه من سنن الوضوء.

والحمد لله رب العالمين.

انتهى: (باب: السواك وسنن والوضوء) بحمد لله.

الدرس التاسع عشر ... السبت: 5 / 11/1414هـ

باب: ((فروض الوضوء وصفته)) :
(فروض) : الفروض جمع فرض وهو في اللغة: القطع والحز.
أما اصطلاحاً: فهو ما أمر به الشارع على وجه الإلزام.
فإذن هو مرادف للواجب وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم بل هو مذهب جمهور الفقهاء والأصوليين.
ـ وذهب الإمام أحمد في رواية وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن الفرض أكثر من الواجب، فالفرض عندهم: ما ثبت بدليل قطعي.
ـ فعلى القول الأول ـ وهو قول الجمهور ـ تسمى الصلاة فرضاً وكذلك الزكاة، وكذلك إعفاء اللحية يسمى فرضاً: أي سواء ثبت بدليل قطعي كالصلاة أو ثبت بدليل ظني كإعفاء اللحية ونحوها من الواجبات.
ـ أما على القول الثاني: فالصلاة تسمى فرضاً، لكن مثل إعفاء اللحية ونحوه يقال: واجب.


ـ وهذا في الحقيقة أولى؛ لأن هذا الإصطلاح ـ ولا مشاحة في الإصطلاح ـ فيه تمييز بين الواجبات نفسها.
فالأظهر هو القول بالتفريق بين الواجب والفرض، وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة.

قال المصنف ـ رحمه الله ـ: (فروضه ستة) :
يريد بالفروض هنا: أركان الوضوء، وذلك لأن ما ذكره المؤلف من هذه الست كلها جزء من ماهية الوضوء، وجزء الشيء ركنه.

قوله: ((غسل الوجه)) :
هذا هو الفرض الأول، ودليله قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) وهذا بالإجماع وسيأتي مزيد تفصيل له عند الكلام على صفة الوضوء.
قوله: ((والفم والأنف منه)) :
أي المضمضة والاستنشاق، فعلى ذلك المضمضة والاستنشاق فرض؛ لأنهما من الوجه، فالوجه ما يواجه به وهذه الأعضاء تتم بها المواجهة كما تتم المواجهة ببقية أجزاء الوجه.
ـ وهذا الكلام فيه نظر، فالأظهر: أن الفم والأنف ليسا من الوجه حقيقة، وذلك لأنهما وإن كانا في الظاهر من الوجه لكن الذي يتم تغسيله إنما هو باطنهما ولا شك أن الباطن ليس مما يواجه به.
كما أنهم لم يوجبوا تخليل اللحية الكثيفة وأوجبوا غسل ظاهرها، مع أن اللحية مما يواجه به، فأوجبوا غسل ظاهرها؛ لأنه من الوجه ولم يوجبوا غسل باطنها وكذلك هنا: فالأنف والفم غسل ظاهرهما يجب بالإجماع.
ـ أما باطنهما، فالراجح هو ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب المضمضة والاستنشاق لكن ليس للتعليل الذي ذكره وإنما للأدلة الشرعية الدالة على ذلك منها:
ـ ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر) (1) فهو فيه إيجاب الاستنشاق لأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم والأصل في الأمر الوجوب.
ـ وأما المضمضة فدليلها: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـقال: (إذا توضأت فمضمض) (2) فهذا أمر والأمر للوجوب.


ـ ولم يصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث البته ـ كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم ـ أنه ترك المضمضة والاستنشاق.
ـ وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المضمضة والاستنشاق ليسا بواجبين وإنما سنتان.
قالوا: لأن الله ـ عز وجل ـ في الآية إنما أمر بغسل الوجه ولم يأمر بالمضمضة والاستنشاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ـ كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح: (توضأ كما أمرك الله) (1) ، وليس مما أمر الله به المضمضة والاستنشاق.
وفي هذا الإستدلال نظر، وذلك لأن ما يأمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو مثل ما يأمر به الله، كما أن ما يحرمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ما يحرمه الله ـ كما صح في الحديث، فقد أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمضمضة والاستنشاق، وداوم على ذلك ولم يصح عنه أنه ترك ذلك البتة، وقد أمرنا الله بمتابعته وسماع أمره، فعلى ذلك قوله: (توضأ كما أمرك الله) وقد أمرنا الله بطاعة رسوله، وقد أمر رسوله بالمضمضة والاستنشاق.
فالراجح: هو ما ذهب إليه الحنابلة من فرضية المضمضة والاستنشاق.

قوله: ((وغسل اليدين)) :
وهذا هو الفرض الثاني ودليله قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) (2) .
وسيأتي تفصيل الكلام على ذلك عند صفة الوضوء.

قوله: ((ومسح الرأس)) :
هذا الفرض الثالث وهو مجمع عليه وأنه من أركان الوضوء.

قوله: ((وفيه الأذنان)) :
1ـ أي أن الأذنين من الرأس، فيجب مسحهما كما يجب مسح الرأس، وهذا هو مذهب الحنابلة.
2ـ وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم إيجاب ذلك، ورأوا أن مسح الأذنين من المستحبات المشروعات وليس من المفترضات الواجبات.
ودليل الحنابلة: ما روى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (الأذنان من الرأس) رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي أمامة.
ورواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة.


ورواه غيرهم من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأصحها إسناداً ما رواه الطبراني عن ابن عباس بإسناد جيد وهذه الطرق الكثيرة ترتقي بالحديث إلى درجة الصحة، لذا ذهب إليه الإمام أحمد فقال: (إن الأذنين من الرأس) ، فيجب مسحهما كما يجب مسح الرأس.
أما الجمهور: فقالوا: لم يصح هذا الحديث، فعلى ذلك الأذنان ليسا من الرأس فلا يجب مسحهما وإنما يستحب.
ـ وإذا ثبت لنا الحديث فإننا نقول بإيجاب ذلك، وهذا القول هو الراجح وهو مذهب الحنابلة من وجوب مسح الأذنين وإنهما من الرأس.

قوله: ((وغسل الرجلين)) :
وهذا هو الفرض الرابع، وهو فرض بالإجماع، وقد قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم 000 وأرجلكم) .

قوله: ((والترتيب)) :
الترتيب فرض عند الحنابلة والشافعية.
ودليلهم: أن الله عز وجل في كتابه الكريم قد أدخل الممسوح بين المغسولات، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) فأدخل الله الممسوح بين المغسولات، فحينئذ: فصل النظير عن نظيره، وهذا لا فائدة منه إلا الترتيب وفرضيته لأن الآية في ذكر فرائض الوضوء.
ولو أن رجلا قال: (أكرمت زيداً، وأهنت عمراً، وأكرمت بكراً) فهذا الكلام من العِيِّ لا من البيان.
وأنه فصل النظير عن نظيره والواجب ألا يفعل، وأما أن يفصل فهذا من العي.
والله عز وجل ينزه عن ذلك فلا بد من فائده.
لذا استدل به أهل العلم على إيجاب الترتيب، لأن الله أدخل الممسوح من المغسولات.
ولا يقال: إن الترتيب مستحب؛ لأن الآية قررته في سياق الفرض وليس في سياق الاستحباب.
ـ كما أن الله ـ عز وجل ـ لم يرتب الأعضاء الأعلى فالأعلى أو الأقرب فالأقرب بل رتبه هكذا مختلفة، وذلك لا فائدة منه إلا إيجاب الترتيب.
ـ ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصح عنه أنه توضأ غير مرتب أبداً، كما قرر هذا ابن تيمية وابن القيم والنووي وغيرهم.


فالراجح: هو إيجاب الترتيب.
فلو أن رجلاً توضأ غير مرتب كأن يمسح الرأس قبل غسل اليدين فإن وضوءه باطل فيجب عليه أن يعيد الوضوء إن كان هناك فاضل.
أما إن لم يكن هناك فاصل فإنه يصح منه غسل اليدين، فيجب عليه أن يمسح الرأس مرة أخرى.
فإن توضأ منكساً أربع مرات فهل يصح وضوءه أم لا؟
بمعنى: غسل رجليه ثم مسح رأسه ثم غسل يديه ثم غسل وجهه وفعل ذلك أربع مرات.
قالوا: يصح وضوؤه؛ لأن كل وضوء من هذه الوضوءات المنكسة يصح منها عضو واحد.
فعلى الوضوء الأول يصح غسل الوجه، وفي الوضوء الثاني يصح غسل اليدين وفي الوضوء الثالث يصح مسح الرأس وفي الوضوء الرابع يصح غسل الرجلين. وهي صفة غريبة ولكن ذكرناها للفائدة.
ـ وذهب المالكية والأحناف إلى عدم وجوب الترتيب.

قوله: ((والموالاة وهي أَلاَّ يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله)) :
هذا الفرض السادس من فروض الوضوء.
وهنا: ذكر فرضية الموالاة وذكر ضابطها، فيه مبحثان:
ـ المبحث الأول: في فرضيتها.
(1) ـ مذهب الحنابلة هو فرضية الموالاة، وأن الموالاة بين الأعضاء فرض وهذا مذهب المالكية.
واستدلوا: بما ثبت في المسند بإسناد جيد كما قال الإمام أحمد وصححه ابن كثير، وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: رأى رجلاً يصلي وعلى قدمه لمعة قدر درهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة) (1) .
ووجه ذلك: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمره أن يكتفي بغسل هذه البقعة التي لم يصبها الماء بل أمره أن يعيد الوضوء كله، فلو لم تكن الموالاة واجبة لاكتفى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يغسل هذا المأمور البقعة التي لم يصبها الماء.
ـ وقد ثبت في مسلم: أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (إرجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى (2)) .


فهنا قوله: (فأحسن وضوءك) يفسره بالرواية المتقدمة وفي رواية لأحمد بإسناد فيه ابن لهيعة وهو ضعيف لكن ذلك التفسير يقوي هذه اللفظة: (ثم رجع فتوضأ ثم صلى) .
قالوا: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المفسر للقرآن بفعله، لم يثبت عنه أنه توضأ غير موال بل كل وضوئه على الموالاة.
(2) ـ وذهب الشافعية والأحناف إلى أن الموالاة غير واجبة بل هي مستحبة.
ودليلهم: أنه لم يثبت في الآية المتقدمة، وقد قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق 00) الآية.
والواو لا تفيد التعقيب، بل لو تَرَاخَى فإنه لا حرج.
ـ لكن تقدم الدليل الدال على ذلك من السنة، ثم إن القرآن قد فسره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفعله، وقد تقرر عند الأصوليين أن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمجمل القرآن يعطي حكم ذلك المجمل.
مثاله: النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى المغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً والفجر ركعتين والظهر والعصر أربعاً، فهذا فعل وهو بيان لمجمل في القرآن، فيكون فرضاً كما أن قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) (1) فرض.
ـ المبحث الثاني: في ضابط الموالاة:
قال المؤلف: ((وهي ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله)) : لو أن رجلا غسل وجهه ثم جلس زمناً فغسل يديه هذا الزمن قد جف فيه الماء الذي على وجهه، فحينئذ لا يكون وضوؤه صحيحاً بل يبطل لانتفاء الموالاة.
ـ فإن قيل لهم: لكن الزمان يختلف، ففي الشتاء يتأخر الجفاف وفي الصيف يكون سريعاً.
قالوا: نقيد ذلك بالزمان المعتدل.
فمثلاً: الزمان المعتدل خمس دقائق لأن يجف الماء عن الوجه فلو لم يجف الماء فجلس خمس دقائق فإنه يكون قد قطع الموالاة، وفي الصيف ذهب الماء بدقيقة بسبب حرارة الشمس.
فنقول: ينتظر خمس دقائق؛ لأنه هو الزمان المعتدل.
هذا هو ضابط الحنابلة، وهو ضابط الشافعية أيضا القائلين باستحباب الموالاة فإنهم يستحبونها وهو ضابطها عندهم.


ـ وهذا الضابط أولاً: لا دليل عليه، ثانياً: يشق ضبطه فإن عامة الناس لا يمكنهم أن يضبطوا فعل ذلك.
فإيقاع هذا الضابط في الواقع فيه مشقة وعسر.
ـ وذكر بعض أهل العلم ضابطاً آخر وهو أصح منه وهو رواية عن الإمام أحمد، وقال الخلال فيها: (وهو الأشبه بقوله والعمل عليه) ، والضباط هو: إرجاع ذلك إلى العرف.
فإذا كان هناك فاصل عرفي ثبت عرفاً أنه طويل فإنه تنتفي الموالاة، وإن كان قصيراً فإن الموالاة لا تنتفي.
مثال: رجل توضأ فلم يغسل عقبيه، ثم ذهب إلى المسجد فلما دخله أخبره بعض المصلين، بهذا الموضع الذي لم يصله الماء، فهذا فاصل طويل عرفاً.
لكن لو أن رجلاً توضأ وبمجرد ما انتهى من الوضوء أخبر أن موضعاً من يديه لم يصبه الماء فإنه فاصل قصير عرفاً فلا يعيد.
فهذا القول هو الأرجح وهو أن ذلك راجع إلى العرف وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها بعض أصحابه.
ـ ومثل ذلك: كل ما لم يثبت في الشرع ولا في اللغة تحديد له فإنه يقيد بالعرف.

فإذن: الموالاة فرض من فروض الوضوء وضابطها: ألا يفصل بنهما بفاصل طويل عرفاً.
ـ فإن قيل: لو أن رجلاً توضأ فغسل وجهه ويديه ثم انقطع عنه الماء بأي سبب من الأسباب ثم بعد ذلك حضر الماء، بعد فاصل طويل عرفاً ـ فهل يمسح رأسه ويغسل رجليه أم أنه يستأنف؟
قولان لأهل العلم:
1ـ فالمشهور في مذهب الحنابلة أنه يعيد الوضوء؛ لأن الموالاة شرط فوجب أن يأتي بها ولا يسقط بالعذر.
2ـ وذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن العذر مسقط للموالاة، لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2) .
ـ وأوضح منه في الاستدلال،ما في الصحيح ـ وسيأتي ذكره إن شاء الله ـ من العمل الكثير في الصلاة، فإنه يقتل الحية والعقرب، ونحو ذلك ثم يعود إلى الصلاة.


فهذا قاطع عن الصلاة وهو معذور فيه ومع ذلك فإنه لا يعيد الصلاة بل يبني عليها.
ـ وهذا القول فيه قوة.
ـ والقول الأول: فيه أيضا: فإنه يمكن أن يجاب عما استدلوا به:
بأن قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، أن يقولوا: أنه لا مشقة في إعادة الوضوء، فإنه لا مشقة في أن يوافق أمر الله عز وجل بالإتيان بالوضوء موالياً، فليس في ذلك شيء به المشقة.
ـ وأما الإستدلال بقتل الحية ونحوها أثناء الصلاة فيمكن أن يقال: أنه مازال في الصلاة، فهو يصلي لله وهو مازال في نيته لم يقطع صلاته، ومازال يتعبد لله بالصلاة وأجيز له أن يتحرك بهذه الحركة التي هي في الظاهر منافية للصلاة لكنها أجيزت من قبل الشارع للضرورة.
ـ ولا شك أن كلا القولين فيه قوة إلا أن الأحوط ما ذهب إليه الحنابلة من أنه لا يسقط بالعذر.
ـ وقيل ذلك النسيان والجهل والإكراه، فإنه لا يسقط بها.
بل الذي يسقط إنما هو الإثم.
ـ فلو أن رجلاً ترك الموالاة جاهلاً أو ناسياً فإنه لا إثم عليه ولكن يجب عليه أن يعيد الوضوء.
ودليل ذلك ما تقدم من الحديث، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى الرجل الذي في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء أمره أن يعيد الوضوء ولم يستفصل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه أهو ناسي أم لا، أهو جاهلٌ أم لا؟
ونحو ذلك: وترك الإستفصال في مقام الإحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما هو مقعد عند الأصوليين فهذه من العمومات.
إذن: الراجح أن المولاة لا تسقط بالإكراه ولا بالنسيان ولا بالجهل.
ـ وهل تسقط بالعذر أم لا؟
تقدم البحث في هذا وتقوية كلا القولين وأن الإحتياط ما ذهب إليه أهل القول الأول.
مسألة:


إذا ثبت وجوب الترتيب بين الأعضاء الأربعة، فهل يجب عليه أن يرتب بين المضمضة والاستنشاق، وبين المضمضة والاستنشاق والوجه، وبين المضمضة والاستنشاق وبقية الأعضاء؟ هل يجب ألا يرتب بين المضمضة والاستنشاق أم لا؟ فلو أنه استنشق قبل أن يتمضمض فهل يكون فعله جائزاً أم لا؟.
1ـ قال الحنابلة: فعله جائز؛ لأنهما من الوجه.
فلو أن رجلاً غسل أعلى الوجه قبل أسفله أو أسفله قبل أعلاه فإنه لا حرج عليه في ذلك.
2ـ ووجه صاحب الفروع وهو مذهب لبعض أهل العلم وجوب ذلك، وهو أظهر، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر بهما، لم يثبت عنه تقديم الاستنشاق على المضمضة بل كان يتمضمض ثم يستنشق.
فالأظهر: هو إيجاب ذلك كما هو فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أمر بهما وكان على هذه الطريقة في تقديم المضمضة على الاستنشاق.
ـ فإن قدم الوجه على المضمضة والاستنشاق.
قال الحنابلة: لا حرج لأنهما من الوجه.
ـ فإن قدم غيرهما عليهما، فكان منه أن غسل وجهه ثم غسل يديه ثم مسح رأسه ثم تمضمض واستنشق فهل يكون صحيحاً أم لا؟
روايتان عن الإمام أحمد وهما قولان في المذهب:
1ـ الأول: أن المضمضة والاستنشاق يجب أن يكونا مع غسل الوجه فحينئذ يجب أن يقدما على غسل اليدين؛ لأنهما من أجزاء الوجه.
قالوا: وهذا المحفوظ من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح من حديث عثمان، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، وفي السنن من حديث علي بن أبي طالب.
بأن المحفوظ هو تقديم المضمضة والاستنشاق مع الوجه على بقية الأعضاء.
2ـ الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أن ذلك جائز وهو مذهب بعض أصحابه.


ودليل ذلك: ما صح في سنن أبي داود من حديث المقدام بن معد يكرب الكندي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (غسل كفيه ثلاثاً وغسل وجهه ثلاثاً ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما) رواه الإمام أحمد وزاد: (ثم غسل رجليه) (1) .
ورواه الضياء في (المختارة) ، وقد اشترط فيها أن تكون كل الأحاديث التي فيها صحيحة ثابتة، وقد أورد فيها هذا الحديث.
فهذا الحديث يدل على صحة الرواية الثانية فالحديث إسناده صحيح وهو ثابت.
وهذا يقوي القول المتقدم وأن المضمضة والاستنشاق ليسا من الوجه بل هي عضوان منفردان عنه.
فعلى ذلك إذا قدم غسل اليدين على المضمضة والاستنشاق فإنه يجوز ذلك مادام أنه قد فعلهما لأن الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وبقية الأعضاء ليس بمفترض.
وهذا مذهب أحمد في رواية واختاره طائفة من أصحاب أحمد.
إذن: المضمضة والاستنشاق لها باب آخر في باب الترتيب.
أما تقديم الاستنشاق على المضمضة فالمشهور في المذهب جوازه، وقد تقدم أن الراجح هو وجوب تقديم المضمضة على الاستنشاق.

وتقديمهما على الوجه وعلى بقية الأعضاء تقدم أن الراجح جواز تقديم بقية الأعضاء على المضمضة والاستنشاق وكذلك يجوز تقديم الوجه على المضمضة والاستنشاق.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس العشرون ... …الأحد: 6 /11/1414هـ

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: ((النية شرط لطهارة الأحداث كلها)) :
النية: هي القصد والعزم على الفعل، ومحلها القلب ولا يشرع التلفظ بها إلا في الحج لثبوت ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلا فالنية محلها القلب وليس للسان فيها مدخل أصلاً.
ـ وأعلم أن الجهر بالنية قد اتفق بالعلماء على بدعيته حتى ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن صاحبه يستحق التعزيز لأنه من البدع المحدثة في الدين.
ـ فإن أسرَّ به ولم يجهر، ويزيد بالاسرار به أن يتلفظ بلسانه من غير أن يجهر به مثل قراءة القرآن في الصلاة فهل يشرع؟


ـ المشهور في المذهب مشرعية ذلك، قالوا: ليواطىء اللسان القلب.
ـ أما الإمام أحمد فإن نصَّه الذي بقي عليه وهو مذهب مالك أن ذلك ليس بمشروع وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه وهو الصواب؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يثبت عنه ذلك ولم يثبت عن أصحابه، وما كان كذلك فإنه بدعه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
فالجهر أو الإسرار بالنية بدعة، فالنية محلها القلب.
ـ والأصل في النية قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) (1) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب وهو حديث عظيم وهو ثلث الإسلام كما قال غير واحد من أهل العلم، فإن العبادات كلها مبناها على هذا الحديث العظيم.
لذا قال المؤلف: (النية شرط لطهارة الأحداث كلها) .
والشرط: هو ما تنعدم العبادة بانعدامه وتبطل بفقدانه ولكن الشرط إذا وجد فلا يلزم وجودها.
فمثلاً: الوضوء شرط من شروط الصلاة، فإذا فقد أو اختل شرط من شروطه فإن العبادة تكون باطلة، ولكن إذا وجد الوضوء فليس شرطاً أن توجد الصلاة، هذا توضيحه.
أما تعريفه فهو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.
فالنية شرط في العبادات كلها وهي شرط من شروط الطهارة للأحداث كلها.
فإذا توضأ بلا نية كأن يتوضأ للتبريد ونحوه فإن هذا الوضوء باطل؛ لأنه فقد شرطاً وهو النية، فهو لم ينو بوضوئه التعبد لله، وإنما نوى التبريد ونحوه.

قوله: ((فينوي رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها)) :
بمعنى: رجل يريد أن يتوضأ فماذا ينوي؟
قال: (ينوي رفع الحدث 0000) .
وقد تقدم تعريف الحديث وأنه: الوصف القائم في البدن الذي يمنع من الصلاة ونحوها.
ـ فإذا فعل ناقضا من تواقض الوضوء فإنه يكون متصفاً بهذا الوصف، فإذا توضأ وهو ينوي رفع الحديث فإن حدثه يرتفع ويكون مجزئاً عنه، وهذا مذهب جماهير العلماء.


قوله: ((أو الطهارة لما لا يباح إلا بها)) :
هناك أشياء لا تباح إلا بالطهارة، مثل الصلاة ومس المصحف، والطواف على قول، ونحو ذلك فهذه العبادات لا تصح إلا بالطهارة، فإذا فعل الطهارة كأن يتوضأ ليصلي أو ليطوف بالبيت أو ليمس المصحف فإن ذلك يجزئ عنه عند جمهور العلماء لأن هذا الفعل منه متضمن لرفع الحدث؛ لأن هذه الأفعال لا تصح إلا بالطهارة ورفع الحدث.
ـ فلو أن رجلاً تطهر ليمس المصحف، فيجوز له أن يصلي وغير ذلك من العبادات التي لا تصح إلا بالطهارة؛ لأنه قد تطهر لما لا يباح إلا بالطهارة.
فإذن: إذا توضأ لما لا تباح العبادات إلا به، فإن وضوءه صحيح وله أن يصلي فيه وأن يتعبد لله فيه بسائر العبادات.

قوله: ((فإن نَوَى ما تسن له الطهارة كقراءة أو تجديداً مسنوناً ناسياً حَدَثه ارتفع)) :
فإذا نوى ما تسن له الطهارة كقراءة القرآن من غير مسٍ للمصحف أو نية ذكر الله عز وجل أو لغيرها من النيات التي تكون لأعمال لا تشترط فيها الطهارة فهل له أن يصلي فيه الصلاة المفروضة وغير ذلك؟
قال المؤلف: ((نعم يصح أن يصلي فيه الصلاة المفروضة))
ـ وفي قول في المذهب أنه لا يجزئ عنه.
ـ والأصح هو المشهور في المذهب؛ لأن هذا الفعل متضمن لرفع الحدث.
فإن هذا الوضوء فيه متضمن لرفع الحدث؛ لأن هذا الوصف القائم بالبدن وهو الحدث يكره له أن يقرأ القرآن وهو عليه فتوضأ بنية قراءة القرآن فيكون متضمناً لرفع الحدث القائم به.
فعلى ذلك: إذا توضأ لما يسن له الطهارة، فالراجح وهو المشهور في المذهب أنه يجزئ ذلك.

قوله: ((أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه ارتفع)) : فهنا قيَّد التجديد بقيدين:
1ـ القيد الأول: أن يكون مستوناً
2ـ القيد الثاني: أن يكون ناسياً لحدثه.
والمراد بالتجديد: الرجل يكون عليه الوضوء الشرعي الذي يمكنه أن يصلي فيه ونحو ذلك لكنه مع ذلك يستحب له أن يتوضأ وضوءاً آخر وهو التجديد.


وفي البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان يتوضأ لكل صلاة) (1) .
فتجديد الوضوء سنة.
وأما ما روى الأربعة إلا النسائي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات) (2) فهو ضعيف.
فالتجديد في الأصل سنة فلماذا قيده هنا بقوله: (مسنوناً) .
قالوا: المسنون هو الوضوء الذي فعل بعد وضوء قد صلي فيه.
فعلى ذلك: لو أن رجلاً توضأ لصلاة الظهر ثم توضأ مرة أخرى لها قبل أن يصليها فهذا ليس بمشروع، فالمسنون إذن هو: التجديد الطارئ على وضوءٍ قد صُلِّيَ فيه.
ـ وقيْده بفيد آخر وهو قوله: (ناسياً حدثه) .
فلو أن رجلاً نوى التجديد وهو ذاكر للحدث فإنه لا يجزئ عنه لأنه متلاعب بالشرع، فكيف ينوي هذه النية وهو ليس على طهارة شرعية؛ لأنه ذاكر لحدثه فحينئذ لا يكون فعل التجديد الشرعي، لأن التجديد الشرعي إنما يكون مع ثبوت الوضوء السابق وهذا لا وضوء عليه فحينئذ لا يجزئ عنه.
ـ إذن: إذا ثبت التجديد بهذين الشرطين وهما: أن يكون مسنوناً، وأن يكون ناسياً لحدثه، فإنه يرتفع الحدث بمعنى: رجل عليه حدث، فلما أراد أن يصلي الظهر ظن أنه مازال على وضوئه فتوضأ وهو ناسٍ لحدثه، فهذا الوضوء منه سنة؛ لأنه طارئ على وضوئه لصلاة الفجر مثلاً فتَذَكَّر بعد أن انتهى من الوضوء أو بعد الصلاة، تذكر أنه لا وضوء له سابق فيكون وضوؤه صحيحاً.
هذا هو المشهور في المذهب.
ـ وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار أبي الخطاب والقاضي، ولعله مذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك لا يجزئ عنه.
ـ أما أهل القول الأول: فقالوا: هي طهارة شرعية؛ لأنه إنما جدد وضوءه وهو ناسٍ لحدثه فحينئذ تكون طهارته طهارة شرعية فمادام كذلك فإنها تجزئ عنه برفع حدثه.
ـ أما أهل القول الثاني: فقالوا: وإن نوى الطهارة الشرعية لكنه لم ينو طهارة ترتفع بها الأحداث، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) .
وهذا القول أصح.


فالأصح أنه لا يجزئ عنه ـ كما لو تصدق بصدقة بنية أنها صدقة فإنها لا تجزئ عن الزكاة.
فإن النية: تمييز العبادة عن العبادة، فالنية تمييز غسل العبادة عن غسل التبريد، وكذلك تميز الطهارة المستحبة عن الطهارة الواجبة.
فهذا قد نوى طهارة شرعية لكنها ليست متضمنه لرفع الحدث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) .

قوله: ((وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب وكذا عكسه)) :
فإذا نوى غسلاً مسنوناً كغسل الجمعة على مذهب جمهور الفقهاء (أجزأ عن واجب) كغسل الجنابة.
مثال: رجل أصبح يوم الجمعة وعليه جنابة فاغتسل ناوياً غسل الجمعة، فهل يجزئ عن غسل الجنابة؟.
قالوا: نعم، وقيده بعضهم: مع نسيان الحدث الأكبر.
إذن: هذا هو المشهور في المذهب وأنه إذا اغتسل بنية الغسل المسنونة كغسل الجمعة أو غسل العيد ولم ينو رفع الجنابة فإن ذلك يجزئ عنه.
والعلة هي: ما تقدم لأنها طهارة شرعية.
ـ وفي هذا ضعف كما تقدم.
ـ فالأرجح: وهو قول للحنابلة أنها لا تجزئ لحديث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا قد تطهر طهارة لا ترفع بمثلها الأحداث وإنما تطهر طهارة مستحبه لا تطرأ على الأحداث فترفعها فهي طهارة مسنونة.
فالراجح: أنها لا تجزئ عنه.
وقد روى ابن حبان بإسناد حسن: (أن أبا قتادة رأى إبنه وهو يغتسل يوم الجمعة، فقال: (إن كنت على جنابة فأعد غسلاً آخر) (1) .
قوله: ((وكذا عكسه)) :
رجل عليه جنابة وهو في يوم جمعة فاغتسل عن الجنابة فهل يجزئ عنه في غسل الجمعة أم لا؟
قالوا: نعم يجزئ عنه.
واعلم أن العلماء قد اتفقوا على أنه إذا نواهما معاً فإنه يجزئ عنه.
أما هذه المسألة فتبحث فيما إذا انفرد بأحد النيتين، ففي المسألة السابقة إذا انفرد بنية غسل الجمعة.
وفي هذه المسألة إذا انفرد بنية رفع الجنابة فهل يجزئ عنه؟
قالوا: نعم يجزئ عنه.


وفي هذا نظر؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا لم ينو غسل الجمعة فلا يجزئ عنه، وهو قول في المذهب.
فلا تصح العبادة إلا بالنية وغسل الجمعة عبادة ولم ينوه فلا يجزئ عنه.

قوله: ((وإن اجتمعت أحداث توجب وضوءاً أو غسلاً فنوى بطهارته أحدهما ارتفع سائرها)) :
مثاله: رجل عليه ناقضان، ناقض بخارج من السبيلين، وناقض بالنوم. فتوضأ بنية رفع الحدث الناتج عن الخارج من السبيلين، فهل يرتفع حدثه مطلقاً أم يبقى الحدث المترتب على النوم؟
قال المؤلف: ((إرتفعت سائرها))
قالوا: لأنها ذات حكم واحد، وهي متداخلة في هذا الباب فإذا ارتفع أحدها ارتفع سائرها فأصبح طاهراً مطلقاً.
ـ ولكن قيده بعض الحنابلة بقيد غريب وهو: (بشرط إلا ينوي عدم ارتفاع غيره) .
بمعنى: رجل توضأ وقال: هذا عن حدث النوم وليس عن حدث الخارج عن السبيلين.
ـ وهذا في الحقيقة الذي ينوي هذه النية ليس محلاً للبحث؛ لأنه ليس أهلاً للتكليف، فمثل هذا الفعل لا يصدر في الحقيقة عن مكلف فضلاً أن تكون مسألة ولكنها في الحقيقة من غرائب العلم.
ولو قيل بمثلها وتوقع وقوعها في المكلف فالأصح أنه يرتفع حدثه وإن نوى عدم ارتفاع غيره.
لأن الحكم ليس إليه في رفع الأحداث، وإنما إلى الله ـ عز وجل ـ فمادام أنه توضأ الوضوء الشرعي عن الحدث وإن نوى عدم ارتفاع بعضها فترتفع سائرها.

قوله: ((ويجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة وهو التسمية)) :
تقدم أن النية واجبة وشرط، فإذا ثبت هذا فيجب أن يشمل النية سائر فرائض الوضوء. وأول فرائضه التسمية، فيجب أن تكون النية سابقة للتسمية.
ـ فإذا قلنا بفرضية التسمية، ثم سمَّى ولم ينو بعد ثم نوى فإنه لا تجزئ عنه؛ لأن هذا الفرض وهو التسمية الذي يختل الوضوء باختلاله لم تثبت فيه النية فيكون حينئذ باطلاً.
وهذه المسألة يدل عليها حديث: (إنما الأعمال بالنيات) .


فإذن: يجب أن تشمل النية سائر فرائض الوضوء.
كما لو أنه كبَّر تكبيرة الإحرام ثم نوى الصلاة بعد، فإنها لا تجزئ عنه، فكذلك هنا.
إذن: يجب عليه أن ينوي قبل البداءة بفرائض الوضوء.
ـ وإذا قلنا إنهما ـ أي المضمضة والاستنشاق ـ ليسا بواجبين فيجب عليه أن ينوي قبل غسل الوجه.
ـ فأول الفرائض عند الجمهور خلافاً للحنابلة هو غسل الوجه.
فيجب عليه ـ حينئذ ـ أن ينوي قبل غسل الوجه.
إذن: يجب أن تشمل النية فرائض الوضوء كلها.
ـ فإن قدمها بزمن يسير عرفاً فلا يضر ما لم يقطعها بمعنى: لا تشترط في النية أن تكون ذلك بمجرد بدئه بل لو قدمها بزمن يسير فلا حرج ما لم يقطع النية.
ـ وذهب بعض فقهاء الحنابلة كالقاضي ـ إلى أنه لو قدمها بزمن كثير فإن ذلك لا يضر ما لم يقطعها، وهذا قول قوي.

قوله: ((وتسن عند أول مسنوناتها إن وجد قبل واجب)) :
تقدم أنه يجب عليه ذلك قبل فرائضها.
ويسن له عند أول مسنوناتها إن وجد قبله واجب كغسل الكفين قبل المضمضة والاستنشاق، فإن قلنا إن التسمية ليست بواجبه فإنه يسن له أن ينوي قبل التسمية لتدخل التسمية وهي مسنونة في النية.
ـ وإن قلنا إنها واجبة فإن غسل الكفين قبل التسمية فيستحب له أن ينوي.
إذن: إذا كانت السنة في أول الوضوء قبل الواجبات فيسن له أن ينوي قبلها لتدخل السنن والمستحبات في السنة، لأنها عبادات ولا تصح العبادة إلا بالنية.
فمثلاً: لو أن رجلاً غسل كفيه ثم سمَّى ثم تمضمض أو استنشق، وهكذا لكنه قبل غسل الكفين لم ينو فإنه لا يثاب على ذلك، فالمشروع له أن ينوي.
ـ هذا على تقدير وجود السنة قبل الواجب.
وإلا فالواجب أن يبدأ أولاً بالتسمية حتى يثبت له غسل الكفين.
لأن غسل الكفين قبل التسمية لا حكم له في الأظهر (بناء على ترجيح وجوب التسمية وقد سبق خلافه) .
ـ فإذن: إذا قدر وجود سنة قبل فرائض الوضوء فإنه يسن أن ينوي قبلها لتدخل هذه السنة في النية، فيثاب عليها.


قوله: ((واستصحاب ذكرها في جميعها، ويجب استصحاب حكمها)) :
قوله: ((واستصحاب ذكرها في جميعها)) : المراد بالذكر التذكر.
فهنا: يسن له أن يستصحب التذكر بمعنى: يكون قلبه متذكراً أنه إنما يتوضأ لله ولإقامة الصلاة.
هذا هو السنة لتكون أفعاله كلها متعلقة بالنية لله عز وجل.
ـ هذا مستحب وليس بواجب، فلو غفل عن تذكر النية فإنه لا يضره.
ـ بمعنى: رجل نوى الوضوء ثم غفل عن النية واستمر في الوضوء فإنه لا يضره ذلك باتفاق العلماء، إذ لا يشترط تذكر النية بل هو مستحب لتكون أفعاله متعلقة بنيته.
ولكن قال: ((ويجب استصحاب حكمها)) : هذا هو الواجب أن يستصحب حكمها، والمراد بحكمها نية إبقائها وعدم قطعها، فينوي الوضوء ويستمر فيه حتى ينتهي منه من غير أن ينوي أن يقطعه.
ـ رجل لمَّا غَسَّل وجهه وغسل يديه نوى أن يقطع الوضوء فقطع النية، فإنه ـ حينئذ ـ يبطل وضوؤه؛ لأنه قطع النية بقطع حكمها.
وأما إذا لم ينو قطع ذلك فإن وضوءه صحيح.
إذن: لا يشترط تذكر النية وإنما يشترط استصحاب حكمها.
إذن: يشترط في النية أن يبقى مستصحباً لحكمها وهو نية عدم قطعها والبقاء عليها.
فإن خالف فإن وضوءه يَبطُل بذلك.
وأما تذكر النية فإنه مشروع لتبقى أفعاله متعلقة بنيته.
ـ فإن نوى قطع العبادة بعد فعلها فإنه لا يضره باتفاق العلماء، فإن قطع النية بعد إنتهاء العبادة لا أثر له إجماعاً.
ومثل ذلك الشك فإن الشك بعد العبادة لا يؤثر.
فإذا توضأ ثم شك هل سَمَّى أم لا؟
فإن هذا الشك بعد العبادة لا يؤثر.
ـ فالشك بعد العبادة وقطع النية ليس لهما أثر باتفاق العلماء.
إذ العبادة أولا صحت فقطع النية لا أثر له بعد رفعها إلى الله وثبوتها.
وأما الشك فإنه طرأ على يقين فإن العبادة إذا انتهت فقد تيقن قبولها فليس له بعد ذلك أن يشك فيها والشك يكون طارئاً على يقين فلا أثر له.

والحمد لله رب العالمين.

الفهرس:
كتاب الطهارة

إلى
من
الموضوع

21
1
المقدمة

73
22


أنواع المياه

98
74
الآنية

134
99
الاستنجاء

167
135
السواك وسنن الوضوء

188
168
فروض الوضوء

إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإذا رأى في نعليه قذراً أو أذى................. 21
إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث............................................. 34
إذا وطئ أحدكم الأذى في نعله فإن التراب لها طهور............................. 21
اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً............................................... 10
اللهم صل على آل أبي أوفى................................................. 10
اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد............................................... 22
أما علمت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة...................................... 10
أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهراق على بول الأعرابي ذنوباً............. 21
أن ابن عمر كان يغتسل بالحميم.............................................. 31
إن الماء طهور لا ينجسه شيء.............................................. 35
إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه................. 36
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ ... 23
بسم الله الرحمن الرحيم: من مُحمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.......... 6
تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه...................................... 21
خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم........................................... 23
دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ.................................... 23
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك............................................... 26
فأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل......... 23


كان إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره.. 8
كان يسخن له ماءً في قمقم "الجرة" فيغتسل منه................................. 31
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع..................... 6
كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع.................................... 7
لا أحله لمغتسل وهو لمتوضئ وشارب حل وبِلّ................................. 24
لا ضرر ولا ضرار....................................................... 30
لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه................. 33
لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم بجامعها................................ 34
ماء زمزم لما شرب له...................................................... 24
نزل الناس مع النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها............. 23
هو طعام طعم............................................................ 24
هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته................................................. 22، 27
وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت................................ 23
وشفاء سقم........................................................... 24
ياحميراء ـ وهو تصغير حمراء ـ لا تفعلي فإنه يورث البرص............... 30