شرح زاد المستقنع للحمد

 (كتاب الجنايات)
الجنايات: جمع جناية، والجناية في اللغة: هي التعدي على مالٍ أو عرضٍ أو بدن.
فالسرقة جناية لأنها تعدٍ على المال، والزنا جناية لأنه تعدٍ على العرض، والقتل جناية لأنه تعدٍ على البدن.
وأما في الاصطلاح: فهي التعدي على البدن خاصة بما يوجب القود "أي القصاص" أوالدية.
- وقتل النفس من أكبر الكبائر، قال تعالى: ((وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلى خطئاً،، إلى أن قال سبحانه- ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها)) الآية.
وذلك من كبائر الذنوب وليس كفراً أكبر بإجماع أهل العلم، قال تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) .
ويدل عليه من السنة إقامة الحد على القاتل كما أنه دليل من الكتاب والإجماع، ولا تقام الحدود إلا على المسلمين.
وأيضاً يدل عليه حديث من قتل مائة نفسٍ، وهو حديث متفق عليه وهو حديث مشهور.
ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروفٍ فمن وفّى فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً وستر الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) .
إذن: لا يكفر وتوبته تقبل بإجماع أهل العلم، خلافاً للخوارج في التكفير، وخلافاً للمعتزلة في أن توبته لا تقبل، ولا يصح هذا القول لا عن ابن عباس ولا عن غيره من الصحابة.
* والقتل تتعلق به ثلاثة حقوق:
1) الحق الأول: حق الله تعالى في الاعتداء على حدوده فإن القتل من أعظم الاعتداء على حدوده سبحانه.
2) وحق للمقتول حيث أزهقت نفسه.


3) وحق لأوليائه، حيث أُفقدوا وليّهم، فإذا تاب إلى الله عز وجل سقط حق الله تعالى، وسقط حق الآدمي المقتول وعوّضه الله أجراً وثواباً في الآخرة، وأما حق الأولياء، فإنه ثابت في الدنيا فيخيرون بين الدية أو القصاص أو العفو.
قال رحمه الله: [وهي عمد يختص القود به بشرط القصد، وشبه عمد وخطأ] .
والقتل ثلاثة أنواع:
1) النوع الأول: عمدُّ.
2) النوع الثاني: شبه عمدٍ.
3) النوع الثالث: خطأ.
وأضاف بعض أهل العلم، كالموفق في المقنع وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة – قسماً رابعاً: وهو ما جرى مجرى الخطأ، كالنائم ينقلب على إنسان فيقتله أو من يقتل بالسبب كأن يحفر بئراً فيسقط بها إنسان فيموت، وهذا هو القسم الرابع ولا مشاحة في الاصطلاح إذ الحكم لا ينقسم إلى أربعة أقسام، بل ينقسم إلى ثلاثة أقسام اتفاقاً، فلا نزاع بين العلماء في أن النوع الثالث وهو الخطأ والنوع الرابع على القول بصحة التقسيم أن الحكم فيهما واحد، فالخطأ وما يجري مجرى الخطأ حكمهما واحد.
أما العمد والخطأ فقد اتفق أهل العلم على القول بهما ونازع الإمام مالك في شبه العمد، والسنة حجة عليه، فقد ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها، وهذا هو الشاهد، فإن هذا القتل ليس بخطأ، ومع ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قضى بأن دية المرأة على العاقلة، وقتل العمد الديةُ على القاتل نفسه اتفاقاً لا على العاقلة، فكان قسماً ثالثاً لأنه ليس بخطأ ولا عمد.
ويدل عليه أيضاً، ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالعصا والسوط مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها) .


والشاهد قوله "ألاّ إن دية الخطأ شبه العمد" قوله بعد ذلك "منها أربعون في بطونها أولادها" وهي الدية المغلظة، والدية المغلّظة تكون لشبه العمد، وأما الخطأ فديته، مخففة كما سيأتي.
إذن: الصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وأن القسم الثالث لأقسام القتل هو شبه العمد بدلالة السنة النبوية.
قال: [فالعمد: أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به] .
فهو أن يقصد من يعلمه آدمياً، فليس بصيد ولا شاخصٍ، ولا غير ذلك "معصوم الدم" فليس من المحاربين للإسلام بل هو معصوم الدم.
" فيقتله بما يغلب على الظن موته" إذن قصد هذا الآدمي معصوم الدم، وقتله بما يغلب على الظن موته به.
كأن يرميه بسهم أو يضربه بسيفٍ ونحو ذلك مما يغلب على الظن أنه يقتله به.
وضرب على ذلك أمثلةً
فقال: [مثل: إن يجرحه بماله مرو] .
مَوْر: أي له نفوذُ في البدن.
[أو يضربه بحجرٍ كبير ونحوه] .
لا بحجر صفير، لأن الحجر الصفر، لا يقتل غالباً، لكن لو كرر الضرب، أو كان المضروب مريضاً أو كبيراً أو صغيراً بحيث أن الحجر الصغير يقتله فكذلك.
قال: [أو يلقي عليه حائطاً أو يلقيه من شاهق، أو في نارٍ أو في ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما] .
أي لا يمكنه التخلص من النار والماء، لكن لو أمكنه التخلص ولم يفعل، كأن يكون ثمن يحسن السباحة ويقول: "ها أنت قد ألقيتني ولن أنجي نفسي وتكون بذلك قد قتلتني فيغرق" فإن يكون ذلك فدمه هدراً.
قال: [أو يخنقه] .
أي بحبلٍ ونحوه.

قال: [أو يحبسه ويمنعه الطعام والشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً] .
أي يموت في ذلك الحبس أو المنع من الطعام في مدة يموت فيها غالباً.
لكن لو مات بعد ساعة أو نصف ساعة أو نحو ذلك فإنه يعلم أنه لم يمت بسبب هذا الحبس.
قال: [أو يقتله بسحرٍ أو بسَمٍّ] .
وقوله "أو بسُمًّ" تصح بتثليث السين، أي بأن يطعمه السم.
كذلك لو ألقاهُ في موضع فيه أسد أو حيَّة، فيقتله الأسد أو تنهشه الحية.


قال: [أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا عمدنا قتله، ونحو ذلك] .
فإذ شهدت عليه بيّنة بما يوجب قتله، كأن يشهد عليه اثنان أنه قد قتل، أو يشهد عليه أربعة أنه قد زنا وكان محصناً، أو يشهد عليه اثنان أنه سخر من الدين واستهزأ به، ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله ونحو ذلك فحينئذ يكونون هم الذين قتلوه فيقام عليهم الحد، وذلك لأنهم قد قصدوا قتله بما يقتله غالباً وهي البينة.
فإذا كان الولي، أي ولي المقتول عالماً بذلك، كأن يشهدوا على رجل أنه قد قتل زيداً من الناس، وهم كاذبون في ذلك، وولي زيدٍ يعلم كذب هؤلاء الشهود ومع ذلك فقد اختار القصاص على الدية، فإنه هو الذي يقام عليه الحد وذلك لأنه هو الذي باشر قتله.
وإن كان الحاكم، أي القاضي يعلم كذب الشهود، فحكمه حكم البينة " أي حكم الشهود" إن كان الولي عالماً بذلك قتل الولي، فإن لم يكن عالماً فإن الحكم يثبت على القاضي وعلى البينة لأنهم هم الذي قتلوه.
والدية عليهم على عددهم، فإن كانت البينة اثنين، فالدية أثلاثاً على القاضي الثلث، وعلى الشاهدين الثلثان وهكذا.
قال: [وشبه العمد: أن يقصد جناية لا تقتل غالباً] .
فيشترك هو والعمد: بأنه قد قصد الجناية، لكن في العمد بشيء يقتل غالباً، وأما في شبه العمد فإنه بشيء لا يقتل غالباً.
قال: [ولم يجرحه بها] .
هذا قول في المذهب، وفيه نظر كما سيأتي، ثم ضرب أمثلة، لقتل شبه العمد.
فقال: [كمن ضربه في غير مقتل بسوط أو عصا صغيرة، أو لكزه ونحوه] .
كأن يغرز فيه إبرة ونحو ذلك، فهذا قتل شبه عمد، فالجناية مقصودة لكن الذي تمّ به القتل لا يقتل غالباً، كالعصا، والحجرة الصغيرة والإبرة ونحو ذلك.
وقيّده المؤلف هنا بقول "ولم يجرحه بها" وعليه فلو جرحه بها ولو كانت إبرة فخرج الدم ولو كان يسيراً، فإنه يكون قتل عمدٍ.


وهذا فيه نظر ظاهر، والراجح أنه وإن جرحه فهو قتل شبه عمد ما دام أن ذلك لا يقتل غالباً، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ولا دليل على إخراج هذه الصورة ما دام الضابط فيها وهو أن الجناية لا تقتل غالباً.
لكن لو كررّ الضرب بالعصا، فمجموع هذا التكرار يجعل هذا الضرب مما يقتل غالباً، ولو غرز إبرة في قلبه، فإنه يقتل غالباً، أو كان طفلاً صغيراً، فضرب بحجر ونحوه فكذلك، وقتل شبه العمد لا قود فيه، فالقود باتفاق أهل العلم مختص بالعمد، أما قتل الخطأ وشبه العمد فلا قصاص فيه باتفاق أهل العلم.
والدية في قتل العمد على القاتل نفسه، وأما في شبه العمد والخطأ فهي على العاقلة.
والدية في شبه العمد مغلّظة، وفي الخطأ مخففة.
قال: [والخطأ أن يفعل ماله فعله مثل أن يرمي صيداً أو غرضاً أو شخصاً غير معصوم الدم فيصيب آدمياً لم يقصده] .
أن يفعل ماله فعله كأن يرمي صيداً، يصيب آدمياً أو يريد أن يتعلم الرمي أو يتمرس عليه فيرمي عرضاً شاخصاً فيصيب آدمياً فيقتله أو يرمي بسهمه على كافر محارب فيصيب السهم على بعض المسلمين.
والخطأ إما أن يكون في القصد وإما أن يكون في الفعل، فالخطأ في القصد، أن يقصد القتل لكنه يخطئ في ذلك، فهو يقصد آدمياً غير معصوم فيصيب آدمياً معصوماً.
وأما الخطأ في الفعل: فهو أن يقصد رمي شاخص أو رمي صيد فيتخطى، فيصيب آدمياً.
فإذا رمى فأخطأ في فعله أو أخطأ في قصده فأصاب آدمياً فقتله فهذا هو قتل الخطأ، لا قصاص فيه، وفيه الدية المخففة.
قال: [وعمد الصبي والمجنون] .
فعمد الصبي والمجنون خطأ، باتفاق أهل العلم فإذا قتل الصبي متعمداً، وكذلك المجنون فهو في حكم الخطأ، وذلك لأنهما لا قصد لهما، فأشبه هذا المكلف المخطئ، فكما أن المكلف المخطئ قتله قتل خطأ لأنه لا قصد له فكذلك المجنون والصبي إذا قتلا فقتلهما قتل خطأ ففيه الدية والكفارة، فالدية تكون في مال العاقلة وأما الكفارة فهي في مالهما ولا قود ولا قصاص.


والفرق بين قتل الخطأ وبين العمد وشبه العمد هو أن قتل الخطأ لا تقصد فيه الجناية.
وأما العمد وشبه العمد فالجناية مقصودة.
والفرق بينهما أي بين العمد وشبه العمد أن العمد تقصد الجناية بما يقتل غالباً، وأما شبه العمد فيما لا يقتل غالباً.
قال: [تقتل الجماعة بالواحد] .
لما ثبت في البخاري: أن عمر بن الخطاب، قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً واحداً، وقال لو تمالئ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، ولا يعلم لعمر مخالف، وهو قول مشتهر فكان إجماعاً، وفي ذلك سد لذريعة سفك الدم الحرام، فإنه لا يعجز الجماعة عن قتل الشخص الواحد فيدفعون عن أنفسهم الحد بذلك حيث لم نقل بقتل الجماعة بالواحد.
وهذا الحكم حيث كان فعلُ كل واحدٍ منهم يوجب القصاص لو أنفرد.
كأن يجتمعوا على ضربه بسيوف، كل واحدٍ منهم لو انفردت ضربته لقتلت.
أو أن يجتمعوا على ضربه بالحجر الكبير بحيث أن ضربة كل واحدٍ منهم لو انفردت لأوجبت القصاص.
وأما إذا اجتمعوا على ضربه بما لا يقتل غالباً كأن يجتمعوا على ضربه بحجارة صغيرة فمات من ذلك فإن ذلك لا يوجب القصاص ما لم يتمالؤا على ذلك، كأن يضربه هذا بعصا وهذا بحجرة صغيرة وهكذا وهم قد تمالؤا على مثله فإن هذا يوجب القود، وذلك سداً لذريعة درء القصاص، أي لئلا يتطرق من هذا إلى الهروب من القصاص بإجماع طائفة من الناس على قتل رجلٍ بما لا يقتل غالباً.
قال: [وإن سقط القود أدوا دية واحدة] .
إذا اجتمع سبعة على قتل رجلٍ واحدٍ وكان فعل كل واحدٍ منهم يوجب القصاص بمفرده، فإن هؤلاء السبعة يقتلون، فإن اختار الولي الدية، فإنها تجب دية واحدة عل الجميع، وذلك لأن النفس واحدة والقتل واحد فلم يجب إلا ديةً واحدة.
قال: [من أكره مكلفاً على قتل مكافئة فقتله فالقتل أو الدية عليهما] .


إذا أكره مكلفُ على قتل مكافئه، " أي مكافَئه في الدين والحرية، والرق، وسيأتي الكلام على المكافئة" فقال: إن لم تقتل بكراً فإني قاتلك أو ساجنك أو متلف مالك، فالقتل أو الدية عليهما جميعاً أي على المكرِه والمكَره.
أما المكرِه: فلأنه تسبب بما يقتل غالباً، حيث أكره هذا المكلف القادر على القتل، أكرهه على القتل.
وأما المكرَه: فلأنه مباشر للقتل على غيره في إبقاء نفسه، هذا هو المشهور في مذهب أحمد وغيره وفبه قوه لئلا يتذرع من يريد القتل بقتله عن طريق بعض الناس الذين لا قيمه للحياة الدنيا عندهم.
وعن الإمام أحمدُ: أن الذي يقتل هو المكرَه دون المكرِه وهذا أظهر.
وذلك لأنه اجتمع مباشر ومتسبب والمرجّح هو المباشر فالمكرَه مباشر للقتل، والمكرِه متسبب فيه فمرجح جانب المباشر كما تقدم في بعض المسائل كما لو شهدت البينة بما يقتضي القتل وكان الولي عالماً بكذب البينة فإن الولي هو الذي يقتل لأنه هو الذي باشر الاختيار وهؤلاء قد تسببوا بالشهادة الكاذبة.
فكذلك هنا فقد اجتمع عندنا مباشر ومتسبب فيكون القتل على المباشر.
وأما المكرِه فإنه يعزر تعزيراً بليغاً بما يراه السلطان، فإنه يُعزر بالسجن الطويل أو الجلد ونحو ذلك مما يراه السلطان.
قال: [وإن أمر بالقتل غير مكلف أو مكلفاً يجهل تحريمه أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه فقتل فالقود أو الدية على الآمر] .
إذا أمر بالقتل فكلف غير مكلف، كأن يأمر زيداً لمكلفٍ صبياً، أو مجنوناً بالقتل فإنه يقتل الآمر.
وذلك لأن هذا الصبي والمجنون غير المكلفين هما كالآلة هنا، ولا يجب عليهما القصاص لكونهما معذوران إذ هما غير مكلفين لا قصد لهما فهما كالآلة أي كالسكين وكالسيف بيده.


فإذن: يقتل الآمر وذلك لأن المباشر هنا لا يقتل لأنه لا يمكن أن يوجب عليه القصاص مع كونه معذوراً، وذلك لما تقدم من أن عمد الصبي والمجنون خطأ والصبي والمجنون لا قصد لهما، وعليه فلا يمكن إيجاب القصاص عليهما فموجب على المتسبب.
ومثل ذلك لو أمر مكلفاً، يجهل تحريم القتل كأن يكون حديث عهد بإسلام، فالقود أو الدية على الآمر وذلك لأن هذا جاهل بالشرع وعليه فهو مخطئ لأن الجهل خطأ وحينئذ فهو معذور فلا يمكن إيجاب القصاص عليه فموجب على الآمر.
ومثل ذلك: لو أمر السلطان رجلاً أن يقتل رجلاً من الناس وهذا القاتل المباشر لا يدري أن السلطان ظالم لهذا المقتول فحينئذ يكون الحد على السلطان لأن المباشر للقتل معذور لا يمكن إيجاب القصاص عليه فموجب على المتسبب.
والسلطان تجب طاعته فيما لا يعلم أنه معصية، وهذا قد أطاع السلطان في أمرٍ لا يعلم أنه معصيةً ما لم يأمر بالظلم.
أما لو كان غير معذور، كأن يأمره السلطان بقتل زيدٍ من الناس وهو يعلم أن السلطان ظالمُ له، مع قتله فإن القصاص على القاتل لأنه هو المباشر.
قال: [وإن قتل المأمور المكلف عالماً بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر] .
إذا أمر زيد عمراً بالقتل، وعمرو مكلف عالم بتحريم القتل ومع ذلك قتل، فإن الضمان يكون على عمرو، وذلك لاجتماع مباشر ومتسبب، فالمأمور هو المباشر الآمر هو المتسبب وهنا المأمور ليس بمعذور وذلك لأنه مكلف عالم بالتحريم فكان القصاص عليه هو.
قال: [وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لابوة أو غيرها فالقود على الشريك] .
اشترك في قتل رجلٍ اثنان أحدهما أب للمقتول والآخر ليس بأبٍ له.
أو اشترك في قتل كافر اثنان، أحدهما كافر مثله والآخر مسلم.
أو اشترك في قتل رقيقٍ أحدهما حر والآخر رقيق مثله.


ففي هذه المسائل لا يجب القصاص على الأب في المسألة الأولى، ولا على المسلم في المسألة الثانية ولا على الحر في المسألة الثالثة، لأن الأب لا يقتل بولده، والمسلم لا يقتل بالكافر، والحر لا يقتل بالعبد، فحينئذ يكون القود على الشريك للأب في المسألة الأولى.
وعلى الشريك للمسلم في المسألة الثانية، وعلى الشريك للحر في المسألة الثالثة، وذلك لأن فعله يوجب القصاص فهو قتل عمدٍ وإنه يوجب القصاص عليه لا مسقط له وإنما أسقط عن الأب في المسألة الأولى وعن المسلم في المسألة الثانية وعن الحرفي المسألة الثالثة لمعنى يوجب الإسقاط، وفي هذه المسائل الثلاث يتمحض القتل عدواناً وأما إذا كان الطرف الآخر ليس بمعتدي أي ليس قتله بقتل عمدٍ عدوان.
كأن يشترك مخطئ ومتعمد أو يشترك في قتل رجل من الناس سبُع، وقاتل كأن يضربه بالسيف ويكون معه سبع يشترك معه في القتل أو أن يكون قاتلاً لنفسه مع هذا المعتدي، كأن يجرحه جرحاً قاتلاً ثم يشرب السم فيقتل نفسه أي يستعجل موت نفسه.
كذلك لو اشترك في قتله ولي قصاصٍ وعامد، فولي القصاص له حق في القتل.
كذلك لو اشترك في قتله مكلف وغير مكلف ففي هذه المسائل كلها في المشهور في المذهب، أنه لا قصاص، وذلك لأن العدوان غير متمحّص لأن أحدهما قتله ليس بقتل عدوان.
بخلاف المسائل المتقدمة فإن كلا الطرفين قتله قتل عدوان.
القول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد، واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح في المسألة، أن القتل هنا ثابت على الطرف الذي اعتدى، وذلك لأن المؤاخذة على فعله هو، وفعله هو قتل عدوان يوجب القصاص ولا مسقط له.
فبالنظر إلى فعله هو بغضّ النظر عن فعل الآخر هل يؤاخذ فيه الآخر أم لا وتجب نصف الدية مع شريك السبع.
قال: [فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية] .


إذا عدل الولي إلى طلب المال فإنه يلزمه نصف الدية أي لزم من لزمه القود في المسألة الأولى لزمه الآن نصف الدية.
فإذا اشترك الأب وغيره في القتل، فيجب على الآخر القصاص فإن عفا الولي عن القصاص فلا تجب عليه إلا نصف الدية وذلك لأنه شارك في الإتلاف، وهذا الإتلاف يوجب مالاً فكان عليه بقدر ذلك وهو قد شارك بقدر النصف فكان الواجب عليه نصف الدية.
" باب: شروط القصاص"
وهذه الشروط إذا فقد منها شرط سقط حد القصاص.
قال: [وهي أربعهَ] .
استقراءً.
قال: [أحدها عصمة المقتول] .
أي أن يكون المقتول المجني عليه معصوم الدم غير مهدره والعلة ظاهرة، فإن القصاص إنما شرع لحفظ الدم المعصوم وأما الدم المهدر فلا.
قال: [فلو قتل مسلم أو ذميُّ حربياً، أو مرتداً لم يضمنه بقصاص ولا دية] .
فإذا قتل مسلم أو ذميُّ حربياً أو مرتداً عن الإسلام فإنه لا قصاص ولا دية، وكذلك لو قتل مسلم زانياً محصناً فإنه لا يقتل به لأن دمه هدر.
كذلك تارك الصلاة وغيره ممن دمه مهدر ليس بدمٍ معصوم ولو كان ذلك قبل ثبوته عند الحاكم، ما دام أن البينة موجودة على زناه، وهو محصن فقتله مسلم أو ذمي فإنه لا يقتل به.
ورجل مثلاً تارك للصلاة والبينة تدل على أنه تارك للصلاة، فكذلك، أو رجل ارتدَّ عن الإسلام فسب الله ورسوله فكذلك فإن من قتلهم لا يقتل هذا إذا كان قبل التوبة.
وأما بعد التوبة فلا، فمن زنا وهو محصن فتاب فقتله قاتل بعد ذلك فإنه يقتل به لأن دمه يعصم بالتوبة كما قال تعالى: ((إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم)) .
أما قبل التوبة فإنه لا يُقتل به، لكن هذا القاتل آثم لأنه قد افتات على السلطان في حقه ولذا فإن الإمام يعزره، وله أن يعزر تعزيراً بليغاً حفظاً لحقه في ذلك، فإن الحدود إنما يقيمها السلطان.


وعليه: فإن هذا الحكم حيث كان للإمام حق في القتل، فالإمام ليس له حق أن يقتل من زنا وهو محصن حتى تثبت البينة ذلك، وليس للإمام حق أن يقتل من ترك الصلاة، حتى تثبت بالبينة فكذلك هذا القاتل إذا قتل بعد ثبوت البينة لكنها لم تثبت بعدُ عند القاضي فإنه لا يقتل به ولا دية في ذلك لأن له حقاً، لكن ذلك اعتداء على الإمام في حقه وافتيات عليه فللإمام أن يعزر في ذلك.
قال: [الثاني التكليف] .
هذا هو الشرط الثاني: التكليف أي أن يكون القاتل بالغاً عاقلاً.
قال: [فلا قصاص على صغير] .
لأنه غير بالغ.
قال: [ولا مجنونُ] .
ولا معتوه لأنهما غير عاقلين، وذلك لأنه لا قصد لهما أو قصدهما ليس بقصد صحيح معتبر ولذا تقدم أن عمد الصبي والمجنون خطأً باتفاق العلماء.
وعليه فإذا قتل الصبي أو المجنون فأنه لا يقتل بذلك لكن الدية تكون على عاقلته.
قال: [الثالث: المكافأة بأن يساويه في الدين والحرية والرق] .
هذا هو الشرط الثالث وهو المكافأة.
قال: [فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد] .
فلا يقتل المسلم بالكافر ولو كان الكافر ذمياً ذا ذمة أو معاهداً ذا عهد أو مستأمناً ذا أمن.
وذلك لما ثبت في البخاري مرفوعاً في صحيفة علي رضي الله عنه "لا يقتل مسلم بكافر".
وذهب الأحناف: إلى أن المسلم يقتل بالذمي، واستدلوا: بما روى الدارقطني أن النبي- صلى الله عليه وسلم -: (أقاد مسلم بذمي أو قال: أنا أحق من وفّى بذمته) .
لكن الحديث مرسل ضعيف.
وعليه فالراجح ما ذهب إليه الجمهور من أن المسلم لا يقتل بالكافر.
وقال شيخ الإسلام بذلك لكنه قال: إلا أن يقتله غيلة أي خديعة، بأن يكون القتل على سبيل الخديعة وهو مذهب مالك.
فقد ذهب مالك إلى أن قتل الغيلة فيه القصاص مطلقاً فلا خيار للولي بين الدية والقصاص، كما أنه لا فرق بين مسلم وذمي في ذلك وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.


واستدلوا: بأثر عمر المتقدم لما قال: "لو تمالئ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به" فقال "لقتلتهم به" فأضاف القتل إليه، وكان قتل غرة، (تراجع القصة ويزاد الدليل) .
وأما الجمهور فقالوا: بأنه يخير الولي بين الدية والقصاص.
واستدلوا بعمومات الأدلة، في قوله تعالى: ((فقد جعلنا لوليه سلطاناً)) .
في الحديث المتفق عليه: (فوليه بين خيرتين) وهما القصاص والدية.
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، لأن دليلهم خاص وأما دليل أهل القول الثاني فإنه عام.
فالصحيح ما اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: من أن قتل الغيلة يقتل الإمام من غير أن يرجع إلى الولي الخيرة، وأنه لا فرق بين مسلم وذمي لأنه من باب الحرابة، وقد قال تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا)) .
فإذا قتلوا سواء كان قتلهم لمسلمين أو ذميين، فإن جزاءهم القتل، وسيأتي الكلام عليه في حد الحرابة إن شاء الله.
قال: [ولا حر بعبد] فلا يقتل الحر بالعبد.
قالوا: لما روى أحمد في مسنده: "أن السنة ألاّ يقتل الحر بالعبد".
ولقوله تعالى: ((الحر بالحر والعبد بالعبد)) ، وهذا هو مذهب الجمهور.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الأحناف واختيار شيخ الإسلام أن الحر يقتل بالعبد.
استدلوا: بقوله تعالى: ((وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)) ، وهذه آية عامة يدخل فيها قتل الحر بالعبد واستدلوا: أيضاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمنون يتكافئوا دماؤهم) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي
فهذا عبدُ مؤمن وهذا حرُ مؤمن والمؤمنون تتكافئوا دماؤهم.
والراجح هو القول الثاني: لقوة أدلته، وأما الجواب عن أدلة أهل القول الأول.
أما قوله تعالى: ((الحر بالحر والعبد بالعبد)) .


فهذه الآية نزلت كما قال غير واحد من السلف، في طائفة من الناس قالوا ويقتل الحر من غيرنا بالعبد منا، ويُقتل الذكر من غيرنا بالأنثى منا، قالوا ذلك من باب الكبرُ لقوتهم عدداً وعدة، فأنزل الله قوله: ((الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)) ، وقد أجمع أهل العلم على أن الذكر يقتل بالأنثى في النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يُقتل الذكر بالأنثى) .
وأما ما رواه أحمد من أن السنة ألا يقتل الحر بالعبد فالحديث إسناده ضعيف جداً فيه جابر الجُعفي وهو ضعيف الحديث.
ومما يدل على ما ذهب إليه الأحناف وهو القول الراجح: ما روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه) .
وبهذا الحديث قال داود الظاهري، فإنه قال ويقتل السيد بعبده خلافاً للأحناف فإنهم يقولون يقتل الحر بالعبد لكن لا يقولون أن السيد يقتل بعبده.
ولذا قال المؤلف هنا "والرق" فالمالك لا يُقتل بمملوكه.
فإذا قتل المكاتب رقيقه فإنه لا يقتل به مع أن المكاتب عبد لكن لا يقتل بعبده لأنه مالك له.
والصحيح ما ذهب إليه داود في هذه المسألة وأن السيد يقتل بمملوكه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه) والحديث من حديث الحسن البصري عن سمرة والصواب أن الحسن ليس بمدلس، وأن سماعه من سمرة ثابت كما وضح ذلك غير واحدٍ من الحفاظ كعلي بن المديني، والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال "تراجع".
قال: [وعكسه يقتل] .
وهذا ظاهر، فالكافر يقتل بالمسلم، فإذا قتل الذمي مسلماً فإنه يُقتل وهذا بالاتفاق.
والعبد يُقتل بالحر وهذا بالاتفاق، ولذلك العبد يقتل بسيده وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: [ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر] .
اتفاقاً، لقوله تعالى: ((وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)) .


ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمنون تتكافؤا دماؤهم) ، والأُنثى مؤمنة، وللحديث المتقدم الذي رواه النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يُقتل الذكر بالأنثى) .
قال: [والرابع: عدم الولادة، فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل] .
وعنه يقتل أبو الأم بولد بنته وحكاه الزركشي، هذا هو الشرط الرابع وهو عدم الولادة.
فالأم والأب لا يقتلان بالولد وإن سفل الولد المقتول كأن يقتل الجد ابن ابنه، أو ابن بنته، أو بنت بنته وهكذا.
ودليل ذلك: ما رواه ابن الجارود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقاد الوالد بالولد) ، والحديث اسناده جيّد وصححه البيهقي.
ورواه الترمذي من حديث عمر بن الخطاب لكنه مضطرب، وهو قول جمهور العلماء.
والعلة في ذلك ظاهرة: فإن الوالد هو سبب وجود الولد فإنه قد خرج من صلبه أو خرج من رحمها وإن علا هذا الرحم وإن علا هذا الصلب، فلما كان الأمر كذلك فلا يمكن ولا يصح ولا يستقيم أن يكون سبباً لإعدامه وهو سبب لوجوده.
أما العكس فإنه يقتل به اتفاقاً،
ولذا قال المؤلف: [ويقتل الولد بكلٍ منهما] .
فإذا قتل الولد أباه أو أمه وإن عليا فإنه يقتل بهما وهو ظاهر لا إشكال فيه.
" باب استيفاء القصاص "
استيفاء القصاص: هو فعل مجني عليه أو وليه بجانٍ مثل فعله أو شبهه.
فإذا قطع الجاني الطرف كأن يقطع اليد، فقطعٍ المجني عليه يده أو قطع وليه يده أو قتله فقتله أو أحرق رجلاً فقتل بالسيف.
فقوله "أو شبهه": إن كان المثل لا يجوز كأن يحرقه بالنار مثلاً، فالإحراق بالنار محرم وعليه فإنه يقتل بالسيف.

قال رحمه الله: [يشترط له ثلاثة شروط أحدها كون مستحقه مكلفاً فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يستوفٍ وحُبس الجاني إلى البلوغ أو الإفاقة] .
فالشرط الأول من شروط استيفاء القصاص: أن يكون مستحقه مكلفاً أي بالغاً عاقلاً.


فإن كان غير مكلف بأن يكون صبياً أو مجنوناً فإنه لا يستوفي وذلك لأن استيفاء القصاص ولاية، قال تعالى: ((وقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل)) ، والصبي والمجنون لا ولاية لهما.
والمذهب أن الأب وكذا الوصي والحاكم لا يقومون مقام الصبي والمجنون بالاستيفاء، ولذا قال (وحبس الجاني إلى البلوغ أو الإفاقه) أي المجنون.
قالوا: لأن المقصود هو التشفي "أي إزالة الغيظ الذي يكون في القلب" وهذا لا يكون بفعل الغير.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أن لوليهما العفو إلى الدية وكذا الوصي والحاكم.
وذلك: لأنه يقوم مقامه في تصرفاته كلها فكذلك هنا ولأن ترك ذلك يترتب عليه فوات الحق أو تفويته فقد يموت الجاني قبل أن يقتل وقد يهرب أو يحصل ما يمنع من إقامة الحد عليه بفعل ظالم ونحو ذلك، فلئلا يفوت الحق فإنا نقيم الولي مقامه، وهذا هو القول الراجح.
والمصلحة هنا وهي مصلحة عدم تفويت الحق وفواته أرجح من مصلحة التشفي، ولا شك أنه يحصل له تشفي عندما يختار وليه القتل، ويحصل له انتفاع بالدية إذا اختار الدية والولي يختار ما فيه مصلحة.
وقوله: " يحبس الجاني " فلا يقبل في مثل هذه المسألة كفالة إذ الفائدة من الكفالة هي أن يستوفي الحق من الكفيل إذا لم يحضر المكفول، وهنا لا يمكن أن يستوفي الحق من الكفيل لأن ذلك ظلم، بل ويحبس حتى يبلغ الصبي وحتى يفيق المجنون وهذا على المذهب.
والصحيح ما تقدم من أن الولي يقوم مقام الصبي أو المجنون.
قال: [الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه وليس لبعضهم أن ينفرد به] .
لأنه حق مشترك لجماعة فلم يكن لأحدهم أن يستقل به.
والشرط الثاني: اتفاق الأولياء على القصاص.
قال: [وإن كان من بقي غائباً.. انتظر القدوم] .


وهذا ظاهر، فإذا كان بعضهم غائباً فإنه ينتظر قدومه لأنه حق له فلم يتعجل حقه عنه، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، (وحكيت رواية عن أحمد أن لهم القصاص فيه قوة) .
قال: [أو صغيراً أو مجنوناً انتظر القدوم والبلوغ والعقل] .
فإذا كان بعض الأولياء صغيراً أو مجنوناً فإنه ينتظر ويحبس الجاني حتى يفيق المجنون، وحتى يبلغ الصبي فليس لبعض الأولياء أن يستقل بالقصاص وذلك لأنهم جماعة فلم يكن لأحدهم أن يستقل بالحق.
فينتظر حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ثم ينظر ماذا يختارون جميعاً القصاص أم الدية، فإن اختاروا القصاص واتفقوا على ذلك وإلا فتجب الدية.
وقال المالكية والأحناف، بل هو للمكلفين دون غيرهم وذلك لأن استيفاء القصاص ولاية والولاية ليست للصبي والمجنون، والأولياء البالغون العقلاء هم المخاطبون عند القتل بالاختيار فلم يكن لغير المكلف حق في ذلك.
وهذا هو القول الراجح، ويترتب على خلافه فوات أو تفويت للحق.
مسألة:
اعلم أن الذين لهم حق في استيفاء القصاص هم الورثة يدل على ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قُتل له قتيل فأهله بين خيرتين) رواه أبو داود والنسائي وأصله في الصحيحين فقوله "أهله" أي ورثته.
ويدل عليه أيضاً، ما ثبت في مصنف عبد الرزاق، أن عمر أتى برجل قد قتل قتيلاً، وورثته يريدون قتله فقالت زوجته " أي زوجة القتيل" وكانت أختاً للقاتل: قد عفوت عن حقي، فقال عمر: "الله أكبر قد عتق القتيل" والأثر إسناده صحيح، ولا يعلم له مخالف.
واختار شيخ الإسلام أن الحق للعصبة الذكور لأن العار يلحقهم هم.
والصحيح هو الأول وذلك للأثر الثابت عن عمر ولا يعلم له مخالف، ولأنه حق للمرأة كسائر حقوقه فكان لورثته وهذا هو مذهب الجمهور.
مسألة:
إذا قتل بعض الورثة الجاني قبل أن يتفق الورثة على القصاص، فإنه يعزر على ذلك لا فتياته على حق غيره.
وهل يقتل أم لا؟
قولان لأهل العلم:


القول الأول: وهو المشهور في مذهب أحمد: أنه لا يقتل وذلك لأن هذه النفس التي قتلها يستحق بعضها.
والقول الثاني: وهو مذهب بعض الشافعية: أنه يقتل وذلك لأنه قد قتل نفساً معصومة، فإن هذا القاتل معصوم الدم حتى يختار الورثة القصاص.
والراجح هو القول الأول، وذلك لأن دمه لم تثبت عصمته، بل بالقتل دمه هدر ما لم يختر الورثة الدية ويعفو عن القصاص، لأن الأصل هو القصاص، والأصل هو قتل النفس بالنفس.
ويدل على هذا القول أن الحدود تدرأ بالشبهات أما إذا قتله بعد اختيار الورثة وبعضهم الدية فإنه يقتل به لأن نفسه أصبحت معصومة باختيارهم الدية أو باختيار بعضهم الدية.
فإن قتل هذا الولي بعد اختيار الورثة الدية أو بعد اختيارهم القصاص لكنه سبقهم فقلته، أي قتل الجاني فحق بقية الورثة هل يثبت في تركه الجاني المقتول الذي قد قُتل بيد هذا الولي المفتات، أم أنه يكون في مال الولي الذي قد تعدى فقتل؟
قولان لأهل العلم.
أظهرهما أنه يكون في مال الولي وذلك لأن الجاني قد أقتص منه وكان الواجب عليه إما القصاص وإما الدية، وقد اقتص منه فلا حق عليه، وعليه فتجب في مال القاتل الذي هو الولي.
قال: [الثالث: أن يؤمن في الاستيفاء، أن يتعدى الجاني] .
هذا هو الشرط الثالث من شروط الاستيفاء، وهو أن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى الجاني إلى غيره، لقوله تعالى: ((فلا يسرف في القتل)) .
قال: [فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ] .
فإذا وجب القصاص على حامل أو على حائل ثم حملت قبل الاستيفاء فإنه لا يستوفى منها حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ وهو أول اللبن، قالوا: والغالب أنه لا يعيش إلا به، فهذا لدفع الضرر عن الطفل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار) .
قال: [ثم إن وجد من يرضعه] .
??فرضي بأن?يلتقم ثدي غير أمه.
قال: [وإلا تركت حتى تفطمه] .
??دفعاً للضرر عن الغير.


قال: [ولا يقتص منها الطرف حتى تضع والحد في ذلك كالقصاص] .
لما تقدم من دفع الضرر عن الغير.
فصل:
قال: [ولا يستوفى قصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه] .
??فلا يستوفى القصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه وذلك لكي يؤمن الحيف، ولأن ذلك يحتاج إلى اجتهاد فلم يكن ذلك إلا بحضرة سلطان أو نائبه.
فإنه يخاف الحيف والظلم كأن يقتص بآلة غير ماضية أو أن يتعدى إلى طرف آخر أو غير ذلك.
وظاهره مطلقاً في النفس وغيرها، وهو المذهب، واختاره شيخ الإسلام وهو احتمال وذكره الموفق أن النفس يجوز الاستيفاء فيها بلا حضرة السلطان واستدل بما ثبت في مسلم: أن رجلاً أتى النبي- صلى الله عليه وسلم -?برجلٍ يقوده بنسعة ثم قال: إن هذا قد قتل أخي، ثم قال النبي- صلى الله عليه وسلم -???اذهب فاقتله) .
والذي يرجح هو القول الأول: وأما الحديث فيقال فيه حيث أمن الحيف وذلك لأن قتل النفس قد يكون فيه حيفٌ ولذلك لا بد من حضرة سلطان أو نائبه.
???لكن إن علم السلطان أن مثل هذا عنده وازعُ يمنعه من الحيف فأذن له أن يقبض بلا حضرة السلطان ولا نائبه فلا بأس بذلك.
قال: [وآلة ماضية] .
???لا كالة: " فلا بد أن تكون الآلة ماضية أي تقتل من غير أن يكون في ذلك أذى للمقتول "
لقوله - صلى الله عليه وسلم -?في صحيح مسلم ?إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) .
وإن كان الولي قادراً على استيفاء القصاص بنفسه أي أن يقتل بالسيف هو بنفسه فإن السلطان أو نائبه يمكنه من ذلك.
وإلا فإنه يأمره أن?يوكل غيره من القادرين على استيفاء القصاص، والمشروع أن ينصب الإمام من يقوم بذلك، ويكون له رزق من بيت مال المسلمين لأن هذا من المصالح العامة.
أما إذا لم يكن هناك أحد فإن الولي يوكل من يقوم عنه بالاستيفاء وإن شاء أن يقوم به هو فإن الإمام أو نائبه يمكنه من ذلك.


قال: [ولا يستوفي القصاص في النفس إلا بضرب العنق بسيف ولو كان الجاني قتله بغيره] .
???هذا هو المشهور في المذهب وأنه لا يستوفي القصاص في النفس إلا بضرب العنق بالسيف ولو كان الجاني قتله بغيره كأن يرض رأسه أو أن يقطع أعضاءه قطعة قطعة حتى يموت أو أن يفعل به?غير ذلك.
واستدلوا: بحديث (لا قود إلا بالسيف) لكن الحديث منكر.
وعن الإمام أحمد: وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يمكن من القتل بمثل ما قتل به وليه، فالجاني يُقتل بمثل ما قتل إلا ما استثنى من الإحراق بالنار ونحوه فإن الشريعة نهت عن ذلك.
فلو قتله?بإلقائه من شاهق فإنه يقتل بأن يُلقى من شاق ولو قتله بقطع أعضائه قطعة قطعة فكذلك ونحوه لك.
وهذا القول الراجح، قال شيخ الإسلام: "وهو أشبه بالكتاب والسنة والعدل" أما العدل فظاهر.
وأما الكتاب فقوله تعالى: ??وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرُ للصابرين)) .
وأما السنة فبما ثبت في الصحيحين: أن جارية وجد رأسها قد رُض بين حجرين فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فأقر‍ّ، فأمرّ النبي- صلى الله عليه وسلم -?أن يرضّ رأسه بين حجرين) .
فالراجح: أنه يقتل بمثل ما قتل إلا ما استثنى في الأدلة وهو التعذيب بالنار فإن ذلك لا يحل، ومثل?ذلك لو قتله بفعل أمر محرم فيه، كزنا بامرأة أو لواط أو غير ذلك مما هو محرم فإنه لا يفعل به ذلك لأنه محرم في الشريعة الإسلامية.

??باب العفو عن القصاص"
قال: [يجب بالعمد القود أو الدية فيخير الولي بينمها] .
???? فيتخير الولي في قتل العمد بين القصاص أو الدية، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يُعطى وإما أن يقاد) أي إما أن يعطى الدية أو يقاد له القتيل.
قال: [وعفوه مجاناً أفضل] .
لقوله تعالى: ((وأن تعفوا أقرب للتقوى)) .


وثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما أتى بشيء من القصاص إلا أمر فيه بالعفو) والحديث اسناده صحيح من حديث أنس بن مالك.

قال: [فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط فله أخذها] .
إذا اختار الولي القصاص فله أخذ الدية، فمثلاً قال أنا أختار القصاص ثم قال: أريد أن أتنازل عن القصاص إلى الدية، فله ذلك- وهذا ظاهر.
وكذلك إذا عفا عن الدية فقط، فقال: عفوت عن الدية فقط، فلفظه هذا ليس فيه أنه قد عفا عن القصاص وحينئذ إذا رضي بالدية وقد عفا عنها فله أخذها.
وذلك لأنه انتقال من الأعلى إلى الأدنى وهو الانتقال من القصاص إلى الدية.
قال: [والصلح على أكثر منها] .
فإذا كانت الدية مثلاً مائة ألف فقال الولي: أنا لا أقبل إلا مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف أو مليون وإلا فإني أختار القصاص فرضي بذلك القاتل، فللولي ذلك، وذلك لأن الحق لا يعدوهما، فإذا تراضيا على شيء من ذلك كان لهما.
قال: [وإن اختارها أو عفا مطلقاً أو هلك الجاني فليس له غيرها] .
إذا اختار الدية فليس له بعد ذلك أن يقتصّ وذلك لأنه اختار الدية.
وكذلك إذا عفا مطلقاً فقال: (عفوت) ، وإذا أطلق العفو فإنه ينصرف إلى المطلوب الأعظم، وهو العفو عن القصاص لأنه هو المطلوب الأعظم.
كذلك إذا هلك الجاني قبل أن يقتص فيه فليس للولي إلا الدية، لأن القود لا يمكن استيفاؤه وقد هلك الجاني فحينئذ ليس له إلا الدية فلا ينتقل هذا إلى أخ وابن أو غيره فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى بل يقال هلك الجاني فإن الدية تنتقل في تركته.
فإن لم يكن له تركة فلا شيء للولي كسائر الديون التي يفوت محلها فإنها تفوت بفوات محلها.
قال: [وإذا قطع إصبعاً عمداً فعفا عنها ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على غير شيء فهدر، وإن كان العفو على مالٍ فله تمام الدية] .


رجل قطعت إصبعه عمداً ففي ذلك عُشر الدية، فعفا عن ذلك ثم سرت الجناية حتى أتلفت الأصابع كلها أو قتلت هذا الشخص كأن ينزف الدم حتى هلك، فهذه السراية هدر لا شيء فيها.
وذلك لأنه قد عفا عن الجناية وسرابتها كذلك لأن سرايتها فرع عنها هذا قول في المذهب.
والمشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي: أن له أن يأخذ تمام الدية أي ما بقي منها وهو تسعة أعشارها في المثال المتقدم، وذلك: لأنه إنما عفا عن الجناية ولا سراية فيها، وأما مع السراية فإنه لم يثبت عفوه عنها، فلا يسقط من ذلك إلا ما عفا عنه، وهو إنما عفا عن دية إصبع، وهذا هو القول الراجح.
أما إذا كان العفو على مالٍ فله تمام الدية، وهذا ظاهر فإذا قال: أريد الدية ولا أريد القود، فإنه يأخذ عشر الدية ثم سرت الجناية فإنه يُعطى الباقي وذلك لأن السراية نتجت عن فعل الجاني فكان عليه ديتها أي دية السراية.

قال: [وإن وكّل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما] .
رجل قال: اخترت القصاص، ثم وكّل زيداً من الناس أن يقتص عنه ثم بعد ذلك قال: قد عفوت، فقتل الوكيل ولم يعلم بعفو موكله فلا شيء عليهما.
أما الولي فلأنه محسن بالعفو وما على المحسنين من سبيل وأما الوكيل فلأنه لم يفّرط.
قال: [وإن وجب لرقيق قود أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه إليه] .
فإذا وجب لرقيق قصاص أو تعزير قذف فطلب هذا أو إسقاطه إليه وليس لسيده لأن المقصود من ذلك هو التشفي وهو مختص به.
قال: [فإن مات فلسيده] .
فإذا مات العبد فلسيده ذلك، وذلك لأن السيد أحق بعبده من غيره لأنه ملكه.

"باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس"

قال: [من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الطرف والجراح] .
فمن أقيد بأحدٍ في النفس لتوفر الشروط، فكذلك في الطرف والجراح.
قال: [ومن لا فلا] .


فمن لم يُقد بأحد في النفس فإنه لا يقاد به في الطرف والجراح فالمسلم لا يقاد بالكافر، والحر على مذهب الجمهور لا يقاد بالعبد فكذلك إذا قطع المسلم يد كافر فإنه لا تقطع يده، وكذلك إذا جرح مسلم كافراً فإنه لا قود.
قال: [ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس] .
فلا يجب إلا بما يوجب القود في النفس وهو العمد فلو قطع يد إنسان خطأً أو جرحه خطأً فلا قود.
إذن مسائل الجراح ومسائل الأطراف مبنية على مسائل النفس.
قال تعالى: ((وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص)) .
قال: [وهو نوعان] .
أحدهما في الطرف، والثاني: في الجراح.
قال: [أحدهما: في الطرف فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن والجفن] .
الجَفن: هو غطاء العين الأعلى أو الأسفل.
قال: [والشفة واليد والرجل والإصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والإلية والشغر كل واحدٍ من ذلك بمثله] .
فاليد باليد، والعين بالعين، والأنف بالأنف وهكذا.
قال: [وللقصاص في الطرف شروط، الأول: الأمن من الحيف بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه كما رن الأنف وهو مالان منه] .
هذا هو الشرط الأول: وهو الأمن من الحيف وذلك بأن يكون القطع من مفصل كأن يقطع يده من الرسغ ورجله من الكعب أو الركبة.
فإنه يثبت به القود وذلك لأمن من الحيف ومثل ذلك: إذا كان له حد ينتهي إليه، كما رن الأنف فإن له حداً ينتهي إليه وهو القصبة.
أما مثلاً: الجائفة وهو الجرح يكون في البطن ونحوه فلا حد ينتهي إليه فلا قود فيه.
فإذا كان القطع ليس من مفصل كأن يقطع يد إنسان من منتصف الذراع أو منتصف الساق، فظاهر كلام المؤلف ألا قود مطلقاً وهو مذهب الجمهور وذلك لأن القطع ليس من مفصل.
القول الثاني في المسألة: وهو قول في مذهب الإمام أحمد ثبوت القصاص من المفصل الذي دونه.
فإذا قطع من منتصف الذراع فله أن يقتص من مفصل الكف.


وذلك لأنه اقتصر بما دونه فلم يكن منه حيف ولا ظلم فهو اقتصر على بعض حقه فلم يكن ظالماً، وهذا هو الراجح في المسألة وهو مذهب الشافعية.
وهل له أرش على الزائد أم لا؟
قولان في مذهب الإمام أحمد: أصحهما ثبوت الأرش له وذلك لتعذر الاستيفاء فإذا تعذر الاستيفاء وجب الأرش، إذن الصحيح أنه إذا كان القطع من غير مفصل فله القود من المفصل الذي دونه، وله في أصح القولين الأرش أي الارش الذي يكون مقابلاً لهذا القطع من طرفه.
قال: [الثاني: المماثلة في الاسم والموضع: فلا تؤخذ يمين بيسار ولا خنصر ببنصر ولا أصلي بزائدٍ ولا عكسه] .
الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع.
فلا تؤخذ يدُ برجل، ولا رجل بيد، ولا أنف بعين وهكذا، كذلك لا تؤخذ يمين بيسار، ولا خنصر ببنصر، ولا أصلي بزائد، فلو قطع إصبعاً زائدة، فإنه لا تقطع من الجاني اصبع أصلية وذلك لعدم المماثلة.
قال: [ولو تراضيا لم يجز] .
فإذا قال الجاني: أنا أرضى أن تؤخذ يدي اليمنى بيده اليسرى لم يجز ذلك.
وذلك لأن الدماء لا تستباح بالإباحة والبذل، ولأنه لا يجوز له أن يتصرف في بدنه بما لم يأذن له به الله عز وجل.
قال: [الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال، فلا تؤخذ صحيحة بشلاء] .
الشرط الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال، فلو أن رجلاً قطع يد رجلٍ شلاء فإنه لا تقطع يده السليمة بالشلاء وذلك لعدم الاستواء.

قال: [ولا كاملة الأصابع بناقصة] .
إذا قطع يد رجلٍ أصابعها ناقصة، وأصابع يده، أي الجاني كاملة فلا تقطع يده الكاملة الأصابع بيد الآخر ناقصة الأصابع وذلك لعدم استوائهما في الكمال.
قال: [ولا عين صحيحة بقائمة] .
العين القائمة: هي العين التي يكون بياضها وسوادها صافيين لكنها لا تبصر، أي من رآها يظن أن صاحبها يبصر وهو لا يبصر.
فلو ضرب عين القائمة فأتلفها، فلا تؤخذ عينه الصحيحة.
قال: [ويؤخذ عكسه ولا أرش] .


فيؤخذ اليد الشلاء باليد الصحيحة فلو أن رجلاً قطع يد آخر اليمنى وكانت صحيحة، ويده اليمنى شلاء فتقطع ولا أرش، لإستوائهما في الخلقة إنما النقص في الصفة هذا هو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب: ثبوت الأرش وهو الصحيح وذلك لعدم استوائهما، فإن الصفة إذا نقصت فهذا عيب ونقص، فكونها شلاء هذا عيب فلا يساوي اليد الصحيحة.
"فصل"
[النوع الثاني: الجراح فيقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم كالموضحة] .
قال تعالى: ((والجروح قصاص)) .
فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم كالموضحة، والموضحة: هي الشجة تكون في الرأس أو الوجه أو اليد تنتهي إلى العظم فتوضحه لكنها لا تهشمه فإذا هشمته فإنها تسمى الهاشمة.
قال: [وجرح العضد والساق والفخذ والقدم] .
فالجرح في العضد والساق والفخذ والقدم يثبت فيها القود لأنها تنتهي إلى عظم، فيؤمن حينئذ الحيف.
قال: [ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجراح غير كسر سن] .
غير الموضحة وجرح العضد والساق والفخذ والقدم فإنه لا يقتص فيه وذلك لعدم أمن الحيف، إلا السن فإنها تثبت القصاص فيها لأنها يمكن أن تبرد.
قال: [إلا أن يكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص موضحة وله أرش الزائد] .
إذا كان الجرح أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة.
الهاشمة: وهي التي تهشم العظم.
والمنقلة: وهي التي تضرب العظم حتى تنقله من مكانه.
والمأمومة: وهي التي تصل إلى جلد الدماغ.
فإذا كانت أعظم من الموضحة فله أن يقتص موضحه وله أرش الزائد.
فلو أن رجلاً خرج في رأسه هاشمة، والهاشمة ديتها عشر من الإبل، والموضحة ديتها خمس من الإبل فالهاشمة لا يمكن ثبوت القصاص فيها لعدم أمن الحيف، فإن العظم إذا هشم قد يهشم أكثر من هشم الأول.
لكن له أن يقتص موضحة فيشج رأسه حتى يصل العظم، وله إرش الزائد وهو الفرق بين دية الموضحة ودية الهاشمة.
قال: [وإذا قطع جماعة طرفاً، أو جرحوا جرحاً يوجب القود فعليهم القود] .


كمسألة: قتل الجماعة بالواحد.
فإذا قطع جماعة طرفاً أو جرحاً يوجب القود فعليهم جميعاً القود بالشرط المتقدم في قتل الجماعة.
وقد ثبت في صحيح البخاري: أن رجلين شهدا عند علي بن أبي طالب، أن رجلاً قد سرق فقطع يده، ثم جاءاه وقالا: هو السارق وأخطأنا بالأول: فردّ رضي الله عنه شهادتهما على الثاني وغرّمهما دية الأول وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما) .
فإذا اجتمع جماعة على قطع أو جرح فالقود عليهم جميعاً كأن يضعوا حدية على مفصل ثم يجتمعون عليها حتى يقطعوا اليد أو الرجل، أو يتواطؤا على ذلك كما تقدم تقريره على قتل الجماعة بالواحد.
قال: [وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها] .
إذا سرت الجناية فإنها مضمونة.
فلو قطع رجل إصبع آخر ثم سرت الجناية إلى الإصبع الأخرى فالقود للأصبعين.
أو قطع إصبعه فسرت الجناية لليد كلها كأن تنزف اليد حتى شُلت فيكون القود في اليد كلها.
وذلك لأن السراية من أثر الجناية فكانت مضمونة كالجناية.
قال: [وسراية القود مهدورة] .
رجل قطع يد آخر فقطعت يده فلما قطعت يده سرت الجناية إلى نفسه حتى مات بسبب قطع يده فلا ضمان وذلك لأنه لا تعدى.
هذا حيث لم يكن هناك إسراف.
لكن لو كان ذلك من برد شديد أو حر شديد أو كان مريضاً لا يتحمل قطع اليد فقطعت يده، فحينئذ السراية مضمونة.
وكذلك لو قطعه بآلة كالة أو مسمومة فحينئذ يكون الضمان لوجود التعدي.
أما إذا لم يكن هناك تعدٍ فلا ضمان لأن ما ترتب على الفعل المأذون فيه فليس بمضمون.
قال: [ولا يقتص من عضو وجرح قبل برئه كما لا تطلب له دية] .
فلو أن رجلاً قطعت كفه، ومازال الجرح فإنه لا قصاص ولا دية حتى يبرأ الجرح وذلك لاحتمال السراية فإنه يحتمل أن تسري الجناية إلى عضو آخر.
فإن تعجل واقتص من الجاني فسرت الجناية بعد ذلك فلا شيء في ذلك وهي هدر، وذلك لأنه قد استعجل حقه ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.


وإذا قلعت له سن أو أزيلت له منفعة ونحو ذلك فإنه لا يستعجل لا بالقصاص ولا بالدية حتى ينظر وقتاً يمكن أن تعود فيه فالسن إذا كانت مما يرجى عودها أو المنفعة إذا كانت مما يرجى عودها فلا قصاص ولا دية ويضرب الخبير يمكن أن تعود فيها هذه المنفعة أو تعود فيها هذه السن وحينئذ لا دية ولا قصاص وإنما فيه تعزير.
مسألة:
اختار شيخ الإسلام وابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول ابن المنذر وهو قول جماعة من أهل الحديث خلافاً لجمهور العلماء ثبوت القصاص في اللطمة والعصا والمال ونحو ذلك فإذا أتلف ماله فله أن يقتص بإتلاف المال وإذا هرب بالعصا فله أن يحرق سيارته المماثلة لها وذلك لحصول التشفي وهو مقصود.
وقال الجمهور: ليس له ذلك، لعدم المماثلة في الغالب فقد تكون العصا أشد من العصا، وقد تكون اللطمة أشد من اللطمة ونحو ذلك.
والصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ومن وافقه في هذه المسألة وذلك لقوله تعالى: ((وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرُ للصابرين)) .
وقوله: ((فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)) .
وروى البخاري في صحيحه: "أن عمر رضي الله عنه أقاد من الدّر وأن علياً أقاد من ثلاثة أسواط".
وهذا هو القول الراجح، لقوة أدلته، وأما الجواب عما استدل به الجمهور: من أن المماثلة لا تثبت غالباً.
فالجواب: أن العدل مطلوب بحسب الإمكان ثم إن الجمهور يوجبون التعزير وهو أبعد مماثلة، فكوننا عندما يضرب رجل رجلاً سوطاً نسجنه يوماً فإن سجن يوم أبعد مماثلة من ضربه بعصا.
أما إذا ضرب بعصا وإن كنا نحتمل احتمالاً كبير أن يختلف قدر الضربة لكنهما متقاربان.
فإن قيل: إن في إتلاف المال إفساداً.
فالجواب: أن إفساد المال ليس بأعظم من إفساد الأطراف ومن الجراح ومن قتل النفس، فإن الرجل تقطع يده إذا قطع يد الآخر ويده أعظم من ماله.
وهذا كله لمصلحة التشفي وإزالة الغيظ من المجني عليه.


فإذا اتلف ماله فله أن يتلف ماله المماثل به، وله أن يأخذ قيمة ماله، فهو مخير بين الأمرين.

" كتاب الديات"

الديات: جمع دية وهي المال المؤدي إلى المجني عليه أو أوليائه بسبب الجناية.
"المؤدي إلى المجني عليه" هذا إذا كانت الجناية فيما دون النفس كأن يقطع له طرف، فدية هذا الطرف تدفع إلى هذا المجني عليه.
" أو أوليائه" إذا كانت الجناية في النفس، فإذا قُتل فديته إلى أوليائه.

قال رحمه الله: [كل من أتلف إنساناً] .
أي معصوماً.
قال: [بمباشرة أو سبب لزمته الدية] .
بمباشرة كأن يضربه بالسيف فيقتله.
أو سبب: كأن يلقيه إلى سبع فيأكله، فكل من أتلف إنساناً معصوماً بمباشرة أو سبب لزمته دية.
لقوله تعالى: ((وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله)) .
قال: [فإن كانت عمداً محضاً ففي مال الجاني حالة] .
فإذا كانت الجناية عمداً سواء كانت في النفس أو فيما دون النفس فالدية في مال الجاني بالإجماع، لقوله تعالى: ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)) .
ولما ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده) .
والأصل في ضمان المتلفات أنها تجب على المتلف نفسه.
قال: [وشبه العمد والخطأ على عاقتله] .
فجناية شبه العمد الدية فيها تكون على العاقلة عند جمهور العلماء، ودليل ما تقدم ما ثبت في الصحيحن أن امرأتين من هذيل ضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على العاقلة) .
وهو قتل شبه عمدٍ، وقد أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدية على العاقلة، ودية جناية الخطأ على العاقلة وهو من باب أولى، فالشرع قد دل على أن دية شبه العمد تجب على العاقلة من باب التخفيف على القاتل مع كونه قد جنى لكن جنايته لم يكن مقصوداً منها القتل.


فإذا ثبت هذا في شبه العمد فأولى من ذلك أن يثبت في الخطأ وهذا بإجماع العلماء كما حكى ذلك ابن المنذر.
وقد قال المؤلف قبل ذلك في جناية العمد: [حالةً] ففي جناية العمد تجب الدية في مال الجاني حالة غير مؤجلة، فليس للقاضي أن يؤجلها، وذلك لأن هذا هو الأصل في المتلفات، وإن ضمانها يجب حالاً، ولا دليل يدل على جواز تأجيله.
وأما دية جناية شبه العمد والخطأ، فإنها تؤجل على ثلاث سنين، وقد استدل أهل العلم على هذا بأثرين، الأثر الأول: عن عمر والأثر الثاني عن علي رضي الله عنهما، رواهما البيهقي في سننه.
قالوا: ولا يعلم لهما مخالف.
وهذا لو صح الأثران، لكن الأثرين في إسنادهما ضعف فحديث عمر إسناده ضعيف، وحديث على إسناده منقطع.
لكن الاختلاف بين أهل العلم، ذلك فقد اتفق العلماء على التأجيل في جناية شبه العمد والخطأ، والنظر يدل على ذلك، وذلك لأن دية شبه العمد ودية الخطأ مخففة لكونها تجب على العاقلة ولا يجب على الجاني فناسب التخفيف.
وهذا التأجيل حيث لم ير الإمام أو القاضي المصلحة في الحلول، أما لو رأى الإمام أن المصلحة في كونها حالةً فله ذلك كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، كأن يكون المجني عليه أو أولياؤه فقراء وأولياء الجاني أغنياء يحتاجون إلى التأجيل، فإنه يجعلها حالةً بناءً على الأصل.
وهذا الحكم ثابت في دية الكتابي كما هو ثابت في دية المسلم لأن دية الكتابي تجب في قتل النفس فاشبهت دية المسلم التي تجب في قتل النفس فهما نظيران، وهذا أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد "أي ثبوت ذلك في دية الكتابي".
إذن: دية الخطأ وشبه العمد تجب مؤجلة على ثلاث سنين ويكون ذلك في آخر الحول.


وتكون بداية الحول من حين الوجوب، فإذا كان قتل نفس فوقت الوجوب الموت فإذا مات في أول شهر محرم فإنها تجب في نهاية هذا الحول وهو نهاية شهر ذي الحجة لأنه بذلك يتم الحول فيجب الثلث، فإذا أتى نفس الوقت من السنة الثانية وجب الثلث الثاني ثم كذلك في الثلث الأخير.
وأما إذا كان فيما دون النفس، فإذا كان الجرح قد أندمل بلا سراية فوقت الوجوب من حين القطع وإذا أندمل بعد السراية فوقت الوجوب من حين الاندمال، فإذا قطع إصبعه فسرت الجناية إلى بقية الأصابع ثم اندمل الجرح فوقت وجوب الدية من حين الاندمال.
قال: [وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية أو أصابته صاعقة إلى أن قال:.. وجبت الدية فيهما] .
إذا غصب حراً ولم يقل عبداً، وذلك لأن العبد مال والمال لا تجب له الدية وإنما تجب القيمة.
فإذا غصب حراً صغيراً فحبسه فنهشته حية فمات أو أصابته صاعقة في الموضع الذي حبس فيه فمات فتجب الدية على الغاصب.
وهكذا في كل ما يتعلق بالمحل الذي حُبس فيه، كأن يقع السقف أو يصاب بوباء، أو نحو ذلك فتجب عليه الدية، وذلك لأنه هو المتسبب في قتله.
[أو مات بمرض] .
إذا حبس حراً صغيراً في غرفة أو دار أو في موضع ما فأصيب بمرض لا دخل للغاصب به من حيث الحبس فمات فيه، فإن الغاصب تجب عليه الدية.
قالوا: لأن يده يد غاصبة فقد تلف هذا الحر الصغير في يده، ويده يدُ غاصبة، وهذا قول في المذهب
والمشهور في المذهب خلاف هذا وأنه ليس فيه الدية وهو الراجح.
وذلك لأن هذا الحر الصغير ليس بمال وعليه فلا يدخل تحت اليد، فكونه يتلف تحت هذه اليد الغاصبة لا يعني شيئاً ما دام أن هذه اليد لم تعتد عليه وذلك لأنه ليس بمال.
قال: [أو غل حراً مكلفاً وقيّده فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية فيهما] .


إذا غلَّ حراً مكلفاً في عنقه وفي يده، وقيّده برجليه فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية، وكذلك لو قيّده في رجليه من غير أن يغُله لأنه إذا قيده في رجليه فإنه لا يستطيع الهرب من الصاعقة أو الحية بخلاف ما إذا غّله في عنقه أو يده فإنه يتمكن من الهروب من الموضع الذي أصابته الصاعقة فيه أو نهشته الحية فيه وكان ذلك بسبب هذا الحابس.
فإذا غله في يده في دار تحتاج إلى أن يفتح الباب فإن الحكم كذلك، بخلاف ما لو كان في فضاء وغلت يده فإنه يمكنه الهروب.
فتجب عليه الدية لأنه هو المتسبب في قتله والمتسبب تجب عليه الدية كما تقدم.
" فصل"
قال رحمه الله: [وإذا أدب الرجل ولده، أو سلطان رعيته أو معلم صبية ولم يسرف لم يضمن ما تلف به] .
إذا أدب رجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلم كمعلم القرآن صبيه ولم يسرف، لا في العدد ولا في الشدة ولم يكن هذا المؤدّب ليس محلاً للتأديب كمن لا يعقل كالصبي غير المميز أو غير العاقل، فإنه لا يضمن ما تلف به حتى لو مات المؤدّب.
وذلك لأن هذا الفعل مأذون فيه شرعاً، وما ترتب على المأذون فيه فليس بمضمون كالحد، فكما أن الحاكم لو ضرب الزاني مائة سوط فمات بذلك فلا ضمان لأنه فعل مأذون فيه شرعاً فكذلك هنا.
قال: [ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمنه المؤدب] .
فإذا كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً فإنه يضمنه المؤدّب لأنه هلك بسببه، فالإذن وارد في المرأة وأما الصبي فإن هذا التلف قد حصل بسبب المؤدب ولم يؤذن له في ذلك، وإن لم يكن هذا من فعله بل كان خطئاً لأن الخطأ من أنواع الجناية كما تقدم فلا إثم عليه لكن فيه الضمان.
قال: [وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى أو استدعى عليها رجل بالشرط في دعوى له فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي] .


إذا طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى كحدّ أي تكون متهمة بالزنا ونحوه أو تعزير أو غيره كحقِ آدمي فأسقطت ضمنه السلطان أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له ولو كان ذلك عن طريق القاضي فأسقطت ضمنه المستعدي.
وذلك لأن الهلاك بسبب فعلهما، وفي مصنف عبد الرزاق: أن امرأة كان يدخل عليها رجل فأرسل إليها عمر ففزعت فأسقطت فاستشار الصحابة فمنهم من قال لا شي عليك، وقال علي أما الإثم فنعم وأما الضمان فعليك فقضى بذلك عمر، وإسناده ضعيف ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة.
قال: [ولو ماتت فزعاً لم يضمنا] .
فإذا طلب السلطان امرأة أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له فماتت فزعاً لم يضمنا، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وقول في المذهب وهو مذهب الشافعية وممن اختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعيد.
القول الثاني وهو المشهور في المذهب أن عليهما الضمان.
قالوا: لأن الهلاك بسببهما، أي بسبب السلطان في المسألة الأولى وبسبب المستعدي في المسألة الثانية.
وحجة أهل القول الأول في أنه لا ضمان عليهما، أنه فعل مأذون فيه شرعاً، فالقاضي قد فعل ما هو مأذون فيه شرعاً من طلب المرأة لكشف حق الله تعالى.
والمستعدي مأذون له في ذلك شرعاً، إن قد فعل ما هو مأذون له فيه وما ترتب على المأذون فهو ليس بمضمون وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
وعليه: لو لم يكن مأذوناً له في ذلك بل كان متعدياً فحينئذ عليه الضمان.
فلو طلبها السلطان على وجه التعدي فلم يتحر ولم يتثبت بل تعجّل في طلبها وفرّط في التثبت في ذلك فعليه الضمان والمستعدي إذا كان ظالماً لها فليس عليها حق له، فإن الضمان يثبت وذلك لأن هذا الفعل ليس بمأذون فيه.
قال: [ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه ولو أن الآمر سلطان] .
إذا أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك هذا المكلف فإنه لا يضمنه.


وذلك: لأنه لم يكرهه فلم يكن سبباً في إهلاكه، ولو كان الآمر سلطاناً لأنه لم يكرهه ولم يحصل منه تعدٍ.
قال: [كما لو استأجره سلطان أو غيره] .
فإذا استأجر سلطان أو غيره لحفر بئرٍ، أو صعد شجرة فهلك فإنه لا يضمن، فكذلك إذا أمره بالاستئجار على غير وجه الإكراه، ففي كلا المسألتين لا يضمن لأنه لم يتعّد.
وفي قوله: " ومن أمر شخصاً مكلفا" يدل على أنه لو كان المأمور غير مكلفٍ فإن عليه الضمان.
والذي يتبيّن أن هذا ليس على الإطلاق بل متى ما كان على وجه التعدي.
فلو أمره أن ينزل بئراً، ولم يكن هذا الصبي ممن يحسن ذلك فإنه حينئذ يكون عليه الضمان لتعديه.
وأما لو أمره بما يحسنه بأن يرسله في حاجة أو نحو ذلك فيحصل له هلاك ولا يكون في ذلك شيء من التعدي فالذي يرجح ألاّ ضمان عليه.

" باب مقادير ديات النفس ".

قال رحمه الله: [دية الحر المسلم مائة بعير أو ألف مثقال ذهباً أو اثنا عشر ألف درهم فضه أو مائتا بقرة أو ألفا شاه] .
وفي الحُلّة روايتان:
الرواية الأولى: وهي المشهور: أنها ليست من أصول الدية.
الرواية الثانية: أنها من أصول الدية، وفي ذلك مائتا حُلةً.
هذه هي أصول الدية في المشهور من المذهب وهي خمس، الأصل الأول، الإبل، والثاني: الذهب، والثالث: الفضة، والرابع: البقر، والخامس: الغنم.
قال: [فهذه أصول الدية فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله] .
فإذا أعطاه مائتي بقرة فإنه يجب عليه أن يقبل، أو أعطاه ألفي شاه، فيجب عليه أن يقبل وهكذا.
واستدلوا: بما روى أهل السنن عن ابن عباس: "أن رجلاً قتل فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن ديته اثنا عشر ألفاً"?هذا في الفضة.
وفي الذهب: بما روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (وعلى أهل الذهب ألف دينار) من حديث عمرو بن حزم.


واستدلوا: على أن البقر والشياه أصل بما روى أبو داود من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قضى في الإبل مائة من الإبل وفي البقر مائتين من البقر، وفي الشياة ألفي شاه وفي الحلل مائتي حٌلة. هذه أدلة هذه الأصول.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية والمالكية وراية عن أحمد، وعليه أئمة الدعوة، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أن الإبل هي الأصل وأن غيرها بدل عنها، فعلى ذلك، تقوم الإبل في كل عصر، فننظر كم تساوي من البقر وكم تساوي من الشياه وكم تساوي من الذهب وكم تساوي من الفضة فتعطى كذلك.
ودليل هذا القول: ما ثبت في سنن أبي?داود بإسناد جيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "كانت قيمة الدية على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، وكانت دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين، حتى كان استخلاف عمر بن الخطاب فقام فقال: ألا إن الإبل قد غلت ففرضها في الذهب ألف دينار وفي?الورق اثنا عشر ألفاً وفي البقر مائتي بقرة وفي الشياه ألفي شاة وفي الحلل مائتي حلة ولم يزد في دية أهل الكتاب" وهذا ما يدل على أن الإبل هي الأصل، ووجه الدلالة، أن عمر فعله بمحضر من الصحابة، ويدل على هذا أيضاً: أن الدية في الإبل تتغلظ ولا يكون هذا في غير الإبل فدلّ على أنها هي الأصل، كما أنها أي الإبل: هي دية الأطراف ونحوها كما سيأتي تقريره، وهذا القول هو الراجح.
وأما الأدلة التي استدل بها أهل القول الأول فهي أدلة ضعيفة.
فحديث ابن عباس، الصواب أنه مرسل.
وحديث عمرو بن حزم: كذلك.
وحديث جابر: فيه عنعنة محمد بن إسحاق.
والصحيح أن الإبل هي الأصل، وعليه العمل في المحاكم عندنا وهو الذي عمل به أئمة الدعوة النجدية
وعليه: فقوله: " فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله" هذا ينبني على هذا القول أي قول الحنابلة وتقدم أنه قول مرجوح.
وعلى الراجح: لا يلزمه القبول.


وهل يشترط أن تكون الإبل من جنس إبله، أي إبل الغارم الذي وجبت عليه الدية، أم لا يشترط ذلك؟
قولان لأهل العلم هما وجهان في مذهب الإمام أحمد.
والراجح أن ذلك لا يجب لإطلاقات النصوص، كقوله- صلى الله عليه وسلم -?وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل" رواه النسائي وهو حديث حسن، وغير ذلك من الأحاديث التي سيأتي ذكرها.
فإن قيل: إنها تقاس على الزكاة، فكما أن الزكاة يجب عليه أن يخرجها من ماله فكذلك في الدية؟
والجواب: أن بينهما فارقاً، فإن الزكاة تجب من باب المواساة وأما الدية فإنها تجب من باب الجبر فهي تجبر هذا المتلف من نفسٍ أو طرف أو جرح.
قال: [ففي قتل العمد وشبه، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقه، وخمس وعشرون جذعة]
?هذه هي دية العمد وشبه العمد وهي دية مغلظة، تجب أرباعات هذا هو المشهور في المذهب.
واستدلوا: بحديث ذكروه عن السائب بن يزيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (الدية أرباعاً ثم ذكره) .
?والحديث ليس مشهوراً في شيء من كتب السنة، فيما رأيت، وذكره السيوطي في جمع الجوامع وضعّفه.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية، أنها تجب ثلاثون حقه، وثلاثون جذعة وأربعون خلقه في بطونها أولادها.
وهذا هو القول الراجح، لما روى أبو داود، والترمذي والحديث حسن أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قال: (الدية ثلاثون حقه وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها" ويدل عليه ما تقدم في حديث سابق: "ألا إن دية مثل الخطأ شبه العمد مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها".
وتغلظّ الدية، في أربعة مواضع: 1) في الحرم. 2) أو في الأشهر الحرم. 3) أو كانت من محرم في المشهور من المذهب. 4) وقال بعض الحنابلة: إذا قتل ذا محرم فإنها تُغلّظ ودليل ذلك: ما ثبت في مصنف ابن أبي شيبه بإسناد صحيح أن عثمان قضى في امرأة قتلت في الحرم بديةٍ وثلث الدية" ولا يعلم لعثمان مخالف في هذه المسألة.


قال: [وفي الخطأ تجب أخماساً: ثمانون من الأربعة المذكورة، وعشرون من بني مخاض] .
???فدية الخطأ تجب أخماساً ثمانون من الأربعة، أي عشرون من بني مخاض، وعشرون بنت لبون وعشرون حقه وعشرون جذعة وعشرون من بنت مخاض، وهي دية مخففة.
هذا هو المشهور في المذهب.
واستدلوا بما ورد عن ابن مسعود مرفوعاً أن في دية الخطأ ما ورد هنا وأنها تجب أخماساً، رواه الدارقطني.
وقال الشافعية: تجب أخماساً ثمانون من الأربعة المتقدمة وعشرون من بنت لبون.
واستدلوا: ببعض روايات ابن مسعود، وهي عند أهل السنن.
لكن الحديث ضعيف بروايتيه.
والصواب أنه من قول ابن مسعود كما في مصنف ابن أبي شيبه بإسناد صحيح.
وورد في سنن أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قضى أن من قتل خطأً فديته ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقه وعشرة من بني لبون، والحديث إسناده جيد، وبه قال طاووس من التابعين.
وقول ابن مسعود المتقدم، مخالف بقول عثمان وزيد بن ثابت كما في سنن أبي داود، أنهما قالا: إن دية الخطأ عشرون بنت مخاض، وعشرون بني لبون وثلاثون من بنات لبون وثلاثون حقه.
والأقوى ما ذهب إليه طاووس لقوة الحديث، إلا أن يقال: ما قاله ابن القيم في تهذيب السنن من أن هذه الآثار تدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?لم يقدر قدراً محدوداً وفي هذا قوة مع ما فيه من معارضة الأثر عن الصحابة لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -?
لكن يمكن أن يحمل قول النبي- صلى الله عليه وسلم -?على عدم الإلزام بالتحديد وأنه من التحديد.
ويعمل حينئذ بإطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -?في النفس المؤمنة مائة من الإبل.
إذن: أقوى هذه الأقوال ما ذهب إليه طاووس وفيما ذكره ابن القيم قوة وهو أن يقال يجب عليه مائة من الإبل والأمر في ذلك واسع، وهذا يناسب ما في دية قتل الخطأ من التخفيف.
قال: [ولا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة] .


فلا تعتبر القيمة فيما تقدم ذكره بل السلامة.
فقد تقدم أن قيمة الإبل في المذهب اثنا عشر ألف درهم قيمة البعير الواحد مائة وعشرون درهماً.
فهل نقول: الواجب أن نشتري البعير بمائة وعشرين درهماً وإن كان البعير يفقد شيئاً من شروط السلامة أم لا بدّ وأن تتوفر فيه شروط السلامة سواء كان مساوياً هذا القدر أم كان أكثر منه؟
الجواب: هو الثاني وأنه لا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة خلافاً لأبي الخطاب من الحنابلة.
فقوله: أي أبي الخطاب، ضعيف لأنه يخالف إطلاقات النصوص فظاهر إطلاقات النصوص أن الواجب أن الإبل السلامة وعليه فإنه لابد وأن تكون الدية مائة من الإبل تتوفر فيه شروط السلامة وإن كانت قيمة البعير أكثر من مائة وعشرين درهماً.
قال رحمه الله تعالى: [ودية الكتابي نصف دية المسلم] .
الكتابي: هو اليهودي والنصراني والمقصود بديته هنا أي إن كان معاهد أو مستأمناً أو ذمياً.
فدية الكتابي نصف دية المسلم.
دليل ذلك: ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي- صلى الله عليه وسلم -??عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين?، والعقل: الدية والحديث حسن.
??وذهب الأحناف إلى أن دية الكتابي كدية المسلم.
واستدلوا: بقوله تعالى: ((وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله)) .
???وبما صح عن عمر كما في مصنف عبد الرزاق: "أنه قضى على رجل مسلم قتل يهودياً من أهل الشام بألف دينار".
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول للحديث المتقدم وأما قول عمر فهو قول صاحب لا يخالف به ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم -?هذا لو كان صريحاً في المخالفة، مع أن الذي يظهر أن عمر إنما قضى بذلك من باب تغليظ الدية كما هو المشهور في مذهب أحمد خلافاً للجمهور وأن دية الكتابي تغلظ فتكون كدية المسلم إذا كان القتل عمداً، وفي ذلك أثر عن عثمان: أنه قضى على رجل مسلم قتل ذمياً عمداً بمثل دية المسلم وهو أثر صحيح.


فدل هذا على أن الدية تغلظ عن النصف إلى الكل وذلك حيث كان القتل عمداً.
وعلى ذلك فإذا قتل المسلم ذمياً خطأً فعليه نصف الدية وقد تقدم أن دية المسلم اثنا عشر ألف وعليه فدية الكتابي ستة آلاف درهم.
قال: [ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم] .
???المجوسي هو الذي لا كتاب له.
والوثني عابد الأوثان.
ديتهما ثمانمائة درهم.
وقد تقدم أن مائتي درهم تساوي ستاً وخمسين ريالاً سعودياً فنتيجة ذلك أن يكون دية المجوسي والوثني مائتان وأربع وعشرون ريالاً سعودياً.
والريال السعودي يساوي نحو ثمانية أريل، فعلى ذلك تكون ديته نحو ألفين أو ثلاثة آلاف ريال.
وهذا حقه، لأنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وليس من أهل الكتاب.
هذا هو قضاء عمر وعلي وابن مسعود ولا يعلم لعمر من الصحابة مخالف.
قال: [ونساؤهم على النصف] .
????نساء أهل الذمة على النصف منهم، فديتهم ثلاثة آلاف درهم.
ونساء المجوس ونحوهم فديتهن أربعمائة درهم.
ولا يظهر أنها تقوم بالإبل، لأنا لو قومناها بالإبل فإنها تساوي نحو سبع من الإبل، والسبع من الإبل تختلف قيمتها بالدراهم من زمن إلى زمن.
لكن الأثر فيه تقويم بالدراهم ولا يظهر تقويمها بالإبل أو غيرها.
قال: [كالمسلمين] .
???فقاس رحمه الله نساء أهل الذمة ونساء المجوس في كونهن على النصف من ذكورهم، قاس ذلك على نساء المسلمين فنساء المسلمين على النصف من ذكورهم.
ودليل ذلك: ما روى النسائي عن عمرو بن حزم أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قال: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها".
وله شاهد مرسل عن سعيد بن المسيب كما في موطأ مالك وله شاهد موقوف صحيح عن عمر بن الخطاب كما في مصنف ابن أبي شيبه.
وشاهد عن علي وابن مسعود، كما في سنن البيهقي فدية المرأة المسلمة على النصف من دية الرجل.
أما دية الأطراف والجراح بالنسبة للمرأة فكما تقدم في الأثر السابق، ديتها كدية المسلم حتى تبلغ الثلث من ديتها.


فالإصبع في الرجل ديتها عشرة من الإبل، فهي أقل من ثلث الدية فالمرأة ديتها?كذلك.
واليد فيها خمسون من الإبل أي نصف دية، فالمرأة على النصف من ذلك فعينها خمس وعشرون من الإبل.
قال: [ودية قن قيمته] .
????القن هو الرقيق سواء كان ذكراً أو أنثى.
فديته قيمته مهما بلغت، فلو كان يساوي مائتين من الإبل فديته كذلك ولو كان يساوي عشرة من الإبل فديته كذلك.
وذلك لأن الرقيق مال متقوم.
قال: [وفي جراحه ما نقصه بعد البرء] .
???فإذا جرحه إنسان فإنه يقوم بعد البرء، فمثلاً كان يساوي قبل الجرح مائة ألف، ثم بعد الجرح أصبح لا يساوي إلا ثمانين ألفاً، فقد نقص منه عشرون ألفاً، فأرش الجناية عليه عشرون ألفاً?هذا القول هو القول الراجح في المسألة وهو قول في المذهب واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وممن اختاره الموفق ابن قدامة.
??والمشهور في المذهب أن الواجب بقسطه من القيمة فإذا قطعت يد الرقيق، فإن دية اليد من الحر نصف الدية فكذلك في العبد، فقيمته تساوي عشرة آلاف ريال فقطعت يده، فنصف العشرة آلاف هو خمسة آلاف هي دية اليد.
وهذا قول مرجوح، وذلك لأن القول الأول قد ألحق ما دون النفس بالنفس، فكما أن النفس ديتها القيمة فكذلك ما دونها لأن السبيل واحدة فهو مال.
وأما القول الثاني: فلم أرَ له دليلاً يمكن أن يستدل به.
قال: [ويجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عشر دية أمه غرةٍ] .
??يجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عشر دية أمه غرة.
والغُرة: العبد أو الأمة سمي بذلك لأنه من أنفس المال.
وفي الصحيحين في قصة المرأتين اللتين اقتتلتا ومنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم -??قضى أن دية جنينها غرة عبدُ أو أمة" فدية?الجنين عبد أو أمة.
وهنا المؤلف قال: "عشر دية أمه" وقد تقدم أن دية المسلمة خمسون من الإبل، فعشرها خمس من الإبل إذن قيمة هذا العبد أو الأمة خمس من الإبل.


فعليه أن يشتري عبداً أو أمة تساوي خمساً من الإبل وهذا القول لا خلاف بين العلماء فيه فهو اتفاق بين العلماء وذكره الموفق عن علي وزيد بن ثابت ولا يعلم لهما مخالف ولم أره بإسناد صحيح فإنه لم يعزه.
وكذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل: لم يقف على هذين الأثرين.
ولا خلاف بين العلماء في هذه المسألة لكن لم أرَ نصاً عن النبي- صلى الله عليه وسلم -?يدل على ذلك.
وإذا كانت الأم كتابية فديتها خمس وعشرون من الإبل فجب في جنينها عبد أو أمة يساويين بعيرين ونصف وهكذا.
قال: [وعشر قيمتها إن كان مملوكاً وتقدر الحرة أمة] .
????إذا كان الجنين مملوكا فإن ديته عشر قيمتها إن كانت مملوكة.
فإذا كان الجنين مملوكاً فديته عشر قيمة أمه إن كانت أمةً، أما إذا كانت أمه حرةً فإنها تقوم كما لو كانت أمةً.
فإذا كانت تساوي مثلاً مائة ألف، فدية الجنين عشرة آلاف قياساً على المسألة السابقة.
وخرّج المجد من الحنابلة قولاً آخر في هذه المسألة فقال: بل ما نقص من قيمة الأم بعد إسقاطه هو الدية.
فمثلاً: الأم وهي حامل تساوي مائة ألف، فلما أسقطته أصبحت لا تساوي إلا ثمانين ألفاً، فالدية عشرون ألفاً وهذا أقيس.
وذلك إلحاقاً بالبهيمة بجامع أن كليهما مال يباع ويشترى والرجل إذا ضرب بهيمة فأسقطت ما في بطنها فإن هذه الجناية يلزمه بها الفارق ما بين قيمة هذه البهيمة وهي حامل وقيمتها وقد أسقطت.
وأما قياسهم على المسألة السابقة: فهو قياس مع الفارق لأن هناك الجنين حر وهنا مملوك، وفارق بين الحر والمملوك، فالحر لا يقوم فليس بمال وأما المملوك فهو مال يباع ويشترى.
إذن: الراجح ما خرّجه المجد ابن تيمية في هذه المسألة وهو أن يقال: إذا سقط الجنين المملوك فإننا ننظر إلى قيمة أمّه إن كان أمةّ، أو بقدرها إن كانت حرةً ثم الفارق هو أرش الجناية، أي دية الجنين المملوك.


قال: [وإن جنى الرقيق خطأً أو عمداً، لا قود فيه، أو فيه القود واختير فيه المال أو أتلف مالاً بغير إذن سيده يعلق ذلك برقبته فيخير سيده بين الدية بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، أو يبيعه ويدفع ثمنه] .
إذا جنى رقيق خطأً أو عمداً لا قود فيه كالجائفة أو عمداً فيه قود واختار المجني عليه وأولياؤه المال.
أو أتلف العبد مالاً بغير إذن سيده، فالحكم من ذلك يتعلق برقبته، ولم نقل تعلق بذمته لأنه لا ذمة له فهو مال لا يملك.
فيخير سيده بين:
أن يفديه بأرش جنايته، فالجناية مثلاً كلفت عشرة آلاف فإن شاء دفعها أي السيد.
أو يسلمه إلى ولي الجناية، فيعطيه ولي الجناية إن شاء أن يمتلكه وإن شاء أن يبيعه.
أو يبيعه السيد ويدفع ثمنه، فإن كانت الجناية تساوي عشرة آلاف والعبد يساوي عشرة آلاف فإنه يدفع المال كله لولي الجناية.
وإن كانت الجناية تساوي خمسة آلاف، والرقيق يساوي ألفاً فإنه يدفع له القيمة وهي ألف.
وذلك لأنه متعلق بالرقبة فلا دخل للسيد بما زاد عن ذلك.
وفي قوله: [أو تلف مالاً بغير إذن سيده] .
أما إذا أتلف مالاً بإذن سيده أو أمر فإن الضمان لا يكون عليه بل على سيده، وذلك: لأنه كسوطه وعصاه، ولأنه كما لو استدان عليه.
" باب ديات الأعضاء ومنافعها "
الأعضاء: مثل العين، ومنافعها كالبصر وكذلك اللسان والذوق.
أما الأذن فليس السمع فيها بل في الدماغ، وكذلك الشم فهو ليس في الأنف بل في الدماغ هذا ما عرفه الفقهاء.
ولذا فإن في الأذن الدية وفي السمع الدية، فلو أنه جنى على أذنه وسمعه ففيه ديتان.

قال: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف واللسان والذكر ففيه دية النفس] .
فمن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف ونحوه ففيه دية النفس.


قال: [وما فيه منه شيئان كالعينين، والأذنين والشفتين واللحيين وثديي المرأة، وثندؤتي الرجل واليدين والرجلين والإليتين والأنثيين واسكتي المرأة ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها] .
فمن أتلف ما في الإنسان منه شيئان ففيهما الدية كاملة، وفي أحدهما نصفها.
ففي اليد نصف الدية، وفي كلتيهما كلها، وهكذا.
قال: [وفي المنخرين ثلثا الدية، وفي الحاجز بينهما ثلثها] .
فما كان في الجسم منه ثلاث، ففي أحدها الثلث فالأنف يتكون من منخر "على وزن مسجد" ومنخرُ آخر، والحاجز الذي بينهما، ففي كل جزء الثلث.
قال: [وفي الأجفان الأربعة الدية، وفي كل جفن ربعها] .
فما في البدن منه أربعة، ففي كل شيء من هذه الأشياء الأربعة ربع الدية، وفي الكل الدية كاملة.
كالأجفان، والجفن هو غطاء العين.
هذا هو مذهب جماهير العلماء، والآثار تدل على ذلك ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (في الأنف إذا أوعي جدعه الدية وفي العينين الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي الصلب الدية) ?والحديث من حديث عمرو بن حزم وهو مرسل، لكن عليه العمل وله شواهد.
وفي البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلاً بإسناد صحيح إلى سعيد قال: (قضت السنة في العقل أن في الصلب الدية) وهو النكاح.
??قال: [وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين وفي كل إصبع عشر الدية] .
???فما كان في البدن منه عشر، ففي كل واحد منه عشر الدية، فأصابع اليدين عشر، ففيها الدية كاملة، وفي كل إصبع عشر الدية، لا فرق بين الخنصر والإبهام.
ففي مسند أبي داود ومسند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (الأصابع سواء والأسنان سواء الضرس والثنية سواء) .
?قال: [في كل أنملة ثلث عشر الدية والإبهام مفصلان ففي كل مفصل نصف عشر الدية] .


فالإصبع فيها ثلاث أنامل، ففي كل أنملة ثلث عشر الدية، والإبهام فيه مفصلان، فإذا قطعه من مفصل ففيه نصف عشر الدية، فإذا كان مسلماً ففيه خمس من الإبل.
?فإذا زاد على الإصبع ففيه حكومة أي هذا الزائد حكومة والمراد بالحكومة، أن يقوم عبداً صحيحاً وعبداً فيه نقص والفارق بينهما هو الحكومة.
قال: [كدية السن] .
???فدية السن خمس من الإبل لا فرق بين ضرس ولا ثنية، وفي حديث عمرو بن حزم أن السن خمس من الإبل.
??وكذلك الظفر، كما صح عن ابن عباس في مصنف ابن أبي شيبه فالظفر فيه خمس من الإبل.
هذا إذا لم يرجع الظفر، أما إذا رجع فليس فيه شيء إلا أن يكون فيه شيء من التشويه فيكون فيه حكومة كما تقدم.
إذن: ما يزيد على هذه الأعضاء ففيه حكومة، فاليد إذا قطعت من الرسغ ففيها نصف الدية فإن زاد قطعت مثلاً من نصف الساعد أو من العضد ففي هذا الزائد حكومة.
الرجل إلى الكعب، فإذا زاد على الكعب ففيه حكومة كما تقدم.
"فصل"
قال: [في كل حاسة دية كاملة وهي السمع والبصر والشم والذوق] .
فإذا ضربه مع رأسه فأذهب سمعه أو بصره فإنه تجب دية كاملة.
وكذا إذا اذهب شمّه أو ذوقه.
قال: [وكذا في الكلام والعقل ومنفعة المشي والأكل والنكاح وعدم استمساك البول والغائط] .
فكلها فيها دية كاملة.
فإن جمعها ففي كل واحدة دية، ففي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، أن رجلاً ضرب رجلاً فمذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه فقضى عمر عليه بأربع ديات، وهو حي فهذه أربع ديات، للسمع دية وللبصر دية وللعقل دية وللنكاح دية.
قال: [وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية، وهي شعر الرأس واللحية، والحاجبين وأهداب العينين] .
ففي كل واحد من الشعور الدية.
فإذا اعتدى عليه فاذهب شعر رأسه والمراد حيث لم يرجع شعره، وكذلك إذا حلق لحية غيره ولم ترجع كأن يعطيه دواءً فيذهب اللحية فلا ترجع فحينئذ ففيه دية كاملة.


وكذلك في الحاجبين: في كل حاجب نصف الدية وكذلك أهداب العينين، في كل هدب ربعها، وفي العينين أربعة أهداب.
إذن هذه الشعور فيها الدية كما ذكره المؤلف هنا وهو المشهور في المذهب.
وعند ابن المنذر وضعفه أن زيد بن ثابت قال: " في الشعر الدية".
والقول الثاني في المسألة: هو مذهب الشافعية والمالكية، أنه ليس فيه دية وهو القول الراجح أما الأثر فضعيف.
وأما الدليل على هذا القول: فهو أن الأصل في مال المسلم العصمة ولا نص ولا إجماع ولا قياس يدل على ما ذكره الحنابلة.
وعليه: فلو اعتدى على لحيته أو شعر رأسه ففيه حكومة وليس فيه دية.
ولا شك أنها لا تصل إلى المنافع التي تقدم ذكرها.
فإنها أي هذه الشعور - جمال – وليست بمنفعة تشبه منفعة السمع والبصر، فلا يقال إنها تقاس على السمع والبصر
قال: [فإن عاد فنبت سقط موجبه] .
فإذا عاد الشعر فنبت سقط موجبه وهي الدية المذكورة فإن كان أخذ شيئاً من الدية فإنه يعيده.
وعليه: فإنه إذا كان يرجى عود هذا الشعر أو هذا السن، فإنه لا يعطى الدية.
قال: [وفي عين الأعور الدية كاملة] .
لأنه قد أذهب عليه حاسة البصر.
قال: [وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمداً فعليه دية كاملة ولا قصاص] .
إذا قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه عمداً.
وقال (المماثلة) لأنه لا قصاص إلا مع المماثلة فعليه دية كاملة ولا قصاص.
أما كونه لا قصاص فظاهر وذلك لأنا إذا اقتصصنا منه أذهبنا بصره كله وحينئذ فيكون في استيعاب القصاص أكبر اعتداء، فالقصاص يفضي إلى استيفاء حاسة البصر وعليه دية كاملة، تغليظاً للدية لأنه متعمد، ومع التعمد تغلّظ الدية وهو قول عمر وعثمان كما في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عنهما.
فإذا أذهب الأعور عيني الصحيح كلتيهما فما الحكم؟
الجواب: أنه يقتص منه لأنه لا جور حينئذ لأنه أذهب حاسة البصر عند الآخر.
وهل عليه دية مع القصاص؟


الجواب: ذمته نصف الدية مقابل العين الأخرى لأنه فقع عليه عينين اثنتين، وعليه فعليه مع القصاص نصف دية وأما إذا لم يقتص فعليه دية كاملة.
مسألة:
إذا أذهب بعض حاسة البصر أو بعض حاسة السمع أو نحو ذلك فما الحكم؟
له حالتان:
الحالة الأولى: أن يمكن تقدير ما ذهب كأن يعلم أنه بقي له من حاسة البصر النصف.
ففي ذلك نصف الدية كالأصابع فيما تقدم حيث قلنا إنه إذا قطع أنملة ففيه ثلث عشر الدية.
الحالة الثانية: ألا يمكن التقدير.
ففيه حكومة: أي يقوم قبل هذه الجناية ويقوم بعدها والفارق هو الإرش.
قال: [وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كغيره] .
رجل قطع يد الأقطع هل فيه دية كاملة أم لا؟
قال هنا: فيه نصف الدية وتقدم أن الأعور فيه الدية كاملة.
فمثلاً: رجل ليس له إلا يد واحدة وهي اليمنى أو اليسرى أو ليس له إلا رجل واحدة وهي اليمنى أو رجل واحدة وهي اليسرى فقطعها متعمد أو مخطئ ففي ذلك نصف الدية.
قالوا: لأن هذا العضو لا يقوم مقام اليد اليمنى، واليد اليمنى لا تقوم مقام اليد اليسرى.
بخلاف العين فإنها تقوم مقام العين الأخرى فهو يبصر فيها كما لو كانت له عينان، هذا هو الفارق بينهما وهذا القول قد يكون فيه شيء من النظر على إطلاقه.
ولذا فعن الإمام أحمد: أن فيه الدية لا سيما أقطع اليد وكذلك أقطع الرجل مع النظر الطبي فإنه يمكنه المشي حيث يوضع له شيء يتكئ عليه فيمشي، فحينئذ تقوم هذه مقام الرجل.
وهذا القول أظهر، فإن هذه اليد وإن كانت لا تغني غناء كاملاً عن الأخرى لذلك الرجل لكنها تقوم له بالمشي بمساعدة الأخرى له.
واليد ظاهر قيامها مقام الأخرى بالأكل والشرب والأخذ والإعطاء ونحو ذلك.
ولذا فالذي يرجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه أن اليد إذا قطعت من الأقطع، والرجل إذا قطعت من الأقطع فإن الدية كاملة تجب.


[كغيره] : أي كغيره من الأعضاء أو كغير الأقطع ممن له تلف في العضو الذي في الجسم منه عضوان فهو كغيره كما لو قطعت أحد أذنيه فكذلك.
مسألة:
أنه ورد في مسند أحمد وسنن أبي داود وهذا لفظ أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا جدعت أرنبته وهي طرف الأنف فنصف العقل خمسون من الإبل) .
والحديث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولم أقف على قائل بهذا إلا ما نقله الخطابي عن ابن المنذر وأنه حكى هذا القول في الاختلاف ولم يعزه إلى قائل.
وذكر الحديث ابن القيم في قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتكلم بشيء فظاهر الحديث أن في أرنبة الأنف نصف الدية وفي ذلك قوة من حيث النظر وذلك لأن الدية في الأنف لأنه جمال الأنف وفي الأرنبة أعظم جمال الوجه فلا يبعد أن يقال هذا مع صحة الحديث الوارد.
المسألة الثانية:
اليد الشلاء إذا قطعت فإن فيها حكومة، كما هو مذهب جمهور العلماء وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد.
والرواية الثانية: أن في اليد الشلاء أو في السن السوداء وفي العين القائمة السادة محلها، أن في ذلك كله ثلث ديتها فاليد الشلاء فيها ثلث دية اليد الصحيحة، وهذا هو القول الراجح، ودليله: ما ثبت في سنن أبي داود وبإسناد حسن من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في العين القائمة السادة مكانها بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السنن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها) .
"باب الشجاج وكسر العظام"
الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.
فعلى ذلك الجرح في بقية اليدين لا يسمى شجةً.
[وهي عشرة] .
فالجروح التي تكون في الرأس والوجه عشر.

[الحارصة: التي تخر من الجلد أي تشقه قليلاً ولا تدميه] .
فهي تشق الجلد قليلاً لكن لا يخرج مع ذلك دم، وهذه فيها حكومة وليس فيها دية مقدرة عن الشرع.
[ثم البازلة وهي الدامية] .


البازلة فهي دامية أي تخرج الدم وهو دم يسير لذا قال الدامية، فهي تخرج دماً يسيراً ويقال دامعة تمثيلاً بالدمع لأن الدمع يسير فكذلك هذا الدم دم يسير وليس المراد من ذلك أنها تدمع صاحبها، أي تبكيه.
[ثم الباضعة: وهي التي تبضع اللحم] .
أي تشق اللحم.
[ثم المتلاحمة: وهي الغائصة في اللحم] .
أي تدخل وتخترق اللحم.
[ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة]
فهي لم تصل إلى العظم بعد، لكنه كادت فليس بين هذا الجرح وبين هذا العظم إلا شيء يسير.
[فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة] .
فهذه الخمس لا مقدر فيها شرعا فإنه لم يثبت ذلك عن الشارع بل فيها حكومة، وسيأتي الكلام عن الحكومة.
[وفي الموضحة: وهي ما توضح العظم وتبرزه] .
الموضحة: هي ما توضح، كذا قال: والصواب ما توضح العظمة كما قال الشارح.
إذن هي جرحت وبرز العظم ولو كان البارز شيئاً بعيداً كالإبرة.
[خمسة أبعره] .
فالموضحة فيها خمسة أبعره.
ودليل ذلك ما ثبت في حديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دية الموضحة خمس من الإبل) .
وتقدم الكلام على حديث عمرو بن حزم.
[ثم الهاشمة: وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة] .
قضى بذلك زيد بن ثابت كما في مصنف عبد الرزاق فالهاشمة تبرز العظم وتهشمه.
فإذا هشمته ولم توضحه فهذه فيها حكومة.
[ثم المنقّلة "بتشديد القاف مع الكسر" وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها، وفيها خمسة عشر من الإبل] .
ودليل ذلك ما ثبت في حديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وفي المنقّلة خمسة عشر من الإبل) .
[وفي كل واحدة من المأمومة] .
المأمومة: هي التي تصل إلى أم الدماغ وليس بينها وبين أم الدماغ إلا جلده رقيقة وهي التي تحيط بالدماغ.

[والدامغة] .
فالدامغة تخترق هذه الجلدة الرقيقة التي تحيط بالدماغ.
[ثلث الدية] .
ففي المأمومة والدامغة ثلث الدية.


ودليل ذلك حديث عمرو بن حزم وفيه، (وفي المأمومة ثلث الدية) .
والدامغة لم يذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن ذلك من باب قياس الأولى فإذا ثبت هذا في المأمومة ففي الدامغة من باب أولى لأنها أشد.
وقيل بل فيها أي الدامغة: ثلث الدية مع حكومة، وهذا أظهر لأنها زائدة بسبب خرق هذا الجلد الرقيق.
[وفي الجائفة ثلث الدية، وهي التي تصل إلى باطن الجوف] .
فالجائفة هي التي تصل إلى الجوف، من البطن أو الظهر أو الحلق أو من غير ذلك، فهذه فيها ثلث الدية:
ودليل ذلك حديث عمرو بن حزم وفيه (وفي الجائفة ثلث الدية) .
فإن دخلت من موضع وخرجت من موضع آخر كالسهم يدخل من جهة ويخرج من جهة أخرى فجائفتان.
كما أنه إذا جرحه من الرأس ثم امتد هذا الجرح حتى وصل إلى الوجه ففيه موضحتان لأنهما عضوان فالرأس عضو والوجه عضو.
قال: [وفي الضِلَع وكل واحدة من الترقوتين بعير] .
الضلع: وهو ما نسميه بالضلْع وقد حكى بتسكين اللام والمشهور هو الفتح (الضلَع) .
والترقوة: هو العظم المستدير الذي يكون عند الحلق ففي كل واحد من الترقوتين وكل ضلع بعير كما صح ذلك عن عمر كما في موطأ مالك أنه قال في كل بعير وترقوة بعير.
قال: [وفي كسر الذراع وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد، والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيماً بعيران] .
فإذا كسر الذراع فجبر مستقيماً ففيه بعيران.
وإذا كسر الفخذ فجبر مستقيماً ففيه بعيران.
وإذا كسر الزند فجبر مستقيماً ففيه بعيران وكذلك في الساق.
وقد ورد عن عمر عن ابن أبي شيبه: أن في الزند بعيرين.
أما إذا جبر غير مستقيم ففيه مع البعيرين حكومة لأنه حصل عدم استقامة ففي ذلك تشويه وفي ذلك ضرر ولذا فإنا نوجب حكومة مع البعيرين.


وهنا فرق بين السن والشعر، وبين ما ذكره المؤلف هنا من كسر الذراع، والضلع ومن الجائفة ونحو ذلك، فإن من كسر عضده ثم عاد سليماً، أو أجيف ثم شفي ونحو ذلك فإن الدية ثابتة بخلاف الشعر والسن لأن السن والشعر تتجدد وهي منفصلة لذا فإنا لا نوجب دية بخلاف ما يكون من الجراح كالجائفة وبخلاف ما يكون من كسر العظام أو نحو ذلك.
أما الشعر والسن إذا عاد فإنه يسقط موجبه أما الذراع والجائفة ونحوهما فإنه إذا أعاد لا يسقط موجبه.
قال: [وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة] .
ما سوى ما ذكره المؤلف هنا في الجروح وكسر العظام ففيه حكومة لعدم التقدير الشرعي.
قال: [والحكومة: أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص عن القيمة فله مثل نسبته من الدية] .
فمثلاً قومناه عبداً لا جناية به فأصبح يساوي مائة ألف ثم قومناه عبداً فيه جناية قد برأت فأصبح يساوي بما بين ألفاً.
فالفارق عشرون ألفاً، ونسبه العشرين ألفاً إلى المائة الخمس.
وعليه فالواجب خمس الدية، فإذا كان مسلماً فعشرون من الإبل وإن كان كتابياً فعشر من الإبل.
والفائدة من النظر في النسبة هو التفريق بين الناس في الدية لأنه إذا لم تنظر إلى النسبة فالفارق عشرون ألفاً فتجب للمسلم وللمرأة وللكتابي، فلا يفرق بين هؤلاء ومن هنا فلا بد من النظر إلى النسبة.
مسألة:
إذا لم ينقص منه شيء بعد الجناية، كأن تقطع اصبعه الزائدة فما الحكم؟
أو كانت هذه الجناية زادته حسناً فما الحكم أيضاً؟
الجواب: لا شيء في ذلك لكن فيه تعزير.
فإن كان أثناء جريان الدم قد نقص لكن بعد انقطاعه لم ينقص من قيمته شيء فهل نعلق الحكم بجريان الدم؟
المشهور في المذهب نعم.
واختار الموفق أنه لا يعلق به ذلك لأن ذلك لا يثبت فهو نقص ليس بثابت.
وهذا هو الراجح في هذه المسألة.
وعليه فلا شيء في ذلك بل فيه التعزير.


قال: [كأن كان قيمته عبداً سليماً ستين، وقيمته بالجناية خمسين ففيه سدس الدية] .
لأن العشرة نسبتها إلى الستين السدس.
قال: [إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدر فلا يبلغ بها المقدر]
فمثلاً في الخارصة هذه ليست فيها تقدير شرعي فلو قومناه وبه خارصة قد برأت فأصبح يساوي ثمانين وبلا خارصة يساوي مائة، فالفارق بينهما بنسبة الخمس وخمس الدية عشرون من الإبل، إذن زادت كثيراً على الموضحة لأن الموضحة خمس من الإبل.
فلا يمكن أن يبلغ بها المقدر، لأن الشارع أثبت هذا في المقدر وهو أعلى فلا يمكن أن يثبت هذا في الأدنى فإنه أدنى منه.
كما سيأتي في باب التعزيز، فلا يمكن أن نعزر من لم يزن بأكثر من مائة جلدة، فكذلك هنا.
تقدم الكلام على ديات الشجاج وتقدم ما ذكره الحنابلة من أن في الشجاج الخمس التي دون الموضحة أن فيها حكومة.
وهذا هو مذهب أكثر الفقهاء
وقال الشافعية، وممن قرره من الفقهاء المتأخرين من الحنابلة الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، وهو نحو قول القاضي من الحنابلة.
قالوا: ينظر إلى نسبة هذه الشجة إلى الموضحة إن أمكن ذلك.
فإنه في كثير من الأحوال لا يمكن ذلك لأنا نحتاج إلى أن يكون في الرجل نفسه موضحه في الغالب حتى نقدر نسبة هذه الشجة إلى موضحته.
فإن كانت نسبة هذه الشجة إلى الموضحة الثلث ففي ذلك ثلث دية الموضحة.
أما القاضي فقال: يحكم بالأكثر منهما، فينظر هل الأكثر الحكومة أو ما ذكره الشافعية هنا ثم نحكم بالأكثر منهما.
وعن الإمام أحمد رواية وهي: أن الواجب في البازلة بعيراً والواجب في الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة، فقد قدرت هذه الأربعة ولم تقدر الشجة الأولى وهي الخارصة.
وهذا أصح الأقوال لأن فيه أثراً ثابتاً عن زيد بن ثابت رواه البيهقي وهو أثر صحيح عنه.
وقد أشار إلى ضعفه البيهقي ب"محمد بن راشد المكحولي" وهو ثقة، فتضعيف البيهقي لا وجه له.


هذا هو أصح الأقوال وأنا نقدرها بالتقدير الثابت عن زيد بن ثابت.
وأما الخارصة: فإننا نحكم بالعدل، فإن أمكنت النسبة وكانت أعدل من الحكومة فإنا نحكم بها وإلا فإنا نحكم بالحكومة.
والمقصود هو العدل في هذه الأبواب إلا أن يرد أثر فيحكم بالأثر.

(باب العاقلة وما تحمله)

العاقل: من العقل وهي الدية، وسميت الدية عقلاً لأن الإبل تعقل أي يوضع الحبل في رجلها فتربط فلما كانت الدية في الأصل هي الإبل سميت الدية عقلاً.
قال: [عاقلة الإنسان: عصبته كلهم] .
فهم عصابته الذكور كلهم وهذا بالإجماع، أما ذوو الأرحام فليسوا من العاقلة وهذا باتفاق أهل العلم.
ووجه شيخ الإسلام أن ذوي الأرحام يكونون من العاقلة إن عدمت العصبة وفيه قوة.
وهذا كما ذكر رحمه الله بناءً على القول بوجوب النفقة عليهم وتقدم تقرير وجوب النفقة عليهم.
قال: [من النسب والولاء قريبهم وبعيدهم] .
قريبهم: كالأخ.
وبعيدهم: كابن ابن ابن العم.
وكذلك الحاضر منهم والغائب، وخالف مالك في الغائب لأن التحمل بالنصرة ولأن فيه مشقة.
قال: [حتى عمودي نسبه] .
أي الآباء والأبناء، فهم من العاقلة.
وهذا هو مذهب المالكية والأحناف والمشهور في مذهب الحنابلة واستدلوا بعمومات الأدلة.
فمن ذلك ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قضى بدية المرأة على عصبة القاتلة من كانوا، ولا يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها) .
والشاهد قوله "على عصبة القاتلة" وهذا عام وغير ذلك من الأحاديث التي فيها ذكر العصبة، والآباء والأبناء من العصبة.
وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد، أن الآباء والأبناء ليسوا من العاقلة.
واستدلوا: بما روي في أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????بّرأ زوجها وولدها??أي من العقل.
وللحديث المتقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -??قال????ولا يرثون منه شيئاً إلا ما فضل?عن ورثتها?


والحديث الذي رواه أبو داود ?أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?برّأ زوجها وولدها??فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف.
وحديث عمرو بن شعيب ليس صريحاً في ذلك، فقد أوجبها على العصبة، ثم العصبة في الغالب ليسوا ممن يرث فبين النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن هذا العقل منهم لا يقتضي إرثهم إلا ما دل الدليل الشرعي على توريثه.
???والمعنى يدل على هذا: إذ لا يناسب أن توجب على الأباعد ولا تجب على الأب والإبن.
ويحتمل أن يجاب عن هذا فيقال: إنا إذا أوجبناها على الأب والابن فقد يتحملها القاتل نفسه، والمقصود منه المواساة فإذا أوجبنا على الأب فإن ذلك يشق على الابن القاتل فلم يكتمل في ذلك معنى المواساة.
وإذا أوجبناها على الابن فإن مال الابن مالُ لأبيه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -??أنت ومالك لأبيك??
والقولان متجاذبان
وقال بعض أهل العلم، وهو قول في المذهب، تجب على الجاني نفسه، فالجاني نفسه يكون له من ذلك نصيب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن?سعدي، وظاهر الحديث عدم وجوب ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أوجب ذلك على العصبة، وظاهره أنه لا يجب على القاتل شيء وقال الشيخ السعدي: أنه لا يناسب أن يوجب ذلك على العصبة ولا يجب ذلك على الجاني.
وهذا وإن كان فيه قسوة من حيث النظر لكن ظاهر الحديث يخالفه.
فالأظهر أنها تجب على العصبة، وأما وجوبها على الآباء والأبناء، فذلك موضع تردد والأصل في المال العصمة.
ولذا: فيقوى ما ذهب إليه الشافعية، فإن الأصل في المال العاصمة فقد أوجبه النبي - صلى الله عليه وسلم -?على العصبة وورد ما يقوي عدم وجوبه على الآباء والأبناء.
وحيث كان الأصل مع هذا القول ففيه قوة لأن الأصل عصمة مال الابن وعصمة مال الأب إلا أن يأتي دليل يدل على وجوب إخراج شيء من ماله، وليس عندنا دليل ظاهر في ذلك فعلى هذا يقوى ما ذهب إليه الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال: [ولا عقل على رقيق] .


فالرقيق لا عقل عليه، وذلك لأن الرقيق لا يملك فلم يكن من أهل المواساة.
قال: [وغير مكلف] .
????سواء كان مجنوناً أو صبياً، فلا يجب العقل في مالهما وذلك لأنهما ليسا من أهل النصرة وهذا هو مذهب جماهير العلماء.
قال: [ولا فقير] .
???لأن الفقير ليس من أهل المواساة فلم تجب عليه.
قال: [ولا أنثى] .
????لأنها ليست بعصبة، وقد أوجبها النبي - صلى الله عليه وسلم -?على العصبة ولأنها ليست من أهل النصرة.
قال: [ولا مخالف لدين الجاني] .
???فإذا كان الجاني مسلماً وكان من عصبته من هو يهودي أو نصراني أو العكس فلا عقل عليه وذلك لأنه ليس من أهل النصرة.
فإذا كانت العاقلة معدومة أو كانوا فقراء فيجب العقل في بيت المال لما ثبت في الصحيحين في قصة قتيل خيبر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?فداه بمائةٍ من إبل الصدقة) .
فإن لم يقم بيت المال بذلك فلم يتحمله.
سقطت في المشهور في المذهب فلا يجب لأولياء المقتول شيء وكذلك المجني عليه لا يجب عليه شيء فتسقط.
قالوا: لأنها واجبة على العاقلة، فالشارع أوجبها على العاقلة وقد عجزوا فسقطت فلا تجب على القاتل.
والقول الثاني وهو مذهب الشافعية وهو وجه ذكره بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: أنها تجب.
قالوا: لأن الأصل أن الضمان يجب عليه لأنه هو الجاني ولأن الدية قيمة متلفه وأوجبت على العاقلة تخفيضاً ومواساة، وحيث لم تكن هناك عاقلة أو عجزت العاقلة فإنا نرجع إلى الأصل فنوجبهاً على الجاني.
وقد قال تعالى: ???فدية مسلمة إلى أهله)) ?فأوجب الله الدية لهم فلا بد أن تصل إليهم سواء من طريق العاقلة أو من بيت المال أو من القاتل نفسه.
وهذا هو القول الراجح، لأن هذا قيمة متلفه والأصل في الضمان أن يكون في مال الجاني، فأوجب تخفيفاً على العاقلة فحيث لا عاقلة نعود إلى الأصل فنوجبه على الجاني.


فإذا كان الجاني كافراً فإنها تجب عليه نفسه، إن لم تكن له عاقلة في المشهور من المذهب وهو ظاهر على القول الذي تقدم ترجيحه ولا تجب في بيت المال لأن بيت المال لا يعقل عن الكفار فهو بيت مختص بالمسلمين.
والعاقلة يوجبها الحاكم ولا يشق على العصبة، فينظر إلى ما يستطيعون فيوجبها على العصبة من غير أن يشق عليهم، لأنها إنما وجبت على جهة المواساة فلم يناسب أن يجحف.
والمشهور في المذهب: أنها تجب على الأقرب فالأقرب، فإذا كان له اخوة وأعمام، فإنا نوجب الدية على أخوته ونقسمها على ثلاث سنين كما تقدم، على حسب ما يناسبهم بحيث لا نشق عليهم، ولا نوجبها على عمومته.
??قالوا: قياساً على الإرث وولاية النكاح.
وقال الأحناف: بل تجب على جميع العصبة الأقارب والأباعد ولو أمكن أن يتحملها أقاربه.
قالوا: لظاهر الحديث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أوجبها على عصبة القاتل فظاهر هذا أنها تجب على جميعهم.
وهذا هو القول الراجح لظاهر الحديث.
وأما الجواب عما ذكره الحنابلة، فإننا نقول ثمت فارق بين أولياء النكاح والإرث وبين العاقلة.
والفرق أن العاقلة من المناسب أن يتحمل ذلك الجميع لأن في ذلك مصلحة لأن في ذلك تخفيفاً.
وأما ولاية النكاح فإنه لا يناسب فيها أن يكون العصبة كلهم أولياء لأن في ذلك ضرراً في المرأة.
وفي الإرث كذلك: لأن حينئذ يكون النفع من المال قليلاً فإذا أكثرنا الورثة كان النفع قليلاً حتى أنه لا يكاد يستفيد منه الورثة.
قال: [ولا تحمل العاقلة عمداً محضاً] .
????إذا قتل عمداً، أو قطع طرفاً عمداً، أو جرح عمداً، فلا تجب على العاقلة من ذلك شيء.
يدل على هذا ما روى البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (لا تحمل العاقلة عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً?ولا ما جنى المملوك) .
وقوله: "ولا ما جنى المملوك" أي ما جني على المملوك كما فسره الأصمعي وابن أبي ليلى وأبو عبيد ولم أر مخالفاً لهذا التفسير.


والنظر يدل على هذا لأنا إنما أوجبناه على العاقلة في الخطأ وشبه العمد، تخفيفاً والمتعمد لا يناسب التخفيف عليه.
قال:???ولا عبداً] .
????إذا قتل عبداً أو جنى على عبد فإنا لا نوجب على العاقلة شيء وذلك للأثر المتقدم.
ووجهه من حيث النظر أن العبد مالُ فيجري مجرى المال، فلو تعمد الرجل فقتل بهائم أو غير متعمد فكما لو جنى على شيء من الأموال الأخرى،
وعلى ذلك فالعاقلة لا يتحمل?شيئاً بذلك فكذلك إذا جنى على العبد مخطئاً أو شبه عمد.
قال: [ولا صلحاً]
إذا ادعى على رجل أنه قتل رجلاً، وهو ينكر ذلك فقيل له، احلف، فقال: أنا لا أحلف ولكن اطلبوا ما شئتم من المال فقالوا: تريد كذا من المال، واطلبوا منه قدر الدية.
فهذا لا تتحمله العاقلة: وذلك لأنه وجب من قبل نفسه وكان يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه باليمين.
قال: [ولا اعترافاً لم تصدقه به] .
???فإذا ذهب رجل إلى القاضي واعترف أنه قتل رجلاً خطأً فتجب عليه الدية لكن العاقلة لا تتحمل ذلك إذا كانت لم تصدقه به.
لما تقدم من أثر ابن عباس.
ولأنه يمكن أن?يتواطأ على ذلك هو وأولياء المقتول يوجبون ذلك على العاقلة.
لكن: إن صدقته العاقلة بهذا الإقرار فيجب عليهم ذلك.
قال: [ولا ما دون ثلث الدية التامة] .
??الدية التامة هي دية الذكر المسلم وهي مائة من الإبل فإذا وجب عليه الدية أقل من ثلث الدية التامة فإن العاقلة لا تتحمل ذلك.
فإذا وجبت دية الموضحة أو دية المنقلة فإنها لا يتحملها العاقلة.
أما إذا وجبت عليه دية لممون فإن العاقلة يتحملها إن كانت دية مسلم ذكر.
لكن لو كانت المأمومة من كتابي أو امرأة ولو كانت مسلمة فإنها لا تتحملها العاقلة وذلك لأنها أقل من ثلث الدية?التامة.
واستدلوا: بأثر ونظر.
أما الأثر: مما ذكروه عن عمر أنه قضى بذلك.


قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل: لم أقف عليه وكذلك قال المعلقان على كتاب المغني ينظر في كتاب التكميل للشيخ صالح ولم يعزُ هذا الأثر من ذكره من الحنابلة.
وأما النظر: فقالوا: الأصل أن?المال يجب على الجاني وهذا هو قيمة متلفه، فإذا كان ثلث الدية التامة فاكثر فإنه يجب على العاقلة لأن الثلث كثير يُجحف به فقد قال- صلى الله عليه وسلم -??الثلث والثلث كثير) .
وأما إذا كان دون الثلث، فإنا نوجبه عليه هو واستثنوا من ذلك مسألة يورد دليلها عليهم وهذه المسألة: هي دية الجنين إذا مات مع أمه أو بعدها والجناية واحدة.
??واستدلوا: بالحديث المتفق عليه فإن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قد أوجب دية الجنين وهي عزة عبد أو أمة أوجبها على العاقلة وهي أقل من الثلث.
فقالوا: كان تبعاً لأمه لأن الجناية واحدة، هذا إذا كان معها أو بعدها.
وأما إذا كان قبلها فإنها تجب على الجاني نفسه.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية أن العاقلة تتحمل دية الخطأ وشبه العمد سواء كانت الثلث فأكثر أو كانت أقل من الثلث.
قالوا: لأن ما تحمل الكثير فإنه يتحمل القليل.
وهو فيما يظهر لي أقوى.
وذلك للحديث المتفق عليه أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?أوجب دية الجنين على العاقلة، وهي أقل من الثلث.
وما ذكر الحنابلة ليس بمؤثر فإنه يمكن أن تفصل، فتجعل دية الجنين عليها ودية المقتولة الأم على العاقلة.
فالأظهر أن الدية يتحملها العاقلة مطلقاً سواء كان ثلث فأكثر وكانت أقل من الثلث هذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعية.
"فصل"
????هذا الفصل في كفارة قتل الخطأ وشبه العمد
قال تعالى: ((وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلى أن قال??فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين)) .
قال رحمه الله: [ومن قتل نفساً محرمةً خطأً مباشرة?أو تسبباً بغير حق فعليه الكفارة] .


من قتل نفساً معصومة ذكراً كانت أو أنثى، حراً أو عبداً صغيراً أو كبيراً ولو جنينا مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً فيجب في ذلك الكفارة.
?قال تعالى: ((وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة)) ?
سواء كان متسبباً أو مباشراً، وسواء كان منفرداً بالجناية أو مشاركاً فتجب عليه الكفارة.
وظاهره: ولو نفسه، وهو المشهور في المذهب لعموم قوله تعالى: ???ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة????فيدخل في هذا العموم قاتل نفسه.
وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد وقول الموفق واختاره الشيخ السعدي: أن قاتل نفسه ليس عليه كفارة أي لا يخرج من ماله وهذا هو القول الراجح.
ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين، أن عامر بن الأكوع رجع عليه سبعة فقتل نفسه، فلم يوجب النبي- صلى الله عليه وسلم -?الكفارة في ماله) .
وأما الآية: فسياقها فيمن قتل غيره بدليل قوله تعالى (فدية مسلمة إلى أهله) .
والكفارة: تحرير رقبة فإن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين للآية المتقدمة.
وتقدم الكلام في باب الظهار، تقدم الكلام على تحرير الرقبة وصيام الشهرين المتتابعين.
فإن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين.
فالمشهور في المذهب أنها تسقط.
والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد أنها لا تسقط.
وينبني هذا الفرع على مسألة أصولية وهي هل يصح القياس في باب الكفارات أم لا؟
وأصح قولي العلماء صحة القياس فيها لأنها معقولة المعنى.
وعليه: فتقاس كفارة القتل على كفارة الظهار وكفارة المجامع في نهار رمضان.
والصحيح أنها لا تسقط بل إن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين فإنه يطعم ستين مسكيناً.
" باب القسامة "
???القسامة: من أقسم يقسم قسماً وقسامةً، فالقسامة اسم للقسم هذا لغةً: والقسم معروف وهو الحلف.
وأما في الاصطلاح فعرفها المؤلف بقوله: ??وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم] .
??سواء كان المعصوم مسلماً أو كافراً.


والأصل في القسامة ما ثبت في الصحيحين عن سهل بن أبي حثمة عن رجال من كبراء قومه، أن عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في?عين فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم فقال رسو الله- صلى الله عليه وسلم -???إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب) ?فكتب إليهم في ذلك فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" قالوا: لا قال فيحلف لكم يهود" قالوا: ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -??من عنده، فبعث إليهم مائة ناقة) .
وفي صحيح مسلم: أن النبي- صلى الله عليه وسلم -??أقرّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية) .
وقوله في دعوى قتل معصوم: سواء كان القتل له أثر كأن يكون ملطخاً بالدم أم لم يكن له أثر وذلك لأنه يحتمل أن يقتل خنقاً أو نحو ذلك.
ولأن النبي- صلى الله عليه وسلم -?لم يستفصل الأنصار لما أدعوا على اليهود لم يستفصل أوجدوه ملطخاً بالدماء أم لا، فدل على أنه لا يشترط أن يكون هناك أثر للقتل وهو مذهب جمهور العلماء.
قال: [ومن شرطها اللوث وهي العداوة، الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر] .
?????فمن شرطها العداوة الظاهرة وليست الباطنة كالأحقاد ونحوها التي تكون بين الأسر أو بين الطوائف أو الأشخاص.
بل من شرطها العداوة الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر.
هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
??وقال الشافعية: بل متى ما ترجحت صحة الدعوى أي هناك قرائن تدل على صحة الدعوى فهي لوث فثبت به القسامة واختار هذا شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد.
بمعنى يكفي في إثبات القسامة ترجح صحة الدعوى وإن لم تكن العداوة ظاهرة.


كأن يتفرق جماعة عن قتيل أي ازدحموا فأنفض هذا الازدحام وهناك قتيل.
فإن أدعى أولياء المقتول على أحدٍ ممن حضر فإن هذه قرينة تقوي صحة دعواه.
أو كان عند المقتول رجل معه سيف أو سلاح ونحو ذلك فهذه قرينة تقوي.
أو شهد نساء أو صبيان، وشهادة النساء والصبيان لا تقبل هنا لكنها تكون قرينة قوية، لا سيما إذا تبين أنهم لن يتواطؤا على ذلك، فحينئذ يكون لوثاً تثبت به القسامة ولا نقول يثبت معه القتل لأنها ليست بينة.
وهذا القول هو الراجح وإن هذا الحكم ليس خاصاً بما ذكره الحنابلة بل يثبت بكل ما ترجحت معه صحة الدعوى.
وعلى هذين القولين ينبني فرع: وهو أن يقال، هل تثبت القسامة في الخطأ وشبه العمد كما تثبت في العمد أم لا؟
فعلى قول الحنابلة: لا تثبت إلا في العمد لأنهم اشترطوا العداوة الظاهرة، والعداوة الظاهرة ينتج منها قتل عمدٍ لا قتل شبه عمد أو خطأ.
ولذا فإن المشهور في مذهب أحمد أن القسامة لا تثبت في شبه العمد والخطأ.
وعلى قول الشافعية تثبت في الخطأ وشبه العمد لأنه متى ترجحت القرينة التي تقوي أنه قد قتل فإن القسامة تثبت سواء كان قتل عمد أو خطأ أو شبه عمد.
وتقدم ترجيح قول الشافعية وهذا الفرع ينبني عليه فهو الراجح.
والقسامة باتفاق العلماء مختصة بالنفس، أما ما دون النفس من الأطراف والجراح فلا قسامة فيها.
قال: [فمن أدعى عليه القتل من غير لوث حلف يميناً واحدة وبرئ] .
رجل أدعى عليه أنه قد قتل فلاناً، فقال للمدعين وهل عندكم لوث قالوا: لا أو أدعوا ما ليس بلوث.
فحينئذ: يحلف يميناً واحدة ولا?شيء عليه.
هذا إذا كانت الدعوى توجب مالاً وذلك لأنه إذا نكل فقال لا أحلف فنوجب عليه الدية.
مثاله: لو أدعى على رجل قتل ذمي فإذا نكل فلا يثبت عليه قود لأن قتل الذمي لا قود فيه فنقول له احلف فإن حلف برئ، وإن لم يحلف فإنه تجب عليه الدية.
أما إذا كان يترتب عليه?قود:


فالمشهور في المذهب أنه لا يحلف، كأن يدعي عليه أنه قتل إنساناً مسلماً فلا نحلفه، وذلك لأنه إذا نكل عن اليمين فإنا لا نثبت القود بذلك لأن الحدود تدرأ بالشبهات إذن لا فائدة من تحليفه.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول في المذهب، واختاره عبد الرحمن بن سعدي، أنه يحلف لعموم قوله- صلى الله عليه وسلم -???واليمين على المدعى عليه) يعني من أنكر وهذا منكر فتجب عليه اليمين?
والفائدة من هذه اليمين، أنه إذا نكل فهي تعتبر لوثا، فلا يقام عليه الحد بنكوله لكنه لوث فتثبت بها القسامة.
فحينئذ: اجتمعت دعوى المدعي، ونكول المدعى?عليه فكانت?هذه قرينة قوية على صحة الدعوى.
وهذا هو القول الراجح في المسألة.
مسألة:
???ويشترط في القسامة اتفاق أولياء المقتول فإن أثبت بعضهم الدعوى وأنكرها البعض الآخر فلا قسامة لأنا لو أثبتنا القسامة فيترتب عليها القود ولا يمكن القود مع اختلافهم لأن القصاص لا يتجزأ.
أما لو أثبته بعضهم ولم يثبته البعض الآخر لكنهم لم ينكروا بل قالوا لا ندري فهل تثبت القسامة أم لا؟
قولان لأهل العلم.
القول الأول: أنها لا تثبت لعدم اتفاقهم وهذا هو مذهب مالك ووجه في المذهب الحنبلي.
القول الثاني: أنها تثبت وهو مذهب الشافعية ووجه في مذهب الحنابلة.
والقول الراجح هو القول الثاني: وذلك لأن النبي- صلى الله عليه وسلم -?لم يشترط ذلك في حديث عبد الله بن سهل المتقدم، واكتفى بقوله عليه الصلاة والسلام ??يقسم خمسون منكم على رجل واحد منهم فتأخذونه برمته) .
فلم يشترط النبي- صلى الله عليه وسلم -?أن تجمع على ذلك الأولياء.
مسألة:
????القسامة لا تصح?إلا على معين سواء كان فرداً أو جماعة لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -?على رجل منهم.
فإن كانت على غير معين كأن تكون على رجل مبهم أو على رجلين من غير تعيين أو كانت على أهل بلدٍ لا يمكن حصرهم فإن القسامة لا تثبت.


والمشهور في المذهب أنه يشترط أن يكون واحداً وأن القسامة لا تكون على أكثر من واحد.
وعن الإمام أحمد: أنها تثبت على الجماعة كما تثبت على الواحد هو الراجح في هذه المسألة.
لأن القسامة بينة تثبت بها الحد على النفس، فتثبت بها الحد على أكثر من نفس.
فإن كانت على جماعة وقلنا بثبوت القسامة فهل يثبت القود على الجماعة فيقتلون أم لا يثبت إلا الدية؟
قولان لأهل العلم:
الجمهور قالوا: بالدية، قالوا: لأن القسامة بينة ضعيفة فلم يثبت بها القود على أكثر من نفس.
مذهب الشافعية: أن القود يثبت بها على أكثر من نفس وهو القول الراجح في هذه المسألة.
???لأنها بينة قوية بدليل قتل النفس بها، وحيث يثبت بها قتل نفس فلا مانع أن يثبت بها قتل أكثر من نفس.
قال: [ويبدأ بإيمان الرجال من ورثة الدم] .
فيبدأ بالمدعي، وهم ورثة الدم فيحلفون أي الرجال، خمسين يميناً.
وأما النساء فلا دخل لهن في القسامة وكذلك الصبيان وهذا باتفاق العلماء.
أما الصبيان فقولهم ليس بحجة.
وأما?النساء فلقوله- صلى الله عليه وسلم -????يحلف خمسون منكم) ?أي خمسون رجلاً.
وورثة الدم كالأخ والعم وان العم والابن والزوج.
قال: [فيحلفون خمسين يميناً] .
????تقسم بينهم على إرثهم من الميت، فتوضع مسألة للميت ثم تقسم هذه الأيمان بحسب إرثهم، فإذا كان له خمسة من الأبناء فعلى كل ابن عشرة أيمان.
والزوج إن لم يكن لها أولاد عليه قدر النصف من هذه الأيمان.
قالوا: ويجبر الكسر.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
واستدلوا: بقوله - صلى الله عليه وسلم -????أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم??
قالوا: والمستحق هم الورثة.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب مالك وفيه تفصيل ورواية عن أحمد أن الذي يحلف هم العصبة، الأقرب فالأقرب، ولابد أن يحلف خمسون رجلاً كل رجل يميناً واحداً.
فيبدأ بتوزيعه على أبنائه، ثم على إخوانه وبني إخوانه ثم أعمامه وهكذا، كما تقدم في ترتيب العصبة في الإرث.


ويستدل على هذا القول: بما ثبت في الصحيحين في هذا الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قال: ?يقسم خمسون منكم على رجل منهم فتأخذونه برمته) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -????فتبرؤكم يهود بأيمان خمسين منهم??
وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر الحديث، وبه يتم الاحتياط التام للدم.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -????اتحلفون وتستحقون دم صاحبكم) ?فإن استحقاق الدم ليس مختصاً بالورثة.
نعم الورثة يستحقون إرثه لكن عصبته يستحقون ذلك لما في قلوبهم من الغيظ ولما يحتاجونه من التشفي من قتل موليهم.
ثم الحديث المتقدم نص ذلك.
وأما ما ورد في بعض الروايات من أنهم يقسمون خمسين يميناً فإن الخمسين يميناً تدخل في أقسام خمسين رجلاً ولا يدخل قسم خمسين رجلاً في خمسين يميناً.
ولا يقسم إلا من علم نسبه منه، أي علم أنه يتصل نسبه فعلاً عند فلان من أجداده.
وأما إذا كان لا يعلم اتصال نسبه كما يقع هذا في القبائل والتي لها عشائر كبيرة، فإنهم لا يعلمون متى يجتمعون في النسب كما لو كان قرشياً من قريش في هذا الوقت فإنهم لا يعلمون متى يكون اجتماع النسب القريب، فإنه لا يحلف ويدل على هذا أن الناس كلهم من أب واحد فيهم اتصال في النسب ومع ذلك لا أحد يقول إن أي رجل يقسم فلا بد أن يكون النسب معلوماً اتصاله كما قرر هذا الموفق ابن قدامة.
قال: [فإن نكل الورثة أو كانوا نساءً حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ] .
???فإذا نكل الورثة عن الحلف أو كانوا نساءً فإن المدعى عليه يحلف خمسين يميناً ويبرأ.
لقوله- صلى الله عليه وسلم -?لما قال لهم: ??أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم??قالوا: لا فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -???فيبرؤكم يهود بأيمان خمسين منهم) .
فإن لم يرض الورثة بحلفه إما لفسقه أو لكفره أو نحو ذلك فتثبت ديته في بيت المال.
فإن نكلوا أي المدعى عليهم، عن الحلف فإنه تثبت الدية ولا يثبت القود لأن القود لا يثبت في النكول وإنما يثبت الدية.