أحكام النساء - مستخلصا من كتب الألباني

كِتَابُ اَللِّبَاسِ وَالزِينَة
الحرير مباح للنساء
1865 - " الذهب والحرير حلال لإناث أمتي، حرام على ذكورها".
[الصحيحة]
قال::
رواه سمويه في " الفوائد " (35/ 1): حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد حدثنا سعيد بن أبي عروبة حدثني ثابت عن زيد بن ثابت بن زيد بن أرقم قال: حدثتني عمتي أنيسة بنت زيد بن أرقم عن أبيها زيد بن أرقم مرفوعا.
ومن هذا الوجه أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (2/ 245) والطبراني في " الكبير " (5125) ,والعقيلي في " الضعفاء " (ص 62) وقال: " وهذا يروى بغير هذا الإسناد بأسانيد صالحة ".
قلت: ورجاله ثقات غير أنيسة بنت زيد بن أرقم، فلم أعرفها. وثابت ابن زيد بن ثابت، روى العقيلي عن عبد الله بن أحمد قال: " سألت أبي عنه؟ فقال: روى عنه ابن أبي عروبة، وحدثنا عنه معتمر، له أحاديث مناكير، قلت: تحدث عنه؟ قال: نعم، قلت: أهو ضعيف؟ قال: أنا أحدث عنه ". وقال ابن حبان: " الغالب على حديثه الوهم لا يحتج به إذا انفرد ". وبه أعله الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 143).

(1/177)


والحديث صحيح؛ لأن له شواهد يتقوى بها كما أشار إلى ذلك العقيلي في كلامه السابق، وقد خرجتها في " إرواء الغليل " (277) و " غاية المرام في تخريج الحلال والحرام " (78).
وهو من حيث دلالته ليس على عمومه ,بل قد دخله التخصيص في بعض أجزائه، فالذهب بالنسبة للنساء حلال إلا أواني الذهب كالفضة، فهن يشتركن مع الرجال في التحريم اتفاقا وكذلك الذهب المحلق على الراجح عندنا، عملا بالأدلة الخاصة المحرمة، ودعوى أنها منسوخة مما لا ينهض عليه دليل كما هو مبين في كتابي " آداب الزفاف في السنة المطهرة " ومن نقل عني خلاف هذا فقد افترى. وكذلك الذهب والحرير محرم على الرجال، إلا لحاجة لحديث عرفجة بن سعد الذي اتخذ أنفا من ذهب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم
وحديث عبد الرحمن بن عوف الذي اتخذ قميصا من حرير بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك.

أحكام الشعر
2792 - " لعن الله الواشمات والمستوشمات [والواصلات] والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله ".
[الصحيحة]
قال رحمه الله:
أخرجه الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(1/178)


وهو مخرج في " آداب الزفاف " (ص 203 - الطبعة الجديدة) من مصادر مطبوعة ومخطوطة، فلا داعي لإعادة تخريجه هنا، وإنما أوردته لزيادة (الواصلات)،فقد خفيت على بعض المعاصرين، فرتب على ذلك حكما يخالف حكم الوشم وغيره من المقرونات معه كما يأتي بيانه.
والحديث عندهم جميعا من رواية علقمة عن ابن مسعود، والزيادة المذكورة لأبي داود (4169) بسنده الصحيح عن جرير عن منصورعن إبراهيم عنه. وله متابع قوي، أخرجه البخاري (4887) من طريق سفيان (هوالثوري) قال: ذكرت لعبد الرحمن بن عابس حديث منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة "، فقال: " سمعته من امرأة يقال لها أم يعقوب عن عبد الله مثل حديث منصور ".
قلت: حديث منصور هو حديث الترجمة، فهذه طريق أخرى صحيحة إلى علقمة - غير طريق أبي داود - تقويها، وترفع عنها احتمال قول بعض ذوي الأهواء بشذوذها. ويزيدها قوة رواية عبد الرحمن بن عابس عن أم يعقوب، قال الحافظ في " فتح الباري " (10/ 373): " (تنبيه): أم يعقوب هذه لا يعرف اسمها، وهي من بني أسد بن خزيمة، ولم أقف لها على ترجمة، ومراجعتها ابن مسعود تدل على أن لها إدراكا.
والله سبحانه وتعالى أعلم ".
قلت: وقصة المراجعة كما في " الصحيحين "
عقب الحديث: " قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك

(1/179)


لعنت الواشمات .. (الحديث)؟ فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟! فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. فقالت المرأة: فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن، قال: اذهبي فانظري. قال: فدخلت على امراة عبد الله فلم تر شيئا، فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئا، فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها ".
ثم وجدت للزيادة طريقا ثالثا من طريق مسروق: أن امرأة أتت عبد الله بن مسعود، فقالت: إني امراة زعراء أيصلح أن أصل في شعري؟ فقال: لا. قالت: أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تجده في كتاب الله؟ قال: لا، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجده في كتاب الله، وساق الحديث.
أخرجه النسائي (2/ 281) هكذا، وأحمد (1/ 415) والطبراني في " المعجم الكبير " (9/ 337 / 9468) بتمامه نحو حديث علقمة، ومن الظاهر أن هذه المرأة هي أم يعقوب المذكورة في رواية علقمة، وكذلك هي هي في رواية قبيصة بن جابر (وهو ثقة مخضرم) قال: " كنا نشارك المرأة في السورة من القرآن نتعلمها، فانطلقت مع عجوز من بني أسد إلى ابن مسعود في بيته في ثلاث نفر، فرأى جبينها يبرق! فقال: أتحلقينه؟ فغضبت، وقالت: التي تحلق جبينها امرأتك. قال: فادخلي عليها، فإن كانت تفعله فهي مني بريئة، فانطلقت، ثم جاءت فقالت: لا والله ما رأيتها تفعله، فقال عبد الله بن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله

(1/180)


عليه وسلم: فذكره. رواه الهيثم بن كليب في " مسنده " بسند حسن كما في " آداب الزفاف " (ص 203 و 204 - الطبعة الجديدة).
(فائدة): قال الحافظ في "الفتح " (10/ 372 - 373): " قوله: " والمتفلجات للحسن " يفهم منه أن المذمومة من فعلت ذلك لأجل الحسن، فلو احتاجت إلى ذلك لمداواة مثلا جاز. قوله: " المغيرات خلق الله " هي صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والفلج، وكذا الوصل على إحدى الروايات ". وقال العيني في " عمدة القارىء " (22/ 63): " قوله: " المغيرات خلق الله تعالى " كالتعليل لوجوب اللعن ". فإذا عرفت ما سبق يتبين لك سقوط قول الشيخ الغماري في رسالته " تنوير البصيرة ببيان علامات الكبيرة " (ص 30): " قلت: تغيير خلق الله يكون فيما يبقى أثره كالوشم والفلج، أو يزول ببطء كالتنميص، أما حلق اللحية فلا يكون تغييرا لخلق الله لأن الشعر يبدو ثاني يوم من حلقه .. ".
أقول: فهذا كلام باطل من وجوه: الأول:
أنه مجرد دعوى لا دليل عليها من كتاب أو سنة أو أثر، وقديما قالوا: والدعاوي ما لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء.
الثاني: أنه خلاف ما يدل عليه زيادة " الواصلات "، فإن الوصل، ليس كالوشم وغيره مما لا يزول، أو يزول ببطء ولاسيما إذا كان من النوع الذي يعرف اليوم بـ (الباروكة) فإنه يمكن إزالتها بسرعة كالقلنسوة.
الثالث: أن ابن مسعود رضي الله عنه أنكر حلق الجبين واحتج بالحديث كما تقدم في رواية الهيثم، فدل على أنه لا فرق بين الحلق
و

(1/181)


النتف من حيث أن كلا منهما تغيير لخلق الله. وفيه دليل أيضا على أن النتف ليس خاصا بالحاجب كما زعم بعضهم. فتأمل.
الرابع: أنه مخالف لما فهمه العلماء المتقدمون، وقد مر بك قول الحافظ الصريح في إلحاق الوصل بالوشم وغيره. وأصرح من ذلك وأفيد، ما نقله (10/ 377) عن الإمام الطبري قال: "لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أو نقص التماس الحسن، لا للزوج ولا لغيره، لمن تكون مقرونة الحاجبين فتزيل ما بينهما توهم البلج، أو عكسه، ومن تكون لها سن زائدة فتقلعها، أو طويلة فتقطع منها، أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنتف، ومن يكون شعرها قصيرا أو حقيرا فتطوله، أو تغزره بشعر غيرها، فكل ذلك داخل في النهي، وهو من تغيير خلق الله تعالى. قال: ويستثنى من ذلك ما يحصل به الضرر والأذية كمن يكون لها سن زائدة، أو طويلة تعيقها في الأكل .. " إلخ.
قلت: فتأمل قول الإمام: " أو عكسه "، و " أو لحية .. "، وقوله: " فكل ذلك داخل في النهي، وهو من تغيير خلق الله ". فإنك ستتأكد من بطلان قول الغماري المذكور، والله تعالى هو الهادي.
هذا وفي رؤية ابن مسعود جبين العجوز يبرق دليل على أن " وجه المرأة ليس بعورة "، والآثار في ذلك كثيرة قولا وفعلا، وقد سقت بعضها في "جلباب المرأة المسلمة "
وأما ما زعمه البعض بأنه لا دليل في هذه الرواية على ذلك، لأن العجوز من القواعد! فهو مما لا دليل عليه، فلا يلزم من كونها عجوزا أن تكون قاعدة كما لا يخفى، وإنما ذكرنا ذلك استشهادا، وفيما ذكر هناك من الأدلة كفاية.

(1/182)


حكم الذهب المحلق

39 - تحريم خاتم الذهب ونحوه على النساء:
واعلم أن النساء يشتركن مع الرجال في تحريم خاتم الذهب عليهن ومثله السوار والطوق من الذهب لأحاديث خاصة وردت فيهن (1) ... فيدخلن لذلك في بعض النصوص المطلقة التي لم تقيد بالرجال مثل الحديث الأول المتقدم آنفا وإليك الآن ما صح من الأحاديث المشار إليها:
الأول: [من أحب أن يحلق حبيبه (2) بحلقة من نار فليحلقه حلقة (3) ... من ذهب ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب ومن أحب أن يسور حبيبه سوارا من نار فليطوقه طوقا (وفي رواية: فليسوره سوارا) من ذهب ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها [العبوا بها العبوا بها] (4) ... .
__________
(1) 1 - ويأتي بيان ما يباح لهن من الذهب
(2) 2 - فعيل بمعنى مفعول وهو يشمل الرجل والمرأة كما يقال: رجل قتيل وامرأة قتيل وهذا معلوم في اللغة وقد جاء في رواية: " حبيبته " بصيغة التأنيث في حديث أبي موسى الآتي الإشارة إليه قريبا إن شاء الله
(3) 3 - هو الخاتم لا فص له كذا في " النهاية "
قلت: وقد توضع الحلقة في الأذن وتسمى حينئذ قرطا كما يأتي فالظاهر أن الحديث لا يشمله لكن رويت أحاديث تقتضي التحريم فيها ضعف فانظر ما يأتي (ص 236)
(4) 4 - أخرجه أبو داود وأحمد بسند جيد.

(1/183)


وهذا سند جيد رجاله ثقات رجال مسلم غير أسيد هذا فوثقه ابن حبان وروى عنه جماعة من الثقات وحسن له الترمذي في " الجنائز " وصحح له جماعة ولذا قال الذهبي والحافظ:
" صدوق ".
الثاني: عن ثوبان رضي الله عنه قال:
(جاءت بنت هبيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها فتخ [من ذهب] [أي خواتيم كبار] فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب يدها [بعصية معه يقول لها: أيسرك أن يجعل الله في يدك خواتيم من نار؟] فأتت فاطمة تشكو إليها قال ثوبان: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة وأنا معه وقد أخذت من عنقها سلسلة من ذهب فقالت: هذا أهدى لي أبو حسن (تعني زوجها عليا رضي الله عنه) - وفي يدها السلسلة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة أيسرك أن يقول الناس: فاطمة بنت محمد في يدها سلسلة من نار؟ [ثم عذمها (1) ... عذما شديدا] فخرج ولم يقعد فعمدت فاطمة إلى السلسلة فباعتها فاشترت بها نسمة فأعتقتها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار (2).
__________
(1) 1 - أي: لامها وعنفها والعذم: الأخذ باللسان واللوم كذا في " اللسان "
(2) 2 - أخرجه النسائي والطيالسي ومن طريقه الحاكم والطبراني في " الكبير وكذا أحمد وإسناده صحيح موصول وكذلك صححه ابن حزم وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي

(1/184)


الثالث: عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يد عائشة قلبين ملويين من ذهب فقال: القيهما عنك واجعلي قلبين من فضة وصفريها بزعفران (1) ...
الرابع: عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
(جعلت شعائر (2) ... من ذهب في رقبتها فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها فقلت: ألا تنظر إلى زينتها فقال: عن زينتك أعرض [قالت: فقطعتها فأقبل علي بوجهه]. قال (3) ... : زعموا أنه قال: ما ضر إحداكن لو جعلت خرصا (4) من ورق ثم جعلته بزعفران (5) ... .
__________
(1) 1 - رواه القاسم السرقسطي في " غريب الحديث " بسند صحيح والنسائي ... والخطيب والبزار نحوه و (القلبين): السوارين. (ملويين): مفتولين.
(2) 2 - جمع " شعيرة " وهي ضرب من الحلي على شكل الشعيرة
(3) 3 - يعني: الراوي وهو عطاء بن أبي رباح فإنه راوي الحديث عن أم سلمة وعليه فهذا القدر من الحديث مرسل لأنه لم يسنده إلى أم سلمة فهو ضعيف نعم أسنده ليث بن أبي سليم فقال: عن عطاء عن أم سلمة به نحه أخرجه أحمد والطبراني في " الكبير " غير أن ليثا فيه ضعف من قبل حفظه وعطاء لم يسمع منها لكن هذا القدر من الحديث صحيح أيضا لأنه مرسل صحيح الإسناد وقد روي موصولا كما علمت وله شاهدان موصولان من حديث أسماء وأبي هريرة كما يأتي.
(4) 4 - الخرص بالضم والكسر: الحلقة الصغيرة من الحلي. وهو من حلي الأذن
" نهاية".
(5) 5 - أي: صفرته بزعفران.
والحديث رواه أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين. وهو مرسل صحيح الإسناد.

(1/185)


وفي حديث أسماء بنت يزيد في قصة أخرى نحوه: وتتخذ لها جمانتين من فضة فتدرجه بين أناملها بشيء من زعفران فإذا هو كالذهب يبرق (1).
40 - شبهات حول تحريم الذهب المحلق وجوابها.
واعلم أن كثيرا من علماء أعرضوا عن العمل بهذه الأحاديث لشبهات قامت لديهم ظنوها أدلة ولا يزال كثيرون منهم يتمسكون بها على أنها حجج تسوغ لهم ترك هذه الأحاديث ولذلك رأيت أنه لا بد من حكاية تلك الشبهات والرد عليها كي لا يغتر بها من لا علم عنده بطرق الجمع بين الأحاديث فيقع في مخالفة الأحاديث الصحيحة المحكمة بدون حجة أو بينة فأقول:
دعوى الإجماع على إباحة الذهب مطلقا للنساء وردها
1 - ادعى بعضهم الإجماع على إباحة الذهب مطلقا للنساء وهذا مردود من وجوه:
الإجماع الصحيح:
الأول: أنه لا يمكن إثبات صحة الإجماع في هذه المسألة وإن نقله البيهقي في [سننه) (4/ 124) وغيره مثل الحافظ ابن حجر في [الفتح) ولكن هذا كأنه أشار لعدم ثبوته حين قال: (10/ 260) في بحث خاتم الذهب:
__________
(1) 1 - أخرجه أحمد وأبو نعيم وابن عساكر. وهو شاهد حسن لما قبله.

(1/186)


(فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء) ويأتي قريبا ما يبطل هذا الإجماع وذلك لأنه لا يستطيع أحد أن يدعي أنه إجماع معلوم من الدين بالضرورة وغير هذا الإجماع مما لا يمكن تصوره فضلا عن وقوعه ولهذا قال الإمام أحمد رضي الله عنه:
(من ادعى الإجماع فهو كاذب [وما يدريه؟] لعل الناس اختلفوا)
رواه ابنه عبد الله في [مسائله) (ص 390)
وتفصيل القول في هذا الموضوع الخطير ليس هذا موضعه فليراجع من شاء التحقيق بعض كتب علم أصول الفقه التي لا يقلد مؤلفوها من قبلهم مثل: [أصول الأحكام لابن حزم (4/ 128 - 144) وإرشاد الفحول للشوكاني] ونحوهما
استحالة وجود إجماع صحيح على خلاف حديث صحيح دون وجود ناسخ صحيح.
الثاني: لو كان يمكن إثبات الإجماع في الجملة لكان ادعاؤه في خصوص هذه المسألة غير صحيح لأنه مناقض للسنة الصحيحة وهذا مما لا يمكن تصوره أيضا لأنه يلزم منه اجتماع الأمة على ضلال وهذا مستحيل لقوله صلى الله عليه وسلم: [لا تجتمع أمتي على ضلالة) ومثل هذا الإجماع لا وجود له إلا في الذهن والخيال, ولا أصل له في الوجود والواقع قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى في [أصول الأحكام) (2/ 71 - 72): (وقد أجاز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون الإجماع على خلافه قال: وذلك دليل على أنه منسوخ. وهذا عندنا خطأ فاحش متيقن لوجهين برهانيين ضروريين:

(1/187)


أحدهما: أن ورود حديث صحيح يكون الإجماع على خلافه معدوم لم يكن قط ولا هو في العالم فمن ادعى أنه موجود فليذكره لنا ولا سبيل له - والله - إلى وجوده أبدا
والثاني: أن الله تعالى قد قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} , [الحجر: 9] فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز وجل بحفظه فهو غير ضائع أبدا لا يشك في ذلك مسلم وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كله وحي بقوله تعالى: {) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] والوحي ذكر بإجماع الأمة كلها.
والذكر محفوظ بالنص فكلامه عليه السلام محفوظ بحفظ الله تعالى عز وجل ضرورة منقول كله إلينا لا بد من ذلك فلو كان هذا الحديث الذي ادعى هذا القائل أنه مجمع على تركه وأنه منسوخ كما ذكر لكان ناسخه الذي اتفقوا عليه قد ضاع ولم يحفظ وهذا تكذيب لله عز وجل في أنه حافظ للذكر كله ولو كان ذلك لسقط كثير مما بلغ عليه السلام عن ربه وقد أبطل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله في حجة الوداع: اللهم هل بلغت؟) قال:
(ولسنا ننكر أن يكون حديث صحيح وآية صحيحة التلاوة منسوخين إما بحديث آخر صحيح, وإما بآية متلوة ويكون الاتفاق على النسخ المذكور قد ثبت بل هو موجود عندنا إلا أننا نقول: لا بد أن يكون الناسخ لهما موجودا أيضا عندنا منقولا إلينا محفوظا عندنا مبلغا نحونا بلفظه قائم النص لدينا. لا بد من ذلك وإنما الذي منعنا منه فهو أن يكون المنسوخ محفوظا منقولا مبلغا إلينا ويكون الناسخ له قد سقط ولم ينقل إلينا لفظه

(1/188)


فهذا باطل عندنا لا سبيل إلى وجوده في العالم أبد الأبد لأنه معدوم البتة قد دخل - بأنه غير كائن - في باب المحال والممتنع عندنا.
وبالله تعالى التوفيق)
تقديم السنة على الإجماع الذي ليس معه كتاب أو سنة
وقال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
(ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة. قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة وقال في [كتاب اختلافه مع مالك):
(والعلم طبقات: الأولى الكتاب والسنة الثابتة ثم الإجماع فيما ليس كتابا ولا سنة. . .).
وقال ابن القيم أيضا في صدد بيان أصول فتاوى الإمام أحمد:
(ولم يكن (يعني الإمام أحمد) يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت وكذلك الشافعي ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف ولو ساغ لتعطلت النصوص وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص (1).
__________
(1) 1 - الأعلام: (1/ 32 - 33).

(1/189)


قلت: وهذا ما فعله البعض هنا فقدموا ما زعموه إجماعا على النصوص المتقدمة مع أنه لا إجماع في ذلك وبيانه في الوجه التالي:
الثالث: أنه قد ثبت ما ينقض بالإجماع المزعوم وهو ما روى عبد الرزاق في [المصنف) (11/ 70 / 19935) وابن صاعد في [حديثه) (35/ 1 - وهو بخط الحافظ ابن عساكر) وابن حزم (10/ 82) بسند صحيح عن محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول لابنته:
(لا تلبسي الذهب إني أخشى عليك اللهب)
وروى ابن عساكر (19/ 124 / 2) من طريقين آخرين أن ابنة لأبي هريرة قالت له: إن الجواري يعيرنني يقلن: إن أباك لا يحليك الذهب فقال:
قولي لهن: إني أبي لا يحليني الذهب يخشى علي من اللهب.
ورواه عبد الرزاق (19938) نحوه وعلقه البغوي في [شرح السنة) (3/ 210 / 82) وحكى الخلاف في هذه المسألة فإنه بعد أن ذكر إباحة خاتم الذهب للنساء وتحليهن به عند الأكثرين قال:
(وكره ذلك قوم).
ثم ساق حديث أسماء بنت يزيد المتقدم بعضه في المتن (ص 236) وتمامه في التعليق (237)
وما حكاه البغوي رحمه الله من الكراهة عن أولئك الذين أشار إليهم من العلماء فهي الكراهة التحريمية؛ لأنه المعروف في اصطلاح السلف تبعا للأسلوب القرآني في عديد من الآيات الكريمة كقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ

(1/190)


وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].
وقد كنت شرحت هذه المسألة الهامة في كتابي: [تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) (ص 48 - 55) وذكرت هناك بعض الأمثلة فلتراجع.
وبين أيدينا مثال آخر قريب المنال وهو ما تقدم في بحث (خاتم الخطبة) أن الإمام أحمد والإمام إسحاق بن راهويه كرها خاتم الذهب للرجال فهذه الكراهة للتحريم أيضا لتصريح الأحاديث المتقدمة هناك به وكذلك الأمر في تحريم خاتم الذهب على النساء لأن الأدلة صريحة أيضا فمن أطلق كراهته عليهن فإنما يعني الكراهة الشرعية وهي التحريم فتأمل منصفا.
وذكر ابن عبد الحكم في [سيرة عمر بن عبد العزيز) (ص 163) أن ابنة عمر بعثت إليه بلؤلؤة وقالت له: إن رأيت أن تبعث لي بأخت لها حتى أجعلها في أذني فأرسل إليها ثم قال لها: إن استطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في أذنيك بعثت لك بأخت لها.
ومن الظاهر أن اللؤلؤة كانت محلاة بالذهب لأنها لا تقوم بنفسها ولا تحلى عادة إلا بها ويؤيد ذلك لفظة: [الجمرتين) فإنها مستوحاة من بعض أحاديث التحريم المتقدمة كحديث بنت هبيرة فثبت بطلان دعوى الإجماع في هذه المسألة.

(1/191)


دعوى نسخ الأحاديث المتقدمة وإبطالها:
2 - وادعى آخرون نسخ هذه الأحاديث المحرمة بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: [أحل الذهب والحرير لإناث أمتي. . .) وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وقد ذكرها الزيعلي في [نصب الراية) (4/ 222 - 225) ثم حققته في تخريج كتاب [الحلال والحرام) للأستاذ القرضاوي (رقم 78) وهو ادعاء باطل لأن للنسخ شروطا كثيرة معروفة عند العلماء (1):
منها أن يكون الخطاب الناسخ متراخيا عن المنسوخ.
ومنها أن لا يمكن الجمع بينهما وهذان الشرطان منفيان هنا, أما الأول فلأنه لا يعلم تأخر هذا الحديث المبيح عن أحاديث التحريم, وأما الثاني فلأن الجمع ممكن بسهولة بين الحديث المذكور وما في معناه وبين الأحاديث المتقدمة ذلك؛ لأن الحديث مطلق وتلك مقيدة بالذهب الذي هو طوق أو سوار أو حلقة فهذا هو المحرم عليهن وما سوى ذلك من الذهب المقطع فهو المباح لهن وهو المراد بحديث حل الذهب لهن فهو مطلق مقيد بالأحاديث المشار إليها فلا تعارض وبالتالي فلا نسخ.
ولذلك لم نر أحدا ممن ألف في الناسخ والمنسوخ أورد الأحاديث المذكورة فيما هو منسوخ كالحافظ أبي الفرج ابن الجوزي في رسالة [إخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ في الحديث) والحافظ أبي بكر الحازمي في كتابه [الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار) وغيرهما بل قد أشار ابن الجوزي رحمه الله في مقدمة رسالته المشارة إليها إلى رد دعوى نسخ هذه الأحاديث فقال:
__________
(1) 1 - انظر مقدمة " الاعتبار "

(1/192)


(أفردت في هذا الكتاب قدر ما صح نسخه أو احتمل وأعرضت عمَّا لا وجه لنسخه ولا احتمال, فمن سمع بخبر يدعى عليه النسخ وليس في هذا الكتاب فليعلم وهاء تلك الدعوى وقد تدبرته فإذا فيه أحد وعشرون حديثا)
بل قال المحقق ابن القيم في [الأعلام) (3/ 458):
(إن النسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة ولا شطرها).
قلت: ثم ساقها وليس فيها شيء من هذه الأحاديث السابقة فثبت ضعف ادعاء احتمال نسخها فكيف الجزم بنسخها؟ وقد أشار لضعف دعوى النسخ ابن الأثير في [النهاية) بقوله تعليقا على حديث أسماء المشار إليه آنفا:
(قيل: كان هذا قبل النسخ فإنه قد ثبت إباحة الذهب للنساء).
فإن لفظة: [قيل) للتمريض كما هو معروف).
وقال العلامة صدر الدين علي بن علاء الحنفي بعد أن حكى كلام ابن الجوزي الآنف الذكر:
(وهذا هو الذي يشهد العقل بصدقه إذا سلم من الهوى, وقد ادعى كثير من الفقهاء في كثير من السنة أنها منسوخة. وذلك إما لعجزه عن الجمع بينها وبين ما يظن أنه يعارضها وإما لعدم علمه ببطلان ذلك المعارض وإما لتصحيح مذهبه ودفع ما يرد عليه من جهة مخالفة, ولكن نجد غيره قد بين

(1/193)


الصواب في ذلك لأن هذا الدين محفوظ ولا تجتمع هذه الأمة على ضلالة (1) ... .
ولقد صدق رحمه الله في كل ما ذكره فأنت ترى أن هذه الأحاديث المحرمة لا تتعارض مطلقا مع حديث حل الذهب للنساء؛ لأنه عام وتلك خاصة والخاص مقدم على العام كما هو مقرر في علم الأصول ولهذه القاعدة رجح الإمام النووي رضي الله عنه في [شرح مسلم) و [المجموع) وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل مع أنه مخالف لمذهبه بل ومذهب الجمهور حتى ظن بعض المتعالمين في هذا العصر أنه لا يقول بالوضوء منه عالم من علماء المسلمين كما نشر ذلك في بعض الجرائد الدمشقية سنة 1386 هـ تقريبا ولما ذكرنا قال ولي الله الدهلوي في [حجة الله البالغة) (2/ 190) بعد أن ذكر أحاديث التحريم وحديث الحل:
(معناه الحل في الجملة وهذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحاديث ولم أجد لها معارضا)
وأقره صديق حسن خان في [الروضة الندية) (2/ 217 - 218)
قلت: ومما يدلك على ضعف دعوى النسخ هذه أن بعض متعصبة الحنفية - وقد سبقت الإشارة إليه - لم ينظر إليها بعين الرضا مع أنه حكاها عن الجمهور الذين يقلدهم في هذه المسألة واحتج على ذلك بقوله - وقد وفق فيه -:
__________
(1) 1 - كذا في رده على رسالة الشيخ أكمل الدين في انتصاره لمذهب أبي حنيفة (103/ 1)

(1/194)


(إن النسخ لا يلجأ إلى القول به ما دام التوفيق بين الأحاديث ممكنا بحيث لا يرد شيء من الأدلة) وهذا حق لا ريب فيه وهو من المقرر في علم الأصول ولكنه مع الأسف لم يستقر عليه الدكتور بل رجع إلى ادعاء النسخ معارضا بذلك الأخذ بأحاديث التحريم فقال:
(إن الفريقين لما تجاذبا دعوى النسخ احتجنا إلى النظر في التاريخ للترجيح بين المذهبين وتعيين الناسخ والمنسوخ والتاريخ يؤيد نظر الجمهور.
فإنه لا شك في أن الصحابة في ابتداء الإسلام كانوا في أمس الحاجة للمال. . . ولقد قسم الأنصار أموالهم مناصفة بينهم وبين المهاجرين فكان التختم بالذهب في تلك الفترة بطرا وترفا فلما مضت الأيام وفتحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتوحات صار الناس في رخاء العيش فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لبس الذهب لزوال المانع).
قلت: وجوابي عليه من وجوه:
الأول: أنه لم يذكر نصا تاريخيا يؤيد تأخر المبيح عن الحاظر يرجح به نظر الجمهور وإنما هو مجرد الدعوى أن الإباحة كانت بعد رخاء العيش فأين الدليل عليها؟
الثاني: هذه الدعوى لو صحت لزم منها أن يكون تحريم الذهب على الرجال قد شرع في الوقت الذي حرم على النساء إن لم يكن تقدم عليه وكل عاقل يفهم من قوله: [في ابتداء الإسلام) أنه يعني في مكة أو في أول الهجرة على أبعد تقدير وإذا كان كذلك فنحن نقطع ببطلان هذه الدعوى لأن تحريم الذهب على الرجال إنما كان في أواخر الأمر كما نص على ذلك

(1/195)


الحافظ الذهبي في [تلخيص المستدرك) (3/ 231) ومما يشهد له ما أخرجه البخاري في [اللباس) وأحمد في [المسند) (4/ 328) عن المسور بن مخرمة:
(أن أباه مخرمة قال له: يا بني إنه بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه أقبية فهو يقسمها فاذهب بنا إليه فذهبنا إليه. . . فخرج وعليه قباء من الديباج مزرر بالذهب فقال: يا مخرمة هذا خبأته لك فأعطاه إياه)
وإنما أسلم مخرمة عام الفتح وذلك بعد ثمان سنين ونصف من الهجرة فهذا نص على أن الذهب كان مباحا إلى ما قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنة ونصف تقريبا ولولا ذلك لم يلبس صلى الله عليه وسلم القباء المزرر بالذهب ولا وزعه على أصحابه كما هو ظاهر.
الثالث: أنه لو صح قوله: [فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لبس الذهب لزوال المانع) لزم منه إباحة الذهب للرجال أيضا لزوال المانع أيضا وهذا باطل لا يقوله عالم وما لزم منه باطل فهو باطل.
فإن قال: هذا غير لازم لأن علة تحريم الذهب على الرجال غير علة تحريمه على النساء.
قلنا: ما هيه؟ ولا سبيل له إلى إثباتها أبدا إلا بمثل هذه الدعوى التي أثبت بها أختها وليست هي إلا مجرد رأي تفرد به الدكتور في آخر الزمان.
وما يلجئ بعض الناس إلى مثل هذه المضايق والآراء إلا محاولتهم التخلص من معارضة النص الشرعي لمخالفته لمذهبهم وتقليدهم وعاداتهم فيقعون فيما هو أعظم منه ولو أنهم استسلموا لحكم الله ورسوله - كما هو المفروض في المسلم - لكان خيرا لهم ولم يقعوا في مثل ذلك.

(1/196)


وخلاصة البحث: أن القول بنسخ الأحاديث المحرمة للذهب على النساء مما لا دليل عليه بل هو مخالف لعلم الأصول والواجب الجمع بينها وبين الأحاديث المبيحة للذهب عليهن وذلك بحمل المطلق على المقيد أو العام على الخاص كما شرحنا وينتج منه أن الذهب كله حلال على النساء إلا المحلق منه كما يحرم عليهن استعمال أواني الذهب والفضة اتفاقا فلا نسخ عندنا خلافا لما فهمه الدكتور وأدار كل بحثه في كتابه عليه كما ينبئك به كلامه السابق في المعارضة المزعومة. والله الهادي لا رب سواه
رد الأحاديث المتقدمة بأحاديث مبيحة والجواب عنها.
3 - وقد يرد بعضهم هذه الأحاديث بأحاديث أخرى فيها إباحة المحلق من الذهب على النساء والجواب أن هذا كان قبل التحريم حتما وبيانه:
أن من المعلوم بداهة أن النهي عن الشيء مما يحتمل التحليل والتحريم لا يكون إلا بعد أن يكون مسبوقا بالإباحة فالتمسك بها حينئذ فيه مخالفة صريحة لمنطوق الأحاديث المحرمة ومما يقرب هذا إلى المنصفين إن شاء الله تعالى أن هناك أحاديث يستفاد منها إباحة الذهب على الرجال أيضا ومع ذلك فلم يأخذ بها أحد من العلماء لمجيء النصوص المحرمة وقد سبق ذكر بعضها بل ذهبوا إلى أنها كانت قبل التحريم (1) ... وكذلك نقول نحن في الأحاديث المبيحة للذهب المحلق للنساء ولا فرق أنها كانت قبل التحريم ومن فرق بين هذه وتلك فهو متناقض أو متلاعب تقييد الأحاديث المتقدمة بمن لم يؤد الزكاة ورده.
__________
(1) 1 - انظر " فتح الباري " (10/ 258 - 259).

(1/197)


4 - وأجاب بعضهم (1) بأن الوعيد الوارد في الأحاديث المتقدمة إنما هو في حق من لا يؤدي زكاة تلك الحلي دون من أداها واستدل عليه بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان (أي سواران) غليظتان من ذهب فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله.
أخرجه أبو داود (1/ 244) والنسائي (1/ 343) وأبو عبيد في [الأموال) (رقم 1260) وإسناده حسن وصححه ابن الملقن (65/ 1) وتضعيف ابن الجوزي له في [التحقيق) (6/ 197 / 1) مردود عليه.
ورواه النسائي في [السنن الكبرى) (ق 5/ 1) عن عمرو بن شعيب به موصولا ثم رواه عنه مرسلا وقال:
(الموصول أولى بالصواب)
والجواب: إن هذا استدلال ضعيف جدا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر في هذه القصة لبس السوارين.
وإنما أنكر عدم إخراج زكاتهما بخلاف الأحاديث المتقدمة فإنه أنكر اللبس ولم يتعرض لإيجاب الزكاة عليها والظاهر أن هذه القصة كانت في وقت الإباحة فكأنه صلى الله عليه وسلم تدرج لتحريمها فأوجب الزكاة
__________
(1) 1 - هو المنذري في " الترغيب " وقلده بعض المدرسين في " كلية الشريعة " في جامعة دمشق الذي سبق بيان خطئه في تضعيف حديث أبي هريرة المتقدم ولم يتعرض البتة للجواب عن جوابنا هذا الأمر الذي زادنا ثقة بقوته وإيمانا بصوابه

(1/198)


عليها أولا ثم حرمها كما هو صريح الأحاديث السابقة. ولا سيما الحديث الأول من رواية أبي هريرة مرفوعا:
(من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب. . .) إلخ فإنه لا يدل دلالة قاطعة أن التحريم لنفس التحليق وما قرن معه لا لعدم إخراج زكاتها.
والحق أن هذه القصة أفادت وجوب الزكاة على الحلي, ومثلها قصة عائشة الآتية في زكاة خواتيم الفضة. فهذه وتلك لا تدل على تحريم الاستعمال بل على وجوب زكاة المستعمل, فالتحريم وعكسه يؤخذ من أدلة أخرى فأخذنا تحريم الذهب المحلق عليهن الأحاديث المتقدمة وأخذنا إباحة الفضة من حديث أبي هريرة المتقدم ومن حديث عائشة المشار إليها وغيرها.
وجملة القول أن هذا الحديث لا حجة فيه على ما ذكره المنذري لأنه لم ينص فيه على تحريم السوار إنما كان لأنه لم يؤد زكاته حتى يمكن أن يقال: إنه مفصل وتلك الأحاديث مجملة فيحمل المجمل على المفصل وإنما هي واقعة عين أفادت وجوب زكاة الحلي فلا يعارض ما أفادته الأحاديث السابقة من التحريم.
تقييد آخر للأحاديث والجواب عنه.
5 - وأجاب هذا البعض أيضا بجواب آخر (1) فقال: إن الوعيد المذكور إنما هو في حق من تزينت به وأظهرته واستدل بما رواه النسائي
__________
(1) 1 - وقلده أيضا من أشرنا إليه في التعليق السابق دون أن يتعرض للجواب عن ردنا هذا عليه بل إنه أوهم طلابه أن هذا التقييد الوارد في حديث النسائي ثابت

يحتج به مع أنه قد ضعفه قبل أسطر بالجهالة الآتي ذكرها ولكنه لم يسق لفظ الحديث ليعلم الطالب أنه هو الذي ورد فيه هذا التقييد فيعلم عدم ثبوته.

(1/199)


وأبو داود عن ربعي بن حراش عن امرأته عن أخت لحذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به؟ أما إنه ليس منكن امرأة تتحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به)
ولعل الدكتور وقع منه ذلك اتفاقا ولم يتعمده
والجواب من وجهين:
الأول: رد الحديث من أصله لعدم ثبوته فإن في سنده امرأة ربعي وهي مجهولة كما قال ابن حزم (10/ 83) ولذلك ضعفته في [المشكاة) (4403)
ثانيا: لو كانت العلة هي الإظهار لكان لا فرق في ذلك بين الذهب والفضة لاشتراكهما في العلة مع أن الحديث صريح في التفريق بينهما ولا قائل بحرمة خاتم الفضة على المرأة مع ظهوره فثبت بطلان التمسك بعلة الإظهار. ولهذا قال أبو الحسن السندي:
(تظهره) يحتمل أن تكون الكراهة إذا ظهرت وافتخرت به لكن الفضة مثل الذهب في ذلك فالظاهر أن هذا لزيادة التقبيح والتوبيخ والكلام لإفادة حرمة الذهب (يعني: المحلق) على النساء مع قطع النظر عن الإظهار والافتخار).

(1/200)


وهذا كله يقال على افتراض صحة الحديث. وإلا فقد عرفت ضعفه فسقط الاستدلال به أصلا.
رد الأحاديث بفعل عائشة والجواب عنه
6 - ومن أعجب ما ردت به هذه الأحاديث الصحيحة قول بعض متعصبة الحنفية:
(إن عائشة رضي الله عنها كانت تلبس الخواتيم من الذهب كما رآها ابن أختها القاسم بن محمد وحدث بذلك وهذا الخبر عن عائشة رواه البخاري في صحيحه)
وأقول: إطلاق عزو هذا الأثر للبخاري فيه نظر لأن المعروف عند العلماء أن العزو إلى البخاري مطلقا معناه أنه في [صحيحه) مسند وليس كذلك أمر هذا الأثر فإنه إنما ذكره معلقا بدون إسناد وذكر الحافظ في [الفتح) (10/ 271) أنه وصله ابن سعد في [الطبقات). وسكت عن سنده وهو عندي حسن فقال ابن سعد (8/ 48): أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو قال: سألت القاسم بن محمد قلت: إن ناسا يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأحمرين: المعصفر والذهب فقال: كذبوا والله لقد رأيت عائشة تلبس المعصفرات وتلبس خواتم الذهب.
لكن رواه غير عبد العزيز بلفظ: كانت تلبس الأحمرين: المذهب (1) والمعصفر). أخرجه ابن سعد أيضا: وأخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن ابي
__________
(1) 1 - أي: المموه بالذهب بمعنى المطلي به و " المعصفر " هو الثوب المصبوغ بالعصفر

(1/201)


أويس عن سلميان بن بلال عن عمرو به وهذا الإسناد أصح لأن سليمان هذا أحفظ من عبد العزيز. فإن ثبت ذكر الخاتم في هذا الأثر عن عائشة فالجواب ما سيأتي وإلا فلا حجة فيه مطلقا لأن الرواية الأخرى - وهي الأصح - لا ذكر للخاتم فيها فهو على هذا مثل حديثها الآخر من طريق القاسم أيضا أن عائشة كانت تحلي بنات أختها الذهب ثم لا تزكيه. رواه أحمد في مسائل عبد الله (ص 145) وسنده صحيح فهذا محمول على الذهب المقطع وهو جائز لهن اتفاقا.
ثم قال ذاك المذكور:
(لا يتصور أن تلبس عائشة رضي الله عنها الذهب الملحق ورسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم معها وفي بيتها ثم لا ينهاها عنه).
قلت: هذه مغالطة ظاهرة - ولعلها غير مقصودة - إذ ليس في الأثر المتقدم أن عائشة لبسته على علم منه صلى الله عليه وسلم بل فيه أن القاسم بن محمد رآها تلبسه فمعنى ذلك أن لبسها إياه إنما كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن القاسم لم يدركه صلى الله عليه وسلم
ثم قال عطفا على ما سبق:
(أو ينهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبلغها؟ فهذا مستحيل قطعا)
قلت: لا استحالة في ذلك إلا نظرا وهذا ليس يهمنا لأن الواقع خلافه فكم من سنن فعلية وأقوال نبوية خفيت على كبار الصحابة رضي الله عنهم ولولا صحة السند بذلك عنهم لقلنا كما قال المومأ إليه هاهنا ولا يتحمل هذا التعليق الإكثار من أمثلة ذلك فلنقتصر على مثالين منها:

(1/202)


1 - أن عائشة ترى أن الإقراء إنما هي الأطهار كما قال أحمد في [المسائل) (185) وروى مالك في [الموطأ) (2/ 96) بسند صحيح جدا عنها أنها قالت:
(تدرون ما الإقراء؟ إنما الإقراء الأطهار)
ونحوه في مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله (ص 231).
أقول: وقد ثبت في السنة أن القرء إنما هو الحيض وبه قال الحنفية والرجل منهم فهل يرد حضرته مذهبه ولا سيما أنه موافق للسنة من أجل قول عائشة هذا؟ أم يجعل قولها دليلا على نسخ ذلك كما فعل في مسألتنا هذه؟
2 - قالت عائشة رضي الله عنها: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا أو ما شاء الله قال: هو حسبك من النار
أخرجه أبو داود (1/ 244) وغيره وإسناده على شرط الصحيح كما قال الحافظ في [التخليص) (6/ 19) ومحمد بن عطاء الذي في إسناده هو محمد بن عمرو بن عطاء ثقة محتج به في [الصحيحين) كما في [الترغيب) وظنه ابن الجوزي في [التحقيق) (1/ 198 / 1) رجلا آخر فجهله وضعف الحديث من أجل ذلك فلا يلتفت إليه.
فهذا الحديث صريح في إيجاب الزكاة على الحلي وهو حجة الذين ذهبوا إلى إيجابه ومنهم الحنفية.

(1/203)


ثم إنه قد ورد عن عائشة نفسها ما يعارض هذا الحديث وهو ما أخرجه مالك (1/ 245) عن القاسم ابن محمد (راوي حديث الخاتم) أن عائشة كانت تل بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة. سنده صحيح جدا وتقدم نحوه من رواية أحمد.
فهذه مخالفة صريحة عن عائشة رضي الله عنها لحديثها فإذا جاز في حقها ذلك فبالأحرى أن تخالف حديث غيرها لم تروه هي وهي على كل حال مأجورة فماذا يقول المشار إليه في هذه المخالفة؟ أيدع الحديث والمذهب لقولها أم يتمسك بالحديث ويدع قولها معتذرا عنها بأي عذر مقبول كما هو الواجب؟
وعلى كل حال فقد ظهر لكل من له قلب أن ما كان يظنه مما [لا يتصور) أو أنه [مستحيل قطعا) قد أثبتناه بالأسانيد الصحيحة ولازم ذلك أن لا يتلفت المسلم إلى أي قول يخالف ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم مهما كان شأن قائله فضلا وعلما وصلاحا لانتفاء العصمة وهذا من الأسباب التي تشجعنا على الاستمرار في خطتنا من التمسك بالكتاب والسنة وعدم الاعتداد بما سواهما.
كما صنعنا في هذه المسألة التي أسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين للعمل بها وبكل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
ترك الأحاديث لعدم العلم بها بمن عمل بها وجوابه
6 - هذا ولعل فيمن ينصر السنة ويعمل بها ويدعو إليها من يتوقف عن العمل بهذه الأحاديث بعذر أنه لا يعلم أحدا من السلف قال بها فليعلم هؤلاء الأحبة أن هذا العذر قد يكون مقبولا في بعض المسائل التي يكون

(1/204)


طريق تقريرها إنما هو الاستنباط والاجتهاد فحسب لأن النفس حينئذ لا تطمئن لها خشية أن يكون الاستنباط خطأ. ولا سيما إذا كان المستنبط من هؤلاء المتأخرين الذين يقررون أمورا لم يقل بها أحد من المسلمين بدعوى أن المصلحة تقتضي تشريعها دون أن ينظروا إلى موافقتها لنصوص الشرع أولا مثل إباحة بعضهم للربا الذي سماه بـ (الربا الاستهلاكي) واليانصيب الخيري - زعموا - ونحوهما أما ومسألتنا ليست من هذا القبيل فإن فيها نصوصا صريحة محكمة لم يأت ما ينسخها - كما سبق بيانه - فلا يجوز ترك العمل بها للعذر المذكور. ولا سيما أننا قد ذكرنا من قال بها مثل أبي هريرة رضي الله عنه وولي الله الدهلوي وغيرهما كما تقدم ولا بد أن يكون هناك غير هؤلاء ممن عمل بهذه الأحاديث لم نعرفهم لأن الله تعالى لم يتعهد لنا بحفظ أسماء كل من عمل بنص ما من كتاب أو سنة وإنما تعهد بحفظهما فقط كما قال: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فوجب العمل بالنص سوءا علمنا من قال به أو لم نعلم ما دام لم يثبت نسخه كما هو الشأن في مسألتنا هذه
وأختم هذا البحث بكلمة طيبة للعلامة المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى لها مساس كبير بما نحن فيه قال: في [إعلام الموقعين) (3/ 464 - 465):
(وقد كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنا من كان ويهجرون فاعل ذلك وينكرون على من يضرب له الأمثال ولا يسوغون غير الانقياد له صلى الله عليه وسلم والتسليم

(1/205)


والتلقي بالسمع والطاعة ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان.
بل كانوا عاملين بقوله تعالى: {) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] , وبقوله تعالى: {) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]. وبقوله تعالى: {) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].
وأمثالها فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا يقول: من قال هذا؟ دفعا في صدر الحديث ويجعل جهله بالقائل حجة له في مخالفته وترك العمل به ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الجهل وأقبح من ذلك عذره في جهله إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة. والله المستعان)

(1/206)


صفة لباس المرأة
إن تتبعنا الآيات القرآنية والسنة المحمدية والآثار السلفية في هذا الموضوع الهام قد بين لنا أن المرأة إذا خرجت من دارها وجب عليها أن تستر جميع بدنها وأن لا تظهر شيئا من زينتها حاشا وجهها وكفيها - إن شاءت - بأي نوع أو زي من اللباس ما وجدت فيه الشروط الآتية:
الشرط الأول:
(استيعاب جميع البدن إلا ما استثني) , فهو في قوله تعالى في [سورة النور: الآية 31]: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله تعالى في [سورة الأحزاب: الآية 59]: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
ففي الآية الأولى التصريح بوجوب ستر الزينة كلها وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب إلا ما ظهر بغير قصد منهن فلا يؤاخذن عليه إذا بادرن

(1/207)


إلى ستره قال الحافظ ابن كثير في (تفسيره): (أي: لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه قال ابن مسعود: كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكن إخفاؤه) وقد روى البخاري (7/ 290) ومسلم (5/ 197) عن أنس رضي الله عنه قال: (صحيح) (لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له. . . ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما (يعني الخلاخيل) تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم. . .) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:
(وهذه كانت قبل الحجاب ويحتمل أنها كانت عن غير قصد للنظر)
قلت: وهذا المعنى الذي ذكرنا في تفسير: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] هو المتبادر من سياق الآية وقد اختلفت أقوال السلف في تفسيرها: فمن قائل: إنها الثياب الظاهرة.
ومن قائل: إنها الكحل والخاتم والسوار والوجه وغيرها من الأقوال التي رواها ابن جرير في (تفسيره) (18/ 84) عن بعض الصحابة والتابعين ثم اختار هو أن المراد بهذا الاستثناء الوجه والكفان فقال:
(وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك الوجه والكفين يدخل في ذلك - إذا كان كذلك - الكحل والخاتم والسوار والخضاب وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل لإجماع الجميع على أن على كل مصل أن يستر عورته في صلاته, وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها إلا ما

(1/208)


روي [الحديث منكر] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبدي من ذراعها قدر النصف فإذا كان ذلك من جميعهم إجماعا كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة كما ذلك للرجال لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلوما أنه مما استثنى الله تعالى ذكره بقوله:: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] لأن كل ذلك ظاهر منها).
وهذا الترجيح غير قوي عندي لأنه غير متبادر من الآية على الأسلوب القرآني وإنما هو ترجيح بالإلزام الفقهي وهو غير لازم هنا لأن للمخالف أن يقول: جواز كشف المرأة عن وجهها في الصلاة أمر خاص بالصلاة فلا يجوز أن يقاس عليه الكشف خارج الصلاة لوضوح الفرق بين الحالتين.
أقول هذا مع عدم مخالفتنا له في جواز كشفها وجهها وكفيها في الصلاة وخارجها لدليل بل لأدلة أخرى غير هذه كما يأتي بيانه وإنما المناقشة هنا في صحة هذا الدليل بخصوصه لا في صحة الدعوى فالحق في معنى هذا الاستثناء ما أسلفناه أول البحث وأيدناه بكلام ابن كثير. ويؤيده أيضا ما في (تفسير القرطبي) (12/ 229):
(قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك فـ: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه).

(1/209)


قال القرطبي:
(قلت: هذا قول حسن إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه فهذا أقوى في جانب الاحتياط ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها والله الموفق لا رب سواه).
قلت: وفي هذا التعقيب نظر أيضا؛ لأنه وإن كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم العادة فإنما ذلك بقصد من المكلف, والآية حسب فهمنا إنما أفادت استثناء ما ظهر دون قصد فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلا شاملا لما ظهر بالقصد؟ فتأمل.
ثم تأملت فبدا لي أن قول هؤلاء العلماء هو الصواب وأن ذلك من دقة نظرهم رحمهم الله وبيانه: أن السلف اتفقوا على أن قوله تعالى:: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعود إلى فعل يصدر من المرأة المكلفة غاية ما في الأمر أنهم اختلفوا فيما تظهره بقصد منها فابن مسعود يقول: هو ثيابها أي: جلبابها. وابن عباس ومن معه من الصحابة وغيرهم يقول: هو الوجه والكفان منها. فمعنى الآية حينئذ: إلا ما ظهر عادة بإذن الشارع وأمره.

(1/210)


ألست ترى أن المرأة لو رفعت من جلبابها حتى ظهر من تحته شيء من ثيابها وزينتها - كما يفعل ذلك بعض المتجلببات السعوديات - أنها تكون قد خالفت الآية باتفاق العلماء فقد التقى فعلها هذا مع فعلها الأول وكلاهما بقصد منها لا يمكن إلا هذا فمناط الحكم إذن في الآية ليس هو ما ظهر دون قصد من المرأة - فهذا مما لا مؤاخذة عليه في غير موضع الخلاف أيضا اتفاقا - وإنما هو فيما ظهر دون إذن من الشارع الحكيم فإذا ثبت أن الشرع سمح للمرأة بإظهار شيء من زينتها سواء كان كفا أو وجها أو غيرهما فلا يعترض عليه بما كنا ذكرناه من القصد لأنه مأذون فيه كإظهار الجلباب تماما كما بينت آنفا.
فهذا هو توجيه تفسير الصحابة الذين قالوا: إن المراد بالاستثناء في الآية الوجه والكفان وجريان عمل كثير من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كما سترى في النصوص الآتية المتواترة معنى. ويعود الفضل في التنبه لهذا التوجيه - بعد الله تعالى - إلى الحافظ أبي الحسن بن القطان الفاسي رحمه الله تعالى في كتابه القيم الفريد الذي أطلعني الله عليه وأنا أهيئ مقدمة هذه الطبعة الجديدة ألا وهو (النظر في أحكام النظر) فقد تكلم فيها بعلم واسع ونظر ثاقب على كل مسائله ومنها ما نحن فيه فنبهني على ما أشرت إليه قوله فيه (ق 14/ 2):
(وإنما نعني بالعادة هنا عادة من نزل عليهم القرآن وبلغوا عن النبي صلى الله عليه وسلم الشرع وحضروا به خطاب المواجهة ومن لزم تلك العادة بعدهم إلى هلم جرا لا لعادة النسوان وغيرهم المبدين أجسادهم وعوراتهم).

(1/211)


قلت: فابن عباس ومن معه من الأصحاب والتابعين والمفسرين إنما يشيرون بتفسيرهم لآية: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إلى هذه العادة التي كانت معروفة عند نزولها وأقروا عليها فلا يجوز إذن معارضة تفسيرهم بتفسير ابن مسعود الذي لم يتابعه عليه أحد من الصحابة لأمرين اثنين:
الأول: أنه أطلق الثياب ولا قائل بهذا الإطلاق؛ لأنه يشمل الثياب الداخلية التي هي في نفسها زينة كما تفعله بعض السعوديات كما تقدم فإذن هو يريد منها الجلباب فقط الذي تظهره المرأة من ثيابها إذا خرجت من دارها.
والآخر: أن هذا التفسير - وإن تحمس له بعض المتشددين - لا ينسجم مع بقية الآية وهي: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} الآية؛ فالزينة الأولى هي عين الزينة الثانية كما هو معروف في الأسلوب العربي: أنهم إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه فهو هو فإذا كان الأمر كذلك فهل الآباء ومن ذكروا معهم في الآية لا يجوز لهم أن ينظروا إلا إلى ثيابهن الباطنة؟ ولذلك قال أبو بكر الجصاص رحمه الله في (أحكام القرآن) (3/ 316):
(وقول ابن مسعود في أن: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو الثياب لا معنى له؛ لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة. ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها فعلمنا أن المراد مواضع الزينة كما قال في نسق الآية بعد هذا {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}

(1/212)


والمراد موضع الزينة فتأويلها على الثياب لا معنى له إذ كان مما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها).
وكأنه لهذا لم يعرج عليه الحافظ ابن القطان في كتابه الآنف الذكر وقد ذكره في جملة ما قيل في تفسير الآية كما ذكر أقوال العلماء والمذاهب حولها بتفصيل وتحرير وتحقيق فيها لا أعرف له مثيلا, ثم ساق بعض الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على جواز إبداء المرأة لوجهها وكفيها للأجانب. ومع أنه فاته الكثير من الأحاديث التي ذكرت في كتابنا هذا فقد ناقشها مناقشة دقيقة وميز صحيحها وسقيمها وما يصح الاستدلال به وما لا يصح من الناحية الفقهية دون أن يتحيز لفئة.
ثم تكلم على الآية وفسرها تفسيرا بديعا يدل على أنه إمام في التفسير والفقه أيضا كما هو في الحديث فأفاد - رحمه الله - أن النهي فيها مطلق من وجوه ذكرها وهي أربعة وفصل القول فيها تفصيلا رائعا ويهمنا هنا منها رابعها فقال (ق 15/ 1):
(ومطلقة بالنسبة إلى كل ناظر ورد على إطلاقه منها استثناءان:
أحدهما: على مطلق الزينة وخصص به منها (ما ظهر منها) فيجوز إبداؤه لكل واحد.
والآخر: على مطلق الناظرين الذين يبدى لهم شيء من ذلك فخصص منهم البعولة ومن بعدهم).
وبعد أن ساق قول ابن مسعود وأقوال الصحابة والتابعين المخالفة وأقوال المذاهب والأحاديث المشار إليها آنفا قال ملخصا للموضوع وموضحا رأيه فيه (ق 21/ 1):

(1/213)


(الأحاديث المذكورة في الباب إما أن تدل على إبدائها جميع ذلك (يعني: الوجه والكفين) أو بعضه دلالة يمكن الانصراف عنها بتحميل اللفظ أو القصة غير ذلك لكن الانصراف عما يدل عليه ظاهر اللفظ أو سياق القصة لا يكون جائزا إلا بدليل عاضد يصير الانصراف تأويلا وإذا لم يكن هناك دليل كان الانصراف تحكما. فعلى هذا يجب القول بما تظاهرت هذه الظواهر وتعاضدت عليه من جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها لكن يستثنى من ذلك ما لا بد من استثنائه قطعا, وهو ما إذا قصدت بإبداء ذلك التبرج وإظهار المحاسن فإن هذا يكون حراما ويكون الذي يجوز لها إنما هو إبداء ما هو في حكم العادة ظاهر حين التصرف والتبذل فلا يجب عليها أن تتعاهده بالستر بخلاف ما هو في العادة (أي الشرعية) مستور إلا أن يظهر بقصد كالصدر والبطن فإن هذا لا يجوز لها إبداؤه ولا يعفى لها عن بدوه ويجب عليها ستره في حين التصرف كما يجب من ستره في حين الطمأنينة ويعضد هذه الظواهر وهذا المنزع قوله تعالى:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ}. فمعنى الآية: لا يبدين زينتهن في مواضعها لأحد من الخلق إلا ما كان عادة ظاهرة عند التصرف فما وقع من بدوه وإبدائه بغير قصد التبرج والتعرض للفتنة فلا حرج فيه)
ثم قال (ق 21/ 2):
(ويتأيد المعنى الذي حملنا عليه الآية من أن الظاهر هو الوجه والكفان بقوله تعالى المتقدم متصلا به: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فإنه يفهم منه أن القرطة قد يعفيهن عند بدو وجوههن عن تعاهد سترها فتنكشف فأمرن أن يضربن بالخُمر على الجيوب حتى لا يظهر شيء من ذلك إلا الوجه الذي من شأنه أن يظهر حين التصرف, إلا أن يستر بقصد وتكلف

(1/214)


مشقة وكذلك الكفان وذكر أهل التفسير أن سبب نزول الآية هو أن النساء كن وقت نزولها إذا غطين رؤوسهن بالخمر يسدلنها خلفهن كما تصنع النبط فتبقى النحور والأعناق بادية فأمر الله سبحانه بضرب الخمر على الجيوب ليستر جميع ما ذكر وبالغ في امتثال هذا الأمر نساء المهاجرين والأنصار فزدن فيه تكثيف الخمر. . .).
ثم ذكر حديث عائشة الآتي (ص 78) لكن من رواية أبي داود بلفظ: (شققن أكنف (وقال ابن صالح: أكثف) مروطهن فاختمرن بها). وقال:
(هذا إسناد حسن).
ثم قال الحافظ ابن القطان رحمه الله تعالى:
(فإن قيل: هذا الذي ذهبت إليه من أن المرأة معفو لها عن بدو وجهها وكفيها - وإن كانت مأمورة بالستر جهدها - يظهر خلافه من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} الآية؟
فالجواب أن يقال:
يمكن أن يفسر هذا (الإدناء) تفسيرا لا يناقض ما قلناه وذلك بأن يكون معناه: يدنين عليهن من جلابيبهن ما لا يظهر معه القلائد والقرطة مثل قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}؛ فإن (الإدناء) المأمور به مطلق بالنسبة إلى كل ما يطلق عليه (إدناء) فإذا حملناه على واحد مما يقال عليه (إدناء) يقضي به عن عهدة الخطاب إذ لم يطلب به كل (إدناء) فإنه إيجاب بخلاف النهي والنفي).

(1/215)


ويلاحظ القراء الكرام أن هذا البحث القيم الذي وقفت عليه بفضل الله من كلام هذا الحافظ ابن القطان يوافق تمام الموافقة ما كنت ذكرته اجتهادا مني وتوفيقا بين الأدلة: أن الآية مطلقة كما ستراه مصرحا به (ص 87) فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
نعم حديث عائشة عند أبي داود دليل واضح على جواز إظهار المرأة الوجه والكفين لولا أن فيه ما بيناه في التعليق إلا أنه من الممكن أن يقال: إنه يقوى بكثرة طرقه وقد قواه البيهقي, كما يأتي أدناه فيصلح حينئذ دليلا على الجواز المذكور. لا سيما وقد عمل به كثير من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كن يكشفن عن وجوههن وأيديهن بحضرته صلى الله عليه وسلم وهو لا ينكر ذلك عليهن وفي ذلك عدة أحاديث نسوق ما يحضرنا الآن منها:
1 - (صحيح) عن جابر بن عبد الله قال:
(شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم فقامت امرأة من سطة النساء (أي: جالسة في وسطهن) سفعاء الخدين (أي: فيهما تغير وسواد) فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير قال: فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن).

(1/216)


2 - (صحيح) عن ابن عباس [عن الفضل بن عباس]:
(أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع [يوم النحر] والفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم [وكان الفضل رجلا وضيئا. . . فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم]) الحديث وفيه:
(فأخذ الفضل بن عباس يلتفت إليها وكانت امرأة حسناء (وفي رواية: وضيئة) (وفي رواية: فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها) [وتنظر إليه] فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذقن الفضل فحول وجهه من الشق الآخر). وفي رواية لأحمد (1/ 211) من حديث الفضل نفسه:
(فكنت أنظر إليها فنظر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقلب وجهي عن وجهها ثم أعدت النظر فقلب وجهي عن وجهها حتى فعل ذلك ثلاثا وأنا لا أنتهي) ورجاله ثقات لكنه منقطع إن كان الحكم بن عتيبة لم يسمعه من ابن عباس.
وروى هذه القصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر أن الاستفتاء كان عند المنحر بعد ما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة وزاد:
(فقال له العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما).
3 - (صحيح) عن سهل بن سعد:
(أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [وهو في المسجد] فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي [فصمت فلقد رأيتها قائمة مليا أو قال: هوينا] فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد

(1/217)


النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه, فلما رأت المرأة أنه لم يقصد فيها شيئا جلست) الحديث.
4 - (صحيح) عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفن من الغَلس).
ووجه الاستدلال بها هو قولها: (لا يعرفن من الغلس) فإن مفهومه أنه لولا الغلس لعرفن وإنما يعرفن عادة من وجوههن وهي مكشوفة فثبت المطلوب. وقد ذكر معنى هذا الشوكاني (2/ 15) عن الباجي.
ثم وجدت رواية صريحة في ذلك بلفظ: (وما يعرف بعضنا وجوه بعض) (صحيح).
5 - (صحيح) عن فاطمة بنت قيس:
(أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة (وفي رواية: آخر ثلاث تطليقات) وهو غائب. . . فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. . فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك [عنده].
(وفي رواية: انتقلي إلى أم شريك - وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ينزل عليها الضيفان - فقلت: سأفعل فقال: لا تفعلي إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان فإني أكره أن يسقط خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن أم مكتوم [الأعمى]. . . وهو من البطن الذي

(1/218)


هي منه [فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك] , فانتقلت إليه فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي ينادي: الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته جلس على المنبر فقال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. . .) الحديث.
وينبغي أن يعلم أن هذه القصة وقعت في آخر حياته صلى الله عليه وسلم لأن فاطمة بنت قيس ذكرت أنها بعد انقضاء عدتها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بحديث تميم الداري وأنه جاء وأسلم.
وقد ثبت في ترجمة تميم أنه أسلم سنة تسع فدل ذلك على تأخر القصة عن آية الجلباب فالحديث إذن نص على أن الوجه ليس بعورة.
6 - (صحيح) عن ابن عباس رضي الله عنهما:
(قيل له: شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولولا مكاني من الصغر ما شهدته حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى [قال: فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم] ,ثم أتى النساء ومعه بلال [فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} [الممتحنة: 12]؛ فتلا هذه الآية حتى فرغ منها, ثم قال حين فرغ منها: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله قال:] فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة [قال: فبسط بلال ثوبه ثم قال: هلم لكن فداكن أبي وأمي] فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه (وفي

(1/219)


رواية: فجعلن يلقين الفتخ والخواتم) في ثوب بلال ثم انطلق هو وبلال إلى بيته).
7 - (صحيح) عن سبيعة بنت الحارث:
(أنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وكان بدريا فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشر من وفاته فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تعلت من نفاسها وقد اكتحلت [واختضبت وتهيأت] فقال لها: اربعي على نفسك - أو نحو هذا - لعلك تريدين النكاح؟ إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ما قال أبو السنابل بن بعكك فقال: قد حللت حين وضعت).
8 - (حديث حسن أو صحيح) عن عائشة رضي الله عنها:
(أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تبايعه ولم تكن مختضبة فلم يبايعها حتى اختضبت).
9 - (صحيح) عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس:
ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي.
قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك) فقالت: أصبر فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها.
10 - (صحيح) وعن ابن عباس أيضا قال:
(كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس [قال ابن عباس: لا والله ما رأيت مثلها قط] فكان بعض

(1/220)


القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه [وجافى يديه] فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24].
11 - (صحيح) عن ابن مسعود قال:
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته فأتى سودة وهي تصنع طيبا وعندها نساء فأخلينه فقضى حاجته ثم قال: (أيما رجل رأى امرأة تعجبه فليقم إلى أهله فإن معها مثل الذي معها).
12 - (حسن) عن عبد الله بن محمد عن امرأة منهم قالت:
دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا آكل بشمالي وكنت امرأة عسرى فضرب يدي فسقطت اللقمة فقال: (لا تأكلي بشمالك وقد جعل الله تبارك وتعالى لك يمينا) أو قال: (وقد أطلق الله عز وجل لك يمينا).
13 - (صحيح) عن ثوبان رضي الله عنه قال:
جاءت بنت هبيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها فتخ من ذهب [أي: خواتيم كبار] فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب يدها بعصية معه يقول:
(أيسرك أن يجعل الله في يدك خواتيم من نار؟. . .) الحديث
ففي هذه الأحاديث دلالة على جواز كشف المرأة عن وجهها وكفيها فهي تؤيد حديث عائشة المتقدم وتبين أن ذلك هو المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] كما سبق (ص 51).

(1/221)


على أن قوله تعالى فيما بعد: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] يدل على ما دلت عليه بعض الأحاديث السابقة من عدم وجوب ستر المرأة لوجهها؛ لأن (الخمر) جمع خمار وهو ما يغطى به الرأس.
و (الجيوب) جمع (الجيب) وهو موضع القطع من الدرع والقميص وهو من الجوب وهو القطع فأمر تعالى بلي الخمار على العنق والصدر فدل على وجوب سترهما ولم يأمر بلبسه على الوجه فدل على أنه ليس بعورة ولذلك قال ابن حزم في (المحلى) (3/ 216 - 217):
(فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر وفيه نص على إباحة كشف الوجه لا يمكن غير ذلك).
إبطال دعوى أن هذه الأدلة كلها كانت قبل فرضية الجلباب:
أقول: فإن قيل: إن ما ذكرته واضح جدا غير أنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل فرض الجلباب فلا يصح الاستدلال حينئذ إلا بعد إثبات وقوعه بعد الجلباب. وجوابنا عليه من وجهين:
الأول: أن الظاهر من الأدلة أنه وقع بعد الجلباب وقد حضرنا في ذلك حديثان:
الأول: (صحيح) حديث أم عطية رضي الله عنها:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر النساء أن يخرجن لصلاة العيد قالت أم عطية: إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها). متفق عليه.

(1/222)


ففيه دليل على أن النساء إنما كن يخرجن إلى العيد في جلابيبهن وعليه فالمرأة السفعاء الخدين كانت متجلببة. ويؤيده الحديث الآتي وهو:
الحديث الثاني: حديثها أيضا قالت:
(لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم عليهن فرددن السلام فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن فقلن: مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبرسوله فقال: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولا تعصين في معروف؟ فقلن: نعم فمد عمر يده من خارج الباب ومددن أيديهن من داخل ثم قال اللهم اشهد وأمرنا (وفي رواية: فأمرنا) أن نخرج في العيدين العتق والحيض ونهينا عن اتباع الجنائز ولاجمعة علينا فسألته عن البهتان, وعن قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال: هي النياحة).
ووجه الاستشهاد به إنما يتبين إذا تذكرنا أن آية بيعة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} [الممتحنة: 12] إنما نزلت يوم الفتح كما قال مقاتل (الدر) (6/ 209) ونزلت بعد آية الامتحان, كما أخرجه ابن مردويه عن جابر (الدر) (6/ 211) وفي (البخاري) عن المسور أن آية الامتحان نزلت في يوم الحديبية وكان ذلك سنة ست على الصحيح كما قال ابن القيم في (الزاد) وآية الحجاب إنما نزلت سنة ثلاثة وقيل: خمس حين بنى صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش كما في ترجمتها من (الإصابة).

(1/223)


فثبت من ذلك أن أمر النساء بالخروج إلى العيد إنما كان بعد فرض الجلباب ويؤيده أن في حديث عمر أنه لم يدخل على النساء وإنما بايعهن من وراء الباب وفي هذه القصة أبلغهن أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بأن يخرجن للعيد وكان ذلك في السنة السادسة عقب رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية بعد نزول آية الامتحان والبيعة كما تقدم وبهذا تعلم معنى قول أم عطية في أول حديثها الثاني: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة) أي: من الحديبية ولا تعني قدومه إليها من مكة مهاجرا كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. فتأمل.
الوجه الآخر: إذا فرضنا عجزنا عن إثبات ما ذكرنا فإن مما لا شك فيه عند العلماء أن إقراره صلى الله عليه وسلم المرأة على كشف وجهها أمام الرجال دليل على الجواز وإذا كان الأمر كذلك فمن المعلوم أن الأصل بقاء كل حكم على ما كان عليه حتى يأتي ما يدل على نسخه ورفعه, ونحن ندعي أنه لم يأت شيء من ذلك هنا بل جاء ما يؤيد بقاءه واستمراره كما سترى فمن ادعى خلاف ذلك فهو الذي عليه أن يأتي بالدليل الناسخ وهيهات هيهات.
على أننا قد أثبتنا فيما تقدم من حديث الخثعمية أن الحادثة كانت في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وهي كانت بعد فرض الجلباب يقينا وما أجابوا عنها تقدم إبطاله بما لا يبقي شبهة.
ويؤيد ذلك قوله تعالى في صدر الآية المتقدمة: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ....... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} الآية [النور: 30 - 31]؛ فإنها تشعر بأن في المرأة شيئا مكشوفا يمكن النظر إليه.

(1/224)


فلذلك أمر تعالى بغض النظر عنهن وما ذلك غير الوجه والكفين, مثلها قوله صلى الله عليه وسلم: (صحيح) (إياكم والجلوس بالطرقات. . . . فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وقوله: (الحديث حسن) (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)
وعن جرير بن عبد الله قال:
(صحيح) (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؟ فأمرني صلى الله عليه وسلم أن أصرف بصري).
هذا وقد ذكر القرطبي (12/ 230) وغيره في سبب نزول هذه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]. (أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة, وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر كما يصنع النبط. فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك. فأمر الله تعالى بلي الخمار على الجيوب).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
(صحيح) (يرحم الله نساء المهاجرين الأول لما أنزل الله:: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}؛ شققن مروطهن فاختمرن بها (وفي رواية: أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها).

(1/225)


وعن الحارث بن الحارث الغامدي قال:
(صحيح) ([قلت لأبي ونحن بمنى:] ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم قد اجتمعوا على صابئ لهم قال: فنزلنا (وفي رواية: فتشرفنا) فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به وهم يردون عليه [قوله] ويؤذونه حتى انتصف النهار وتصدع عنه الناس وأقبلت امرأة قد بدا نحرها [تبكي] تحمل قدحا [فيه ماء] ومنديلا فتناوله منها وشرب وتوضأ ثم رفع رأسه [إليها] فقال: يا بنية خمري عليك نحرك ولا تخافي على أبيك [غلبة ولا ذلا] قلت: من هذه؟ قالوا: [هذه] زينب بنته).
ثم إن قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] , يدل على أن النساء يجب عليهن أن يسترن أرجلهن أيضا, وإلا لاستطاعت إحداهن أن تبدي ما تخفي من الزينة (وهي الخلاخيل) ولاستغنت بذلك عن الضرب بالرجل, ولكنها كانت لا تستطيع ذلك؛ لأنه مخالفة للشرع مكشوفة. ومثل هذه المخالفة لم تكن معهودة في عصر الرسالة ولذلك كانت إحداهن تحتال بالضرب بالرجل لتعلم الرجال ما تخفي من الزينة فنهاهن الله تعالى عن ذلك وبناء على ما أوضحنا قال ابن حزم في (المحلى) (3/ 216):
(هذا نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى ولا يحل إبداؤه) ويشهد لهذا من السنة حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسن صحيح) (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا

(1/226)


فقالت: إذن تنكشف أقدامهن قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه).أخرجه الترمذي (3/ 47) وقال: (هذا حديث حسن صحيح).
وفي الحديث رخصة للنساء في جر الإزار لأنه يكون أستر لهن وقال البيهقي:
(وفي هذا دليل على وجوب ستر قدميها) , وعلى هذا جرى العمل من النساء في عهده صلى الله عليه وسلم وما بعده وترتب عليه بعض المسائل الشرعية فقد أخرج مالك وغيره.
(صحيح) عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ قالت أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يطهره ما بعده).
وعن امرأة من بني عبد الأشهل قالت:
(صحيح) (قلت: يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى قال: فهذه بهذه)
ومن أجل ذلك كان من شروط المسلمين الأولين على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن لكي لا يتشبهن بالمسلمات كما جاء في (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) (ص 59)
ثم إن الله تعالى بعد أن بين في الآية السابقة - آية النور - ما يجب على المرأة أن تخفي من زينتها أمام الأجانب ومن يجوز أن تظهرها أمامهم أمرها في الآية الأخرى إذا خرجت من دارها أن تلتحف فوق ثيابها وخمارها

(1/227)


بالجلباب أو الملاءة لأنه أستر لها وأشرف لسيرتها وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب: 59].ولما نزلت خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية.
والجلباب: هو الملاءة التي تلتحف به المرأة فوق ثيابها على أصح الأقوال وهو يستعمل في الغالب إذا خرجت من دارها كما روى الشيخان وغيرهما عن أم عطية رضي الله عنها قالت:
(صحيح) (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها).
قال الشيخ أنور الكشميري في (فيض الباري) (1/ 388) تعليقا على هذا الحديث:
(وعلم منه أن الجلباب مطلوب عند الخروج وأنها لا تخرج إن لم يكن لها جلباب. والجلباب رداء ساتر من القرن إلى القدم. وقد مر مني أن الخمر في البيوت والجلابيب عند الخروج وبه شرحت الآيتين في الحجاب: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] والثانية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59])
وقال في المكان الذي أشار إليه (1/ 256) بعد أن فسر الجلباب والخمار بنحو ما تقدم:

(1/228)


فإن قلت: إن إدناء الجلباب يغني عن ضرب الخمر على جيوبهن قلت: بل إدناء الجلباب فيما إذا خرجت من بيتها لحاجة وضرب الخمر في عامة الأحوال فضرب الخمر محتاج إليه).
قلت: وتقييده الخمر بالبيوت فيه نظر لأنه خلاف الظاهر من الآية الأولى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ ......... وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ .... } [النور: 31] فإن النهي عن الضرب بالأرجل قرينة واضحة على أن الأمر بضرب الخمر خارج الدار أيضا وكذلك قوله في صدر الآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} ... الآية [النور: 31].
فالحق الذي يقتضيه العمل بما في آيتي النور والأحزاب أن المرأة يجب عليها إذا خرجت من دارها أن تختمر وتلبس الجلباب على الخمار؛ لأنه كما قلنا سابقا أستر لها وأبعد عن أن يصف حجم رأسها وأكتافها وهذا أمر يطلبه الشارع. كما سيأتي بيانه عند الكلام على (الشرط الرابع) والذي ذكرته هو الذي فسر به بعض السلف آية الإدناء ففي (الدر) (5/ 222). (وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} قال: يسدلن عليهن من جلابيبهن وهو القناع فوق الخمار ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت به رأسها ونحرها).
واعلم أن هذا الجمع بين الخمار والجلباب من المرأة إذا خرجت قد أخل به جماهير النساء المسلمات, فإن الواقع منهن إما الجلباب وحده على رؤوسهن ,أو الخمار وقد يكون غير سابغ في بعضهن كالذي يسمى اليوم بـ

(1/229)


(الإشارب) بحيث ينكشف منهن بعض ما حرم الله عليهن أن يظهرن من زينتهن الباطنة كشعر الناصية أو الرقبة مثلا.
وإن مما يؤكد وجوب هذا الجمع حديث ابن عباس:: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية. واستثنى من ذلك: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً} الآية.
وتمام الآية: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60].
وفي رواية عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (أن يضعن من ثيابهن) قال: الجلباب. وكذا قال ابن مسعود.
قلت: فهذا نص في وجوب وضع الجلباب على الخمار على جميع النساء إلا القواعد منهن (وهن اللاتي لا يطمع فيهن لكبرهن) فيجوز لهن أن لا يضعن الحجاب على رؤوسهن.
أفما آن للنساء الصالحات حيثما كن أن يتنبهن من غفلتهن ويتقين الله في أنفسهن ويضعن الجلابيب على خمرهن؟
ومن الغريب حقا أن لا يتعرض لبيان هذا الحكم الصريح في الكتاب والسنة كل الذين كتبوا اليوم - فيما علمت - عن لباس المرأة مع توسع بعضهم على الأقل في الكلام على أن وجه المرأة عورة مع كون ذلك مما اختلف فيه, والصواب خلافه كما تراه مفصلا في هذا الكتاب والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

(1/230)


ثم إن قوله: (والجلابيب عند الخروج) لا مفهوم له إذ إن الجلباب لستر زينة المرأة عن الأجانب, فسواء خرجت إليهم أو دخلوا عليها فلا بد على كل حال من أن تتجلبب ويؤيد هذا ما قاله قيس بن زيد:
(صحيح) (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فتجلببت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فقال لي: أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة)
هذا ولا دلالة في الآية على أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره, بل غاية ما فيها الأمر بإدناء الجلباب عليها وهذا كما ترى أمر مطلق فيحتمل أن يكون الإدناء على الزينة ومواضعها التي لا يجوز لها إظهارها حسبما صرحت به الآية الأولى. وحينئذ تنتفي الدلالة المذكورة ويحتمل أن يكون أعم من ذلك, فعليه يشمل الوجه.
وقد ذهب إلى كل من التأويلين جماعة من العلماء المتقدمين وساق أقوالهم قي ذلك ابن جرير في (تفسيره) والسيوطي في (الدر المنثور) ولا نرى فائدة كبرى بنقلها هنا, فنكتفي بالإشارة إليها. ومن شاء الوقوف عليهما فليرجع إليهما.
ونحن نرى أن القول الأول أشبه بالصواب لأمور:
الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا. وقد تبين من آية النور المتقدمة أن الوجه لا يجب ستره فوجب تقييد الإدناء هنا بما عدا الوجه توفيقا بين الآيتين.

(1/231)


الآخر: أن السنة تبين القرآن فتخصص عمومه وتقيد مطلقه وقد دلت النصوص الكثيرة منها على أن الوجه لا يجب ستره فوجب تفسير هذه الآية على ضوئها وتقييدها بها.
فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره , وهو مذهب أكثر العلماء كما قال ابن رشد في (البداية) (1/ 89) ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد كما في (المجموع) (3/ 169) وحكاه الطحاوي في (شرح المعاني) (2/ 9) عن صاحبي أبي حنيفة أيضا وجزم في (المهمات) من كتب الشافعية أنه الصواب كما ذكره الشيخ الشربيني في (الإقناع) (2/ 110).
لكن ينبغي تقييد هذا بما إذا لم يكن على الوجه وكذا الكفين شيء من الزينة لعموم قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] , وإلا وجب ستر ذلك. ولا سيما في هذا العصر الذي تفنن فيه النساء بتزيين وجوههن وأيديهن بأنواع من الزينة والأصبغة مما لا يشك مسلم - بل عاقل ذو غيرة - في تحريمه وليس من ذلك الكحل والخضاب لاستثنائهما في الآية كما تقدم.
ويؤيد هذا ما أخرجه ابن سعد (8/ 238 - 239) من طريق سفيان عن منصور عن ربعي بن خراش عن امرأة عن أخت حذيفة وكان له أخوات قد أدركن النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
(خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر النساء أليس لكن في الفضة ما تحلين؟ أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به.

(1/232)


قال منصور: فذكرت ذلك لمجاهد فقال: قد أدركتهن وإن إحداهن لتتخذ لكمها زرا تواري خاتمها).
وليس استشهادي في هذه الرواية بالحديث المرفوع وإن كان صريحا في ذلك - لأن في إسناده المرأة التي لم تسم - وإنما هو بقول مجاهد: (تواري خاتمها) , فهو نص صريح فيما ذكرت والحمد لله على توفيقه.
ثم رأيت قول مجاهد بسند آخر صحيح عنه في (مسند أبي يعلى) (6989).
هذا وقد أبان الله تعالى عن حكمة الأمر بإدناء الجلباب بقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]؛ يعني أن المرأة إذا التحفت بالجلباب عرفت بأنها من العفائف المحصنات الطيبات فلا يؤذيهن الفساق بما لا يليق من الكلام, بخلاف ما لو خرجت متبذلة غير مستترة فإن هذا مما يطمع الفساق فيها والتحرش بها, كما هو مشاهد في كل عصر ومصر.
فأمر الله تعالى نساء المؤمنين جميعا بالحجاب سدا للذريعة.
وأما ما أخرجه ابن سعد (8/ 176): أخبرنا محمد بن عمر عن ابن أبي سبرة عن أبي صخر عن ابن كعب القرظي قال:
(ضعيف جدا) (كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له؟ قال: كنت أحسبها أمة فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن).

(1/233)


فلا يصح بل هو ضعيف جدا لأمور:
الأول: أن ابن كعب القرظي - واسمه محمد - تابعي لم يدرك عصر النبوة فهو مرسل.
الثاني: أن ابن أبي سبرة وهو أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة ضعيف جدا قال الحافظ في (التقريب):
(رموه بالوضع).
والثالث: ضعف محمد بن عمر وهو الواقدي وهو مشهور بذلك عند المحدثين بل هو متهم.
وفي معنى هذه الرواية روايات أخرى أوردها السيوطي في (الدر المنثور) وبعضها عند ابن جرير وغيره , وكلها مرسلة لا تصح؛ لأن منتهاها إلى أبي مالك وأبي صالح والكلبي ومعاوية بن قرة والحسن البصري ولم يأت شيء منها مسندا , فلا يحتج بها ,ولا سيما أن ظاهرها مما لا تقبله الشريعة المطهرة ,ولا العقول النيرة؛ لأنها توهم أن الله تعالى أقر إماء المسلمين - وفيهن مسلمات قطعا - على حالهن من ترك التستر ولم يأمرهن بالجلباب ليدفعن به إيذاء المنافقين لهن.
ومن العجائب أن يغتر بعض المفسرين بهذه الروايات الضعيفة فيذهبوا بسببها إلى تقييد قوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 59] بالحرائر دون الإماء, وبنوا على ذلك أنه لا يجب على الأمة ما يجب على الحرة من ستر الرأس والشعر بل بالغ بعض المذاهب فذكر أن عورتها مثل عورة الرجل: من السرة إلى الركبة وقالوا:

(1/234)


(فيجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثديها).وهذا - مع أنه لا دليل عليه من كتاب أو سنة - مخالف لعموم قوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 59]؛ فإنه من حيث العموم كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية [النساء: 43] ولهذا قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره: (البحر المحيط) (7/ 250):
(والظاهر أن قوله: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} يشمل الحرائر والإماء, والفتنة بالإماء أكثر؛ لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح).
وسبقه إلى ذلك الحافظ ابن القطان في (أحكام النظر) (ق 24/ 2) وغيره. وما أحسن ما قال ابن حزم في (المحلى) (3/ 218 - 219):
(وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله واحد والخلقة والطبيعة واحدة كل ذلك في الحرائر والإماء سواء حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيء فيوقف عنده). قال:
(وقد ذهب بعض من وهل في قول الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} إلى أنه إنما أمر الله تعالى بذلك؛ لأن الفساق كانوا يتعرضون للنساء للفسق فأمر الحرائر بأن يلبسن الجلابيب ليعرف الفساق أنهن حرائر فلا يتعرضوهن).

(1/235)


ونحن نبرأ من هذا التفسير الفاسد الذي هو إما زلة عالم, أو وهلة فاضل عاقل ,أو افتراء كاذب فاسق؛ لأن فيه أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين وهذه مصيبة الأبد وما اختلف اثنان من أهل الإسلام في أن تحريم الزنا بالحرة كتحريمه بالأمة, وأن الحد على الزاني بالحرة كالحد على الزاني بالأمة ولا فرق ,وأن تعرض الحرة في التحريم كتعرض الأمة ولا فرق ولهذا وشبهه وجب أن لا يقبل قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأن يسنده إليه عليه السلام).
ولا يعارض ما تقدم حديث أنس:
(صحيح) (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اصطفى لنفسه من سبي خيبر صفية بنت حيي قال الصحابة: ما ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد؟ فقالوا: إن يحجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد. فلما أراد أن يركب حجبها حتى قعدت على عجز البعير فعرفوا أنه تزوجها (وفي رواية: وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ثم شده من تحت رجلها وتحمل بها وجعلها بمنزلة نسائه)
نقول: لا مخالفة بين هذا الحديث وبين ما اخترناه من تفسير الآية لأنه ليس فيه نفي الجلباب وإنما فيه نفي (الحجاب) ولا يلزم منه نفي الجلباب مطلقا إلا احتمالا ويحتمل أن يكون المنفي الجلباب الذي يتضمن حجب الوجه أيضا كما هو صريح قوله في الحديث نفسه: (وجعل رداءه على ظهرها ووجهها) ويقوي هذا الاحتمال أيضا ما سيأتي بيانه.
فهذه الخصوصية هي التي كان بها يعرف الصحابة حرائره عليه السلام من إمائه وهي المراد من قولهم المتقدم سلبا وإيجابا: (إن يحجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد).

(1/236)


فيتضح من هذا أن معنى قولهم: (وإن لم يحجبها) أي: في وجهها فلا ينفي حجب سائر البدن من الأمة وفيه الرأس فضلا عن الصدر والعنق فاتفق الحديث مع الآية والحمد لله على توفيقه.
والخلاصة: أنه يجب على النساء جميعا أن يتسترن إذا خرجن من بيوتهن بالجلابيب لا فرق في ذلك بين الحرائر والإماء ويجوز لهن الكشف عن الوجه والكفين فقط لجريان العمل بذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع إقراره إياهن على ذلك.
ومن المفيد هنا أن نستدرك ما فاتنا في الطبعات السابقة من الآثار السلفية التي تنص على جريان العمل بذلك أيضا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأقول:
1 - (صحيح) عن قيس بن أبي حازم قال:
(دخلت أنا وأبي على أبي بكر رضي الله عنه وإذا هو رجل أبيض خفيف الجسم عنده أسماء بنت عميس تذب عنه وهي [امرأة بيضاء] موشومة اليدين, كانوا وشموها في الجاهلية نحو وشم البربر فعرض عليه فرسان فرضيهما فحملني على أحدهما وحمل أبي على الآخر).
2 - (إسناده جيد في الشواهد) عن أبي السليل قال:
جاءت ابنة أبي ذر وعليها مجنبتا صوف سفعاء الخدين ومعها قفة لها فمثلت بين يديه وعنده أصحابه فقالت: يا أبتاه زعم الحراثون والزراعون أن أفلسك هذه بهرجة فقال: يا بنية ضعيها فإن أباك أصبح بحمد الله ما يملك من صفراء ولا بيضاء إلا أفلسه هذه.

(1/237)


3 - (سنده لا بأس به في الشواهد) عن عمران بن حصين قال:
كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا إذ أقبلت فاطمة رحمها الله فوقفت بين يديه فنظرت إليها وقد ذهب الدم من وجهها فقال: ادني يا فاطمة فدنت حتى قامت بين يديه فرفع يده فوضعها على صدرها موضع القلادة وفرج بين أصابعه ثم قال:
(اللهم مشبع الجاعة ورافع الوضيعة لا تجع فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم)
قال عمران: فنظرت إليها وقد غلب الدم على وجهها وذهبت الصفرة كما كانت الصفرة قد غلبت على الدم.
قال عمران:
لقيتها بعد فسألتها؟ فقالت: ما جعت بعد يا عمران.
4 - (سنده حسن) عن قبيصة بن جابر قال:
(كنا نشارك المرأة في السورة من القرآن نتعلمها فانطلقت مع عجوز من بني أسد إلى ابن مسعود [في بيته] في ثلاث نفر فرأى جبينها يبرق فقال: أتحلقينه؟ فغضبت وقالت: التي تحلق جبينها امرأتك قال: فادخلي عليها فإن كانت تفعله فهي مني بريئة فانطلقت ثم جاءت فقالت: لا والله ما رأيتها تفعله فقال عبد الله بن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(لعن الله الواشمات والمستوشمات. . . .) ألخ.

(1/238)


5 - (صحيح) عن أبي أسماء الرحبي أنه دخل على أبي ذر [الغفاري رضي الله عنه] وهو بالربذة وعنده امرأة له سوداء مسغبة. . . قال: فقال:
(ألا تنظرون إلى ما تأمرني به هذه السويداء. . .)
6 - وفي (تاريخ ابن عساكر) (19/ 73 / 2) وفي قصة صلب ابن الزبير أن أمه (أسماء بنت أبي بكر) جاءت مسفرة الوجه متبسمة.
7 - (صحيح) عن أنس قال:
دخلت على عمر بن الخطاب أمة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين أو الأنصار وعليها جلباب متقنعة به فسألها: عتقت؟ قالت: لا. قال: فما بال الجلباب؟ ضعيه عن رأسك إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين فتلكأت فقام إليها بالدرة فضرب رأسها حتى ألقته عن رأسها.
8 - (صحيح) عن عمر بن محمد أن أباه حدثه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: أن أروى خاصمته في بعض داره فقال: دعوها وأباها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طوقه في سبع أرضين يوم القيامة) اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن
زيد فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها.
9 - (صحيح) عن عطاء بن أبي رباح قال: رأيت عائشة رضي الله عنها تفتل القلائد للغنم تساق معها هديا.
10 - (حسن) عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال:

(1/239)


أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت معوذ أسألها عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتوضأ عندها فأتيتها فأخرجت إلي إناء يكون مدا , فقالت: بهذا كنت أخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم للوضوء. . الحديث.
11 - (صحيح) عن عروة بن عبد الله بن قشير:
أنه دخل على فاطمة بنت علي بن أبي طالب قال: فرأيت في يديها مسكا غلاظا في كل يد اثنين اثنين. قال: ورأيت في يدها خاتما. . . إلخ
12 - (إسناده جيد) وعن عيسى بن عثمان قال:
كنت عند فاطمة بنت علي فجاء رجل يثني على أبيها عندها فأخذت رمادا فسفت في وجهه.
13 - (سنده جيد) وعن يحيى بن أبي سليم قال:
رأيت سمراء بنت نهيك وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم عليها درع غليظ وخمار غليظ بيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
14 - (صحيح) عن ميمون - هو ابن مهران - قال:
دخلت على أم الدرداء فرأيتها مختمرة بخمار صفيق قد ضربت على حاجبها. قال: وكان فيه قصر فوصلته بسير. قال: وما دخلت في ساعة صلاة إلا وجدتها مصلية.

(1/240)


15 - (سنده جيد في الشواهد) عن معاوية رضي الله عنه:
دخلت مع أبي على أبي بكر رضي الله عنه فرأيت أسماء قائمة على رأسه بيضاء ورأيت أبا بكر رضي الله عنه أبيض نحيفا.
16 - (سنده حسن) عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال:
(جاءت امرأة إلى سمرة بن جندب فذكرت أن زوجها لا يصل إليها فسأل الرجل فأنكر ذلك وكتب فيه إلى معاوية رضي الله عنه قال: فكتب: أن زوجه امرأة من بيت المال لها حظ من جمال ودين. . . قال: ففعل. . . قال: وجاءت المرأة متقنعة. . .).

مشروعية ستر الوجه:
هذا ثم إن كثيرا من المشايخ اليوم يذهبون إلى أن وجه المرأة عورة لا يجوز لها كشفه, بل يحرم وفيما تقدم في هذا البحث كفاية في الرد عليهم ويقابل هؤلاء طائفة أخرى يرون أن ستره بدعة وتنطع في الدين كما قد بلغنا عن بعض من يتمسك بما ثبت في السنة في بعض البلاد اللبنانية فإلى هؤلاء الإخوان وغيرهم نسوق الكلمة التالية:
ليعلم أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة وقد كان ذلك معهودا في زمنه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه صلى الله عليه وسلم بقوله:
(صحيح) (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (تفسير سورة النور) (ص 56):
(وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن).

(1/241)


والنصوص متضافرة عن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يحتجبن حتى في وجوههن, وإليك بعض الأحاديث والآثار التي تؤيد ما نقول:
1 - (صحيح) عن عائشة قالت:
(خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها, وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق (هو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم) فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر: كذا وكذا قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال: إنه أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن).
2 - (صحيح) وعنها أيضا في حديث قصة الإفك قالت:
(. . . فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت (وفي رواية: فسترت) وجهي عنه بجلبابي. . .) الحديث.
3 - (صحيح) عن أنس في قصة غزوة خيبر واصطفائه صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه قال:
(فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ولم يعرس بها, فلما قرب البعير لرسول الله ليخرج وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله لصفية لتضع قدمها على فخذه فأبت ووضعت ركبتها على فخذه وسترها

(1/242)


رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ثم شده من تحت رجلها وتحمل بها وجعلها بمنزلة نسائه).
4 - (حسن في الشواهد) عن عائشة قالت:
(كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه).
5 - (صحيح) عن أسماء بنت أبي بكر قالت:
(كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام).
6 - عن صفية بنت شيبة قالت:
(رأيت عائشة طافت بالبيت وهي منتقبة).
7 - عن عبد الله بن عمر قال:
(لما اجتلى النبي صلى الله عليه وسلم صفية رأى عائشة منتقبة وسط الناس فعرفها).
8 - (حسن) عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف:
(أن عمر بن الخطاب أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في آخر حجة حجها وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قال: كان عثمان ينادي: ألا لا يدنو إليهن أحد ولا ينظر إليهن أحد وهن في الهوادج على الإبل. فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب وكان عثمان وعبد الرحمن بذنب الشعب فلم يصعد إليهن أحد).

(1/243)


ففي هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على أن حجاب الوجه قد كان معروفا في عهده صلى الله عليه وسلم, وأن نساءه كن يفعلن ذلك وقد استن بهن فضليات النساء بعدهن وإليك مثالين على ذلك:
1 - (صحيح) عن عاصم الأحول قال:
(كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا: وتنقبت به فنقول لها: رحمك الله قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} هو الجلباب قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} فتقول: هو إثبات الحجاب).
2 - عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن موسى القاضي قال:
حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين ومائتين وتقدمت امرأة فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهرا فأنكر فقال القاضي: شهودك. قال:
قد أحضرتهم. فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته فقام الشاهد وقال للمرأة:
قومي. فقال الزوج:
تفعلون ماذا؟ قال الوكيل:
ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة لتصح عندهم معرفتها. فقال الزوج:
وإني أشهد القاضي أن لها علي هذا المهر الذي تدعيه ولا تسفر عن وجهها.

(1/244)


فردت المرأة وأخبرت بما كان من زوجها - فقالت:
فإني أشهد القاضي: أن قد وهبت له هذا المهر وأبرأته منه في الدنيا والآخرة.
فقال القاضي:
يكتب هذا في مكارم الأخلاق.
فيستفاد مما ذكرنا أن ستر المرأة لوجهها ببرقع أو نحوه مما هو معروف اليوم عند النساء المحصنات أمر مشروع محمود. وإن كان لا يجب ذلك عليها ,بل من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج. ومما تقدم بيانه يتضح ثبوت الشرط الأول في لباس المرأة إذا خرجت ألا وهو أن يستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها.
(فائدة هامة):
قوله تعالى في آية النور المتقدمة في أول هذا الشرط: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [31] يعني: المؤمنات كما قال مجاهد وغيره من السلف خلافا لبعض المعاصرين فإنه زعم أن المعنى: الصالحات من النساء سواء كن مسلمات أو كافرات.
قال الشوكاني في (فتح القدير) (4/ 22):
(وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات).
وقال البيهقي في كتاب (الآداب) (ص 407 - لبنان): (وأما قوله: {نِسَائِهِنَّ} فقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة بن

(1/245)


الجراح: إن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات ومعهن نساء من أهل الكتاب فامنع ذلك).
وفي رواية أخرى:
(فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها).
قلت: الرواية الأولى عند البيهقي في (السنن) (7/ 95) من طريق عيسى بن يونس: ثنا هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي عن عبادة بن نسي الكندي قال: كتب عمر. . . ألخ
ورواه ابن جرير أيضا (18/ 95).
قلت: ورجاله ثقات لكنه منقطع فإن عبادة لم يدرك عمر رضي الله عنه بينهما نسي والد عبادة
هكذا رواه سعيد بن منصور في (سننه) كما في (تفسير ابن كثير) (3/ 284) ومن طريقه البيهقي: ثنا إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال: كتب عمر. . . ألخ.
الرواية الأخرى:
ورجاله ثقات غير نسي فإنه لم يوثقه غير ابن حبان (5/ 482):
وقال الحافظ في (التقريب):
(مجهول).

(1/246)


قلت: لكن المعنى المذكور متفق عليه بين المفسرين المحققين, كابن جرير وابن كثير والشوكاني وغيرهم ممن لا يخرج عن التفسير المأثور ولا يعتد بآراء الخلف.
إذا تبين ذلك فاعلم: أن من الخطورة بمكان ما ابتلي به كثير من أغنياء المسلمين اليوم من استخدامهم النساء الكافرات في بيوتهم لأنه لا يخلو الأمر من أن يقع الزوجان , أو أحدهما في الفتنة والمخالفة للشريعة
أما الزوج فواضح لأنه يخشى أن يزني بها وبخاصة أنه لا عفة عندهن بحكم كونهن كافرات لا يحرمن ولا يحللن كما صرح بذلك القرآن الكريم بحق أهل الكتاب. فكيف يكون حال الوثنيات كالسيريلانكيات اللاتي لا كتاب لهن؟
وأما بالنسبة للزوجة ,فمن الصعب جدا على أكثر مسلمات هذا الزمان -زوجات وبنات بالغات- أن يحتجبن من تلك الخادمات كما تحتجب من الرجال إلا من عصم الله وقليل ما هن.
ولو أننا فرضنا سلامة الزوجين من الفتنة فلن يسلم أولادهما من التأثر بأخلاقهن وعاداتهن المخالفة لشريعتنا. هذا إذا لم يقصدن إفساد تربيتهم وتشكيكهم في دينهم كما سمعنا بذلك عن بعضهن.
هذا ولقد بلغني عن أحد المفتين - والعهدة على الراوي - أنه سئل عن استخدامهن فأجاب بالجواز لأنهن عنده بمنزلة السبايا والجواري اللاتي استحلت شرعا بملك اليمين. فأخشى ما أخشاه أن يصل الأمر بمثل هذا المفتي أن يستحل أيضا وطأهن قياسا على ملك اليمين وبخاصة أن هناك من أسقط الحد عمن زنى بخادمته - ولو كانت مسلمة - بشبهة استئجاره إياها قال ذلك بعض الآرائيين القدامى.

(1/247)


فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ما أردت بيانه للناس حول هذه المسألة لعل الله ينفع بها من قد يكون غافلا عنها ,وينفع من كان معرضا عن العمل بها وهو سبحانه ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق.

الشرط الثاني:
(أن لا يكون زينة في نفسه).
لقوله تعالى في الآية المتقدمة من سورة النور: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]؛ فإنه بعمومه يشمل الثياب الظاهرة إذا كانت مزينة تلفت أنظار الرجال إليها ويشهد لذلك قوله تعالى في [الأحزاب: 33]: {) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
(صحيح) (ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا وأمة أو عبد أبق فمات وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم).
و (التبرج: أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها وما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل).
والمقصود من الأمر بالجلباب إنما هو ستر زينة المرأة فلا يعقل حينئذ أن يكون الجلباب نفسه زينة وهذا كما ترى بين لا يخفى ولذلك قال الإمام الذهبي في (كتاب الكبائر) (ص 131):

(1/248)


(ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة: إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت ولبسها الصباغات والأزر الحريرية والأقبية القصار مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها , وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم: اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء).
قلت: وهو حديث صحيح أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث عمران ابن حصين وغيره وزاد أحمد وغيره من حديث ابن عمرو مرفوعا:
(والأغنياء).
وهذه الزيادة منكرة كما حققته في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) برقم (2800) من المجلد السادس يسر الله طباعته.
قلت: ولقد بالغ الإسلام في التحذير من التبرج إلى درجة أنه قرنه بالشرك والزنى والسرقة وغيرها من المحرمات وذلك حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء على أن لا يفعلن ذلك فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:
(حسن) (جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام فقال: أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى)

(1/249)


واعلم أنه ليس من الزينة في شيء أن يكون ثوب المرأة الذي تلتحف به ملونا بلون غير البياض أو السواد كما يتوهم بعض النساء الملتزمات وذلك لأمرين:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم:
(طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه. . .)
وهو مخرج في (مختصر الشمائل) (188).
والآخر: جريان العمل من نساء الصحابة على ذلك وأسوق هنا بعض الآثار الثابتة في ذلك مما رواه الحافظ ابن أبي شيبة في (المصنف) (8/ 371 - 372):
1 - عن إبراهيم وهو النخعي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في اللحف الحمر.
2 - عن ابن أبي مليكة قال:
رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر.
3 - عن القاسم - وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق:
أن عائشة كانت تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة.
وفي رواية عن القاسم:
أن عائشة كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر وهي محرمة.
4 - عن هشام عن فاطمة بنت المنذر:
أن أسماء كانت تلبس المعصفر وهي محرمة.

(1/250)


5 - عن سعيد بن جبير:
أنه رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطوف بالبيت وعليها ثياب معصفرة.
الشرط الثالث:
(أن يكون صفيقا لا يشف).
لأن الستر لا يتحقق إلا به وأما الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنة وزينة وفي: ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:
(سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العنوهن فإنهن ملعونات).
زاد في حديث آخر:
(لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا).
قال ابن عبد البر:
(أراد صلى الله عليه وسلم النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر فهن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة) وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت:
(رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها فشقته عائشة عليها وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟ ثم دعت بخمار فكستها).
(صحيح) وعن هشام بن عروة:

(1/251)


(أن المنذر بن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب مروية وقوهية رقاق عتاق بعدما كف بصرها قال: فلمستها بيدها ثم قالت: أف ردوا عليه كسوته قال: فشق ذلك عليه وقال: يا أمه إنه لا يشف. قالت إنها إن لم تشف فإنها تصف).
وعن عبد الله بن أبي سلمة:
(أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الناس القباطي ثم قال:
لا تدرعها نساؤكم فقال رجل: يا أمير المؤمنين قد ألبستها امرأتي فأقبلت في البيت وأدبرت فلم أره يشف. فقال عمر: إن لم يكن يشف فإنه يصف).
وفي هذا الأثر والذي قبله إشارة إلى أن كون الثوب يشف أو يصف كان من المقرر عندهم أنه لا يجوز وأن الذي يشف شر من الذي يصف ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها:
(إنما الخمار ما وارى البشرة والشعر).
(صحيح) وقالت شميسة:
(دخلت على عائشة وعليها ثياب من هذه السيد الصفاق ودرع وخمار ونقبة قد لونت بشيء من عصفر)
من أجل ذلك كله قال العلماء:
ويجب ستر العورة بما لا يصف لون البشرة. . . من ثوب صفيق أو جلد أو رق فإن ستر بما يظهر فيه لون البشرة من ثوب رقيق لم يجز؛ لأن الستر لا يحصل بذلك.

(1/252)


وقد عقد ابن حجر الهيتمي في (الزواجر) (1/ 127) بابا خاصا في لبس المرأة ثوبا رقيقا يصف بشرتها وأنه من الكبائر ثم ساق فيه الحديث المتقدم (ص 125) ثم قال: (وذكر هذا من الكبائر ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد ولم أر من صرح بذلك. إلا أنه معلوم بالأولى مما مر في تشبههن بالرجال).
قلت: وتأتي الأحاديث في لعن المتشبهات بالرجال عند الكلام على الشرط السادس.
الشرط الرابع:
(أن يكون فضفاضا غير ضيق, فيصف شيئا من جسمها)؛لأن الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة. ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع, وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البشرة فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه ويصوره في أعين الرجال. وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما لا يخفى فوجب أن يكون واسعا وقد قال أسامة بن زيد:
(حسن) (كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال: مالك لم تلبس القبطية؟ قلت: كسوتها امرأتي فقال: مرها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف حجم عظامها).
فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية غلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب - ليمنع بها وصف بدنها والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في الأصول ولذلك قال الشوكاني في شرح هذا الحديث (2/ 97) ما نصه:

(1/253)


(والحديث يدل على أنه يجب على المرأة أن تستر بدنها بثوب لا يصفه, وهذا شرط ساتر العورة. وإنما أمر بالثوب تحته؛ لأن القباطي ثياب رقاق لا تستر البشرة عن رؤية الناظر بل تصفها).
وهو كما ترى قد حمل الحديث على الثياب الرقيقة الشفافة التي لا تستر لون البشرة فهو على هذا يصلح أن يورد في الشرط السابق ولكن هذا الحمل غير متجه عندي بل هو وارد على الثياب الكثيفة التي تصف حجم الجسم من ليونتها ولو كانت غير رقيقة وشفافة وذلك واضح من الحديث لأمرين:
الأول: أنه قد صرح فيه بأن القبطية كانت كثيفة أي: ثخينة غليظة فمثله كيف يصف البشرة ولا يسترها عن رؤية الناظر؟ ولعل الشوكاني رحمه الله ذهل عن هذا القيد (كثيفة) في الحديث ففسر القبطية بما هو الأصل فيها
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح فيه بالمحذور الذي خشيه من هذه القبطية فقال:
(إني أخاف أن تصف حجم عظامها).
فهذا نص في أن المحذور إنما هو وصف الحجم لا اللون.
فإن قلت: فإذا كان الأمر كما ذكرت وكانت القبطية ثخينة فما فائدة الغلالة؟
قلت: فائدتها دفع ذلك المحذور لأن الثوب قد يصف الجسم ولو كان ثخينا إذا كان من طبيعته الليونة والانثناء على الجسد كبعض الثياب الحريرية والجوخ المعروفة في هذا العصر فأمر صلى الله عليه وسلم بالشعار من أجل ذلك.

(1/254)


والله تعالى أعلم.
وقد أغرب الشافعية فقالوا:
(أما لو ستر اللون ووصف حجم الأعضاء فلا بأس كما لو لبس سروالا ضيقا) قالوا:
(ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ وخمار وتتخذ جلبابا كثيفا فوق ثيابها ليتجافى عنها ولا يتبين حجم أعضائها).
والقول بالاستحباب فقط ينافي ظاهر الأمر فإنه للوجوب كما تقدم وعبارة الإمام الشافعي رضي الله عنه في (الأم) قريب مما ذهبنا فقد قال: (1/ 78): (وإن صلى في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة. . . فإن صلى في قميص واحد يصفه ولم يشف كرهت له ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة. . . والمرأة في ذلك أشد حالا من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها الدرع وأحب إلي أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك وتجافيه عنها لئلا يصفها الدرع).
وقد قالت عائشة رضي الله عنها:
(صحيح) (لا بد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلي فيهن: درع وجلباب وخمار وكانت عائشة تحل إزارها فتجلبب به).
وإنما كانت تفعل ذلك لئلا يصفها شيء من ثيابها وقولها: (لا بد) دليل على وجوب ذلك ,وفي معناه قول ابن عمر رضي الله عنهما: (صحيح) (إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة).

(1/255)


وهذا يؤيد ما سبق أن ذهبنا إليه من وجوب الجمع بين الخمار والجلباب على المرأة إذا خرجت.
(انظر ص 84 - 85).
ومما يحسن إيراده هنا استئناسا ما روي عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:
يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها فقالت أسماء: يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريك شيئا رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله تعرف به المرأة من الرجل. فإذا مت أنا فاغسليني أنت وعلي ولا يدخل علي أحد فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهما).
فانظر إلى فاطمة بضعة النبي صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة التي تصف نهودهن وخصورهن وإلياتهن وسوقهن وغير ذلك من أعضائهن ثم ليستغفرن الله تعالى وليتبن إليه وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم:
(صحيح) (الحياء والإيمان قرنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر).
الشرط الخامس:
(أن لا يكون مبخرا مطيبا).
لأحاديث كثيرة تنهى النساء عن التطيب إذا خرجن من بيوتهن ونحن نسوق الآن بين يديك ما صح سنده منها:

(1/256)


1 - (إسناده حسن) عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية).
2 - (صحيح) عن زينب الثقفية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيبا).
3 - (صحيح) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة).
4 - (صحيح) عن موسى بن يسار عن أبي هريرة:
(أن امرأة مرت به تعصف ريحها فقال: يا أمة الجبار المسجد تريدين؟ قالت: نعم قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم قال: فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل)
ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على ما ذكرنا العموم الذي فيها.
فإن الاستعطار والتطيب كما يستعمل في البدن يستعمل في الثوب أيضا لا سيما وفي الحديث الثالث ذكر البخور؛ فإنه بالثياب أكثر استعمالا وأخص.
وسبب المنع منه واضح وهو ما فيه من تحريك داعية الشهوة وقد ألحق به العلماء ما في معناه كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال.

(1/257)


وقال ابن دقيق العيد:
(وفيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال).
قلت: فإذا كان ذلك حراما على مريدة المسجد, فماذا يكون الحكم على مريدة السوق والأزقة والشوارع؟ لا شك أنه أشد حرمة وأكبر إثما وقد ذكر الهيتمي في (الزواجر) (2/ 37) أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر ولو أذن لها زوجها.
ثم إن هذه الأحاديث عامة تشمل جميع الأوقات وإنما خص بالذكر العشاء الآخرة في الحديث الثالث لأن الفتنة وقتها أشد فلا يتوهمن منه أن خروجها في غير هذا الوقت جائز. وقال ابن الملك:
(والأظهر أنها خصت بالنهي؛ لأنها وقت الظلمة وخلو الطريق والعطر يهيج الشهوة فلا تأمن المرأة في ذلك الوقت من كمال الفتنة. بخلاف الصبح والمغرب فإنهما وقتان فاضحان وقد تقدم أن مس الطيب يمنع المرأة من حضور المسجد مطلقا).
الشرط السادس:
(أن لا يشبه لباس الرجل).
لما ورد من الأحاديث الصحيحة في لعن المرأة التي تتشبه بالرجل في اللباس أو غيره. وإليك ما نعلمه منها:
1 - (صحيح) عن أبي هريرة قال:

(1/258)


(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل).
2 - عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال)
3 - (صحيح) عن ابن عباس قال:
(لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: أخرجوهم من بيوتكم. قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا وأخرج عمر فلانا).
وفي لفظ: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال).
4 - (صحيح الإسناد) عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق والديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث).
5 - (صحيح) عن ابن أبي مليكة - واسمه عبد الله بن عبيد الله - قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن المرأة تلبس النعل؟ فقالت:
(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء).

(1/259)


وفي هذه الأحاديث دلالة واضحة على تحريم تشبه النساء بالرجال وعلى العكس وهي عامة تشمل اللباس وغيره إلا الحديث الأول فهو نص في اللباس وحده وقد قال أبو داود في (مسائل الإمام أحمد) (ص 261): (سمعت أحمد سئل عن الرجل يلبس جاريته القرطق؟ قال: لا يلبسها من زي الرجال لا يشبهها بالرجال).
قال أبو داود:
(قلت لأحمد: يلبسها النعل الصرارة؟ قال: لا إلا أن يكون لبسها للوضوء. قلت: للجمال؟ قال: لا. قلت: فيجز شعرها؟ قال: لا)
وقد أورد الذهبي تشبه المرأة بالرجال وتشبه الرجال بالنساء في (الكبائر) (ص 129) وأورد بعض الأحاديث المتقدمة ثم قال:
(فإذا لبست المرأة زي الرجال من المقالب والفرج والأكمام الضيقة فقد شابهت الرجال في لبسهم فتلحقها لعنة الله ورسوله ولزوجها إذا أمكنها من ذلك أو رضي به ولم ينهها؛ لأنه مأمور بتقويمها على طاعة الله ونهيها عن المعصية لقول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} , ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(صحيح) (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الرجل راع في أهله ومسؤول عنهم يوم القيامة) متفق عليه وهو مخرج في (غاية المرام) (269). وتبعه على ذلك الهيتمي في (الزواجر) (1/ 126) ثم قال: (عد هذا من الكبائر واضح لما عرفت من هذه الأحاديث الصحيحة وما فيها من الوعيد الشديد والذي رأيته لأئمتنا أن ذلك التشبه فيه قولان:
أحدهما: أنه حرام وصححه النووي بل صوبه.

(1/260)


وثانيهما: أنه مكروه وصححه الرافعي في موضع والصحيح بل الصواب ما قاله النووي من الحرمة بل ما قدمته من أن ذلك كبيرة ثم رأيت بعض المتكلمين على الكبائر عده منها وهو ظاهر).
وقال الحافظ في (الفتح) (10/ 273 - 274) عند شرح حديث ابن عباس المتقدم برقم (3) باللفظ الثاني: (لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) ما مختصره:
(قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها لا التشبه في أمور الخير. قال: والحكمة في لعن من تشبه إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله: (المغيرات خلق الله).
فثبت مما تقدم أنه لا يجوز للمرأة أن يكون زيها مشابها لزي الرجل فلا يحل لها أن تلبس رداءه وإزاره ونحو ذلك كما تفعله بعض بنات المسلمين في هذا العصر من لبسهن ما يعرف ب (الجاكيت) و (البنطلون) وإن كان هذا في الواقع أستر لهن من ثيابهن الأخرى الأجنبية. فاعتبروا يا أولي الأبصار.
الشرط السابع:
(أن لا يشبه لباس الكافرات).

(1/261)


لما تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين - رجالا ونساء - التشبه بالكفار سواء في عباداتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم. وهذه قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية خرج عنها اليوم مع الأسف كثير من المسلمين حتى الذين يعنون منهم بأمور الدين والدعوة إليه جهلا بدينهم أو تبعا لأهوائهم أو انجرافا مع عادات العصر الحاضر وتقاليد أوروبا الكافرة حتى كان ذلك من أسباب ذل المسلمين وضعفهم وسيطرة الأجانب عليهم واستعمارهم {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. لو كانوا يعلمون.
وينبغي أن يعلم أن الأدلة على صحة هذه القاعدة المهمة كثيرة في الكتاب والسنة, وإن كانت أدلة الكتاب مجملة فالسنة تفسرها وتبينها كما هو شأنها دائما.
ومن الآيات قوله تعالى في [الجاثية: 16 - 18] {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ*وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ* ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (الاقتضاء) (ص 8):
(أخبر سبحانه وتعالى أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض, ثم جعل محمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} كل من خالف

(1/262)


شريعته. و (أهواؤهم): هو ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه.
وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه. ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك. ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره. فإن (من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه) وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة وإن كان الأول أظهر.
ومن هذا الباب قوله تعالى في [الرعد: 36 - 37]:
2 - {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ*وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} والضمير في (أهواءهم) يعود -والله أعلم- إلى ما تقدم ذكره وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه, فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا من القرآن من يهودي أو نصراني أو غيرهما. وقد قال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [الرعد: 37] ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم, بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك).

(1/263)


وقال تعالى في [الحديد: 16]:
3 - {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
قال شيخ الإسلام (ص 43):
(فقوله: {وَلا يَكُونُوا} نهي مطلق عن مشابهتهم وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي)
وقال ابن كثير عند تفسير هذه الآية (4/ 310):
(ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية).
ومن ذلك قوله تعالى في [البقرة: 104]:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
قال الحافظ ابن كثير (1/ 148):
(نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص- عليهم لعائن الله-, فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا قالوا: راعنا ويورون بالرعونة كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً}

(1/264)


[النساء: 46].
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: (السام عليكم) والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ (وعليكم)؛ وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم علينا, والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا).
وقال شيخ الإسلام عند هذه الآية ما مختصره (ص 22):
(قال قتادة وغيره: كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم وقال أيضا: كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك يستهزئون بذلك وكانت في اليهود قبيحة. فهذا يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها لأن اليهود كانوا يقولونها وإن كانت من اليهود قبيحة.
ومن المسلمين لم تكن قبيحة لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم).
وفي الباب آيات أخرى وفيما ذكرنا كفاية فمن شاء الوقوف عليها فلينظرها في (الاقتضاء) (ص: 8 - 14 و 22 و 42).
فتبين من الآيات المتقدمة أن ترك هدي الكفار والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها وجاء بها القرآن الكريم, وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك وتفصيله للأمة وحققه في أمور كثيرة من فروع الشريعة, حتى عرف ذلك اليهود الذين كانوا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وشعروا أنه عليه السلام يريد أن يخالفهم في كل شؤونهم الخاصة بهم كما روى أنس بن مالك رضي الله عنه:

(1/265)


(صحيح) (إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد ابن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما).
وأما السنة فالنصوص فيها كثيرة طيبة في تأييد القاعدة المتقدمة وهي لا تنحصر في باب واحد من أبواب الشريعة المطهرة كالصلاة مثلا, بل قد تعدتها إلى غيرها من العبادات والآداب والاجتماعيات والعادات, وهي بيان وتفصيل لما أجمل في الآيات السابقة ونحوها. كما قدمت الإشارة إليه
فثبت مما تقدم أن مخالفة الكفار وترك التشبه بهم من مقاصد الشريعة الإسلامية العليا فالواجب على كل مسلم رجالا ونساء أن يراعوا ذلك في شؤونهم كلها وبصورة خاصة في أزيائهم وألبستهم لما علمت من النصوص الخاصة فيها وبذلك يتحقق صحة الشرط السابع في زي المرأة.
الشرط الثامن:
(أن لا يكون لباس شهرة).
لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1/266)


(من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا).
وإلى هنا ينتهي بنا الكلام على الشروط الواجب تحققها في ثوب المرأة وملاءتها وخلاصة ذلك:
أن يكون ساترا لجميع بدنها إلا وجهها وكفيها على التفصيل السابق وأن لا يكون زينة في نفسه ولا شفافا ولا ضيقا يصف بدنها ولا مطيبا ولا مشابها للباس الرجال ولباس الكفار ولا ثوب شهرة.

(1/267)