الإحكام
شرح أصول الأحكام كتابُ الصِّيَام
الصوم ترك الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك. وكان معروفا قبل مستعملا. كما
في الصحيحين "يوم عاشوراء" كان يوما تصومه قريش في الجاهلية" فهو لغة مجرد
الإمساك. وشرعا إمساك بنية عن اشياء مخصوصة في زمن معين من شخص مخصوص. فرض
في السنة الثانية من الهجرة. وهو أحد أركان الإسلام. وفرض من فروض الله
المعلومة بالضرورة من دين الإسلام. بل من العلم العام الذي توارثته الأمة
خلفا عن سلف. وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. ويأتي ذكر فضله.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} أي فرض {عَلَيْكُمْ}
وأوجب {الصِّيَامُ} أي الإمساك عن الطعام والشراب والجماع. من طلوع الفجر
إلى غروب الشمس. بنية خالصة. لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها عن
الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة. والضمير عائد إلى المسلم دون الكافر
إجماعا. فلا يجب عليه الصوم ولو مرتدا. لأنه عبادة بدنية محضة
(2/214)
تفتقر إلى نية فكان من شرطها الإسلام ولا
يصح صوم كافر بأي كفر كان إجماعا. وتمنع الردة صحته إجماعا.
{كَمَا كُتِبَ} أي فرض {عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني الأنبياء
والأمم. والمعنى كما أوجبه عليكم فقد أوجبه على من كان قبلكم فلكم فيهم
أسوة. فاجتهدوا في أدائه أكمل من أولئك {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني
بالصوم. لأن الصوم وصلة إلى التقوى. لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات.
وذكر أياما معدودات أي مقدرات. (إلى قوله) {شَهْرُ رَمَضَانَ} أي كتب عليكم
الصيام.
ثم بينه تعالى فقال {شَهْرُ رَمَضَانَ} وسمي الشهر شهرا لشهرته. ورمضان اسم
للشهر. سمي به من الرمضاء. قيل كان في شدة الحر حينما كانوا يصومون. ثم مدح
تعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور. بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن
العظيم. وكان ذلك في ليلة القدر. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي أنزله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
وأنزل من الله مفرقا بحسب الوقائع. وفي الحديث "أنه الشهر الذي أنزل الله
فيه الكتب الإلهية على الأنبياء" وسمي قرآنا لجمعه السور والآي والحروف
والقصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والحلال والحرام.
{هُدًى لِلنَّاسِ} من الضلالات {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى}
(2/215)
دلالات واضحات (والفرقان) بين الحق والباطل
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} هذا إيجاب من الله ختم
على من شهد منكم الشهر كله فليصم الشهر كله ومن لم يشهد منكم الشهر كله
فليصم ما شهد منه. يوضحه إفطاره - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الفتح
والمخاطب بالوجوب المكلف. فلا يجب على صغير ولا مجنون اتفاقا لخبر "رفع
القلم عن ثلاثة مجنون حتى يفيق وصغير حتى يبلغ". ويصح من المميز كصلاته.
ولا يصح من مجنون وإن أفاق من نواه جزءامن النهار صح اتفاقا ومن نام ولو
جميعه صح.
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} أي ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام أو
يؤذيه فأفطر. فعدة من أيام أخر. {أو} كان منكم {عَلَى سَفَرٍ} أي في حال
السفر فأفطر {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فله أن يفطر، فإذا أفطر
فعليه عدة من أيام أخر أي ما أفطره في السفر من الأيام صامه من أيام أخر
غير أيام مرضه وسفره {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} أي إنما رخص لكم
فيالفطر في حال المرض وفي السفر مع تحتمه عليكم في حق المقيم الصحيح تيسيرا
عليكم ورحمة بكم.
{وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فالدين كله يسر {وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ} أي عدد الأيام التي أفطرتم فيها بعذر السفر والمرض. وكذا الحيض
والنفاس لتقضوها بعددها {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
(2/216)
هَدَاكُمْ} ولتذكروا الله عند انقضاء
عبادتكم {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على نعمه فيسن الفطر لمريض يضره
الصوم إجماعا في الجملة. ويكره له الصوم لإضراره بنفسه وترك تخفيف الله له
ورخصة الله المطلوب إتيانها. وأجمعوا على أنه إذا كان الصوم يزيد في مرضه
أنه يفطر ويقضي.
وإذا احتمل وصام أجزأ. ولم يذكروا خلافا في الإجزاء. ولا يفطر إن لم يتضرر
اتفاقا. وقال أحمد الفطر للمسافر افضل. وإن لم يجهده الصوم. لأنه آخر
الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت في السنن أن من الصحابة
من يفطر إذا فارق عامر قريته. ويذكر أن ذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -. والفطر في السفر جائز بالنصوص وإجماع المسلمين. وقال الشيخ سواء
كان كان سفر حج أو جهاد أو تجارة ونحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله
ورسوله. وتنازعوا في سفر المعصية.
وقال يجوز في كل سفر. وإن كن قصيرا. فإن شق بأن جهده كره له فعله. وكان
الفطر أفضل. وصومه صحيح. وحكاه الوزير وغيره اتفاقا. واتفقوا على أنه يجوز
له أن يصوم ويفطر. وكذا إن سافر في أثناء يوم لما تقدم وكما بعد سفره
إجماعا. قال البغوي لا فرق عند عامة أهل العلم بين من ينشئ السفر في شهر
رمضان وبين من يدخل عليه وهو مسافر. وجاءت الآثار في الفطر لمن أنشأ السفر
في أثناء يوم.
(وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس) شهادة أن لا إله
(2/217)
إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة
وإتياء الزكاة (وفيه وصوم رمضان) فهو ركن من أركان الإسلام التي لا ينبني
الإسلام إلا عليها (و) كذا (حج البيت) الحرام من استطاع غليه سبيلا وجاء
إليه - صلى الله عليه وسلم - أعرابي فقال ماذا فرض الله علي من الصيام قال
"شهر رمضان" وغير ذلك من الأحاديث الدالة على فرضيته.
(وفي الصحيحين وغيرهما) من غير وجه. قال الطحاوي تواتر عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - (أنه قال صوموا لرؤيته) أي رؤية هلال شهر رمضان. فيجب
صومه برؤيته بإجماع المسلمين. والمراد إذا ثبتت رؤيته. كما سيأتي. فيلزم
الناس كلهم الصوم إذا اتفقت المطالع وإلا فلا. ويستحب للناس ترائي الهلال
ليلة الثلاثين من شعبان احتياطا لصومهم وحذرا من الاختلاف.
وعن عائشة "كان يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان
فإن غم عليه عد ثلاثين ثم صام" صححه الدارقطني.
ويستحب قول ما ورد: ومنه الله أكبر ثلاثا. لا إله إلا الله ثلاثا. اللهم
أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى ربي
وربك الله. هلال رشد وخير الحمد لله الذي جاء بشهر رمضان وذهب بشهر شعبان
(وأفطروا لرؤيته) إجماعا وليس المراد جميع الناس بل يثبت بعدلين بعدلين
إجماعا.
(2/218)
(فإن غم عليكم) من غممت الشيء إذا غطيته.
أي حال بينكم وبينه سحاب أو قتر هائج من الأبخرة. كنحو ما يحصل في الصيف من
الأغيرة والأدخنة. فإنه لا يمكن رؤيته في مثل ذلك. كما يمكن في مثل صفاء
الجو. وفي لفظ غبي عليكم وغمي. وهو بمعنى غم. وللترمذي وغيره "فإن حال
بينكم وبينه سحاب" (فاكلموا عدة شعبان ثلاثين).
وثبت من غير وجه "لا تصوموا حتى تروه" والمراد إذا لم يكمل شعبان ثلاثين
يوما "ولا تفطروا حتى تروه" أي أو تكملوا ثلاثين "فإن حال دونه غياية
فاكلموا ثلاثين يوما" وفي رواية "فاقدروا له" أي احسبا له قدره. وذلك
ثلاثون. من قدر الشيء وليس من اضيق في شيء. بل قال الحافظ الزركشي السنة
الصحيحة ترد تأويلهم ورواه الترمذي. وقال العمل عليه عند أهل العلم. كرهوا
أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان.
وإن كان يصوم صوما فوافق صيامه فلا بأس به عندهم. وله عن ابن عباس مرفوعا
"لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته" الخ وصح من غير وجه النهي عن تقدم
رمضان بصوم يوم أو يومين ويأتي "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا
القاسم - صلى الله عليه وسلم - "وصنف جامعة من أهل العلم في كراهة صوم يوم
الشك أو تحريمه. وذهب إليه المحققون من أصحاب أحمد
(2/219)
وغيره. وهو رواية عن أحمد. وفاقا للثلاثة.
واختاره الشيخ وغيره. وأجمعوا على أنه لا اعتبار بالحساب لهذا الخبر وغيره.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما قال (تراءى الناس) أي اجتمعوا للرؤية وتكلفوا
النظر ليروا (الهلال فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وحدي (أني
رأيته فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود) وصححه ابن حبان والحاكم وابن
حزم.
وللخمسة عن ابن عباس أن أعرابيا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال
إني رأيت الهلال فقال "أتشهد أن لا إله إلا الله" قال نعم قال "أتشهد أن
محمدا رسول الله" قال نعم. فقال "أذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا" صححه
ابن خزيمة.
قال الترمذي العمل عليه أكثر أهل العلم. قالوا تقبل شهادة رجل واحد في
الصيام. وبه يقول الشافعي وأحمد وأهل الكوفة. قال النووي وهو الأصح. ولأنه
خبر ديني لا تهمة فيه. وأحوط للعبادة. ويقبل خبره رجلا كان أو امرأة بدون
لفظ الشهادة. لأنه من باب الرواية. فيصام بقوله رأيت الهلال. ولو لم يقل
أشهد. وتعتبر عدالته. (وله) أي لأبي داود وأحمد وغيرهما ورجاله رجال الصحيح
عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال اختلف
الناس في آخر يوم من رمضان و (أن أعرابيين) قدما على النبي - صلى الله عليه
وسلم - و (شهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) بالله
(2/220)
(أنهما رأيا الهلال بالأمس عشية. وأمس علم
على اليوم الذي قبل يومك (فأمر - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يفطروا)
وأن يغدوا إلى مصلاكم" وتقدم نحوه عن أبي عمير صححه ابن المنذر وغيره.
وثبت أنه قال - صلى الله عليه وسلم - "إن شهد اثنان فصوموا وافطروا) فلا
يقبل في الفطر إلا اثنان عدلان. وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما فلم ير
الهلال لم يفطروا. كما لو شهد بهلال شوال بالإجماع. لأن الصوم إنما كان
احتياطا. والأصل بقاء رمضان.
وموافقة الأصل أولى. ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله. أو رأى هلال شوال
فمع الناس قال الشيخ لا يزلمه الصوم أي ولا الفطر. ولا الأحكام المتعلقة
بالهلال من طلاق وغيره. وقال يصوم مع الناس ويفطر مع الناس. وهذا أظهر
الأقوال. إلا أن يكون في مكان ليس فيه غيره.
(وعن أبي هريرة مرفوعا صومكم يوم تصومون) يعني أنتم معشر المسلمين (وفطركم
يوم تفطرون) ماض لا وزر ولا عتب ولا شيء عليكم (رواه الترمذي) وغيره وحسنه.
وسكت عنه أبو داود والمنذري. ورجال إسناده ثقات. وللترمذي وصححه عن عائشة
قال" الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس" قال الشيخ أي هذا اليوم
الذي تعلمون أنه وقت الصوم والفطر والأضحى فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه
حكم.
(2/221)
وقال أحمد وغيره يصوم ويفطر مع الإمام
وجماعة المسلمين في الصحوة والغيم. وقال يد الله على الجماعة. وقال الشيخ
فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة
وعظم الناس. ولأنه لو رأى هلال النحر وحده لم يقف دون سائر الحاج. وأصل هذه
المسألة أن الله علق أحكاما شرعية بمسمى الهلال والشهر. كالصوم والفطر
والنحر. وذكر الآيات. وتنازع الناس في الصوم. ثم قال: لكن النحر ما علمت أن
أحدا قال من رآه ييقف وحده دون سائر الحاج. وذكر تنازعهم في الصوم
وتناقضهم.
ثم قال: وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح صنعه مثل ذلك في ذي الحجة.
وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرا شهرته بين الناس واستهلال الناس به حتى لو
رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة. أو لكونهم
لم يشهدوا به كان حكمهم حكم سائر المسلمين. فلذلك لا يصوموا إلا مع
المسلمين ولا يفطرون إلا معهم. فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد
إلا مع المسلمين فكذلك لا يصومون ولا يفطرون إلا مع المسلمين وهذا معنى
قوله - صلى الله عليه وسلم - "صومكم يوم تصومون ونحركم وأضحاكم" الحديث.
وقال: الأصل أن الله علق الحكم بالهلال والشهر والهلال اسم لما يستهل به أي
يعلن به ويجهر به فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن
هلال. وكذا الشهر مأخوذ من
(2/222)
الشهرة فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن
الشهر قد دخل وعلى هذا تفترق أحكام الشهر هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم
أو لا يبين ذلك قوله " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
فإنما أمر بالصوم من شهد اشهر والمشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس
حتى يتصور شهوده والغيبة عنه وقوله "إذا رأيتموه فصوموا. وإذا رأيتموه
فافطروا" من الواضح الوضح. ونحو ذلك خطاب للجماعة. قال ولا يلزمه طلاقه
وعتقه المعلق بالهلال وغير ذلك من خصائص الرمضانية. وذكر ابن عبد البر أنه
قول أكثر العلماء.
وأما الفطر فلاحتمال خطئه وتهمته. فوجب الاحتياط. وحكى بعضهم الإجماع على
أنه لا يجوز إظهار الفطر وقال الشيخ باتفاق العلماء إلا أن يكون له عذر
يبيح الفطر. وقال عمر وعائشة وغيرهما لا يفطر. قال الموفق لا يعلم لهما
مخالف فكان إجماعا وهو المذهب وفاقا لأبي حنيفة ومالك. وقال الشيخ هو أصح
القولين.
(وعن حمزة بن عمرو) هو أبو صالح أو محمد الأسلمي الحجازي روى عنه ابنه محمد
وعائشة. مات سنة إحدى وستين وله ثمانون (أنه قال يا رسول الله أجد بي قوة
على الصوم في السفر فهل على جناح) أي إثم وميل إن صمت في السفر (فقال هي
رخصة من الله) أي تسهيل وتخفيف من الله لعباده
(2/223)
(فمن أخذ بها) أي برخصة الله (فحسن) ولا
إثم عليه.
(ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه رواه مسلم) وهو عند الجماعة بلفظ "إن شئت
فصم وإن شئت فافطر" وللبخاري "إن أفطرت فحسن. وإن صمت فلا بأس" وفي المسند
"إن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يكره أن تؤتى معصيته" وفي الصحيحين "ليس من
البر الصيام في السفر" وفيه أنه قد ظلل عليه وفي حديث حمزة "وهو اهـ. ون
علي من أن أؤخره" وعلل بعضهم بالكراهة للضرر والمشقة. وحكي إذا جهده كره
اتفاقا. لكن إن فعله أجزأ إجماعا.
وقال الشيخ جائز باتفاق الأئمة. سواء كان قادرا على الصوم أو عاجزا. وسواء
شق عليه الصوم أو لم يشق. ومن قال إن الفطر لا يجوز لا لمن عجز عن الصيام
فإنه يستتاب. وكذلك من أنكر على المفطر أو أن عليه إثما فإن هذه الأقوال
خلاف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة.
(وله عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة) عام الفتح
سنة ثمان في رمضان (فصام حتى بلغ كراع الغميم) بضم الكاف واد أمام عسفان من
أموال أعالي المدينة. ولهما عن ابن عباس خرج منالمدينة ومعه عشرة آلاف فسار
بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون. حتى إذا بلغ الكديد وهو ماء بين
عسفان وقديد من أموال أعالي المدينة. والجميع من عمل عسفان والقضية واحدة.
(2/224)
(وصام الناس معه فقيل) له إن الناس (قد شق
عليهم) الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت (فدعا بقدح من ماء) بعد العصر
(فشرب) والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم (وبلغه أن أناسا صاموا
فقال أولئك العصاة) ولفظ الصحيحين أفطر وأفطروا وإنما يؤخذ من أمر رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بالآخر فالآخر. وله طرق.
وفيه دليل على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل وهو
قول الجمهور. وحكاه في الفروع اتفاقا. وبما شاء وهو مذهب أبي حنيفة
والشافعي وأحمد. لأن من له الأكل فله الجماع. إذا فارق عامر قريته أو خيام
قومه لظاهر الآية والأخبار. ومنها ما روى عبيد بن جبير قال ركبت مع أبي
بصرة من الفسطاط في شهر رمضان ثم قرب غداءه.
فقلت الست ترى البيوت قال أترغب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رواه أبو داود وغيره. وعن أنس نحوه رواه الترمذي وصححه ابن العربي.
فصرح هذان الصحابيان أنه سنة. ولأن السفر مبيح للفطر كالمرض الطارئ. ورجح
الشيخ وغيره جوازه. وقال كما ثبت في السنن أن من الصحابة من يفطر إذا خرج
من يومه. ويذكر أن ذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر الحديث.
والأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صومه إتمام صوم ذلك اليوم. خروجا من
خلاف من لم يبح له الفطر. ولا يفطر قبل خروجه اتفاقا.
(2/225)
(وقال ابن عباس) يعني في قوله تعالى:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي يتجشمونه. وفي قراءة أخرى (يطوقونه)
{فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (رخص للشيخ الكبير) يعني الفاني الذي لا
يستطيع الصوم (أن يفطر) في رمضان (ويطعم عن كل يوم مسكينا) وفي رواية نزلت
في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل
يوم مسكينا.
قال ابن القيم أفتى ابن عباس وغيره من الصحابة المريض المايوس منه. والشيخ
الكبير الذي لا يستطيع الصوم بأن يفطر ويطعما كل يوم مسكينا. إقامة للإطعام
مقام الصيام رحمة وتخفيفا اهـ. وثبت عنه من غير وجه بألفاظ متقاربة. وقال
ابن كثير وغيره حاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب
الصيام عليه لقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وأما الشيخ الفاني الهرم والمرأة الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصيام فلهما
أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكينا. ولا قضاء عليهما. وقد أطعم أنس رضي الله
عنه لما كبر. قال ابن كثير وه والصحيح وعليه أكثر العلماء. ومثله المريض
الذي لا يرجى زوال مرضه قاله ابن عباس وغيره. قال ابن القيم ولا يصار إلى
الفدية إلا عند الياس من القضاء.
(وقال) يعني ابن عباس رضي الله عنهما (في الحامل والمرضع) إذا خافتا على
أنفسهما أو ولديهما (يفطران
(2/226)
ويطعمان) لدخولهما في الآية الكريمة. وعن
ابن عمر نحوه. ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة. قال ابن القيم أفتى ابن
عباس وغيره في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أن تفطرا وتطعما كل
يوم مسكينا. إقامة للإطعام مقام الصيام اهـ.
ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة فوجب به الكفارة كالشيخ الهرم
وثبت أيضا عن ابن عباس أنه قال في الآية: أثبتت للحبلى والمرضع. وظاهره نسخ
الحكم في غيرهما.
والكبير الهرم. وهو مذهب الجمهور. وقالوا وحكم الإطعام باق في حق من لم يطق
الصيام وذهب ابن عباس وابن عمر إلى عدم القضاء. وقال أحمد أذهب إلى حديث
أبي هريرة "إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم" قال الترمذي والعمل عليه
عند أهل العلم تفطران وتطعمان وتقضيان كالمريض إذا خاف على نفسه.
وقال الشيخ تفطر وتقضي عن كل يوم يوما وتطعم عن كل يوم مسكينا رطلا من خبز
بأدمه. وقال غير واحد على الفور. ويجوز إلى واحد جملة بلا نزاع. وحكى
الوزير وغيره الاتفاق بدون إطعام. بخلاف خوفهما على ولديهما فقط أو الكبير
لقدرتهما عليه. وكره صومهما مع خوف الضرر اتفاقا. وإن صامتا أجزأ كالمريض
والمسافر. وحكم ظئر مرضعه لغير ولدها كأم.
ويجب الفطر على من احتاجه لإنقاذ معصوم من هلكة
(2/227)
كغريق وتقدم سنية الفطر لمريض يضره الصوم
وفي الإنصاف إن خاف المريض زيادة مرضه أو طوله. وصحيح مرضًا في يومه أو خاف
مرضا لأجل العطش استحب له الفطر. وكره صومه وإتمامه إجماعا. وقال ابن القيم
أسباب الفطر أربعة: السفر. والمرض. والحيض. والخوف على هلاك من يخشى عليه.
كالمرضع. والحامل ومثله مسالة الغريق.
وأجاز شيخ الإسلام الفطر للتقوي على الجهاد. وفعله وأفتى به لما نزل العدو
دمشق في رمضان وأنكر عليه بعض المتفقهة. وقال ليس هذا بسفر فقال الشيخ هذا
فطر للتقوي على جهاد العدو وهو أولى من الفطر للسفر. والمسلمون إذا قاتلوا
عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فهموربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح
العدو بيضة المسلمين.
وهل يشك فقيه أن الفطر هنا أولىمن فطر المسافر. وقد أمرهم النبي - صلى الله
عليه وسلم - في غزوة الفتح بالفطر للتقوي على عدوهم. قال ابن القيم إذا جاز
فطر الحامل والمرضع لخوفهما. وفطر من يخلص الغريق. ففطر المقاتلين أولى
بالجواز. وهذا من باب قياس الأولى. ومن باب دلالة النص وإيمائه.
(وعن حفصة) يعني أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما زوجة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - (مرفوعا) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
(من لم يبيت) أي ينوي (الصيام من الليل) يقال بيت
(2/228)
فلان رأيه إذا فكر فيه وخمره وكل ما فكر
فيه ودبر بليل فقد بيت (فلا صيام له رواه الخمسة وصححه الترمذي) وفي لفظ
"من لم يجمع الصيام" أي يعزم عليه ويحكم النية "من الليل فلا صيام له"
وللدراقطني عن عائشة مرفوعا "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام
له".
فدلت الأحاديث على وجوب تعيين النية. وهو قول الجمهور. وفي الصحيحين "إنما
الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وأصل النية في الصوم كغيره وإن كان
تطوعا بالإجماع. ولأن النية عند ابتداء الصيام كالصلاة والحج.
وحكى الشيخ ثلاثة أقوال ثالثها أن الفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية من
الليل. لما دل عليه حديث حفصة وابن عمر. لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم.
والنية لا تنعطف على الماضي. وقال هذا أوسط الأقوال. ولا فرق بين أول الليل
ووسطه وآخره.
ويكفي في النية الأكل والشرب بنية الصوم يدل نيته قال الشيخ هو حين يتعشى
يتعشى عشاء من يريد الصوم. ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي
ورمضان. وقال كل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقدنوى صومه. وهو
فعل عامة المسلمين. واتفقوا على أن ما ثبت في الذمة من الصوم كقضاء رمضان
والنذر والكفارات لا يجزئ صومه إلا بالنية من
(2/229)
اليل. وعند أحمد تكفي النية أول الشهر ما
لم يقطعها وهو مذهب مالك وأبي حنيفة.
(ولمسلم عن عائشة قالت دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال
هل عندكم شيء فقلنا لا قال فإني إذا صائم) وإذا للاستقبال. قالت "ثم أتانا
يوما آخر فقلنا اهـ. دي لنا حيس فقال أرينيه فلقدأصبحت صائما فأكل" وفي
رواية كان يدخل على بعض أزواجه فيقول "هل من غداء" فإن قالوا لا قال "فإني
صائم" وله ألفاظ: منها فإن قلنا ننعم "تغدى" فدل على انه كان مفطرا. وإن
قلنا لا قال "إني صائم" وثبت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
فدل على جواز تأخير نية الصوم عن أول النهار إذا كان تطوعا. وإفطاره قبل
الليل. واتفقوا علىن صوم النفل كله يجوز بنية من النهار قبل الزوال وبعده.
إلا ما روي عن مالك. قال الشيخ يجزئ كما دل عليه الخبر. وكالمكتوبة يجب
فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعا
من الله على عباده طرق التطوع. فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع
المفروضات. وهذا أوسط الأقوال.
وشرطه أن لا يوجد مناف غير نية الإفطار. اقتصارا على مقتضى الدليل. ونظرا
إلى أن الإمساك هو المقصود الأعظم فلا يعفىعنه أصلا. فإن فعل قبل النية ما
يفطره لم يجز
(2/230)
الصيام. قال الموفق وغيره بغير خلاف. فلا
يصح صوم من أكل ثم نوى بقية يومه اتفاقا. لعدم حصول حكمة الصوم. لأن من
عادة المفطر الأكل بعض النهار. وإمساك بعضه. وقد أجمع المسلمون على أنه
يدخل في الصوم بالفجر الثاني. ينقضي بتمام الغروب.
والصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية. لأن ما قبله لم يوجد فيه قصد
القربة. فلا يقع عبادة. قاله الشيخ وغيره من نوى الإفطار أو أن وجد طعاما
أكل بطل صومه. وإن قطع نية فرض ثم نواه نفلا صح. وإن نوى إن كان الصيام غدا
من رمضان فهو فرضه لم يجزئه التعيين لعدم جزمه. وإن نواه ليلة الثلاثين من
رمضان أجزأه بناء على الاصل.
باب ما يفسد الصوم
أي باب بيان الذي يبطل الصوم وهوكل ما ينافيه من أكل وشرب وجماع ونحوها.
وبيان ما يتعلق بذلك.
قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} يعني في ليالي الصوم مع ما تقدم من
إباحة الجماع في أي الليل شاء. حيث قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} كناية عن الجماع إلى أن قال
{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهن حلالا. إلى أن قال {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
(2/231)
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي حتى يتبين
لكم ضياء الصباح من سواد الليل. كما جاء مفسرا في الصحيحين وغيرهما. سميا
خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتدا كالخيط.
وفي الترمذي وغيره "كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد. فكلوا واشربوا
حتى يعترض لكم الأحمر" قال والعمل عليه عند أهل العلم. وثبت في الصحيح
وغيره أن الذي يحرم الطعام يذهب مستطيلا في الافق والآخر الذي لا يحرم فيه
الطعام كذنب السرحان. يذهب مرتفعا في السماء كالعمود. وبينهما وقت يظهر هذا
وبعد ظهوره يظهر الثاني ظهورا بينا لا ظلمة بعده.
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فيحرم على الصائم الطعام
والشراب. وكذا الجماع بطلوع الفجر الصادق إجماعا. قال الشيخ وغيره فعقل من
الآية أن المراد الصيام من الأكل والشرب. فإنه أباحه إلى غاية ثم أمر
بالإمساك عنهما إلى الليل.
وفي قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ} وكان معقولا عندهم أن الصيام هو الإمساك عنهما. فمن أكل أو شرب
عامدا ذاكرا لصومه فسد صومه بإجماع المسلمين ولا فرق بين الكثير والقليل.
ويمتد الحضر إلى غروب الشمس.
وإذا غربت حصل الفطر. وفي الصحيحين "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار
من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر
(2/232)
الصائم" ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية
في الألفق وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق. ويعرف في العمران
بزوال الشعاع. وإقبال الظلام. ويأتي الحث على تأخير السحور وتعجيل الفطر.
وذكر جمع: وكذا لو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه أو أدخل إلى جوفه شيئا
من أي موضع كان أفطر. سواء كان بمائع ويغذي. أو غير مغذ كحصاة. وسواء كان
من مداواة نحو جائفة. أو مأمومة. لأنه في الجميع أوصل إلى جوفه ما هو ممنوع
من إيصاله إليه. اشبه ما لو أوصل غليه مأكولا أو مشروبا.
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه. وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله
ومداواة المأمومة والجائفة. فمما تنازع الناس فيه. فمنهم من لم يفطر بشيء
من ذلك ومنهم من فطر بشيء دون شيء. والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك. فإن
الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام. فلو كانت هذه
الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصيام بها. لكان هذا مما
يجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانه. ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة
وبلغوه الأمة. كما بلغوا سائر شرعه.
فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لا
حديثا صحيحا ولا ضعيفا. ولا مسندا ولا مرسلا. علم أنه - صلى الله عليه وسلم
- لم يذكر شيئا من ذلك. والحديث المروي في الكحل ضعيف وقد
(2/233)
عورض بحديث ضعيف. وقال الترمذي لا يصح فيه
شيء. وهؤلاء الذين قالوا إن هذه الأمور تفطر لم يكن معهم حجة عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - وإنما ذكروا ذلك بما رأوا من القياس. وأقوى ما احتجوا
به "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما".
ولايجوز إفساد الصوم بهذه الاقيسة لوجوه: منها أن الأحكام الشرعية بينتها
النصوص. وليس فيها ما يدل على إفطاره بهذه. ومنها أن الأحكام لا بد أن
يبينها الشارع ولو كانت هذه مما يفطر لبينه كما بين الإفطار بغيرها. فلما
لم يبين ذلك علمنا أنه من جنس الطيب والبخور والدهن. وهي مما يتقوى به
البدن. وقد كان المسلمون في عهده يجرح أحدهم مأمومة وجائفة فلو كان يفطر
لبينه لهم.
ومنها أن إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون صحيحا وليس في الأدلة ما
يقتضي أن المفطر الذي جعله الله مفطرا هو ما كان واصلا إلى دماغ أو بدن.
وما كان واصلا من منفذ أو وصلا إلى الجوف ونحو ذلك من المعاني. التي يجعلها
أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عن الله ورسوله. وإذا لم يكن للحكم بهذا
دليل كان قولا بلا علم وذكر أن من نشق المال بمنخريه ينزل غلى حلقه وجوفه.
فيزول العطش ويطبخ الطعام كما يحصل بشراب الماء. وليس كذلك الكحل والحقنة.
ومداواة الجائفة والمأمومة. فإن الكحل لا يغذي. وكذا الحقنة.
(2/234)
بل تستفرغ ما في البدن. ولا تصل إلى المعدة
(1) والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما
يصل إليه من غذائه بل ليس فيه تغذية. والصائم نهي عن الأكل والشرب. لأنه
سبب التقوي.
فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد
من الغذاء. لا عن حقنة ولا كحل ولا ما يقطر في الذكر ولا ما يداوي به
المأمومة والجائفة. فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت
بالنص والإجماع. فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما ذكروه من الأوصاف معارض
بهذه الأوصاف والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من نسي وهو صائم
فأكل أو شرب فليتم صومه) فيه دليل على أن ثم صوم يتم. وللدارقطني "ولا
قضاء" وللحاكم وقال على شرط مسلم "من أكل في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا
كفارة" وأفتى به جماعة من الصحابة. ولا مخالف لهم. وهو موافق لقوله تعالى:
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فالنسيان ليس من كسب
القلوب.
__________
(1) كلامه رحمه الله على المعروف في عصره ويوجد الآن حقن آخر وهو إيصال بعض
المواد الغذائية للأمعاء وغيرها يغذى بها المرضى وغيرهم فالاعتبار بما كان
في عصره وما سواه يعطى حكمه.
(2/235)
(فإنما أطعمه الله وسقاه) أي ما أطعمه أحد
ولا سقاه إلى الله. وأن هذا النسيان من الله ولطفه تيسيرا عليه ودفعا للحرج
(متفق عليه) وللترمذي "إنما هو رزق ساقه الله إليه. ولا قضاء عليه" وإضافة
الفعل إلى الله تعالى أنه سبحانه هو الذي أطعمه إياه تدل على ان لا اثر
لذلك الأكل والشرب بالنسبة إلى الصائم. يؤيده "ولا قضاء عليه".
ولأن النسيان والخطأ ضرورة والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى
فاعلها. ولا هو مؤاخذ بها وإلى ذلك ذهب جماهير العلماء أحمد والشافعي وأبو
حنيفة وأهل الحديث عملا بالحديث. واعتذر بعض المالكية عن الحديث بأنه خبر
واحد مخالف للقاعدة. والحديث مع ما يعضده قاعدة مستقلة. وكذا إن طار إلى
حلقه ذباب أو غبار أو دخان لم يفطر اتفاقا. كالنائم يدخل حلقه شيء.
وكذا لو فكر فأنزل عند الجمهور. وقال الوزير أجمعوا على أن من لمس فأمذى أن
صومه صحيح. إلا ما روي عن أحمد. وإن احتلم فأنزل لم يفسد. قال الشيخ باتفاق
الناس أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر أو بالغ فدخل الماء حلقه لم يفطر
إجماعا. ولا بكل ما دخل حلقه من غير قصد أشبه الناسي.
(وللخمسة عنه) أي عن أبي هريرة (مرفوعا) إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال (من ذرعه القيء) أي غلبه وسبقه في الخروج
(2/236)
(فلا قضاء عليه) إجماعا لأنه لا تقصير منه.
وكذا إن أصبح في فيه طعام فلفظه. أو شق عليه فبلع ريقه من غير قصد لم يفسد
حكاه ابن المنذر إجماعا. أو بلغ ريقه عادة اتفاقا (ومن استقاء فعليه
القضاء) وفي لفظ "من استقاء عمدا فليقض" أي تسبب لخروجه عمدا وجب عليه
القضاء إجماعا. وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم.
وقال الشيخ نهي عن إخراج ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب الذي يتغذى به
لمايوجب إخراجه من نقصان بدنه وضعفه. فإذا مكن منه ضره. وكان متعديا في
عبادته. لا عادلا فيها. وعن ابن عمر نحوه موقوفا. ولأحمد عن أبي الدرداء
أنه - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر. قال الترمذي هو أصح شيء في هذا
الباب.
وقال البغوي والخطابي وغيرهما أجمعوا على أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه.
ومن استقاء فعليه القضاء. لم يختلفوا فيه. وجودوا هذا الحديث وله طرق
وشواهد.
(ولهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى على الرجل) بالبقيع (وهو يحتجم
في رمضان) لثمان عشرة خلت من رمضان (فقال أفطر الحاجم) لأنه لا بد أن يصل
إلى جوفه من الدم والحجامة شرط ظاهر الجلد المتصل قصدا لإخراج الدم من
الجسد دون العروق أفطر (و) أفطر (المحجوم) للضعف الذي يلحق من ذلك إلى أن
يعجز عن الصوم (صححه الترمذي) من حديث رافع (و) كذا صححه (غيره)
(2/237)
ابن المديني والدارمي وغيرهماز وصححه ابن
خزيمة وغيره من حديث شداد.
وقال أحمد والبخاري إنه أصح حديث في الباب. وصححه أحمد والحاكم من حديث
ثوبان. وقال الدارمي إنه وحديث رافع اصح شيء في هذا الباب. ولابن ماجه من
حديث أبي هريرة مثله رواه أحمد. وله من حديث عائشة وأسامة ومصعب وبلال
وصفية وأبي موسى وعمرو بن شعيب وغيرهم اثني عشر صحابيا. وقال الطحاوي وغيره
متواتر. وقال الشيخ الأحاديث الواردة فيه كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ.
وهذا نص في حصول الفطر لهما. فلا يجوز أن يعتقد بقاء صومهما. والنبي - صلى
الله عليه وسلم - مخبر عنهما بالفطر. لا سيما وقد أطلق هذا القول إطلاقا من
غير أن يقرنه بقرينة تدل على أن ظاهره غير مراد. وقد كره غير واحد من
الصحابة الحجامة للصائم. وكان أهل البصرة يغلقون حوانيت الحجامين. والقول
بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن
المنذر.
وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع النبي - صلى الله
عليه وسلم -. والذين لم يروه احتجوا بما في صحيح البخاري أنه - صلى الله
عليه وسلم - احتجم وهو صائم محرم. وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة. وهي
قوله وهو صائم. وقالوا الثابت أنه احتجم وهو محرم. وقال أحمد وهو صائم ليس
بصحيح. وأنكره يحيى بن
(2/238)
سعيد. وقال أحمد هو خطأ من قبل قبيصة. وقال
أيضا عن حديث ابن عباس ليس فيه صائم. وقال أصحاب ابن عباس لا يذكرون صائم.
قال الشيخ وهذا الذي ذكره أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان. ولهذا أعرض مسلم
عنه ولم يثبت إلا حجامة المحرم. قال وأما الحاجم فإنه يجتذب الهواء الذي في
القارورة بامتصاصه. والهواء يجتذب ما فيها من الدم. فربما صعد مع الهواء
شيء من الدم ودخل في حلقه. وهو لا يشعر. والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة
علق الحكم بالمظنة. كالنائم تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء. فكذلك
الحاجم يدخل شيء من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري.
والدم من أعظم المفطرات. فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة
والخروج من العدل والصائم مأمور بحسم مادته والدم يزيد الدم فهو من جنس
المحظور. فيفطر الحاجم لهذا. وأما الشارط فليس بحاجم. وهذا المعنى منتف
فيه. وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة. بل يمتص غيره. أو يأخذ الدم بطريق
أخرى والنبي - صلى الله عليه وسلم - خرج كلامه على الحاجم المعتاد.
المعروف.
وقال وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس. وأنه من جنس
الفطر بدم الحيض والاستقاء
(2/239)
وبالاستمناء. وإذاكان كذلك فبأي وجه أراد
إخراج الدم بقصاد أوشرط أو رعاف أفطر. كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر.
فتلك طرق لإخراج القيء. هذه طرق لإخراج الدم.
والمعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد ونحوه. ويدل عليه كلام العلماء
قاطبة وصوبه أبو المظفر الوزير العالم العادل وغيره ولهذا كان إخراج الدم
بهذا وهذا سواء في باب الطهارة. فتبين بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه.
وقال إن احتاج إليه المريض اقتصر وعليه القضاء. وإلا أخره في أحد قولي
العلماء. ولا يفطر في شيء مما تقدم إلا بشرط أن يكون قاصدًا الفعل. ذاكرًا
لصومه. ويجب القضاء. وظاهر الحديث وإن لم يكونا عالمين. ولكن كما قال ابن
القيم: وأما النسيان المانع من الفطر فيستفاد من دليل آخر.
(وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبًا من جماع) لا
احتلام (ثم يصوم متفق عليه) ولهما عن أم سلمة نحوه. ولمسلم عن عائشة أن
رجلا قال يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فاصوم" فقال لست مثلنا قد
غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال "والله إني لا أرجو أن أكون
أخشاكم الله وأعلمكم بما أتقي" وفي حديث أم سلمة كان يصبح جنبا من جماع لا
حلم. ثم لا يفطر ولا يقضي.
(2/240)
وفي الكتاب العزيز جعل الفجر غاية لإباحة
الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام. وهو دليل على أن من أصبح جنبًا
فيغتسل وليتم صومه. ولا حرج عليه. وقال ابن كثير وغيره هذا مذهب الأئمة
الأربعة. وحكاه الوزير والنووي وغيرهما إجماعًا. ومن ضرورة إباحة حل الرفث
في جميع الليل أن يصبح صائمًا جنبًا. والغسل شيء وجب بالإنزال وليس في فعله
شيء يحرم على الصائم.
فإن الصائم قد يحتلم في النهار فيجب عليه الغسل. ولا يفسد صومه بإجماع
المسلمين. وأجمعوا على أنه إذا انقطع دم الحائض والنفساء قبل الفجر ثم طلع
الفجر قبل أن يغتسلا فصومهما صحيح.
(وللبخاري عن أسماء) بنت أبي بكر رضي الله عنهما (أنهم أفطروا على عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم ثم طلعت الشمس) أي بعد أن افطروا.
فكانوا كمن أفطر ناسيًا لجواز الفطر بغلبة الظن (ولم يذكر قضاء) قال
البخاري قال معمر سمعت هشامًا يقول لا أدري اقضوا أم لا. وعن مجاهد وعطاء
وعروة عدم القضاء. وقول هشام "لا بد من قضاء" [إنما هو] برأيه.
قال الشيخ وثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ثم طلعت الشمس. ولم يذكر في الحديث أنهم أمروا بالقضاء. ولو أمرهم
لشاع ذلك كما نقل فطرهم. فلما لم ينقل
(2/241)
دل على أنه لم يأمرهم وثبت عن عمر أنه أفطر
ثم تبين النهار فقال لا نقضي فإنا لم نتاجنف لإثم. وهذا القول أقوى أثرا
ونظرا وأشبه بدلائل الكتاب والسنة والقياس وكذا قال ابن القيم. وأنهم
اتفقوا على أن الإثم موضوع عنه فصار فعله غير منسوب إليه كالناسي. لا سيما
وهو مأمور بالمبادرة إلى الفطر.
قال الشيخ فإذا أكل عند غروبها بناء على غلبة الظن فظهرت ثم أمسك فكالناسي.
وكما لو أكل ظانا غروبها ولم يتبين له الخطأ واختار أنه لا قضاء على من أكل
أو جامع معتقدا أنه ليل فبان نهارا. وقال قال به طائفة من السلف والخلف.
وهو الثابت عن عمر وغيره. فأما إذا أكل شاكا في طلوع الفجر فالأصل بقاء
الليل. ولأنه لا يمنع نية الصوم إلا اليقين.
فصل في الكفارة
أي في بيان ما يتعلق بالجماع في نهار رمضان من الكفارة. وهي عبارة عن
الفعلة والخصلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها وتمحوها. وهي
فعالة للمبالغة: فدية تلزم المجامع في نهار رمضان من غير عذر وعقوبة وزجر
للواطئ وتكفير لجرمه. واستدراك لفرطه. وجبر لوهن الصوم. والجماع في نهار
رمضان مفسد للصيام بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} أي أبيح لكم ليلة الصيام
{الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يعني مجامعة النساء تيسيرًا عليكم
(2/242)
وكان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له
الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء أو يرقد قبلها، فإذا صلى أو رقد
قبلها حرم عليه إلى الليلة القابلة {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِبَاسٌ لَهُنَّ} يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي تخونون {أَنْفُسَكُمْ} بالمجامعة
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي تجاوز عنكم {وَعَفَا عَنْكُمْ} محا ذنوبكم
{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهن حلالا {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ} من الولد أو الرخصة {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر ثم
أتموا الصيام إلى الليلِ}.
فأباح الأكل والشرب والجماع في أي الليل شاء. إلى أن يتبين ضياء الصباح ثم
حرمه إلى الليل. فدلت الآية على أن الصيام المأمور بإتمامه ترك الوطء
والأكل. فإذا وجد فيه الجماع لم يتم فيكون باطلا واتفق العلماء على أن من
جامع في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة في الجملة ولما ذكر الشيخ انقسام
المفطرات بالنص والإجماع. قال وأما الجامع فاعتبار أنه سبب إنزال المني
يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام.
فإنه من نوع الاستفراغ. ومن جهة أنه إحدى الشهوتين فجرى مجرى الأكل والشرب.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "يدع طعامه وشرابه من أجلي" فترك
الإنسان ما يشتهيه لله هوعبادة مقصودة يثاب عليها. والجماع
(2/243)
من أعظم نعيم البدن وسرور النفس وانبساطها.
وهو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل. فإذا كان الشيطان يجري من ابن
آدم مجرى الدم والغذاء يبسط الدم. فتنبسط نفسه إلى الشهوات. فهذا المعنى في
الجماع أبلغ. فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات ويضعف إرادتها عن العبادة
أعظم.
بل الجماع هو غاية الشهوات. وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب ولهذا وجب
على المجامع كفارة الظهار. فوجب عليه العتق. أو ما يقوم مقامه بالسنة
والإجماع لأن هذا أغلظ وداعيه أقوى. والمفسدة به أشد فهذا أعظم الحكمتين في
تحريم الجماع. وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ فذلك حكمة أخرى. فصار فيها
كالاستقاء والحيض. وهو في ذلك أبلغ منهما. فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد
الأكل والحيض.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال جاء رجل) هو سلمة بن صخر الأنصاري
الخزرجي البياضي (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال هلكت) وللدارقطني
"وأهلكت" فيدل على أنه كان عامدًا. لأن الهلاك هنا عبارة عن العصيان المؤدي
إلى ذلك (قال وما أهلكك؟) استفهام منه - صلى الله عليه وسلم - عن الذي
أهلكه (قال وقعت على امرأتي في رمضان) أي جامعها في نهار رمضان.
(قال) له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هل تجد ما تعتق رقبة) بالنصب
بدل من ما. وظاهره الإطلاق. فيحمل على المقيد في
(2/244)
كفارة القتل بالإيمان. وهو قول الجمهور ولا
بد أن تكون سليمة من العيوب الضارة بالعمل (قال لا) أي لا أجد رقبة. ولابن
ماجه قال لا أجدها (قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين) وحكى الوزير
وغيره الإجماع على وجوب التتابع فيها (قال لا) اي قال لا استطيع صوم شهرين
متتابعين.
(قال فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ قال لا) أي لا أجد ما أطعم به ستين
مسكينا. قال النووي أجمع عليه العلماء في الأعصار المتأخرة وهو اشتراط
إطعام ستين مسكينًا والجمهور على أن لكل مسكين مدًا من طعام ربع صاع مما
يجزئ في فطرة كما تقدم عن شيخ الإسلام. وظاهر الحديث الترتيب لأنه نقله من
أمر بعد عدمه إلى آخر ولم يأمره إلا عند العجز. وليس هذا شأن التخيير وهو
مذهب جمهور العلماء.
ولابن ماجه قال "أعتق رقبة" قال لا أجدها. قال "صم شهرين متتابعين" قال لا
أطيق. قال "أطعم ستين مسكينا" وفيه دلالة قوية على الترتيب "ثم جلس" غير
قادر على شيء مما أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم - "فأتى النبي - صلى
الله عليه وسلم - بعرق) بفتح الراء (فيه تمر) اي في العرق وهو المكتل أو
الزنبيل يسع خمسة عشر صاعًا. وروي فيه خمسة عشر صاعًا (فقال تصدق به).
فدل على أن الكفارة تجب على الرجل وهو اتفاق وعند الجمهور وعلى المرأة.
وسكوته - صلى الله عليه وسلم - لكونها لم تسأل. فلا حاجة
(2/245)
ولاحتمال أن تكون مكرهة. لقوله "هلكت
وأهلكت" وإن كانت مطاوعة عالمة فك الرجل عند الجمهور لأن تمكينها كفعله في
حد الزنا. ففي الكفارة أولى. وتسقط بتكفير غيره عنه "فقال أعلى أفقر منا"
فهم من الأمر بالتصدق به أن يكون المتصدق عليه فقيرا "فما بين لابتيها" أي
ما بين حرتي المدينة (أهل بيت أحوج إليه منا).
(فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتىبدت نواجذه) جمع ناجذ والمشهور أنها
أقصى الاضراس استغرب وضحك - صلى الله عليه وسلم - مما شاهده من حال الرجل
حيث جاء خائفا على نفسه راغبًا في فدائها مهما أمكنه. فلما وجد الرخصة طمع
في أن يأكل ما أعطيه في الكفارة أو من حسن بيانه (وقال اذهب فأطعمه أهلك.
متفق عليه).
فدل على أنه إذا لم يجد شيئًا يطعمه المساكين سقطت الكفارة. لأنه - صلى
الله عليه وسلم - لم يأمره بكفارة أخرى ولم يذكر له بقاءها في ذمته قال
الوزير أجمعوا على أنه إذا عجز عن كفارة الوطء حين الوجوب سقطت إلا الشافعي
في أحد قوليه وأوجب بعض العلماء على الرجل الكفارة ولو ناسيًا أو مكرهًا أو
جاهلاً قالوا لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل المواقع عن حاله ولأن
الوطء يفسد الصوم فأفسده على كل حال كالحج.
وعن أحمد لا تجب اختاره شيخ الإسلام وغيره وقال هو قياس أصول أحمد وغيره
لأن الكفارة ماحية ومع النسيان
(2/246)
والإكراه والجهل لا إثم يمحى وقا قد ثبت
بالكتاب والسنة أن من فعل محظورا مخطئًا أو ناسيًا لم يؤاخذه الله وحينئذ
يكون بمنزلة من لم يفعله فلا يكون عليه إثم ومن لا إثم عليه لم يكن عاصيًا
ولا مرتكبًا لما نهي عنه ومثل هذا لا تبطل عبادته.
ونقل ابن القاسم كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا كفارة قال أكثر
الأصحاب وهذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة. وقال ابن عبد البر الصحيح في
الأكل والوطء إذا غلب عليهما لا يفطرانه. وكذا قال غير واحد من أهل العلم
الجماع كالأكل فيما مر فيه من الإكراه والنسيان والجهل قال النووي وهو قول
جمهور العلماء والصحيح من مذهبهم. لأنه صح الحديث أن أكل الناسي لا يفطر
والجماع في معناه.
والأحاديث في العامد لقوله "هلكت وأهلكت" وهذا لا يكون إلا في العامد. فإن
الناسي لا إثم عليه بالإجماع. وقال الشيخ لا يقضي متعمد بلا عذر صوما ولا
صلاة ولا يصح منه. وأنه ليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه. وضعف أمر
المجامع بالقضاء لعدول البخاري ومسلم عنه. والجمهور على خلافه وذكر الحافظ
أن له طرقًا تثبت أن له أصلاً. ولفظه عند أبي داود وصم يوما مكانه.
والاحتياط والخروج من الخلاف مستحب.
وإن كرر الجماع في يوم فكفارة واحدة. قال الوزير أجمعوا
(2/247)
أنه إذا وطئ وكفر ثم عاد فوطئ ثانيًا في
يومه ذلك أنه لا يجب عليه كفارة ثانية. وإن جامع في يومين متفرقين لزمه
كفارتان عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد وكما لو كفر عن اليوم الأول فإنه
يلزمه لليوم الثاني كفارة ثانية. ذكره ابن عبد البر إجماعًا.
ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لزمته الكفارة اتفاقًا لأنه - صلى
الله عليه وسلم - لم يسأل الأعرابي هل طرأ له بعد وطئه مرض أو غيره بل أمره
بالكفارة. ولو اختلف الحكم لسأله عنه. ولأنه أفسد صيامًا واجبًا من رمضان
بجماع فاسقرت كفارته. وإن جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة عليه.
وأجمعوا على أنه إذا أفطر في السفر يباح له الجماع. وينبغي أن يفطر بنية
الفطر. فيقع الجماع بعده.
ومن لزمه الإمساك ثم جامع فعليه الكفارة اتفاقًا. ولا تجب الكفارة بغير
الجماع في صيام رمضان إجماعًا. ولا كفارة بجماع دون الفرج ولا بمباشرة أو
قبلة ونحوها ولو مع الإنزال اتفاقًا. ولا بالجماع في قضاء رمضان أو نذر أو
كفارة. لأن الكفارة لهتك حرمة الشهر وغيره لا يساويه.
وقال طوائف من السلف من جامع معتقدا عدم طلوع الفجر ثم تبين أنه طلع فلا
قضاء عليه. وقال الشيخ هذا القول أصح الأقوال وأشبهها بأصول الشريعة ودلالة
الكتاب والسنة. فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ وقد أباح الله
الأكل
(2/248)
والوطء حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر. واستحب تأخير السحور. ومن فعل ما ندب إليه وأبيح له لم
يفرط. فهذا أولى بالعذر من الناسي اهـ.
ومن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع في الحال لم يكفر اتفاقًا. وقال ابن أبي
موسى قولا واحدا. واختاره أبو حفص وصاحب الفائق والشيخ وغيرهم. وقال هذا
قول طوائف من السلف والخلف وقال غير واحد النزع ترك للجماع وقال ابن القيم
من طلع عليه الفجر وهو مجامع فالواجب عليه النزع عينًا.
ويحرم عليه استدامة الجماع واللبث ولا شيء عليه. اختاره شيخنا. وهو الصواب.
والحكم في حقه وجوب النزع. والمفسدة في حركة النزع مفسدة مغمورة في مصلحة
إقلاعه. ونزعه. وإن استدام فعليه القضاء والكفارة. وهو مذهب مالك والشافعي
وأحمد وغيرهم. لأنه جماع في نهار رمضان باختيار فلا فرق بين ابتدائه
ودوامه.
باب ما يكره ويستحب في الصوم
أي باب بيان ما يكره في الصوم من شتم وقبلة ونحو ذلك. وبيان ما يستحب في
الصوم من تعجيل فطور وتأخير سحور قال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ} أي الكذب والبهتان
والباطل كغيبة ونميمة وشتم وفحش ونحوه. ويجب اجتنابه كل وقت وفي كل مكان.
وفي رمضان والمكان الفاضل
(2/249)
آكد. لأن الحسنات والسيئات تتضاعف بالزمان
والمكان الفاضل.
والنهي عن الزور كثير في الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} وقال
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} وقال {وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ} وقال {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
فعلى المرء أن يسعى في حفظ لسانه عن جميع الكلام إلا ما ظهرت فيه مصلحة
"ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
قال أحمد ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري. ويصون صومه.
وكانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا. ولا
يعمل عملا يجرح به صومه. ويشرع له كثرة القراءة والذكر والصدقة لمضاعفة
الحسنات في رمضان.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يدع) أي
يترك ويجتنب (قول الزور) وللطبراني من حديث أنس "من لم يدع الخنى والكذب"
(والعمل به) أي بالزور (والجهل) أي السفه (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه
وشرابه) أي ليس المقصود من الصوم نفس الجوع والعطش. بل ما يتبعه من كسر
(2/250)
ثائرة الغضب وتطويع النفس الأمارة
للطمأنينة.
فإذا لم يحصل لم يبال الله بصومه "رب صائم حظه من صيامه الجوع والظمأ"
(رواه البخاري) ورواه أحمد وأهل السنن وغيرهم. وفيه الزجر والتحذير من قول
الزور ومن العمل به. وأن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور. قال
الشيخ وقد يكثر فيزيد على الصوم. وقد يقل وقد يتساويان. وهذا مما لا نزاع
فيه. وفي المسند في المرأتين اللتين صامتا عما أحل الله لهما من الطعام
وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان
لحوم الناس أمرهما أن يتقيئا فقاءتا ملء قدح قيحًا وصديدًا ولحمًا عبيطًا.
وذكر الشيخ وجها يفطر بغيبة ونميمة ونحوها. ونقل عن بعض السلف. لكن قال
أحمد لو كانت الغيبة تفطر. ما كان لنا صوم. وذكره الموفق إجماعًا. وقول
الأئمة لا تفطر أي لا يعاقب عقاب المعلن بالفطر. ومن قال يفطر بمعنى أنه لم
يحصل له مقصود الصوم. أو قد تذهب بأجر الصوم. فقوله موافق لقول الأئمة.
ولا نزاع في تحريمها وفي الصحيحين "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام" ولما عرج به مر على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم
فقال: "يا جبرائيل من
(2/251)
هؤلاء قال: الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون
في أعراضهم".
(ولهما) أي وللبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال بعد قوله "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا
يصخب ولا يجهل" قال (وإن شاتمه أحد) أي شتمه متعرضًا لمشاتمته والشتم السب
وهو رمي أعراض الناس بالمعائب القبيحة وذكرهم بقبيح القول حضرًا أو غيبًا
(أو قاتله) أي نازه ودافعه ويحمل على ظاهره. وعلى اللعن. فيجعر إلى معنى
الشتم والصائم مأمور أن يكف نفسه عن ذلك ولا يقابله بالشتم والسب.
(فيقل إني) امرؤ (صائم) أي صومي يمنعني من ذلك. وآكد للزجر ليرده به عن
نفسه وظاهره أنه يقوله جهرًا اختاره الشيخ وغيره. لأن القول المطلق باللسان
وفي الفرض لا نزاع فيه حكاه ابن العربي. وإنما الخلاف في التطوع بعدًا عن
الرياء. قال النووي كل منهما حسن. والقول باللسان أقوى من القول في النفس
ولو جمعهما لكان حسنًا.
(وعن عائشة) رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان يقبل وهو صائم)
ولهما عن أم سلمة أنه كان يقبلها وهو صائم. ولمسلم عن عمر بن أبي سلمة أنه
سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيقبل الصائم؟ فقال له "سل هذه "لأم
سلمة فأخبرته أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك.
(2/252)
فقال يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم
من ذنبك وما تأخر فقال "أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له" وفيه أن
أفعاله حجة. وقال لعمر أرأيت لو تمضمضت؟ رواه أبو داود. فدلت على أنه يجوز
التقبيل للصائم. ولا يفسد به الصوم. قال النووي ولا خلاف أنها لا تبطل
الصوم. إلا أن أنزل بها (ويباشر وهو صائم) المباشرة الملامسة وترد بمعنى
الوطء. وليس مرادا هنا. وذكر المباشرة بعد التقبيل من ذكر العام بعد الخاص.
فإن المباشرة المذكورة هنا أعم من التقبيل ما لم يبلغ إلى حد الجماع. لأنها
في الأصل التقاء البشرتين.
(ولكنه أملككم لإربه) بكسر الهمزة أي حاجته ووطره. وقيل لعضوه. وقيل لنفسه.
وهي رواية وآمنكم من الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة أو هيجان
نفس. والمقصود أملككم لنفسه. فيأمن مع هذه المباشرة الوقوع في المحرم (متفق
عليه).
(ولأبي داود عن أبي هريرة نهى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (شابا)
سأله عن المباشرة للصائم فنهاه. وقال: "الشاب يفسد صومه" خشية أن تغلبه
الشهوة وأن لا يملك نفسه عند التقبيل. ولذلك ذهب قوم إلى تحريم التقبيل على
من تحرك شهوته الشاب مظنة لذلك. وقال المجد تحرم القبلة إن ظن إنزالا بغير
خلاف. لتعريضه للفطر. ثم إن أنزل أفطر بلا خلاف وإن لم ينزل لم يفطر ذكره
ابن عبد البر إجماعًا.
(2/253)
(ورخص الشيخ) سأله عن المباشرة للصائم.
وقال الشيخ يملك إربه. وإسناده صحيح. ورواه البيهقي وهذا لفظه. ورواه سعيد
عن أبي هريرة وأبي الدرداء وابن عباس بإسناد صحيح. ولفعله عليه الصلاة
والسلام. والتعبير بالشيخ والشاب جرى على الغالب. فلو انعكس الأمر انعكس
الحكم.
وليست محرمة على من لم تحرك شهوته. ولا يقال إنها مكروهة له. وإنما هي خلاف
الأولى في حقه. لثبوت فعله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأنه يؤمن في حقه
مجاوزة القبلة. ويخاف على غيره مجاوزتها. والمراد قبلة من تباح قبلته في
الفطر. كزوجته وسريته تلذذا لا رحمة وتوددًا. فأما من تحرم قبلته في الفطر
ففي الصوم أولى بالتحريم. وكذا دواعي الوطء كمعانقة ولمس وتكرار نظر للتلذذ
والشهوة. وأما اللمس لغير شهوة كلمس اليد ليعرف مرضها ونحوه فلا يكره
اتفاقًا.
(وقال ابن عباس) رضي الله عنهما (لا بأس بذوق طعام لحاجة رواه البخاري)
وكذا قال أحمد وغيره لا بأس به لحاجة ومصلحة. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي
وكالمضمضة. ويكره بلا حاجة لأنه لا يأمن أن يصل إلى حلقه فيفطره. قال أحمد
أحب إلي أن يجتنبه فإن فعل فلا بأس. وقال الشيخ إذا ذاق طعامًا ولفظه أو
وضع فيه عسلا ومجه فلا بأس به لحاجة كالمضمضة والاستنشاق اهـ.
(2/254)
ويكره مضغ علك قوي لا يتحلل اتفاقًا. ويحرم
المتحلل إجماعًا. لأنه يكون قاصدًا لإيصال شيء من خارج إلى جوفه مع الصوم
وهو حرام ويكره أن يدع بين أسنانه بقايا من الطعام خشية خروجه فيجري به
ريقه إلى جوفه.
ويكره جمع ريقه فيبتلعه خروجًا من الخلاف. ويحرم بلع النخامة وقيل يفطر بها
إن وصلت إلى فمه وفاقًا للشافعي. كالقيء. وعن أحمد وغيره لا يفطر لأنه
معتاد في الفم كالريق. فالأولى اجتنابه ولا يفطر به إجماعًا.
(وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تسحروا) فيه الأمر بالسحور
فإن في السحور بركة متفق عليه) لأنه يقوي على الصيام وتحصل بسببه الرغبة في
الازدياد من الصيام لخفة المشقة فيه على المتسحر. وقال الحافظ الأجر
والثواب. ولابن ماجه عن ابن عباس: "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار".
فحكمته التقوي على الصيام.
وسمي فلاحًا لأنه سبب لبقاء الصوم ومعينًا عليه
ولابن حبان عن ابن عمر "ولو أن يجرع أحدكم جرعة
من ماء" ولأحمد عن أبي سعيد "السحور بركة فلا تدعه
ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء. فإن الله وملائكته
يصلون على المتسحرين" ولأبي داود "نعم سحور المؤمن
التمر" والسحور بفتح السين اسم لما يؤكل في السحر.
وبالضم اسم الفعل على الأشهر. والمراد هنا
(2/255)
الفعل. وكل ما حصل من أكل وشرب حصل به
فضيلة السحور.
(ولمسلم عن عمرو بن العاص مرفوعًا فصل ما بين صيامنا) أي الفارق بين صيامنا
معشر المسلمين (و) بين صيام أهل الكتاب) اليهود والنصارى (أكلة السحر) أي
السحور لأن الله أباحه لنا إلى الصبح وحرمه عليهم بعد أن يناموا. ومخالفتنا
إياهم مأمور بها شرعا. فتأكدت بالتعيين. وتقع هنا موقع الشكر لتلك النعمة.
وفيه "أن هذا الدين يسر لا عسر فيه".
وقد تقدم {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وفرحوا به بعد
المنع. والأمر بالسحور والحث عليه مستفيض وأجمعوا على ندبيته ولا يجب
إجماعا حكاه ابن المنذر وغيره لما ثبت من الوصال.
(ولهما عن سهل مرفوعًا لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) أي لا يزالون
بخير في دينهم مدة فعلهم ذلك امتثالا للسنة. ولأبي داود "لا يزال الدين
ظاهرًا ما عجل الناس الفطر. لأن اليهود والنصارى يؤخرون الإفطار إلى اشتباك
النجوم" ونحوه في الصحيحين. فقوام الدين على مخالفة الأعداء. فدلت هذه
الأحاديث أنه لا يزال أمر هذه الأمة
(2/256)
معظمًا. وهم بخير ما داموا محافظين على هذه
السنة. مخالفين لأهل الكتاب وغيرهم من المشركين.
وفيها إشارة إلى أن تغيير هذه السنة علم على فساد الأمر. فتأكد الفعل.
ولأحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا "يقول الله تعالى أحب عبادي إلي
أعجلهم فطرا" ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة. وكان - صلى الله
عليه وسلم - يعجل الإفطار صححه الترمذي.
(زاد أحمد عن أبي ذر وأخروا السحور) ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال "لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر" قال ابن عبد
البر وغيره أحاديث تعجيل الفطور وتأخير السحور صحيحة متواترة. وأجمع
العلماء علىن تجعيل الفطور وتأخير السحور سنة متبعة. حكاه الوزير وغيره.
وجزم به الشيخ وغيره.
وقوله (أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) يقتضي الإفطار عند غروب
الشمس. حكمًا شرعيًا لما في الصحيحين وغيرهما "إذا اقبل الليل من ههنا
وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" أي دخل في وقت الفطر
وجاز له أن يفطر.
وأجمعوا على أن الصوم ينقضي ويتم بتمام الغروب. وأن السنة أن يفطر إذا تحقق
غروب الشمس. وله الفطر بغلبة الظن.
(2/257)
اتفاقا. إقامة له مقام اليقين. ولأن ما
عليه إمارة يدخله التحري كالوقت.
قال الشيخ ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك لا بعد أن
يذهب وقت طويل من الليل يفوت المغرب ويفوت تعجيل الفطور. والمصلي مأمور
بصلاة المغرب وتعجيلها. وثبت في صحيح البخاري عن أسماء أفطرنا يوما من
رمضان في غيم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طلعت الشمس. فدل
على أنه لا يستحب التأخير مع الغيم إلى أن يتيقن الغروب. فإنهم لم يفعلوا
ذلك. ولم يأمرهم به. والصحابة مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله
عنهم أعلم وأطوع لله.
وكره الفطر مع الشك في غروب الشمس. لا في طلوع الفجر. قال ابن عباس وغيره
كل ما شككت حتى لا تشك. وقال الصديق يا غلام أجف الباب لا يفاجأنا الفجر.
ولا يعرف لهما مخالف. بخلاف الجماع لما في الشك من التعرض لوجوب الكفارة.
وليس مما يتقوى به. ولا يستحب اتفاقا. ولأبي داود "إذا سمع أحدكم النداء
والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه".
والمراد والله أعلم ما لم يعلم طلوع الفجر. ولإمكان سرعة أكله وشربه لتقارب
وقته واستدراك حاجته. واستشراف نفسه. وقوة نهمته. وتوجه شهوته بجميع همته.
مما يكاد يخاف عليه أنه
(2/258)
لو منع منه لما امتنع. فأجازه الشارع رحمة
عليه. قوله {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي ينتشر ويظهر
ويستطير معترضا. كما بينه الشارع.
وهو من باب الرخصة. والأخذ بها محبوب إلى الله وندب إليه رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -. وأما إذا علم انتشار الصبح فيحرم اتفاقًا. بل امتناع
السحور بطلوع الفجر قول الأئمة وفقهاء الأمصار.
(وعن أنس قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات قبل أن
يصلي) وللطبراني "إذا كان صائمًا لم يصل حتى يأتيه برطب وماء فيأكل ويشرب"
ففيه أيضًا سنية تعجيل الفطور قبل صلاة المغرب. وهو أفضل اتفاقًا. وأنه على
رطب قدمه على اليابس. فيقدم عليه إن وجد (فإن لم تكن) أي فإن لم توجد رطبات
(فتمرات) أي فيفطر على تمرات. ولفظ الطبراني. وإذا لم يكن رطب لم يصل حتى
يأتيه بتمر وماء. ولأن التمر حلو وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم.
(فإن لم تكن) أي توجد رطبات ولا تمرات (حسا حسوات من ماء) أي يشرب شربات من
ماء والحسوة الجرعة من ماء بقدر ما يحسى مرة واحدة وحسا الماء شربه شيئًا
بعد شيء والحديث (رواه أبو داود) ورواه الترمذي وغيره وحسنه وللخمسة وصححه
ابن خزيمة من حديث سليمان بن عامر "إذا أفطر أحدكم فيلفطر على تمر فإن لم
يجد فليفطر على ماء فإنه طهور".
(2/259)
وروي من طرق عن جماعة من الصحابة تدل على
أن الإفطار بما ذكر سنة. وفي صحيح مسلم "فاجدح لنا" وهو خلط السويق بالماء.
فنزل فجدح له. فشرب. وفي معنى الرطب والتمر كله حلو لم تمسه النار لأنه يرد
للبصر ما زاغ منه بالصوم. قال ابن القيم وهذا من كمال شفقته - صلى الله
عليه وسلم - على أمته ونصحه لهم فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو. مع خلو
المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به. لا سيما القوى الباصرة. فإنها
تقوى به.
وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس. فإن رطبت بالماء كمل
انتفاعها بالغذاء بعده. هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها
تأثير في صلاح القب لا يعلمها إلا أطباء القلوب.
(وله عن معاذ بن زهرة) بضم الزاي ذكره يحيى بن يونس في الصحابة وقال ابن
معين حديثه مرسل (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر) أي إذا
كان عند الفطر (قال اللهم لك صمت) أي أمسكت عن الطعام والشراب والجماع
وغيره (وعلى رزقك) الذي أطعمتنيه (أفطرت) أي أكلت وشربت. وإن شاء زاد
"فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت
المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
(2/260)
وإن شاء قال "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت
سبحانك وبحمدك اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم" وعن ابن عمر "اللهم
إني أسألك رحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ذنوبي" فإن للصائم دعوة عند
فطره لا ترد. كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "للصائم عند فطره
دعوة لا ترد" وعنه "ثلاثة لاترد دعوتهم. منهم الصائم" ويستحب تفطير الصائم.
لحديث "من فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" صححه
الترمذي. قال الشيخ المراد أن يشبعه.
فصل في القضاء
أي في حكم قضاء رمضان وغيره. وما يتعلق بذلك.
قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} أي فمن شهد منكم الشهر في الحضر مقيمًا
وكان مريضًا فعدة من أيام أخر {أو} من كان منكم {عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أباح تعالى الفطر لعذر المرض والسفر. وتقدم. وأعاد
تعالى ذكر الرخصة للمريض والمسافر في الإفطار بشرط القضاء. ليعلم أن هذا
الحكم ثابت في الناسخ ثبوته في المنسوخ.
وقال جل وعلا {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} تيسيرا عليكم روحمة بكم. {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي عدة
أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في مرضكم وسفركم. وذلك
(2/261)
إذا أمكن بعد البرء وبعد الإقامة وجب
القضاء اتفاقًا على التراخي مفرقًا ومتابعًا. وإن مات قبل التمكن فلا شيء
عليه باتفاق أهل العلم. وقال الشيخ لا يأثم بتأخير قضاء رمضان ولو مات لأنه
وقت موسع. وإن فرط أطعم عنه كما سيأتي.
(وعن عائشة قالت كان يكون) بتكرير الكون لتحقيق القصة وتعظيمها. وتكرار
الفعل أي يكون مرارا (علي الصوم) أي قضاء (من رمضان فما أستطيع أن أقضيه
إلا في شعبان) وللترمذي وغيره: ما قضيت شيئًا مما يكون علي من رمضان إلا في
شعبان حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لمكان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - متفق عليه).
ولفظ البخاري لشغل النبي - صلى الله عليه وسلم -.اي من كونها مهيئة نفسها
للنبي - صلى الله عليه وسلم -. متربصة لاستمتعاه في جميع أوقاتها إن أراد
ذلك. وهذا من الأدب ولا ريب في إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على
ذلك. لا سيما مع توفر دواعي أزواجه إلى سؤاله عن الأحكام الشرعية. وإنما
كانت تصومه في شعبان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم معظم شعبان
فلا حاجة له فيها حينئذ في النهار. ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان
فلا يجوز تأخيره عنه.
ويشهد لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها
شاهد إلا بإذنه" ويخص منه رمضان والقضاء المضيق قال المجد
(2/262)
وغيره يجوز تأخير قضاء رمضان بلا عذر ما لم
يدرك رمضان ثان. ولا نعلم فيه خلافًا وكذا ذكر غير واحد مذهب الأئمة
وجماهير السلف والخلف أن القضاء يجب على التراخي. ولا يشترط المبادرة فيه
في الإمكان. قال النووي الصحيح عند محققي الفقهاء وأهل الأصول فيه وفي كل
واجب موسع أنه يجوز تأخيره بشرط العزم على فعله. وإذا لم يبق من شعبان إلا
قدر ما عليه وجب فورا إجماعا.
ويستحب قضاؤه مع سعة الوقت متتابعًا على الفور اتفاقًا مسارعة لبراءة
الذمة. ولا بأس أن يفرقه اتفاقًا. وقاله البخاري عن ابن عباس. وعنه مرفوعا
"قضاء رمضان إن شاء فرق وإن شاء تابع" رواه الدارقطني. وله عن محمد بن
المنكدر قال بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن تقطيع قضاء
رمضان فقال "ذلك إليك أرأيت لو كان على أحد دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم
يكن قضى؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر".
ولأنه لا يتعلق بزمان معين فلم يجب فيه التتابع كالنذر المطلق. ومن فاته
رمضان قضاه عدد أيامه تامًا كان أو ناقصًا إجماعًا. وهل يجوز له التطوع قبل
القضاء مع سعة الوقت؟ نقل عن أحمد وغيره لا يجوز. لخبر "من أدرك رمضان
وعليه من رمضان شيء لم يقضه لم يتقبل منه حتى يصومه" وقال الموفق متروك.
ولأن المبادرة إلى إبراء الذمة من أكبر العمل الصالح. وإن نواه في نحو عشر
ذي الحجة أجزأ.
(2/263)
وعن أحمد يجوز التطوع قبله ويصح. وهو مذهب
مالك والشافعي وأبي حنيفة للعموم. كالتطوع بصلاة في وقت فرض متسع قبل فعله
فالأوجه أن يجوز صوم العشر ونحوها تطوعًا وقضاء. والتطوع أفضل كالسنن
الراتبة في أول وقت الصلاة وإن أخره بلا عذر إلى رمضان آخر حرم عليه، ووجب
عليه إطعام مسكين لكل يوم عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وروي عن
أبي هريرة بسند ضعيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجل مرض في رمضان
فأفطر ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر فقال: "يصوم الذي أدركه ثم يصوم
الشهر الذي أفطر فيه ويطعم كل يوم مسكينا" ورواه الدارقطني موقوفًا.
وعن ابن عباس فإذا قضى أطعم. عن ابن عمر نحو. قال يحيى بن أكثم وجدته عن
ستة من الصحابة لا أعلم لهم مخالفًا. وقال أبو العباس إن ترك الأداء لغير
عذر وجبت وإلا قضى فقط اتفاقًا. ويجزئ الإطعام قبل القضاء وبعده ومعه. وقال
المجد الأفضل عندنا تقديمه مسارعة إلى الخير. وتخلصًا من آفات التأخير.
وإذا تكرر رمضان لا يلزمه أكثر من فدية واحدة لأن كثرة التأخير لا يزاد بها
الواجب كما لو أخر الحج لسنين لم يكن عليه أكثر من فعله.
(ولهما عنها) رضي الله عنها (مرفوعًا) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال (من مات وعليه صوم) أي واجب بالنذر. وقيل أو قضاء عن فائت. مثل
أن يكون مسافرًا وأمكنه القضاء ففرط
(2/264)
فيه حتى مات. أو يكون مريضا فيبرا ولا
يقضي. (صام عنه وليه) أي ليصم عنه وليه. خبر بمعنى الأمر. وفي البزار بسند
حسن "فليصم عنه وليه إن شاء".
فدل الحديث على أنه يصوم الولي. وهو كل قريب عصبة كان أو نسبًا وارثًا أو
غير وارث قال البيهقي. هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في
صحتها وإن صام غير ولي الميت جحاز مطلقا بإذن الولي والورثة وعدمه. لأن
الصيام من الأجنبي تبرع فجاز منه كقضاء الدين لتشبيهه به كما يأتي ولا يجب
على الولي اتفاقًا. وإنما يسن فعله عنه لتفرغ ذمته كقضاء دينه وقال الشيخ
إن تبرع عمن لا يطيقه لكبر ونحوه أو عن ميت وهما معسران يتوجه جوازه لأنه
اقرب إلى المماثلة من المال. ويأتي الجمع بين الآثار.
(وعن ابن عباس أن امرأة) من جهينة (قالت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- إن أمي ماتت وعليها صوم نذر) وهو إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر (أفأصوم
عنها؟) اي ما نذرته وللبخاري صوم شهر وفي رواية خمسة عشر يوما ولعله تعدد
في الواقعة (قال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أرأيت لو كان على أمك
دين فقضيتيه عنها) أي ذلك الدين (أكان ذلك يؤدي عنها؟ قالت نعم).
وفيه مشروعية القياس وضرب الأمثال ليكون أوقع في نفس السامع. وأقرب إلى
سرعة فهمه (قال فصوم عن أمك
(2/265)
متفق عليه) ولأبي داود وغيره أن امرأة ركبت
البحر فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهرًا. فأنجاها الله فلم تصم حتى ماتت
فجاءت قرابة لها. فقال "صومي عنها" وعن بريدة أن امرأة قالت يا رسول الله
إنه كان عليها صوم شهر أفاصوم عنها. قال "صومي عنها" قالت إنها لم تحج قط
أفأحج عنها؟ قال "حجي عنها" رواه مسلم.
وعن ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت إن أمي
نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال "نعم حجي عنها" رواه البخاري
وغيره من غير وجه. ولأبي داود عن سعد بن عبادة قال إن أمي ماتت وعليها نذر
لم تقضه قال "أقضه عنها" ومعناه في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ويروى عن
ابن عباس وابن عمر وعائشة وغيرهما ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة. ولأن
النيابة تدخل في العبادة حسب خفتها. وهو أخف حكما من الواجب بأصل الشرع
أوجبه الناذر على نفسه.
(وقال ابن عباس) رضي الله عنهما (يطعم عن الفرض) أي إذا مرض الرجل في رمضان
أو سافر وأمكنه القضاء ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء. وللترمذي عن
ابن عمر مرفوعًا "من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم
مسكين" وقال الصحيح إنه موقوف. وعن أبي هريرة وعائشة نحوه. وللنسائي ومالك
وغيرهما لا يصوم أحد عن أحد. وهو قول أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة
(2/266)
والشافعي وأحمد وغيرهم.
قال مالك لم أسمع عن أحد من الصحابة ولا من التابعين أمر بصوم عن أحد ولا
صلاة عن أحد. وأجمع أهل العلم على أن الصلاة المفروضة من الفروض التي لا
تصح فيها النيابة بنفس ولا مال. والصوم الواجب بأصل الشرع له بدل شرعي وهو
الإطعام. وفي أجزاء الصوم خلاف قوي والإطعام لا خلاف فيه فالإطعام أولى
واتفقوا على أنه إذا أفطر في المرض والسفر ثم لم يفطر في القضاء حتى مات
فلا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه ولو مضى عليه أحوال لأنه حق لله وجب
بالشرع ومات من وجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل كالحج.
قال رضي الله عنه (ويقضى عنه النذر) وفي رواية عنه أما رمضان فيطعم عنه.
وأما النذر فيصام قال ابن القيم وهذا أعدل الأقوال وعليه يدل كلام الصحابة
وبهذا يزول الإشكال.
وقال الشيخ: ابن عباس الذي روى الأحاديث أمر أن يقضى عن الميت الصوم
المنذور. وأما رمضان فيطعم عنه كل يوم مسكين. وبذلك أخذ أحمد وإسحاق
وغيرهما وهذا مقتضى النظر كما هو موجب الأثر. فإن النذر كان ثابتا في الذمة
كالدين فيفعل عنه بعد الموت. وأما صوم رمضان فإن الله لم يوجبه على عاجز عن
الصوم بل أمر العاجز بالفدية طعام مسكين.
(2/267)
والقضاء إنما يجب على من قدر عليه لا على
من عجز عنه، فلا يحتاج أن يقضي أحد عن أحد. وأما الصوم وغيره من المنذورات
فيفعل عنه بلا خلاف للأحاديث الصحيحة، والواجب بالشرع ايسر من الواجب
بالنذر. وقال ابن القيم: يصام عن النذر دون الفرض الأصلي، وهذا القول مذهب
أحمد وغيره، والمنصوص عن ابن عباس وعائشة، ولا تعارض بين روايتهما ورأيهما.
وبهذا يظهر اتفاق الروايات وموافقة فتاوى الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل
والقياس لأن النذر ليس واجبًا بأصل الشرع وإنما أوجبه العبد علىنفسه فصار
بمنزلة الدين، ولهذا شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - به، والدين تدخله
النيابة، وأما الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء، فهو أحد أركان الإسلام
فلا تدخله النيابة بحال. كما لا تدخل الصلاة والشهادتين. فإن المقصود منها
طاعة العبد بنفسه وقيامه بحقوق العبودية والتي خلق لها وأمر بها، وهذا لا
يؤديه عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره.
وهكذا من ترك الحج عمدًا مع القدرة عليه حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها
حتى مات، فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع إن فعلها عنه بعد الموت لا يبرئ
ذمته، ولا يقبل منه، والحق أحق أن يتبع اهـ. فيقضي عنه وليه كما تقدم، فإن
لم يفعل الولي ولا غيره فعلى الولي أن يدفع في الصوم عن كل يوم طعام مسكين،
لأنه فدية الصوم، وكمتعة حج.
(2/268)
ولا كفارة مع الصوم عنه أو الإطعام، ولا
يلزم القضاء إلا في حق شخص أمكنه صوم ما نذره. بأن مضى ما يتسع لفعله قبل
موته فلم يصمه، فيفعل عنه لثبوته في ذمته كقضاء دينه من تركته، وإن لم
يمكنه إلا بعضه لم يقض إلا ذلك البعض، كمن نذر صوم شهر ومات قبل ثلاثين
يومًا، فيصام عنه ما مضى دون الباقي، لأنه لم يثبت في ذمته. وإن كان مريضا.
لأن المرض لا يمنع ثبوت الصوم في ذمته.
وكذا لو مات وعليه حج منذور فعل عنه. ولو لم يمكنه فعله في حياته لجواز
النيابة فيه حال الحياة، فبعد الموت أولى، ومن مات قبل دخول شهر نذر صومه
لم يصم، ولم يقض عنه، قال المجد هذا مذهب سائر الأئمة ولا أعلم فيه خلافًا.
باب صوم التطوع
أي باب بيان فضل صوم التطوع وعظيم أجره. وقد ورد في فضله آيات وأحاديث
كثيرة. وتقدم "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" وقال أحمد:
الصيام أفضل ما تطوع به. لأنه لا يدخله رياء.
قال تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي زاد على الواجب. وتطوع بالشيء
تبرع به {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} وأعظم أجرًا، والخير اسم جامع لكل ما ينتفع
به.
(2/269)
(وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - كل عمل ابن آدم له الحسنة) منه (بعشر أمثالها) أي كل
أعمال ابن آدم تضاعف الحسنة بعشر أمثالها، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (إلى سبعمائة ضعف) أي أن
الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس. وإنما تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى
ما شاء الله (قال الله تعالى إلا الصوم) أي فإنه أحب العبادات إلي. ولا
ينحصر تضعيفه بل يضاعفه الله أضعافًا كثيرة. ويثيب عليه بغير تقدير. وهو
جنة يستجن به من النار ومن الصبر والصبر ثوابه الجنة. قال تعالى: {إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} واتفقوا على أن
المراد بالصوم هنا المصون من المعاصي قولاً وفعلاً (فإنه لي) خصه تعالى
بإضافته إليه دون سائر الأعمال تنويهًا بالتشريف والتعظيم والتفخيم.
ثم قال (وأنا أجزي به) أي أجازي عليه جزاء جزيلاً بلا عدد ولا حساب. لأنه
لم يشاركني فيه أحد. ولم يعبد به غيري.
فأنا أتولى الجزاء عليه بنفسي. على قدر اختصاصه بي. ولأنه سر بين الله وبين
عبده لا يطلع عليه سواه. فلا يكون العبد صائمًا حقيقة إلا وهو مخلص في
الطاعة.
وفيه بيان عظم فضل الصوم والحث عليه وعظم فضله. وكثرة ثوابه. لأن الكريم
إذا أخبر أنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم ذلك الجزاء وسعة العطاء. وله من
الفضائل والمثوبة ما لا
(2/270)
يحصيه إلا الله. قال تعالى: (يدع طعامه
وشرابه) وشهوة الجماع (من أجلي متفق عليه) ولم يصرح بنسبته إلى الله تعالى
للعلم بذلك.
فيتقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنكاح من أجل
الله في صورة من لا حاجة له في الدنيا إلا رضى الله عز وجل. وهي أعظم شهوات
النفس. فتنكسر سورتها الحاملة لها على الأشر والبطر والغفلة. ويتخلى القلب
للذكر والفكر. ويعرف قدر نعمة الله عليه بأقداره على ما منعه كثيرًا من
الفقراء. وفيه "والذي نفسي بيده: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح
المسك، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه".
وفي فضل الصوم أحاديث كثيرة: منها عن علي مرفوعًا من منعه الصيام من الطعام
والشراب أطعمه الله من ثمار الجنة وسقاه من شرابها" وفي الصحيحين "في الجنة
باب يدعى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فيقال لهم يوم القيامة {كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}.
(وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له صم من
كل شهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها) أي تضاعف بعشر أمثالها وكان
رضي الله عنه قال إني أقوى أكثر من ذلك فأرشده - صلى الله عليه وسلم - إلى
الأرفق به شفقة عليه. وإرشادًا له إلى
(2/271)
مصلحته. وحثًا له على ما يطيق الدوام عليه.
ونهيًا له عن الإكثار من العبادة التي يخاف عليه الملل بسببها. أو ترك
بعضها. كما قال "عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا"
"وأحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه".
ثم قال (وذلك) اي صيام ثلاثة أيام من كل شهر (مثل صيام الدهر متفق عليه)
وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها فيعدل صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الشهر
كله. فيكون كمن صام الدهر من غير حصول المشقة في صومه. وللترمذي من حديث
أبي ذر "من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر) فأنزل الله (من جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها) اليوم بعشر.
وقال الشيخ مراده أن من فعل هذا حصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر.
ولمسلم "يصوم من كل شهر ثلاثة الأيام" وللبخاري من حديث أبي هريرة "أوصاني
خليلي بثلاث، صيام ثلاثة أيام من كل شهر" الحديث ولأبي داود: "من كل شهر
أول اثنين وخميسين" ولمسلم "ما يبالي من أي الشهر صام" فيحصل أصل السنة
بصوم ثلاثة من أي أيام الشهر. واتفق أهل العلم على سنية صيام ثلاثة من كل
شهر.
(وللخمسة من حديث أبي قتادة وغيره) فرواه أصحاب
(2/272)
السنن عن قتادة بن ملحان القيسي البصري له
صحبة رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن
نصوم (البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) وقال "هي كهيئة الدهر" وعن
أبي ذر "أمرنا أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس
عشرة" رواه الترمذي وصححه ابن حبان وغيره.
ورواه أحمد وغيره من حديث أبي هريرة "فإن كنت صائمًا فصم الغر" أي البيض.
والنسائي من حديث جرير "صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر ثلاثة
الأيام البيض" وورد من طرق عديدة. ولا معارضة بينها وبين ما تقدم. فإنها
كلها دالة على ندبية صوم ثلاثة أيام من كل شهر والبيض منها أشهر. وما أمر
به - صلى الله عليه وسلم - وحث عليه ووصى به أولى وأفضل. والبيض على حذف
مضاف أي أيام ليالي البيض. وهي الليالي التي لياليهن مقمرة خصت لتعميم
لياليها بالنور المناسب للعبادة والشكر على ذلك.
وقيل من داوم على صيامها لم يعتل. لأن الفضلات تهيج في البدن في كل شهر
وهذه الليالي أشد لقوة القمر. والصوم يذهب فضلات البدن. فمن صامها سلم.
واتفق العلماء على أنه يستحب أن تكون الثلاثة المذكورة وسط الشهر. كما حكاه
النووي وغيره. وقال الروياني وغيره صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب. فإن
اتفقت أيام البيض كان أحب.
(2/273)
و (فيها) أي في مسند أحمد والسنن (عن
عائشة) وأسامة ابن زيد وغيرهما (كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- (يتحرى صيام الاثنين والخميس) أي يقصد ويجتهد في الطلب والعزم على تخصيص
صيام يوم الاثنين والخميس، صححه الترمذي.
وللخمسة وغيرهم من حديث أبي هريرة وأسامة (وقال هما يومان تعرض الأعمال
فيهما) أي في يوم الإثنين والخميس على رب العالمين.
وورد أنه تعرض أعمال العباد كل يوم. ففيه أنه أيضا تعرض الأعمال في يوم
الاثين والخميس. ثم أعمال السنة في شعبان. ولكل عرض حكمة (فأحب أن يعرض
عملي وأنا صائم) ونحوه في صحيح مسلم. ولفظ أبي داود كان يصومهما. فسئل عن
ذلك فقال "إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس" ولمسلم قال له رجل
أرايت الاثنين قال "فيه ولدت وفيه أنزل علي القرآن"فيسن صومهما اتفاقا
لفعله - صلى الله عليه وسلم - وحثه عليه وسمي الاثنين لأنه ثاني الأسبوع.
والخميس لأنه خامسه.
(وعن أبي أيوب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام رمضان ثم
أتبعه) أي أتبع رمضان بالصوم (ستًا من شوال) ستا
أصله سدس. ولو ميز بالهاء لكان صحيحًا. لأن العدد المميز إذاكان غير مذكور
لفظا جاز تذكير مميزه وتأنيثه بالهاء
أي ستة أيام من شهر شوال من شالت الإبل بأذنابها
(2/274)
للطراق (كان كصيام الدهر رواه مسلم) ورواه
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة.
ولفظ ثوبان "من صام رمضان فشهره بعشرة ومن صام ستة أيام بعد الفطر فذلك
صيامه السنة" رواه أحمد وغيره وهو حديث مستفيض. وذكروا أنه متواتر. عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد بالتشبيه في حصول العبادة به على وجه
لا مشقة فيه. وإنما كره صوم الدهر لما فيه من الضعف والتشبه بالتبتل. ولولا
ذلك لكان فيه فضل عظيم. لاستغراق الزمان بالطاعة والعبادة.
فدل الحديث على سنية صوم ست من شوال. وحكى الموفق وغيره اتفاق أهل العلم
على أن صومها سنة. وقال النووي وغيره كره مالك ذلك وعلله بأنه ربما ظن
وجوبها وهو باطل في مقابلة السنة الصحيحة. ولا تترك السنة لترك بعض الناس
أو أكثرهم أو كلهم لها قال ويلزمه ذلك في سائر أنواع الصوم وغيره المرغب
فيه. ولا قائل به. وقال ابن عبد البر: لم يبلغ مالك هذا الحديث.
واتباع الست يحتمل أن يكون بلا فاصل إلا بما لا يصلح للصوم ويحتمل إطلاقه
مع الفاصل. ويستحب تتابعها. وكونها عقب العيد. لما فيه من المسارعة إلى
الخير. ويحصل فضلها متتابعة ومتفرقة وفي أول الشهر وفي آخره. واختاره الشيخ
وغيره. لظاهر الخبر. وذكره قول الجمهور. وذكر بعضهم أنها تحصل
(2/275)
الفضيلة بصومها في غير شوال. كما في خبر
ثوبان وغيره. وصام ستة أيام بعد الفطر. ولعل تقييده بشوال لسهولة الصوم فيه
لاعتياده.
(وله) أي ولمسلم وأهل السنن وغيرهم (عن أبي هريرة مرفوعًا) إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه سئل أي الصيام بعد رمضان أفضل فقال (أفضل الصيام بعد
رمضان) أي بعد صيام رمضان لأن الواجب أفضل من المسنون وأعظم أجرًا. كما أن
أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل. فحيث علم فضل صيام رمضان، فأفضل
الصيام بعد صيامه (شهر الله المحرم) إضافة إلى الله تعالى تشريفًا وتفخيمًا
وتعظيمًا. كقولهم بيت الله.
قال بعض أهل العلم وهو أفضل الأشهر يعني بعد رمضان. والمعنى أفضل شهر تطوع
به كاملا بعد شهر رمضان في الفضيلة شهر الله المحرم. لأن بعض التطوع قد
يكون أفضل من أيامه كعرفة وعشر ذي الحجة. فالتطوع المطلق بشهر كامل سوى
رمضان أفضله المحرم. وهذا الخبر الصحيح صريح في فضل صومه. ولم يكن - صلى
الله عليه وسلم - يكثر فيه الصوم. إما لعذر أو لم يوح إليه بفضله إلا في
آخر حياته.
ويدل على فضله أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل أي شهر تأمرني أن
أصومه بعد شهر رمضان فقال "إن كنت صائمًا بعد شهر رمضان فصم المحرم. فإنه
شهر الله فيه يوم تاب الله فيه على
(2/276)
قوم. ويتوب فيه على قوم" حسنه الترمذي.
وسمي محرمًا لكونه شهرًا محرمًا تصريحًا بفضله وتأكيدًا لتحريمه. لأن العرب
كانت تتقلب فيه فتحله عامًا وتحرمه عامًا. وهو أول شهور العالم.
(وله عن ابن عباس) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (صام العاشر) أي من شهر
المحرم وعليه جماهير العلماء ويسمى عاشوراء. ولفظه صام رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يوم عاشوراء (وأمر بصيامه) ولهما عنه سئل عن صوم عاشوراء
فقال ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يومًا يطلب فضله على
الأيام إلا هذا اليوم. وعن عائشة كان يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر
بصيامه فلما فرض رمضان قال "من شاء صامه ومن شاء تركه".
ومن حديث معاوية قال: "إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم
فمن شاء صام ومن شاء أفطر" وأكثرها يدل على أن صومه وجب ثم نسخ. وقاله
الإمام أحمد وغيره. وهو مذهب أبي حنيفة واختاره الشيخ وغيره. وبقي استحباب
صومه إجماعًا. وأخباره مستفيضة أو متواترة (فقيل له إنه يوم تعظمه اليهود)
والنصارى. ولهما عن أبي موسى كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه عيدًا
فقال "صوموه أنتم".
ومن حديث ابن عباس قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى اليهود تصوم
عاشوراء فقال "ما هذا" قالو هذا يوم صالح نجى الله
(2/277)
فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه
موسى. فقال "أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه" وعزم على مخالفتهم
(فقال لئن بقيت إلى قابل) أي العام المقبل (لأصمن التاسع) وفي رواية "إذا
كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" قال فلم يأت العام المقبل
حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
واستحب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء الجمع بينهما. لأنه - صلى الله عليه
وسلم - صام العاشر وأمر بصيامه. وأجمعوا على سنيته. ونوى صيام التاسع. وفي
الحديث إشارة إليه (ولأحمد) "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع (والعاشر)
رواه هو والخلال بسند جيد. وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال "صوموا يوم عاشوراء. وخالفوا فيه اليهود. صوموا قبله يوما أو بعده
يوما" وفي رواية "صوموا قبله يوما وبعده يوما" وسنده ضعيف وروي نحوه. وسكت
عنه في التلخيص.
وهو صريح في مشروعية ضم اليومين إلى يوم عاشوراء. وقال أحمد إن اشتبه عليه
أول الشهر صام ثلاثة أيام ليتيقن صومها. وكره ابن عباس أفراد العاشر. وروي
عنه صوموا التاسع والعاشر. وخالفوا اليهود. وهو مقتضى كلام أحمد وغيره.
للأمر بمخالفة اليهود. وقال الشيخ لا يكره إفراده بالصوم مع مبالغته في
مخالفة المشركين. وتصريحه في الأمر
بمخالفتهم.
(2/278)
وما روي فيه من التوسعة على العيال فقال
أحمد لا أصل له. وقال الشيخ موضوع مكذوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقال ما يفعل من الكحل والاغتسال والحنا والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار
السرور وغير ذلك لم يرو في ذلك حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
ولا عن أصحابه. ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين. لا الأئمة الأربعة ولا
غيرهم.
وقال وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال والتوسعة على العيال واتخاذ أطعمة
غير معتادة. وهو بدعة أصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين رضي الله عنه.
وكل بدعة ضلالة. بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم.
(وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما من أيام العمل) الصالح (فيها
أحب إلى الله من هذه الأيام العشر) وفي لفظ "ما العمل الصالح في أيام أفضل
منه في هذه العشر" فدل الحديث أن العمل في أيام العشر أفضل من العمل في
غيرها. ومن العمل في صيامها. وفي رواية القاسم بن أبي أيوب "ما من عمل أزكى
عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى".
وعند أبي عوانة وابن حبان من حديث جابر "ما من أيام أفضل عندالله من عشر ذي
الحجة" وعند أحمد من حديث ابن عمر "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه
العمل فيها من
(2/279)
هذه الأيام العشر. فأكثروا فيها من التهليل
والتكبير والتحميد" وتقدم {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ} أيام العشر وقال {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} إنها
المعنية. وسميت بذلك للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها.
وآخرها يوم النحر.
(قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله) فيه فضل الجهاد. وتقرر فضله
عندهم. وأنه لا يعدله عمل (قال ولا الجهاد في سبيل الله) أي لا يكون الجهاد
في سبيل الله أحب إلى الله من العمل في هذه الأيام العشر. واتفق أهل العلم
على فضلها (إلا رجل) اي إلا عمل رجل وفي لفظ إلا من (خرج) أي في سبيل الله
(بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم.
أي فيكون من لم يرجع بشيء من ذلك أفضل من العامل في أيام العشر أو مساويًا
له. وشيء نكرة في سياق النفي فتعم ما ذكر. وعند ابن عوانة "إلا من عقر
جواده وأهريق دمه" وفي رواية له "إلا من لم يرجع بنفسه وماله" فدل الحديث
على فضيلة أيام العشر على غيرها من السنة. وتخصيصها بهذه المزية اجتماع
أمهات العبادة فيها الحج والصدقة والصيام والصلاة ولا يتأتى ذلك في غيرها.
والعمل في أيامها لا ينحصر. فمنه قوله "فأكثروا فيها من
(2/280)
التهليل والتكبير والتحميد" فكذا الصيام.
وفي حديث ابن عباس "وأن صيام يوم منها يعدل صايم سنة والعمل بسبعمائة ضعف"
وللترمذي من حديث أبي هريرة "يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل
ليلة فيها بقيام ليلة القدر" وفيها ضعف. ولأحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم
عن حفصة وغيرها كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة.
وصومه مندرج في فضيلة العمل فيها. فإن العمل يضاعف في المكان والزمان
الفاضل.
وما رواه مسلم عن عائشة ما رأيته صائمًا في العشر قط. فقال أهل العلم
المراد أنه لم يصمها لعارض وعدم رؤيتها له صائمًا لا يستلزم العدم. على أنه
قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها. وكذا من فعله أنه لم يكن يدع
صيامها. وكان يصوم يوم عرفة. وقال "يكفر سنتين" وروى أبو الشيخ وابن النجار
وغيرهما من حديث ابن عباس "صوم يوم التروية كفارة سنة" فترادفت الأخبار من
قوله وفعله على استحباب صيام تسع ذي الحجة وهو قول جمهور أهل العلم وأفضلها
التاسع ثم الثامن.
(ولمسلم عن أبي قتادة مرفوعًا صيام يوم عرفة) تاسع ذي الحجة (يكفر السنة
الماضية والآتية) وفي لفظ "يكفر سنتين ماضية ومستقبلة" وفي لفظ "احتسب على
الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" أي قبل وقوع المكفر. أو
يلطف به
(2/281)
بسبب صيامه. فلا يأتي بذنب. أو يوفقه فيها
لما يكفره.
وصومه أوكد أيام العشر إجماعا. وسمي بيوم عرفة للوقوف فيه بعرفة. وقيل هو
يوم الحج الأكبر. وجعل على الضعف من عاشوراء. فقيل لأن يوم عرفة محمدي
وعاشوراء موسوي وأعمالنا على الضعف. ولو رأى أهل بلد هلال ذي الحجة ولم
يثبت عند الحاكم فقال الشيخ لهم أن يصوموا اليوم الذي هو التاسع ظاهرا وأن
كان في الباطن العاشر. لحديث "صومكم يوم تصومون" وتقدم.
وقال: صوم اليوم الذي يشك فيه هل هو التاسع أو العاشر جائز بلا نزاع. لأن
الأصل عدم العاشر كليلة الثلاثين من رمضان. وظهر الحديث يستحب صومه مطلقًا.
وفعله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه يدل على أنه لا يستحب للحاج أن يصوم
يوم عرفة بعرفة. وهو مذهب مالك والشافعي وجمهور أهل العلم. وكرهه بعضهم.
لما روى أبو داود من حديث أبي هريرة "نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة" ولفطره
بها - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس. متفق عليه.
قال ابن عمر لم يصمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا
عثمان. وليتقوى على العبادة والدعاء في ذلك اليوم. وللقيام بأعمال الحجز
وقال الشيخ: لأنه يوم عيد. ويشهد له ما روى عقبة بن عامر مرفوعا "يوم عرفة
ويوم النحر وأيام التشريق
(2/282)
عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب وذكر
لله" صححه الترمذي (ويوم عاشوراء يكفر السنة الماضية) وأجمع أهل العلم على
أن صومه سنة واستحبوا يوما قبله أو يوما بعده. أو يومًا قبله ويومًا بعده
على ما تقدم.
وإن قيل إذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان وعرفة وعاشوراء وغير
ذلك؟ قيل كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير فإن وجد ما يكفره من
الصغائر كفره. وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتب به حسنات ورفعت به درجات
وإن صادق كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر. ويأتي
قول الشيخ إن إطلاق التكفير بالعمرة متناول الكبائر فكذا هذا الخبر ونحوه.
(وعن عائشة) رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كان يصوم)
في سائر أيام السنة (حتى نقول لا يفطر) أي ينتهي صومه إلى غاية نقول لا
يفطر. بل كان - صلى الله عليه وسلم - يسرد الصيام أحيانًا. فيستحب أن لا
يخلي المرء شهرًا من صيام. وفيه أن صوم النفل غير مختص بزمان معين. بل كل
السنة صالحة له إلا رمضان لوجوبه والعيدين والتشريق للنهي عنها.
(ويفطر حتى نقول لا يصوم) أي ينتهي فطره إلى غاية نقول لا يصوم أي يسرد
الفطر أحيانا. ولعله - صلى الله عليه وسلم - يسرد الفطر أحيانًا لأشغاله.
فيفعل ما يقتضيه الحال من تجرده عن
(2/283)
الأشغال. فيتابع الصوم. وعكس ذلك فيتابع
الإفطار (وما رأيته استكمل شهرًا قط إلا رمضان" لئلا يظن وجوبه (وما رأيته
في شهر) أي غير رمضان (أكثر منه صيامًا) يعني تطوعًا (في شعبان متفق عليه)
لرفع أعمال العباد فيه.
ففي النسائي عن أسامة قلت لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان.
قال "ذاك: شهر يغفل الناس عنه وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين
فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" وعن أنس سئل أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال
"شعبان لتعظيم رمضان" رواه الترمذي وقال غريب.
وكان أحب الشهور إليه. فهو أفضل لمحافظته عليه أو أكثره. وكونه كالمقدمة
لرمضان ويكون المحرم كما تقدم أفضل مما قبل رمضان أو بعده تشبيها لهما
بالسنن الرواتب مع قيام الليل فهو أفضل التطوع بعد المكتوبة أي ورواتبها
والوتر فشعبان والست ليس من المطلق بل هو أفضل لتبعية رمضان والمطلق أفضله
المحرم. وكان يصوم شعبان إلا قليلاً. وقالت ما علمته صام شهرًا كله إلا
رمضان. ولا أفطره كله حتى لا يصوم منه حتى مضى لسبيله متفق عليه وفي رواية
بل كان يصوم شعبان كله.
والمراد بكله غالبه لما تقدم. ولأنه جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر
أن يقول صام الشهر كله. وله نظائر. ولمسلم
(2/284)
ولا صام شهرًا كاملاً قط منذ قدم المدينة
غير رمضان. ويحمل لفظه كله على حذف أداة الاستثناء. يعني قوله إلا قليلاً.
ولا يكره إفراد شهر بالصوم غير شهر رجب. قال في المبدع اتفاقًا. وقال المجد
لا نعلم فيه خلافًا للأخبار.
قال الشيخ وكل حديث يروى في فضل صوم أو صلاة فيه فكذب باتفاق أهل العلم
بالحديث. وقال من صامه يعتقد أنه أفضل من غيره من الأشهر إثم وعذر. وحمل
عليه قول عمر رواه ابن أبي شيبة وغيره أنه كان يضرب أكف الناس في رجب حتى
يضعوها في الجفان. ويقول كلوا فإنما هو شهر تعظمه الجاهلية. وله من حديث
زيد بن أسلم سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم رجب فقال "أين
أنتم عن شعبان؟ " ولابن ماجه عن ابن عباس بسند ضعيف أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - "نهى عن صيام رجب".
وقال الشيخ وكراهية إفراد رجب والجمعة سدًا لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به
الله من تخصيص زمان أو مكان لم يخصه الله به. كما وقع من أهل الكتاب. وقال
يكفر من فضل رجب على رمضان. وقال من نذر صومه كل سنة أفطر بعضه وقضاه.
(ولهما عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أنه (قال صم يومًا وأفطر يومًا) "فذلك صيام داود وهو أفضل الصيام" أي
فالزيادة عليه مفضولة. فقال إني أطيق أفضل من ذلك فقال: "لا أفضل من ذلك"
ونهى عليه الصلاة والسلام من
(2/285)
يسرد الصوم. وقال "لا صم فوق صوم داود".
وتقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - أرشده إلى الأرفق به حثا له على ما يطيق
الدوام عليه. وقال ابن مسعود لما قيل له إنك تقل الصيام. قال إني أخاف أن
تضعف نفسي عن القراءة والقرآن أحب إلي من الصيام. وقال - صلى الله عليه
وسلم - "إن لنفسك عليك حقا" الحديث ويشترط أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما
هو أفضل من الصيام كالقيام بحقوق الله تعالى وحقق عباده اللازمة. وإلا
فتركه أفضل اختاره الشيخ وغيره. فإن من حق النفس اللطف بها حتى توصل صاحبها
إلى المنزل.
ويحرم صيام الدهر إن أدخل فيه العيدين وأيام التشريق. فإن أفطرها جاز نص
عليه أحمد ومالك والشافعي وذكر مالك أنه سمع أهل العلم يقولونه. لقول حمزة
بن عمرو يا رسول الله إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر: قال "إن شئت فصم وإن
شئت فافطر" متفق عليه. ولأن أبا طلحة وغيره من الصحابة وغيرهم فعلوه. ولأن
الصوم أمر مطلوب للشاعر إلا ما استثناه.
وأجابوا عن حديث عبد الله بن عمرو أنه خشية عليه، حتى تمنى أنه قبل الرخصة.
قالوا ولا يبعد لو أن شخصًا
لا يفوته من الأعمال الصالحة شيء بالصيام أصلاً.
ولا يصوم يومي العيدين وأيام التشريق. ولا يفوته حق من
(2/286)
الحقوق التي خوطب بها أن يجوز في حقه وظاهر
مجموع النصوص أنه يختلف باختلاف الأحوال. ومنه آخرون وأجابوا بأن سرد الصوم
لا يستلزم صوم الدهر. بل المراد كثرة الصيام. وتقدم أنه - صلى الله عليه
وسلم - يسرد الصوم. مع ما ثبت أنه لم يصم شهرًا كاملاً إلا رمضان. وقال
"أما أنا فأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني".
(وقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو (لا صام من صام
الأبد) أي لا صام من صام الدهر دعاء عليه. وإن كان معناه الخبر. أخبر عنه
أنه لم يصم. وإذا لم يصم شرعا فكيف يكتب له ثواب فلمسلم من حديث أبي قتادة
"لا صام ولا أفطر" وللترمذي "لم يصم ولم يفطر" أي لم يحصل له أجر الصوم
لمخالفته. ولم يفطر لأنه أمسك. فثبت كراهته من وجوه.
وقد حكم - صلى الله عليه وسلم - بأن صوم يوم وإفطار يوم أفضل الصيام.
ولاقتضاء العادة بالمشقة والتقصير في حقوق أخرى حث الشارع عليها فيجب
مراعاتها. قال الشيخ والصواب أن الأولى ترك صيام الدهر أو كراهته. وقال ابن
القيم وكيف يكون أفضل الصيام مع قوله "لا صام من صام الأبد" وقوله "أفضل
الصيام صيام داود" وهذا نص صحيح صريح رافع للإشكال. يبين أن صوم يوم وفطر
يوم أفضل من سرد الصوم مع أنه أكثر عملا. وهذا يدل على انه مكروه. لأنه إذا
كان الفطرأفضل منه لم يمكن أن يقال بإباحته واستواء طرفيه.
(2/287)
(ولمسلم عن عائشة) رضي الله عنها قالت
(أهدي لنا حيس) بفتح فسكون طعام يتخذ من التمر والأقط والسمن. وقد يجعل عوض
الأقط: الدقيق والفتيت (فقال أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل) وفي لفظ قال
طلحة فحدثت مجاهدًا بهذا الحديث فقال تلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله
فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها. ورواه النسائي عن عائشة مرفوعا إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم -. وفي لفظ له قال. "يا عائشة إنما منزلة من صام في غير
رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله فجاد منها بما شاء
فأمضاه".
قال الموفق وغيره لو نوى الصدقة بمال مقدر وشرع في الصدقة فأخرج بعضه لم
يلزمه الصدقة بباقيه إجماعًا. وكذا القراءة ولاأذكار بلا نزاع وعن أم هانئ
قالت دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا صائمة فأتى بإناء من لبن
فشرب ثم ناولني فشربت فقلت إني كنت صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك فقال "إن
كان من قضاء رمضان فاقضي يومًا مكانه" ون كان من غيره فإن شئت فاقضي وإنشئت
فلا تقضي رواه أحمد وغيره.
(وقال) النبي - صلى الله عليه وسلم - (لأم هانئ) بنت أبي طالب بن عبد
المطلب ابنة عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعاشت بعد علي رضي الله
عنهما. وذلك أنه دخل عليها فدعا بشراب ثم ناولها فشربت قالت إني كنت صائمة
فقال (الصائم المتطوع أمير نفسه) أو أمين نفسه (إن شاء صام) ومضى في صيامه
(وإن شاء أفطر رواه
(2/288)
الترمذي) وقال فيه مقال. ورواه أبو داود
وابن ماجه وصححه أحمد. قال الترمذي والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء
عليه إلا أن يجب أن يقضيه وهو قول سفيان وأحمد وإسحاق والشافعي.
ودلت هذه الأحاديث على جواز الفطر للمتطوع. وعدم وجوب القضاء، وهو مذهب
جمهور أهل العلم. لجواز فطره. ولأن القضاء يتبع المقضي عنه. فإذا لم يكن
واجبا لم يكن القضاء واجبا. وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز له الفطر. وإن
أفطر لزمه القضاء. واستدلوا بما رواه الدارقطني والبيهقي من حديث عائشة.
وأقضي يوما مكانه وعمومات أخر. وقال أحمد خبر عائشة لا يثبت. ولا يقضي من
أفطر لعذر لا صنع له فيه إجماعًا.
وأما الفرض فيجب القطع لرد معصوم عن هلكة. وإنقاذ غريق ونحوهما. ويحرم
خروجه منه بلا عذر. قال المجد وغيره لا نعلم فيه خلافا. وكذا من دخل في
واجب موسع كقضاء رمضان ومكتوبة أول وقتها وغير ذلك كنذر مطلق وكفارة يجوز
تأخيرها بلا عذر اتفاقا. فيستحب إتمام النفل لغير عذر خروجا من خلاف من
أوجبه. ولعموم (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) وإن قضاه فحسن. فإن الخروج
من الخلاف مستحب بلا خلاف، ولأن به تكمل العبادة وذلك مطلوب شرعا.
(2/289)
فصل فيما نهي عن
صومه
أي في بيان ما يكره صومه ويحرم صومه. وما يتعلق بذلك.
(عن أبي هريرة أن سول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تقدموا رمضان).
أي لا تستقبلوا رمضان. وفي السنن "ولا تستقبلوا الشهر استقبالا" (بصوم يوم
أو يومين) أي نقلا مطلقا لم تجر به عادة. لأن الحكم علق بالرؤية. فمن تقدمه
بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم.
(إلا أن يكون رجل يصوم صوما) أي معتادا كالاثنين والخميس. أو كان عليه قضاء
أو نذر أو كفارة (فليصمه) قال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا
أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان. واقتصر - صلى الله عليه وسلم - على
يوم أو يومين لأنه الغالب فيمن يقصد الاحتياط لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق
بالفرض ما ليس منه كما نهى أن توصل صلاة بصلاة.
فأما إن وافق عادة فلا يكره اتفاقا. لأنه اعتاده وألفه وليس ذلك من استقبال
رمضان في شيء أو كان موصولا بصيام أيام قبله لم يكره لما يأتي. أو كان قضاء
أو نذرا أو كفارة فإنه يجب صومه. ومنع بعض الشافعية من صوم النصف الأخير من
شعبان مستندين إلى ما رواه العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا "إذا انتصف
شعبان فلا تصوموا" وقال أحمد وابن معين منكر.
(2/290)
وذهب الجمهور إلى استحبابه لما تقدمه من
الحث على صيام شعبان وقال الشيخ لا يكره صوم العشر الأخير من شعبان عند
أكثر أهل العلم.
(وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تخصوا يوم الجمعة بصيام
من بين الأيام) لكونه عيدنا أهل الإسلام. فيكره إفراده اتفاقا. إلا ما روي
عن مالك. وعن علي من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم
يوم الجمعة. فإنه يوم طعام وشراب وذكر لله. فيستحب فطره ليكون أعون على هذه
الوظائف وأدائها. بنشاط وانشراح لها وتلذذ من غير ملل ولا سآمة ولأنه يوم
عيد الأسبوع.
(إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) أن يكون يصوم يوما ويفطر يوما أو وافق
يوم عرفة أو يوم عاشوراء أو نذرا أو قضاء ونحوه لم يكره. قال الوزير اتفقوا
على كراهته إلا أن يوافق عادة والحديثان (متفق عليهما) من غير وجه.
(ولهما) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا يصومن أحدكم يوم
الجمعة أي وحده" (إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده) وفي لفظ إلا "وقبله
يوم أو بعده يوم" ولأحمد "يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم
صيامكم "إلا أن تصوموا قبله أو بعده" وله عن ابن عباس "لا تصوموا يوم
الجمعة وحده" وله عن جنادة الأزدي دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- في يوم الجمعة في
(2/291)
سبعة من الأزد وهو يتغذى فقال "هلموا إلى
الإذاء" فقلنا إنا صيام. فقال "اصمتم أمس" قلنا لا. قال "أفتصومون غدا"
قلنا لا. قال" فافطروا" فأكلنا معه. وللبخاري عن جويرية نحوه.
فيتعين القول بكراهة صومه وحده إلا ويوم قبله أو بعده. وإلا وجب فطره ومالك
معذور. قال الداودي لم يبلغه هذا الحديث. ولو بلغه لم يخالفه. ففي الصحيحين
سئل جابر أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال نعم.
وللبخاري أن يفرد بصوم. وحكى ابن المنذر وغيره عن علي وغيره المنع من صومه
وحده. وقال ابن حزم لا نعلم لهم مخالفًا في الصحابة.
وقال الشيخ وكراهة إفراد رجب وكذا الجمعة بصوم سدا لذريعة اتخاذ شرع لم
يأذن به الله من تخصيص زمان أو مكان لم يخصه الله كما وقع من أهل الكتاب
ويكره إفراد قيام ليلتها باتفاق أهل العلم. ولمسلم وغيره "لا تخصوا ليلة
الجمعة بقيام من بين الليالي" وفيه دليل على كراهة الصلاة التي تسمى
الرغائب. وفي قوله "إلا أن يصوم يوما قبله أو بعده" ونحوه أن صيام يوم
السبت ويوم الجمعة أو السبت والأحد لا يكره وهو إجماع.
وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تصوموا يوم السبت إلا
فيما افترض عليكم" وقال مالك منكر. وأبو داود منسوخ. وقال
(2/292)
الشيخ شاذ أو منسوخ. واختار هو وغيره من
المحققين أنه لا يكره صومه منفردا. وأنه قول أكثر العلماء. لقول أم سلمة
أكثر ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من الأيام يوم السبت
ويوم الأحد وكان يقول "إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم" صححه
ابن خزيمة وغيره. وللترمذي عن عائشة كان يصوم من الشهر السبت والأحد
والاثنين. ومن الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس.
ويكره صوم النيروز والمهرجان وكل عيد للكفار. أو يوم يفردونه بالتعظيم لما
فيه من موافقة الكفار في تعظيمها. قال عبد الله بن عمر من صنع ببلاد
الأعاجم نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم. قال الشيخ وغيره
ما لم يوافق عادة أو يصمه عن نذر ونحوه. قال وكذلك يوم الخميس الذي يكون في
آخر صومهم يوم عيد المائدة. ويوم الأحد الذي يسمونه يوم عيد الفصح وعيد
النور والعيد الكبير ونحو ذلك. ليس للمسلم أن يشابههم في أصله ولا في وصفه.
وقال لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم. لا من طعام
ولا من لباس ولا اغتسال. ولا إيقاد نيران. ولا تبطيل عادة من معيشة أو
عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعله وليمة. ولا الإهداء. ولا الصنع بما يستعان
به على ذلك. ولا تمكين الصبيان. ونحوهم من اللعب التي في الأعياد. ولا
إظهار زينة. وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم
(2/293)
بشيء من شعائرهم. بل يكون يوم عيدهم عند
المسلمين كسائر الأيام. لا يخصه المسلمون. بشيء من خصائصهم.
وتخصيصه بما تقدم لا نزاع بين العلماء في كفر من يفعل هذه الأمور. لما فيها
من تعظيم شعائر الكفر. وقد اشترط عمر الصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا
يظهروا أعيادهم في ديار المسلمين. فكيف إذا أظهرها المسلمون. قال عمر لا
تتعلموا رطانة الأعاجم. ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم. فإن
السخطة تنزل عليهم.
وإذا كان كذلك فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هو من شعائر دينهم.
قال غير واحد من السلف في قوله تعالى (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ
الزُّورَ) قال أعياد الكفار، وفي المسند والسنن "من تشبه بقوم فهو منهم"
"ليس منا من تشبه بغيرنا" وإن كان في العادة. فكيف بما هو أبلغ من ذلك؟.
(عن عمار) بن ياسر رضي الله عنه أنه قال (من صام اليوم الذي يشك فيه) هل هو
من رمضان أو من شعبان كأن يحول بينهم وبينه غيم أو قتر أو يتحدث الناس فيه
برؤية ولم تثبت رؤيته، أو شهد واحد فردت شهادته. أو فاسقًا فأكثر فردت (فقد
عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -) كنيته - صلى الله عليه وسلم -.
لأنه هو يقسم
بين عباد الله أحكامه زمانا ومكانا وغير ذلك. ونهى في
حياته أن يتكنى بها غيره (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وقال
(2/294)
العمل عليه عند أكثر أهل العلم. ورواه
البخاري تعليقا جزما لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه. فحكمه الرفع.
قال ابن عبد البر هو مسند عندهم اتفاقا. ورجح الحافظ أنه موقوف لفظًا مرفوع
حكما.
وقال ابن عبد البر نهى - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الشك اطراحًا
لأعمال الشك. وهذا أصل عظيم من أصول الفقه أن لا يدع الإنسان ما هو عليه من
الحال المتيقنة إلا بيقين في انتقالها. وقال الشيخ هو يوم شك أو يقين من
شعبان. ينهى عن صومه بلا توقف. لأن الأصل والظاهر عدم الهلال. فصومه تقدم
لرمضان بيوم. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صومه. وأصول الشريعة
أدل على هذا القول منها على غيره. فإن المشكوك في وجوبه لا يجب فعله ولا
يستحب. بل يستحب تركه احتياطا.
وعن أحمد تحريمه وفاقا لمالك وأبي حنيفة والشافعي. واختاره الشيخ وجمهور
المحقيقين من أصحاب أحمد وغيرهم. وهو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة
المتواترة. منها النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين. وللخمسة عن ابن عباس
"فإن حال بينكم وبينه سحاب فاكملوا العدة ثلاثين. ولا تستقبلوا الشهر
استقبالا" ومنها الأحاديث الصحيحة الصريحة بالنهي عن صيامه كقوله "فإن غم
عليكم فاكملوا العدة ثلاثين" وهي مستفيضة من غير وجه. والأمر بالشيء نهي عن
ضده. ولما فيه
(2/295)
من الزيادة في الفرض. ويستثنى القضاء
والنذر والعادة على ما تقدم.
فائدة: كره الوصال بعض أهل العلم لما في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم
- نهى عن الوصال فقالوا إنك تواصل فقال "إني لست مثلكم إني أطعم وأسقي" ولا
يحرم لأنه نهى عنه رفقًا بهم. وقيل يحرم حكاه ابن عبد البر عن الجمهور. ولا
يبطل الصوم حكاه الموفق إجماعا. ولا يكره إلى السحر لما في الصحيح "فأيكم
أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" وتركه أولى محافظة على الإتيان بالسنة في
تعجيل الفطر. وتقوية البدن على العبادة.
(وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (نهى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- (عن صيام يومين) من أيام السنة. وللبخاري "لا صوم في يومين" ولمسلم "لا
يصح الصوم في يومين (يوم الفطر) وهو يوم عيد الفطر (ويوم النحر) وهويوم عيد
الأضحى (متفق عليه) ولهما عن أبي عبيد قال شهدت العيد مع عمر رضي الله عنه
فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال: إن هذين يومين نهى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم. واليوم الآخر تأكلون فيه من
نسككم.
فأشار إلى العلة في وجوب فطرهما بالفصل من الصوم وإظهار تمامه وحده بفطر ما
بعده، ليتميز وقت العبادة عن
(2/296)
غيره. لئلا يكون ذريعة إلى الزيادة في
الواجب. كما فعل بالنصارى. وأكده الشارع باستحباب تعجيل الفطر. وتأخير
السحور. واستحباب تعجيل الفطر يوم العيد قبل الصلاة. والآخر لأجل النسك
المتقرب بذبحه ليؤكل منه. ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى.
فعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك. لأنه يستلزم النحر. ولما في صومهما
من الإعراض عن ضيافة الله تعالى لعباده.
قال النووي وغيره أجمع أهل العلم على تحريم صومهما عن نذر أو تطوع أو كفارة
أو غير ذلك. ولو نذر صومهما متعمدًا، ولا ينعقد عند الجمهور. ولا يلزمه
قضاؤهما. لقوله "لا نذر في معصية".
(وللبخاري عن ابن عمر لم يرخص) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (في أيام
التشريق أن يصمن) وهي ثلاثة بعد يوم النحر. سميت بذلك لتشريق الناس لحوم
الأضاحي فيها. وهو تقديدها ونشرها في الشمس. وهي الأيام المعدودات ولمسلم
من حديث نبيشة" أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله" ولأحمد نحوه من حديث
أبي هريرة وسعد "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي أيام منى
أيام أكل وشرب ولا صوم فيها".
وللخمسة من حديث عقبة وللبزار من حديث ابن عمر "أيام التشريق أيام أكل وشرب
وصلاة فلا يصومها أحد"
(2/297)
ولأحمد عن أنس "نهى عن صوم خمسة أيام في
السنة يوم الفطر ويوم النحرو ثلاثة أيام التشريق. وحكي أن النهي عن صومها
متوتر. وقال الوزير وغيره أجمعوا على كراهة صيام أيام التشريق. ومن قصده
نفلا فقد عصى الله. ولم يصح له إلا أبا حنيفة فقال ينعقد مع الكراهة. ولعل
من رخص في صيامها أنه لم يبلغه النهي. قال المجد أو تأوله على أفرادها.
كيوم الشك.
(إلا لمن لم يجد الهدي) فيصوم الثلاثة فيها إذا لم يصمها قبل رخصة لمن كان
متمتعا أو قارنا أو محصرا. لإطلاق الحديث وعموم الآية. وهو مذهب أحمد ومالك
والشافعي في القديم. وعن أحمد لا يجوز وحكي اتفاقا لخبر "هي أيام أكل وشرب"
والحديث يدل على الجواز، فإن حمل المطلق على المقيد واجب. وكذا بناء العام
على الخاص. وللبخاري عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا الصيام لمن تمتع بالعمرة
إلى الحج إلى يوم عرفة فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام منى.
وهذه الصيغة لها حكم الرفع. وأخرجه الدارقطني والطحاوي بلفظ "رخص رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - لللمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق"
وإن كان فيه مقال. فأصله متفق على صحته. والقول به أقوى. فيصح صوم أيام
التشريق لمن عدم الهدي إذا لم يصمها قبل ويأتي.
(2/298)
فصل في ليلة القدر
أي في بيان فضل ليلة القدر والحث على قيامها. وتحريمها في أوتار العشر
الأخير. وما يتعلق بذلك. قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي العمل الصالح
في ليلة القدر {خَيْرٌ مِنْ} العمل في {أَلْفِ شَهْرٍ} ليس فيها ليلة القدر
وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - أري أعمال الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار
أمته أن يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر. وقيل ذكر له رجل من
بني إسرائيل حمل السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب هو والمسلمون من ذلك
وتمنى ذلك لأمته. فقال "يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا وأقلها عملا"
فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر.
وسميت ليلة القدر لأن فيها تقدير الأمور والأحكام والأرزاق والآجال وما
يكون في تلك السنة إلى مثلها من السنة المقبلة. قال تعالى: {فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} والمراد التقدير الخاص لا العام. فإن الله
قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض. وقيل لعظم قدرها وشرفها عند
الله. كقوله {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}.
وقال في هذه السورة تنويها بشرفها {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن
العظيم جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا {فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ} ونزل به جبرائيل من الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
مفصلا بحسب الوقائع {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي: أي
(2/299)
شيء يبلغ درايتك قدرها ومبلغ فضلها وعظم
قدر الطاعات فيها. وهذا على سبيل التعظيم لها والتشويق إلى خيرها. وهي أفضل
الليالي على الإطلاق. وأفضل الأيام يوم الجمعة. ويوم النحر أفضل أيام
العام. وقيل يوم عرفة.
ثم قال: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} تعظيما لكثرة بركتها {وَالرُّوحُ}
جبرائيل عليه السلام والملائكة عليهم السلام يتنزلون من تنزل البركة
والرحمة والمغفرة. كما يتنزلون عند تلاوة القرآن. ويحضرون حلق الذكر.
ويضعون أجنحتهم لطالب العلم. (فيها) أي تنزل في ليلة القدر (من كل أمر) أي
بكل أمر من الخير والبركة (سلام) على أولياء الله وأهل طاعته يصلون ويسلمون
على كل عبد صالح قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل (هي) يعني ليلة القدر سلامة
وخير {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي يدوم ذلك السلام والخير إلى مطلع
الفجر. ولأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حضر
رمضان قال "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه
أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير ألف
شهر من حرم خيرها فقد حرم" ونقل جمع من أهل المذاهب أنها خاصة بهذه الأمة.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قام ليلة
القدر) بالتهجد فيها والصلاة والذكر والدعاء والفكر. وهذه صيغة تغريب وندب
دون إيجاب. وأجمعت الأمة على استحبابه
(2/300)
ويحصل بمطلق ما يصدق عليه القيام. وقيل
أكثر الليل. وليس من شرطه استغراق جميع أوقات الليل. (إيمانا) تصديقا بأنه
حق مقتصد فضيلته (واحتسابا) لثوابها عند الله لا يريد إلا الله وحده لا
يريد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص.
(غفر له ما تقدم من ذنبه، متفق عليه. زاد أحمد وماتأخر) أي من ذنبه. وله عن
عبادة "من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"
وللنسائي من حديث قتيبة "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" قال الحافظ
وإسناده على شرط الصحيح. أي يقوم يصلي ويقرأ ويرغب إلى الله في الدعاء
والمسألة. لعله يوافقها.
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتهجد في ليالي رمضان. ويقرأ قراءة مرلتلة
لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ. فجمع بين
الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر. وهذا أفضل الأعمال في ليالي العشر
وغيرها. وقيامها يكفر الذنوب لمن وافقت له شعر بها أو لم يشعر. وهي باقية
لم ترفع للأخبار المتواترة بطلبها.
(ولهما عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تحروا) أي أطلبوا
(ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) قال ابن عباس دعا عمر أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا على أنها في
العشر الأواخر. وتقدم الحث على قيام العشر الأواخر من رمضان. وأنه - صلى
الله عليه وسلم - كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها.
(2/301)
ويعتكفها هو ونساؤه. وفي الصحيحين عن أبي
سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "اعتكفت الأول التمس هذه
الليلة ثم الأوسط ثم أتيت فقيل لي إنها العشر الأواخر فمن أحب منكم أن
يعتكف فليعتكف" فاعتكف الناس معه. وقالت عائشة "كان إذا دخل العشر شد مئزره
وأحيا ليله وأيقظ أهله" حتى قال بعض السلف {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} إنه طلب ليلة القدر. والمعنى أن
الله لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام. أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر
لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب
ليلة القدر.
فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصا في الليالي المرجوة
فيها. فمن ههنا كان يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساءه
ليتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر فيعتكفها قطعا لأشغاله وتفريغا
لباله وتخليا لمناجات ربه وذكره ودعائه.
(وللبخاري عنها) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تحروا ليلة القدر
(في الوتر منها) أي من العشر الأواخر من رمضان. ولمسلم عن ابن عمر وأحمد عن
علي وغيره. وهي آكد عند جمهور العلماء. قال الشيخ فعلى هذا إن كان الشهر
تامًا فكل ليلة من العشر وتر إما باعتبار الماضي كإحدى وعشرين. وإما
باعتبار الباقي كالثانية. وإن كان ناقصًا فالأوتار باعتبار الباقي موافقة
لها باعتبار الماضي.
(2/302)
وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها
المؤمن في العشر الأخير كله. كما قال - صلى الله عليه وسلم - "تحروها في
العشر الأواخر" وللبخاري عن ابن عباس مرفوعا "التمسوها في العشر الأواخر من
رمضان. ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى" وفي رواية
"سبع يمضين أو في سبع يبقين".
ولمسلم من حديث أبي سعيد "أبينت لي فنيستها فالتمسوها في العشر الأواخر من
رمضان. التمسوها في التاسعة والخامسة والسابعة" قيل لأبي سعيد ما التاسعة
والخامسة والسابعة قال إذا مضت إحدى وعشرون فالتي تليها اثنتان وعشرون. فهي
التاسعة. فإذ مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة. فإذا مضت خمس وعشرون.
فالتي تليها الخامسة. وللترمذي وصححه من حديث أبي بكرة "التمسوها في تسع
بقين أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة" فدلت هذه الأحاديث على أن أرجى
وجودها في تلك الليالي.
(ولهما من حديث ابن عمر) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (من كان
متحريها) أي من كان ملتمسا لليلة القدر طالبا جزيل الثواب فيها (فليتحرها
في السبع الأواخر) وذلك أن رجالا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر. فقال "أرى رؤياكم قد تواطأت"
ولمسلم قال "التمسوها
في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أوعجز فلا يغلب
على السبع البواقي" ولأحمد من حديث أبي ذر "التمسوها
(2/303)
في السبع الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها".
(ولأحمد) من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (تحروها
ليلة سبع وعشرين) وفي رواية "من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين"
ولمسلم عن أبي بن كعب قال والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا
رسول الله بقيامها. وهي ليلة سبع وعشرين. وفي لفظ كان يحلف على ذلك. ويقول
بالآية والعلامة التي أخبرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وله عن
ابن عباس مرفوعا: عليك بالسابعة وإسناده على شرط الصحيح. وله عن معاوية
ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. وصححوا وقفه.
ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - قام بهم في السابعة إلى آخر الليل حتى
خشوا أن يفوتهم الفلاح. وجمع أهله ليلتئذ وجمع الناس. واستدل أبي عليها
بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها. ورأى بعض السلف الملائكة في الهواء
طائفين بالبيت الحرام. ورجل بالسواد يرى النخل واضعا سعفه بالأرض. وذكر غير
ذلك.
قال الشيخ وقد يكشف الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة فيرى أنوارها.
أويرى من يقول له هذه ليلة القدر. وقد يفتح الله على قلبه من المشاهدة ما
يتبين به الأمر.
وإن وقع ليلة جمعة في وتر منها فهي أرجى من غيرها. ولم يرد نص صريح عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها في ليلة معينة. والحكمة في ذلك والله
أعلم ليجتهد المؤمن في طلبها في هذه الليالي
(2/304)
الشريفة. كل ليلة يجد في العبادة طمعًا في
إدراكها. يقول في كل ليلة هذه الليلة ليلة القدر. واجتهاده - صلى الله عليه
وسلم - في هذه الليالي العشر واعتكافه فيها لأجل هذه الليلة يدل على ذلك.
وفيه أوقال أرجحها أنها في وتر العشر الأواخر. وأرجاها عند الجمهور ليلة
سبع وعشرين.
(وعن عائشة قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول
فيها؟) استفهام استرشاد أي: ما أقول فيها من الدعاء الجامع (قال قولي اللهم
إنك عفو) العفو عفو الله عن خلقه. والصفح عن الذنوب. وترك مجازاة المسيء.
والمحو من عفت الريح الأثر إذا درسته. فكان العافي عن الذنب يمحوه بصفحه
عنه (تحب العفو) التجاوز عن الذنوب (فاعف عني) تجاوز عني فلا تؤاخذني بجرمي
واستر على ذنبي وأكفني عذابك واصرف عني عقابك رواه أحمد والنسائي وابن ماجه
و (صححه الترمذي) والحاكم وغيرهما.
وللنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا "سلوا الله العفو العافية والمعافاة
الدائمة فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة" فإن الشر الماضي يزول
بالعفو والحاضر بالعافية. والمستقبل بالمعافاة لتضمنها دوام العافية ويكثر
من الدعاء والاستغفار فيها لأن الدعاء فيها مستجاب ويذكر حاجته في دعائه
الذي يدعو به تلك الليلة.
(2/305)
باب الاعتكاف
العكوف لغة لزوم الشيء والاحتباس والمكث والمقام. واعتكف لزوم المكان. ومنه
{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} وقال {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}.
وشرعا لزوم المسجد لعبادة الله تعالى على وجه مخصوص. ويسمى جوارا لا خلوة.
وهو سنة وقربة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهو من الشرائع القديمة. وفيه
من القرب المكث في بيت الله. وحبس النفس على عبادة الله. وقطع العلائق عن
الخلائق للاتصال بخدمة الخال. وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله.
والتحلي بأنواع العبادات المحضة من الفكر والذكر وقراءة القرآن والصلاة
والدعاء والتوبة والاستغفار إلى غير ذلك من أنواع القرب. وفي الحديث
"المعتكف يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها وأعقب الصوم
اقتداء بالكتاب العزيز. فإنه تعالى نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم.
وفي ذكره بعده إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام.
كما هو ثابت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأتباعهم.
قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} أي لا تجامعوهن ولا تقربوهن
{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} أي معتكفون {فِي الْمَسَاجِدِ} أي ما دمتم عاكفين
في المساجد. ولا تقربوهن في غيرها. والمراد
(2/306)
بالمباشرة هنا الجماع ودواعيه من تقبيل
ومعانقة ونحو ذلك. واتفق أهل العلم على ان الوطء في الاعتكاف محرم لهذه
الآية والأخبار. وقال ابن كثير وغيره هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن
المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجد. ولو ذهب إلى منزله لحاجة
فلا يحل له أن يلبث فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك. وليس له أن يقبل
امرأته ولا أن يضمها إليه ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه اهـ.
وأجمع أهل العلم على فساد الاعتكاف بالجماع فيه. سواء أنزل أو لمنزل منذورا
كان أو مسنونا. وإن باشر دون الفرج لم يفسد عند أكثر أهل العلم. ولا تحرم
المباشرة دون الفرج بلا شهوة اتفاقا. ولأن عائشة كانت ترجله. وحكى ابن عبد
البر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز إلا في مسجد يجمع فيه. وحكي عن بعض
المالكية وبعض الشافعية في كل مسجد. وقد وصف تعالى المعتكف بكونه في المسجد
وأمر بتطهيره له والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في مسجده.
قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني الأحكام التي ذكرها في الصيام
والاعتكاف أي ما منع الله منها. وما أباحه {فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
ينتهون فينجون من العذاب. وفي هذه الآية. وقوله
{طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ}
دلالة واضحة على أن الاعتكاف من أفضل ما
(2/307)
يتقرب به العبد إلى الله عز وجل.
(وعن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف) أي يلزم المسجد
ويقيم فيه بنية الاعتكاف (العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله) ولهما عن
ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من
رمضان. ولمسلم قال نافع وقدأراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأحمد والترمذي وصححه عن أنس أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان.
(ثم اعتكف أزواجه) - صلى الله عليه وسلم - (من بعده) أي من بعد وفاته صلوات
الله وسلامه عليه (متفق عليه) فثبت من فعله من غير وجه مما يدل على مشروعية
الاعتكاف. واتفق عليه أهل العلم. وقال أحمد لا أعلم عن أحد من العلماء
خلافا أنه مسنون. ودل على استحباب المداومة عليه في العشر الأواخر تخصيصه
بالمداومة عليه فيها. لطلب ليلة القدر. وأنه لم ينسخ بل استمر عمل السلف
به. ودل على أن النساء كالرجال في الاعتكاف.
ولا خلاف في عدم وجوبه. لأنه لم يأمر به أصحابه. وفي الصحيحين وغيرهما "من
أحب أن يعتكف فليعتكف" إلا إذا نذره ويتأكد في العشر الأواخر. ويسن كل وقت
حكاه غير واحد إجماعا. فلا يختص بزمان إلا ما نهي عن صيامه
(2/308)
للاختلاف في جوازه بغير صوم. وليس له ذكر
مخصوص. ولا فعل آخر سوى اللبث في المسجد بنية الاعتكاف.
(وعن عمر) رضي الله عنه (أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت في
الجاهلية) وهي ما كان قبل الإسلام (أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال
أوف بنذرك متفق عليه) ففيه جواز الاعتكاف بغير صوم. لأن الليل ليس بوقت
صوم. وقد أمره أن يفيء بنذره على الصفة التي أوجبها وفي رواية للبخارية
فاعتكف ليلة. وللدارقطني من حديث ابن عباس "ليس على المعتكف صوم إلا أن
يجعله على نفسه" وهذا مذهب الشافعي وأحمد والجمهور.
واشترطه أبو حنيفة ومالك. وقال المجد والشيخ وغيرهما ليس في اشتراط الصوم
في الاعتكاف نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح. ولا يثبت بدون
ذلك. وما روي عن عائشة لا اعتكاف إلا بصوم فموقوف. ومن رفعه فقد وهم. ثم لو
صح فالمراد به الاستحباب. فإن الصوم فيه أفضل. اهـ. ـ. وللبخاري أن سؤال
عمر كان بالجعرانة مرجعه من حنين.
فهو رد على من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل المنع من الصايم بالليل. وكونه
عبادة تصح في الليل فلم يشترط له الصيام كالصلاة.
وإن نذر يوما لم تدخل ليلته إجماعا. إلا ما روي عن
(2/309)
مالك. وقال الخليل اليوم اسم لما بين طلوع
الفجر وغروب الشمس. وكما لم يدخل في مسمى الليلة. وفيه أن الاعتكاف يلزم
بالنذر. وفي الصحيح "من نذر أن يطيع الله فليطعه" فهو عبادة يجب الوفاء به
إجماعا. حكاه الوزير وغيره. ولدارقطني وغيره. نذر أن يعتكف في الشرك. فدل
على أن النذر من الكافر لا يسقط في الإسلام.
ومن نذر الصوم والاعتكاف لزماه حكاه الوزير وغيره إجماعًا. وإن علقهما أو
أحدهما بشرط نحو لله علي أن أعتكف شهر رمضان إن كنت مقيمًا صحيحًا فصادفه
مريضًا أو مسافرًا فله شرطه لظاهر الآية والخبر. ومتى قطعه فعليه قضاؤه حيث
كان واجبا بالنذر. وإن كان تطوعًا لم يلزمه شيء من التطوعات بالشروع فيها
كما تقدم سوى الحج والعمرة.
ولا يجوز لزوجة ولا لقن اعتكاف بلا إذن اتفاقا ولهما تحليلهما من تطوع وإن
أذنا لهما شرعا. لأنه - صلى الله عليه وسلم - أذن لعائشة وحفصة وزينب في
الاعتكاف. ثم منعهما بعد أن دخلا فيه متفق عليه. ولخبر لا تصوم المرأة
وزوجها شاهد إلا بإذنه ولما فيه من تفويت حقهما. وإن أذنا في منذور فلا.
(ولهما من حديث ابن عمر) يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
(صلاة في مسجدي هذا) يعني مسجد المدينة (خير من ألف صلاة فيما سواه) من
سائر المساجد (إلا المسجد الحرام) أي
(2/310)
فصلاة فيه أفضل (زاد أحمد) من حديث جابر
(وصلاة في المسجد الحرام) وهو مسجد مكة (أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)
قال ابن عبد البر هو أحسن حديث روي في ذلك. ولأحمد من حديث الزبير مثله.
وللبيهقي وغيره نحوه بسند حسن. وفيه "صلاة في مسجد بيت المقدس بخمسمائة
صلاة".
ودلت هذه الأحاديث على فضيلة هذه المساجد وميزتها على غيرها. فمن عينها
بنذر تعينت لفضل العبادة فيها على غيرها. لكونها مساجد الأنبياء. ولأن
الأول قبلة الناس وإليه حجهم والثاني أسس على التقوى. والثالث كان قبلة
الأمم السالفة. وتقدم حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد
الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" لفضلها وشرفها على غيرها.
فلا يستقيم أن يقصد بالزيارة غيرها قال الشيخ والجويني وغيرهما يحرم شد
الرحال إلى غيرها عملا بظاهر الحديث وأن من نذر إتيان غيرها لصلاة أو غيرها
لم يلزمه غيرها. لأنه لا فضل لبعضها على بعض. ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة
في الأفضل لم يجزئه فيما دونه فمن نذره في المسجد الحرام لم يجزئه فيما
سواه من سائر المساجد. ومن نذره في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -
أجزأه فيه وفي المسجد الحرام. ومن نذره في الأقصى أجزأه فيه وفيهما.
(2/311)
ولأبي داود وغيره عن جابر أن رجلا سأل
النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن
أصلي في بيت المقدس فقال "صل ههنا" فسأله فقال "صل ههنا" فسأله فقال "شأنك
إذا" ومن نذره في غير المساجد الثلاثة أجزأه في كل مسجد يجمع فيه. قال
الحافظ وغيره وإن نذر إتيان غيرها لصلاة أو غيرها لم يلزمه غيرها بلا خلاف.
وحكاه النووي وغيره.
واختار شيخ الإسلام في موضع: يتعين ما امتاز بمزية شرعية كقدم وكثرة جمع.
والمراد بدون شد رحل. والقياس لزومه لكن ترك للخبر. ولأن الله تعالى لم
يعين لعبادته موضعا فلم يتعين بالنذر سوى الثلاثة لمزيتها. وقيل ومسجد
قباء. لمن كان بالمدينة. لإتيانه عليه الصلاة والسلام إليه. ويدخل في حكم
المسجد ظهره عند الجمهور لعموم قوله تعالى (فِي الْمَسَاجِدِ) ورحبته
المحوطة منه اتفاقا. ومنارته التي هي وبابها فيه منه وما زيد فيه منه لعموم
الخبر. وقاله طائفة من السلف. واختاره الشيخ.
وقال حكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام. فيثبت له جميع أحكامه من
المضاعفة وغيرها. وروي عن أبي هريرة مرفوعا "لو بني هذا المسجد إلى صنعاء
كان مسجدي" وقال عمر لما زيد فيه لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لى الله عليه وسلم. قال ابن رجب وقد قيل
إنه لا يعلم عن السلف خلاف في المضاعفة. وإنما خالف بعض المتأخرين ولأحمد
في قصة الحديبية أنه كان يصلي في الحرم.
(2/312)
قال ابن القيم وفيه كالدلالة على أن مضاعفة
الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخص بها المسجد وأن قوله "صلاة في المسجد
الحرام" كقوله (أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) وكان الإسراء من بيت أم
هانئ اهـ. ـز والمسجد الجامع أفضل لرجل تخلل اعتكافه جمعة. لئلا يحتاج إلى
الخروج إليها فيترك الاعتكاف مع إمكان التحرز منه. ولا يلزم عند جمهور
العلماء منهم أبو حنيفة وأحمد. وهو ظاهر مذهب الشافعي. وحكاه النووي عن
مالك. لأن الخروج إليها لا بد منه كالخروج لحاجة. والخروج إليها معتاد.
فكأنه مستثنى، وأجمعوا على وجوبه.
ولا يصح إن وجبت الجماعة بالاعتكاف فيما تقام فيه الجمعة وحدها لوجوب
الجماعة كما تقدم. ويحرم تركها. وقال الوزير اجمعوا على أن كل مسجد تقام
فيه الجماعات فإنه يصح فيه الاعتكاف. ومن لا تلزمه ففي كل مسجد كالمعذور
والمرأة. سوى مسجد بيتها. حكاه الوزير وغيره إجماعا. إلا أن أبا حنيفة جوزه
والسنة الصحيحة أولى بالاتباع. ولانتفاء حكم المسجد عنه في سائر الأحكام.
ولو أجزأ لفعله أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. واعتكف بعض نسائه معه
في المسجد وهي مستحاضة ترى الدم. وربما وضعت تحتها الطشت من الدم. رواه
البخاري، وسئل ابن عباس عن امرأة
(2/313)
جعلت عليها أن تعتكف في مسجد نفسها ببيتها
فقال بدعة. وأبغض الأعمال إلى الله البدع. ويسن استتار معتكفه بخباء في
مكان لا يصلي فيه الرجال. ويباح لرجل منه لاعتكافه - صلى الله عليه وسلم -
في قبة.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (كان) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا
اراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه) متفق عليه. فدل على أن أول وقت
الاعتكاف بعد صلاة الفجر. والحديث ظاهر في ذلك وكانت عادته - صلى الله عليه
وسلم - أنه لا يخرج من منزله إلا عند الإقامة. وهذا قول أحمد وإسحاق. وحمله
بعض أهل العلم على الجواز. وأولوا الحديث فقالوا إنه دخل من أول الليل.
ولكن إنما يخلو بنفسه في المكان الذي أعده للاعتكاف بعد صلاة الصبح. ولا
يخفى بعده.
أما إن نذره كالعشر الأخير أو عشر ذي الحجة. وكشهر بعينه دخل معتكفه قبل
الزمن المنذور اعتكافه. لأن أوله الغروب فيدخل عند أول جزء من الليل. وهو
قبيل الغروب من اليوم الذي قبل نذر اعتكافه. وخبر عائشة في التطوع والتطوع
يشرع فيه متى شاء. واستحب أهل العلم لمن اعتكف العشر الأخير منه أن يبيت
ليلة العيد في معتكفه ويخرج منه إلى المصلى. ليصل طاعة بطاعة قال أحمد هكذا
حديث عمرة عن عائشة. وقاله مال. وذكر أنه بلغه عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - وأنه بلغه عن أهل الفضل الذين مضوا. وعن إبراهيم كانوا يستحبون ذلك.
(2/314)
ولما ورد من الترغيب في قيام ليلة العيد.
وقال ابن الماجشون إنه السنة المجمع عليها.
وأما المنذور فلا يخرج إلا بعد آخر يوم منه اتفاقا. ليستوفي جميعه. وإن نذر
اعتكاف العشر الأخير فنقص الشهر أجزأه اتفاقا. بخلاف ما لو نذر عشرة أيام
من آخر الشهر فنقص يوما قضى يوما اتفاقا. وإن فاتته العشر قضاه خارج رمضان.
لفعله عليه الصلاة والسلام في العشر الأول من شوال.
والأولى من قابل لا سيما لطلب ليلة القدر. وإن نذر زمنا معينا تابعه
ولوأطلق اتفاقا. إلا في رواية عن الشافعي. لاقتضاء ذلك. سواء كان اعتكافا
أو صوما. وإن نوى عددا فله تفريقه.
(ولهما عنها) أنها قالت (إنه ليدخل على رأسه) صلوات الله وسلامه عليه (وهو)
معتكف (في المسجد فأرجله) أي تمشط شعره وتنظفه وتحسنه. وفي رواية أنها كانت
ترجله وهي حائض. وهو معتكف في المسجد. وهي في حجرتها يناولها رأسه. أي
فتمشطه وفيه دليل على أن من أخرج بعض بدنه من المسجد لم يقدح في صحة
اعتكافه. وهو اتفاق.
وإن خرج جميعه مختارا عمدا له منه بد بطل أتفاقا. وإن قل. وأنه يجوز
للمعتكف التنظف والتطيب والحلق والغسل والتزين إلحاقا له بالترجيل.
والجمهور أنه لا يكره فيه إلا ما
(2/315)
يكره في المسجد. وفيه أن الحائض طاهرة. وأن
تناول المرأة رأس زوجها وترجيله ولمس جلده بغير لذة مباح وإنما يمنع
مباشرتها بلذة قالت (وكان لا يدخل البيت) إذا كان معتكفا (إلا لحاجة) وفي
لفظ إلا لحاجة الإنسان. وفسرها الزهري بالبول والغائط.
وأجمع أهل العلم على استثنائهما. وإلا لم يصح لأحد اعتكاف. لأنه لا يسلم من
ذلك. وكقيء بغتة. وطهارة واجبة. وغسل منتجس يحتاجه. لأنه في معنى البول
والغائط. وجمعة وشهادة لزمتاه إجماعا. ومرض يتعذر القيام معه اتفاقا. وقال
الوزير وغيره أجمعوا على أنه يجوز للمعتكف الخروج إلى ما لا بد له منه
كحاجة الإنسان والغسل من الجنابة والنفير والخوف الفتنة ولقضاء عدة المتوفى
عنها زوجها ولأجل الحيض والنفاس.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور له إتيانه بمأكل ومشرب لعدم من
يأتيه بهما من غير أن يأكل ويشرب في بيته.
ويجوز عند الشافعي لما فيه من ترك المروءة. ويستحي أن يأكل وحده. وكما لا
يبطل الاعتكاف فلا ينقص مدته. لأنه كالمستثنى عادة. لكونه إما واجبا وإلا
يسيرا مباحا لحاجة. وقام مع صفية إلى بيتها.
(ولأبي داود عنها) رضي الله عنها (قالت السنة) أي الطريقة المتبعة (على
المعتكف أن لا يعود مريضا) وله عنها "كان يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما
هو ولا يعرج يسأل
(2/316)
عنه". وفي الصحيحين عنها إن كنت لأدخل
البيت للحاجة والمريض فيه فما اسأل عنه إلا وأنا مارة (ولا يشهد جنازة) فدل
على أنه لا يجوز للمعتكف أن يخرج من معتكفه لعيادة مريض ولا لتشييع الجنازة
ولا لما يماثلهما من القرب ما لم يتعين عليه ذلك مع عدم من يقوم به.
فلا يزور قريبا ولا يتحمل شهادة ولا يؤديها. ولا يغسل ميتا ونحو ذلك. فلا
يخرج لكل قربة لا تتعين عليه اتفاقا. لأن له منه بدا كغيره. وإن تعين فله
الخروج له لتعينه كالجمعة وشهادة لزمتاه لوجوبهما بأصل الشرع. وإن اشترط في
ابتداء الاعتكاف الخروج إلى عيادة مريض وشهود جنازة وكل قربة لم تتعين عليه
وما له منه بد كعشاء في بيته فله شرطه. وقال في المبدع وهو قول جماعة من
الصحابة والتابعين. وقاله الشافعي وأحمد وغيرهما. وقال الوزير وهو الصحيح
عندي.
قال إبراهيم كانوا يستحبون للمعتكف هذه الخصال. لا الخروج للتجارة والتكسب
بالصنعة في المسجد. ولا الخروج لما شاء فلا يجوز اشتراطه لأنه ينافي
الاعتكاف صورة ومعنى. وإن خرج لما لا بد منه فباع واشترى أو سأل عن مريض أو
غيره ولم يعرج أو يقف لذلك جاز اتفاقا. وإن قال متى مرضت أو عرض لي عارض
خرجت فله شرطه. وإذا زال العذر فعليه الرجوع. إلى اعتكاف واجب.
(2/317)
(ولا يمس امرأة ولا يباشرها) المارد
بالمباشرة هنا الجماع قرينة ذكر المس قبلها. وتقدم نقل الإجماع على ذلك.
ويؤديه ما رواه الطبراني وغيره عن قتادة في سبب نزول الآية {وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أنهم كانوا إذا
اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته فجامعها إن شاء فنزلت الآية. وفسرتها
السنة. وأجمع أهل العلم على بطلان الاعتكاف بالجماع. والمنع من المس بشهوة.
وجوازه بدونها.
وفي هذه الأخبار ونحوها أنه يستحب للمعتكف اجتناب ما لا يعنيه من جدال
ومراء. وفي الحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينيه" وإذا حسن إسلام
المرء اقتضى ترك ما لا يعنيه كله من المحرمات والشبهات والمكروهات. وفضول
المابحات في سائر الأوقات. وفي الاعتكاف أولى. فالمكروه في غيره أشد كراهة
فيه حتى كره بعض أهل العلم تعليم القرآن لئلا تنصرف همته عن تدبر القرآن
إلى حفظه على القراء.
فيكون قد صرف فهمه عن تدبر أسراره لنفسه إلى حفظ ظاهر نطقه لغيره. وإلا
فليس من عمل اللسان للمعتكف ما يعدل قراءة القرآن واستماعه. وهذا كله إشارة
إلى أن الاعتكاف حبس النفس وجمع الهمة على نفوذ البصيرة في تدبر القرآن.
ومعاني التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وذكر الله عز وجل فكلما جمع
الفكر يناسب هذه العبادة. وكلما بسط من الفكر ونشر من الهمة ينافيها.
(2/318)
|