دار حكيم فهو آمن" وعاش مائة وعشرين سنة
وكان (يشترط على من أعطاه مالًا مقارضة) أي مضاربة بسهم معلوم للعامل
(ألا يجعله في كبد رطبة) أي لا يشتري به الحيوانات لأن ما كان له روح
عرضة للهلاك بطرو الموت عليه.
(ولا يحمله في بحر) مخافة الغرق (ولا ينزل به بطن مسيل) فيهجم عليه
السيل فيتلفه. وهذه الثلاثة من أخطر ما يكون (فإن فعل ضمن) لتعديه ما
شرط عليه. وتفريطه بتعرضه لهلاك المال (رواه الدارقطني) والبيهقي. وقوى
الحافظ إسناده فدل على جواز نحو هذه الشروط وعلى هذه المضاربة وفي
تجويز المضاربة أيضًا آثار عن جماعة من الصحابة –رضي الله عنهم.
وأما اشتراط النفقة فيها ففي الاختيارات لا نفقة للمضارب إلا بشرط أو
عادة. فإن شرطت مطلقًا فله نفقة مثله طعامًا وكسوة. وقد يخرج لنا أن
للمضارب في السفر زيادة على نفقة الحضر. كما قلنا في الولي إذا أحج
الصبي اهـ. وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف جبر من الربح قبل
قسمته أو تنضيضه. وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال.
(وعن ابن مسعود) -رضي الله عنه- (قال اشتركت)
أي: وقعت شركة بيني (أنا وعمار) بن ياسر، (وسعد)
بن أبي وقاص (فيما نصيب يوم بدر) الوقعة
(3/258)
المشهورة في السنة الثانية من الهجرة (فجاء
سعد بأسيرين) وأخفق الآخران. قال ابن مسعود (ولم أجئ أنا وعمار بشيء)
وأقرت شركتهم (رواه أبو داود) والنسائي وغيرهما. قال أحمد أشرك بينهم
النبي – - صلى الله عليه وسلم -.
فدل على صحة الشركة في المكاسب. وتسمى شركة الأبدان. وهذا مذهب أبي
حنيفة ومالك وأحمد وجمهور أهل العلم. وهي أن يشتركا فيما يكتسبان
بأبدانهما. وما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله أو يوكل كل منهما
صاحبه أن يتقبل أو يعمل عنه في قدر معلوم. ويعينان الصنعة. أو على أجرة
وعمل وما يحصل لهما بعد العمل والأجرة مشترك بينهما. وتصح شركة الأبدان
في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات. قال الشيخ وتصح شركة دلالين
وجعلها بمنزلة خياطة الخياط. وتجارة التاجر. وموجب العقد المطلق
التساوي في العمل والأجر. ومن عمل أكثر وطلبه فله بقدره. وإن مرض
أحدهما فالكسب بينهما وإن طالبه الصحيح أن يقيم غيره مقامه لزمه.
(وله عن رويفع) بن ثابت بن السكن من بني مالك بن النجار الأنصاري رضي
الله عنهم توفي ببرقة سنة ست وخمسين (إن كان أحدنا) يعني الأنصاري
بالمدينة (ليأخذ نضو أخيه) النضو المهزول من الإبل فيعلفه ويركبه (على
أن له النصف مما يغنم) وذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل
على جواز أخذ الرجل راحلة صاحبه في الجهاد على أن تكون الغنيمة بينهما.
وكذا غيره
(3/259)
من سائر المكاسب المباحة. وذكر بعض أهل
العلم شركة الوجوه، وهي: أن يشتركا في ذمتيهما بجاههما فما ربحاه
فبينهما على ما شرطاه. والوضيعة على قدر ملكيهما. وهي كشركة العنان.
لأنها في معناهما فأعطيت حكمها.
وذكروا شركة المفاوضة، وهي: أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي
أو بدني من أنواع الشركة. وهي الجمع بين عنان ووجوه ومضاربة وأبدان.
فتصح لأن كل واحد منها يصح منفردًا فصح مع غيره كحالة الانفراد.
باب المساقاة
أي والمزارعة. والمساقاة من السقي. سميت بذلك لأنه أهم أمرها بالحجاز.
وهي دفع شجر له ثمر يؤكل. ولو غير مغروس. إلى آخر ليقوم بسقيه. وما
يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمر نفس الشجر للمالك. وللعامل الباقي. أو
على الشطر والشطر
الثاني للعامل. بحسب ما يصطلحان عليه. والمزارعة مفاعلة
من الزراعة. وهي دفع أرض لمن يعمل عليها أو أرض وحب
لمن يزرعه ويقوم عليه. أو حب مزروع ينمى بالعمل لمن
يقوم عليه بجزء معلوم. قال الشيخ هما أصل من المواجرة
وأقرب إلى العدل والأصول. فإنهما يشتركان في المغنم
والمغرم اهـ.
(3/260)
ويصحان بما يؤدي المعنى. وهما جائزتان
بعموم الكتاب والسنة والإجماع. فإن المكاسب من الضرب في الأرض وابتغاء
فضل الله. وكان أهل المدينة أهل حرث. وكثير من أهل الأشجار والأراضي
يعجزون عن عمارتها وسقيها. ولا يمكنهم الاستئجار عليها. وكثير من الناس
لا أرض لهم ولا شجر ويحتاجون إلى الثمر. والعمل فيه من ابتغاء فضل
الله. وهو من أحل المكاسب والسنة طافحة بذلك. وفيه فضل إذا لم يشغل عن
الأمور المطلوبة ففي الصحيحين "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا
فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة".
(عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (قال عامل النبي - صلى الله عليه وسلم -
أهل خيبر) بعد أن فتحها الله عليه سنة سبع (بشطر ما يخرج منها من ثمر
أو زرع متفق عليه) ولمسلم "دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن
يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها" والشطر هنا بمعنى النصف. ولأحمد
"دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف" فدل الحديث على صحة المساقاة
والمزارعة. وهو قول الخلفاء وفقهاء الحديث وعمل المسلمين في جميع
الأعصار والأمصار. وأنه لا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض. وهو
الذي عليه عمل الناس.
وثبت أن عمر قال إن جاء عمر بالبذر من عنده فالشطر. وإن جاءوا بالبذر
فلهم كذا. واشتهر فلم ينكر. ودل على بيان
(3/261)
الجزء المساقى عليه من نصف أو ربع أو
غيرهما من الأجزاء المعلومة. فلا يجوز على مجهول.
(وفي رواية نقركم بها) أي نمكنكم على ذلك (ما شئنا) أي إلى أن نشاء
إخراجكم. لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عازماً على إخراجهم من جزيرة
العرب. وتقدم أنهم أقروا حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه. فدل على صحة
المساقاة والمزارعة وإن كانت المدة مجهولة.
(وقال أبو جعفر) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي ثقة
فاضل توفي سنة 115هـ (عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر
بالشطر) مما يخرج منها (ثم أبو بكر) -رضي الله عنه- مدة خلافته (ثم
عمر) -رضي الله عنه- مدة خلافته (وعثمان) -رضي الله عنه- كذلك (وعلي)
-رضي الله عنه- كذلك (ثم أهلوهم) آل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (إلى
اليوم) يعني إلى عصر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب رضي الله عنهم, قال أبو جعفر (يعطون الثلث والربع) مما يخرج من
ثمر أو زرع.
وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على
الثلث والربع. وزارع علي وسعد بن
(3/262)
مالك وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز
والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل علي وآل عمر. وعن طاووس أن معاذ بن جبل
أكرى الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر
وعثمان على الثلث والربع. فهو يعمل به إلى يومك هذا. رواه ابن ماجه.
وذكر البخاري وغيره آثاراً كثيرة عن السلف توجب أنه لم ينقل خلاف في
الجواز. وتمسك بذلك الجمهور. وقالوا يجوز العقد على المساقاة والمزارعة
مجتمعتين. فتساقيه على النخل وتزارعه على الأرض. كما جرى في خيبر.
ويجوز العقد على كل واحدة منهما منفردة. وفيه أيضاً بيان الجزء المساقى
عليه من نصف أو ربع أو غيرهما من الأجزاء المعلومة.
وقال ابن القيم في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من
الغلة من ثمر أو زرع. فإنه - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر
واستمر على ذلك إلى حين وفاته - صلى الله عليه وسلم - ولم ينسخ البتة.
واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه. وليس هذا من باب المواجرة في شيء بل
من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء اهـ. ومذهب أحمد وغيره أن
المساقاة والمزارعة عقد جائز قياساً على المضاربة. والجمهور على أنه
عقد لازم دفعاً للضرر. وقيل عليه العمل. واختاره الشيخ وغيره. وعليه
فحكمها حكم الإجارة اللازمة. وعلى الأول إن فسخ المالك فللعامل الأجرة
وإن فسخ العامل فلا شيء له.
وفي التبصرة جائزة من قبل العامل لازمة من جهة المالك.
(3/263)
وذكره الشيخ حمد بن معمر عن الشيخ محمد بن
عبد الوهاب. وأنه عليه العمل. وقال شيخ الإسلام إذا ترك العامل العمل
حتى فسد الثمر فينبغي أن يجبر عليه ضمان نصيب المالك. لأن ترك العمل من
غير فسخ العقد حرام وغرر. وهو سبب في عدم الثمر. وقال إذا فسدت
المساقاة أو المزارعة استحق العامل نصيب المثل. وهو ما جرت العادة في
مثله. لا أجرة المثل. وقال الصحيح من قولي العلماء أن هذه المشاركات
إذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل. فيجب من الربح أو النماء إما
مثله وإما نصفه كما جرت العادة في مثل ذلك. ولا يجب أجرة مقدرة. فإن
ذلك قد يستغرق المال. وأضعافه. وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير ما
يجب في الصحيح. ليس هو أجرة مسماة بل جزء مشاع من الربح مسمى. فيجب في
الفاسد نظير ذلك.
(وقال رافع بن خديج) بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم الخزرجي الأنصاري
عرض يوم بدر وأجيز يوم أحد وشهدها وما بعدها قيل مات سنة ثلاث وسبعين
وقال البخاري مات زمن معاوية رضي الله عنهما. قال (كراء الأرض) أي
إجارتها (بالذهب والفضة) ولأبي داود وغيره عنه مرفوعاً "أما بالذهب
والفضة فـ (ـلا بأس به) وما نهي عنه فلأجل الجهالة والغرر والحظر. وأما
بشيء معلوم فلا. وذكر ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء
الأرض بالذهب والفضة. ونقل
(3/264)
ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه.
قال رافع (إنما كان الناس يؤاجرون) أي يكرون أراضيهم للزرع ونحوه (على
عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيكون لهم ما (على الماذيانات)
مجاري الماء وما ينبت حول السواقي. والماذيانات الأنهار كلمة أعجمية
(وأقبال الجداول) بفتح الهمزة أوائل السواقي جمع جدول. وهو النهر
الصغير (وأشياء من الزرع) يعني مجهولة المقدار (فيهلك هذا) بكسر اللام
(ويسلم هذا) أي ربما يهلك هذا وربما يسلم هذا دون الآخر (ولم يكن للناس
كراء إلا هذا) يعني الشيء المجهول وهو غرر (فلذلك زجر عنه) يعني النبي
- صلى الله عليه وسلم - أو بالبناء للمجهول. والمراد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وذلك لما فيه من الغرر المؤدي إلى التشاجر وأكل أموال
الناس بالباطل.
فدل الحديث وما في معناه على تحريم المساقاة والمزارعة على ما يفضي إلى
الغرر والجهالة. ويوجب المشاجرة. فلأحمد وأبي داود والنسائي عن سعد بن
أبي وقاص أن أصحاب المزارع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا
يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي. وما سعد بالماء مما حول النبت.
فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختصموا في ذلك فنهاهم أن
يكروا بذلك (فأما شيء معلوم مضمون) الحفظ والعمل عليه حتى يسلم إلى أهل
الأرض (فلا بأس به رواه مسلم) وروي من غير وجه بألفاظ متقاربة.
(3/265)
وقال ابن المنذر قد جاءت الأخبار عن رافع
بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل. وهي التي كانوا يعتادونها. قال
كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه.
وبهذه الروايتين يتضح المتفق عليه لفظًا وحكمًا.
قال ابن القيم المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة فإن أحدهما
غانم ولا بد. وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركًا فيه. وإن لم يحصل
شيء اشتركا في الحرمان. فهذا أقرب إلى العدل. وأبعد عن الظلم والغرر من
الإجارة. وذكر أن المزارعة التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم -
وخلفاؤه لم يتناولها النهي بحال.
قال الشيخ ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة.
ولو كانت مغروسة فعامله بجزء من غراسها صح. ولا فرق بين أن يكون الغارس
ناظر وقف أو غيره. وقال وإن غارسه على أن لرب الأرض دراهم مسماة إلى
حين إثمار الشجر. فإذا أثمرت كانا شريكين في الثمر. هذه لا أعرفها
منقولة وقد يقال هذا لا يجوز كما لو اشترط في المزارعة والمساقاة دراهم
مقدرة مع نصيبه من الزرع والثمر. فإن هذا لا يجوز بلا نزاع. كما لو
اشترطا شيئًا مقدرًا. فإنه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط فيبقى الآخر لا
شيء له. لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم، اهـ.
ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة. وصاحب الملك ما يصلحه. والمرجع
إلى العرف في هذه الأشياء. وأما
(3/266)
الكلف السلطانية فقال الشيخ يتبع في الكلف
السلطانية العرف ما لم يكن شرطًا. وما طلب من قرية من كلف سلطانية
ونحوها فعلى قدر الأموال. وإن وضع على المزارع فعلى ربه. وعلى العقار
فعلى ربه. ومطلقًا فالعادة.
(وعنه مرفوعًا: من زرع في أرض قوم بغير إذنهم) أي غصب أرض قوم بغير
إذنهم وزرعها (فليس له من الزرع شيء) الزرع لمالك الأرض لتصرفه فيها
بغير إذن مالكها (وله نفقته) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه و (حسنه
البخاري) والترمذي. وتكلم فيه بعضهم. وقال ابن القيم ليس مع من ضعف
الحديث حجة. فإن رواته محتج بهم في الصحيح. وهم أشهر من أن يسأل عن
توثيقهم. واحتج به أحمد وأبو عبيد. وله شاهد من حديث رافع بن خديج في
قصة الذي زرع في أرض ظهير بن رافع. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
أن يأخذوا الزرع ويردوا عليه نفقته. وقال فيه: لأصحاب الأرض "خذوا
زرعكم" وذكر أنه محض القياس لو لم يأت فيه حديث. فمثل هذا الحديث الحسن
الذي له شاهد من السنة على مثله. وقد تأيد بالقياس الصحيح من حجج
الشريعة. وقال أحمد إذا كان الزرع قائمًا فهو لصاحب الأرض. فأما إذا
حصد فإنما يكون له الأجرة.
* * *
(3/267)
باب الإجارة
لغة المجازاة. يقال آجره الله على عمله إذا جازاه عليه. فهي مشتقة من
الأجر. وهو العوض. ومنه سمي الثواب أجرًا. وفي التنزيل {لَوْ شِئْتَ
لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} والإجارة عقد على منفعة مباحة معلومة.
من عين معينة أو موصوفة في الذمة. مدة معلومة. أو عمل معلوم. بعوض
معلوم. واتفقوا على أن العقد فيها يتعلق بالمنفعة دون الرقبة. وهي نوع
من المعاوضة العامة. لا نوع من البيع عند الإطلاق. وتنعقد بلفظ الإجارة
والكراء وغير ذلك مما يعرف المتعاقدان به المقصود.
وتصح بثلاثة شروط. معرفة المنفعة ومعرفة الأجرة والإباحة في نفع العين.
ويشترط في العين المؤجرة خمسة شروط: معرفتها برؤية أو صفة. والعقد على
نفعها. والقدرة على تسليمها. واشتمالها على المنفعة وأن تكون للمؤجر أو
مأذونًا له فيها. وهي عقد لازم من الطرفين عند جمهور العلماء. لأنها
نوع من البيع. فليس لأحدهما فسخها لغير عيب ونحوه. وجائزة في الجملة
بالكتاب والسنة والإجماع. ومن الرخص المستقر حكمها على وفق القياس.
(قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أي فإن أرضعن
أولادكم وهن طوالق {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على إرضاعهن
فمتى أرضعت استحقت أجر مثلها. ولها أن تمتنع لكن بعد أن
(3/268)
تسقيه اللبأ الذي لا قوام للمولود إلا به.
فدلت الآية على جواز الإجارة. وقال الوزير اتفقوا على أنه يجوز استئجار
الظئر للرضاع. وقال الشيخ يصح أن يستأجر الحيوان لأخذ لبنه. ولو جعل
الأجرة نفقته وهو مذهب مالك. وقال إذا استأجر حيوانًا لأخذ لبنه فنقص
عن العادة كان كتغير العادة بتغير العادة في المنفعة يملك المستأجر
الفسخ.
(وقال: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} يعني الأب {رِزْقُهُنَّ} طعامهن
{وَكِسْوَتُهُنَّ} لباسهن {بِالْمَعْرُوفِ} أي على قدر الميسرة. وبما
جرت به عادة أمثالهن في بلدهن. من غير إسراف ولا إقتار. قال الشيخ ولا
يفتقر إلى تقدير عوض. ولا إلى صيغة. بل ما جرت العادة بأنه إجارة فهو
إجارة. يستحق فيه أجرة المثل في أظهر قولي العلماء {لاَ تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} أي طاقتها. فلا يكلف الوالد من الإنفاق عليه
وعلى أمه إلا بما تتسع به قدرته. وقال في الآية الأخرى {لِيُنفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} وسيأتي إن شاء الله.
والمراد هنا مشروعية الإجارة وصحتها في الظئر بطعامها وكسوتها. وكذا
الأجير. كما روي عن أبي بكر وعمر وغيرهما. ولحمل الإطلاق عليه. وقال
ابن القيم فقد أجرى الشارع الشرط العرفي كاللفظي. ومنه لو دفع ثوبه إلى
من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة. أو عجينه لمن يخبزه أو لحمًا لمن
يطبخ أو متاعًا لمن يحمله. ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك.
(3/269)
وجب له أجرة مثله. وإن لم يشترط معه ذلك
لفظًا عند الجمهور حتى عند المنكرين لذلك فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا
يمكنهم العمل إلا به.
وإن قال إن ركبت هذه الدابة إلى أرض كذا فلك عشرة. أو إلى أرض كذا فلك
خمسة عشر. أو إن خط هذا القميص اليوم فلك درهم أو غدًا فنصف درهم. أو
إن زرعت أرضي حبًا فمائة أو شعيرًا فمائتان فقال ابن القيم وغيره. هذا
كله جائز صحيح لا يدل على بطلانه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس
صحيح. ولا نزاع فيه في عصر الصحابة رضي الله عنهم. بل الثابت عنهم
جوازه. كما ذكره البخاري عن عمر أنه إذا دفع أرضه إلى من يزرعها. قال
إن جاء عمر بالبذر فله كذا وإن جاؤا به فله كذا. ولم يخالفه صحابي. ولا
محذور فيه. ولا غرر ولا جهالة. ولا يقع إلا معينًا والخيرة إلى الأجير.
(وقال) تعالى {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} أي إحدى ابنتي شعيب {يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ} الآية) اتخذ أجيرًا ليرعى أغنامنا {إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين} أي خير من استعملت من هو قوي على
العمل وأداء الأمانة {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي أن
تكون أجيرًا لي إلى ثمان سنين {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ
عِندِكَ} أي تفضل منك. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "آجر
موسى نفسه ثمان سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام
(3/270)
بطنه" واستدلوا بهذه الآية على صحة استئجار
الأجير بالطعام والكسوة.
{قَالَ لَوْ شِئْتَ} أي قال موسى للخضر لو شئت يعني لو أردت على إقامتك
الجدار الذي انقض {لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ} أي على إقامته {أَجْرًا}
مكافأة وإثابة على عملك. فإنك قد علمت أننا جياع وأن أهل القرية لم
يطعمونا فلو أخذت على عملك أجرًا. فدلت الآية على صحة الإجارة على
إقامة الجدار ونحوه.
(واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر) -رضي الله عنه-
عند خروجهما من مكة إلى المدينة عام الهجرة (رجلًا من بني الديل) بكسر
الدال. واسمه عبد الله بن أريقط. والديل حي من عبد القيس (هاديا) إلى
سواء السبيل (خريتا) أي ماهرًا بالهداية. وهو على دين كفار قريش فدفعا
إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال. فأتاهما براحلتيهما
صبيحة ثالثة فارتحلا (رواه البخاري) وغيره في قصة الهجرة عن عائشة رضي
الله عنها. وفيه دليل على جواز الإجارة. واشتراط معرفة المنفعة وجواز
استئجار المسلم للكافر هداية الطريق إذا أمنه. والبخاري ترجم عليه: باب
استئجار المشركين عند الضرورة.
وقال ابن بطال وغيره الفقهاء يجيزون استئجار المشركين
(3/271)
عند الضرورة وغيرها. لما في ذلك من الذلة
لهم. وإنما الممتنع أن يؤجر المسلم نفسه من المشرك. لما فيه من الإذلال
اهـ. والمراد ليستخدمه. وأما لغير الخدمة كإجارة نفسه منه في عمل معين
في الذمة. كخياطة ثوب ونحوه. فقال الموفق يجوز بغير خلاف.
ولما يأتي في خبر علي رضي الله عنه. وأما إجارته داره ونحوها. فنصوص
أحمد كثيرة في النهي عن إجارة المسلم داره من أهل الذمة. وبيعها لهم.
وأكثر الأصحاب على التحريم. ما لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة.
فإن آجره إياها لأجل بيع الخمر أو اتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولًا
واحدًا. حكاه الشيخ وغيره.
وقال بعض الفقهاء يجب على المؤجر كلما يتمكن به من النفع لأن عليه
التمكين من الانتفاع. وفي المغني من أكرى بعيرًا لإنسان ليركبه بنفسه
وسلمه إليه لم يلزمه سوى ذلك. بخلاف ما إذا عقد ليسافر معه والجمهور أن
العمل في ذلك على العرف والعادة. وتنفسخ بتلف العين المؤجرة. وموت
الراكب ونحو ذلك.
(وله) أي البخاري (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه-
(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما بعث الله نبيًا) أي من قبلي
من الأنبياء
(إلا رعى الغنم) لما يحصل في رعايتها من الجلم والشفقة.
فقال أصحابه وأنت "قال نعم" أي كنت أرعى الغنم.
ولذا (قال: كنت أرعاها على قراريط) قال سويد بن
(3/272)
سعيد كل شاة بقيراط نصف عشر دينار وثلث
ثمنه (لأهل مكة) وللنسائي من حديث نصر افتخر أهل الإبل والغنم فقال
رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "بعث موسى وهو راعي غنم. وبعث داود وهو
راعي غنم وبعثت أنا راعي غنم".
قال بعض أهل العلم الحكمة في الهام رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم
التمرن برعيها على ما سيكلفونه من القيام بأمر أمتهم. لأن في مخالطتها
ما يحصل منه الحلم والشفقة على أمته. لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها
بعد تفرقها في الرعي. ونقلها من مسرح إلى مسرح. ودفع عدوها من سبع
وغيره.
وعلموا أن اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة
ألفوا من ذلك الصبر على الأمة. وعرفوا اختلاف طباعها. وتفاوت عقولها.
فجبروا كسرها. ورفقوا بضعيفها. وأحسنوا التعاهد لها. وتكون مشقة ذلك
أسهل مما لو كلفوا القيام به أول وهلة. لما يحصل لهم من التدرج بذلك.
والحديث دليل على جواز الإجارة على رعي الغنم. ويلحق بها في الجواز
غيرها من الحيوانات.
(وعن سويد بن قيس) العبدي أبو مرحب الكوفي
-رضي الله عنه- (في رجل يزن بالأجر) أي بالأجرة وذلك
أنه قدم مكة ببز من هجر فاشترى منه سراويل. وثم رجل
يزن بالأجر (فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - زن) أي زن ثمن
السراويل (وارجح) أي رجح الميزان. رواه الخمسة وغيرهم
(3/273)
(وصححه الترمذي) فدل على جواز الاستئجار
على الوزن وجواز أخذ الأجرة عليه. وعلى الكيل. وما في معناهما كأجرة
القاسم والحاسب.
قال الشيخ والوزن بالقبان كالوزن بسائر الموازين إذا وزن بالعدل جاز
أخذ الأجرة ممن وزن له اهـ. وفيه أن أجرة وزن الثمن على المشتري. لأن
الإيفاء يلزمه. والمبيع على البائع وهو قول فقهاء الأمصار. إلا أن يكون
ثم عادة مطردة في البلد. وفيه استحباب ترجيح المشتري في وزن الثمن
ومثله المبيع.
(وعن علي) -رضي الله عنه- (قال عملت) بالأجرة ليهودية (كل ذنوب) هو
الدلو الملآ (على تمرة) وقال مددت ستة عشر ذنوبًا حتى مجلت يداي أي
تنفطت. ثم أتيتها فعدت لي ست عشرة تمرة (وأخبرت النبي - صلى الله عليه
وسلم -) بذلك وجئته بها (وأكل معي منها) أي من تلك التمرات (رواه أحمد)
ولابن ماجه من حديث ابن عباس أن عليًا آجر نفسه من يهودي يسقي له كل
دلو بتمرة. وفي الصحيح أن خبابًا عمل للعاص بن وائل بمكة قال الحافظ
واطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وأقره.
فدل على جواز إجارة المسلم نفسه في نحو ذلك. لأنه عقد معاوضة لا يتضمن
إذلاله ولا استخدامه. وقال ابن المنير استقرت المذاهب على أن الصناع في
حوانيتهم يجوز لهم العمل
(3/274)
لأهل الذمة. ولا يعد ذلك من الذلة. بخلاف
أن يخدمه في منزله وبطريق التبعية له. ودل أيضًا على جواز الإجارة
معادة. قال ابن القيم لو آجره كل شهر بدرهم صح. وإن كانت جملة الأجرة
غير معلومة تبعًا لمدة الإجارة فقد صح عن علي أنه آجر نفسه كل دلو
بتمرة. وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك التمر.
وفي الحديثين ما كان الصحابة عليه من العيش للتعفف عن السؤال وتحمل
المنن. وأن تأجير النفس لا يعد دناءة. وإن كان المستأجر غير شريف أو
كافرًا. والأجير من أشراف الناس وعظمائهم. وإن آجر دارًا ونحوها مدة
معلومة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح. وقفًا كانت أولا.
لأن المعتبر كون المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة منها غالبًا. وقال
الشيخ ليس لوكيل مطلق إجارة مدة طويلة. بل العرف كسنتين ونحوهما إذا
رأى المصلحة في ذلك قال وتجوز إجارة العين المؤجرة في مدة الإجارة.
ويقوم المؤجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الثاني
وتجوز بزيادة.
وإن شرط أن لا يستوفيها إلا بنفسه أو أن لا يؤجرها إلا لعدل أو أن لا
يؤجرها لزيد صح لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه فينبغي أن
يثبت له الفسخ. كما لو تعذرت المنفعة. قال وليس له إخراج المستأجر قبل
انقضاء المدة لأجل زيادة أو غيرها. وما فعله بعض متأخري الفقهاء من
أصحاب الشافعي وأحمد من التفريق بين أن يزاد قدر الثلث فهو قول
(3/275)
مبتدع لا أصل له عند أحد من الأئمة. لا
بسبب تفاوت وقت ولا وقف ولا غيره.
وإذا التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور لم تلزمه اتفاقًا.
كخوفه من الإخراج. بل له استرجاعها. ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة
من ارتفاع الكراء أو انخفاضه. وقال فيمن احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا
أو بناء وقفه عليه. متى فرغت المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف.
وأخذوا أرضهم. فاستنفعوا بها. وما دام البناء قائمًا فيها فعليه أجرة
المثل. كوقف علو ربع أو دار مسجدًا. ووقف البناء لا يسقط حق ملاك
الأرض. وذكر في الفنون معناه. وقال في الإنصاف هو الصواب. ولا يسع
الناس إلا ذلك. وإن شرط قلعه لزمه بلا نزاع. وإن كان إبقاؤه بتفريط
المستأجر فللمالك أخذه بالقيمة. وقيل بنفقته. أو تركه بالأجرة بلا
نزاع. وبغير تفريط له أجرة مثله لما زاد بلا نزاع.
(وله عن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- قال
(نهى - صلى الله عليه وسلم - عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره) ولفظ
عبد الرزاق "من استأجر أجيرًا فليسم له أجره" ففيه النهي
عن استعمال الأجير حتى يسمي له أجره. وهو أحد
شروط الإجارة. لئلا يكون مجهولًا فيؤدي إلى التشاجر
والخصام. ولا يجب عند مالك وأحمد وغيرهما للعرف. واستحسان المسلمين قال
الشيخ وإذا ركن المؤجر إلى شخص
(3/276)
ليؤجره لم يكن لغيره الزيادة عليه. فكيف
إذا كان المستأجر ساكنًا في الدار. فإنه لا تجوز الزيادة على ساكن
الدار اهـ. ومثله من يعمل له عملًا.
(وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم) حجمه أبو طيبة واسمه
نافع (وأعطي الحجام أجره) صاعين من طعام (رواه البخاري) وفي لفظ أعطاه
أجره صاعًا أو صاعين. وقال ابن عباس لو كان حرامًا وفي لفظ سحتًا لم
يعطه. وفي لفظ لو علم كراهيته لم يعطه. فدل على أنه حلال. وذهب جمهور
العلماء إلى أنه حلال. محتجين بهذا الخبر وغيره. وقالوا هو كسب فيه
دناءة وليس بمحرم. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يجوز ويباح للحر.
ولأنها منفعة مباحة لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة.
(ولمسلم عن رافع مرفوعًا: كسب الحجام خبيث) وكره أحمد وجمهور السلف
للحر الاحتراف بالحجامة والانفاق على نفسه من أجرتها. ويجوز له الإنفاق
على الرقيق والدواب. لحديث محيصة أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن كسب الحجام فنهاه فذكر له الحاجة فقال "أعلفه نواضحك"
وأباحوه للعبد مطلقًا. وقال الشيخ اتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها هو
مما نهي عنه عند إمكان الاستغناء عنه. فإنه يفضي إلى كثرة مباشرة
النجاسات والاعتناء بها. لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه. وإلا
فلا يجتمع عليه استعماله في مباشرة النجاسة وحرمانه
(3/277)
أجرته ونهى عن أكله مع الاستغناء عنه مع
أنه ملكه وإذا كان محتاجًا إلى هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا
مسألة الناس فهو خير له من سؤال الناس. قال بعض السلف كسب فيه دناءة
خير من مسألة الناس.