الإحكام
شرح أصول الأحكام كتاب النكاح
هو في اللغة الوطء والضم والتداخل والجمع بين الشيئين وقد يطلق على العقد.
فإذا قالوا نكح فلانة أو بنت فلان أرادوا تزوجها وعقد عليها. وإذا قالوا
نكح امرأته لم يريدوا إلا المجامعة. وقال الزجاج النكاح في كلام العرب
بمعنى العقد والوطء جميعًا وفي الشرع والعرف لفظ مشترك يعم العقد والوطء
جميعًا ليس أحدهما أخص به من الآخر فهو من الألفاظ المتواطئة إلا قوله:
{حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.
وقال الشيخ النكاح في الآيات حقيقة في العقد والوطء والنهي لكل منهما.
والمقعود عليه منفعة الاستمتاع أو الحل. ومال الشيخ إلى أن المعقود عليه
الإزدواج كالمشاركة. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع في الجملة.
فلو جعل عتقها صداقها لم يحتج إلى لفظ انكاح. وفوائده كثيرة. منها
أنه سبب لوجود هذا النوع الإنساني ومنها قضاء الوطر بنيل اللذة والتمتع
بالنعمة وهي الفائدة في الجنة ومنها غض
(3/483)
البصر وكف النفس عن الحرام وغير ذلك.
(قال تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} أمر تعالى
بنكاح ما طاب لنا من النساء والأمر يقتضي الوجوب. وهو رواية عن أحمد. وقول
بعض أهل العلم لكن الجمهور أنه في حق من يخاف زنا بتركه. والسنية لذي شهوة
لا يخاف زنا من رجل وامرأة وحكاه الوزير وغيره إجماعًا {مَثْنَى} أي اثنتين
{وَثُلاَثَ} أي ثلاثًا {وَرُبَاعَ} أي أربعًا أي إن شاء أحدكم فليتوزج
اثنتين. وإن شاء فليتزوج ثلاثًا وإن شاء فليتزوج أربعًا قال أهل العلم
المقام مقام امتنان وإباحة فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره.
وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن
يجمع بين أكثر من أربع نسوة كما دلت عليه السنة الصحيحة المستفيضة مما
سيأتي وغيره {فَإِنْ خِفْتُمْ} أي خشيتم أو علمتم من تعددهن {أَلاَّ
تَعْدِلُواْ} بين الأزواج {فَوَاحِدَةً} أي فانكحوا واحدة. لأن الزيادة
عليها والحال ما ذكر تعريض للمحرم.
كما قال تعالى {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء
وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي فمن خاف من ذلك فليقتصر على
واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني السراري. لأنه لا
يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر. ولا قسم لهن. ولا وقف في عددهن
{ذَلِكَ أَدْنَى} أي أقرب {أَلاَّ تَعُولُوا} أي أن
(3/484)
لا تجوروا ولا تميلوا يقال عال في الحكم
إذا جار.
ففي الآية الأمر بالنكاح. ويجب على من يخاف زنا بتركه ومن تاقت نفسه إليه
فإنه تتأكد مشروعيته في حقه وهو أفضل له من التطوع وإن حصل الإعفاف بواحدة
وإلا استحب الزيادة إن لم تعفه. إن كان قادرًا على كلفة ذلك مع توقان النفس
إليه. ولم يترتب عليه مفسدة أعظم من فعله. وقال الشيخ يجب على من خاف على
نفسه العنت في قول عامة الفقهاء. إذا قدر على مهر حرة ويجزئ التسري حيث
وجب. أو استحب لقوله {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
(وقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} الأيامى جمع أيم. وهو من لا زوج
له من رجل أو امرأة يقال رجل أيم وامرأة أيم وأيمة أي زوجوا أيها المؤمنون
من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ} خص الصالحين لأن إحصان دينهم والاعتناء بحالهم أهم وأكثر.
وهذا إيجاب وندب إيجاب على من خاف العنت. وندب واستحباب على من تاقت نفسه
إليه وأمن العنت. وهذا مذهب جماهير العلماء. وقال الشيخ تزويج الأيامى فرض
كفاية إجماعًا. فإن أباه حاكم إلا بظلم كطلبه جعلا لا يستحقه صار وجوده
كعدمه.
(وعن ابن مسعود) عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال) لنا (يا معشر الشباب) جمع
(3/485)
شاب كالشبان. وأصله الحركة والنشاط. واسم
لمن بلغ حتى يبلغ ثلاثين. ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين ثم هو شيخ
والمعشر الجماعة خاطب الشباب لأنهم أغلب شهوة (من استطاع منكم الباءة)
بالمد والهاء وفيها لغة بالقصر وأصلها النكاح من البات وهو المنزل لأن من
تزوج امرأة بوأها منزلًا. والمراد بها هنا الجماع أو مؤن النكاح. ومراده من
استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤن النكاح.
قال الحافظ ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة
على الوطء ومؤن التزويج وقال الشيخ استطاعة النكاح هي القدرة على المؤونة
ليس القدرة على الوطء. فإن الحديث إنما هو خطاب على القادر على فعل الوطء
(فليتزوج) وفي رواية "من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج" وللنسائي من كان ذا
طول فلينكح أمر ندب عند جمهور الفقهاء. وحمله الظاهرية وغيرهم على الوجوب
وهو رواية عن أحمد وتقدم أنه واجب على من خاف العنت وقال القرطبي لا يختلف
في وجوبه عليه.
وأجمع أهل العلم على استحبابه لمن تاقت نفسه إليه وأمن العنت. واتفقوا على
أنه يتأكد في حقه ويكون له أفضل من حج التطوع وجهاد التطوع وصلاة التطوع
وصوم التطوع لأنه طريق إعفاف نفسه وصونها عن الحرام ولا فرق بين القادر على
الإنفاق والعاجز عنه وقال الشيخ ظاهر كلام أحمد
(3/486)
والأكثرين عدم اعتبار الطول. لأن الله وعد
عليه الغناء لقوله: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ} وتقدم أنه يجزئ التسري حيث وجب أو استحب وقال إذا خشيه جاز تزوج
الأمة مع أن تركه أفضل. وإن احتاج إلى النكاح وخشي العنت بتركه قدمه على
الحج الواجب. وإن لم يخف قدم الحج. وقال إن كانت العبادات فرض كفاية كالعلم
والجهاد قدمت على النكاح إذا لم يخف العنت.
ولم يتزوج أحمد إلا بعد أربعين سنة. وشيخ الإسلام لم يتزوج لاشتغالهما
بالعلم. وذكر القرطبي وغيره من الأئمة أنه يحرم بدار حرب إلا لضرورة. فيباح
لغير أسير وأنه يحرم على من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع قدرته عليه
وتوقانه إليه. ويكره في حق مثل هذا. حيث لا إضرار بالزوجة. ويندب في حق كل
من يرجى منه النسل. ولو لم يكن له في الوطء شهوة للحث عليه والأمر به.
ويباح فيما إذا انتفت الدواعي والموانع. وعدم النسل (فإنه أغض للبصر) أي
أشد غضًا وأخفض لعين المتزوج (وأحصن للفرج) أي أشد إحصانًا له وحفظًا
ومنعًا من الوقوع في الفاحشية.
(ومن لم يستطع) الباءة لعجزه عن مؤنة النكاح (فعليه الصوم) ليدفع شهوته
ويقطع شرفيته كما يقطعه الوجاء (فإنه له وجاء) بكسر الواو والمد رض عروق
الخصيتين. فيكون
شبيهًا بالخصاء (متفق عليه) وإنما جعل الصوم وجاء
(3/487)
لأنه بتقليل الطعام والشراب يحصل للنفس
انكسار عن الشهوة ولسر جعله الله في الصوم. فإنه لا ينفع تقليل الطعام وحده
من دون صوم.
(ولهما عن أنس) -رضي الله عنه- (قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- (وأتزوج النساء) وذلك أنه جاء ثلاثة نفر فسألوا أزواج رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - عن عبادته فكأنهم تقالوها فقالوا أين نحن من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدًا وقال الآخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر
وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج فقال - صلى الله عليه وسلم -
"ولكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء".
فدل على الترغيب في التزوج والحث عليه. وأنه سنة المرسلين المتبعة وأن
الإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يحبه الله ورسوله. ولا هو دين الأنبياء.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا
لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} وتقدم أن فعله مع الشهوة أفضل من نوافل
العبادة لاشتماله على مصالح كثيرة. وقال - صلى الله عليه وسلم - (فمن رغب
عن سنتي) أي أعرض عن طريقتي (فليس مني) وهذا وعيد شديد ويجري على ظاهره
أبلغ في الزجر. فإن من تبرأ منه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - فقد
اقترف ذنبًا عظيمًا يعد من الكبائر قال أحمد ليست العزوبة من أمر الإسلام
في شيء
وروي "لا صرورة في الإسلام" والصرورة الذي لم يتزوج
وقال من دعاك إلى غير التزويج فقد دعاك إلى غير
(3/488)
الإسلام ولو تزوج بشر كان قد تم أمره ولو
كان التخلي والتبتل أفضل لانعكست الأحكام.
وقال ابن عباس لرجل تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء والمشروع هو
الاقتصاد في العبادات دون الانهماك والإضرار بالنفس. وهجر المألوفات كلها.
وهذه الأمة المحمدية مبنية شريعتها على الاقتصاد والتيسير. وعدم التعسير
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} والأولى
التوسط في الأمور. وعدم الإفراط والتفريط. والأخذ بالتشديد يؤدي إلى الملل.
وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلًا وترك النفل يفضي إلى البطالة. وخير
الأمور أوساطها. قال تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وهديه - صلى
الله عليه وسلم - أكمل هدي. وسنته أكمل السنن. وأعدلها. ولا يعدل عنها إلا
مبتدع.
(ولأحمد عنه) أي عن أنس -رضي الله عنه- (كان) يعني رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (يأمرنا بالباءة) يعني التزوج (وينهانا عن التبتل) وهو
الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعًا إلى عبادة الله. وأصل البتل
القطع. ومنه قيل لمريم البتول. ولفاطمة البتول لانقطاعهما عن نساء زمانهما
دينًا وفضلًا. ورغبة في الآخرة (نهيًا شديدًا) وتقدم قوله "فليتزوج" وقال
"من رغب عن سنتي" وغير ذلك (ويقول تزوجوا الودود) أي المودودة المحبوبة
بكثرة ما هي عليه من خصال الخير. وحسن الخلق والتحبب إلى زوجها.
(3/489)
(الولود) أي كثيرة الولد. ويعرف ذلك في
البكر بحال قرابتها. بأن تكون من نساء يعرفن بكثرة الولادة. إذ الغالب
سراية طباع الأقارب بعضهن إلى بعض. ولأبي داود والنسائي جاء رجل إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - فقال إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب. إلا أنها لا
تلد. أفأتزوجها؟ فنهاه ثم أتاه الثانية والثالثة فقال - صلى الله عليه وسلم
- "تزوجوا الودود الولود" قيد بهاتين الصفتين لأن الولود إذا لم تكن ودودًا
لم يرغب الزوج فيها. والودود إذا لم تكن ولودًا لم يحصل المطلوب. وهو تكثير
الأمة. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - (فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم
القيامة) وفي غير ما حديث "مكاثر بكم الأمم" أي بأمته صلوات الله وسلامه
عليه.
والمكاثرة المفاخرة ففيه جوازها في الدار الآخرة ولأحمد "أنكحوا أمهات
الأولاد فإني مباه بكم يوم القيامة" ووجه ذلك أن أمته أكثر فثوابه أكثر.
لأن له مثل أجر من تبعه. وفي هذه الأحاديث وما في معناها مشروعية النكاح.
والترغيب فيه. وفي المرأة الصالحة الودود الولود. وقال - صلى الله عليه
وسلم - "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب" وقال "الدنيا متاع وخير متاعها
المرأة الصالحة" وللحاكم من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر
دينه".
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال تنكح المرأة) لأربع أي يرغب في نكاحها ويدعو إليه
منها لأجل أربع خصال في غالب العادة (لمالها) حتى قيل
إنه حسب من لا حسب له (ولحسبها) الحسب في الأصل.
(3/490)
الشرف بالآباء والأقارب. وقيل هنا الفعل
الجميل للرجل وآبائه ويقال الحسب المال والكرم والتقوى إلا أنه هنا لا يراد
به المال فالحسيبة هي النسيبة طيبة الأصل ليكون ولدها نجيبًا فإنه بما أشبه
أهلها. ونزع إليهم وكان يقال إذا أردت أن تزوج امرأة فانظر إلى أبيها
وأخيها. ويؤخذ منه أن الشريف النسيب ينبغي له أن يتزوج نسيبة.
(ولجمالها) في الذات والصفات فلا يسأل عن دينها حتى يحمد له جمالها.
وللنسائي عن أبي هريرة قيل يا رسول الله أي النساء خير قال "التي تسره إن
نظر وتطيعه إن أمر ولا تخالفه في نفسها وما له بما يكره" وللبزار "المرأة
لعبة زوجها فإن استطاع أحدكم ان يحسن لعبته فليفعل" وروي "خير فائدة الرجل
بعد إسلامه امرأة جميلة" فيسن أن يتخير الجميلة لأنه أغض لبصره وأمكن
لنفسه. وأكمل لمودته. ولو قيل للشحم أين تذهب لقال أقوم الأعوج. وليستجد
الشعر ويتخير ما يليق به مما يعجبه.
(ولدينها) فهو غاية البغية وورد النهي عن نكاح المرأة لغير دينها فقال "لا
تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن. ولا لمالهن فلعله يطغيهن وانكحوهن
للدين ولأمة سوداء ذات دين أفضل" رواه ابن ماجه وغيره. فيكون الدين مطمح
نظره.
ولأن مصاحبة أهل الدين في كل شيء هو الأولى لأن مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم
وبركتهم وطرائقهم ولا سيما الزوجة فهي أولى من يعتبر دينه. لأنها ضجيعته
وأم أولاده
(3/491)
وأمينته على ماله ومنزله. وعلى نفسها.
(فاظفر بذات الدين) أي فز بنكاحها. ففيه مراعاة الكفاءة وأن الدين أولى ما
اعتبر فيها لأمره - صلى الله عليه وسلم - بتحصيل صاحبة الدين وقال عمر
وغيره الكفاءة في الدين وقيل والحسب (تربت يداك) كلمة جارية على ألسنة
العرب على صورة الدعاء. كأنه قال تلصق بالتراب. ولا يريدون بها الدعاء على
المخاطب كقولهم أنعم صباحًا تربت يداك. بل إيقاظ المخاطب لذلك المذكور
ليعتني به. والحث والتحريض على الجد والتشمير في طلب المأمور به. وقيل
معناها لله درك أو صار مالك كثيرًا كالتراب. وأضيف إلى اليد لأن التصرفات
تقع بها غالبًا (متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم ولمسلم من حديث جابر "تنكح
على دينها ومالها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك صححه الترمذي فالائق
بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء لا سيما فيمن تطول
صحبته كالزوجة.
(ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحهما (عن جابر)
ابن عبد الله -رضي الله عنه- قال (قال لي) يعني رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - (تزوجت بكرًا) وهي التي لم توطأ سميت بكرًا
لكونها عذراء لم تثقب (أم ثيبًا) وهي التي قد وطئت سميت
ثيبًا لكونها بعد نكاح ضد البكر (قلت ثيبًا) أي تزوجت
ثيبًا (فقال فهلا بكرًا) أي فهلا تزوجت بكرًا (تلاعبها
(3/492)
وتلاعبك) زاد البخاري "وتضاحكها وتضاحكك"
ولأبي عبيد "تداعبها وتداعبك" تعليل للتزوج بالبكر. لما فيه من الإلفة
التامة.
فإن الثيب قد تكون متعلقة القلب بالزوج الأول. فلم تكن محبتها كاملة بخلاف
البكر وقد لا تصلح من طال لبثها مع رجل. وعن عطاء مرفوعًا "عليكم بالأبكار
فإنهن أعذب أفواهًا وأنقى أرحامًا وأرضى باليسير" فدل على استحباب نكاح
الأبكار إلا لمقتض لنكاح الثيب كما وقع لجابر فإنه قال توفي أبي وترك سبع
بنات فكرهت أن أجيئهن بمثلهن. فقال "بارك الله لك" وقال عثمان لابن مسعود
ألا نزوجك بكرًا لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد وذلك أنه ينعش البدن
وأحسن ما تكون ابنة أربع عشرة سنة إلى العشرين. ويتم نشوها إلى الثلاثين ثم
تقف إلى الأربعين ثم تنزل.
وينبغي أن يختار ذات العقل ويجتنب الحمقاء، لأن النكاح يراد للعشرة. ولا
تصلح العشرة مع الحمقاء. ولا يطيب العيش معها. وربما تعدى حمقها إلى ولدها.
وقد قيل اجتنبوا الحمقاء فإن ولدها ضياع وصحبتها بلاء. وأصلحهن الجلب التي
لم تعرف أحدًا والأصلح منعها الاجتماع بالنساء فإنهن يفسدنها عليه والأولى
أن لا يسكن بها عند أهلها.
(وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَلاَ
(3/493)
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ
مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء} يقول إني أريد التزويج رواه البخاري) ومثله أن
يقول إني في مثلك لراغب. وما أحوجني إلى مثلك. وإن قضى شيء كان ونحو ذلك
مما يفهم النكاح ويدل على رغبته فيها. فإن التعريض يفهم منه النكاح مع
احتمال غيره. وتخصيص التعريض بنفي الحرج يدل على عدم جواز التصريح به. وهو
ما لا يحتمل غير النكاح نحو أريد أن أتزوجك أو زوجيني نفسك أو فإذا انقضت
عدتك تزوجتك ونحو ذلك.
فيحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة وقال ابن القيم حرم خطبة المعتدة
صريحًا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى
المرأة. فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة.
والكذب في انقضاء عدتها اهـ. ويحرم التصريح بخطبة المبانة حال الحياة بطلاق
ثلاث أو فسخ ويحرم التصريح والتعريض لرجعية. لأنها في حكم الزوجات. ويباح
التصريح والتعويض من صاحب العدة فيها.
(ولمسلم عن فاطمة بنت قيس) قيل هي بنت أبي
حبيش الأسدية رضي الله عنها (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها لا
تفوتينا بنفسك) وقال - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة وهي متأيمة من أبي
سلمة "لقد علمت أني رسول الله وخيرته من خلقه. وموضعي من قومي" فكانت تلك
خطبته - صلى الله عليه وسلم - ففعله تفسير لقوله: {وَلاَ جُنَاحَ
(3/494)
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ
خِطْبَةِ النِّسَاء} وقال شيخ الإسلام التعريض أنواع تارة بذكر صفات نفسه.
مثل ما ذكر "النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة وتارة يذكر لها طلبًا
لا بعينه لقوله رب راغب فيكي وطالب لكي وتارة يذكر أنه طالب للنكاح ولا
يعينها وتارة يذكر لها ما يحتمل النكاح وغيره كقوله إن قضي شيء كان.
(وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا
خطب أحدكم المرأة) أي أراد خطبتها (فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه
إلى نكاحها) أي يحمله ويبعثه (فليفعل) الأمر للإباحة لحديث أبي حميد وغيره.
قال جابر فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها.
فتزوجتها (رواه أبو داود) ووثقه الحافظ ورواه أحمد وغيره وله من حديث أبي
حميد "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها" إذا كان إنما ينظر
لخطبة. إن كانت لا تعلم من حديث محمد بن مسلمة "إذا ألقى الله في قلب امرئ
خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها".
ففيها الحث على النظر إذا أراد أن يخطب امرأة يغلب على ظنه إجابتها.
واستحبابه مذهب الجمهور. ولا يشترط رضاها بذلك. بل له أن يفعل ذلك على
غفلتها. كما فعله جابر. وإن لم يغلب على ظنه إجابتها لم يجز كمن ينظر إلى
امرأة جليلة يخطبها مع علمه أنه لا يجاب إلى ذلك.
(3/495)
(ولمسلم عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل تزوج امرأة) أي أرد تزوجها
فللنسائي بلفظ خطب رجل امرأة ولما في السنن وغيرها (أنظرت إليها؟ قال لا)
أي لم أنظر إليها (قال اذهب فانظر إليها) وفي السنن عن المغيرة أن رجلًا
خطب امرأة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم
بينكما" ولأحمد عن أبي هريرة قال خطب رجل امرأة فقال النبي - صلى الله عليه
وسلم - "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئًا" وفي الصحيحين في قصة
الواهبة فصعد فيها النظر وصوبه.
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على الندب إلى تقديم النظر إلى المرأة
التي يريد أن يتزوجها وهو مذهب جمهور العلماء إذا غلب على ظنه إجابتها
وإباحته بالاتفاق. فينظر ما يظهر غالبًا كالوجه بلا خلاف بين العلماء وهو
مجمع المحاسن فيستدل به على الجمال أو ضده والكفين عند الجمهور. وهي تدل
على خصوبة البدن أوعدمها. وقيل ورأس وساق للإذن في النظر من الشارع. فأبيح
له ذلك. وقال أحمد لا بأس أن ينظر لها عند الخطبة حاسرة وقال جمع إلى البدن
سوى السوأتين. ويكرر النظر بلا خلوة إن أمن ثوران الشهوة. وقالت طائفة
ينبغي أن يكون النظر قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلافه
بعد الخطبة.
وإذا لم يمكنه النظر إليها استحب له أن يبعث امرأة يثق بها
(3/496)
تنظر إليها وتخبره بصفتها فقد روى أنس أنه
- صلى الله عليه وسلم - بعث أم سليم إلى امرأة فقال "انظري إلى عرقوبها
وشمي معاطفها" رواه أحمد وفي رواية "شمي عوارضها" وهي الأسنان التي في عرض
الفم ما بين الثنايا والأضراس والمراد اختبار رائحة النكهة. ولا يجوز أن
تنعتها لغير خاطب. لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن تنعت المرأة
المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" سدًا للذريعة. وحماية عن مفسدة وقوعها
في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه. وعلى من استشير في خاطب ومخطوبة
أن يذكر ما فيه من مساو وغيرها. ولا يكون غيبة.
(وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها) أي
ومن فعل ذلك لم يكن كامل الإيمان بالله واليوم الآخر (متفق عليه) ولأحمد
"فإن ثالثهما الشيطان" وله من حديث عامر نحوه. وهذه الأحاديث وما في معناها
تدل على تحريم الخلوة بالأجنبية. وحكى الحافظ وغيره الإجماع على ذلك لما
يوقع في المعصية. ومع وجود المحرم فلا مانع لامتناع وقوع المعصية مع حضوره
وظاهر الحديث أن غير المحرم لا يقوم مقامه.
وذكر ابن القيم وغيره تحريم الخلوة ولو في اقراء القرآن. سدًا للذريعة ما
يحاذر من الفتة وغلبات الطباع وقال يحرم خلوة النساء بالخصي والمجبوب
لإمكان الاستمتاع من القبلة والاعتناق، والخصي يقرع قرع الفحل، والمجبوب
يساحق.
(3/497)
وفي الاختيارات: تحرم الخلوة بغير محرم ولو
بحيوان يشتهي المرأة أو تشتهيه كالقرد وتحرم الخلوة بأمرد غير حسن.
ومضاجعته كالمرأة الأجنبية. ولو لمصلحة التعليم والتأديب. والمقر موليه عند
من يعاشره لذلك ملعون ديوث. ومن عرف بمحبتهم ومعاشرة بنيهم منع من تعليمهم.
(وللبخاري عن عقبة) بن عامر -رضي الله عنه- أنه قال (أفرأيت يا رسول الله
الحمو) واحد الأحماء. وهم أقارب الزوج. والمراد هنا أخو زوج المرأة فإنه
ليس بمحرم لها (قال الحمو الموت) يعني دخول الحمو على المرأة في الخلوة سبب
الموت. وأشد من الموت. فإنه حرام وارتكاب الحرام سبب الهلاك في الدنيا
والآخرة. فخلوته بزوجة أخيه أشد تحريمًا.
(ولمسلم من حديث أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- يعني أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل) يعني العورة المغلظة
(ولا المرأة) أي لا تنظر المرأة (إلى عورة المرأة) أي العورة المغلظة. فيجب
ستر العورة المغلظة من غير من له الوطء. وحكي إجماعًا لهذا الخبر.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"
وفيه "ولا يفضي الرجل إلى الرجل" أي يضطجع الرجل مع الرجل في الثوب الواحد
"ولا المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" مع الإفضاء ببعض البدن لأن ذلك
مظنة وقوع المحرم من المباشرة أو من العورة أو غير ذلك.
(3/498)
(وله) أي لمسلم في صحيحه (عن جرير) بن عبد
الله البجلي -رضي الله عنه- (سألته) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(عن نظر الفجاءة) بالضم أي البغتة (فقال اصرف بصرك) أي لا تنظر ثانية. لأن
الأولى إذا لم تكن بالاختيار فهو معفو عنها. فإن أدام النظر أثم ويروى
"اطرق بصرك" والإطراق أن يقبل ببصره إلى وجهه والصرف أن يفتله إلى الشق
الآخر والناحية الأخرى.
فدل على أن النظر الواقع فجأة من دون قصد وتعمد لا يوجب إثم الناظر. لأن
التكليف به خارج عن الاستطاعة. وإنما الممنوع منه النظر الواقع على طريق
التعمد أو ترك صرف البصر بعد نظر الفجأة. ودل على تحريم النظر إلى
الأجنبية.
ووجوب غض البصر عنها في جميع الأحوال. إلا لغرض صحيح شرعي. وفي الصحيحين
"زنا العين النظر" أي حظها منه النظر على قصد الشهوة فيما لا يحل له.
(ولأحمد) وأبي داود والترمذي وغيرهم (عن بريدة) -رضي الله عنه- أنه - صلى
الله عليه وسلم - قال (لك الأولى) أي قال لعلي -رضي الله عنه- "يا علي لا
تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى" أي النظرة الأولى إذا كانت من غير قصد
(وليست لك الآخرة) أي النظرة الآخرة لأنها باختيارك فتكون عليك. وفي لفظ
"لا تعد الثانية" ولمفهوم "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" وغير
ذلك من الأحاديث. فالنظر إلى الأجنبية من غير
(3/499)
سبب محرم لهذه الأخبار ولقوله تعالى: {قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وقوله {فَاسْأَلُوهُنَّ
مِن وَرَاء حِجَابٍ} وسدًا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
ومن فوائد غض البصر عن الصور التي يحرم النظر إليها حلاوة الإيمان ولذته.
وكونه يورث نور القلب والفراسة. والتعلق بالصور يورث فساد العقل وعمى
البصر. وسكر القلوب وجنونه فمن غض بصره عن محارم الله عوضه بما هو خير منه
فيطلق عين بصيرته. ويفتح عليه أبواب العلم والمعارف وقوة القلب وشجاعته.
قال الشيخ والمس أولى بالمنع من النظر.
(وعن ابن مسعود) -رضي الله عنه- (مرفوعًا المرأة عورة صححه الترمذي) فيحرم
النظر إليها ويحرم نظر خصي ومجبوب وممسوح إلى الأجنبية ولو امرأة سيده.
ويلزمها ستر جميع بدنها حتى شعرها إلا وجهها في الصلاة كما تقدم ويباح نظر
ما يظهر غالبًا كوجه وساق ورقبة ويد وقدم من ذات محرم وأمة. ولعبد نظر ذلك
من مولاته قال الباجي: لا خلاف في النظر على الوجه المباح إلى ذ وات
المحارم كأمه وأخته وابنته، كما أنه لا خلاف في منعه على وجه الالتذاذ
والاستمتاع.
وقال ابن عبد البر وأما النظر للشهوة فحرام تأملها فوق ثيابها بالشهوة.
فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة. ويحرم تزينها لمحرم غير زوج وسيد. وقال الشيخ
يحرم النظر بشهوة إجماعًا.
(3/500)
يعني لغير زوج وسيد. ومن استحله كفر
إجماعًا. ونص أيضًا مع خوفها. وذكر أنه قول جمهور العلماء في النظر إلى
الأمرد وغيره. قال ويحرم تكرار النظر إليه. ومن كرر وقال لا أنظر لشهوة فقد
كذب إنما ينظر لما في القلب من اللذة وحكى ابن القطان الإجماع على أنه يحرم
النظر إلى غير الملتحي لقصد التلذذ بالنظر إليه وامتاع حاسة البصر بمحاسنه.
وأجمعوا على جواز النظر إليه بغير قصد اللذة. والناظر مع ذلك آمن من الفتنة
قال النووي وربما كان المنع فيه أحرى من المرأة. وغض البصر وإن كان إنما
يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله فمنع منه سدًا لذريعة الإرادة
والشهوة المفضية إلى المحظور. ويدخل في ذلك نظر المرأة إلى الرجل.
قال النووي بلا خلاف. قال الشيخ وكل قسم كان معه شهوة كامه كان حرامًا بلا
ريب. سواء كانت شهوة تمتع بنظر أو نظر شهوة الوطء وقال النظر إلى المردان
أقسام: ما تقترن به الشهوة فحرام بالاتفاق. وما لا شهوة معه كالنظر إلى
ولده الحسن أو من لا يميل قلبه إلى المردان كما كان الصحابة والأمم الذين
لا يعرفون هذه الفاحشة. فإن أحدهم لا يفرق بين نظره إلى ابنه أو ابن جاره.
وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات مكشوفات الوجوه. ويخدمن
الرجال مع سلامة القلوب. إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم لعموم الفساد في أكثر
الناس. فلو أراد
(3/501)
الرجل أن يدع نحو التركيات يمشين بين الناس
لكان من باب الفساد. وكذا المردان الحسان. لا يجوز أن يخرجوا في الأمكنة
التي يخاف فيها الفتنة بهم. قال وينظر ما يظهر غالبًا ممن لا تشتهي كعجوز
وبرزة وقبيحة ونحوهن. وأمة ولا يحرم النظر إلى عورة الطفل والطفلة قبل
السبع ولا لمسها. ولا يجب سترها مع أمن الشهوة. ولا يجب استتار ممن له دون
سبع في شيء.
ولكل من الزوجين نظر جميع بدن الآخر ولمسه. بلا كراهة حتى الفرج. وكره
النظر إليه حال الطمث وتقبيله بعد الجماع لا قبله. وكره أحمد مصافحة النساء
حتى لمحرم غير أب. وسئل يقبل ذوات المحرم منه قال إذا قدم من سفر ولم يخف
على نفسه.
لكن لا يفعله على الفم أبدًا الجبهة والرأس. واستدل بحديث خالد أنه - صلى
الله عليه وسلم - قدم من سفر فقبل فاطمة ومن له النظر لا يحرم البروز له
ولطبيب ونحوه نظر ما دعت الحاجة إليه.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) بكسر الخاء التماس النكاح. وأما
الخطبة في الجمعة والعيد والحج وبين يدي عقد النكاح ونحوه فبضم الخاء (حتى
يترك) الخاطب قبله (أو يأذن) أي للثاني (متفق عليه) وفي رواية للبخاري "
حتى ينكح
أو يترك" ولمسلم "لا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه
ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" وللبخاري من
حديث ابن عمر "لا يخطب الرجل على الرجل حتى يترك
(3/502)
الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" وعبر بالأخ
للتحريض على كمال التودد وقطع صور المنافرة.
فدلت هذه الأحاديث وغيرها على تحريم خطبته على خطبة أخيه. وهو مذهب جمهور
العلماء وحكى النووي أن النهي فيه للتحريم بالإجماع. لما فيه من الإفساد
على الخاطب وإيقاع العداوة بين الناس. ولكنهم اختلفوا في شروطه فقال
الجمهور محل التحريم إذا صرحت المخطوبة بالإجابة أو وليها الذي أذنت له.
وإن وجد منها ما يدل على الرضى تعريضًا لا تصريحًا فحكمه حكم ما لو أجيب
صريحًا وهو ظاهر الخبر فلم يرد فيه ذكر الإجابة. فإن ترك الخاطب الأول أو
أذن للثاني جاز. أو استأذن الثاني الأول. أو سكت جاز. لأنه في معنى الترك.
أو رد الخاطب الأول جاز. لما روت فاطمة بنت قيس أنها ذكرت معاوية وأبا جهم
خطباها فقال "انكحي أسامة" ولو كان الرد بعد الإجابة. لأن الإعراض عن الأول
ليس من قبله وكذا إن لم يركن إليه أو جهل الثاني حال الأول جاز لأنه معذور.
وإن كان الأول خطب تعريضًا في العدة أو بعدها فقال الشيخ لا ينهى غيره عن
الخطبة. ويكره رد بلا غرض صحيح بعد إجابة قال الشيخ ولو خطب المرأة أو
وليها رجلًا ابتداء فأجابها فينبغي أن لا يحل لرجل آخر خطبتها. إلا أنه
أضعف
من أن يكون هو الخاطب ونظير الأولى أن تخطبه امرأة أو
وليها بعد أن خطب هو امرأة. فإن هذا إيذاء للمخطوبة في
(3/503)
الموضعين. كما أن ذلك إيذاء للخطاب. وهو
بمنزلة البيع على بيع أخيه قبل انعقاد العقد. وهذا كله ينبغي أن يكون
حرامًا.
واستدل الجمهور بهذا الحديث على جواز خطبة المسلم على خطبة الكافر. فإنه
ليس بأخ للمسلم. وإن خطب المسلم على أخيه وعقد مع علمه صح العقد مع الإثم.
(وعن ابن مسعود) -رضي الله عنه- (قال علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- التشهد في الحاجة) وأراد بالتشهد كل كلام فيه النبأ عن الله وفي كلمتا
الشهادتين. أي إذا كان لنا حاجة وشغل إذا أردنا ذلك الشغل. فهو عام لكل
حاجة ومنها النكاح وزاد ابن كثير في الإرشاد في النكاح وغيره. وقال أبو
إسحاق تقال في خطبة النكاح وغيره في كل حاجة. (أن الحمد لله) بتخفيف أن
ورفع الحمد. وقال الجزري يجوز تخفيفها وتشديدها (نحمده ونستعينه) أي في
حمده وغيره (ونستغفره) أي من تقصيرنا في عبادته وطاعته ونتوب إليه.
(ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) أي من ظهور شرور أخلاق نفوسنا الردية وأحوال
طباع أهوائنا الدنية (وسيئات أعمالنا)
أي ونستغفره تعالى من سيئات أعمالنا (من يهد الله فلا
مضل له) أي من يوفقه للعبادة فلا مضل له من شيطان
ونفس وغيرهما (ومن يضلل فلا هادي له) لا من نبي ولا ولي ولا غيرهما. بل
الهداية بيده سبحانه. وكذا الإضلال.
(3/504)
يهدي من يشاء ويضل من يشاء بيده الخيروهو
على كل شيء قدير.
(وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)
أي أجزم واقطع بذلك. قال الشيخ ولما كانت كلمة الشهادة لا يتحملها أحد عن
أحد ولا تقبل النيابة بحال أفرد الشهادة بها. ذكره ابن القيم. قال وفيه
معنى آخر وهو أنها إخبار عن شهادته لله بالوحدانية. ولنبيه بالرسالة وهي
خبر يطابق عقد القلب وتصديقه وهذا إنما يخبر به الإنسان عن نفسه لعلمه
بحاله. وما سواه طلب وإنشاء فيطلب لنفسه وإخوانه المسلمين (ويقرأ ثلاث
الآيات رواه الخمسة) وحسنه الترمذي وصححه الحاكم.
وعن ابن كثير الآيات في نفس الحديث: الأولى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى قوله
تعالى {رقيبًا} والثانية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} والثالثة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً
سَدِيدًا} إلى قوله {عظيمًا} ويجزئ أن يحمد الله ويشهد ويصلي على النبي -
صلى الله عليه وسلم - ويخطب بها العاقد بنفسه حال العقد أو غيره من
الحاضرين واستحبها جمهور أهل العلم لهذا الخبر.
وقوله "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع"
(3/505)
وفي رواية "ليس فيها تشهد فهي كاليد
الجذماء وغير ذلك" وليست بواجبة لقوله "زوجتكها بما معك من القرآن" وقال
أهل العلم النكاح جائز بغير خطبة. وينبغي أن يكون يوم الجمعة مساء. لأن فيه
ساعة الإجابة. وبالمسجد ذكره ابن القيم وغيره. واستحبه الجمهور. ويأتي خبر
"واجعلوه في المساجد".
(ولهم) أي للخمسة وغيرهم (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا كان إذا
رفأ إنسانًا إذا تزوج) بتشديد الفاء أي هنأه ودعا له. وكان من دعائهم
للمتزوج أن يقولوا بالرفاء والبنين فنهى عنه - صلى الله عليه وسلم - لأنه
كان من عادتهم. والرفاء الالتئام والاتفاق والبركة والنماء. وسن لهم إذا
دعا أحدهم لأخيه (قال: بارك الله لك) أي أدام لك وأثبت ما أعطاك (وبارك
عليك) أي أدامه عليك دعاء له بالبركة وثبوت الخير (وجمع بينكما في خير)
وإلف وسرور فوضع هذا الدعاء موضع الترفيه. صححه الترمذي وابن خزيمة وابن
حبان. ولمسلم من حديث جابر أنه قال له "تزوجت" قال نعم قال "بارك الله لك"
زاد الدارمي "وبارك عليك".
وللطبراني أنه - صلى الله عليه وسلم - شهد نكاح رجل فقال "على الخير
والبركة والإلفة والسعة والرزق بارك الله لكم" ودعا لعبد الرحمن بن عوف
بالبركة. وغير ذلك وتزوج عقيل بن أبي طالب امرأة فقالوا بالرفاء والبنين.
فقال "لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"اللهم بارك لهم وبارك عليهم" رواه النسائي.
(3/506)
وفي رواية "بارك الله فيك وبارك لك فيها"
وإنما كرهه - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من موافقة أهل الجاهلية كانوا
يقولونه تفاؤلًا لا دعاء.
وأما المتزوج فينبغي له أن يقول ما رواه أبو داود وغيره عن عمرو بن شعيب
مرفوعًا "إذا فاد أحدكم امرأة أو خادمًا فليأخذ بناصيتها وليقل اللهم إني
أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه" ولا بأس
بالصدقة عند العقد.
فصل في أركانه
أي أركان النكاح وركن الشيء هو جانبه الأقوى. وجزء ماهيته. والماهية لا
توجد ولا تتم بدون أجزائها فكذا النكاح لا يتم بدون ركنه. وأركانه عند
طائفة من العلماء ثلاثة: الزوجان الخاليان من الموانع. والإيجاب والقبول.
والأكثر لا يعد الأول لوضوحه.
قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} أي بعد طلاقها من زيد وانقضاء عدتها. وكان
السفير جبرئيل. وقال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ
النِّسَاء} فاستدل بعض الفقهاء بها على اعتبار لفظ زوجت وانكحت وحكى الموفق
والشيخ وغيرهما الإجماع على أن النكاح ينعقد بلفظ الإنكاح والتزويج وعند
الأكثر ينعقد بكل لفظ يدل عليه وقال الوزير اتفقوا على أنه إذا قال الولي
(3/507)
زوجتك وأنكحتك فقال الزوج قبلت هذا النكاح
أو رضيت هذا النكاح فإنه ينعقد هذا النكاح إذا كان مع شروطه على اختلاف
بينهم فيها.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال في الواهبة) وهي التي قالت يا
رسول الله جئت أهب لك نفسي. فنظر إليهاه ثم طأطأ رأسه فجلست فقام رجل من
الصحابة فقال (إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها) فقال هل عندك من شيء فقال
لا والله. وفيه. (قال زوجتكها بما معك من القرآن متفق عليه) فدل على أن
النكاح ينعقد بلفظ التزويج. ولا خلاف في ذلك. وعند بعض الأصحاب لا يصح إذا
تقدم القبول الإيجاب. وقال المحققون يحتمل أن يصح إذا تقدم بلفظ الطلب لهذا
الخبر.
ولو قال زوجني ابنتك فقال زوجتكها. أو تقدم بلفظ الاستفهام. وهو رواية عن
أحمد وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي. لأنه قد وجد الإيجاب والقبول فهو
كما لو تقدم الإيجاب وإن تأخر القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس. ولو
تشاغلا بما لا يقطعه عرفا.
وفيه أن للإمام الولاية على المرأة التي لا قريب لها إذا أذنت. وأن يعقد
لها من غير سؤال عن وليها.
(وللبخاري أمكناكها بما معك من القرآن) ولأبي داود
(3/508)
قم فعلمها عشرين آية (وفي رواية قد ملكتكها
بما معك من القرآن) فدل على انعقاده بنحو هذه الألفاظ. ولو قال زوجت بضم
الزاي وفتح التاء. أو قال قبلت تجوزيها ونحوه صح.
وقال الشيخ ينعقد بما عده الناس نكاحًا بأي لغة ولفظ وفعل. فالأسماء تعرف
حدودها تارة بالشرع وتارة باللغة وتارة بالعرف وقال ابن القيم أصح قولي
العلماء أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه. لا يختص بلفظ الإنكاح والتزويج
وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد. بل
نصوصه لا تدل إلا على هذا الوجه.
وفيه أنه لا بد من الصداق في النكاح وصحته على شيء ولو من القرآن. ونقل
القاضي عياض الإجماع على أنه لا يصح على ما لا قيمة له. والآيات القرآنية
تدل على اعتبار المالية في الصداق وهذا الخبر يدل على صحته بمنفعة. وفيه
أنه ينبغي ذكر الصداق. وهذا الخبر يدل على صحته بمنفعة. وفيه أنه ينبغي ذكر
الصداق في العقد. لأنه اقطع للنزاع. وأنفع للمرأة ولو عقد بدون ذكر صداق
صح. ووجب لها مهر المثل بالدخول.
ويصح إيجاب السيد لأمته أن يقول اعتقتك وجعلت عتقك صداقك. فقد ثبت أنه -
صلى الله عليه وسلم - اعتق صفية وجعل عتقها صداقها.
ويصح جعل شيء آخر مع عتقها صداقًا لها كدراهم ونحوها نص عليه الشيخ وغيره.
(وعن أبي هريرة) رضي الله (مرفوعًا ثلاث) أي يجزن
على المرء ولو لم يقصدهن حقيقة (هزلهن جد) والهزل
(3/509)
أن يراد بالشيء غير ما وضع له بغير مناسبة
بينهما (وجدهن جد) والجد ما يراد به ما وضع له إحداهن (النكاح) كان يقول
زوجتك ابنتي ويقول قبلت فيصح ولو لم يقصدا نكاحًا حقيقة. فإنه لو أطلق
الناس لتعطلت الأحكام. ولم يؤمن ناكح أن يقول كنت في قولي هازلًا فيكون في
ذلك إبطال حكم الله. وكذا يصح ولو تلجئة كان يزوج ابنته ونحوها رجلًا خوفًا
من أن يتزوجها من يكرهه. كحاكم أو أمير. فإنه صحيح في حق الرجل المتزوج.
(والطلاق) كأن يقول طلقت ولم أقصد (والرجعة) أي وكذا أي الرجعة تثبت
أحكامها بالهزل أو الجد. ولو لم يقصدها حقيقة (حسنه الترمذي) وعن الحسن
مرفوعًا "من نكح لاعبًا جاز" وقال عمر: أربع جائزات إذا تكلم بهن الطلاق
والعتاق والنكاح والنذر. وقال علي لا لعب فيهن فدل الحديث والآثار على أن
من تكلم بشيء مما مر لزمه حكمه ولم يقبل منه خلافه.
وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له. ولا ينفعه. ولا يقبل منه لو قال كنت
لاعبًا أو هازلًا. أو لم أنوه وما أشبه ذلك. قال تعالى: {وَلاَ
تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا} ولا يصح تعليق النكاح على شرط مستقبل
كزوجتك ما في بطنها. أو من في هذه الدار. بخلاف الشروط الحاضرة. كزوجتك
ابنتي إن كانت
(3/510)
انقضت عدتها. ولا يثبت خيار الشرط ولا خيار
المجلس في النكاح إجماعًا.
فصل في اشتراط الرضى
أي ممن يشترط له. فلا يصح أن يكره على النكاح الرجال البالغون الأحرار
المالكون لأمر أنفسهم بغير حق ولا الثيب البالغ فقد اتفق العلماء على
اشتراط رضاهم وقبولهم في صحة النكاح إلا البالغ المعتوه والمجنونة والصغير
والبكر على ما سيأتي ولا ريب أن الشارع اشترط للنكاح شروطًا زائدة على
العقد تقطع عنه شبه السفاح. منها تعيين الزوجين ورضاهما والولي. والشهادة
عند الجمهور. ومنع المرأة أن تليه بنفسها وندب الشارع إلى إعلانه. لأن في
الإخلال به ذريعة إلى وقع السفاح بصورة النكاح. وزوال بعض مقاصده.
وأثبت له أحكامًا زائدة على مجرد الاستمتاع. وجعله وصلة بين الناس بمنزل
الرحم. فأما تعيين الزوجين فلأنه المقصود في النكاح فلا يصح بدونه كزوجتك
بنتي وله غيرها أو زوجتها ابنك وله بنون وإن أشار الولي إليها أو وصفها بما
تتميز به أو قال زوجتك ابنتي وليس له إلا واحدة صح لعدم الالتباس. وأما
الرضى فبالكتاب والسنة والإجماع في الجملة.
قال تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى
النِّسَاء}
(3/511)
وأول الآية {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ} وهو ما تقدم من قوله {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي
الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء}.
(قالت عائشة) رضي الله عنها (نزلت في اليتيمة يرغب فيها وليها) ونحوه عن
ابن عباس وغيره. وذلك أن اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في نكاحها إذا
كانت ذات مال وجمال بغير رضاها. وبأقل من سنة صداقها. فنهوا عن ذلك فدلت
الآية على اعتبار الرضى في الجملة على ما يأتي تفصيله.
(وعنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
تزوجها بنت سبع سنين) وقيل بنت ست سنين قبل الهجرة (وأدخلت عليه بنت تسع
سنين) سنة الهجرة أو السنة الثانية (متفق عليه) فدل الحديث على أن للأب
تزويج ابنته البكر. والتي لم يكن لها إلا دون تسع سنين بغير إذنها ورضاها
إذا وضعها عند كفء بلا نزاع حكاه ابن رشد والوزير وغيرهما وقال المهلب
أجمعوا على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة والبكر. ولو كانت لا يوطأ
مثلها. ودل على تزويج الصغيرة بالكبير. وحكاه الحافظ إجماعًا. قال ولو كانت
في المهد لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطء. وله تزويج ابنه الغلام. فإن ابن
عمر زوج ابنه وهو غلام. وليس له تزويج البالغ العاقل من بنيه بلا إذنه بلا
نزاع.
(3/512)
(ولهما عن أبي هريرة مرفوعًا لا تنكح
الأيم) وهي من فارقت زوجها بطلاق أو موت أو غيرهما (حتى تستأمر) من
الاستئمار طلب الأمر. أي لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها. فلهذا يحتاج
إلى صريح إذنها. قال الشيخ وغيره وإذنها الكلام بلا خلاف اهـ. وإذا صرحت
بمنعه امتنع اتفاقًا (ولا البكر حتى تستأذن وإذنها أن تسكت) أي قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قالوا له وكيف إذنها؟ قال "أن تسكت" وفي
لفظ "صماتها" ولأحمد "وإن سكتت فهو إذنها وإن أبت لم تكره" وهو قول عامة
أهل العلم.
فدل الحديث على أنه لا بد من طلب الأمر بالتزويج من الثيب. فلا يعقد عليها
حتى يطلب الولي منها الإذن بالعقد. والمراد من ذلك اعتبار رضاها. وهو معنى
أحقيتها بنفسها من وليها، كما جاء في غير ما حديث. وعبر بالاستئذان بحق
البكر إشارة إلى الفرق بينهما. وأنها متأكدة مشاورة الثيب. ومحتاج الولي
إلى صريح القول بالإذن منها في العقد عليها. وأما البكر فإذنها دائر بين
القول والسكوت. واكتفي منها بالسكوت لأنها قد تستحي من التصريح وفي
الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله إن البكر تستحي؟ قال
"رضاها صماتها".
وحكى ابن رشد وغيره الإجماع على أن الإذن في حق الإبكار المستأذنات واقع
بالسكوت وهو الرضى. وأما الرد
(3/513)
فباللفظ للخبر وقال ابن المنذر يستحب أن
يعلم أن سكوتها رضى. والأولى أن يرجع إلى القرائن. فإنها لا تخفى. والحديث
عام الأولياء من أب وغيره من أنه لا بد من إذن البكر البالغة.
(ولمسلم: والبكر يستأذنها أبوها) والمراد البالغة. إذ لا معنى الاستئذان
الصغيرة لأنها لا تدري ما الإذن. وله عن ابن عباس "الثيب أحق بنفسها من
وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها" وفي لفظ لأبي داود وغيره "ليس للولي مع
الثيب أمر. واليتيمة تستأمر".
(وفي السنن لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن) واليتيمة في الشرع الصغيرة التي لا
أب لها وقال ابن عمر زوجني قدامة بن مضعون بنت أخيه عثمان. ودخل المغيرة
إلى أمها فأرغبها في المال فأبتا علي حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقال "هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها" فانتزعت مني. فلا
يجبر اليتيمة وصي ولا غيره وظاهر الأحاديث أن البكر البالغة إذا زوجت بغير
إذنها لم يصح العقد. وحكاه الترمذي قول أكثر أهل العلم. ويعتبر في
الاستئذان تسمية الزوج على وجه تقع به المعرفة من ذكر نسبه ومنصبه ونحو
ذلك. لتكون على بصيرة.
(وللبخاري) من طريق مالك (عن خنساء) بنت خدام بن خالد الأنصاري من بني عمرو
بن عوف رضي الله عنها (أن أباها زوجها وهي ثبت فكرهت) ورواه النسائي من
(3/514)
طريق سفيان وهي بكر (فرد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - نكاحها) ولأحمد وأبي داود وغيرهما أن بكرًا ذكرت أن أباها
زوجها وهي كارهة. فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن القيم وهذا
الحديث على طريقة أكثر الفقهاء. وجميع أهل الأصول صحيح. وذكر أحاديث في
معناه. وحديث مسلم "البكر يستأمرها أبوها" ثم قام وهذا خبر في معنى الأمر
على إحدى الطريقتين. أو خبر محض ويكون خبرًا عن حكم الشرع. لا عن الواقع.
وهي طريقة المحققين.
فقد توافق أمره وخبره ونهيه على أن البكر لا تزوج إلا بإذنها ومثل هذا يقرب
من القاطع ويبعد كل البعد حمله على الاستحباب ثم قال وحمل هذه القضايا
وأشباهها على الثيب دون البكر خلاف مقتضاها. فلا بد من رضاها من غير فرق
بين أن يكون الذي زوجها هو الأب أو غيره. وقال الشيخ الصحيح أن البكر
البالغة لا يجبرها أحد. وقال ليس للأبوين إلزام الولد بنكاح من لا يريد فلا
يكون عاقًا كأكله ما لا يريد وللأب أو وصيه تزويج ابنه البالغ المعتوه
والمجنونة والصغير فابن عمر زوج ابنه صغيرًا.
ومن يخنق بعض الأحيان أو زال عقله ببرسام ونحوه لم يصح إلا بإذنه قاله
الشيخ وغيره. فإن من أمكن أن يتزوج لنفسه لم تثبت ولاية تزويجه كالعاقل.
ويزوج المجنونة مع شهوتها كل ولي الأقرب فالأقرب لحاجتها إليه وصيانتها
وغير ذلك.
وتعرف شهوتها من كلامها وتتبعها الرجال وتؤامر المرأة
(3/515)
في بنتها لما روى أحمد وأبو داود من حديث
ابن عمر "آمروا النساء في بناتهن" وذلك استطابة للنفس. ولا خلاف أنه ليس
لها فيها أمر.
فصل في الولي
أي في اشتراط الولي عند عقد النكاح. فلا يصح إلا بولي وهو مذهب مالك
والشافعي وأحمد وجمهور العلماء. والولي هو متولي أمر المرأة
(قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} الأيم المرأة التي لا زوج
لها. أمر تعالى بإنكاحها ولم يكله إليها فدلت على اعتبار الولي. وقال
{فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} قال الشافعي هي أصرح
آية في اعتبار الولي. وإلا لما كان لعضله معنى ويأتي ذكر سبب نزولها. وقال
الشيخ تزويج الأيامى فرض كفاية إجماعًا. وتقدم بيان الإذن وأنه لا يزوج غير
الأب صغيرًا إلا الحاكم لحاجة. ولا كبيرة عاقلة ولا بنت تسع سنين إلا بإذن.
وإذن بنت تسع فأكثر معتبر وقالت عائشة إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي
امرأة.
(وقال: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي مواليهن. فدلت الآية على
أن السيد هو ولي أمته. ويزوجها بغير إذنها. لأنه يملك منافع بضعها. ولا
تزوج إلا بإذنه وكذلك وهو ولي
(3/516)
عبده. وليس له أن يتزوج بغير إذنه. ويزوج
الصغير بغير إذنه. فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج سيدتها بإذنها
لما في الحديث "لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي
التي تزوج نفسها".
(وعن أبي موسى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا نكاح) أي لا يصح
عقد النكاح (إلا بولي) يعقده. وهو أقرب العصبة بالنسب ثم السبب ثم عصبته ثم
المولى. ثم عصبته (رواه الخمسة وصححه أحمد) وابن المديني وابن مهدي
والترمذي والبيهقي وابن القيم وغيرهم من الحفاظ. وعن جابر نحوه وقال الضياء
رجاله كلهم ثقات. وذكر المناوي أنه متواتر فدل الحديث: أنه لا يصح النكاح
إلا بولي. لأن الأصل في النفي نفي الصحة وقال الترمذي العمل عليه عند أهل
العلم منهم عمر وعلي وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم. وهكذا روي عن فقهاء
التابعين أنهم قالوا لا نكاح إلا بولي. وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
والولي هو الأقرب إلا المرأة من عصبتها دون ذوي أرحامها وهذا مذهب جمهور
العلماء. واشترطوا في الولي التكليف لأن غير المكلف يحتاج لمن ينظر له.
والذكورية والحرية لأن المرأة والعبد لا ولاية لهما على أنفسهما فغيرهما
أولى والرشد في العقد واتفاق الدين والعدالة وقال الشيخ في عقد الكتابي
لابنته على المسلم ليس على بطلانه دليل شرعي ولا ينبغي أن يكون متوليًا
لنكاح مسلم.
(3/517)
(ولهم) أي للخمسة وغيرهم (عن عائشة) رضي
الله عنها (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (أيما امرأة
نكحت) أي تزوجت (بغير إذن وليها فنكاحها باطل) فنكاحها باطل كرره ثلاثًا
تأكيدًا لبطلانه. وهذا مع ما تقدم وما يأتي من خبر معقل وغيره يدل على
اشتراط الولي. وقال الخطابي في قوله {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} أدل آية في
كتاب الله على أن النكاح لا يصح إلا بعقد ولي. وأنه لو كان لها سبيل إلى أن
تنكح نفسها لم يكن للعضل معنى (فإن دخل بها) أي بمن نكحت بغير إذن ولي
(فلها المهر بما استحل من فرجها) قال الرافعي فيه أن وطء الشبهة يوجب المهر
وإذا وجب ثبت النسب وانتفى الحد.
(فإن اشتجروا) أي منعوها من كفء، فالاشتجار منع الأولياء المرأة من التزويج
من كفء (فالسلطان ولي من لا ولي له) أي فيزوجها السلطان. لأن الولي إذا
امتنع فكأنه لا ولي لها فيكون السلطان وليها (صححه الترمذي) وأبو عوانة
وابن معين وابن حبان والحاكم وغيرهم. قال الحاكم وقد صحت الرواية فيه عن
أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وأم سلمة وزينب وعلي وابن عباس
وغيرهم. وذكر ثلاثين صحابيًا.
وجمهور العلماء على اشتراط الولي. كما هو ظاهر هذا الحديث وغيره. وأن
المرأة لا تزوج نفسها. وقال ابن المنذر لا يعرف عن الصحابة خلاف في ذلك.
وعن أبي هريرة "لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها" وقال
(3/518)
الحافظ رجاله ثقات وظاهره لا بإذن الولي
ولا غيره. وجعلت امرأة أمرها بيد رجل غير الولي فانكحها فبلغ عمر فجلد
الناكح والمنكح. ورد نكاحها. وكان علي يضرب فيه بغير ولي. رواها الدارقطني.
وفيه أن المرأة تستحق المهر بالدخول وإن كان النكاح باطلًا. وأن بطلانه يقع
مع العلم بالحكم والجهل به.
ويسمى باطلًا أو صحيحًا. ولا واسطة بينهما. وأنه إن اشتجر الأولياء أي
عضلوا انتقلت الولاية إلى السلطان.
وظاهره أنه إن عضل الأقرب تنتقل إلى الأبعد وهو مذهب الجمهور. وكذا إن غاب
غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة أو جهل مكانه. أو تعذرت مراجعته.
تنتقل إلى من يليه ثم إلى السلطان فلأبي داود وغيره أن النجاشي زوج النبي -
صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة وقال ابن القيم وهو المعروف عند أهل العلم.
وقال الموفق وغيره للسلطان تزويج من لا ولي لها عند عدم الأولياء أو عضلهم
لا نعلم فيه خلافًا. فالسلطان ولي من لا ولي لها لعدمه أو منعه أو غيبته.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا "لا نكاح إلا بولي والسلطان ولي من
لا ولي له".
رواه الطبراني وغيره. والمراد بالسلطان من إليه الأمر.
وقال الموفق وغيره هو الإمام أو الحاكم أو من فوض إليه ذلك. وعن أحمد عند
عدم القاضي. وقال إذا لم يكن لها ولي فالسلطان المسلط على الشيء القاضي
يقضي في الفروج والحدود. وقال أيضًا ما للوالي ولاية إنما هو القاضي وقال
(3/519)
بعضهم إن الوالي أذن له في التزويج ويحتمل
أنه إذا لم يكن في موضع ولايته قاض. قال الشيخ لأنه موضع ضرورة ويقدم أبو
المرأة في إنكاحها لأنه أكمل نظرًا وأشد شفقة. ثم وصيه في النكاح. ولا
إشكال في جواز توكيله. لأن ولايته ثابتة شرعًا.
وكذلك لا يعتبر معه إذن كموكله. قال في الإنصاف قطع به الجمهور. وكذا إن
كان غير مجبر. لأن ولايته ثابتة بالشرع. فلا تتوقف استنتابته إلى إذنها
كالمجبر. وإنما افترقا على إذنها في صحة النكاح. قال وهذه طريقة الموفق
وغيره. وهو الأقوى دليلًا انتهى.
وتقدم الكلام في الأب فكذا وكيله. ثم جدها لأب وإن علا. ثم ابنها ثم بنوه
وإن نزلوا الأقرب فالأقرب. لما روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال لعمر بن أبي سلمة "قم فزوج رسول الله" فزوجه. ثم أخوها لأبوين
ثم لأب ثم بنوهما كذلك. ثم عمها لأبوين ثم لأب ثم بنوهم على ما سبق في
الميراث. ثم أقرب عصبة نسب كالإرث ثم المولى ثم المنعم ثم عصبته ثم ولاء.
قال الوزير اتفقوا على أن الولاية في النكاح لا تثبت إلا لمن يرث بالتعصيب
ولا ولاية لأخ من أم ولا خال ونحوه من ذوي الأرحام وهو مذهب الشافعي.
ولا تزول ولاية بالإغماء ولا بالعمى ولا بالسفه. وإن جن أحيانًا أو أغمي
عليه أو أحرم انتظر زوال ذلك. ولا ينعزل الولي بطريان ذلك. ثم السلطان أو
نائبه. وقال الشيخ إذا تعذر.
(3/520)
من له ولاية النكاح انتقلت الولاية إلى
أصلح من يوجد ممن له نوع ولاية ككبير قرية أو وليها أو أمير قافلة ونحوه.
وقال إذا ادعت خلوها من الموانع وأنها لا ولي لها زوجت ولو لم يثبت ذلك
ببينة اهـ. وإن زوج الأبعد من غير عذر للأقرب أو زوج أجنبي ولو حاكمًا من
غير عذر لم يصح العقد لعدم الولاية من العاقد عليها. مع وجود مستحقها.
وإن كان الأقرب لا يعلم أنه عصبة أو أنه صار أهلًا بأن بلغ أو عاد أهلًا
بعد مناف من نحو فسق صح العقد استصحابًا للأصل. ووكيل كل ولي يقوم مقامه
لأنه - صلى الله عليه وسلم - وكل أبا رافع وعمرو بن أمية بشرط إذنها للوكيل
بعد توكيله إن لم تكن مجبرة ويشترط في وكيل ولي ما يشترط فيه. ويقول ولي أو
وكيله لوكيل الزوج زوجت موكلك فلانًا فلانة وينسبها. ويقول وكيل الزوج
قبلته لفلان وينسبه بما يتميز به. وإن استوى وليان فالأكثر سنًا يقدم. فأسن
فإن تشاحوا أقرع.
(وعن عقبة) بن عامر -رضي الله عنه- (مرفوعًا أيمًا امرأة زوجها وليان)
استويا في الولاية لرجلين (فهي للأول) أي لمن عقد له أولًا (رواه أبو داود)
وأحمد والنسائي وغيرهم والخمسة عن الحسن عن سمرة وحسنه الترمذي فدل
الحديثان على أنه إذا عقد لها وليان لرجلين وكان العقد مرتبًا إنها للأول
منهما سواء دخل بها الثاني أولا. لأنه تزوج زوجة غيره. أما إن دخل بها
عالمًا فأجمعوا على أنه زنا. وأنها للأول وإن كان جاهلًا إلا أنه لا
(3/521)
حد عليه للجهل. فإن وقع العقدان معًا في
وقت واحد بطلا عند أكثر الفقهاء وكذا إذا علم ثم التبس. واختار الشيخ يقرع
بينهما. وهي للقارع من غير تجديد عقد. وهو ظاهر كلام الجمهور. إلا إذا دخل
بها أحدهما برضاها فإنه يقرر العقد الذي أقرت بسبقه.
(وعن جابر) بن عبد الله -رضي الله عنه- (مرفوعًا أيما عبد تزوج بغير إذن
مواليه وأهله فهو عاهر) أي زان رواه أحمد وأبو داود و (صححه الترمذي) وابن
حبان. وله عن ابن عمر أنه وجد عبدًا له تزوج بغير إذنه ففرق بينهما. وأبطل
عقده. وضربه الحد. فدل على أن نكاح العبد بغير إذن وليه باطل. وحكمه حكم
الزنا عند الجمهور. إلا أنه يسقط عنه الحد إذا كان جاهلًا التحريم. ويلحق
به النسب. ولا ولاية لأحد عليها معه. ولو أبوها أبو ابنها قال الموفق بلا
خلاف.
(وعن معقل بن يسار) -رضي الله عنه- (قال كانت لي أخت) قال الطبري اسمها
جميل بالتصغير. وقيل غير ذلك.
قال وكانت تخطب إلي (فأتى ابن عم لي فأنكحتها إياه) وفي رواية أنه زوج أخته
رجلًا من المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ثم طلقها)
طلاقًا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها وذكر أنها خطبت إليه قال (ثم
أتاني) يخطبها (فقلت لا أنكحها) وفي لفظ لا والله لا أنكحها أبدًا (فنزلت)
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
تَعْضُلُوهُنَّ} أن ينكحن أزواجهن) الآية أي
(3/522)
لا تمنعوهن عن النكاح بعد انقضاء العدة.
والعضل المنع. وأصله الضيق والشدة. وفيه فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه
(رواه البخاري) وفي رواية وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه وفي رواية فهويها
وهويته.
فدل الحديث على اعتبار الولي. وإلا لكان رغوب أحدهما في الآخر كافيًا. ودل
على أن السلطان لا يزوج المرأة إلا بعد أن يأمر وليها بالرجوع عن العضل.
وقال الشافعي هذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقًا
وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف. قال وجاءت السنة
بمعنى ما في كتاب الله عز وجل. اهـ. واتفقوا على أنه ليس للولي أن يعضل
وليته إذا دعت إلى كفء. وبصداق مثلها.
وقال الشيخ إذا خطبها كفؤ وآخر وآخر فمنع صار ذلك كبيرة يمنع الولاية لأجل
الإضرار والفسق. وتمام الآية: {تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ
لاَ تَعْلَمُون}، وهذا خطاب مع الأولياء. وهو أظهر ما يحتج به في اعتبار
الولي في العقد. فلو كانت تملك عقد النكاح لم يكن هناك عضل ولا للنهي معنى.
وهل أبلغ من هذا الخطاب.
(ولهما عن أنس) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق
صفية) بنت حيى بن أخطب من سبط هرون بن عمران كانت تحت ابن أبي الحقيق. وقتل
يوم خيبر ووقعت في السبي.
(3/523)
فاصطفاها - صلى الله عليه وسلم - فأعتقها
(وتزوجها) ولأحمد اصطفى صفية بنت حي فاتخذها لنفسه. وخيرها أن يعتقها وتكون
زوجته أو يلحقها بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته وتوفيت رضي الله
عنها سنة الخمسين. وفي الصحيحين "أيما رجل كانت عندة وليدة فعلمها فأحسن
تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" وذهب جمهور
العلماء إلى ما دل عليه الحديث من صحة العقد والعتق والمهر. وقال ابن القيم
هو القول الصحيح الموافق للسنة وأقوال الصحابة والقياس وفي الحديث الثاني
أيضًا مشروعية إعتاق الإماء والتزوج بهن وأنه يستحق بذلك أجرين.
فصل في الشهادة
أي على عقد النكاح لأن الفرض إعلانه احتياطًا للنسب خوف الإنكار. واتفق أهل
العلم العلم على أنه لا يجوز نكاح السر. وأنه ينعقد بحضور شاهدين مع الولي.
(عن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا
نكاح إلا بولي وشاهدي عدل رواه البرقاني) في صحيحه واسمه أحمد بن محمد بن
غالب الخوارزمي الشافعي صاحب التصانيف. وضمن صحيحه ما اشتمل عليه الصحيحان.
وحديث النووي والشعبي وطائفته توفي سنة أربعمائة وخمس وعشرين
وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا "لا نكاح إلا بولي
(3/524)
وشاهدي عدل" رواه الدارقطني ولأحمد نحوه عن
عمران بن حصين. وعنها لا بد في النكاح من حضور أربعة الولي والزوج
والشاهدين. وللترمذي وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا "البغايا
التي يزوجن أنفسهن بغير بينة" وروي عن أبي هريرة وابن عمر وفيها مقال. وثبت
عن ابن عباس لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد وفي لفظ إلا بينة. ولا يعلم
له مخالف من الصحابة.
فدلت هذه الأحاديث والآثار وغيرها على اعتبار الشاهدين. وهو مذهب الشافعي
وأبي حنيفة وأحمد وجمهور العلماء. وقال الترمذي العمل على هذا عند أهل
العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين
وغيرهم. قالوا لا نكاح إلا بشهود لم يختلف في ذلك من مضى منهم. إلا قوم من
المتأخرين من أهل العلم. وتعتبر العدالة ظاهرًا عند جماهير العلماء.
(وعن عبد الله بن الزبير) بن العوام -رضي الله عنهما- (أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال أعلنوا النكاح رواه أحمد) وصححه الحاكم وغيره وعن
عائشة رضي الله عنها "أعلنوا النكاح وأضربوا عليه بالغربال" رواه الترمذي
وتكلم فيه. وله أيضًا وحسنه "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا
عليه بالدفوف" فدلت هذه الأحاديث وغيرها على الأمر بإعلانه وهو خلاف السر
لأنهم لو لم يعلنوه فربما لم يدر الناس فينسبونها إلى الزنا فيقعون في
الغيبة والبهتان.
(3/525)
(ولمالك) بن أنس رحمه الله في الموطأ (أن
عمر أتى بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال هذا نكاح السر ولا أجيزه)
ولو كنت تقدمت فيه لرجمت. فهذه الأحاديث وغيرها تدل على اعتبار الإشهاد.
وأنه لا يكتفى فيه إلا برجلين وتدل على اعتبار الإعلان به واتفق أهل العلم
أنه لا يجوز نكاح السر لهذه الأخبار وغيرها. وفي الاختيارات والذي لا ريب
فيه أن النكاح مع الإعلان يصح. وإن لم يشهد شاهدان وأما مع الكتمان
والإشهاد فينظر فيه وإذا اجتمع الإعلان والإشهاد فلا نزاع في صحته. وإن خلا
من الإعلان والإشهاد فهو باطل عند عامة العلماء.
وقال أبو بكر من شروط النكاح الإظهار. فإذا دخله الكتمان فسد. وقال مالك
يبطله وهو رواية عن أحمد ولا تشترط الشهادة بخلوها من الموانع وقيل إن لم
يعلم لها سابقة تزوج ولا على إذنها للولي أن يزوجها والاحتياط الإشهاد فإن
أنكرت الإذن صدقت قبل الدخول لا بعده لأن دخوله بها دليل كذبها وإن ادعت
الإذن فأنكر صدقت.
* * *
(3/526)
فصل في الكفاءة
وهي لغة المساواة والمثل تتكافأ دمائهم أي تتساوى. والمراد بالكفاءة في باب
النكاح الدين والمنصب والحرية والصناعة واليسار. وإذا رضيت المرأة
والأولياء صح النكاح بالاتفاق إلا في الدين.
(قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لما ذكر تعالى
أنه خلقنا من ذكر وأنثى وجعلنا شعوبًا وقبائل لنتعارف: بين الخصلة التي بها
فضل الإنسان وأنها التقوى. وكأنه لما قال ليس الشعوب والقبائل للتفاخر. قيل
فبأي شيء يستحق الشخص المفخرة قال "من كان أتقى لله وأخشى له" وإلا فالناس
متشاركون في الجد والجدة والكل واحد وإنما التفاوت بالدين.
(وعن فاطمة بنت قيس) أخت الضحاك بن قيس القرشية الفهرية. وكانت من
المهاجرات الأول. ذات جمال وفضل وكمال (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-. قال لها انكحي أسامة) بن زيد -رضي الله عنهما- وكانت جاءت إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - بعد أن طلقها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة. فأخبرته أن
معاوية وأبا جهم خطباها فقال لها "أما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه وأما
معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة" (رواه مسلم) وأسامة مولاه بن مولاه
وهي قرشية وقدمه - صلى الله عليه وسلم - على أكفائها ممن ذكر فدل على أنه
لا عبرة في الكفاءة بغير الدين.
(ولأبي داود) وغيره (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه-
(3/527)
(مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال (يا بني بياضة) القبيلة المشهورة من الأمصار من بياضة ابن عامر
بن زريق الخزرجي -رضي الله عنه- (أنكحوا أبا هند) واسمه يسار. وهو الذي حجم
النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان مولى لبني بياضة (وأنكحوا إليه) وكان
حجامًا والحديث صححه الحاكم وجوده الحافظ وغيره فدل على عدم اعتبار كفاءة
الأنساب. وثبت أن بلالًا نكح هالة بنت عوف. أخت عبد الرحمن بن عوف رضي الله
عنهم. وعرض عمر ابنته على سلمان الفارسي.
وذهب الجمهور إلى أن الكفاءة النسب ليست شرطًا في صحة النكاح كما دلت عليه
هذه الأحاديث وغيرها ففي الصحيح أن أبا حذيفة بن عتبة تبني سالمًا وأنكحه
ابنة أخيه الوليد بن عتبة. وهو مولى لامرأة من الأنصار. وقال الموفق وغيره
الصحيح أن الكفاءة غير مشروطة وهي المذهب عند أكثر المتأخرين. وقول أكثر
أهل العلم. وعن أحمد أنها مشروطة لأنها حق لله ولها وأوليائها وأوردوا فيه
أخبارًا. قال وما روي فيه يدل على اعتبارها في الجملة. ولا يلزم منه
اشتراطها. أما الدين وهو أداء الفرائض واجتناب النواهي فمعتبر باتفاق
الأئمة. فلا تزوج عفيفة بفاجر.
وأما المسلمة بمجوسي ونحوه فلا نزاع في بطلانه. وأما المنصب وهو النسب فليس
العجمي كفوًا للعربية وروي عن عمر لأمنعن أن تزوج ذات الأحساب إلا من
الأكفاء وأما
(3/528)
الحرية فليس العبد كفوًا للحرة ولو عتيقة
لقصة بريرة ولأنه منقوص بالرق. ممنوع من التصرف وأما الصناعة فكما روي
"العرب بعضهم لبعض أكفاء إلا حائكًا أو حجامًا" وضعفه أحمد وغيره لكن قال
العمل عليه عند أهل العرف. وأما اليسار بحسب ما يجب لها من مهر ونفقة. فلما
روي "الحسب المال" وأحساب الناس بينهم هذا المال. ولأن عليها ضررًا في
إعساره وبه تملك الفسخ كما يأتي.
وقال الخطابي الكفاءة معتبرة في قول أكثر العلماء بأربعة أشياء: الدين
والحرية والنسب والصناعة. ومنهم من اعتبر السلامة من العيوب. واعتبر بعضهم
اليسار. ومذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء أن النسب شرط للزوم النكاح.
فلو زوج الأب عربية بعجمي أو حرة بعبد فلمن لم يرض من المرأة والأولياء
الفسخ. لأن العار عليهم جميعًا وخياره على التراخي. ولا يسقط بإسقاط بعض
العصبة. وقال الشافعي ليس نكاح غير الأكفاء حرامًا فيرد به النكاح. وإنما
هو تقصير بالمرأة والأولياء. فإذا رضوا صح ويكون حقًا لهم تركوه فلو رضوا
إلا واحدًا فله الفسخ.
وفي الاختيارات الذي يقتضيه كلام أحمد أن الرجل إذا تبين له أنه ليس بكفء
فرق بينهما وأنه ليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء ولا للزوج أن يتزوج
ولا للمرأة أن تفعل ذلك وأن الكفاءة ليست بمنزلة الأمور المالية. ولكنه أمر
ينبغي
(3/529)
لهم اعتباره. وإن كانت منفعته تتعلق
بغيرها. وفقد النسب والدين لا يقر معهما النكاح بغير خلاف عن أحمد. وحيث
يثبت الخيار بفقد الكفاءة للمرأة أو وليها يسقط خيارها بما يدل على رضاها.
من قول أو فعل. وأما الأولياء فلا يسقط إلا بالقول ويفتقر الفسخ إلى حاكم.
ولهم الفسخ ولو مع ما يدل على رضاها به إذا لم يرضوا به وأما كفاءة المرأة
فليست شرطًا اتفقاً. فقد تزوج - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي. وتسرى
بالإماء.
باب المحرمات في النكاح
وعبر بعضهم بموانع النكاح والمحرمات في النكاح ضربان: من يحرمن إلى الأبد
أو إلى أمد ومن يحرمن إلى الأبد أقسام: وفي كتاب الله بالنسب سبع وسبع
بالسبب. وقال الشيخ موانع النكاح الرحم والصهر والرضاع. وجمع الرحم المحرم
وجمع العدد. والكفر والرق والنكاح والعدة والإحرام والطلاق الثلاث. واللعان
في أشهر الروايتين والزنا وتزويجها في العدة في رواية. والخنوثة والملك من
الجانبين أو ملك الولد والمكاتب وفضل المرأة على الرجل إذا قلنا الكفاءة
شرط.
(قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أي حرم عليكم نكاح
أمهاتكم جمع أم. ويدخل فيها الجدات وإن علون من قبل الأم ومن قبل الأب قال
ابن رشد اتفقوا على أن الأم ههنا
(3/530)
اسم لكل أنثى لها عليك ولادة من جهة الأم
أو من جهة الأب اهـ فسواء أمك التي ولدتك أو التي ولدت من ولدتك. وإن علت
ومنه جداتك أم أبيك وأم أمك. وجدتا أبيك وجدتا أمك وجدات أجدادك جدات جداتك
وإن علون. وارثات أو غير وارثات لقوله - صلى الله عليه وسلم - في هاجر أم
إسماعيل "تلك أمكم يا بني ماء السماء".
{وَبَنَاتُكُمْ} جمع بنت ويدخل فيها بنات الأولاد وإن سفلن قال ابن رشد
اتفقوا على أن البنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة من قبل الإبن أو من قبل
البنت أو مباشرة اهـ. وتحرم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم الآية. وهو
مذهب جمهور أهل العلم أبي حنيفة ومالك وأحمد. وقال غير واحد تحرم ابنته
وابنة ابنه وأخته وابنة أخيه من الزنا في قول عامة الفقهاء.
{وَأَخَوَاتُكُمْ} جمع أخت سواء كانت من قبل الأب والأم أو من قبل أحدهما.
قال ابن رشد وغيره اتفقوا على أن الأخت اسم لكل أنثى شاركتك في أحد أصليك
أو مجموعهما أعني الأب أو الأم أو كليهما.
{وَعَمَّاتُكُمْ} جمع عمة ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك وأجدادك وإن علوا
واتفقوا على أن العمة اسم لكل أنثى هي أخت لأبيك أو لكل ذكر له عليك ولادة.
{وَخَالاَتُكُمْ} جمع خالة ويدخل فيهما جميع أخوات أمهاتك وجداتك. واتفقوا
على أن الخالة اسم لكل أخت لأمك أو أخت كل أنثى لها عليك
(3/531)
ولادة {وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ
الأُخْتِ} ويدخل فيها بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن. وحكى ابن رشد وغيره
الاتفاق على أن بنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة من قبل أمها أو من
قبل أبيها أو مباشرة وبنات الأخت اسم لكل أنثى لأختك عليها ولادة مباشرة
أومن قبل أمها أو من قبل أبيها.
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} أي كما تحرم عليك أمك التي
ولدتك كذلك تحرم عليك أمك التي أرضعتك فتحرم الأمهات وجداتهن وإن علت
{وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} أي وكما تحرم عليك أختك من النسب تحرم
عليك أختك من الرضاعة. فكل امرأة أرضعتك أمها أو أرضعتها أمك أو أرضعتك
وإياها امرأة واحدة. أو ارتضعت أنت وهي من لبن رجل واحد فهي أختك محرمة
عليك. {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} أي وحرمت عليكم أمهات نسائكم. فكل من عقد
النكاح على امرأة حرم عليه أمهاتها وجداتها وإن علون من النسب والرضاعة
بنفس العقد دخل بها أو لم يدخل بها. وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة
والتابعين.
وقال الوزير اتفقوا على أن نفس العقد على المرأة يحرم أمها على العاقد على
التأبيد وأنه لا يعتبر الوطء في ذلك وقال ابن رشد ذهب الجمهور من كافة
فقهاء الأمصار إلى أن الأم تحرم بالعقد على البنت دخل بها أو لم يدخل.
{وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ} الربائب جمع
ربيبة وهي بنت المرأة.
(3/532)
سميت ربيبة لتربيته إياها غالبًا وكذا بنات
أولادها الذكور والإناث وإن نزلن. وقوله: {فِي حُجُورِكُم} أي في تربيتكم
يقال فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته. والجمهور على أن الربيبة حرام.
سواء كانت في حجر الرجل أم لم تكن في حجره فليس شرطًا كونها في حجر الزوج
فهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
وقال الوزير اتفقوا على أن الرجل إذا دخل بزوجته حرمت عليه بنتها على
التأبيد وإن لم تكن الربيبة في حجره وقال - صلى الله عليه وسلم - "لا
تعرضوا علي بناتكن ولا أخواتكن" قال الشيخ وتحرم بنت الربيبة لأنها ربيبة
وبنت الربيب أيضًا وقال لا أعلم فيه خلافًا. {اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ}
أي نكحتموهن فإن المراد بالدخول هنا الوطء وإنما كني عنه بالدخول قال ابن
جرير وفي إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها
قبل مسيسها ومباشرتها. وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك
هو الوصول إليها بالجماع.
{فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ} أي وطأتموهن كما هو قول
الجمهور {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن أو
متن. قال ابن المنذر أجمع عوام علماء الأمصار أن الرجل إذا تزوج امرأة ثم
طلقها وماتت قبل أن يدخل بها حل له أن يتزوج ابنتها فإن خلا بها ولم يطأها
لم تحرم ابنتها عليه. وقال القاضي إن تجردت الخلوة عن نظر أو مباشرة لم
تحرم وإن
(3/533)
وجد معها نظرة وقبلة وملامسة دون الفرج
فروايتان وقال الشيخ إن اتصلت بعقد النكاح قامت مقام الوطء.
{وَحَلاَئِلُ} أي زوجات {أَبْنَائِكُمُ} واحدتها حليلة والذكر حليل. سميا
بذلك لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه. أو لأنها تحل إزار زوجها. وقيل غير
ذلك. {الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} أي الذين ولدتموهم من أصلابكم فأخرج
زوجة المتبني فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة زيد وكان قد
تبناه. قال الشيخ لا تحرم عليه زوجة ربيبه لا أعلم فيه نزاعًا وتحرم بنت
ابن زوجته لا أعلم فيه نزاعًا. فيحرم على الرجل حلائل أبنائه وأبناء أولاده
وإن سفلوا بنفس العقد. من نسب أو رضاع وارثات أو غير وارثات باتفاق أهل
العلم.
ويباح للمرأة ابن زوجة ابنها وابن زوج ابنتها وابن زوج أمها وزوج أبيها
وزوج زوجة ابنها {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} أي وحرم الله
عليكم الجمع بين الأختين معًا في التزويج. وكذا في ملك اليمين وأجمع أهل
العلم من الصحابة والتابعين والأئمة وسائر السلف. على أنه يحرم الجمع بين
الأختين في النكاح. وكذلك الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين
بملك اليمين في الوطء بل أجمع المسلمون على أن معنى (حرمت عليكم أمهاتكم)
الآية أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء. وكذلك عند الجمهور الجمع
بين الأختين وأمهات النساء والربائب. قال ابن كثير وهم الحجة.
(3/534)
وقال الشيخ يحرم الجمع بين الأختين بالوطء
بملك اليمين كقول جمهور العلماء. ومن قال كرهه أحمد فغلط. مأخذه الغفلة عن
دلالة الألفاظ. ومراتب الكلام {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي إلا ما قد مضى
منكم في الجاهلية فقد عفونا عنه وغفرناه {إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا
رَّحِيمًا} وكذلك لا يجوز له الجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة
وخالتها كما سيأتي {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} أي وحرم عليكم من
الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات فلا يحل للغير نكاحها قبل مفارقة الأزواج
وفراغ العدة وهذه السابعة من اللاتي حرمن بالسبب.
{إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل
لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن. لأن بالسبي يرتفع النكاح بينها وبين زوجها وثبت
عن أبي سعيد أنها نزلت في سبايا أوطاس لهن أزواج فكرهوا أن يقعوا عليهن
فنزلت هذه الآية. وقيل المراد بالمحصنات من النساء ما عدا الأربع حرام
عليكم إلا ما ملكت أيمانكم {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} أي هذا التحريم كتاب
كتبه الله عليكم فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده. والزموا شرعه وما
فرضه.
{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} أي ما عدا ما ذكر من المحارم هن
حلال لكم {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم} أي تطلبوا وتحصلوا بأموالكم
فتنكحوا بصداق إلى أربع. أو تشتروا بثمن ما شئتم بالطريق الشرعي
{مُّحْصِنِينَ} أي متزوجين أو متعففين.
(3/535)
وقال الشيخ المحصن هو الذي أحصن المرأة من
غيره أي منعها من غيره فلا يشركه فيها غير {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي غير
زانين مأخذو من سفح الماء وصبه وهو المني.
ثم قال تعالى وَمَن {لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى أن قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} فلا ينكح حر مسلم
أمة مسلمة إلا بشرطين أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة والخدمة. ويعجز عن
طول حرة وقيل وثمن أمة قال الموفق فتحل له الأمة المسلمة بهذين الشرطين خوف
العنت وعدم الطول عند عامة العلماء وإن اشترط حرية الولد فقال ابن القيم
وغيره يكون حرًا ولا ينكح عبد سيدته ولا سيد أمته وللحر نكاح أمة أبيه بشرط
دون أمة ابنه. لأن له التملك من ماله وليس للحرة نكاح عبد ولدها.
(وقال: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} حرم تعالى
نكاح زوجات الآباء على الأبناء تكرمة للآباء وإعظامًا واحترامًا أن يطأها
ابنه من بعده حتى إنها لتحرم على الإبن بمجرد العقد عليها بإجماع المسلمين.
وكذا زوجة كل جد وإن علا. قال ابن رشد وغيره إجماعًا. وذلك أن أهل الجاهلية
كان منهم من ينكح زوجة أبيه فروي أن هذه الآية نزلت في أبي قيس وفي الأسود
بن خلف وفي فاختة. وقال السهيلي كان معمولًا به
(3/536)
في الجاهلية ولهذا قال تعالى {إِلاَّ مَا
قَدْ سَلَفَ} أي معنى في الجاهلية.
{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وهي أقبح المعاصي {وَمَقْتًا} أي يورث مقت الله
والمقت أشد البغض {وَسَاء سَبِيلا} أي وبئس ذلك طريقًا لمن سلكه. فهو حرام
بإجماع المسلمين. بشع غاية البشع. فمن تعاطاه بعد هذا الوعيد الشديد
والتهديد الأكيد فقد ارتد عن دينه فيقتل كما سيأتي ولهذا حرمت أمهات
المؤمنين على الأمة لكونهن زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كالأب
بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع بل حبه - صلى الله عليه وسلم - مقدم على
حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} أي
لا يتزوجها أو لا يطؤها (إلا زان) أي عاص بزنا (أو مشرك) لا يعتقد تحريمه
{وَحُرِّمَ ذَلِكَ} أي نكاح الزانية {عَلَى الْمُؤْمِنِين} أي حرم تعالى
تعاطيه والتزويج بالبغايا. وهذه الآية كقوله تعالى {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ
مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} وقوله (والمحصنات من النساء)
أي العفيفات فمفهومها أو غير العفيفة لا تباح والآية وإن كان لفظها الخبر
فالمراد النهي.
قال ابن القيم وأما نكاح الزانية فقد صرح الله بتحريمه في سورة النور وأخبر
أن من نكحها فهو زان أو مشرك. فهو إما أن يلتزم حكمه تعالى ويعتقد وجوبه
عليه فإن لم يعتقده فهو
(3/537)
مشرك. وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو
زان ثم صرح تعالى بتحريمه فقال: "وحرم ذلك على المؤمنين"
{فَإِن طَلَّقَهَا} أي الطلقة الثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين
{فَلاَ تَحِلُّ لَهُ} أي تحرم عليه {مِن بَعْدُ} أي من بعد الطلقة الثالثة
{حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي غير المطلق فيجامعها. والنكاح تقدم
أنه يتناول الوطء والعقد جميعًا. والمراد هنا الوطء لما يأتي من قوله - صلى
الله عليه وسلم - "حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها" قال الشيخ لو قتل رجل
آخر ليتزوج امرأته فإنها لا تحل للقاتل أبدًا عقوبة له، ولو خبب رجل امرأة
على زوجها يعاقب عقوبة بليغة ونكاحه باطل في أحد قولي العلماء ويجب التفريق
بينهما.
وقال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أي حرم
تعالى على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان {حَتَّى
يُؤْمِنَّ} ثم أخبر أن أمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم بجمالها ومالها
وقال الوزير اتفقوا على أنه لا يجوز للمسلم نكاح المجوسيات ولا الوثنيات
ولا غيرهما من أنواع المشركات اللاتي لا كتاب لهن. وسواء في ذلك حرائرهن
وإماؤهن. وحكاه ابن رشد اتفاق المسلمين. وعموم الآية غير مراد فلا يدخل
فيها الكتابية لما يأتي.
وقال تعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ} أي لا
(3/538)
تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات
(حتى يؤمنوا) وقال تعالى {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ
هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ولا نزاع في ذلك ثم
قال تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى الأعمال الموجبة
للنار. فمعاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا وإيثارها على الدار الآخرة.
وعاقبة ذلك النار. {وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ
بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون}
يتعظون.
(وقال في الكتابية) أي في إباحة نكاح الحرة الكتابية واستثنائها من
المشركات
{وَالْمُحْصَنَاتُ} أي العفائف {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن
قَبْلِكُمْ} ممن دان بالتوراة أو الإنجيل خاصة كاليهود والسامرة والنصارى
ومن وافقهم من الإفرنج والأرمن وغيرهم. وقال الموفق ليس بين أهل العلم
اختلاف في حل نساء أهل الكتاب وقال ابن المنذر لا يصح عن أحد من الأوائل
أنه حرم ذلك. اهـ. وأما المتمسك بصحف إبراهيم وشيث وزبور داود فليسوا بأهل
كتاب. فلا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم كالمجوس. وأهل الأوثان. وكذا الدروز
والنصيرية ونحوهم.
ويحل نكاح نساء بني تغلب ومن في معناهن من نصارى العرب ويهودهم لأنهم
كتابيات قال في الفروع والأولى تركه. وكرهه القاضي وشيخنا. وذكر أنه قول
أكثر العلماء كأكل
(3/539)
ذبائحهم بلا حاجة. ولكن لا يحرم وقال
القاضي يكره نكاح الحرائر الكتابيات مع وجود الحرائر المسلمات. وهو قول
أكثر العلماء كما يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين مع وجود ذباحين مسلمين.
ولكن لا يحرم اهـ.
ولو ولدت بين كتابي وغيره أو كان أبواها غير كتابيين واختارت دين أهل
الكتاب قيل لا تباح وقال الشيخ قول أحمد لم يكن لأجل النسب ومنصوصه أنها لا
تحرم اعتبارًا بنفسها. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور. واختاره هو
والموفق وغيرهما.
(ويأتي قوله - صلى الله عليه وسلم -) في باب الرضاع (ويحرم من الرضاعة ما
يحرم من النسب) فالمرتضعون من الرجال والنساء باللبن الواحد كالمنتسبين
منهم إلى النسب الواحد لا فرق. وفي لفظ "أن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة"
وقال في ابنة أم سلمة "لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي إنها ابنة أخي أرضعتني
وإياها شويبة) وقال لعائشة وكانت امرأة أخي أفلح أرضعتها إنه عملك فكل
امرأة حرمت من النسب حرم مثلها من الرضاع كالعمة والخالة والبنت وبنت الأخ
وبنت الأخت قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا إلا أم أخته وأم أخيه من رضاع
وأخت ابنه.
قال الشيخ لا يثبت به تحريم المصاهرة فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته
وابنتها من الرضاع. ولا على المرأة نكاح
(3/540)
أبي زوجها وابنته من الرضاع ولم يقل - صلى
الله عليه وسلم - ما يحرم من المصاهرة وقال وامرأة ابنه أو أبيه من الرضاع
حرمن بالمصاهرة لا بالنسب. ولا نسب بينه وبينهن فلا تحريم اهـ وكل ما يلحق
به النسب من نكاح صحيح أو نكاح بشبهة فإنه يحرم بالرضاع فيه النكاح.
(وقال البراء) بن عازب بن الحارث الأوسي -رضي الله عنه- (لقيت خالي) يعني
أبا بردة بن نيار (ومعه الراية) ولأحمد مر بي عمي الحارث بن عمير ومعه لواء
قد عقده له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له أي عم أين بعثك النبي
- صلى الله عليه وسلم - (قال أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه رواه النسائي) ورواه أحمد وأهل
السنن من طرق عن البراء عن خاله أبي بردة. وفي رواية ابن عمر وفي رواية ابن
عمه أنه بعثه - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن
يقتله ويأخذ ماله وأجمع أهل العلم على تحريم من وطأ الأب على الابن وإن سفل
بتزويج أو ملك أو شبهة.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أن تنكح المراة على عمتها أو) تنكح المرأة على (خالتها متفق عليه) وفي لفظ
"نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها" ولابن حبان نهى أن
تزوج المرأة على العمة والخالة وقال "إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن"
ولأبي داود في المراسيل "مخافة القطيعة" ولأحمد وأبي داود وغيرهما كره أن
يجمع بين العمة
(3/541)
والخالة وبين الخالتين والعمتين وقال - صلى
الله عليه وسلم - "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم
أختين".
وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على تحريم الجمع بين من ذكر وحكاه الترمذي
بعد حديث الباب عن عامة أهل العلم. والشافعي عن جميع المفتين. وقال ابن
المنذر لا أعلم في ذلك خلافًا وحكى القرطبي الإجماع واستثنى الخوارج. وقال
ولا يعتد بخلافهم. وقال ابن رشد اتفق المسلمون على أنه لا يجمع بين الأختين
بعقد نكاح. وإن جمع بينهما في عقد بطل وفي عقدين بطل الثاني. وتقدم أن
العلة قطيعة الرحم وهي من الكبائر بالاتفاق. وما كان مفضيًا إليها يكون
محرمًا.
ويدخل في العمات عمات آبائها وخالاتهم وعمات أمهاتها وخالاتهن وإن علت
درجتهن. حرتين كانتا أو أمتين أو حرة وأمة قبل الدخول أو بعده للعموم وحكاه
ابن المنذر إجماعًا وخالفه الشيخ في الرضاع. وقال الوزير اتفقوا على أن
العمة تنزل في التحرير منزلة الخالة إذا كانت الأولى أخت الأم لأمها أو
امرأتين لو كانت إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرم نكاحه لها لقرابة. وحكاه
الشعبي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد.
ويحرم الجمع بين المرأة وأمها في العقد لأن المرأة وأمها أولى من الأختين.
وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يتزوج بكل
(3/542)
واحدة ممن يحرم عليه الجمع بينها وبين
المعتدة منه إذا كن معتدات من طلاق رجعي أو بائن. ولا يحرم الجمع بين ابنة
العم وابنة الخال في قول عامة أهل العلم ولا الجمع بين أخت شخص من أبيه
وأخته من أمه. ولا بين مبانة شخص وبنته من غيرها ولو في عقد لأنه لا قرابة
بينهما ومتى طلقت المرأة وفرغت عدتها أبيحت أختها أو عمتها أو خالتها
ونحوهن لعدم المانع وسائر القرابات الإلزام بتحريمه يرده الإجماع على خلاف.
(وعن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال (لا توطأ حامل) أي من غيره (حتى تضع رواه أبو داود) وتقدم
قوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فتحرم المعتدة من الغير وكذا المستبرأة لأنه لا يؤمن
أن تكون حاملًا فيفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وأجمعوا على أنه
لا يصح العقد في مدة العدة وحكاه ابن رشد وغيره سواء كانت عدة حمل أو عدة
حيض أو عدة أشهر. وسواء كانت من وطء مباح أو محرم أو من غير وطء.
(وله) أي لأبي داود في سننه (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا الزاني
المجلود لا ينكح إلا مثله) أي لا يحل لرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنا
وكذلك لا يحل للمرأة أن تتزوج بمن ظهر منه الزنا وقوله "المجلود" خرج مخرج
الغالب.
(3/543)
فلا مفهوم له. وتقدم قوله {حُرِّمَ ذَلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِين} ولا نزاع في ذلك وقال بعضهم حتى تتوب وتنقضي عدتها
وقيل توبتها أن تراود فتمتنع. والصواب توبتها بالندم والاستغفار والعزم على
أن لا تعود. فإذا تابت وانقضت عدتها حل نكاحها لزان تائب وغيره. وعن أحمد
لا تشترط التوبة وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم.
وأما انقضاء العدة فهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما ولقوله "لا توطأ حامل حتى
تضع وغير ذلك وإن زنت قبل الدخول أو بعده لم ينفسخ النكاح في قول عامة أهل
العلم وحكاه الوزير اتفاقًا وقال الشيخ إذا كانت المرأة تزني لم يكن له أن
يمسكها على تلك الحال بل يفارقها إلا إذا كان ديوثًا ولا يطؤها وفي بطنها
جنين لغيره. قال ابن عبد البر هذا مجمع على تحريمه.
(ويأتي خبر الذي طلق امرأته ثلاثًا) في باب الطلاق وإن شاء الله تعالى قالت
عائشة رضي الله عنها طلق رجل امرأته ثلاث (فتزوجها آخر ثم طلقها قبل أن
يدخل بها فأراد الأول أن يتزوجها) فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
عن ذلك (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا) أي لا تحل لك (حتى يذوق
الآخر عسيلتها) وتذوق عسيلته أي حلاوة الجماع التي تحصل بتغيب الحشفة وفي
لفظ حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول".
قال جمهور العلماء والعسيلة كناية عن المجامعة، وهو
(3/544)
تغييب الحشفة في فرج المرأة ويكفي منه ما
يوجب الغسل كما تقدم. ويجب الحد والصداق فدل الحديث كما دلت الآية على
تحريم نكاح مطلقته ثلاثًا حتى يطأها زوج غيره بلا نزاع ولو كافرًا في
كتابية وتحرم الملاعنة على الملاعن على التأبيد. قال سهل بن سعد: مضت السنة
في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا مقال الموفق لا نعلم
أحدًا قال بخلاف ذلك.
(وعن قيس بن الحارث) الأسدي وقيل الحارث بن قيس الأسدي -رضي الله عنه- (قال
أسلمت وعندي ثمان نسوة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختر منهن
أربعًا رواه أبو داود) وعن سالم عن أبيه أو غيلان بن سلمة أسلم وله عشر
نسوة فأسلمن معه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخير منهن أربعًا
رواه أحمد والشافعي والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم قال أحمد والعمل عليه
وروى الشافعي والبيهقي عن نوفل بن معاوية أنه قال أسلمت وتحتي خمس نسوة
فقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "فارق واحدة وامسك أربعًا " وإن كان
فيها مقال فبمجموعها يحتج بها. كما هو مفهوم الآية.
وحكي الإجماع على تحريم الزياد على أربع، وأن الزيادة من خصائصه - صلى الله
عليه وسلم - وقال عمر ينكح العبد امرأتين وقال الحكم بن عتبة أجمع الصحابة
على أنه لا ينكح العبد أكثر من اثنتين
وقال ابن القيم وقصر عدد المنكوحات على أربع وإباحة ملك اليمن بغير حصر من
تمام نعمة الله وكمال شريعته. وموافقتها للحكمة والرحمة والمصلحة. فإن
النكاح يراد للوطء
(3/545)
وقضاء الوطر ثم من الناس من يغلب عليه
سلطان الشهوة فلا تندفع حاجته بواحدة فاطلق له ثانية وثالثة ورابعة.
ورحم الضرة بأن جعل عامة انقطاع زوجها عنها ثلاثاً ثم يعود. وأما الإماء
فلما كن بمنزلة سائر الأموال من الخيل والعبيد وغيرها لم يكن لقصره على
أربع منهن أو غيرهن من العدد معنى. وأيضاً للزوجة حق على الزوج اقتضاه عقد
النكاح. ويجب القيام به. فقصره على عدد يكون العدل فيه أقرب وجعل العبيد
على النصف من الأحرار في الجملة.
(وتقدم) في كتاب الحج قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا ينكح المحرم) بفتح
الياء أي لا يعقد المحرم بحج أو عمرة لنفسه (ولا ينكح) بضم الياء أي لا
يتولى العقد لغيره. وفيه "ولا يخطب" أي لا يطلب امرأة للنكاح. فدل الحديث
على أنه يحرم على المحرم أن يعقد النكاح في حال إحرامه. وهو مذهب جماهير
العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وحكى إجماعاً. فإن فعل فالنكاح باطل.
وهو قول عمر وعلي وابن عمر وزيد وغيرهم. ولأن الإحرام يمنع الوطء ودواعيه
فمنع صحة عقده حسمًا لمواد النكاح عن المحرم. وصلى الله عليه محمد وآله
وصحبه وسلم.
آخر المجلد الثالث من شرح أصول الأحكام، ويليه
المجلد الرابع، وأوله: باب الشروط في النكاح.
(3/546)
جمع الفقير إلى الله تعالى
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
الحنبلي النجدي
رحمه الله تعالى
(1312 - 1392 هـ)
المجلد الرابع
(4/4)
باب الشروط في
النكاح
تقدم تعريف الشروط. والمراد هنا ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر مما له
فيه غرض. والمعتبر منها ما كان في صلب العقد أو اتّفاقًا عليه قبله.
والشروط في النكاح منها ما هو صحيح يجب الوفاء به بالاتفاق. وهو ما يقتضيه
العقد. كتسليم الزوجة. والاستمتاع بها. وغير ذلك مما أمر الله به من إمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان. ومنها ما تنتفع به المرأة ولا ينافي مقتضى العقد
كأن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى ونحو ذلك. ومنها ما هو فاسد لا يصح على ما
سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
(وعن عقبة) ابن عامر -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: إن أحقَّ الشروط أن يوفى بها) وفي لفظ «أحق ما أوفيتم به من الشروط»
وفي لفظ «إن أحق الشروط أن توفوا به» (ما استحللتم به الفروج متفق عليه) أي
أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح، فهي أولى من الشروط في البيوع وغيرها. لأن
أمره أحوط. وبابه أضيق والمراد الجائزة لا المنهي عنها. فقد قال علي رضي
الله عنه سبق شرط الله شرطها.
(4/5)
(وقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (المسلمون على شروطهم) وتقدم وفيه «إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم
حلالاً» فيدخل فيه شرط ما يقتضيه العقد وما تنتفع به المرأة ولا ينافي
الشرع، وبطلان ما أحل حرامًا أو حرم حلالاً كشرط طلاق أختها.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا نهي) أي أنه - صلى الله عليه وسلم -
نهى (أن تشترط المرأة طلاق أختها متفق عليه) وسواء كانت أختها من النسب أو
الرضاع أو الدين، وقال ابن عبد البر الأخت هنا الضرة، وفي لفظ لهما «ولا
تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها» وفي لفظ «إنائها فإنما رزقها
على الله تعالى» ولأحمد من حديث عبد الله بن عمر «لا يحل أن تنكح امرأة
بطلاق أخرى».
والنهي يقتضي بطلان الشرط. وهو مذهب جماهير العلماء، ولأنها شرطت عليه فسخ
عقده وإبطال حقه وحق امرأته فلم يصح الشرط، وهذا التحريم فيما إذا لم يكن
هناك سبب يجوز ذلك لريبة، أو على سبيل النصيحة المحضة أو لضرر أو غير ذلك
من المقاصد المسوغة لطلبها ذلك.
(وقال عمر) رضي الله عنه (فيمن شرطت دارها أي على من تزوجها ثم أراد نقلها)
فقضى عليه بلزوم الشرط، قال المشروط عليه إذ يطلقنا فقال عمر (لها شرطها)
أي بقاؤها في دارها عملاً بالشرط. ثم قال رضي الله عنه (مقاطع الحقوق عند
الشروط) وتقدم أمره - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء بالشروط، وإن أحق
الشروط بالوفاء ما استحلت به الفروج. فدلت الأحاديث
(4/6)
والأثر على الوفاء بالشروط. فإذا شرطت
دارها أو بلدها صح الشرط، وكذا لو شرطت أن لا يتزوج عليها أو أن لا يتسرى
عليها فيصح الشرط، فإن وفى به وإلا فلها الفسخ، كما هو ظاهر النصوص. وقول
عمر. وقال الموفق وغيره هو قول غيره من الصحابة ولم يعلم لهم مخالف في
عصرهم.
وقال ابن القيم يجب الوفاء بهذه الشروط التي هي أحق أن يوفى بها، وهو مقتضى
الشرع والعقل، والقياس الصحيح، فإن المرأة لم ترض ببذل بضعها للزوج إلا على
هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تراض وكان لزامًا لها بما
لم تلتزمه، وبما لم يلزمها الله به ولا رسوله، وكذا لو شرطت أن لا يسافر
بها. وقال الشيخ لو خدعها فسافر بها ثم كرهته لم يكن له أن يكرهها بعد ذلك،
وقال إذا أراد أن يتزوج عليها أو يتسرى وقد شرط لها عدم ذلك فقد يفهم من
إطلاق أصحابنا جوازه بدون إذنها. لكونهم إنما ذكروا أن لها الفسخ، ولم
يتعرضوا للمنع، قال وما أظنهم قصدوا ذلك. وظاهر الأثر والقياس يقتضي منعه
كسائر الشروط الصحيحة اهـ.
ولو شرطت أن لا يفرق بينها وبين أولادها، وأبويها. أو أن ترضع ولدها الصغير
صح الشرط، أو شرطت نقدًا معينا أو زيادة في مهرها، أو نفقة ولدها وكسوته
صح، قال الشيخ لو شرطت مقام ولدها عندها ونفقته على الزوج كان مثل اشتراط
الزيادة في الصداق، ويرجع إلى العرف كالأجير بطعامه وكسوته وقال إذا شرطت
عليه أن لا يخرجها من دارها، ونحوه صح في
(4/7)
مذهب أحمد ومالك ووجه في مذهب الشافعي وكذا
إن كان متقدمًا على العقد ولو لم يذكره حين العقد. وقال عامة نصوص أحمد
وقدماء أصحابه ومحققي المتأخرين على أن الشروط والمواطأة التي تجري بين
المتعاقدين قبل العقد إذا لم يفسخاها حين العقد. فإن العقد يقع مقيدًا بها.
وقال ابن القيم في قصة ابنة أبي جهل يؤخذ منها أن المشروط عرفًا كالمشروط
لفظًا، وأنه يملك به فسخ العقد، فقوم لا يخرجون نساءهم من ديارهم عرفًا
وعادة، أو امرأة من بيت قد جرت عادتهم أن الرجل لا يتزوج على نسائهم، أو
يمنعون الأزواج منه. أو يعلم عادة أن المرأة لا تمكن من إدخال الضرة عليها
كان ذلك كالمشروط لفظًا، وهذا عرف مطرد إلى آخر كلامه رحمه الله، وإن شرط
أن لا يخرجها من منزل أبويها فمات أحدهما بطل الشروط واستظهره الشيخ وغيره،
وقال يحتمل أن لا يخرجها منزل أمها، إلا أن تتزوج الأم، وقال فيمن شرط
لامرأته أن يسكنها بمنزل أبيه فسكنت ثم طلبت النقلة عنه وهو عاجز لا يلزمه
ما عجز عنه. بل لو كان قادرًا فليس لها عند مالك واحد القولين في مذهب أحمد
وغيرهما غير ما شرط لها.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن
الشغار) بكسر الشين سمي شغارًا لخلوه عن العوض، من قولهم شغر المكان إذا
خلا، أو من شغر الكلب إذا رفع رجله يبول، ولمسلم عنه «لا شغار في الإسلام»
وللترمذي عن
(4/8)
عمران بن حصين نحوه وصححه (والشغار أن يزوج
الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق متفق عليه" وفي لفظ
لهما أن التفسير من كلام نافع، ولأحمد من حديث أبي هريرة "نهى عن الشغار،
والشغار أن يقول الرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي. أو زوجني أختك وأزوجك
أختي.
وللبيهقي عن جابر: "أن تنكح هذه بهذه بغير صداق بضع هذه صداق هذه وبضع هذه
صداق هذه" قال القرطبي تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة، فإن
كان مرفوعًا فهو المقصود، وإن كان من قول الصحابي فمقبول أيضًا. لأنه أعلم
بالمقال، وأقعد بالحال، وقال شيخ الإسلام: حقيقته أنه مبادلة بضع ببضع، كما
قال أحمد فرج بفرج. واتفق أهل العلم أن هذه صفته، وقال ابن رشد اتفقوا على
أن نكاح الشغار غير جائز لثبوت النهي، والنفي، وهو دال على أن الشغار حرام
باطل، ولا نزاع في تحريمه، ولأنه جعل كل واحد من العقدين سلمًا في الآخر،
فصار فساده أنه وقفه على شرط فاسد.
قال الشيخ ولم يقابل كل منهما إلا بمنفعة البضع الآخر، فالنفع للولي، وهو
البضع خاصة فهذا إشغار للنكاح من المهر، وإخراج للمرأة عن استحقاق المهر،
وهذا هو النكاح الذي نفي فيه المهر، فعلم أن النكاح بشرط نفي المهر باطل،
قال وحقيقة الأمر أن كل واحدة قد رضيت ببذل بضعها بلا مهر، لأجل ما تبذله
لوليها من بضع الأخرى فكأنها رضيت بمهر يستحقه
(4/9)
الولي، ولا تستحقه هي. ولو جاز هذا لجاز أن
المرأة تملك بضع المرأة لتزوجها لرجل، إما بعوض وإما بغير عوض اهـ.
والتحريم غير مختص بالبنات فقد أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات وبنات
الأخ وغيرهن كالبنات. كما حكاه النووي وغيره، ولو جعل بضع كل واحدة مع
دراهم معلومة مهرًا للأخرى لم يصح. أو سمى مهرًا قليلاً كان أو كثيرًا حيلة
لم يصح. وذلك بأن يكون العوض المقصود هو الفرج الآخر، حيث أنه لا يزوج به
هذا الرجل قط لولا ابنته معه، ففرج هذه هو المقصود لا المهر، ولأحمد أن
العباس بن عبد الله أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن
ابنته، وقد كانا جعلا صداقًا، فكتب معاوية إلى مروان بالتفريق بينهما، وقال
في كتابه هذا هو الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وذكر الشيخ الأخبار، وأقوال الناس. ثم قال وفصل الخطاب أ، الله حرم نكاح
الشغار، لأن الولي يجب عليه أن يزوج موليته إذا خطبها كفوء، ونظره لها نظر
مصلحة لا نظر شهوة، والصداق حق لها لا له، قال، وليس للولي ولا للأب أن
يزوجها إلا لمصلحتها، وليس له أن يزوجها بالزوج الناقص لغرض له، وإذا زوجها
برجل ليزوجه وليته كان قد زوجها لغرضه لا لمصلحتها. وبمثل هذا تسقط ولايته،
ومتى كان غرضه أن يعاوض فرجها بفرج الأخرى لم ينظر في مصلحتها وصار كمن
زوجها على مال له لا لها، وكلاهما لا يجوز.
(4/10)
وعلى هذا فلو سمي صداقًا حيلة والمقصود
المشاغرة لم يجز كما نص عليه أحمد، لأن مقصوده أن يزوجها بتزوجه بالأخرى،
والشرع قد بين أنه إذا زوج وليت هو على أن يزوجه الآخر وليته لا يقع هذا
إلا لغرض الولي لا لمصلحة المرأة سواء سمي مع ذلك صداقًا أو لم يسمه كما
قال معاوية وغيره، وأحمد رحمه الله جوزه مع تسمية الصداق المقصود دون
الحيلة. .
مراعاة لمصلحة المرأة في الصداق، وقد يصدق صداق المثل، لكن الولي إنما رغب
في الخاطب لغرضه إلا لمصلحتها، وقد يكون هناك خاطب أصلح منه، قال والظاهر
أن هذا وإن لم يسم شغارًا فهو في معناه من جهة أن الولي زوجها لغرض يصلح له
من الزوج، كما يحصل له إذا زوجه موليته.
وذكر أن لها حقين حقًا في مال الزوج وهو الصداق فإذا أسقط هذا بالشغار كان
حرامًا باطلاً وحقًا في بدن الزوج، وهو كفاءته، فلو زوجها الولي بغير كفء
لغرض له لم يجز ذلك، وإن أذنت له لجهلها بحقيقة الأمر فوجود هذا الإذن
كعدمه.
وقال أيضًا أما إذا سمي لها صداق مثلها فهذا يجوز في الجملة لكن يبقى
تخصيصها بهذا الخاطب دون غيره، أما إن كان لغرضه لم يكن له ذلك، وأما إذا
كان الخاطب أصلح لها، ولم يبذل للولي شيئًا، بل كل من الزوجين راغب في
المرأة المخطوبة، وكل من المرأتين راغبة في خاطبها، فهذا جائز مع الصداق
الشرعي.
(4/11)
(وعن ابن مسعود) رضي الله عنه أنه قال:
(لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل) سمي محللاً لقصده الحل في
موضع لا يحصل فيه الحل (والمحلل له) أي ولعن المحلل له (رواه الخمسة وصححه
الترمذي) وابن القطان وابن دقيق وغيرهم.
وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم منهم عمر وعثمان وابن عمر، هو قول
الفقهاء من التابعين، ولابن ماجه والحاكم من حديث عقبة: "ألا أخبركم بالتيس
المستعار" قالوا بلى يا رسول الله قال: "هو المحلل، لعن الله المحلل
والمحلل له" وعن علي نحوه.
وهذه الأحاديث دالة على تحريم التحليل، لأنه لا يكون اللعن إلا على فاعل
محرم، وكل محرم منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، فإن تزوجها بشرط أنه متى
حللها للأول طلقها بطل النكاح في قول عامة أهل العلم.
سواء قال زوجتكها إلى أن تطأها، أو أنه إذا أحلها فلا نكاح بينهما، وكذا إن
نوى التحليل بلا شرط، وحكي عن طائفة من الصحابة، ولا مخالف لهم، ولأنه قصد
التحليل فلم يصح النكاح كما لو شرطه، قال الشيخ لا يصح نكاح المحلل ونية
ذلك كشرطه، وكذا إن اتفقا عليه قبل العقد ولم يرجع عن نيته بطل النكاح ولو
لم يذكر في العقد لم يصح العقد.
وقال أجمعوا على تحريم نكاح المحلل، واتفق أئمة الفتوى على أنه إذا شرط
التحليل في العقد كان باطلاً والصحابة والتابعون وأئمة الفتوى لا فرق عندهم
بين الشرط المتقدم
(4/12)
والعرف وهو قول أهل المدينة وأهل الحديث
وقال ولا يحصل به الإحصان، ولا الإباحة للزوج الأول، ويلحق فيه النسب.
ومن عزم على تزويجه بالمطلقة ثلاثا، ووعدها كان أشد تحريمًا من التصريح
بخطبته المعتدة إجماعًا، لا سيما إذا اتفق عليها، وأعطاها ما تحلل به اهـ.
وإن لم يكن للزوج نية فقال ابن القيم وغيره إنما تؤثر نيته وشرط الزوج، ولا
أثر لنية الزوجة، ولا الولي وإنما التأثير لنية الزوج الثاني فإنه إذا نوى
التحليل كان محللاً فيستحق اللعنة، ويستحق الزوج المطلق اللعنة، إذا رجعت
إليه، بهذا النكاح الباطل، فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول بما في
قلب المرأة، أو وليها من التحليل، لم يضر ذلك العقد شيئًا، وقد علم النبي -
صلى الله عليه وسلم - من امرأة رفاعة أنها كانت تريد أن ترجع إليه، ولم
يجعل ذلك مانعًا من رجوعها إليه، وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني فقال:
«حتى تذوق عسيلته».
(وعن سبرة) بن معبد الجهني رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال يوم فتح مكة، أيها الناس إني كنت أذنت لكم) وفي رواية أمرنا بالمتعة
عام الفتح حين دخلنا مكة (في الاستمتاع) بالجماع (من النساء) وهو النكاح
الموقت.
بأمد معلوم أو مجهول، سميت بذلك لأنه يتزوجها ليتمتع بها إلى أمد. قال -
صلى الله عليه وسلم - «وإن الله قد حرم ذلك» أي نكاح المتعة (إلى يوم
القيامة رواه مسلم) وفي رواية فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا
تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" وفي رواية أنه غزا
(4/13)
مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام فتح
مكة قال فأقمنا بها خمسة عشر فأذن لنا في متعة النساء" ثم قال: فلم نخرج
حتى حرمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولهما عن ابن مسعود كنا نغزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس
معنا نساء، فقلنا أفلا نختصي " فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا بعد أن تنكح
المرأة بالثوب إلى أجل" وللترمذي من حديث سهل "إنما رخص في المتعة لعزبة
كانت بالناس شديدة ثم نهى عنها بعد ذلك" والمقصود أنه إنما رخص فيها بسبب
العزوبة ثم حرمت.
قال الحافظ ولا يصح من روايات الإذن بالمتعة شيء إلا في غزوة الفتح، وحرمت
فيها، والإذن الواقع منه منسوخ بالنهي المؤبد، وقال شيخ الإسلام الروايات
المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه تعالى حرم المتعة بعد إحلالها،
والصواب أنها بعد أن حرمت لم تحل، وأنها لما حرمت عام فتح مكة لم تحل. بعد
ذلك، ولم تحرم عام خيبر.
وذكر ابن القيم أن المسلمين لم يكونوا يستمتعون بالكتابيات، يقوي أن النهي
فيها لم يقع عام خيبر، وذكر السهيلي وغيره أنه لا يعرف عن أهل السير ورواة
الآثار أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة عام خبير، وذكر ابن
عيينة وغيره أن النهي زمن خبير عن لحوم الحمر الأهلية.
وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على
أن زمن إباحة المتعة لم يطل، وأنه حرم
ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض، وقال
الحازمي وكان تحريمًا
(4/14)
مؤبدًا لم يبق اليوم خلاف بين فقهاء
الأمصار وأئمة الأمة إلا أشياء ذهب إليها بعض الشيعة.
وما روي عن ابن عباس ثبت رجوعه فيها، وكانت تقرأ {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ
بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} حتى نزلت: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} فتركت
المتعة، وكان الإحصان وتحريمها كالإحماع بين المسلمين لم يبقى خلاف إلا من
بعض الروافض.
وقال الوزير أجمعوا على أن نكاح المتعة باطل لا خلاف بينهم في ذلك، فإذا
تزوج الغريب بنية طلاقها، أو قال الولي زوجتك وإذا جاء غد فطلقها أو وقت
كذا فطلقها، أو وقته بمدة، بأن قال زوجتكها شهرًا أو سنة لم يصح النكاح،
وإن زوجها إلى انقضاء الموسم أو قدوم الحاج، أو يقول الزوج أمتعيني نفسك،
أو نوى بقلبه فكالشرط، ولا فرق بينه وبين نية التحليل أيضًا وكذا لو شرط
الزوج في النكاح طلاقها ولو مجهولاً فكالمتعة لا يصح.
وإن علق النكاح على شرط مستقبل كاذا جاء رأس الشهر، أو إن رضيت أمها ونحوه،
فقال ابن رجب رواية الصحة أقوى، وإن قال زوجتك إن كانت بنتي، أو إن انقضت
عدتها، وهما يعلمان ذلك، أو إن شئت فقال قد شئت وقبلت ونحوه صح لأنه تقوية،
وإن شرط فيها خيارًا صح النكاح عند الجمهور.
(4/15)
وإن شرط أن لا مهر ولا نفقة، أو أن يقسم
لها أقل من ضرتها صح النكاح، وبطل الشرط عند الجمهور، واختار الشيخ صحته
كترك ما تستحقه، وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية فله الفسخ، أو شرطها بكرًا
أو جميلة أو نسيبة وبانت بخلافه فله الفسخ، وكذا لو شرط نفي عيب لا ينفسخ
به النكاح، لا إن شرط صفة فبانت أعلى منها، وإن ظنها مسلمة أو جميلة ونحو
ذلك فقال الشيخ لو قال ظننتها أحسن مما هي أو ما ظننت فيها هذا لم يلتفت
إلى قوله.
وكان هو المفرط حيث لم يسأل ولم يرها، ولا أرسل إليها من رآها له، وإذا فرط
فله التخلص بالطلاق.
وقال إن شرط وصفًا مقصودًا فبانت بخلافه فإلزامه بما لم يرض به لم يأت به
شرع ولا عرف، بل هو مخالف للأصول والعقول، ولا شيء عليه إن فسخ قبل الدخول،
وبعده يرجع بالمهر على الغار، وإن شرط أنها حرة فكانت أمة، فإن كان ممن يحل
له نكاح الإماء فله الخيار، ولا فرق بينهما وما ولدته قبل العلم حر يفديه
بقيمته يوم ولادته بلا خلاف، وإن كان عبدًا فولده حر أيضًأ يفديه إذا عتق
عند الجمهور ويرجع على من غره، وكذا إن تزوجت على أنه حر فبان عبدًا فلها
الخيار، أو شرطت صفة فبان بخلافها.
(ولهما) أي البخاري ومسلم (عن عائشة أنه) يعني رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (خير بريرة على زوجها حين عتقت) وللبخاري من
(4/16)
حديث ابن عباس أنه كان عبدًا، وروي أنه كان
حرًا، وقال الحافظ وغيره رواية كونه عبدًا أثبت وأكثر، ولأبي داود أن زوج
بريرة كان عبدًا أسود يسمى مغيثًا فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأمرها أن تعتد.
وفي الصحيح ذاك مغيث عبد بني فلان، وللترمذي لبني مغيرة، ولأبي داود عبد
لبني أحمد، وفيها: "إن قربك فلا خيار لك" فدل الحديث على ثبوت الخيار
للمعتقة بعد عتقها في زوجها إذا كان عبدًا وهو إجماع.
وإن كان حرًا فالجمهور على أنه لا يثبت لها خيار، لأن العلة في ثبوت الخيار
إذا كان عبدًا هو عدم المكافأة من العبد للحرة في كثير من الأحكام. وقال
ابن القيم عقد عليها السيد بحكم الملك حيث كان مالكًا لرقبتها، ومنافعها،
والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق، وهذا مقصود العتق وحكمته، فإذا
ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها، ومن جملتها منافع البضع، فلا تملك عليها
إلا باختيارها، فخيرها الشارع بين الأمرين من البقاء تحت الزوج. أو الفسخ
منه.
وفي بعض طرق حديثها " ملكت نفسك فاختاري" وهذا إشارة إلى علة التخيير،
فيقتضي ثبوت الخيار، وإن كانت تحت حر، وهذا مذهب أصحاب الرأي، واختاره شيخ
الإسلام لهذا الخبر، ولأنها ملكت رقبتها وبضعها فلا يملك ذلك عليها إلا
باختيارها.
فتقول فسخت نكاحي، واخترت نفسي ولو متراخيًا
(4/17)
كخيار عيب ما لم يوجد دليل الرضا، كتمكين
من وطء أو قبلة ونحوها، ويجوز للزوج الإقدام على الوطء إذا كانت غير عالمة
ولو بذل لها عوضًا على أن تختاره جاز، ولو شرط المعتق عليها دوام النكاح
تحت حر أو عبد إذا أعتقها ورضيت لزمها، وهو الذي يقتضيه مذهب أحمد.
قاله الشيخ ولا يحتاج فسخها لحاكم، لأنه مجمع عليه، وإن فسخت قبل الدخول
فلا مهر لها، لمجيء الفرقة من قبلها، وبعده هو لسيدها لوجوبه بالعقد, وهي
ملك له حالة العقد، وإن رضيت المقام معه فليس لها فراقه قال الموفق بلا
خلاف نعلمه.
فصل في العيوب
أي في العيوب في النكاح مما يثبت به الخيار منها، وما لا خيار به، وبيان ما
يختص بالرجال، وما يختص بالنساء، وما هو مشترك بينهما وثبوته لأحد الزوجين
إذا وجد بالآخر عيبًا في الجملة، روي عن عمر وابنه وابن عباس وغيرهم، وهو
مذهب الشافعي، لأنه يمنع الوطء فأثبت الخيار، ولأن المرأة أحد العوضين في
النكاح فجاز ردها بعيب كالصداق، ولأن الرجل أحد الزوجين فيثبت له الخيار
بالعيب في الآخر كالمرأة.
(عن عمر) رضي الله عنه أنه قال (في) حكم (العنين) وهو من لا يقدر على
الوطء، من عن يعن إذا اعترض لأن ذكره يعن يعني يعترض إذا أراد أن يولجه،
فيعجز
(4/18)
عن الوطء وربما اشتهاه ولا يمكنه، ومتى
ثبتت عنته بإقراره أو ببينة على إقراره فكما قال عمر رضي الله عنه (قال
يؤجل) أي العنين (سنة) وهو قول عثمان وابن مسعود والمغيرة وغيره، ولا يعلم
لهم مخالف، وقال الوزير اتفقوا على أنها إذا وجدت زوجها عنينا أجل سنة،
وعليه فتوى علماء الأمصار، لاختيار زوال ما به. لأنه إذا مضت الفصول
الأربعة ولم تزل العنة علم أنه جبلة وخلقة ولو كان عبدًا.
فإن كان من يبس زال في فصل الرطوبة وعكسه، وإن كان من برودة زال في فصل
الحرارة، وإن كان من احتراق زال في فصل الاعتدال، والسنة المعتبرة في
التأجيل هي الهلالية، ومبتدأ الأجل من المحاكمة، ولا تعتبر عنته إلا بعد
بلوغه، وإن وطيء في السنة فليس بعنين، وإلا فلها الفسخ، ولا تزول بوطئه
غيرها، وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين، ولو قالت في وقت رضيت به عنينًا
سقط خيارها، وإن ادعت عجزه لم تسمع دعواها، ولم تضرب له مدة، وإن علم أن
عجزه لعارض من صغر أو مرض مرجو الزوال لم تضرب له مدة أيضًا.
وإن كانت عجزه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه ضربت له المدة، وإن كان مجبوبًا
بأن قطع ذكره فلها الفسخ في الحال. وكذا إن قطع بعضه وبقي له ما لا يطأ به،
قال القاضي عياض وغيره اتفق كافة العلماء: أن للمرأة حقًا في الجماع فيثبت
الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والمسموح جاهلة بهما، وكذا
(4/19)
الأشل. قال عمر لرجل متزوج وهو خصي أعلمتها
قال لا: قال أعلمها ثم خيرها، وكذا وجاء وهو رضهما لأن ذلك يمنع الوطء.
(وبعث) أي عمر رضي الله عنه (رجلاً على بعض السعاية فتزوج امرأة وكان
عقيمًا فقال أعلمتها أنك عقيم قال لا قال فأعلمها ثم خيرها) رواه سعيد بن
منصور في سننه، ونقل ابن منصور عن أحمد، إن كان عقيمًا أعجب إلي أن يبين
لها، وقال الشيخ إن بان عقيمًا فقياس قولنا ثبوت الخيار للمرأة، لأن لها
حقًا في الولد، ولهذا قلنا لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها.
(وقال الزهري) الإمام المشهور رحمه الله (يرد النكاح) فيثبت الخيار لأحد
الزوجين (من كل داء) بالآخر (عضال) أي صعب، يعجز الأطباء فلا دواء له، ونقل
أبو البقاء ثبوت الخيار بكل عيب يرد به المبيع، وقال أحمد إذا كان به جنون
أو وسواس أو تغير في عقل، أو كان يعبث ويؤذي رأيت أن يفرق بينهما، وقال
الشيخ ترد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع.
وقال ابن القيم فيمن به عيب كقطع يد أو رجل أو عمى أو خرس أو طرش وكل عيب
ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة يوجب
الخيار، وأنه أولى من البيع، وإنما ينصرف الإطلاق إلى السلامة، فهو المشروط
(4/20)
عرفًا وقال ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره
وموارده وعدله وحكمته وما اشتملت عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا
القول وقربه من قواعد الشريعة.
(وعن كعب) بن عجرة (قال تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - العالية من بني
غفار) القبيلة المشهورة (فلما دخلت عليه ووضعت ثيابها رأى بكشحها وضحا فقال
البسي ثيابك وألحقي بأهلك وأمر لها بالصداق رواه الحاكم" ورواه أحمد عن كعب
بن يزيد أو زيد بن كعب، وقال امرأة من بني غفار، فلما دخلت عليه ووضع ثوبه
وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضًا فانحاز عن الفراش.
ثم قال: "خذي عليك ثيابك" ولم يأخذ مما آتاها شيئًا ورواه سعيد وقال عن زيد
بن كعب بن عجرة، ورواه أبو نعيم من حديث ابن عمر، ولفظ ابن كثير أنه - صلى
الله عليه وسلم - تزوج امرأة من بني غفار فلما دخلت عليه رأى بكشحها وضحا
فردها إلى أهلها، وقال: "دلستم علي" فدل الحديث على فسخ النكاح بالعيب،
وأكثر الأمة على ثبوته به.
(وقال عمر) رضي الله عنه (أيما رجل تزوج امرأة فدخل بها) أو خلا بها
(فوجدها برصاء) أي أبيض جلدها أو أسود (أو مجنونة) لا إن زال عقلها بمرض
فإغماء لا خيار به، فإن زال المرض ودام زوال عقلها فجنون (أو مجذومة) داء
معروف تتهافت منه الأطراف ويتناثر منه اللحم فللزوج الخيار في فسخ النكاح
عند جمهور العلماء فإن اختار الفسخ فقال عمر:
(4/21)
رضي الله عنه (فلها الصداق بمسيسه إياها)
ولعموم فلها المهر بما استحل من فرجها" (وهو) أي المهر للزوج إن غرم يرجع
به (على من غره منها) لأنه غرم لحقه بسببه إلا أنهم اشترطوا علمه بالعيب.
فإن كان جاهلاً فلا غرم عليه، إذ لا غرر منه (رواه سعيد) بن منصور في سننه
ومالك وابن أبي شيبة وغيرهم، وقال الحافظ رجاله ثقات، ويشهد لرجوعه به على
الغار قوله - صلى الله عليه وسلم - «من غش فليس منا» ولمالك وذلك لزوجها
على وليها والغار من علم العيب وكتمه من زوجة عاقلة وولي ووكيل، وأيهم
انفرد ضمن، ومن زوجة وولي الضمان على الولي، ومن الزوجة والوكيل الضمان
بينهما، ويقبل قول ولي في عدم علمه بالعيب، وكذا قولها إن احتمل. ومثل ذلك
لو زوج امرأة فأدخل عليه غيرها.
(وزاد) أي سعيد بن منصور في سننه (عن علي) رضي الله عنه أنه قال: (وبها
قرن) بفتح فسكون هو العفلة بفتحتين وهي لحمة زائدة تخرج في قبل بعض النساء
فتسد وقيل عظم أو غدة تمنع ولوج الذكر، وقيل العفل ورم في اللحمة شبيه
بالإدرة التي للرجال في الخصيتين (فزوجها بالخيار) أي يثبت له الخيار في
فسخ نكاحها لما فيه من النفرة المانعة من الوطء. وكذا الرتق بأن يكون فرجها
مسدودًا بأصل الخلقة لا يسلكه ذكر، وكذا الفتق وهو انخراق ما بين سبيلها،
واستطلاق بول ونجو وقروح
(4/22)
سيالة في فرج، واستحاضة ونحو ذلك.
قال الشيخ يثبت بالاستحاضة الفسخ في أظهر الوجهين، وترد المرأة بكل عيب
ينفر من كمال الاستمتاع اهـ، وكذا باسور وناصور وقرع رأس معه ريح منكرة،
وبخر فم وغيره ذلك مما يوجب النفرة، ولو كان بالآخر عيب مثله، أو مغاير له،
يثبت بكل واحد منها الفسخ، فأما القرن والعفل والفتق والقطع والعنة والجنون
والبرص والجذام فقولاً واحدًا، وهو مذهب مالك والشافعي، وما عداه كالبخر
واستطلاق البول والنجو والباسور والناصور والخصاء، وكون أحدهما خنثى فاختار
ابن القيم وغيره ثبوت الفسخ به، وبكل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل
به مقصود النكاح.
وقال الشيخ قد علم أن عيوب الفرج المانعة من الوطء لا يرضى بها في العادة،
بخلاف اللون والطول والقصر والعرج ونحو ذلك مما ترد به الأمة المعيبة، فإن
الحرة لا تقلب كالأمة والزوج قد رضي بها رضي مطلقًا، بخلاف البيع، وهو مع
هذا لم يشترط فيها صفة فبانت دونها.
والشرط إنما يثبت شرطًا وعرفًا، وما أمكن معه الوطء وكماله فلا ينضبط فيه
أغراض الناس، والنساء يرضى بهن في العرف والعادة مع الصفات المختلفة،
والمقصود من النكاح المصاهرة والاستمتاع وذلك يختلف باختلاف الصفات، فهذا
فرق شرعي معقول في عرف الناس.
(4/23)
وقال وأما الرجل فأمره ظاهر يراه من شاء،
فليس فيه عيب يوجب الرد، والمرأة إذا فرط الزوج في بصرها أولاً فله طريق
إلى التخلص منها بالطلاق، فإنه بيده دون المرأة وقال وإن كان الزوج صغيرًا
وبه جنون أو جذام أو برص فلها الفسخ في الحال، وكذا الزوجة إذا كانت صغيرة
أو مجنونة أو عفلاء أو قرناء، ولكل منهما الفسخ في الحال.
ولا ينتظر وقت إمكان الوطء، لأن الأصل بقاؤه بحاله، ومن ادعى الجهل بالخيار
كعامي لا يخالط الفقهاء فاستظهر غير واحد ثبوت الفسخ عملاً بالظاهر، ولا
يثبت إلا بفسخ حاكم لأنه مجتهد فيه.
وقال الشيخ ليس هو الفاسخ، وإنما يأذن ويحكم به، فمتى أذن أو حكم باستحقاق
عقد أو فسخ لم يحتج بعد ذلك إلى حكم بصحته بلا نزاع والصغيرة والمجنونة
والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب يرد به في النكاح، وكذا ولي صغير ومجنون
ليس له تزويجهما بمعيبة ترد في النكاح فإن فعل لم يصح، فإن رضيت الكبيرة
مجبوبًا أو عنينًا لم تمنع، بل تمنع من مجنون ومجذوم وأبرص، ومتى علمت
العيب أو حدث به العيب لم يجبرها وليها على الفسخ.
قال علي رضي الله عنه: (فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها) وكذا بعد
الدخول أو الخلوة، لأمره عليه الصلاة والسلام للعالية بالصداق، وقول عمر
بمسيسه إياها، وغير ذلك لوجوبه بالعقد واستقراره بالدخول، وقيل في فسخ
الزوج بعيب
(4/24)
قديم أو بشرط ينسب قدر نقص المثل لأجل ذلك
إلى مهر المثل كاملاً فيسقط من المسمى بنسبته فسخ أو أمضى، ورجحه الشيخ،
وقال وكذا إن ظهر الزوج معيبًا فلها الرجوع عليه بنقص مهر المثل، وكذا في
شرط وهو العدل.
ويرجع به على الغار إن وجد، فإن كان من الزوجة، والولي فعلى الولي، ومن
المرأة والوكيل فبينهما، وأيهم انفرد بالغرر ضمن، لانفراده بالسبب الموجب،
ومتى زال العيب قبل الفسخ فلا فسخ، ولا ينقص الفسخ عدد الطلاق، سواء كان
لعيب أو إعسار بنفقة، أو صداق، وكذا فسخ الحاكم على المولي بشرطه إلا فرقة
اللعان فعلى الأبد.
باب نكاح الكفار
من أهل الكتاب وغيرهم وبيان حكمه وما يترتب عليه من صحة وفساد وغير ذلك،
ومذهب جمهور العلماء أن حكمه كحكم نكاح المسلمين في الصحة والفساد، ووقوع
الطلاق والظهار والإيلاء ووجوب المهر والنفقة والقسم والإحصان وغير ذلك.
(قال تعالى) {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا (اِمْرَأَةَ
فِرْعَوْنَ)} أي جعل الله امرأة فرعون مثلاً للذين آمنوا واسمها آسية،
وكانت آمنت بموسى {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ
(4/25)
وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *} فسماها امرأة مع كفر فرعون،
وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة (وقال) في حق الكافرين (وامرأته) أي
امرأة أبي لهب واسمها أروى (حمالة الحطب) قيل إنها تلقي الشوك في طريق رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل تحمل النميمة وهي أم جميل بنت حرب بن
أمية أخت أبي سفيان من سادات نساء قريش.
وكانت عونًا لزوجها على كفره، فكانت عونًا عليه في عذابه، تحمل الحطب فتلقي
على زوجها ليزداد عذابا على ما هو فيه من العذاب، قال تعالى {فِي جِيدِهَا
حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} سلسلة في عنقها نعوذ بالله من أليم عقابه. فسماها
امرأة مع كفرهما.
والإضافة تقتضي زوجية صحيحة، كما في الآية قبلها، فتتعلق بنكاح الكفار
الأحكام المتعلقة بأحكام نكاح المسلمين عند جمهور العلماء، وقال الشيخ وأما
صحة أنكحة الكفار وفسادها فالصواب أنها صحيحة من وجه فاسدة من وجه، فإن
أريد بالصحة إباحة التصرف فإنما يباح لهم بشرط الإسلام، وإن أريد نفوذه
وترتب أحكام الزوجية عليه من حصول الحل به للمطلق ثلاثًأ ووقوع الطلاق فيه
وثبوت الإحصان به فصحيح اهـ.
فيقرون على فاسد النكاح بشرطين: إذا اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يرتفعوا
إلينا، لمفهوم قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} ولأنه -
صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر، ولم يعترض
(4/26)
عليهم في أنكحتهم، وأسلم خلق كثير في زمنه
- صلى الله عليه وسلم - ولم يكشف عن كيفيتها، ولأنا صالحناهم على إقرارهم
على دينهم، وإذا لم يرتفعوا إلينا لم نتعرض لهم، وإن أتونا قبل عقده عقدناه
على حكمنا لقوله {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} وإن
أتونا بعده، أو أسلما على نكاح بدون صيغته أو ولي ونحو ذلك لم نتعرض لكيفية
صدوره.
بل إن كانت المرأة تباح إذا أقرا عليه، وإلا فرق بينهما، كما قال عمر فرقوا
بين كل ذي رحم من المجوس، وإن كان المهر صحيحًا أخذته، وإن كان فاسدًا
وقبضته استقر، وإن لم يسم لها مهر فرض لها مهر المثل، جزم به الشيخ وغيره
وقال ويتوجه إن كان بعد الدخول فإيجاب مهرها فيه نظر، فإن الذين أسلموا على
عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض أنكحتهم شغار ولم يأمر
أحدًا منهم بإعطاء مهر.
(وقال: لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) أي لا المؤمنات حلال للكفار ولا
الكفار يحلون للمؤمنات، فدلت الآية: أن المسلمة لا تحل للكافر، ولا نزاع في
ذلك (إلى قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}) فحرم تعالى نكاح
المشركات بل حرم موالاة المشركين وموادتهم، فكيف بضجيعته، ولأن اختلاف
الدين سبب العداوة والبغضاء، ومقصود النكاح الاتفاق والائتلاف وإن أسلما
فلهما المقام على نكاحهما، ما لم يكن بينهما نسب أو رضاع.
(4/27)
وقال - صلى الله عليه وسلم - ولدت من نكاح
لا من سفاح) كان جده عبد المطلب زوج أباه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد
مناف سيدة نساء قومها، فدخل عليها حين أملكها، فحملت منه برسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وقد أسلم خلق كثير في عهده - صلى الله عليه وسلم - وأسلم
نساؤهم فأقروا على أنكحتهم ولم يسألهم على شروط النكاح، ولا كيفيته، وهذا
أمر علم بالتواتر والضرورة فكان يقينًا ولا تعتبر له شروط أنكحة المسلمين
بلا خلاف.
(وقالت عائشة) رضي الله عنها (كان نكاح الجاهلية) وهو ما كان قبل الإسلام
(على أربعة أنحاء) جمع نحو أي ضرب وزنًا ومعنى، ومرادها الأكثر، فقال
الداودي بقي أنحاء لم تذكرها، نكاح الخدن، وهو قوله (غير متخذات أخذان)
كانوا يقولون ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم، ونكاح المتعة، ونكاح
البدل، واستنكرها بعض أهل العلم.
وذكرت رضي الله عنها (منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته)
وفيه أو ابنته، والتخيير للتنويع لا للشك (فيصدقها ثم ينكحها) أي يعين
صداقها ويسمى مقداره ثم يعقد عليها.
(وذكرتها) أي الثلاثة الأخر، وهي أن الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها
أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه أي اطلبي منه الجماع، ويعتزلها زوجها ولا
يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل، فإذا تبين حملها أصهابها زوجها إذا
(4/28)
أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد،
فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة
فيدخلون على المرأة كلهم فيصيبونها، فإذا حملت ووضعت ومر ليال أرسلت إليهم
فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها.
فتقول قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، فتسمى من
أحبت باسمه فيلحق به، ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.
ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة، لا تمتنع من جاءها، وهن
البغايا، ينصبن على أبوابهن الرايات، وتكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن،
فإذا حملت إحداهن ووضعت جمعوا لها ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي
يرون، فالتاط به أي استلحقه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك (ثم قالت فلما بعث
الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح
الناس اليوم) أي الذي بدأت بذكره وهو أن يخطب الرجل إلى الرجل موليته
فيزوجه (رواه البخاري) وأبو داود وغيرهما، فدل الحديث على إقرار المشركين
على ما اعتقدوه نكاحًا، ولو لم يكن بصيغة أنكحة المسلمين، وأن هذا الضرب من
أنكحة الجاهلية مقر في الإسلام بشرطه.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال رد النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته
زينب) رضي الله عنها (على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين) وكان أقام بمكة
على كفره، واستمرت زينب عند
(4/29)
أبيها بالمدينة. وخرج بتجارة لقريش فلقيه
سرية فأخذوا ما معه وهرب واستجار بزوجته فأجارته، ورد عليه ما كان ورجع به
إلى أهله، ثم أسلم، وقدم علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردها عليه
(بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحًا رواه الخمسة وصححه أحمد) وقال في رواية أنه
ردها بمهر جديد ونكاح جديد هذا حديث ضعيف.
والحديث الصحيح الذي جاء فيه أنه أقرهما على النكاح الأول، وقال الدارقطني
الصواب حديث ابن عباس، أنه ردها بالنكاح الأول، وكذا صححه البيهقي، وحكاه
عن حفاظ الحديث، وقال الخطابي هو أصح من حديث عمرو بن شعيب، وكذا قال
البخاري، وقال ابن كثير هو حديث جيد قوي، وقال ابن عباس فلم يحدث شهادة ولا
صداقًا ويشهد له ما رواه البخاري عن ابن عباس: إن هاجر زوجها قبل أن تنكح
ردت إليه، فإنه يقتضي أنه إن هاجر بعد انقضاء العدة أنها تعود إليه ما لم
تنكح زوجًأ غيره، كما هو الظاهر من قصة زينب وذهب إليه طوائف من العلماء.
ولأنه لا ذكر للعدة في حديث. ولا أثر لها في بقاء النكاح، ولم ينجز الشارع
الفرقة في حديث، ولا جدد نكاحًا فيتعين القول به، وقال ابن شهاب بلغني أن
ابنة الوليد بن المغيرة كانت تحت صفوان ابن أمية فأسلمت يوم الفتح، وهرب
صفوان، فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمانًا، وشهد حنينًا
(4/30)
والطائف، وهو كافر، وامرأته مسلمة، فلم
يفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما حتى أسلم صفوان واستقرت عنده
بذلك النكاح. رواه مالك.
وله عنه أن أم حكيم ابنة الحارث بن هشام أسلمت يوم الفتح وهرب عكرمة حتى
قدم اليمن فقدمت عليه ودعته إلى الإسلام فأسلم وقدم على رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فبايعه فثبتا على نكاحهما، قال ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت
وزوجها كافر إلا فرقت هجرتها بينهما، إلا أن يقدم قبل أن تنقضي عدتها، ولم
يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها.
قال ابن القيم اعتبار العدة لم يعرف في شيء من الأحاديث، ولا كان النبي -
صلى الله عليه وسلم - يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا، ولو كان الإسلام
بمجرده فرقة لكانت طلقة بائنة ولا رجعة فيها فلا يكون الزوج أحق بها إذا
أسلم، وقد دل حكمه - صلى الله عليه وسلم - أن النكاح موقوف، فإن أسلم الزوج
قبل انقضاء العدة فهي زوجته، وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت.
وإن أحبت انتظرته، وإذا أسلم كانت زوجته من غير تجديد نكاح، ولا نعلم أحدًا
جدد بعد الإسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد الأمرين، إما افتراقهما
ونكاحها غيره، وإما بقاؤهما على النكاح الأول، إذا أسلم الزوج، وأما تنجيز
الفرقة، أو مراعاة العدة، فلم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم في عهده، وقرب إسلام أحد الزوجين من
الآخر وبعده منه.
(4/31)
قال ولولا إقراره - صلى الله عليه وسلم -
الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن
الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة لقوله: {لَا هُنَّ
حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوَافِرِ} وذكر قضايا تدل لما نصره، وهو أقرب الأقوال وأسعد بالحجة،
وفي غاية الحسن، قال وهذا اختيار الخلال وأبي بكر وابن المنذر وابن حزم،
وهو مذهب الحسن وطاووس وعكرمة وقتادة والحكم.
وهو مذهب عمر وجابر وابن عباس وآخرين، واختار شيخ الإسلام فيما إذا أسلمت
قبله بقاء نكاحه قبل الدخول وبعده ما لم تنكح غيره، وأن الأمر إليها ولا
حكم له عليها، ولا حق لها عليه، لأن الشارع لم يستفصل.
وكذا إن أسلم قبلها، وليس له حبسها، بل متى أسلمت ولو قبل الدخول أو بعده
فهي امرأته إن اختار، وكذلك فيما إذا ارتد أحدهما، قال، وقياس المذهب أن
الزوجة إذا أسلمت قيل الزوج فلا نفقة لها لأن الإسلام سبب يوجب البينونة،
والأصل عدم إسلامه في العدة، فإذا لم يسلم حتى انقضت العدة تبينا وقوع
البينونة بالإسلام، ولا نفقة للبائن عندنا ويجب الصدق بالدخول، وينتصف
بالعقد كنكاح المسلمين.
(وله) أي أحمد وأبي داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما (عنه)
أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (قال أسلمت امرأة) أي وزوجها باق على كفره
(فتزوجت)
(4/32)
آخر (فجاء زوجها) الأول (فقال يا رسول الله
إني كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
زوجها الآخر وردها على زوجها الأول" والمراد بلا تجديد عقد بل حكم صلوات
الله وسلامه عليه بأن النكاح الأول باق والثاني باطل، فدل الحديث على أنه
إذا أسلم الزوج وعلمت امرأته بإسلامه فهي في عقدة النكاح.
وإن تزوجت فهو تزوج باطل تنتزع من الزوج الآخر، والحديث محتمل أنه أسلم بعد
انقضاء عدتها أو قبلها، وأنها ترد إليه على كل حال، وإن علمها بإسلامه قبل
تزوجها بغيره يبطل نكاحها مطلقًا، سواء انقضت عدتها أم لا، لأن تركه - صلى
الله عليه وسلم - الاستفصال هل علمت بعد انقضاء العدة أو قبلها دليل على
أنه لا حكم للعدة، أما إذا أسلم وهي فيها فالنكاح بينهما باق فتزوجها بعد
إسلامه باطل.
لأنها باقية في عقدة نكاحه، وهذا الحديث دليل على بطلانه بعلمها قبل تزوجها
ولو بعد انقضائها.
(وعن فيروز الديلمي) ويقال الحميري لنزوله حمير، وهو من أبناء فارس من فرس
صنعاء، كان ممن وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قتل العنسي
الكذاب الذي ادعى النبوة سنة إحدى عشرة، وأتى حين قتله إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - وهو مريض مرض موته وكان بين ظهوره وقتله أربعة أشهر، قال:
(قلت يا رسول الله أسلمت وتحتي) امرأتان (أختان) علم رضي الله عنه تحريم
(4/33)
الجمع بين الأختين فأخبر النبي - صلى الله
عليه وسلم - (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (طلق أيهما شئت) وفي
لفظ "أمرني أن أطلق إحداهما (رواه أحمد) ورواه أبو داود والترمذي وحسنه،
وابن ماجه، وصححه ابن حبان والدارقطني وغيرهما.
وهو دليل على اعتبار أنكحة الكفار، وإن خالفت نكاح الإسلام، وأنها لا تخرج
المرأة عن الزوج إلا بطلاق بعد الإسلام، وأنه يبقى بعد الإسلام بلا تجديد
عقد، وهو مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وفي الصحيحين عن
أم حبيبة أنها عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينكح أختها
فقال: «لا تحل لي» وتقدم تحريم الجمع بين الأختين، وأنه لا نزاع في ذلك،
فإذا أسلم وتحته أختان أجبر على طلاق إحداهما، وكذا إن كان تحته امرأة
وعمتها أو خالتها ونحو ذلك.
(وله) أي ولأحمد والنسائي وابن ماجه، وغيرهم والترمذي، وابن حبان وصححاه
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن غيلان) بن سلمة وهو ممن أسلم بعد فتح
الطائف، ولم يهاجر وهو من أعيان ثقيف، ومات في خلافة عمر فذكر ابن عمر أن
غيلان (أسلم وله عشرة نسوة فأسلمن معه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -
أن يتخير منهن أربعًا) أي ويفارق ستًا. وفي لفظ "أسمك منهن أربعًا وفارق
سائرهن" قال ابن كثير رواه الإمامان أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي
وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه، وهذا الإسناد رجاله على شرط الشيخين إلا
أن الترمذي
(4/34)
قال سمعت البخاري يقول هذا الحديث غير
محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري قال: حدثت عن محمد بن شعيب
الثقفي أن غيلان فذكره، قال البخاري وإنما حديث الزهري عن مسلم عن أبيه أن
رجلاً من ثقيف طلق نساءه فقال عمر لتراجعن نساءك.
قال ابن كثير قد جمع الإمام أحمد في روايته لهذا الحديث بين هذين الحديثين
بهذا السند، فليس ما ذكره البخاري قادحًا وساق رواية النسائي له برجال
ثقات، وقال أحمد العمل عليه ولأبي داود أن قيس بن الحارث أسلم وعنده ثمان
نسوة فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعًا، وروى
البيهقي عن نوفل أنه قال أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال: «فارق واحدة وأمسك أربعًا» فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ
ستين سنة فقارقتها، وعاش نوفل مائة وعشرين سنة في الإسلام، وستين في
الجاهلية.
فدلت هذه الأحاديث وغيرها على أن من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة فأسلمن
معه أو كن في العدة لم يكن له إمساكهن كلهن بلا خلاف، وكذا لو كن كتابيات،
فليس له أمساكهن كلهن، بل يختار منهن أربعًا، ويفارق سائرهن، أو أسلم وتحته
إماء أكثر من أربع فأسلمن معه. أو في العدة اختار أربعًا إن جاز له نكاحهن
بشرط، قال الشيخ ولا يشترط في جواز وطئه انقضاء العدة لا في جمع العدد ولا
في جمع الرحم اهـ. وقيل إن
(4/35)
كان الزوج مكلفًا وإلا وقف الأمر حتى يكلف،
وإن أبى الاختيار أجبر بحبس ثم تعزير، وقال الشيخ يقوم الولي مقامه في
التعيين، كما يقوم في تعيين الواجب عليه من زكاة وغيرها.
(وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (في) حكم (سبايا أوطاس) وذلك أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس فلقي عدوًا فقاتلوهم
فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكان ناسًا من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فنزلت
(والمحصات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم) فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (هن لكم حلال) أي تطؤنهن (إذا انقضت عدتهن رواه مسلم) وللترمذي
أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج في قومهن، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فنزلت {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
وله عن العرباض بن سارية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "حرم وطء السبايا
حتى يضعن ما في بطونهن" وله من حديث رويفع " من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره" وفي هذه الأحاديث دليل على أن السبايا حلال،
من غير فرق بين ذوات الأزواج وغيرهن، ولا نزاع في ذلك، لكن بعد مضي العدة
المعتبرة شرعًا لقوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي من
اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين وإن كن
محصنات.
(4/36)
باب الصداق
الصداق عوض في النكاح ونحوه، يقال أصدقت المرأة ومهرتها مأخوذ من الصدق
لإشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة وله تسعة أسماء.
صداق ومهر نحلة وفريضة، حباء وأجر ثم عقد علائق.
والتاسع الصدقة، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، واتفقوا على أنه شرط
من شروط صحة النكاح وتسن تسميته في العقد قطعًا للنزاع، وكان في شرع من
قبلنا للأولياء.
(قال تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} تطلبوا أن تنكحوا بصداق
{مُحْصِنِينَ} متزوجين فالإحصان العفة، فإنها تحصين للنفس عن اللوم
والعقاب، وكان - صلى الله عليه وسلم - يزوج ويتزوج بصداق ولم يكن يخلي
التزويج من صداق، وقال: "التمس ولو خاتمًا من حديد" فلا بد من صداق
إجماعًا.
(وقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} أي مهورهن (نحلة) أي عطية.
وقالوا النحلة المهر والفريضة والواجب، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال " ما تراضى عليه أهلوهم" والمقصود أنه يجب على الرجل دفع صداق على
المرأة حتمًا، وأجمعوا على مشروعيته، وأن يكون طيب النفس بذلك، وإن طابت
نفسها به أو بشيء منه فكما قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} سائغًا طيبًا.
(4/37)
وقال {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي
مهورهن، فالمهر في مقابلة الاستمتاع (فريضة) بمعنى مفروضة، أو إيتاء مفروض،
فدلت هذه الآيات على مشروعية الصداق، وأنه لا يجوز التواطؤ على تركه.
(وقال) تعالى {وَآتَيْتُمُ} أي أعطيتم {إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} وهو المال
الكثير صداقًا {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى
بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا *} فدلت
الآية على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وأجمعوا على أنه لا حد لأكثره.
ولو تزوج امرأة اتفق معها على نحو عشرة دنانير وأنه يظهر عشرين دينارًا
وأشهد عليها بقبض عشرة فقال الشيخ لا يخل لها أن تغدر به، بل يجب عليها
الوفاء بالشرط ولا يجوز تحليف الرجل على وجود القبض في مثل هذه الصورة، لأن
الإشهاد بالقبض في مثل هذا يتضمن الإبراء.
(وقال) تعالى (عن شعيب) بعد ذكر قصة ورود موسى ماء مدين وسقيه لابنتي شعيب،
وقول إحداهما (يا أبت استأجره قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} قيل اسمهما صفوراء وليًا، وقيل صفرًا
وصفيرًا، وقال الأكثر إنه زوجه الصغرى وهي التي ذهبت لطلب موسى، أي طلب
إليه شعيب أن يرعى غنمه ويزوجه إحدى ابنتيه، وقال تعالى: {عَلَى
(4/38)
أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} يعني
أن تكون أجيرًا لي ثمان سنين.
{فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أي إن أتممت عشر سنين فذلك
تفضل منك وتبرع، وإلا ففي الثمان كفاية (وما أريد أن أشق عليك) أي ألزمك
تمام العشر إلا أن تبرع {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
في حسن الصحبة والوفاء.
(قال) موسى (ذلك بيني وبينك) يعني هذا الشرط فما شرطت علي فلك وما شرط من
تزويج إحداهما فلي والأمر بيننا ثم قال: (أيما الأجلين قضيت) أي أتممت من
الثمان أو العشر (فلا عدوان علي) بأن أطالب بأكثر منهما (والله على ما نقول
وكيل) شهيد فيما بيني وبينك وقضى العشر. كما قاله ابن عباس وغيره، وروي
مرفوعًا.
وأعطاه في العام الأخير كلما ولدت غنمه على غير صفتها فولدن كذلك، ووفى له
شرطه، وذهب بأولادهن ذلك العام، فتلك منفعة يصح أخذ العوض عليها فهي مال،
وكذا كل عمل معلوم منه أو من غيره، والحر والعبد في ذلك سواء، وهذا مذهب
جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من السلف فكلما صح أن يكون
ثمنًا أو أجرة صح أن يكون مهرًا قال الشيخ وتعليل المنع لما فيه من كون كل
من الزوجين يصير ملكًا للآخر، ويجوز أن يكون المنع مختصًا بمنفعة الخدمة
خاصة لما فيه من المهنة والمنافاة، وأما إن كانت لغيرها فتصح لقصة شعيب،
وإذا لم تصح المنفعة فقيمتها.
(وعن عقبة) بن عامر رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(4/39)
قال: «خير الصداق أيسره» أي أسهله (رواه
أبو داود) وصححه الحاكم.
فدل على استحباب تخفيف المهر، وأن غير الأيسر على خلاف ذلك، وإن كان جائزًا
كما تقدم في الآية وكما سيأتي، وفي الحديث: «أبركهن أيسرهن مؤنة» ولفظ أحمد
"إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة" فالنكاح بمهر يسير لا يستصعبه من يريده،
فيكثر الزواج المرغب فيه، ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم
مطالب النكاح، بخلاف ما إذا كان المهر كثيرًا فإنه لا يتمكن من الزواج إلا
أرباب الأموال، فيكون الفقراء الذين هم أكثر في الغالب غير متزوجين، فلا
تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على
عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه (أثر صفرة) أي أثر صفرة الزعفران، فكره -
صلى الله عليه وسلم - تلك الصفرة منه، لأن استعمال الزعفران والخلوق وما
كان له لون منهي عنه في حق الرجال، لأن ذلك تشبه بالنساء (فقال ما هذا)
يعني لما استعملت هذه الصفرة (قال تزوجت امرأة) فسكت - صلى الله عليه وسلم
- ولم يأمره بغسل ذلك الأثر، ورجح النووي أنها كانت من جهة امرأته من غير
قصد منه وقال: «على وزن نواة من ذهب» متفق عليه، وفي روايات للبخاري على
نواة من ذهب.
قيل المراد واحدة نوى التمر، وإن القيمة عنها يومئذ كانت
(4/40)
خمسة دراهم، وقيل كان قدرها ربع دينار،
وقيل عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، ونقله عياض عن أكثر العلماء
وللبيهقي وزن نواة من ذهب قومنت خمسة دراهم، وقال أبو عبيد إن عبد الرحمن
دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية، والحديث دليل على
أنه يجوز أن يكون المهر شيئًا قليلاً كالنعلين والمد من الطعام.
وحكى القاضي الإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يتمول ولا له قيمة لا يكون
صداقا، ولا يحل به النكاح، وفي الصحيحين " التمس ولو خاتمًا من حديد" وكل
ما له قيمة يصح أن يكون مهرًا.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال كان صداقنا إذا كان فينا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عشر أواق رواه أحمد) والنسائي وغيرهما وإسناده ثقات،
وفي لفظ لأحمد وطبق يديه، وذلك أربع مائة أي أربع مائة درهم؛ لأن الأوقية
كانت قديمًا عبارة عن أربعين درهمًا، وقال الشيخ كلام أحمد يقتضي أن
المستحب أربع مائة درهم وهو الصواب مع اليسار، فيستحب بلوغه ولا يزاد عليه.
وقال عمر رضي الله عنه: (ما أصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من
نسائه) يعني أكثر من ثنتي عشرة أوقية والمراد الأكثر، فإن أم حبيبة أصدقها
النجاشي أربعة آلاف إلا أنه تبرع به إكرامًا لرسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية) رواه الخمسة و
(صححه الترمذي) أول الأثر
(4/41)
«ألا لا تغالوا» أي لا تكثروا "صدقة النساء
فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - " فيسن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -.
وذكر عبد الرزاق عن عمر أنه قال: لا تغالوا في مهر النساء. فقالت امرأة ليس
ذلك لك يا عمر إن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}
من ذهب كما في قراءة ابن مسعود، فقال عمر امرأة خاصمت عمر فخصمته ولفظ
الزبير بن بكار امرأة أصابت ورجل أخطأ.
وقالت عائشة رضي الله عنها كان صداقه - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه ثنتي
عشرة أوقية ونشا، فتلك خمس مائة درهم، وقد وقع الإجماع على أنه لا حد لأكثر
المهر بحيث تصير الزيادة على ذلك الحد باطلة للآية، وقد كان عمر أراد قصر
أكثره على قدر مهور أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد الزيادة إلى
بيت المال، وتكلم به في الخطبة، فردت عليه تلك المرأة، فرجع وقال: كلكم
أفقه من عمر.
ويستحب أن لا ينقص عن أقل من عشرة دراهم خروجًا من خلاف من قدر أقله بذلك،
وكانت خطبة عمر بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر فكان اتفاقًا منهم
ودل الأثر وغيره على صحة تزويج الرجل ابنته بدون مهر مثلها، لأنه ليس
المقصود من النكاح العوض، وكذا لو زوجها ولي غير الأب بإذنها، لأن الحق
لها، وإن لم تأذن فلها مهر المثل، وقال الشيخ على الولي كالوكيل في البيع.
(4/42)
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال لرجل) من أصحابه رضي الله عنهم «علي كم تزوجتها
قال علي أربع أواق فقال له: على أربع أواق؟» استفهام استنكار (كأنما تنحتون
الفضة) أي تقشرون وتقطعون الفضة (من عرض هذا الجبل) أي ناحيته (رواه مسلم)
فأنكر عليه - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إليه حيث كان فقيرًا ففيه " ما
عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه" قال فبعث بعثًا إلى بني
عبس بعث ذلك الرجل فيهم.
قال الشيخ والصداق المقدم إذا كثر وهو قادر على ذلك لم يكره، إلا أن يقترن
بذلك ما يوجب الكراهة من معنى المباهات ونحو ذلك، فأما إذا كان عاجزًا عن
ذلك فيكره، بل يحرم: إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه
المحرمة، فأما إن كثر، وهو مؤخر في ذمته، فينبغي أن يكره لما فيه من تعريض
نفسه لشغل ذمته اهـ، ومتى أجل الصداق أو بعضه صح، وإن عينا أجلاً وإلا
فمحله الفرقة.
قال ابن القيم: إذا اتفق الزوجان على تأخير المطالبة وإن لم يسميا أجلاً
فلا تستحق المطالبة به إلا بموت أو فرقة، هذا الصحيح ومنصوص أحمد اختاره
قدماء شيوخ المذهب والقاضي أبو يعلى والشيخ، وهو ما عليه الصحابة حكاه
الليث إجماعًا عنهم، وهو محض القياس والفقه. فإن المطلق من العقود ينصرف
إلى العرف والعادة عند المتعاقدين، وقال الشيخ إن كان
(4/43)
العرف جاريًا بين أهل تلك الأرض أن المطلق
يكون مؤجلاً فينبغي أن يحمل كلامهم على ما يعرفونه، ولو كانوا يفرقون بين
لفظ المهر والصداق، فالمهر عندهم ما يعجل والصداق ما يؤجل، كان حكمهم على
مقتضى عرفهم.
(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (في قصة الواهبة) خولة بنت حكيم أو أم
شريك التي قالت يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، ولما لم يقض فيها شيئًا
جلست، فقام رجل من الصحابة فقال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها (قال
التمس) وفي لفظ: انظر (ولو خاتمًا من حديد) أي موجود عندك (فلم يجد) أي ولا
خاتمًا من حديد، قال ولكن هذا إزاري قال الراوي ما له رداء فلها نصفه، فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها
منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء».
ثم قال: «ماذا معك من القرآن» قال معي سورة كذا، وكذا (فزوجه إياها بما معه
من القرآن) أي أن يعلمها إياه، وفي رواية: "فعلمها إياه" وفي بعض الروايات
"عشرين آية" وفي بعضها "عشرًا" ويكون ذلك صداقًا وهو مذهب مالك والشافعي
وإحدى الروايتين عن أحمد، لأنها منفعة معينة مباحة.
وقال ابن القيم إذا رضيت بعلم الزوج وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها جاز
ذلك، وكان ما يحصل لها من الانتفاع بالقرآن والعلم هو صداقها، وهذا هو الذي
اختارته أم سليم لما
(4/44)
خطبها أبو طلحة، فاشترطت عليه أن يسلم
وتزوجته على إسلامه.
فإن انتفاعها بإسلامه أحب إليها من المال الذي يبذله، وهذا من أفضل المهور
وأنفعها وأجلها والتعليم تفهيمها إياه وتحفيظها، وكذا تعليم فقه وأدب
ونحوه، وصنعة وكتابة وخياطة وغير ذلك هي أو غلامها، وقوله: «ولو خاتمًا من
حديد» مبالغة في التقليل، ولا ريب أن له قيمة، وتقدم أنه لا يصح بما لا
قيمة له، ولا يحل به النكاح.
ويأتي ما قال لعلي لما تزوج فاطمة "اعطها شيئًا" قال ما عندي شيء قال: فأين
درعك الحطمية" وفي لفظ فمنعه حتى يعطيها شيئًا، وذكر ابن القيم وغيره أنه
لا تقدير لأقله وذكر الأقوال في التقدير، ثم قال وليس لشيء من هذه الأقوال
حجة يجب المصير إليها، وليس بعضها أولى من بعض.
(ولهما) أي البخاري ومسلم أيضًا (أنه) - صلى الله عليه وسلم - (أعتق صفية)
بنت حيي بن أخطب سيد أهل خيبر وكانت وقعت له في السبي كما تقدم (وجعل عتقها
صداقها) وفي لفظ "فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها" وهو دليل على جعل
العتق صداقًا على أي عبارة تفيد ذلك. قال أنس لما سئل ماذا أصدقها قال
نفسها وأعتقها، فإنه ظاهر أنه جعل نفس العتق صداقًا وللطبراني وغيره عنها
قالت أعتقني النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل عتقي صداقي، قال الخطابي قد
ذهب غير واحد من العلماء إلى ظاهر
(4/45)
الحديث ورأوا أنه من أعتق أمة كان له أن
يتزوجها بأن يجعل عتقها عوضًا عن بضعها، وذكر أنه قول سعيد بن المسيب
والحسن والنخعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وحكي عن أحمد أنه قال: لا خلاف أن صفية كانت زوجة النبي - صلى الله عليه
وسلم - ولم ينقل من نكاحها غير هذه اللفظة، فدل أنها سبب النكاح، وقال ابن
القيم ولم يقل أنه خاص به ولا قاله أحد من الصحابة ولم تجمع الأمة على عدم
الاقتداء به في ذلك، والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك.
ولما كانت منفعة البضع لا تستباح إلا بعقد النكاح أو ملك اليمين، وكان
إعتاقه يزيل ملك اليمين عنها كان من ضرورة استباحة هذه المنفعة جعلها زوجة،
وزوجها كان يلي إنكاحها فاستثنى لنفسه ما كان يملكه منها، ولما كان ضرورة
عقد النكاح ملكه، لأن بقاء ملكه المستثنى لا يتم إلا به، فهذا محض القياس
الصحيح الموافق للسنة الصحيحة اهـ.
أما لو أصدقها طلاق ضرتها لم يصح، لحديث: "لا تسأل المرأة طلاق أختها" رواه
البخاري وغيره، وقال الشيخ لو قيل ببطلان النكاح لم يبعد، لأن المسمى فاسد،
وحكي عن أبي بكر تستحق مهر الضرة، قال الشيخ وهو أجود، وقال أبو حنيفة
والشافعي لا يفسد النكاح بفساد الصداق، وهو إحدى الروايتين عن مالك وأحمد
وقول الجمهور، فمتى بطل المسمى وجب مهر المثل، ومتى كان المهر صحيحًا ملكته
بالعقد كالبيع
(4/46)
ولها نماء المهر المعين قبل القبض، ولها
التصرف فيه، وعليها زكاته.
وإن طلق قبل الدخول والخلوة فله نصفه، وهدية زوج ليست من المهر فما قبل عقد
وإن وعدوه ولم يفوا رجع بها، فما سببه النكاح يبطل بزواله، وهذا المنصوص
على أصول المذهب لموافقته أصول الشرع، وهو أن كل من أهدي أو وهب له شيء
بسبب يثبت بثبوته ويزول بزواله ويحرم بحرمته، ويجب كله بالدخول أو الموت،
لقوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ
شَيْئًا} وأما وجوبه بالموت فلانعقاد الإجماع على ذلك، وقال الشيخ إذا
اتفقوا على النكاح من غير عقد فأعطى أباها لأجل ذلك شيئًا فماتت قبل العقد
ليس له استرجاع ما أعطاه فإن كان الإعراض منه أو ماتت فلا رجوع له وما قبض
بسبب نكاح ككسوة لأبيها أو أخيها فكمهر، والزيادة بعد العقد تلحق به.
فصل في المفوضة
التفويض النكاح دون صداق، ولغة الإهمال، فكأن المهر أهمل حيث لم يسم،
والمفوضة المزوجة بلا مهر، وهو نوعان: تفويض بضع، وهو الذي ينصرف إليه
التعريف، وتفويض مهر وهو أن يزوجها على ما شاء أحدهما أو أجنبي والتفويض
جائز بالكتاب والسنة والإجماع.
(4/47)
(قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}) أي
لا حرج عليكم بل قد أباح لكم تبارك وتعالى: {إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أي ولم تمسوهن والمس النكاح {أَوْ تَفْرِضُوا
لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي أو لم تفرضوا لهن فريضة أي توجبوا لهن صداقًا، فجوز
الطلاق قبل الدخول والفرض. وإن كان فيه انكسار لقلبها، ولهذا أمر بامتاعها
وتعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها فقال {وَمَتِّعُوهُنَّ} أي أعطوهن
من مالكم ما يتمتعن به والمتعة والمتاع ما يتمتع به من زاد وغيره ثم قال:
{عَلَى الْمُوسِعِ} أي على الغني {قَدَرُهُ} أي قدر غناه {وعلى المقتر} أي
على الفقير {قَدَرُهُ} أي إمكانه وطاقته {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} أي بما
أمركم الله به من غير ظلم {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فأعلاها خادم
وأدناها كسوة تجزئها في صلاتها.
قال ابن عباس أعلى المتعة خادم ثم دون ذلك النفقة ثم دون ذلك الكسوة، ولا
يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، واستحب
بعضهم المتعة لكل مطلقة لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *} وقوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ
وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا *} واختاره شيخ الإسلام وغيره، وإنما
تجب للمطلقة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها، فهذه هي التي دلت الآية
الكريمة على وجوب متعتها، وغيرها على الاستحباب جمعًا بين الآيات
والأحاديث، هو قول جمهور العلماء، وكذا من سمي لها مهر فاسد.
(4/48)
واختار الشيخ وجمع لها نصف مهر المثل، فإن
كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة، وإن كان قد فرض لها
وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع، وكان ذلك
عوضًا لها عن المتعة، والآية دلت على صحة التفويض، وتقدم أنه إجماع، وسواء
زوج الرجل ابنته المجبرة بلا مهر، أو أذنت المرأة لوليها أن يزوجها بلا
مهر.
فيصح العقد ولها مهر المثل، ودلت أيضًا على صحة تفويض المهر إلى أحد
الزوجين أو أجنبي، ويجب مهر المثل في قول عامة أهل العلم، لأن المقصود من
النكاح الوصلة والاستمتاع، دون الصداق، وجهالته لا تضر، ولها طلب فرضه، فإن
امتنع أجبر عليه، قال الموفق بلا خلاف، ولها المطالبة به، ويصح إبراؤها منه
قبل فرضه، ويفرضه الحاكم بقدره بطلبها، وإن تراضيًا قبله على مفروض جاز.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن عمرة بنت) يزيد بن (الجون) وسماها السهيلي
أسماء بنت النعمان بن الجون الكندية، وقال اتفقوا على تزويجه بها (تعوذت من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها) أي قالت لما دخل عليها أعوذ
بالله منك (فقال
لقد عذت بمعاذ) وهو الله عز وجل (فطلقها وأمتعها بثلاثة أثواب رواه ابن
ماجه) وغيره وفيه مقال، وأصل القصة في الصحيح، وفيه أيضًا عن سهل وأبي أسد
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج أميمة بنت شرحبيل فلما أدخلت
عليه
(4/49)
" بسط يده إليها" فكأنها كرهت ذلك "فأمر
أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين" وللبيهقي أتى بالجونية فعزلت في
بيت أميمة بنت النعمان بن شرحبيل.
وقيل إن سبب تعوذها منه أنه لما دخل عليها وكانت من أجمل النساء فداخل
نساءه غيره، فقيل لها إنما تحظين عنده أن تقولي أعوذ بالله منك، وقيل إنه
يعجبه ذلك، وقيل في سببه غير ذلك فالله أعلم، والحديث دليل على مشروعية
المتعة المطلقة وهو مذهب جمهور العلماء، ويدل على أن الكسوة متعة.
(وعن علقمة) بن قيس بن شبل بن مالك، من بني بكر ابن النخع تابعي جليل اشتهر
بحديث ابن مسعود وصحبته مات سنة إحدى وستين (قال) علقمة رحمه الله (سئل ابن
مسعود) رضي الله عنه (عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا ولم يدخل بها
حتى مات فقال لها مثل صداق نسائها) أي مهر مثلها من نساء قراباتها. كأم
وخالة وعمة وأخت ممن يماثلها، يعتبره الحاكم بمن تساويها منهن في حال وجمال
وعقل وأدب وسن وبكارة وثيوبة وبلد وصراحة نسب، وكلما يختلف لأجله
المهر.
فإن لم يكن لها إلا دونها زيدت بقدر فضلها، كنقصها وتعتبر عادة كتخفيف عن
عشيرتها، أو لشرف زوج ويسار وغير ذلك قاله الشيخ، وقال ما جرت العادة بأخذه
من الزوج.
ومن قال ينتصف بالموت رده شيخ الإسلام، وقال هذا
(4/50)
قول مخالف السنة وإجماع الأمة، وغلط الناقل
(لا وكس) بفتح فسكون أي لا نقص فلا تنقص من مهر نسائها (ولا شطط) بفتحتين
أي لا جور فلا يجار على الزوج بزيادة مهرها على نسائها (وعليها العدة)
إجماعًا (ولها الميراث) إجماعا لوجوبه لها بالعقد لا بالوطء فقط. إذ سبب
الميراث العقد (فقال معقل) بن سنان الأشجعي. شهد فتح مكة ونزل الكوفة وقتل
يوم الحرة صبرًا رضي الله عنه.
أي قال لما سمع فتيًا ابن مسعود (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
بروع) بنت واشقا مرأة منهم تزوجت هلال بن مرة الأشجعي وفوضت إليه فتوفي قبل
أن يدخل بها، أي فقضى لها (بمثل ما قضيت) يعني ابن مسعود، ففرح بها ابن
مسعود (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وابن مهدي وابن حزم وغيرهم، وفي لفظ
فشهد معقل أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى في بروع بمثل ما قضى به ابن
مسعود.
فدل الحديث على استحقاق المرأة كمال المهر بالموت، وهو قول جمهور العلماء
أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وإن لم يسم لها الزوج ولا دخل بها،
وتستحق مهر مثلها وهو مقتضى الحديث، ومن وطئت بشبهة أو في نكاح فاسد وجب
لها مهر المثل إن لم تكن عالمة مطاوعة عند جمهور العلماء، وظاهر كلام الشيخ
لا يجب، لأن البضع إنما يقوم على زوج، ومن وطئت بزنا مكرهة فقال الشيخ لا
يجب إنما هو خبيث.
(ولهم عن عمرو بن شعيب مرفوعًا أيما امرأة نكحت)
(4/51)
أي تزوجت (على صداق أو حباء) وهو العطاء
للزوجة، وكذا غيرها زائدًا على مهرها (أو عدة) بوعد من الزوج وإن لم يحضر،
ولو كان ذلك الشيء مذكورًا لغيرها (قبل عصمة النكاح فهو لها) أي للزوجة
(وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه) سواء كان وليًا أو غير ولي أو
المرأة نفسها (وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنته) وأخته. فدل الحديث على أن
المرأة تستحق جميع ما يذكر قبل العقد، سواء كان صداقًا أو حباء أو عدة، ولو
كان مذكورًا لغيرها، لأنه عوض بضعها، وما يذكر بعد العقد فهو لمن جعل له،
سواء كان وليًا أو غير ولي.
وما يعطيه الزوج مما هو للإتلاف كالطعام ونحوه: فإن شرط في العقد كان مهرًا
وما سلم قبل العقد فإباحة، ويصح الرجوع فيه مع بقائه إذا كان في العادة
يسلم للتلف، وإن كان للبقاء رجع في قيمته، إلا أن يمتنعوا من التزويج رجع
فيه مطلقًا.
وإن ماتت أو امتنع هو كان الرجوع فيما بقي، وفيما سلم للبقاء، وفيما تلف
قبل الوقت الذي يعتاد التلف فيه، لا فيما عدا ذلك، وما بعد العقد هبة أو
هدية على حسب الحال، أو رشوة إن لم تسلم إلا به ودل على مشروعية صلة أقارب
الزوجة وإكرامهم، والإحسان إليهم، وأن ذلك حلال لهم وليس من قبيل الرسوم
المحرمة إلا أن يمتنعوا من التزويج إلا به.
(ولأبي داود) والنسائي وغيرهما وصححه الحاكم (عن ابن عباس) رضي الله عنهما
(أن عليًا) رضي الله عنه (لما
(4/52)
تزوج فاطمة) رضي الله عنها وذلك في السنة
الثانية من الهجرة في رمضان، وبني بها في ذي الحجة (قال له رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أعطها شيئًا) وفي لفظ منعه حتى يعطيها شيئًا (قال) علي
رضي الله عنه (ما عندي شيء) أي أعطيها إياه (قال) رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (أين درعك الحطمية) نسبة إلى حطمة من محارب بطن من عبد القيس،
كانوا يعملون الدروع.
فللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال، وحكاه ابن المنذر إجماعًا مفوضة
كانت أو غيرها، لأن المنفعة المعقود عليها تتلف بالاستيفاء، قال الشيخ
والأشبه أن الصغيرة تستحق المطالبة بنصف الصداق، لأن النصف يستحق بإزاء
الحبس، وهو حل بالعقد، والنصف الآخر بإزاء الدخول فلا تستحقه إلا بالتمكين.
(وله) أي لأبي داود وابن ماجه (عن عائشة) رضي الله عنها قالت (أمرني) تعني
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن أدخل امرأة على زوجها) وللبيهقي
وغيره أن رجلاً تزوج من امرأة على عهده - صلى الله عليه وسلم - فجهزها إليه
(قبل أن يعطيها شيئًا) وللبيهقي: ونحوه عن علي وغيره فدل الحديث على أنه لا
يشترط في صحة النكاح أن يعطيها الزوج شيئًا قبل أن يدخل بها، وقال بعضهم لا
خلاف في ذلك، وما تقدم من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا رضي الله
عنه بإعطاء فاطمة رضي الله عنها الدرع الحطمية لم يكن للوجوب.
(4/53)
باب وليمة العرس
الوليمة من الولم وهو الجمع، لأن الزوجين يجتمعان، وقال ابن الأعرابي،
أصلها تمام الشيء واجتماعه، وتقع على كل طعام يتخذ لسرور، وتستعمل في وليمة
الأعراس بلا تقييد، وفي غيرها مع التقييد، وجزم جمع أنها الطعام في العرس
خاصة.
(عن أنس) رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن
بن عوف) القرشي الزهري أحد العشرة المشهود لهم بالجنة قيل إنه تصدق بشطر
ماله ثم بأربعين ألف دينار ثم حمل على خمس مائة فرس في سبيل الله وخمس مائة
راحلة وكان أكثر ماله من التجارة مات سنة إحدى وثلاثين (أو لم ولو بشاة) أي
اصنع شاة وليمة العرس وظاهر الأمر الوجوب، وهو مذهب الظاهرية، وحكي عن مالك
والشافعي وأحمد، وللطبراني "الوليمة حق" ولأحمد لما خطب علي فاطمة رضي الله
عنهما قال - صلى الله عليه وسلم - «لا بد للعروس من وليمة».
وجمهور أهل العلم أنها سنة مندوب إليها مرغب فيها، وفيها فضيلة، حتى قال
ابن بطال والموفق لا أعلم أحدًا أوجبها، والخبر محمول على الاستحباب، وقال
الشيخ تستحب بالدخول، وفي الصحيح بني بامرأة فدعوت رجالاً وقيل بالعقد وفي
الإنصاف الأولى أنه يقال وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام
العرس، لصحة الأخبار في هذا وهذا.
(4/54)
وكمال السرور بالدخول اهـ ولو هنا ليست
الامتناعية وإنما هي للتقليل.
وفي الحديث دليل على أن الشاة أقل مجزئ في الوليمة عن الموسر، ولولا ثبوت
أنه - صلى الله عليه وسلم - أو لم على بعض نسائه بأقل من الشاة لكان يمكن
أن يستدل به على أن الشاة أقل ما يجزئ في الوليمة مطلقًا، وأجمعوا على أنه
لا حد لأكثر ما يولم به، وأقله مهما تيسر أجزأ، لأنه - صلى الله عليه وسلم
- أولم على صفية بمد من شعير، والمستحب أنها على قدر حال الزوج، وإن نكح
اثنتين فأكثر في عقد أو عقود في وقت متقارب أجزأت وليمة واحدة إن نواها
للكل.
{وأولم - صلى الله عليه وسلم - على زينب} بنت جحش الأسدية أم المؤمنين رضي
الله عنها تزوجها - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث من الهجرة وفيها نزلت
(فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها) وماتت سنة عشرين وهي ابنة خمسين أولم
عليها (بشاة) فدل الحديث أيضًا على سنة الوليمة بشاة ولا نزاع في ذلك (متفق
عليهما) أي على حديث أنس المتقدم وعلى هذا أيضًا وهو حديث أنس.
ولفظه "ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من نسائه ما أولم على
زينب أولم بشاة" وقيل إنه محمول على ما انتهى إليه علم أنس رضي الله عنه،
أو لما وقع من البركة في وليمتها، حيث أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا من الشاة
الواحدة وإلا فإنه - صلى الله عليه وسلم - أولم على ميمونة بنت الحارث في
عمرة القضية بمكة، وطلب من أهل مكة أن يحضروا وليمتها.
(4/55)
فلعله أن يكون ما أولم به عليها أكثر من
شاة لوجود التوسعة عليه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحال، لأن ذلك كان
بعد فتح خيبر، وقد وسع الله على المسلمين في فتحها عليهم، وكان - صلى الله
عليه وسلم - أجود الناس إلا أنه لا يبالغ في التأنق فيما يتعلق بأمور
الدنيا.
(ولمسلم في قصة صفية جعل) - صلى الله عليه وسلم - {في وليمتها} أي في طعام
زواجه بها (التمر والأقط والسمن) ولهما أنه - صلى الله عليه وسلم - "أقام
بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني بصفية" قال أنس فدعوت المسلمين إلى
وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أنه - صلى الله
عليه وسلم - أمر بالانطاع فبسطت فألقي عليها التمر والأقط والسمن، وعنه أنه
- صلى الله عليه وسلم - "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" "وأولم عليها بحيس"
والأمور الثلاثة إذا خلط بعضها ببعض سميت حيسًا فدل الحديث على إجزاء
الوليمة بغير ذبح شاة وهو مذهب جمهور العلماء.
(وله) أي لمسلم (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال شر الطعام طعام الوليمة) سماه شرًا لما ذكر عقبه فكأنه قال: شر
الطعام الذي شأنه كذا، أو من شأنه كذا وبين شريته فقال: (يمنعها من يأتيها)
وهم الفقراء (ويدعي إليها من يأباها) وهم الأغنياء وفي رواية تدعي لها
الأغنياء وتترك الفقراء، وللطبراني "بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها
الشبعان ويمنع عنها الجيعان" وكان من عادة الجاهلية أن يدعو الأغنياء
ويتركوا الفقراء.
(4/56)
ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - أن كل
وليمة طعامها شر الطعام، فإن لو أراد ذلك لما أمر بها ولا ندب إليها، ولا
أوجب الإجابة إليها ولا فعلها - صلى الله عليه وسلم - بل قال - صلى الله
عليه وسلم - (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) أي دعوة وليمة النكاح
فدل على تأكد إجابتها، وتقدم أنه حكي وجوب إجابتها يعني وليمة النكاح فقد
صدق عليها اسم الوليمة شرعًا قال الحافظ وهي بفتح الدال على المشهور.
(ولهما) أي البخاري ومسلم (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا) إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها» وفي
رواية البخاري «أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم إليها».
(ولمسلم) أي عن ابن عمر مرفوعًا (فليجب عرسًا كان أو نحوه) أي سواء كانت
الدعوة إلى وليمة عرس فيجيب إليها، أو كانت الدعوة على غير وليمة العرس،
إلا أن إجابة الدعوة إلى وليمة العرس كانت آكد، لقوله: "فمن لم يجب فقد عصى
الله ورسوله".
قال الشافعي إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التي تعرف وليمة العرس وكل
دعوة دعي إليها رجل وليمة، فلا ارخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين أنه
عاص كما في وليمة العرس، وقد يسوغ الترك لأعذار ستأتي.
ونحو وليمة العرس حذاق لطعام عند حذاق صبي، وهو
(4/57)
ختم القرآن الكريم، ويقال مشداخ وعذيرة،
وأعذار لطعام ختان، وخرسة وخرس لطعام ولادة، وكيرة لدعوة بناء ونقيعة لقدوم
غائب، وتحفة منه، وعقيقة الذبح للمولود، وتقدمت، ومأدبة لكل دعوة بسبب وغير
سبب، وشندخية لأملاك، وقيل تطلق الوليمة على كل طعام لسرور حادث.
لكن استعمالها في طعام العرس أكثر، وكلها مستحبة أو جائزة، لما فيها من جبر
قلب الداعي وتطييب خاطره، وقال الموفق إذا قصد فاعلها شكر نعمة الله عليه
وإطعام إخوانه،
وبذل طعامه، فله أجر ذلك، وينبغي إجابته، وإلا فقد دعي عثمان إلى ختان
فأبى، وقال كنا لا نأتي الختان على عهد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ولأبي داود) أي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: (فإن كان) أي المدعو للوليمة (مفطرًا فليطعم) أي جبرًا لقلب
داعيه، وأكله من تمام إجابة دعوته (وإن كان صائمًا فليدع) أي لداعيه
لوليمته بالبركة والمغفرة، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا وقال
الموفق صحيح "إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليصل" أي ليدع لما
تقدم، ومنه "أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة
وذكركم الله فيمن عنده" "وإن كان مفطرًا فليطعم"
فدل الحديثان وغيرهما على أنه يتأكد على من كان صائمًا أن
(4/58)
لا يعتذر بالصوم بل يجيب وليدع لأهل الطعام
بالبركة والمغفرة، وظاهره أنه لا يجب عليه الإفطار، فأما إن كان صومه فرضًا
كقضاء رمضان، وكنذر فلا نزاع في أنه يحرم عليه الفطر، لقوله: {وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وينبغي إخباره بصومه ليعلم عذره، وإن كان نفلا
جاز له الفطر، ولا يجب لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا «إن شاء طعم وإن شاء
ترك» وقال لرجل اعتزل عن القوم ناحية وقال إني صائم " دعاكم أخوكم وتكلف
لكم كل ثم صم يومًأ مكانه إن شئت" وقال الشيخ وغيره يفطر استحبابًا إن جبر
قلب أخيه المسلم، وإلا كان تمام الصوم أولى من الفطر، وهذا أعدل الأقوال.
وقال لا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في الطعام للمدعو إذا امتنع من الفطر
في التطوع، أو الأكل، إن كان مفطرًا فإن كلا الأمرين جائز، وإذا ألزمه بما
لا يلزمه كان من نوع المسألة المنهي عنها، ولا يحلف عليه ليأكل، ولا ينبغي
للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع فإن فطره جائز، فإن
كان ترك الجائز مستلزمًا لأمور محذورة فينبغي أن يفعل ذلك الجائز، وربما
يصير واجبًا، وإن كان في الإجابة مصلحة الداعي فقط، وفيها مفسدة الشبهة ففي
أيهما أرجح خلاف اهـ.
وإن كان المدعو مريضًا أو ممرضًا أو مشغولاً بحفظ مال أو في شدة حر أو برد
أو مطر يبل الثياب أو وحل، أو كان أجيرًا ولم
(4/59)
يأذن له المستأجر لم تجب الإجابة في حقه،
لأحد هذه الأعذار، وقال بعض أهل العلم يكره لأهل العلم والفضل الإسراع إلى
الإجابة والتسامح فيه، لأن فيه بذلة ودناءة وشرها، لا سيما القاضي، لأنه
ربما كان ذريعة للتهاون به وعدم المبالاة.
قال ابن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن دخل على غير
دعوة» أي من غير أن يدعوه صاحب الوليمة (دخل سارقًا) لأنه دخل بغير إذن،
ورد في الرجل يدخل على آخر وهو يعلم أنه يأكل ليأكل معه (وخرج مغيرًا) من
أغار يغير إذا نهب مال غيره، شبه دخوله على الطعام الذي لم يدع إليه بدخول
السارق الذي يدخل بغير إرادة المالك، لأنه اختفى بين الداخلين وشبه خروجه
بخروج من نهب قومًا وخرج ظاهرًا بعد ما أكل بخلاف الدخول فإنه دخل مختفيًا
خوفًا من أن يمنع، وبعد الخروج قد قضى حاجته فلم يبق له حاجة إلى التستر،
وإذا دعي فجاء مع الرسول فهو إذن في الأكل، فلا يشترط إذن ثان، وتقديم
الطعام إليه بطريق الأولى، وهذا فيما إذا وضعه ولم يلحظ انتظار من يأتي،
وينظر إلى العرف والعادة في ذلك البلد.
(وله) أي ولأبي داود عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
مرفوعًا: «إذا اجتمع داعيان» أي لوليمة «فأجب أقربهما بابا» وفيه فإن
أقربهما إليك بابًا أقربهما إليك جوارًا «فإن سبق أحدهما» أي أحد داعيين
إلى وليمة «فأجب الذي سبق» سواء كان هو الأقرب أو الأبعد فالقرب وإن كان
سببًا للإيثار لكنه لا
(4/60)
يعتبر إلا مع عدم السبق، فدل الحديث على
أنه إذا اجتمع داعيان فالأحق بالإجابة الأسبق، فإن استويا قدم الجار،
والجار على مراتب فأحقهم أقربهم بابًا، فإن استويا أقرع بينهما، وقيل إن
كان أحدهما رحمًا، أو من أهل العلم، أو الورع، قدم لمرجح الإجابة.
(وعن أنس) رضي الله عنه (قال تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال أنس
فدخل بأهله فصنعت أم سليم حيسًا فجعلته في تنور فقالت: يا أنس اذهب به إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهبت به فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - «ضعه» (وقال ادع فلانًا وفلانًا ومن لقيت) وكذا من شئت (متفق عليه)
فدل على جواز الدعوة إلى الطعام على الصفة التي أمره بها رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - من دون تعيين المدعو. وتسمى هذه الدعوة الجفلى والخاصة
والنقري، قال طرفة:
نحن في المشتات ندعوا الجفلى لا ترى الأدب فينا ينتقر
أي يخصص فتباح لهذا الخبر:
وعن أبي سعيد مرفوعًا "طعام أول يوم حق" فقيل واجب وتقدم أن الجمهور على
الندب "وطعام اليوم الثاني سنة" ولأبي داود "معروف وطعام اليوم الثالث
سمعة. ومن سمع سمع الله به" رواه الترمذي وغيره، أي فلا ينبغي فعله، ولا
الإجابة إليه، وقال الشيخ يحرم الأكل والذبح الزائد على المعتاد في بقية
الأيام، ولو العادة فعله، أو لتفريح أهله، ويعذر إن عاد.
(4/61)
وذهب جماعة إلى أنه لا بأس بالضيافة إلى
سبعة أيام إذا كان المدعوون كثيرين، ويشق جمعهم في يوم أو يومين، وقال
البخاري: باب حق إجابة الوليمة والدعوة، ومن أولم سبعة أيام ونحوه ولم يوقت
النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا ولا يومين، ولابن أبي شيبة عن حفصة بنت
سيرين قالت لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام، وفي رواية ثمانية أيام.
(وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (مرفوعا: من رأى منكم منكرً) ذكره
منكرًا ليعم جميع ما نهى الله عنه، فإذا دعي إلى وليمة مثلاً ورأى منكرًا
كخمر وخنزير وآلة لهو وتصاوير وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله «فليغيره
بيده» إن قدر على ذلك، وهو أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وقد أثنى الله على هذه الأمة بذلك، فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ} بل أمر به فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ} ثم طبع على ذلك بطابع الفلاح فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ *}.
{فإن لم يستطع} أي تغيير المنكر بيده (فـ) ليغير المنكر (بلسانه) إن قدر
على ذلك «فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» متفق عليه. وفي رواية:
«وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» بل قد يكون ممن رضي وتابع، فإن قدر
على تغيير المنكر حضر وغيره، فأدى بذلك إجابة الدعوة وإزالة
(4/62)
المنكر، وإن لم يقدر على تغييره لم يحضر.
(وعن عمر) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر» رواه أحمد
وله الترمذي والنسائي نحوه من حديث جابر، وحسنه الحافظ، ولأبي داود عن ابن
عمر، "نهى عن الجلوس على مائدة يدار عليها الخمر" فدلت هذه الأحاديث على
سقوط حق الداعي، وعدم حضور الدعوة لوجود المنكر، والمراد إذا لم يقدر على
تغييره.
(ولابن ماجه) بإسناد رجاله رجال الصحيح (عن علي) رضي الله عنه قال: (صنعت
طعامًا فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في البيت تصاوير فرجع)
وقال الشيخ وغيره خرج أحمد من وليمة فيها آنية فضة، فقال الداعي نحوها فأبى
أن يرجع، فإذا صار في الوليمة خمر أو خنزير أو تصاوير، أو شاهد ستورًا
معلقة فيها صور حيوان لم يجلس إلا أن تزال، وهذا مذهب جماهير العلماء، وقال
ابن عبد البر هذا أعدل المذاهب، ويكره أيضًا تعليق الستور على الحيطان
والأبواب من غير حاجة، لوجود أغلاف غيرها من أبواب الخشب ونحوها، وما زاد
عن الحاجة فسرف.
وأما الحرير والذهب فيحرم كما تحرم سيور الحرير والذهب على الرجال، فكذا
الحيطان والأبواب التي يشترك فيها الرجال والنساء: ينبغي أن تكون كالتي
للرجال، وأما ما يختص بالمرأة
(4/63)
ففيه نظر، إذ ليس هو من اللباس، وإن حضر من
غير علم به ثم علم به أزاله لوجوب إزالته عليه، ويجلس بعد إزالته وإن دام
المنكر لعجزه عن إزالته انصرف لئلا تكون إجابته سببًا لشهود المنكر، قال
الشيخ ويحرم دخول بيعة وكنيسة مع وجود صورة، وأنها كالمسجد على القبر.
ويحرم حضور أعياد المشركين، وأن يفعل كفعلهم والتشبه بهم منهي عنه إجماعًا
وتجب عقوبة فاعله، ولا ينبغي إجابة هذه الدعوة، وإن كان هناك مضحك بالفحش
والكذب، لم يجز الحضور، ويجب الإنكار، فإن كان مزح لا كذب فيه ولا فحش أبيح
مع من يقل ذلك، قال: والفرق بين الدعوة والجنازة أن الحق في الجنازة للميت،
فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر، والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا
أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة.
(وعن أنس) رضي الله عنه (مرفوعًا: «من انتهب فليس منا» رواه أحمد وصححه
الترمذي) وللبخاري "نهى عن المثلة والنهبي" ولأحمد "عن النهبة والخلسة" وعن
عمران بن حصين نحو ذلك، فثبت من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم النهي
عن النهبة، ومن جملة ذلك انتهاب النثار، ولم يرد ما يصلح لتخصيصه، قال
الحافظ ولا ضعيف فضلا عن صحيح فيكره، والنثار، شيء يطرحونه في أيام التزويج
من دراهم أو غيرها، ويكره التقاطه، وأخذه ممن أخذه. قال أحمد هذه نهبة
(4/64)
تقتضي التحريم وقيل ليس بمكروه، قال الشيخ
والرخصة المحضة تبعد جدًا اهـ للنهي عنه، ولما فيه من الدناءة والسخف.
(وفي السنن) وعند أحمد والحاكم وغيرهم إلا أبا داود من حديث محمد بن حاطب
أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: «فصل ما بين الحرام والحلال الدف» أي ضرب الدف، والمراد ضربة
غير ملهية كدف العرب على شكل الغربال، ولأنه المعهود حينئذ (والصوت في
النكاح) أي رفع الصوت في النكاح للإعلان به.
وتقدم سنيته (حسنه الترمذي) فدل الحديث على سنية ضرب الأدفاف قاله الشيخ
وغيره، بحيث يكون كدف العرب، لا الأغاني المهيجة للشرور المشتملة على وصف
الجمال والفجور ومعاقرة الخمور، فإن ذلك يحرم في النكاح كما يحرم في غيره،
لقوله - صلى الله عليه وسلم - «نهيت عن صوتين أحمقين» وغيره، ويسن رفع
الأصوات بشيء من الكلام، نحو أتيناكم أتيناكم، إعلانًا بالنكاح.
(ولابن ماجه عن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعًا «أعلنوا النكاح» أي أظهروه
وأشيعوه «واضربوا عليه بالغربال» فهو المعهود على عهده - صلى الله عليه
وسلم - وفي المسند عن عمر بن يحيى المازني عن جده أبي حسن أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان يكره نكاح السر، حتى يضرب بدف، ويقال: «أتيناكم
أتيناكم فحيونا
(4/65)
نحييكم» وفي رواية شريك "فهلا بعثتم جارية
تضرب بالدف.
(وللبخاري عنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أنها زفت امرأة إلى رجل من
الأنصار فقال - صلى الله عليه وسلم - ما كان معكم من لهو فإن الإنصار
يعجبهم اللهو) ولابن ماجه عن ابن عباس أن عائشة أنكحت ذات قرابة لها من
الأنصار فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أهديتم الفتاة»
قالوا: نعم قال: أرسلتم لها من يغنى قالت لا قال: «إن الأنصار قوم فيهم
غزل، فلو بعثتم معها من يقول أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم» ففي هذه
الأحاديث وما في معناها الندب على إعلان النكاح بالدف والغناء المباح، وفي
الصحيح لما رأى نساء وصبيانًا جاءوا من عرس قال إنكم من أحب الناس إلي.
(وله) أي للبخاري (عن الربيع) بنت معوذ رضي الله عنها أنه (دخل عليها) يعني
النبي - صلى الله عليه وسلم - (وجويريات يضربن بالدف) أي فأقرهن ولم ينكر
ذلك، قال الشيخ، ومن استدل بجواز الغناء للصغار في يوم عيد على أنه مباح
للكبار من الرجال والنساء على الإطلاق فهو مخطئ، وقال أما الشابة فلم يرخص
أحد من أهل العلم في حضورها مجمع الرجال الأجانب.
لا في جنازة ولا في عرس، وتحرم كل ملهاة سوى الدف المعهود في عصر النبوة،
كمزمار، وطنبور وجنك وعود وسائر الملاهي المحرمة، وكذا الأغاني المهيجة
للفجور.
(4/66)
ويحرم اللعب بالشطرنج ونحوه على عوض، وحكاه
ابن عبد البر إجماعًا لا سيما إذا اشتمل على ترك واجب أو فعل محرم فيحرم
بالاتفاق، أو عوض، أو شغل عن واجب من مصلحة النفس أو الأهل، أو الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الرحم، أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو
إمامة أو غير ذلك.
(ولأبي داود) والنسائي وابن ماجه وغيرهم (من حديث عمرو بن شعيب) عن أبيه عن
جده أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا تزوج أحدكم امرأة
فليقل اللهم إني أسألك خيرها» أي خير ذاتها «وخير ما جبلتها عليه» أي
خلقتها وطبعتها عليه من الأخلاق البهية، «وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها
عليه» وفي لفظ: "ثم ليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة" ففيه استحباب الدعاء بما
تضمنه هذا الحديث عند تزوجها وزفافها إليه، وهو دعاء جامع لأنه إذا لقي
الإنسان الخير من زوجته وجنب الشر كان في ذلك جلب النفع واندفاع الضرر.
فصل في آداب الأكل والشرب
وبيان ما يسن في ذلك ويباح ويحرم ويكره وغير ذلك
(عن عمر بن أبي سلمة) كانت أمه زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن
توفي أبو سلمة (قال كانت يدي تطيش في الصحفة فقال
(4/67)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا غلام
سم الله» أي قل بسم الله.
قال الشيخ ولو زاد الرحمن الرحيم لكان حسنًا، فإنه أكمل بخلاف الذبح «وكل
بيمينك» ولمسلم من حديث ابن عمر إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه «وكل مما يليك
متفق عليه» فدل الحديث على وجوب التسمية للأمر بها، وقيل مستحبة في الأكل،
ويقاس عليه الشرب، قال العلماء ويستحب أن يجهر بها ليسمع غيره وينبهه
عليها، فإن تركها لأي سبب نسيان أو غيره في أول الطعام ففي أثنائه للخبر
الآتي.
ودل على وجوب الأكل باليمين، وفي الحديث «فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب
بشماله» وإن رجلا أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كل
بيمينك» فقال: لا أستطيع، فقال: «لا استطعت ما منعه إلا الكبر» فما رفعها
إلى فيه، فيكره أكله بشماله بلا ضرورة.
وحكاه النووي في الشرب إجماعًا ودل على أنه يجب الأكل مما يليه، ولابن ماجه
من حديث ابن عباس: «إذا أكل أحدكم فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن من أسفلها
فإن البركة تنزل من أعلاها» وفي لفظ «كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها يبارك
فيها» وإنه ينبغي حسن العشرة للجليس، وأن لا يحصل من الإنسان ما يسوء جليسه
مما فيه سوء عشرة وترك مروءة فقد يتقذر جليسه لا سيما في الثريد والأمراق
ونحوها، إلا في مثل الفاكهة لفعله - صلى الله عليه وسلم - من أنه يتتبع
الدباء من نواحي الصحفة متفق عليه، ولأنه غير لون واحد. ونهى عن الأكل من
(4/68)
وسط الصحفة فللخمسة «لا تأكلوا من وسط
الصحفة، وكلوا من جوانبها فإن البركة تنزل في وسطها» وسنده صحيح، وظاهر
النهي سواء كان وحده أو معه جماعة.
وينبغي غض طرفه عن جليسه لئلا يستحي منه، وإيثاره على نفسه للآية، وقال
أحمد يأكل بالسرور مع الإخوان وبالإيثار مع الفقراء وبالمروءة مع أبناء
الدنيا، ومع العلماء بالتعلم، ويكره نفض يده في القصعة، وأن يقدم إليها
رأسه عند وضع اللقمة في فمه، وينبغي أن يحول وجهه عند العطاء والسعال عن
الطعام، أو يبعد عنه، أو يجعل على فيه شيئًا لئلا يخرج منه ما يقع في
الطعام، ولا ينبغي أن يفجأ قومًا عند وضع طعامهم تعمدًا، وإلا أكل، قال
الشيخ وأكل النساء مع الرجال الأجانب لا يفعل إلا لحاجة من نحو ضيق المكان
أو قلة الطعام ومع ذلك لا تكشف وجهها للأجانب.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(فإن نسي) أي نسي التسمية (في أوله) أي أول تناول الطعام (فليقل بسم الله
في أوله وآخره صححه الترمذي) فدل على وجوب التسمية أثنائه إذا نسي في أوله.
وأن يسمى كل واحد من الآكلين، ولما تقدم من قوله: «يا غلام سم الله» فإن
سمي واحد فقط، فقيل تحصل بتسميته السنة، لخبر «إن الشيطان يستحل الطعام
الذي لم يذكر اسم الله عليه» وفي
(4/69)
هذين الحديثين وغيرهما، أنه لا بد من تسمية
كل شخص فيتعين ذلك.
(وعن كعب) بن مالك رضي الله عنه (قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يأكل بثلاث أصابع) الإبهام والسبابة والوسطى (رواه الخلال) ورواه مسلم
وغيره وفيه فإذا فرغ لعقها فيكره الأكل بما دونها وما فوقها، ما لم تكن
حاجة، أو ما يتناول عادة وعرفًا بإصبع أو إصبعين أو أكثر، فإن العرف
يقتضيه، ولا يكره الأكل بالملعقة ونحوها، والسنة أن يأكل بيده.
(وعن جابر) رضي الله عنه (أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بلعق الأصابع)
وفي حديث كعب ولا يمسح يده حتى يلعقها (و) أمر بلعق (الصحفة) أي التي أكل
منها (وقال إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) أي فيما أكلتموه قبل أو ما
لعقتم من الأصابع أو الصحفة (رواه مسلم) وللترمذي "تستغفر له الصحفة" فدل
الحديث على أنه يسن أن لا يمسح يده حتى يلعقها وأن يلعقوا الصحفة التي أكل
منها، وأن يأكل ما تناثر من الطعام، لخبر " إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما
بها من الأذى وليأكلها".
(وعن أبي جحيفة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
لا آكل متكئًا) أي متمكنًا في جلوسه، والاتكاء مأخوذ من الوكاء، والتاء بدل
عن الواو، والوكاء هو ما يشد به الكيس أو
(4/70)
غيره فكأنه أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على
الوطاء الذي تحته ومعناه الاستواء على وطاء متمكنًا (رواه البخاري) ومعنى
الحديث إذا أكلت لا أقعد متكئًا كفعل من يريد الاستكثار من الأكل، ولكن آكل
بلغة، فيكون قعودي مستوفزًا.
والعامة لا تعرف المتكئ إلا من مال على أحد شقيه، ومن حمله على ذلك تأول
ذلك على مذهب أهل الطب، بأن ذلك فيه ضرر، فإنه لا ينحذر في مجازي الطعام
سهلا، ولا يسيغه هنيئًا وربما تأذى به فينبغي للآكل أن يجلس على رجله
اليسرى وينصب اليمنى، أو يتربع ويكره الأكل قائمًا والشرب قائمًا لغير
حاجة، اختاره الشيخ وغيره.
(ولمسلم عن أنس) رضي الله عنه (مرفوعًا إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة
فيحمده عليها) بأن يقول الحمد لله رب العالمين (ويشرب الشربة فيحمده عليها)
بأن يقول الحمد لله رب العالمين إذا فرغ من أكله أو شربه، وينبغي أن يقول
الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين للخبر.
(وعنه) أي عن أنس رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى
سعد) ابن عبادة رضي الله عنه فجاء بخبز وزيت (فأكل) أي رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - (ثم قال: افطر عندكم الصائمون) ظاهره فرضًا كان أو نفلاً
فدل على فضيلة تفطير الصائم وتقدم أن له مثل أجره (وأكل طعامكم الأبرار)
الاتقياء الصالحون
(4/71)
(وصلت عليكم الملائكة) أثنت عليكم أو دعت
لكم واستغفرت وفيه وذكركم الله فيمن عنده (رواه أبو داود) وسكت عنه المنذري
ولأبي داود وغيره عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أكل وأصحابه عند
أبي الهيثم طعامًا قال أثيبوا أخاكم قالوا: وما إثابته قال: إن الرجل إذا
دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له فإذا دعوا له فذلك إثابته.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال ما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- طعامًا قط) فلا يقول رديئًا أو مالحًا أو حامضًا أو نحو ذلك، ولا يحتقره
(إن اشتهاه أكله) ولم يعبه (وإلا تركه) ولم يعبه (متفق عليه) وفيه عدم
عنايته - صلى الله عليه وسلم - وتأنقه في المأكل، ويكره من رب الطعام مدح
طعامه وتقويمه، لأنه يشبه المن به، وحرمه بعضهم، ولا بأس بمدحه من غير ربه،
ولغير ضيف وقد يصير من لاتحدث بالنعمة، وكره قرانه في تمر قال الشيخ ومثله
قران ما العادة تناوله إفرادًا.
(وعن المقدام) بن معدي كرب رضي الله عنه
(مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بحسب ابن آدم
لقيمات» وفي لفظ أكلات تكفيه في سد الرمق وإمساك القوة «يقمن
صلبه» أي ظهره ويتقوى بهن على الطاعة، «فإذا كان
ولا بد» وفي لفظ لا محالة «فثلث لطعامه» أي يجعله لمأكوله «وثلث لشرابه» أي
يدعه لمشروبه «وثلث لنفسه» أي
من التجاوز، رواه أحمد وابن ماجه و (حسنه الترمذي)
(4/72)
وصححه الحاكم، وهذا غاية ما اختير للأكل،
ويحرم الأكل فوق الشبع.
وكره الشيخ وغيره أكله كثيرًا حتى يتخم، وحرمه أيضًا وحرم الإسراف وهو
مجاوزة الحد، ولا ينبغي أن لا يأكل إلا قليلاً بحيث يضره، سواء كان مع غيره
أو وحده، لخبر " لا ضرر ولا ضرار" وليس من السنة ترك أكل الطيبات ومن السرف
أن يأكل كل ما اشتهى، ومن أذهب طيباته في حياته الدنيا واستمتع بها، نقصت
درجاته في الآخرة للأخبار.
(وعن أبي قتادة) رضي الله عنه (مرفوعًا إذا تنفس أحدكم فلا يتنفس في
الإناء) لما يخرج النفس من كرب القلب وكدر البدن، فكره الشارع أن يؤذي
الشارب، أو لأنه قد يخرج شيء من الفم فيتصل بالماء فيقذره على غيره (متفق
عليه) وأما ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم -
كان يتنفس في الشرب ثلاثًا، فالمراد في أثناء الشراب، لا في إناء الشراب،
ولمسلم "فإنه أروى وأبرأ وأمرى" أي أقمع للعطش وأكثر برأ، ولما فيه من
الهضم، ومن سلامته من التأثير في برد المعدة، وأكثر مراءة لما فيه من
السهولة.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما أي مرفوعًا نحوه رواه أبو داود وغيره وزاد
على ما تقدم (أو ينفخ فيه) أي في الإناء (صححه الترمذي) وله وغيره من حديث
أبي سعيد "نهى عن
(4/73)
النفخ في الشراب، فقال رجل القذاة أراها في
الإناء قال: "أهرقها" قال فإني لا أروى من نفس واحد قال: "فأبن القدح من
فيك ثم تنفس، فدل الحديث على النهي عن النفخ في الإناء، وعن ابن عباس
مرفوعًا «لا تشربوا واحدًا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث» وروي "
مصوا الماء مصًا ولا تعبوه. فإن الكباد من العب.
وأما اللبن فيعب لأنه طعام، وينبغي أن لا يشرب من ثلمة القدح، لما روى أبو
داود من حديث أبي سعيد " نهى عن الشرب من ثلمة القدح" وكره شربه من في
السقاء، لأنه قد يخرج منه ما ينغصه، وفي أثناء طعامه بلا عادة، إلا إذا صدق
عطشه، فينبغي من جهة الطب، يقال إنه دباغ المعدة، وإذا شرب ناوله الأيمن
للخبر.
* * *
(4/74)
باب عشرة النساء
بكسر العين الاجتماع، يقال لكل جماعة عشرة، ومعشر، والمراد هنا ما يكون بين
الزوجين من الإلفة والانضمام وما يلزم كلا منهما من العشرة بالمعروف، فلا
يمطل أحدهما حق صاحبه ولا يتكره لبذله ولا يتبعه أذى ولا منة.
قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا
أفعالكم، وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها، فافعل ذلك أنت بها مثله،
قال ابن زيد تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله فيكم، وقال - صلى
الله عليه وسلم - «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» وكان من أخلاقه -
صلى الله عليه وسلم - أنه جميل العشرة دائم البشر.
يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه حتى أنه يسابق عائشة
يتودد إليها بذلك، ويأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، وينام مع إحداهن في
شعار واحد قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا *} أي فعسى أن يكون صبركم
في إمساككم لهن مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة.
ومنه أن يعطف عليها فيرزق منها ولدًا، ويكون في ذلك الولد خير كثير، وفي
الصحيح لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقًا رضي منها آخر" فدلت الآية على
أنه ينبغي إمساكها مع كراهته لها، لأنه لا يعلم وجوه الصلاح فربما مكروهًا
عاد
(4/75)
محمودًا أو محمودًا عاد مكروهًا مذمومًا،
ولا تكاد تجد محبوبا ليس فيه ما تكره فليصبر المرء على ما يكره لما يحب.
(وقال) تعالى (ولهن) أي للنساء على الرجال من المعاشرة بالمعروف {مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ} للرجال من المعاشرة والقيام بحق الزوج
{بِالْمَعْرُوفِ} وهو ما يعرف بالشرع ويتعارف بين الناس وجماع المعروف
بينهما كف المكروه وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه لا بإظهار الكراهية
في تأديته فأيهما مطل بتأخيره فمطل الغني ظلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما
إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي، وقال ابن العطار يجب على
المرأة أن تبدي لزوجها كل ما يدعوه إليها ويزيدها في مودته وتصطاد به قلبه.
ويجب عليها إزالة نحو وسخ ودرن وغسل نجاسة ونحو ذلك، وأخذ ما تعافه النفس
من شعر وغيره، وكل ما يمنع كمال الاستمتاع كأكل ما له رائحة كريهة، وقال
الشيخ تجبر على تمكينه من جميع أنواع الاستمتاع المباحة، ويجب عليها خدمة
زوجها بالمعروف من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال فخدمة البدوية
ليست كخدمة القروية وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة {وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في الفضيلة وطاعة الأمر والإنفاق وغير ذلك، وقال ابن
عباس، بما ساق فحق الزوجة أعظم من حقها عليه وفي الحديث " لو كنت أمرًا
أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها.
(4/76)
رواه أهل السنن وغيرهم ولأحمد وغيره "والذي
نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد ثم
استقبلته تلحسه ما أدت حقه" وله أيضًا لا تؤدي حق ربها حتى تؤدي حق زوجها
ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه.
(وقال) تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} أي اعتزلوا
جماعهن حال جريان حيضهن، فدلت الآية على تحريم وطء الحائض حال جريان دم
الحيض ولا نزاع في ذلك.
ويحرم بعده قبل الغسل عند جماهير العلماء لقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}
وتقدم حديث «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» أي الجماع فهو مفسر للآية ومبين
الاعتزال المنهي عنه وأنه الجماع لا المواكلة والمشاربة والملامسة
والمضاجعة.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
«استوصوا») أي أوصيكم «بالنساء خيرًا» يعني فاقبلوا وصيتي «فإنهن عوان
عندكم» أي أسيرات، فالعاني الأسير وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا
«أخذتموهن بأمانة الله» أي أن الله ائتمنكم عليهن فيجب حفظ الأمانة
وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها وفي لفظ "بأمان الله" «واستحللتم
فروجهن بكلمة الله» أي بإباحة الله والكلمة {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ
مِنَ النِّسَاءِ} الآية رواه مسلم.
فدل الحديث على الوصية بهن ومراعات حقهن ومعاشرتهن بالمعروف، وقد جاءت
أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في
ذلك.
(4/77)
(ولهما عنه) أي وللبخاري ومسلم وغيرهما عن
أبي هريرة رضي الله عنه (مرفوعًا: إن المرأة خلقت من ضلع) بكسر الضاد وفتح
اللام وإسكانها واحد الأضلاع (أعوج) أي غير مستقيم "وإن أعوج شيء في الضلع
أعلاه" مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن «فإن ذهبت تقيمه» أي الضلع «كسرته»
وفي لفظ «وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها» «وإن استمتعت استمتعت بها
وفيها عوج» لأنهن خلقن من أصل معوج، والمراد أن حواء خلقت من ضلع آدم قيل
الأقصر الأيسر قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
ففيه الوصية بهن والاحتمال لهن والصبر على عوج أخلاقهن وأنه لا سبيل إلى
إصلاح أخلاقهن بل لا بد من العوج فيها، وأنه من أصل الخلقة، وتقدم «لا يفرك
مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» فإنها لا تستقيم أبدًا فمن
حاول حملها على الأخلاق المستقيمة أفسدها، ومن تركها على ما فيها من
الإعوجاج انتفع بها.
(وعنه مرفوعًا) أي وعن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أكمل المؤمنين إيمانًا» إذ الإيمان يزيد
وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فأكملهم «أحسنهم خلقًا» بضم الخاء ففيه
أن من ثبت له مزية حسن الخلق كان من أهل الإيمان الكامل، فإن كان أحسن
الناس خلقًا كان أكمل الناس إيمانًا لأن كمال الإيمان يوجب حسن
(4/78)
الخلق والإحسان وإن خصلة يختلف حال الإيمان
باختلافهم لخلقته بأن ترغب إليها نفوس المؤمنين قال: «وخياركم خياركم
لنسائها» وفي لفظ" إن من أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم
بأهله" (صححه الترمذي) ورواه أحمد وغيره، وجاء أيضًا «خيركم خيركم لأهله».
فدل الحديثان أن أعلى الناس مرتبة في الخير وأحقهم بالأتصاف به هو من كان
خير الناس لأهله، فإن الأهل هم الأحق بالبشر وحسن الخلق والإحسان وجلب
النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك فهو خير الناس، وإن كان على العكس من
ذلك فهو في الجانب الآخر من الشر، وكثيرًا ما يقع الناس في هذه الورطة فترى
الرجل إذا لقي أهله كان أسوأ الناس أخلاقًا وأشحهم نفسًا وأقلهم خيرًا.
وإذا لقي غير الأهل لانت عريكته وانبسطت أخلاقه، وجادت نفسه نعوذ بالله من
موجبات غضبه، وقال ابن الجوزي معاشرة المرأة بالتلطف مع إقامة الهيبة، ولا
ينبغي أن يعلمها قدر ماله ولا يفشي إليها سرًا يخاف إذاعته، وليكن غيورًا
من غير إفراط لئلا ترمى بالشر من أجله.
(وعنه) أي عن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها» قيل كتابة عن الجماع أو أن
المراد الفراش المعهود «لعنتها الملائكة حتى ترجع» متفق عليه وفي لفظ
للبخاري «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى
تصبح» أي
(4/79)
وترجع ولمسلم " كان الذي في السماء ساخطًا
عليها حتى يرضى عنها" فدل الحديث على أنه يجب على المرأة إجابة زوجها إذا
دعاها للجماع أو الفراش للعن الملائكة لها إذ لا يلعنون إلا عن أمر الله،
ولا يكون إلا عقوبة ولا عقوبة إلا على ترك واجب، ودل على تأكد وجوب طاعة
الزوج وتحريم عصيانه ومغاضبته ورواية "حتى تصبح" خرج مخرج الغالب، وإلا
فيجب عليها إجابته نهارًا للأخبار.
وفي خبر الثلاثة الذين لا تقبل لهم صلاة ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة"
المرأة الساخط عليها زوجها، وله الاستمتاع بها، ولو على تنور أو ظهر قتب
للخبر رواه أحمد، وليس له شغلها عن فرض، وليس لها تطوع بصوم أو صلاة وهو
شاهد إلا بإذنه، ويباشرها ما لم يضر بها، قال الشيخ فإن تنازعا فينبغي أن
يفرضه الحاكم كالنفقة، فمن زاد عليها في الجماع صولح على شيء لأنه غير
مقدر، وجعل ابن الزبير أربعًا في الليل وأربعًا في النهار، وصالح أنس رجلاً
على ستة، ويرجع إلى اجتهاد الحاكم.
(ولهما عنه) أي عن أبي هريرة أيضً رضي الله عنه (مرفوعًا ولا تأذن في بيته
إلا بإذنه) لا لقرابة ولا غيرهم لعموم الخبر ما لم تقم قرينة دالة على
رضاه، وللترمذي وصححه، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا
يأذن في بيوتكم لمن تكرهون وإن خاف ضررا من زيارة أبويها فله منعها، ويعرف
ذلك بقرائن الأحوال ومنه أن يفسداها عليه، ولا
(4/80)
يمنعها من كلامهما وله منعها من الخروج من
منزلة، ويحرم بلا إذنه من غير ضرورة كاضطرارها لمطعم ومشرب لعدم من يأتيها
به.
وينبغي استئذانه أن تمرض محرمها وتشهد جنازته لما في ذلك من صلة الرحم،
وعدم إذنه يكون حاملاً لها على مخالفته، قال الشيخ له منعها من الخروج فإذا
نهاها لم تخرج، وقال ولا تترك المرأة تذهب حيث شاءت بالاتفاق اهـ.
وله منعها من إجارة نفسها ومن إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورة، وله السفر
بها مع الأمن وعدم اشتراط ضده،
لأنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يسافرون بنسائهم.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم -
قال: «لا ينظر الله إلى رجل أتى» رجلا أو «امرأة في دبرها» رواه النسائي
وغيره (حسنه الترمذي) ونحوه لأحمد أيضًا وغيره، عن أبي هريرة، وعلي بن أبي
طالب وعلي بن طلق وغيرهم مرفوعًا وموقوفًا، ولفظ الخمسة عن أبي هريرة
مرفوعًا «ملعون من أتى امرأة في دبرها» والأحاديث قاضية بتحريم إتيان
النساء في أدبارهن، وقد حرم الله الوطء في القبل لأجل الأذى فكيف بالحش
الذي هو موضع الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل الذي هو
العلة الغائية في مشروعية النكاح، وفيه من المفاسد الدينية والدنيوية ما هو
معروف.
وقال الشيخ وطء المرأة في الدبر حرام بالكتاب والسنة وقول جماهير السلف
والخلف بل هو اللوطية الصغرى، وسيأتي
(4/81)
في حد اللواط ما يكفي ويشفي، وما روي عن
الشافعي فمن أصحابه من أنكره عنه، والقول الجديد عنه تحريمه، ولا يرضى أحد
بنسبة جوازه إلى أمامه، وقال الربيع والله الذي لا إله إلا هو لقد نص
الشافعي على تحريمه في ست كتب.
وقال ابن القيم قال الشافعي لا أرخص فيه بل أنهى عنه، وقال من نقل عن
الأئمة إباحته فقد غلط عليهم أفحش الغلط وأقبحه، وإنما الذي أباحوه أن يكون
الدبر طريقًا إلى الوطء في القبل، فيطأ من الدبر في القبل لا في الدبر، فإن
فعله عزر لإتيانه معصية لا حد فيها ولا كفارة، وإن تطاوعا عليه فرق بينهما،
قال الشيخ كما يفرق بين الرجل الفاجر وبين من يفجر به من رقيقه.
(وعن عمر) رضي الله عنه قال (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن
يعزل) أي الزوج (عن) زوجته (الحرة) والعزل النزع بعد الإيلاج لينزل خارج
الفرج (إلا بإذنها رواه أحمد) وفيه ابن لهيعة، ويشهد له ما رواه عبد الرزاق
عن ابن عباس نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها.
(ولمسلم عن عائشة) رضي الله عنها قالت (قال) رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - (ذلك) أي العزل (الوأد الخفي) أي دفن البنت
حية، سماه وأدًا لما تعلق من قصد منع الحمل، فدلت هذه الأحاديث على تحريم
عزل الزوج عن زوجته الحرة إلا بإذنها، وقال ابن عبد البر لا خلاف بين
العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها. لأن الجماع من حقها ولها
المطالبة به، وليس
(4/82)
الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل، ويحرم
من زوج أمة إلا بإذن سيدها، وهو مذهب الجمهور، وأما الأمة فلمسلم عن جابر
أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن لي جارية هي خادمتنا
وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال: «اعزل عنها إن شئت
فإنه سيأتي ما قدر لها» فيجوز العزل عن الأمة لهذا الخبر وغيره وهو مذهب
الجمهور.
(وقال لعبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنه (وإن لزوجك عليك حقًا متفق
عليه) وجاء من طرق بعد ذكر صومه التطوع أي لا ينبغي لأحد أن يجهد نفسه في
العبادة حتى يضعف عن القيام بحقها من جماع واكتساب، وفيه: "وإن لنفسك عليك
حقًا" وفي لفظ "ولجسدك عليك حقًا" مراعاته والرفق به وتقدم " ولنسائكم
عليكم حقًا" ثم قال: "وحقها عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" فإذا
انقطع في التعبد عن مصالح أهله وضعف عن القيام بحقوقهم كره ما لم يأذنوا
به.
ولا وجه لقول بعضهم يبيت عند الحرة ليلة من أربع وينفرد إذا أراد في
الباقي، فنص أحمد في الذي يصوم النهار ويقوم الليل على وجوب المبيت في
المضجع، وكذا ما في النشوز يدل على وجوب المبيت في المضجع، وجواز التزوج
بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة يكون حال الانفراد كحال الاجتماع.
وقرر الشيخ وجوب المبيت في المنزل وأنه لا يهجر المضجع واختار وجوب الوطء
بقدر كفايتها ما لم ينهك بدنه.
(4/83)
أو يشغله عن معيشة من غير تقدير مدة، فإن
تنازعا فينبغي أن يفرضه الحاكم كالنفقة وكوطئه إذا زاد، قال وحصول الضرر
للزوجة بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال سواء كان يقصد من الزوج أو بغير قصد،
ولو مع قدرته وعجزه كالنفقة وأولى للفسخ بتعذره في الإيلاء إجماعًا، ثاب
أبو محمد المقدسي القول في امرأة الأسير والمحبوس ونحوهما ممن تعذر انتفاع
امرأته به إذا طلبت فرقته كالقول في امرأة المفقود بالإجماع.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال: «لو أن أحدكم حين يأتي أهله» أي حين يريد أن يأتي أهله وفي لفظ "إذا
أراد أن يأتي أهله" كنى به عن الجماع (يقول بسم الله) بركة واستعانة بالله
(اللهم جنبنا الشيطان) باعده منا واعصمنا منه (وجنب الشيطان ما زرقتنا) من
الولد فلا يكون له نصيبًا فيه (لم يضره الشيطان أبدًا متفق عليه) ورواه أهل
السنن وغيرهم أي لم يسلط عليه فيكون من جملة الذين قال الله فيهم (إن عبادي
ليس لك عليهم سلطان).
قال الحسن يرجى إن حملت به أن يكون ولدًا صالحًا. فدل الحديث على استحباب
التسمية وبيان بركتها في كل حال، وأن يعتصم بالله وذكره من الشيطان ويتبرك
باسمه تعالى والاستعاذة به من جميع الأسواء، ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود
أنه إذا أنزل يقول اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتنا نصيبًا.
(4/84)
وينبغي أن يلاعبها قبل الجماع وتقدم أنها
تجبر على تمكينه من جميع أنواع الاستمتاع المباحة، ويكره الوطء متجردين لما
ورى ابن ماجه وغيره من حديث عتبة " فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين" ويكره
كثرة الكلام حالة الجماع. لما روي "لا تكثروا الكلام عند مجامعة النساء"
ويكره النزع قبل فراغ شهوتها، لما روي "إذا قضي حاجته فلا يعجلها حتى تقضي
حاجتها" لما في ذلك من الضرر عليها ومنعها من قضاء شهوتها، ويحرم الوطء
بمرأى أحد أو مسمعه.
قال أحمد كانوا يكرهون الوجس يعني الصوت الخفي، ويأتي النهي عن التحدث به
فكيف برؤيته.
(ولمسلم عن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه مرفوعًا أي أنه - صلى الله عليه
وسلم - قال: «إن من شر الناس» ولفظ مسلم «أشر الناس» وجاءت الأحاديث
باللفظين وشر الناس ضد خيرهم (عند الله منزلة يوم القيامة تهديد شديد وزجر
من أ، (الرجل يفضي إلى المرأة) من أفضى الرجل إلى المرأة جامعها، أو خلا
بها جامع أولا. (وتفضي إليه ثم ينشر سرها) أي وتنشر سره فيبدي كل منهما ما
يجري بينه وبين صاحبه، ولأحمد وأبي داود من حديث أبي هريرة "هل منكم رجل
إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول فعلت بأهلي كذا
وفعلت بأهلي كذا" فسكتوا فأقبل على النساء فقال: «هل منكن من تحدث» فجثت
فتاة على إحدى ركبتيها وتطاولت ليراها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسمع
كلامها فقالت: أي والله إنهم يتحدثون وإنهن
(4/85)
ليتحدثن فقال: «هل تدرون ما مثل من فعل ذلك
مثل شيطان وشيطانه لقي أحدهما صاحبه بالسكة فقضي حاجته منها وللناس ينظرون
إليه».
فدل الحديثان وغيرهما على تحريم إفشاء الزوجين أو أحدهما لما يقع بينهما من
أمور الجماع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري فيه بينهما من قول أو فعل ونحوه،
وأما مجرد ذكر الجماع فإذا لم يكن لحاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة وللنهي
عنه، وإن دعت إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة بأن كان ينكر إعراضه عنها أو
تدعي عليها العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذلك، كما قال - صلى
الله عليه وسلم - «إني لأفعله أنا وهذه» وقال لجابر "الكيس الكيس" وكما روي
عن الرجل الذي ادعت عليه العنة قال: يا رسول الله إني لأنفضها نفض الأديم.
فصل في القسم
أي العدل بين الزوجات في المبيت والنفقة والكسوة وغير ذلك مما يأتي تفصيله.
(قال تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا} أي إلى التي تحبونها {كُلَّ الْمَيْلِ} أي
لا تتبعوا أهواءكم وأفعالكم في القسم في المبيت والنفقة وغير ذلك
{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي إذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا
في الميل بالكلية فتدعوا الأخرى كالمعلقة لا أيما ولا ذات بعل، قال ابن
عباس وغيره لا ذات بعل ولا مطلقة فدلت
(4/86)
الآية وغيرها مما سيأتي على وجوب التسوية
في القسم بين من كان تحته امرأتان فأكثر، فإن أبى عصى وعليه القضاء
للمظلومة، والتسوية شرط في البيتوتة لا في الجماع، فلا يجب لأنه يدور على
النشاط، وليس ذلك إليه، وفي الكسوة والنفقة اختاره الشيخ وغيره، وتمييز
إحداهن ميل.
ويكون في القسم ليلة وليلة إلا أن يرضين بأكثر، ولزوج أمة مع حرة ليلة من
ثلاث لأنها على النصف منها وعماد القسم الليل لمن معاشه النهار، ومن معيشته
بالليل كحارس يقسم بين نسائه بالنهار ويكون النهار في حقه كالليل في حق
غيره.
وله أن يأتيهن وأن يدعوهن إلى محله، وأن يأتي بعضًا ويدعو بعضًا إذا كان
مسكن مثلها، ولا يدخل على غير ذات ليلة فيها إلا لضرورة كمنزول بها أو ما
لا بد منه عرفًا، ولا في نهارها إلا لحاجة كدفع نفقة أو سؤال عن أمر
يحتاجه، فإن لبث أو جامع لزمه القضاء لا قضاء قبلة ونحوها.
ويقسم لحائض ونفساء ومجنونة مأمونة وغيرها، وإن سافرت بلا إذن أو أبت السفر
معه أو المبيت عنده في فراشه فلا قسم لها ولا نفقة، لأنها عاصية كالناشز،
وكذا إن سافرت بإذنه في حاجتها فلا قسم لها أيضًا ولا نفقة لعدم الاستمتاع
بها ولحاجته فلا يسقط حقها.
(وقال) تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ} أي خشيتم {أَلَّا تَعْدِلُوا}
(4/87)
بين الأزواج أربع أو ثلاث أو اثنين
{فَوَاحِدَةً} أي فانكحوا واحدة لا تزيدوا عليها {أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} يعني السراري لأنه لا يلزم فيها من الحقوق ما يلزم في
الحرائر بل يطأ من شاء متى شاء، ولا قسم لهن ولا وقف في عددهن، بخلاف
الحرائر فيجب القسم بينهن بإجماع المسلمين.
{ذَلِكَ} أي الاقتصار على زوجة واحدة أو ملك يمين {أَدْنَى} أي أقرب
{أَلَّا تَعُولُوا} أي أن لا تجوروا يقال عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار،
وقال بعضهم أقرب أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم وأصل العول المجاوزة،
والمراد أن لا تميلوا إلى من تحبون منهن دون الأخرى، كما في الآية الأولى
فتأثموا بذلك.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
«من له امرأتان» أي مثلا «فمال إلى إحداهما» أي فضل إحداهما فلم يعدل
بينهما بل مال إلى إحداهما دون الأخرى «جاء يوم القيامة وشقه مائل» أي أحد
جنبيه مفلوج ساقط (رواه الخمسة) وغيرهم، وقال الحافظ سنده صحيح، والحديث
دليل على أنه يجب على الزوج التسوية بين الزوجات، وأنه يحرم عليه الميل إلى
إحداهن كما تقدم في الآية. والمراد في القسم والإنفاق ونحو ذلك مما يملكه
الزوج لا في المحبة ونحوها، لأنها مما لا يملكه، كما قال تعالى: {وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} قال
ابن عباس في الحب والجماع، ويستحب أن يسوي بينهن بجميع الاستمتاعات من
(4/88)
الوطء والقبلة والنظر وغير ذلك.
(ولهم) أي للخمسة وصححه ابن حبان وغيره (عن عائشة) رضي الله عنها أنه - صلى
الله عليه وسلم - (كان يقسم بين نسائه) فيبيت عند كل واحدة ليلة (ويعدل) أي
يسوي بين نسائه في البيتوتة، وعماده الليل لأنه الوقت الذي يأوي فيه
الإنسان إلى منزله ويسكن إلى أهله وينام على فراشه مع زوجته عادة، والأولى
أن يكون لكل واحدة منهن مسكنًا يأتيها فيه لفعله - صلى الله عليه وسلم -؛
ولأنه أصون لها وأستر حتى لا يخرجن من بيوتهن، وإن دعاهن إلى محل يسكنه غير
مساكن زوجاته جاز، وإن أقام عند واحدة ودعا الباقيات إلى بيتها لم تجب
عليها الإجابة، ويقسم المريض كالصحيح، لقوله "أين أنا غدًا" رواه البخاري.
(ويقول اللهم هذا) أي هذا العدل (قسمي فيما أملك) أي فيما أقدر عليه (فلا
تلمني) أي تعاتبني أو تؤاخذني (فيما تملك ولا أملك) يعني من زيادة المحبة
وميل القلب فإنك مقلب القلوب، وقال الترمذي وغيره يعني به الحب والمودة،
والحديث دليل على وجوب القسم فيما يملك الزوج، وأن المحبة وميل القلب أمر
غير مقدور للعبد، بل هو من الله تعالى لا يملكه العبد قال تعالى:
{وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}.
(وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (قال من السنة) وله حكم الرفع ورواه جماعة
عن أنس وقالوا فيه قال رسول
(4/89)
الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا تزوج
الرجل البكر على الثيب) وذلك أن تكون عنده امرأة فيتزوج معها بكرًا (أقام
عندها سبعًا) أي عند البكر أيام زفافها (ثم قسم) أي بين أزواجه (وإذا تزوج
الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم متفق عليه) وقال ابن عبد البر الأحاديث
المرفوعة على ذلك وليس مع من خالف حديث مرفوع والحجة مع من أدلى بالسنة،
وللدارقطني عنه مرفوعًا "للبكر سبع وللثيب ثلاث" ويحمل المطلق على المقيد.
ولما تزوج - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة رضي الله عنها أقام عندها ثلاثًا
ثم قال: "ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي"
والحديث وما في معناه يدل على أن البكر تؤثر بسبع والثيب بثلاث وتجب
الموالاة في السبع والثلاث، وهو في حق من له زوجة قبل الجديدة، وقيل بسبب
الزفاف، وقال النووي يستحب إذا لم يكن عنده غيرها وإلا فيجب، والإيثار يكون
بالمبيت والقيلولة لا استغراق ساعات الليل والنهار.
(ولهما عن عائشة) رضي الله عنها (أن سودة بنت زمعة) ابن قيس بن عبد شمس بن
عبد ود العامرية وكان - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بمكة بعد موت خديجة
وتوفيت بالمدينة سنة أربع وخمسين (وهبت يومها لعائشة) وللبخاري تبتغي بذلك
رضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك حين أسنت وخافت أن يفارقها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول الله يومي لعائشة فقبل منها
رواه أبو داود، ولابن
(4/90)
سعد مرسلاً أنه - صلى الله عليه وسلم -
طلقها فقعدت له فقالت أنشدك الله لما راجعتني فراجعها قالت: فإني جعلت يومي
لعائشة حبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وكان - صلى الله عليه وسلم -
يقسم) أي بين زوجاته لكل زوجة يوم (ولها) أي لعائشة (يومين يومها) أي يوم
عائشة (ويوم سودة) الذي وهبته لعائشة وللبخاري وليلتها.
فدل الحديث على جواز هبة المرأة نوبتها لضرتها، ولهما عن عائشة رضي الله
عنها في قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا
أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا
صُلْحًا} هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج
تقول أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة علي والقسم، وفي
رواية هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرًا أو غيره فيريد فراقها
فتقول أمسكني وأقسم لي ما شئت فلا بأس إذا تراضيا فدلت الآية أيضًا على ما
دل عليه الحديث من جواز إسقاط نفقة أو قسم أو غير ذلك مما يدخل تحت عموم
الآية، والحديث ويعتبر رضي الزوج إذا وهبت نوبتها لضرتها لأن له حقًا في
الزوجة فليس لها أن تسقط حقها إلا برضاه ويصح الرجوع لها فيما وهبت من
نوبتها لأن الحق يتجدد.
(وعنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (قالت كان) يعني رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه) لتعين القرعة من يسافر بها
لتساويهن في الحق وعدم إمكان الجمع
(4/91)
بينهن فوجب المصير إلى القرعة إن لم يرضين
(فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه) أي خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالمرأة التي خرج سهمها معه في السفر (متفق عليه) وقال أحمد يقرع بينهما
فتخرج إحداهما برضى الأخرى ويأثم إن سافر بإحداهن بغير قرعة ولا رضى. ولا
يقضي عند الجمهور واختراه الشيخ.
فصل في النشوز
وهو معصية الزوجة زوجها فيما يجب عليها مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من
الأرض فأكنها ارتفعت وتعالت عما فرض الله عليها من المعاشرة بالمعروف.
قال تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} لما ذكر تعالى الصالحات
القانتات يعني المطيعات أزواجهن الحافظات للغيب في غيبة زوجها في نفسها
وماله بين حكم اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن أي يرتفعن ويتعالين
عليهم فالناشز هي المرتفعة على زوجها التاركة لأمره المعرضة عنه قال تعالى
{فَعِظُوهُنَّ} أي متى ظهر منها إمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله
في عصيانه ويذكرها ما أوجب الله عليها من الحق والطاعة وما يلحقها من الإثم
بالمخافة. فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما
له عليها من الفضل والوعظ بالقول.
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} إن لم ينزعن عن ذلك بالقول وعصين بعد
وعظهن ويليها ظهره في الفراش ولا يكلمها وقال بعضهم لا يضاجعها وللبيهقي
يعني النكاح ما شاء حتى تنزع فلم يقدر بمدة وفي الكلام ثلاثة أيام فإن
أصررن بعد الهجر المذكور فقال تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أي إن لم ينزعن مع
الهجران فاضربوهن والمراد ضربًا غير مبرح للخبر والضرب المبرح هو الشاق
الذي لا تحمله النفس فبدأ تعالى بالموعظة فإن لم ترتدع فبالهجر فإن لم
ترتدع فبالضرب. قال الوزير اتفقوا على أنه يجوز للزوج أن يضرب زوجته إذا
نشزت بعد أن يعظها ويهجرها في المضجخ ويجتنب الوجه والمواضع المخوفة. وله
تأديبها على ترك الفرائض. قال الشيخ وتهجر زوجها في المضجع لحق الله بدليل
قصة الذين خلفوا.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي إذا أطاعت زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه
الله له منها {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} أي لا سبيل له عليها بعد
إتيانها لما يريده منها لا ضربها ولا هجرانها {إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيًّا} أي متعاليًا من أن يكلف العباد ما لا يطيقونه {كَبِيرًا} لا أكبر
منه ولا أعظم انتقامًا منه لمن ظلم.
وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} أي علمت {مِنْ بَعْلِهَا} أي زوجها
{نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} أي بغضًا ونفورًا عنها {فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا} أي لا حرج على الزوج ولا المرأة {أَنْ يُصْلِحَا} أي يتصالحا.
وقرأ أهل الكوفة أن يصلحا من
(4/92)
الصلاح {بَيْنَهُمَا صُلْحًا} يعني في
القسم والنفقة وغير ذلك، وذلك بأن تسقط عنه حقها أو بعضها من قسم أو نفقة
أو كسوة ومبيت وغير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج
عليها في بذلها ذلك له، ولا حرج عليه في قبوله منها.
قيل: نزلت في سودة لما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فراقها
صالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها، وقيل في امرأة
لها من زوجها أولاد فقالت: لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي واقسم لي من كل
شهرين إن شئت، وإن شئت فلا تقسم لي، وقال البغوي: هو أن يقول الزوج لها إنك
قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوج شابة أوثرها عليك، فإن رضيت بهذا
فأقيمي وإلا خليت سبيلك، فإن رضيت كانت هي المحسنة ولا تجبر على ذلك، وإن
لم ترض كان عليه أن يعرفها حقها أو يسرحها.
ثم قال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أي من الفراق فإن إقامتها بعد تخييره
إياها والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من المفارقة
بالكلية بل أبغض الحلال إلى الله الطلاق (وأحضرت الأنفس الشح) أي شح كل
واحد من الزوجين بنصببه من الآخر (وإن تحسنوا) أي تصلحوا (وتتقوا) الجور،
أو خطاب مع الأزواج بأن يحسنوا بالإقامة معها على الكراهية (وتتقوا) ظلمها
(فإن الله) سبحانه (كان بما تعملون خيبرا) فيجزيكم بأعمالكم.
(4/94)
(وقال) تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ
بَيْنِهِمَا} أي الزوجين، وقد تقدم في الآية الأولى ذكر نفور الزوجة، وفي
الآية الثانية ذكر نفور الزوج، وفي هذه الآية إذا وقع بينهما الشقاق واشتبه
حالهما الزوجة لم تؤد الحق عليها ولم تقتنع والزوج لم يصفح ولم يفارق وخرجا
إلى ما لا يحل قولاً وفعلاً وتفاقم أمرهما وطالت خصومتها، والخوف هنا بمعنى
اليقين أي ظهر الشقاق بينهما {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} إليه
{وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} إليها رجلين عدلين ليستطلع كل واحد من الحكمين
رأي من بعث إليه إن كان رغبته في الصلح أو الفرقة ثم يجتمعان فينظران في
أمرهما ويفعلان ما فيه المصلحة مما يريانه من التوفيق أو التفريق.
ولهذا قال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} يعني الحكمين فعليهما أن
ينويا الإصلاح، وأن يطلفا القول وينصحا ويرغبا، ويخوفا ولا يخصان بذلك
أحدهما دون الآخر (يوفق الله بينهما) يعني بين الزوجين. والتوفيق أن يخرج
كل واحد منهما من الوزر، وذلك تارة يكون بصلاح حالهما في الوصلة، وتارة
بالفراق (إن الله كان عليمًا) بما يصلح لهما (خبيراً) بأحوالهما وما انطويا
عليه.
وقال الوزير اتفقوا على أنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين وخيف عليهما أن
يخرجهما ذلك إلى العصيان أن يبعث الحاكم حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها،
وقال الشيخ دلت الآية على وجوب كونهما من الأهل، واشترطه الخرقي، كما اشترط
الأمانة وهذا أصح، فإنه نص القرآن، ولأن الأقارب أخبر بالعلل
(4/95)
الباطنة وأقرب إلى الأمانة والنظر في
المصلحة فإنه نظر في الجمع والتوفيق، وهو أولى من ولاية عقد النكاح، لا
سيما إن جعلناها حكمين، كما هو الصواب فهو نص القرآن اهـ.
وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر، وعلى أن
قولهما نافذ في الجمع، وإن لم يوكلهما الزوجان والجمهور على أن قولهما نافذ
في التفرقة بينهما إذا رأياه من غير توكيل، وأنهما إن رأيا الأصلح الطلاق
بعوض أو بغير عوض جاز، وإن رأيا الخلع جاز، وإن رأى الذي من جهة الزوج
الطلاق طلق، ولا يحتاج إلى إذن الزوج.
قال الوزير بناء على أنهما حكمان، وهو الصحيح عندي. لأن الله سماهما ذلك
فقال: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}
فسماهما حكمين في نص القرآن.
(وفي حديث حكيم) بن معاوية القشيري عن أبيه قال يا رسول الله ما حق زوجة
أحدنا عليه؟ وفيه قال: (ولا تقبح) أي لا تقل لامرأتك قبحك الله (ولا تهجر)
أي لا تترك امرأتك (إلا في البيت) لا تحول عنها إلى دار أخرى أو تحولها
إليها بل إذا أردت منها أمرًا فهجرها في البيت.
وفي الآية الشريفة {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (رواه أبو داود)
ورواه أحمد وابن ماجه وغيرهم وصححه ابن حبان والحاكم وفيه "ولا تضرب الوجه"
فيجتنب الوجه والمواضع المستحسنة لئلا يشوها، والأولى ترك ضربها إبقاء
للمودة.
(4/96)
(وعن عمرو بن الأحوص) من بني جشم بن سعد
شهد حجة الوداع واليرموك زمن عمر رضي الله عنهما (مرفوعًا: إن لكم عليهن أن
لا يوطئن فرشكم) ما يفرش من متاع البيت من بساط ونحوه (أحدًا تكرهونه) ولا
يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، فلا تأذن في بيته إلا بإذنه كما رواه مسلم من
حديث أبي هريرة، وإن علمت رضاه بذلك فلا حرج عليها، كمن جرت عادته بإدخال
الضيوف موضعًا معدا لهم.
سواء كان حاضرًا أو غائبًا فلا يفتقر ذلك إلى إذن الزوج (فإن فعلن) أي
أوطأنها من تكرهونه «فاضربوهن ضربًا غير مبرح» أي غير شديد لا تحتمله
النفوس (رواه مسلم) ورواه أهل السنن وغيرهم.
فدل الحديث على أن له أن يضربها ضربًا غير شديد تأديبًا لها إذا رأى منها
ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعته، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل،
ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل، لما في الوقوع
ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في
أمر يتعلق بمعصية الله، وللنسائي عن عائشة: ما ضرب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - امرأة له ولا خادمًا قط، ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا في سبيل
الله، أو تنتهك محارم الله فينتقم لله.
(وعن عبد الله بن زمعة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد» وتمامه (ثم يجامعها) وفي رواية
ولعله أن يضاجعها (رواه البخاري)
(4/97)
ورواه مسلم وغيره وفيه دليل على جواز ضرب
المرأة ضربًا خفيفا.
ولأبي داود "ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك" وللبخاري "ضرب الفحل أو العبد"
وكلها دالة على جواز الضرب إلا أنه لا يبلغ ضرب الحيوانات والمماليك وتقدم
قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} بعد أن ذكر الموعظة والهجر، وفيه دليل على
جواز ضرب غير الزوجات فيما ذكر ضربًا شديدًا، ولا ريب أن عدم الضرب
والاغتفار والسماحة أشرف كما هو خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعل
علة النهي أن ضرب من يجامعها لا يستحسن لأن الجماع والمضاجعة إنما تليق مع
ميل النفس والرغبة في العشرة والمجلود غالبًا ينفر عمن جلده، بخلاف التأديب
المستحسن فإنه لا ينفر الطباع.
باب الخلع
بضم الخاء وهو فراق الزوجة بعوض سمي بذلك لأن المرأة تخلع نفسها من الزوج
كما يخلع اللباس، ويشترط بذل العوض ممن يصح تبرعه، وزوج يصح طلاقه غير
هازل، وعدم عضلها إن بذلته، وعدم حيلة وغير ذلك، وفائدته تخلصها منه على
وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها، وعقد جديد، والأصل في جواز وقوعه الكتاب
والسنة والإجماع.
قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ}
أي لا
(4/98)
يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ليفتدين
منكم بما أعطيتموهن {شَيْئًا} أي من المهر وغيره، ثم استثنى الخلع فقال
{إِلَّا أَنْ يَخَافَا} أي يعلم الزوج والزوجة {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللهِ} يخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها وتخاف المرأة أن تعصي
الله في أمر زوجها {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} المرأة نفسها منه ولو كثر. وهو
مذهب الجمهور، وقالت الربيع اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي ولم ينكر
فكان كالإجماع، سواء كرهت خلقه أو خلقه أو نقص دينه أو خافت إثمًا بترك حقه
أو أبغضته ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج
عليها في بذله ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، قال ابن عبد البر لا نعلم
أحدًا خالف في ذلك إلا المزني.
وقال الوزير اتفقوا على أنه يصح الخلع مع استقامة الحال بينهما، وقال ابن
رشد الجمهور أنه جائز إذا لم يكن سببه رضاها بما تعطيه إضراره بها، وقال
بعض الأصحاب إن لم يكن شيء من ذلك بل كانت حالهما مستقيمة كره الخلع لما في
السنن: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة
الجنة» ويقع الخلع وإن كانت تبغضه وهو يحبها، فقال أحمد لا آمرها بالخلع
وينبغي لها أن تصبر، وقال الشيخ إذا أبغضته وهو محسن إليها فإنه يطلب منه
الفرقة من غير أن يلزم بذلك، فإن فعل وإلا أمرت المرأة أن تصبر إذا لم يكن
هناك ما يبيح الفسخ.
(4/99)
وقال وإذا كان كل منهما مريدًا لصاحبه
فالخلع محدث في الإسلام.
والخلع الذي جاءت به السنة أن تكون المرأة مبغضة للرجل فتفتدي نفسها منه
كالأسير اهـ، ودلت الآية على أنه يصح الخلع بكل ما يصح المهر به من عين
مالية أو منفعة أو غير ذلك. وبمجهول كالوصية، ولو أطلقا الخلع صح بالصداق
كما لو أطلقا النكاح ثبت صداق المثل.
قال الشيخ فكذا الخلع وأولى، وقال الوزير اتفقوا على أنه إذا خالعها على
رضاع ولدها سنتين جاز ذلك، فإن مات قبل الحولين فقال أبو حنيفة وأحمد يرجع
بقيمة الرضاع، وهو أحد القولين لمالك والشافعي اهـ.
وإن وقع الخلع بلفظ الخلع أو الفداء أو الفسخ ونحو ذلك كان فسخًا لا ينقص
عدد الطلاق، لأن الله تعالى ذكره بعد تطليقتين ثم ذكر الثالثة ولم يجعله
طلاقًا، وقال أحمد وغيره هو فسخ ولو نوى به الطلاق واختاره شيخ الإسلام
وابن القيم وغيرهما، وكان ابن عباس يقول هو فداء ذكر الله الطلاق في أول
الآية والفداء في وسطها وذكر الطلاق بعد الفداء وليس هو طلاقًا وإنما هو
فداء فجعل ابن عباس وأحمد وغيرهما الفداء فداء لمعناه لا لفظه قال ابن
القيم وهذا هو الصواب، فإن الحقائق لا تتغير بتغير الألفاظ.
(وقال) تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} أي لا تضاروهن
(4/100)
بالعشرة ولا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي لتترك بعض ما أصدقتها أو كله أو حقًا من
حقوقها عليك أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والإضرار.
قال ابن عباس هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كار لصحبتها ولها عليه مهر
فيضرها لتفتدي به فنهى تعالى عن ذلك، ثم قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} يعني الزنا، فله أن يسترجع منها الصداق الذي
أعطاها، ويضاجرها حتى تتركه له ويخالعها، وقال الشيخ إذا كانت تزني لم يكن
له أن يمسكها على تلك الحال وإلا كان ديوثًا، وقال بعضهم النشوز معصيتها،
ويعم ذلك كله الزنا، والنشوز والعصيان، وبذاء اللسان وغير ذلك، كل ذلك يبيح
له مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه، ويفارقها لأنه ضرها بحق.
وإن لم يكن مضاجرته لزناها أو نشوزها أو تركها فرضًا وفعلت حرم عند جماهير
العلماء، لهذه الآية وغيرها، وقاله شيخ الإسلام وغيره، قال ابن عقيل العوض
مردود والزوجة بائن.
قال الشيخ وله وجه حسن ووجه قوي إذا قلنا الخلع يصح بلا عوض، والمذهب لا
يصح بلا عوض، وكذا لو خالعت الصغيرة والسفيهة لخلوه عن بذل عوض ممن يصح
تبرعه وأما الأب فقال ابن القيم إذا كان له أن يعفو عن صداق ابنته قبل
الدخول وهو الصحيح لبضعة عشر دليلاً فخلعها بشيء من مالها أولى، لأنه إذا
ملك إسقاط مالها مجانًا فلأن يملك إسقاطه
(4/101)
ليخلصها من رق زوج ليزوجها خيرًا لها منه
أولى وأحرى، واختاره الشيخ، وذكر أنه يجوز لأجنبي أن يختلعها كما يجوز أن
يفتدي الأسير، لكن بشرط أن يكون مقصوده تخليصها من رق الزوج لمصلحتها في
ذلك.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال جاءت امرأة ثابت بن قيس) ابن شماس
الخزرجي الأنصاري خطيب الصحابة ومن أعيانهم رضي الله عنهم شهد له النبي -
صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وامرأته جاء في بعض روايات الحديث أن اسمها
جميلة بنت أبي بن سلول، وذلك أنها جاءت (إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فقالت إني ما أعتب عليه) أي على ثابت رضي الله عنه والعتب الخطاب
بالإدلال، وجاء المثنات التحتية من العيب (في خلق ولا دين) أي لا أريد
مفارقته لسوء خلقه بضم الخاء واللام، ولا لنقصان دينه، وعرضت عما في نفسها
من كراهة الصحبة.
فقالت: (ولكني أكره الكفر في الإسلام) أي كفران العشير والتقصير فيما يجب
له بسبب شدة البغض له، وفي رواية لا أطيقه بغضا أي فأخاف على نفسي ما ينافي
مقتضى الإسلام من النشوز أو: لكني أكره لوازم الكفر من المعاداة والنفاق
والخصومة (فقال أتردين عليه حديقته) أي تعطينه بستانه الذي أعطاك إياه
مهرًا، وكان أصدقها حديقة نخل، كما في بعض الروايات الحديث (قالت نعم) وفي
لفظ: وزيادة (فقال
(4/102)
أقبل الحديقة) أي التي أصدقتها إياها
(وطلقها تطليقة) وفي رواية أمره بطلاقها (رواه البخاري).
فدل الحديث على جواز أخذ العوض من المرأة إذا كرهت البقاء معه، وتقدم أنه
مذهب جماهير العلماء، وإن خالعته على شيء لم يسقط غيره من حقوق الزوجية
ويقع الطلاق إذا علقه على عوض أو غيره.
بأن قال إن أعطيتيني كذا فأنت طالق، وقال الشيخ إذا قال إن أبريتني فأنت
طالق فقالت أبرأك الله مما تدعي به النساء على الرجال، فقال أنت طالق وظن
أنه يبرأ من الحقوق فإنه يبرأ مما تدعي به النساء على الرجال إذا كانت
رشيدة.
(ولابن ماجه ولا تزد) وذلك أنها قالت أردها عليه، وزيادة، وهذه الزيادة
مرسلة، ولعله خرج مخرج المشورة، لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي قل أو كثر وذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن
يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها، وقال مالك لم أر أحدًا ممن يقتدي به منع من
ذلك لكنه ليس من مكارم الأخلاق، وتسميته فدية دليل على اعتبار الرضي منهما
لأنه معاوضة.
(ولأبي داود أنها اختلعت منه) أي اختلعت امرأة ثابت من ثابت رضي الله عنه
(فأمرها) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن تعتد بحيضة) حسنه
الترمذي، وقال الصحيح أنها أمرت أن
(4/103)
تعتد بحيضة، فدل الحديث على أن عدة
المختلعة حيضة، وهو قول جماهير السلف.
وأن الخلع ليس بطلاق كما قال الخطابي وغيره: فيه أن الخلع ليس بطلاق، وهو
مذهب ابن عباس وغيره والمشهور من مذهب أحمد، واستدلوا بقوله تعالى:
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيات، وقال الشيخ ولو أتى بصريح الطلاق وليس من
الطلاق الثلاث، وهذا هو المنقول عن ابن عباس في أصحابه.
وعن أحمد وقدماء أصحابه، لم يفرق أحد من السلف ولا أحمد ولا أحد من أصحابه
في الخلع بين لفظ ولفظ، بل ألفاظهم كلها صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان،
وقال ابن القيم الذي يدل على أنه ليس بطلاق أنه تعالى رتب على الطلاق بعد
الدخول ثلاثة أحكام كلها منتفية عن الخلع، أحدها أن الزوج أحق بالرجعة فيه،
والثاني أنه محسوب من الثلاث، والثالث أن العدة ثلاثة قروء، وقد ثبت بالنص
والإجماع أنه لا رجعة في الخلع، قال ولا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة
والقائلون بأنه طلاق لا يشترطون فيه أن يكون للسنة لعدم استفصاله - صلى
الله عليه وسلم -.
(4/104)
|