الإشراف على مذاهب العلماء

74 - كتاب الوديعة
قال أبو بكر:
قال الله جل ذكره: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، فقد أمر الله عَزَّ وَجَلَّ برد الأمانات إلى أهلها أمراً عاماً.
م 4053 - وأجمع أهل العلم على أن الأمانات مؤداة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار.

1 - باب ذكر تلف الوديعة
قال أبو بكر:
م 4054 - أجمع أهل العلم على أن على المودع إحراز الوديعة وحفظها.
م 4055 - وأجمع أكثر أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم تلفت من غير جنايته، أن لا ضمان عليه.
وممن روينا ذلك عنه: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وبه قال شريح، والنخعي، وربيعة، ومالك، وأبو الزناد، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي.

(6/330)


وروينا عن علي، وعبد الله رضي الله عنهما أنهما قالا: ليس على مؤتمن ضمان.
ويقبل قول الودع أن الوديعة تلفت، في قول أكثر أهل العلم إلا ما روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضمن أنس بن مالك وديعة ذهبت من بين ماله.
وقال أحمد، وإسحاق: لا يضمن صاحب الوديعة إلا أن يتهم بريبة، كما ضمن عمر أنسا.

2 - باب إحراز الوديعة
قال أبو بكر:
م 4056 - أجمع أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة بنفسه، في صندوقه، أو حانوته، أو بيته، فتلفت أن لا ضمان عليه.
م 4057 - واختلفوا في الرجل يودع الرجل الوديعة، فيودعها غيره.
فقالت طائفة: هو لها ضامن، كذلك قال شريح، ومالك، والشافعي، والنعمان وأصحابه، وإسحاق.

(6/331)


وهذا إذا لم يكن ثم عذر، فإن حضر المودع سفراً، أو كان له عذر من خراب منزل، فأودعها غيره، فلا ضمان عليه في قول مالك، والليث بن سعد، والشافعي.
وقد روينا عن شريح أنه قال: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان.
وكان ابن أبي ليلى يقول: لا ضمان عليه [2/ 184/ألف]، ووافق بعض الناس ابن أبي ليلى فقال: إذا كان عليه إحرازها وحفظها عنده، فله إحرازها عند غيره، ولا ضمان عليه.
م 4058 - وكان الليث بن سعد يقول (1): إذا أودعه من يرضى من أهله فلا ضمان عليه.
وقال مالك، والثوري: لا ضمان عليه إذا دفعها إلى زوجته، وبه قال إسحاق، والنعمان (2)، وابن الحسن.
وكذلك لو دفعها إلى ابنه، وهو في عياله كبيراً، أو إلى عهده، أو إلى أمه، أو إلى أخيه، وهو في عياله.

3 - باب الوديعة يخلطها المودع بغيرها
قال أبو بكر:
م 4059 - أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن الوديعة إذا كانت
__________
(1) "يقول" ساقط من الدار.
(2) "والنعمان" ساقط من الدار.

(6/332)


دراهم، فاختلطت بغيرها، أو خلطها غير المودع، ثم تلفت: أن لا ضمان على المودع.
م 4565 - واختلفوا فيما يجب على المودع إن خلطها بغيرها، فضاعت.
ففي قول الشافعي: يضمن إن خلطها بدراهم ولم تتميز، وبه قال أصحاب الرأي، ولوكانت سمناً فخلطها بزيت، أو ضرباً من الأدهان فخلطه بدهن آخر، ضمن.
وقال ابن القاسم، في الدراهم إذا خلطها بدراهم مثلها، وأراد وجه الحرز: إنه لا يضمن، في قياس قول مالك.

4 - باب الوديعة يختلف فيها المودع والمستودع
قال أبو بكر:
م 4061 - أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم ذكر أنها ضاعت، أن القول قوله، وقال أكثرهم: إن القول قوله مع يمينه.
م 4562 - واختلفوا في المودع يقول: قد رددتها إليك.
فقال الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي: القول قوله مع يمينه.

(6/333)


وقال مالك، إن كان دفعها ببينة فإنه لا يبرأ منها إذا قال: قد - دفعتها إليك، إلا ببينة، وإن كان أودعه بغير بينة فإنه يبرأ بغير بينة، والمضارب مثله.
قال أبو بكر: قول الثوري صحيح، لأنهم أجمعوا على أنه إذا قال: قد تلفت، أنه أمين، وكذلك إذا قال: قد رددتها إليك، فالقول قوله.
م 4063 - وإذا قال المودع: دفعتها إلى فلان بأمرك، وأنكر ذلك رب الشيء لم يقبا قوله، وهو ضامن في قول مالك، والشافعي، والثوري، وعبيد الله بن الحسن، وأصحاب الرأي.
وقال ابن أبي ليلى: القول قول المودع مع يمينه، وبه قال أحمد.

5 - باب الوديعة يخرجها المودع من مكانها، أو ينفقها (1) ثم يرد مكانها بدلها
قال أبو بكر:
م 4064 - افترق أهل العلم في المودع، يخرج الوديعة من موضعها، ثم يردها حيث كانت.
فقال مالك: لا ضمان عليه إن تلفت، وكذلك لو أنفق بعضها، ثم رد مثل ما أنفق في مكانها.
__________
(1) "أو ينفقها" ساقط من الدار.

(6/334)


وفيه قول ثان قاله أصحاب الرأي قالوا: إن أنفقها، ثم ردها في مكانها، وتلفت: ضمن، وإن لم يكن أنفقها، ولكنه أخرجها ثم ردها: لم يضمن.
وفي قول الشافعي، يضمن في الوجهين جميعاً، إن تلفت.
قال أبو بكر: قول الشافعي صحيح.

6 - باب المودع (1) يموت، وعنده وديعة للرجل، تعرف بعينها، أو لا تعرف
قال أبو بكر:
م 4065 - أجمع أهل العلم على أن الوديعة إذا عرفت بعينها لرجل أن صاحبها أحق بها، وأن تسليمها إليه يجب.
م 4066 - واختلفوا في الرجل يموت وعنده وديعة معلومة الصفة، غير أنها لا توجد بعينها (2)، وعليه دين.
فقالت طائفة: هى والدين سواء، هذا قول الشعبي، والنخعي، وداود بن أبي هند، وروي ذلك عن شريح، ومسروق، وعطاء، وطاووس، والزهري، وأبي جعفر، وبه قال مالك، وإسحاق، والشافعي، والنعمان وأصحابه (3).
__________
(1) وفي الدار "الرجل يموت".
(2) وفي الدار "لا توجد بغيرها".
(3) "والنعمان وأصحابه" ساقط من الدار.

(6/335)


وروينا عن النخعي أنه قال: الأمانة قبل الدين.
وقال الحارث العكلي: يبدأ بالدين.
وقال ابن ليلى: إذا لم توجد الوديعة بعينها: فليس بشيء.

7 - باب التعدي في الوديعة، والعمل بها
قال أبو بكر:
م 4567 - أجمع أهل العلم على أن المودع ممنوع من استعمال الوديعة ومن إتلافها.
م 4068 - وأجمعوا على إباحة استعمالها بإذن مالكها.
م 4069 - واختلفوا في المستودع أو المبضع معه، يخالفان فيستعملان الوديعة أو البضاعة، بغير إذن أصحابها [2/ 185/ألف].
فقالت طائفة: كل واحد منهما ضامن لها لما تعدي فيه، والربح لرب المال، هذا قول ابن عمر، ونافع مولاه، وأبي قلابة، وبه قال أحمد، وإسحاق.
وقالت طائفة: الربح كله للعامل، ورينا ذلك عن شريح، والحسن البصري، وعطاء بن أبي، رباح، والشعبي، ويحيى الأنصاري، وربيعة، وهو قول مالك، والثوري، وقال الثورى: يتنزه عنه أحب إليّ.
وقال الأوزاعي كذلك، وقال: أسلم له أن يتصدق به.
وقالت طائفة المال الذي هذا سبيله: يتصدق بالربح أحب إليّ.

(6/336)


هذا قول الشعبي، وروي ذلك عن مجاهد، وكذلك قال النخعي في المضارب يخالف، وبه قال حماد، وبه قال أصحاب الرأي، قالوا في الوديعة- يعمل بها- الربح له ويتصدق به، ولا ينبغي له أن يأكله.
قال أبو بكر: وأصح من ذلك كله: أن الرجل إذا تعدى في وديعة كانت عنده، أو اغتصب مالاً.
فاشترى من عين المال جارية بمائة دينار، وقال للبائع قد اشتريت منك هذه الجارية بهذه المائة دينار: أن البيع باطل، لأنه اشترى جارية بمال لا يملكه، وإذا كان هكذا: حرم عليه وطء الجارية، ولم يكن له
أن يعتقها، ولا يبيعها، ولا يهبها، لأنه غير مالك لها.
فإن باعها بمائتي دينار، وربح فيها مائة دينار، فإن بيعه باطل، لأنه باع ما لا يملكه.
وإذا صارت الجارية في يد من اشتراها فهي على ملك البائع الأول والبائع غير مالك للمائتي دينار التي قبضها، بل ملكها لمشتري الجارية.
فإذا جاء المودع أو المغصوب منه المائة الدينار ببينة تشهد له، بالمائة: قضي له بها، فأخذها، ورجع بائع الجارية على المشتري المتعدي في الوديعة فآخذ الجارية منه إن وجدها عنده، وإن لم يجدها عنده وكان
قد باعها: أخذها ممن هي في يده إذا ثبت ذلك ببينة تشهد له.
فإن كانت الجارية مستهلكة لا يُقْدَر عليها، وكان المتعدي في المال قد باعها بمائتي دينار، فوجد المائة (1) دينار في يديه.
__________
(1) وفي الدار "المائتي".

(6/337)


فإن كانت المائتا (1)، دينار قيمة جاريته، فله أخذها.
وإن كانت أكثر من مائتي (2) دينار، أخذ المائتي دينار، وغرمه تمام قيمة الجارية.
وإن كانت قيمتها مائة دينار لم يسعه- عندي- أن يأخذ من قيمة جاريته، وهي مائة دينار، يطلب المتعدي في [2/ 185/ب] الوديعة فيرد المائة على من أخذها منه، لا يسعه- عندي- غير ذلك.
م 4070 - وإن كان من أخذها منه قد مات: رده على ورثته.
فإن لم يصل إليه ولا إلى ورثته.
صبر حتى ييأس من وصوله إليه، فإذا يأس من ذلك تصدق بها، على ما رويناه عن ابن مسعود، وابن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان.
وهذا مذهب الحسن البصري، والزهري، وبه قال مالك في اللقطة إذا يأس من صاحبها.
وفي هذه المسأله قولان آخران (3).
أحدهما: أن يدفع إلى بيت المال، روينا هذا القول عن عطاء.
والقول الثاني: أن يمسكها أبداً حتى يعلم: أحي هو، أم ميت.
وهذا يشبه مذهب الشافعي في إيقاف المال في مثل هذا، حتى يتبين أمر صاحبه.
قال أبو بكر: وإن كان المشتري ليس بعين المال، ولكنه كان يشتري السلع، ثم يزن من مال الوديعة: فالشراء ثابت، والمال في
__________
(1) في الأصلين "فإن كانت المائة دينار .. الخ، ولعل الصواب ما أثبته.
(2) وفي الدار "مائة".
(3) "آخران" ساقط من الدار.

(6/338)


الذمة وهو مالك للسلع بعقد الشراء، وما كان من ربح فيها (1) فله، وما كان من نقصان فعليه، وعليه مثل الدنانير التي أتلف لصاحبها، وهذا قول الشافعي- آخر قوليه -وهو قول أكثر أصحابه.

8 - باب إذا أشكل على المودع رب الوديعة
قال أبو بكر:
م 4071 - واختلفوا في المودع، يشكل عليه من أودعه، وقد ادعاها رجلان.
فكان الشافعي يقول يحلف بالله ما يعلم من أودعه، ويوقف الشيء بينهما حتى يصطلحا، أو تقوم البينة لمن هي.
وفيه قول ثان وهو: أن الوديعة تقسم بينهما نصفين، ويضمن لهما مثل ذلك، لأنه أتلف ما استودع بجهله، هذا قول النعمان (2)، ويعقوب، ومحمد.
وقال ابن أبي ليلى: هي بينهما نصفان.

9 - باب الوديعة تكون عند الرجلين
قال أبو بكر:
م 4072 - واختلفوا في الوديعة تكون بيد الرجلين، ويختلفان عند من تكون؟ فقال أصحاب الرأي: تكون عند كل واحد منهما نصفه،
__________
(1) "فيها" ساقط من الدار.
(2) "النعمان" ساقط من الدار.

(6/339)


وكذلك يفعل الأوصياء، وإن كانت الوديعة عبداً، كان عند كل واحد منهما شهراً.
وفي قول مالك: تكون عند أعدلهما.
وبه أقول.

10 - باب إذا اختلف رب المال والذي [2/ 186/ألف] قبض المال في المال
قال أبو بكر:
م 4073 - واختلفوا في الرجل يقول للرجل: استودعتني ألف درهم فضاعت، وقال صاحب المال: غصبتنيها، أو: أخذتها بغير أمري.
قال أصحاب الرأي: القول قول المستودَع، فإن قال المستودَع: أخذتها منك وديعة، وقال رب المال: بل غصبتها، فالمستودع ضامن؛ لأنه قال: أخذتُها.
وحكى ابن القاسم عن مالك في المسألة الأولى: إن القول قول رب المال.
وحكى ابن نافع عن مالك أنه قال: هو مأمون، ولا ضمان عليه.

(6/340)


11 - باب جحود المستودع الوديعة
قال أبو بكر:
م 4074 - وإذا طلب المودِع المال، فقال الودَع: ما أودعتني شيئاً، فأقام المودع البينة أنه أودعه مالاً معلوماً.
ففي قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق: هو ضامن له، وبه قال أصحاب الرأي.
وقال قائل: ليس ذلك باكذاب لبينته، إذ جائز أن يكون نسي ذلك، ثم ذكره.

12 - باب المودع يجحد الوديعة، ويقع بيد (1) رب المال مثله من مال المودع
قال أبو بكر:
م 4075 - وإذا أودع الرجل الرجل مائة درهم، فجحدها المودَع، ثم أودع المودَع الجاحدُ ربّ الوديعة الأولى مائة مثله.
فقال الشافعي، وأصحاب الرأي: له أن يأخذها من ماله.
والجواب عندهم في الحنطة والشعير، وما يكال أو يوزن: مثله، إذا أودعه مثلها، فله أن يأخذ ذلك قصاصا.
وقال مالك: لا يجحده ولا يأخذها.
__________
(1) "بيد" ساقط من الدار.

(6/341)


وفي قول الشافعي: إن وصل إلى سلعة من السلع، فله أن يبيعها ويقتضي من ثمنها ماله.
وليس له إمساك ذلك، في قول أصحاب الرأي.
قال أبو بكر: قول الشافعي صحيح، استدلالاً:
(ح 1337) بخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال لهند: "خذي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف" (1).

13 - باب المودَع ينفق على الوديعة بغير إذن ربها
قال أبو بكر:
م 4076 - كان الشافعي، وأصحاب الرأي يقولون: إذا أنفق عليها بغير إذن الحاكم، فهو متطوع، ولا يرجع عليه بشيء [2/ 186/ب].
م 4077 - وإن اجتمع من ألبان الماشية شيء، فباعه بغير إذن الحاكم، فالبيع فاسد في قول الشافعي، والكوفي.
وقال قائل: البيع جائز، لأن ذلك حال ضرورة، والواجب عليه أن يمنع مال أخيه من التلف.
وفي قول مالك: يبيع السلطان ذلك، ويعطي المنفق نفقته.

(6/342)


14 - باب المستودع يخالف ما أمر به
قال أبو بكر:
م 4078 - واختلفوا في الرجل، يودع الرجل الوديعة، ويأمره أن يجعلها في بيت بعينه، أو دار بعينها، أو نهاه أن يجعلها في دار له أخرى، أو في بيت له آخر: فجعلها المودَع في الدار التي نهاه أن يجعلها فيها، ففي هذا قولان:
أحدهما: أن لا شيء عليه، لأنه قصد الحرز، وهذا قول قاله بعض أهل النظر.
والقول الثاني: أنه يضمن إن جعلها في دار أخرى غير الدار التي أذن له أن يحرزها فيها، ولا يضمن في البيت، إن خالف فجعلها في بيت آخر.
هذا قول النعمان، ومحمد (1).
قال أبو بكر: لا فرق بينهما (2).
م 4079 - وإذا دفع إليه وديعة، وقال: لا تخرجها من البلد، وضعها في بيتك، فأخرجها من البلد فضاعت.
ففي قول الشافعي، وأصحاب الرأي: يضمن إلا أن يكون ضرورة، فإن أخرجها لضرورة من خوف لم يضمن في قول الشافعي، وكذلك لو انتقل للسيل أو النار.
__________
(1) وفي الدار "هذا قول الشافعي".
(2) "قال أبو بكر: لا فرق بينهما" ساقط من الدار.

(6/343)


م 4080 - ولو اختلفا في السيل والنار، فإن كان لذلك عين ترى، أو أثر يدل فالقول قول المستودع، وإن لم يكن ذلك فالقول قول المودع مع يمينه.
هذا قول الشافعي.
وقال أصحاب الرأي: إن انتقل من البصرة إلى الكوفة لشيء لم يكن له بُد، فهلكت فلا ضمان عليه؛ لأن هذا حال عذر.
م 4081 - واختلفوا في الحريق تقع في البيت، ويمكن المودع إخراج الوديعة من مكانها فلم يفعل.
فقال قائل: يضمن، لأنه كأنه أتلفه؛ لأنه أمر بحفظه، وهذا مضيع، وهذا يشبه مذهب الشافعي، لأنه قال: من استودع دوابا، فلم يعلفها حتى تلفت: ضمن.
وقال آخر: لا ضمان عليه، لأن النار أتلفتها، وهذا كالرجل المسلم تحيط به النار، ورجل مسلم قادر على إخراجه، فلم يفعل: فهو عاص، ولا عقل عليه ولا [2/ 187/ألف] قود.
م 4082 - وإذا أمر رب الوديعة المودَع أن يلقيها في البحر أو النار، ففعل ففيها قولان:
أحدهما: أنه لا شيء عليه، لأن فعله بأمره، هكذا قال الشافعي في الرجل يأمر الرجل أن يقطع رأس مملوكه، فقطعه فعلى القاطع عتق رقبة، ولا قود عليه.
وقال آخر: هو ضامن، لأنه ممنوع من إتلاف المال في غير حال الضرورة، لأن ذلك محرم، وفاعله عاص يجب أن يحجر عليه.

(6/344)


(ح 1338) لنهي النبي- صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال (1).
فإذا أمره بما ليس له، فأمره وسكوته سيان.
ولو كان هذا لا شيء عليه، لكان المسلم إذا قال لأخيه المسلم: اضرب عنقي، فقطعه، أن لا شيء عليه، لأنه فعل ما أمره به، وقد أجمع أهل العلم على أن هذا: قاتل ظالم، وقد منعها الله تعالى من مال
المسلم ومن ودمه.
(ح 1339) وقد جمع النبي- صلى الله عليه وسلم - بين تحريمهما.

15 - مسائل من كتاب الوديعة
قال أبو بكر:
م 4083 - وإذا استودع رجلان رجلاً مالا دنانير، أو دراهم، أو ثياباً، فجاء أحدهما- وشريكه غائب- فقال: أعطني حصتي.
فقال النعمان: لا يدفع إلى أحد شيئاً حتى يأتي صاحبه.
وقال يعقوب، ومحمد بن الحسن: يقسم ذلك، ويدفع إليه حصته، ولا يكون ذلك جائزاً على الغائب.

(6/345)


م 4084 - واختلفوا في رجل أودع عبداً محجوراً عليه، أو صبياً وديعة، فأكلها.
فقال النعمان، ومحمد: لا ضمان على الصبي، ولا على الملوك حتى يعتق.
وقال يعقوب: الصبي والعبد ضامنان جميعاً الساعة.
وقال ابن القاسم في الصبي يودع: لا يضمن.
م 4085 - واختلفوا في الرجل تكون عنده الوديعة، فيجعلها رب المال مضاربة مع الودّع.
فكان أحمد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: يجيزون ذلك.
وقال الحسن البصري: الوديعة مثل القرض، لا يدفع مضاربة حتى يقبض.
م 4086 - وإذا دفع رجل إلى رجل ألف درهم وديعة، وعلى المودَع ألف درهم قرضا لرب الوديعة، فدفع إليه ألفاً، فقال المودَع: هذه الألف التي قضيتك هي القرض، وتلفت الوديعة، وقال الذي دفع الوديعة: [2/ 187/ب] إنما قبضت الوديعة، والقرض على حاله.
فالقول قول القاضي المودّع مع يمينه، وهو برئ من المالين جميعاً.
وهذا يشبه مذهب الشافعي، وبه قال أصحاب الرأي.
م 4087 - وإذا أودع رجل رجلاً مالاً، فقال المودع: أمرتني أن أنفقه على أهلك أو أتصدق به، أو أهبه لفلان، وأنكر المودع ذلك.

(6/346)


فالقول قوله مع يمينه، وهذا على مذهب الشافعي، وبه قال أصحاب الرأي.
م 4088 - وإذا شرط المودع على المودَع أنه ضامن للوديعة (1).
فلا ضمان عليه، كذلك قال الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق ويشبه ذلك مذهب مالك.
وحكي عن عبيد الله بن الحسن أنه قال: هو ضامن.
قال أبو بكر: بالقول الأول أقول.
م 4589 - وإذا أودعه ألف درهم، فجاء رجل فقال: إن (2) رب الوديعة بعثني إليك لتبعث إليه بالوديعة، فصدقه ودفعها إليه، فهلكت عنده، وأنكر رب الوديعة أن يكون بعثه.
فقال أصحاب الرأي: المودَع ضامن، ولا يرجع على الرسول بشيء.
فإن كان حين جاءه بالرسالة كذبه، ودفعها إليه على ذلك، فهلكت، ثم جاءه رب الوديعة، فأنكر ذلك: فالمودَع ضامن، ويرجع بذلك على الرسول.
وكذلك إن دفعها إليه، ولم يصدقه ولم يكذبه.
قال أبو بكر: وإن علم المودَع صدق ما قال الرسول: لم يرجع عليه بشيء لأنه يعلم أن رب الوديعة ظالم له.
م 4090 - واختلفوا في الرجل يبعث مع رسوله بالمال إلى رجل، وأمره
__________
(1) "للوديعة" ساقط من الدار، وثابت في العمانية / 539.
(2) "إن" ساقط من الدار، وثابت في العمانية / 539.

(6/347)


أن يدفعه إليه، فقال الرسول: قد دفعته إليه، وقال المرسل إليه: لم يدفع إلى شيئاً.
فقال مالك: لا يقبل قول الرسول إلا ببينة، وإلا غرم.
وقال أصحاب الرأي: القول قول المستودع مع يمينه، لأنه أمين، لأنه لو قال: قد رددتها إليك، كان القول قوله.
قال أبو بكر: وقد قال قائل: إن قال له: اقض عني الدين الذي علي فقال: قد دفعته، ولم يشهد عليه- لم يبرأ الرسول، وإن كانت أمانة فالقول قوله.

(6/348)