المحلى
بالآثار شرح المجلى بالإختصار
كتاب الاقضية
ولا يحل الحكم الا بما أنزل الله تعالى على
لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
...
كِتَابُ الأَقْضِيَةِ
1778 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْحُكْمُ إِلاَّ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ
الْحَقُّ وَكُلُّ مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ جَوْرٌ وَظُلْمٌ لاَ يَحِلُّ
الْحُكْمُ بِهِ وَيُفْسَخُ أَبَدًا إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ
عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى:
{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} . وَقَالَ تَعَالَى:
{وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ}
(9/362)
ولا يحل أن بلى القضاء والحكم في شيء من أمور المسلمين وأهل الذمة الا
مسلم بالغ عاقل ......
...
1775 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ وَالْحُكْمَ
فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ: إِلاَّ
مُسْلِمٌ، بَالِغٌ، عَاقِلٌ، عَالِمٌ بِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ،
وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَنَاسِخِ كُلِّ ذَلِكَ، وَمَنْسُوخِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ النُّصُوصِ
مَخْصُوصًا بِنَصٍّ آخَرَ صَحِيحٍ، لأََنَّ الْحُكْمَ لاَ يَجُوزُ
إِلاَّ بِمَا ذَكَرْنَا لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
عَالِمًا بِمَا لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ إِلاَّ بِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ
أَنْ يَحْكُمَ بِجَهْلِهِ بِالْحُكْمِ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ إذَا كَانَ
جَاهِلاً بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يُشَاوِرَ مَنْ يَرَى أَنَّ عِنْدَهُ
عِلْمًا ثُمَّ يَحْكُمَ بِقَوْلِهِ، لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي أَفْتَاهُ
بِحَقٍّ أَمْ بِبَاطِلٍ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:وَلاَ تَقْفُ
مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَمَنْ أَخَذَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فَقَدْ
قَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَعَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْجَاهِلِ مِنْ الْعَامَّةِ تَنْزِلُ
بِهِ النَّازِلَةُ فَيَسْأَلُ مَنْ يُوصِفُ لَهُ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ، وَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ
حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَوْ أَنَّ الْعَامِّيَّ مُكَلَّفٌ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ
عَمَلاً مَا قَدْ افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُفْسَحْ لَهُ
فِي إهْمَالِهِ فَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَبْلُغَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ
بَلَغَ وُسْعُهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} .
وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَبِضِدِّ هَذَا، لأََنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ مَا
لاَ يَدْرِي مِنْ الْحُكْمِ بَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، بَلْ هُوَ
مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى
سِوَاهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
(9/363)
ولا يحل حكم بقياس ولا برأي ولا بالاستحسان
...
1776 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْحُكْمُ بِقِيَاسٍ، وَلاَ
بِالرَّأْيِ، وَلاَ بِالأَسْتِحْسَانِ، وَلاَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ
دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ أَنْ يُوَافِقَ
قُرْآنًا أَوْ سُنَّةً صَحِيحَةً، لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُكْمٌ
بِغَالِبِ الظَّنِّ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الظَّنَّ
لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ
جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ
الْحَدِيثِ" . فإن قيل: فَإِنَّكُمْ فِي أَخْذِكُمْ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ مُتَّبِعُونَ لِلظَّنِّ.
قلنا: كَلًّا، بَلْ لِلْحَقِّ الْمُتَيَقَّنِ، قَالَ تَعَالَى: {إنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وَقَالَ
تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى} . فإن قيل: فَإِنَّكُمْ فِي الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ
وَالْيَمِينِ حَاكِمُونَ بِالظَّنِّ. قلنا: كَلًّا، بَلْ بِيَقِينٍ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ نَصًّا وَمَا عَلَيْنَا
مِنْ مَغِيبِ الأَمْرِ شَيْءٌ إذْ لَمْ نُكَلَّفْهُ. وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ، أَوْ مَا قِيلَ
بِرَأْيٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ أَوْ تَقْلِيدِ قَائِلٍ مِنْ أَحَدِ،
أَوْجُهٍ ثَلاَثَةٍ لاَ رَابِعَ لَهَا ضَرُورَةً إمَّا أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ مُوَافِقًا لِقُرْآنٍ أَوْ لِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا إنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ
بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالسُّنَّةِ، وَلاَ مَعْنَى لِطَلَبِ قِيَاسٍ، أَوْ
رَأْيٍ، أَوْ قَوْلِ قَائِلٍ مُوَافِقٍ لِذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا
حَتَّى يُوَافِقَ ذَلِكَ قِيَاسٌ، أَوْ رَأْيٌ، أَوْ
(9/363)
1777 -
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ، لِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَلِيُّ بْنُ
حَجَرٍ أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ
اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ".
(9/365)
1778 -
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ إِلاَّ
عَلَى جَلْبِ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَى طَلَبِ
(9/365)
ولا يجوز التوكل على الاقرار والانكار أصلا ولا يقبل أنكار
...
1779 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ عَلَى الإِقْرَارِ
وَالإِنْكَارِ أَصْلاً، وَلاَ يُقْبَلُ إنْكَارُ أَحَدٍ، عَنْ أَحَدٍ،
وَلاَ إقْرَارُ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ بُدَّ مِنْ قِيَامِ
الْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّ نَفْسِهِ
أَوْ إنْكَارِهِ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وَقَدْ
صَحَّ إجْمَاعُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ عَلَى أَنْ لاَ يُصَدَّقَ أَحَدٌ
عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ عَلَى حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَقَطْ، ثُمَّ نَقَضَ
مَنْ نَقَضَ فَأَنْفَذَ إقْرَارُ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ
وَأَخَذَهُ بِهِ فِي الدَّمِ، وَالْمَالِ، وَالْفَرْجِ، وَهَذَا أَمْرٌ
يُوقَنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ، وَلاَ جَازَ، وَلاَ عُرِفَ فِي
عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ فِي عَصْرِ أَحَدٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ حَقًّا
خِلاَفُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَخِلاَفُ الْقُرْآنِ، وَالْبَاطِلُ
الَّذِي لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/366)
1780 -
مَسْأَلَةٌ: وَيُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ كَمَا يُقْضَى عَلَى
الْحَاضِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لاَ يُقْضَى عَلَى
غَائِبٍ. وقال أبو حنيفة، وَأَصْحَابُهُ: لاَ يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ
إِلاَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وقال مالك: يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ
فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي الأَرْضِينَ، وَالدُّورِ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ غَائِبًا غَيْبَةً طَوِيلَةً قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَمَا
بَيْنَ مِصْرَ وَالأَنْدَلُسِ
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ مِنْ
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ
وَهُوَ قَوْلٌ بِلاَ برهان، وَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ عَقَارِ غَيْرِهِ إِلاَّ كَاَلَّذِي
حَرَّمَهُ مِنْ غَيْرِ الْعَقَارِ، وَلاَ فَرْقَ، بَلْ الْعَقَارُ
كَانَ أَوْلَى فِي الرَّأْيِ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ عَلَى الْغَائِبِ،
لأََنَّهُ لاَ يُنْقَلُ، وَلاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَفُوتُ، بَلْ
يُسْتَدْرَكُ الْخَطَأُ فِيهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ
سَائِرُ الأَمْوَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ
الْغَائِبِ غَيْبَةً طَوِيلَةً وَغَيْبَةً غَيْرَ طَوِيلَةٍ، فَهَذَا
قَوْلٌ بِلاَ برهان، وَتَفْرِيقٌ فَاسِدٌ، وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ
غَيْبَةٌ إِلاَّ وَهِيَ طَوِيلَةٌ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ
أَقْصَرُ مِنْهَا فِي الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَهِيَ أَيْضًا
قَصِيرَةٌ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْهَا فِي
الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَمَنْ غَابَ عَامَيْنِ إلَى الْعِرَاقِ
فَقَدْ غَابَ غَيْبَةً طَوِيلَةً بِالإِضَافَةِ إلَى مَنْ غَابَ نِصْفَ
عَامٍ إلَى مِصْرَ، وَقَدْ غَابَ غَيْبَةً قَصِيرَةً بِالإِضَافَةِ
إلَى مَنْ غَابَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ إلَى الْهِنْدِ، وَهَكَذَا فِي
كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَان. ثُمَّ تَحْدِيدُ ابْنِ الْقَاسِمِ
خَطَأٌ ثَالِثٌ: وَهَذَا قَوْلٌ مَا نَعْلَمُهُ لأََحَدٍ مِنْ
(9/366)
وكل من قضي عليه ببينة عدل بغرامة أوغيرها
...
1781 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ
بِغَرَامَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، ثُمَّ أَتَى هُوَ بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ
أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَدَّى ذَلِكَ الْحَقَّ أَوْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ
الْحَقِّ: رُدَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ غَرِمَ، وَفُسِخَ عَنْهُ
الْقَضَاءُ الأَوَّلُ، لأََنَّهُ حَقٌّ ظَهَرَ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ
الْبَيِّنَةِ الَّتِي شَهِدَتْ أَوَّلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(9/371)
1782 -
مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ ادَّعَى عَلَى أَحَدٍ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ فَكُلِّفَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ
غَائِبَةٌ، أَوْ قَالَ: لاَ أَعْرِفُ لِنَفْسِي بَيِّنَةً، أَوْ قَالَ:
لاَ بَيِّنَةَ لِي قِيلَ لَهُ: إنْ شِئْت فَدَعْ تَحْلِيفَهُ حَتَّى
تُحْضِرَ بَيِّنَتَك أَوْ لَعَلَّك تَجِدُ بَيِّنَةً، وَإِنْ شِئْت
حَلَفْته وَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ بَيِّنَتِك الْغَائِبَةِ جُمْلَةً،
فَلاَ يُقْضَى لَك بِهَا أَبَدًا، وَسَقَطَ حُكْمُ بَيِّنَةٍ تَأْتِي
بِهَا بَعْدَ هَذَا عَلَيْهِ، لَيْسَ لَك إِلاَّ هَذَا فَقَطْ، فَأَيُّ
الأَمْرَيْنِ اخْتَارَ قُضِيَ لَهُ بِهِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ لَهُ إلَى
بَيِّنَةٍ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى بَعْدَهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
تَوَاتُرٌ يُوجِبُ صِحَّةَ الْعِلْمِ وَيَقِينَهُ أَنَّهُ حَلَفَ
كَاذِبًا فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ أَوْ يُقِرُّ بَعْدَ أَنْ [
يَكُونَ ] حَلَفَ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ
النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ يَسْتَحْلِفُ الرَّجُلَ مَعَ
بَيِّنَتِهِ وَيَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَيَقُولُ
الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.
وَبِالْحُكْمِ عَلَى الْحَالِفِ إذَا أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً
بَعْدَ يَمِينِ الْمَطْلُوبِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وقال مالك: إنْ عَرَفَ
الطَّالِبُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً فَاخْتَارَ تَحْلِيفَ الْمَطْلُوبِ
فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ بَيِّنَتِهِ، وَلاَ يُقْضَى بِهَا لَهُ إنْ جَاءَ
بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً
فَاخْتَارَ تَحْلِيفَ الْمَطْلُوبِ فَحَلَفَ، ثُمَّ وَجَدَ بَيِّنَةً،
فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ:
إنْ قَالَ الطَّالِبُ: إنَّ لَهُ بَيِّنَةً بَعِيدَةً وَلَكِنْ
أَحْلِفْهُ لِي الآنَ، ثُمَّ إنْ حَضَرَتْ
(9/371)
1783 -
مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ وَأَبَى
الْمَطْلُوبُ مِنْ الْيَمِينِ: أُجْبِرَ عَلَيْهَا
(9/372)
أَحَبَّ
أَمْ كَرِهَ بِالأَدَبِ، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ فِي
شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ أَصْلاً، وَلاَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى
الطَّالِبِ أَلْبَتَّةَ. وَلاَ تَرُدُّ يَمِينٌ أَصْلاً، إِلاَّ فِي
ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ فَقَطْ: وَهِيَ الْقَسَامَةُ: فِيمَنْ وُجِدَ
مَقْتُولاً، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ تَكُنْ لأََوْلِيَائِهِ بَيِّنَةٌ
حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْهُمْ، وَاسْتَحَقُّوا الْقِصَاصَ أَوْ الدِّيَةَ،
فَإِنْ أَبَوْا حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ
وَبَرِئُوا، فَإِنْ نَكَلُوا أُجْبِرُوا عَلَى الْيَمِينِ أَبَدًا
وَهَذَا مَكَانٌ يَحْلِفُ فِيهِ الطَّالِبُونَ، فَإِنْ نَكَلُوا رُدَّ
عَلَى الْمَطْلُوبِينَ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: الْوَصِيَّةُ فِي
السَّفَرِ، لاَ يَشْهَدُ عَلَيْهَا إِلاَّ كُفَّارٌ، وَأَنَّ
الشَّاهِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ يَحْلِفَانِ مَعَ شَهَادَتِهَا، فَإِنْ
نَكَلاَ لَمْ يُقْضَ بِشَهَادَتِهَا، فَإِنْ قَامَتْ بَعْدَ ذَلِكَ
بَيِّنَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ حَلَفَ اثْنَانِ مِنْهُمْ مَعَ
شَهَادَتِهِمَا، وَحُكِمَ بِهَا، وَفُسِخَ مَا شَهِدَ بِهِ
الأَوَّلاَنِ، فَإِنْ نَكَلاَ بَطَلَتْ شَهَادَتُهَا، وَبَقِيَ
الْحُكْمُ الأَوَّلُ كَمَا حُكِمَ بِهِ فَهَذَا مَكَانٌ يَحْلِفُ فِيهِ
الشُّهُودُ لاَ الطَّالِبُ، وَلاَ الْمَطْلُوبُ. وَالْمَوْضِعُ
الثَّالِثُ: مَنْ قَامَ لَهُ بِدَعْوَاهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ، أَوْ
امْرَأَتَانِ عَدْلَتَانِ، فَيَحْلِفُ وَيُقْضَى لَهُ، فَإِنْ نَكَلَ
حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَرِئَ، فَإِنْ نَكَلَ أُجْبِرَ عَلَى
الْيَمِينِ أَبَدًا، فَهَذَا مَكَانٌ يَحْلِفُ فِيهِ الطَّالِبُ فَإِنْ
نَكَلَ رَدَّ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ. وَفِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا
اخْتِلاَفٌ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ،
عَنِ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِدَعْوَى الطَّالِبِ دُونَ أَنْ
يَحْلِفَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لاَ يُقْضَى عَلَيْهِ إِلاَّ حَتَّى
يَحْلِفَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، فَيُقْضَى لَهُ حِينَئِذٍ،
فَالْقَائِلُونَ يُقْضَى عَلَى الْمَطْلُوبِ بِنُكُولِهِ دُونَ أَنْ
تُرَدَّ الْيَمِينُ. فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ،
حَدَّثَنَا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ هَارُونَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بَاعَ عَبْدًا لَهُ
بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْبَرَاءَةِ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ
الْعَبْدِ خَاصَمَ فِيهِ ابْنَ عُمَرَ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ
عُثْمَانُ لأَبْنِ عُمَرَ: احْلِفْ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْته وَمَا
بِهِ مِنْ دَاءٍ عَلِمْته فَأَبَى ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَنْ يَحْلِفَ،
فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ الْعَبْدَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ
ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَ
أَبِي مُلَيْكَةَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَحْلِفَ،
فَأَلْزَمَهَا ذَلِكَ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ، عَنْ أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ شَرِيكٍ،
عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الْحَارِثِ، قَالَ: نَكَلَ رَجُلٌ عِنْدَ
شُرَيْحٍ، عَنِ الْيَمِينِ، فَقَضَى عَلَيْهِ فَقَالَ: أَنَا أَحْلِفُ
فَقَالَ شُرَيْحٌ: قَدْ مَضَى قَضَائِي. وَبِهَذَا يَأْخُذُ أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وقال أبو حنيفة:
يُقْضَى عَلَى النَّاكِلِ، عَنِ الْيَمِينِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ
الأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ، وَالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ،
حَاشَا الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ فَلاَ يُقْضَى فِيهِ بِنُكُولِ
الْمَطْلُوبِ، وَلاَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ، لَكِنْ
يُسْجَنُ الْمَطْلُوبُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ. وَقَالَ زُفَرُ:
أَقْضِي فِي النُّكُولِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي الْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ،
وَمُحَمَّدٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا. وَقَالاَ مَرَّةً أُخْرَى:
يُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَاشَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ
وَفِيمَا دُونَهَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الأَرْشُ وَالدِّيَةُ
بِالنُّكُولِ
(9/373)
فِي كُلِّ
ذَلِكَ، وَلاَ يُقَصُّ مِنْهُ. وَقَالُوا كُلُّهُمْ: مَنْ ادَّعَى
عَلَى آخَرَ أَنَّهُ سَرَقَ مِنْهُ مَا فِيهِ الْقَطْعُ، وَلاَ
بَيِّنَةَ لَهُ: حَلَفَ الْمَطْلُوبُ وَبَرِئَ، فَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ
الْمَالَ، وَلاَ قَطْعَ عَلَيْهِ. وَقَالُوا كُلُّهُمْ: لاَ يُقْضَى
عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ حَتَّى يَدْعُوَهُ إلَى الْيَمِينِ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ. فَإِنْ أَبَى وَتَمَادَى قُضِيَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
بْنُ حَيٍّ: إنْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ فَادَّعَى
أَوْلِيَاؤُهُ عَلَيْهِمْ قَتْلَهُ، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُمْ: حَلَفَ
خَمْسُونَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ يَغْرَمُونَ
الدِّيَةَ، فَإِنْ نَكَلُوا قُتِلُوا قِصَاصًا. وقال مالك: مَنْ
ادَّعَى حَقًّا مِنْ مَالٍ عَلَى مُنْكِرٍ وَأَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا
حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ، فَإِنْ أَبَى قِيلَ لِلْمَطْلُوبِ احْلِفْ
فَتَبْرَأْ. فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُ
طَالِبِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَمَنْ قَالَ: أَنَا أَتَّهِمُ فُلاَنًا
بِأَنَّهُ أَخَذَ لِي مَالاً ذَكَرَ عَدَدَهُ، وَلاَ أُحَقِّقُ ذَلِكَ.
قِيلَ لِلْمَطْلُوبِ: احْلِفْ وَتَبْرَأْ، فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ
عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُتَّهَمُ دُونَ رَدِّ يَمِينٍ. قَالَ:
مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ وَرَثَتَهُ صِغَارًا فَأَقَامَ وَصِيُّهُمْ
شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلاً بِدَيْنٍ لِمَوْرُوثِهِمْ عَلَى إنْسَانٍ:
قِيلَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: احْلِفْ حَتَّى تَبْلُغَ الصِّغَارُ
فَيَحْلِفُوا مَعَ شَاهِدِهِمْ، وَيُقْضَى لَهُمْ، فَإِنْ حَلَفَ
تُرِكَ حَتَّى يَبْلُغُوا وَيَحْلِفُوا وَيُقْضَى لَهُمْ، وَإِنْ
نَكَلَ غَرِمَ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ. وَقَالَ فِيمَنْ ادَّعَتْ
عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ طَلاَقًا، أَوْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَمَتُهُ أَوْ
عَبْدُهُ عَتَاقًا، وَقَامَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، شَاهِدٌ وَاحِدٌ
عَدْلٌ: إنَّهُ يُقَالُ لَهُ: احْلِفْ مَا طَلَّقْت، وَلاَ أَعْتَقْت
وَتَبَرَّأْ. فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ.
وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى يُسْجَنُ حَتَّى يَطُولَ أَمْرُهُ، وَحَدَّ
ذَلِكَ بِسَنَةٍ، ثُمَّ يُطَلِّقُ وَمَرَّةً قَالَ: يُسْجَنُ أَبَدًا
حَتَّى يَحْلِفَ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ، لأََنَّهُ
مُتَنَاقِضٌ: مَرَّةً يَقْضِي بِالنُّكُولِ كَمَا أَوْرَدْنَا، وَفِي
سَائِرِ الدَّعَاوَى لاَ يَقْضِي بِهِ، وَهَذِهِ فُرُوقٌ مَا نَعْلَمُ
أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَّقَ بِهَا قَبْلَهُ، وَلاَ دَلِيلَ
لَهُ عَلَى تَفْرِيقِهِ، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ
مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ سَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ،
وَلاَ قِيَاسٍ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِفُرُوقِهِ فَسَقَطَ
هَذِهِ الْقَوْلُ بِيَقِينٍ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي
يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: فَظَاهِرُ التَّنَاقُضِ أَيْضًا،
وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُمْ إلَى تِلْكَ الْفُرُوقِ
الْفَاسِدَةِ، وَلاَ إلَى تَرْدِيدِ دُعَائِهِ إلَى الْيَمِينِ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ، وَلاَ صَحَّحَ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ
رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ، وَلاَ قِيَاسٌ،
بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِفُرُوقِهِمْ. وَلاَ يَخْلُو الْحُكْمُ
بِالنُّكُولِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَاجِبًا أَوْ بَاطِلاً، فَإِنْ
كَانَ بَاطِلاً فَالْحُكْمُ بِالْبَاطِلِ لاَ يَحِلُّ، وَإِنْ كَانَ
حَقًّا فَالْحُكْمُ بِهِ فِي كُلِّ مَكَان وَاجِبٌ: كَمَا قَالَ
زُفَرُ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا إذْ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ
بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ
أَيْضًا جُمْلَةً، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ قَطُّ الأَحْتِيَاطَ لِلدَّمِ
بِأَوْلَى مِنْ الأَحْتِيَاطِ لِلْفُرُوجِ، وَالْمَالِ، وَالْبَشَرَةِ،
بَلْ الْحَرَامُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ. قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ
(9/374)
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا
فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ". بَلْ
قَدْ وَجَدْنَا الدَّمَ يُبَاحُ بِشَاهِدَيْنِ، وَجَلْدِ مِائَةٍ فِي
الزِّنَى أَوْ خَمْسِينَ لاَ يُبَاحُ إِلاَّ بِأَرْبَعَةِ عُدُولٍ
فَصَحَّ أَنَّهُ التَّسْلِيمُ لِلنُّصُوصِ فَقَطْ. وَلَمْ يَبْقَ فِي
الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ إِلاَّ قَوْلُ زُفَرَ الَّذِي وَافَقَهُ
عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَاهُ،
فَوَجَدْنَا مِنْ حُجَّةِ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ آيَةَ
اللِّعَانِ وَقَالَ: إنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الزَّوْجَ إنْ
نَكَلَ، عَنِ الأَيْمَانِ، أَوْ نَكَلَتْ هِيَ، فَإِنَّ عَلَى
النَّاكِلِ حُكْمًا مَا يَلْزَمُهُ بِنُكُولِ النَّاكِلِ الْمَذْكُورِ
إمَّا السِّجْنُ وَأَمَّا الْحَدُّ فَهَذَا قَضَاءٌ
بِالنُّكُولِ..فَقُلْنَا: لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الزَّوْجَ قَاذِفٌ، فَجَاءَ النَّصُّ بِإِزَالَةِ
حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ بِأَيْمَانِهِ الأَرْبَعِ وَلَعَنَتْهُ
الْخَامِسَةُ فَلَزِمَتْ الطَّاعَةُ لِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ
فَالْحَدُّ بَاقٍ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَدْ
أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْعَذَابَ، إِلاَّ أَنْ
تَحْلِفَ، فَإِنْ حَلَفَتْ دُرِئَ عَنْهَا الْعَذَابُ بِأَيْمَانِهَا
الأَرْبَعِ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهَا فِي الْخَامِسَةِ بِالنَّصِّ،
وَإِنْ نَكَلَتْ فَالْعَذَابُ عَلَيْهَا وَاجِبٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ
سَائِرُ الدَّعَاوَى، بِلاَ خِلاَفٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ. وَالْوَجْهُ
الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا حَصَلَ لَكُمْ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ
حُكْمًا مَا يَلْزَمُهَا بِالنُّكُولِ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ السِّجْنُ،
وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ نُكُولَ النَّاكِلِ، عَنِ الْيَمِينِ فِي كُلِّ
مَوْضِعٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يُوجِبُ أَيْضًا عَلَيْهِ حُكْمًا مَا
وَهُوَ الأَدَبُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم عَلَى كُلِّ مَنْ أَتَى مُنْكَرًا قَدَرْنَا عَلَى تَغْيِيرِهِ
بِالْيَدِ وَهُوَ بِامْتِنَاعِهِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا فَوَجَبَ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ
فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِالآيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَقَالَ
أَيْضًا: إنَّ الأُُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ لِنُكُولِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُكْمًا مُوجِبًا لِلْمُدَّعِي حَقًّا، ثُمَّ
اخْتَلَفُوا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ رَدُّ الْيَمِينِ، وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: هُوَ السِّجْنُ وَالأَدَبُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ
إنْفَاذُ الْحُكْمِ عَلَى النَّاكِلِ، فَبَطَلَ رَدُّ الْيَمِينِ،
وَلاَ فَائِدَةَ لِلْمُدَّعِي فِي سِجْنِ الْمَطْلُوبِ النَّاكِلِ
وَتَأْدِيبِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ إلْزَامُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
الْحُكْمَ بِنُكُولِهِ.فَقُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ
الْفَسَادِ، إذْ زِدْتُمْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلاَ حَقَّ
لأََحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ،
وَلاَ حَقَّ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ
الأَمْرِ، وَالْحُكْمِ، إِلاَّ الْغَرَامَةُ إنْ أَقَرَّ أَوْ ثَبَتَ
عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِيَقِينِ الْحَاكِمِ، أَوْ الْيَمِينُ إنْ
أَنْكَرَ فَقَطْ، فَلَمَّا لَمْ يُقِرَّ، وَلاَ قَامَتْ عَلَيْهِ
بَيِّنَةٌ، وَلاَ تَيَقَّنَ الْحَاكِمُ صِدْقَ الْمُدَّعِي: سَقَطَتْ
الْغَرَامَةُ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَمِينُ الَّتِي
أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ حَقُّهُ قِبَلَ الْمَطْلُوبِ،
فَوَجَبَ أَخْذُهُ بِهِ، وَلاَ بُدَّ، لاَ بِمَا سِوَاهُ مِمَّا لَمْ
يَجِبْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ لِلطَّالِبِ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ أَوْ
لَمْ يَكُنْ لأََنَّ مُرَاعَاةَ فَائِدَتِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ دُونَ
مُرَاعَاةِ فَائِدَةِ الْمَطْلُوبِ. وَقَالَ: إنَّ قَطْعَ الْخُصُومَةِ
حَقٌّ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَوْ حَلَفَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَنْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ، فَإِذْ نَكَلَ
فَقَدْ
(9/375)
لَزِمَهُ
قَطْعُ الْخُصُومَةِ، وَهِيَ لاَ تَنْقَطِعُ بِسَجْنِهِ، وَلاَ
بِأَدَبِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَطْعُهَا بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ
بِمَا يَدَّعِيهِ الطَّالِبُ، وَكَانَ فِي سَجْنِهِ قَطْعٌ لَهُ، عَنِ
التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، فَتَقِفُ الْخُصُومَةُ، فَلَمْ
يَبْقَ إِلاَّ الْحُكْمُ بِالنُّكُولِ.فَقُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ
بَاطِلٌ وَخِلاَفُ قَوْلِكُمْ: أَمَّا خِلاَفُ قَوْلِكُمْ: لَوْ حَلَفَ
لاَنْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ، فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّهَا لاَ
تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، بَلْ مَتَى أَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ
عَادَتْ الْخُصُومَةُ وَسَائِرُ قَوْلِكُمْ بَاطِلٌ. وَمَا عَلَيْهِ
قَطْعُ الْخُصُومَةِ أَصْلاً إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، لاَ ثَالِثَ
لَهُمَا إمَّا بِالإِقْرَارِ، إنْ كَانَ الْمُدَّعِي صَادِقًا.
وَأَمَّا بِالْيَمِينِ، إنْ كَانَ الْمُدَّعِي كَاذِبًا، وَعَلَى
الْحَاكِمِ قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِالْقَضَاءِ بِمَا تُوجِبُهُ
الْبَيِّنَةُ، أَوْ بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ إنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ
بَيِّنَةٌ فَقَطْ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا
غَرَامَةً بِأَنْ لاَ يُوجِبَهَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، فَهِيَ
بَاطِلٌ بِيَقِينٍ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ: أَنَّكُمْ بَعْدَ
قَضَائِكُمْ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ تَسْجُنُونَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ،
قَدْ عُدْتُمْ إلَى السِّجْنِ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ. وَهَذَا تَلَوُّثٌ
وَسَخَافَةٌ نَاهِيكَ بِهَا. وَقَالَ: هُوَ قَوْلٌ رُوِيَ، عَنْ
عُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى، فَلاَ
حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ خِلاَفُ هَذَا، عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ،
وَالْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَزَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ، رضي الله عنهم، فَمَا الَّذِي جَعَلَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ
أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ مِنْهُمْ. فَكَيْفَ وَقَدْ خَالَفُوا
عُثْمَانَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، لأََنَّهُ لَمْ يُجِزْ
الْبَيْعَ بِالْبَرَاءَةِ إِلاَّ فِي عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ
الْبَائِعُ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِكُمْ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ
حُكْمُ عُثْمَانَ بَعْضُهُ حُجَّةٌ وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، هَذَا
عَلَى أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَالِمِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ
فِيهِ، عَنْ أَبِيهِ: فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَرْتَجِعَ الْعَبْدَ،
فَرَدَّهُ إلَيْهِ عُثْمَانُ بِرِضَاهُ. فَبَطَلَ بِهَذَا أَنْ
يَصِحَّ، عَنْ عُثْمَانَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ. وَأَمَّا
الرِّوَايَةُ، عَنْ أَبِي مُوسَى فَأَسْقَطُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ أَوْ
يُدْرَى مَخْرَجُهَا. وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ
الْخَبَرِ أَنَّهُ رَأَى الْحُكْمَ بِالنُّكُولِ جَائِزًا، وَإِنَّمَا
فِيهِ أَنَّهُ حُكْمُ عُثْمَانُ، وَأَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لِعُثْمَانَ
فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَكُمْ بِهَا، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهَا:
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَلْزَمَ الْغَرَامَةَ بِالنُّكُولِ، إنَّمَا
فِيهِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهَا فَأَبَتْ، فَأَلْزَمَهَا ذَلِكَ وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى
الْيَمِينِ، إذْ لَيْسَ لِلْغَرَامَةِ فِي الْخَبَرِ ذِكْرٌ أَصْلاً،
فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا، لاَ لِقَوْلِكُمْ. فإن
قيل: فَإِنَّ أَبَا نُعَيْمٍ رَوَى، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ الأَسَدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ هَذَا الْخَبَرَ،
فَذَكَرَ فِيهِ: فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ فَضَمِّنْهَا. قِيلَ لَهُ:
إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأَسَدِيُّ مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِي
أَحَدٌ مَنْ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيُّ
مَتْرُوكٌ مُطَرَّحٌ. فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ فِي هَذَا شَيْءٌ، عَنِ
الصَّحَابَةِ أَصْلاً. فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنْ
(9/376)
يُقْضَى
بِالْغَرَامَةِ عَلَى النَّاكِلِ لِتَعَرِّيهِ مِنْ الأَدِلَّةِ.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِرَدِّ
الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ: فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ
عَلْقَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
اسْتَسْلَفَ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ سَبْعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَلَمَّا قَضَاهُ أَتَاهُ
بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهَا سَبْعَةُ آلاَفٍ
فَقَالَ الْمِقْدَادُ: مَا كَانَتْ إِلاَّ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ،
فَارْتَفَعَا إلَى عُمَرَ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَحْلِفْ أَنَّهَا كَمَا يَقُولُ، وَيَأْخُذْهَا
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْصَفَك، احْلِفْ أَنَّهَا كَمَا تَقُولُ
وَخُذْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ أَنَا إسْمَاعِيلُ
بْنُ إِسْحَاقَ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا
حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ بْنِ أَبِي ضُمَيْرَةَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ
فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إذَا كَانَ قَدْ خَالَطَهُ،
فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ
شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَضَى بِالْيَمِينِ فَرَدَّهَا عَلَى
الطَّالِبِ فَلَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، وَلَمْ
يَسْتَحْلِفْ الآخَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ
أَبَاهُ كَانَ إذَا قَضَى بِالْيَمِينِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي
فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، وَقَالَ: لاَ
أُعْطِيك مَا لاَ تَحْلِفُ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ
يَقْضِ لِلطَّالِبِ إنْ نَكَلَ الْمَطْلُوبُ إِلاَّ حَتَّى يَحْلِفَ
الطَّالِبُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا
هُشَيْمٌ أَنَا الشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى
الْمُدَّعِي إذَا طَلَبَ ذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَانَ
الشَّعْبِيُّ يَرَى ذَلِكَ. وَقَالَ هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرُدُّ الْيَمِينَ
وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَسَوَّارِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّينَ
الْقَاضِيَيْنِ هُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ
إِسْحَاقَ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: رَدُّ الْيَمِينِ جُمْلَةً عَلَى الإِطْلاَقِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا رُدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ،
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ وَالظَّاهِرُ
مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَلْزَمَ الْمَطْلُوبَ الْيَمِينُ أَبَدًا،
لأََنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ قَطُّ الْحُكْمُ بِالنُّكُولِ. وقال
مالك: تُرَدُّ الْيَمِينُ فِي الأَمْوَالِ، وَلاَ يَرَى رَدَّهَا فِي
النِّكَاحِ، وَلاَ فِي الطَّلاَقِ، وَلاَ فِي الْعِتْقِ. وقال الشافعي،
وَأَبُو ثَوْرٍ، وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ: تُرَدُّ الْيَمِينُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ، وَفِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا، وَفِي
النِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ فَمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ
امْرَأَتُهُ الطَّلاَقَ، وَعَبْدُهُ أَوْ أَمَتُهُ الْعَتَاقَ وَمَنْ
ادَّعَى عَلَى امْرَأَتِهِ النِّكَاحَ أَوْ ادَّعَتْهُ عَلَيْهِ، وَلاَ
شَاهِدَ لَهُمَا، وَلاَ بَيِّنَةَ: لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا
طَلَّقَ، وَلاَ أَعْتَقَ، وَلَزِمَتْهُ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَا
أَنْكَحَهَا، أَوْ لَزِمَتْهَا الْيَمِينُ كَذَلِكَ، فَأَيُّهُمَا
نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَصَحَّ الْعِتْقُ، وَالنِّكَاحُ،
وَالطَّلاَقُ، وَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ.
(9/377)
قال أبو
محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ لِتَنَاقُضِهِ،
وَلَئِنْ كَانَ رَدُّ الْيَمِينِ حَقًّا فِي مَوْضِعٍ، فَإِنَّهُ
لَحَقٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى
الْمُنْكِرِ، وَلَئِنْ كَانَ بَاطِلاً فِي مَكَان، فَإِنَّهُ لَبَاطِلٌ
فِي كُلِّ مَكَان، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِإِيجَابِهِ فِي مَكَان دُونَ
مَكَان: قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى
وُجُودِ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ بِذَلِكَ أَصْلاً فَبَطَلَ قَوْلُ
مَالِكٍ، إذْ لاَ يُعَضِّدُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ
سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ قَبْلَهُ، وَلاَ قِيَاسٌ. فَإِنْ
قَالَ: إنَّمَا رُوِيَ، عَنِ الصَّحَابَةِ فِي الأَمْوَالِ. قلنا:
بَاطِلٌ، لأََنَّهُ رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ جُمْلَةً، وَرُوِيَ، عَنْ
عُمَرَ، وَالْمِقْدَادِ فِي الدَّرَاهِمِ فِي الدَّيْنِ، فَمِنْ أَيْنَ
لَكُمْ أَنْ تَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ سَائِرَ الأَمْوَالِ، وَسَائِرَ
الدَّعَاوَى مِنْ الْغُصُوبِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَمْ تَقِيسُوا
عَلَيْهِ كُلَّ دَعْوَى، فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى فِي رَدِّهِ الْيَمِينَ عَلَى الْمُتَّهَمِ، فَبَاطِلٌ،
لأََنَّهُ تَقْسِيمٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَمَا
جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْيَمِينِ
عَلَى الْكَافِرِ، وَالْكَاذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى
رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى،
وَالْمَجُوس، وَعَلَى الْمَشْهُورِينَ بِالْكَذِبِ، وَالْفِسْقِ،
إِلاَّ الَّذِي جَعَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَسَائِرِ
الْمُهَاجِرِينَ، وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:فِيهِمْ: أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ وَفِي هَذَا إبْطَالُ
كُلِّ رَأْيٍ، وَكُلِّ قِيَاسٍ، وَكُلِّ احْتِيَاطٍ فِي الدِّينِ،
مِمَّا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ لَوْ أَنْصَفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِآيَةِ
الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ
إنْ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى،
وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذًا لَمِنْ الآثِمِينَ فَإِنْ
عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ
مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ
فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا
وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى
أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ
تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاسْمَعُوا} . وَذَكَرُوا خَبَرَ الْقَسَامَةِ إذْ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لِبَنِي حَارِثَةَ فِي دَعْوَاهُمْ دَمَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ يُقْسِمُ خَمْسُونَ
مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ، قَالُوا:
أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ قَالَ: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ
بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ" . وَذَكَرُوا وُجُوبَ الْيَمِينِ
عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، " وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم حَكَمَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى
الطَّالِبِ مِنْ أَجْلِ شَاهِدِهِ"، فَكَانَ الشَّاهِدُ سَبَبًا
لِرَدِّ الْيَمِينِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ النُّكُولُ مِنْ
الْمَطْلُوبِ أَيْضًا سَبَبًا لِرَدِّ الْيَمِينِ وَلَمْ يَقْضِ لَهُ
بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ حَتَّى يَضُمَّ إلَيْهِ يَمِينَهُ، فَيَقُومُ
مَقَامَ شَاهِدٍ آخَرَ، كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْضَى لَهُ
بِالنُّكُولِ حَتَّى يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ يَمِينَهُ فَيَكُونَ نُكُولُ
الْمَطْلُوبِ مَقَامَ شَاهِدٍ، وَيَمِينُ الطَّالِبِ مَقَامَ شَاهِدٍ
آخَرَ.
(9/378)
قال أبو
محمد: أَمَّا آيَةُ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ
لاَ لَهُمْ، وَإِنَّ احْتِجَاجَهُمْ بِهَا لَفَضِيحَةُ الدَّهْرِ
عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ ثَلاَثَةٍ كَافِيَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ لاَ
يَأْخُذُونَ بِهَا فِيمَا جَاءَتْ فِيهِ، فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّونَ
الأَحْتِجَاجَ بِآيَةٍ هُمْ مُخَالِفُونَ لَهَا
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مِنْ تَحْلِيفِ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، وَلاَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي كَلِمَةٌ، لاَ
بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ، إنَّمَا فِيهَا تَحْلِيفُ الشُّهُودِ
أَوَّلاً، وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ وَالشَّاهِدَيْنِ، بِخِلاَفِ
شَهَادَةِ الأَوَّلِ، فَكَيْفَ سَهُلَ عَلَيْهِمْ إبْطَالُ نَصِّ
الآيَةِ، وَأَنْ يَحْكُمُوا مِنْهَا بِمَا لَيْسَ فِيهَا عَلَيْهِ، لاَ
دَلِيلٌ، وَلاَ نَصٌّ. إنَّ هَذِهِ لَمُصِيبَةٌ. وَلَوْ احْتَجَّ
بِهَذِهِ الآيَةِ مَنْ يَرَى تَحْلِيفَ الْمَشْهُودِ لَهُ مَعَ
بَيِّنَتِهِ لَكَانَ أَشْبَهَ فِي التَّمْوِيهِ عَلَى مَا رُوِيَ، عَنْ
شُرَيْحٍ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْقَاضِي بِقُرْطُبَةَ أَنَّهُ أَحْلَفَ
شُهُودًا فِي تَزَكِّيهِ: بِاَللَّهِ إنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ لَحَقٌّ.
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَرَى لِفَسَادِ
النَّاسِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ، ذَكَرَ ذَلِكَ خَالِدُ
بْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِهِ فِي " أَخْبَارِ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ "
فَلَوْ احْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذِهِ الآيَةِ لَكَانُوا
أَوْلَى بِهَا مِمَّنْ احْتَجَّ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى
الطَّالِبِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ مَا فِي نَصِّهَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى
وَجْهِهَا} وَلَكِنْ يُبْطِلُ هَذَا أَنَّهُ قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ
كُلُّهُ بَاطِلٌ، إِلاَّ أَنَّهُ مِنْ أَقْوَى قِيَاسٍ فِي الأَرْضِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْقَسَامَةِ فَاحْتِجَاجُهُمْ بِهِ أَيْضًا إحْدَى
فَضَائِحِهِمْ، لأََنَّ الْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ
مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ: فأما الْمَالِكِيُّونَ: فَخَالَفُوهُ
جُمْلَةً. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ: فَخَالَفُوا مَا فِيهِ مِنْ
إيجَابِ الْقَوَدِ، فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّونَ الأَحْتِجَاجَ بِحَدِيثٍ
قَدْ هَانَ عَلَيْهِمْ خِلاَفُهُ فِيمَا فِيهِ وَأَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ
تَثْبِيتَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مِنْهُ أَثَرٌ
أَصْلاً. وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِينَ
أَوَّلاً خَمْسِينَ يَمِينًا بِخِلاَفِ جَمِيعِ الدَّعَاوَى ثُمَّ
رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بِخِلاَفِ قَوْلِهِمْ
فَمِنْ أَيْنَ رَأَوْا أَنْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ ضِدَّهُ مِنْ تَحْلِيفِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوَّلاً. فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي
وَلَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ فِي تَبْدِيَةِ الْمُدَّعِي فِي سَائِرِ
الدَّعَاوَى. وَأَنْ يَجْعَلُوا الأَيْمَانَ فِي كُلِّ دَعْوَى
خَمْسِينَ يَمِينًا، فَهَلْ فِي التَّخْلِيطِ، وَخِلاَفِ السُّنَنِ،
وَعَكْسِ الْقِيَاسِ وَضَعْفِ النَّظَرِ: أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَأَمَّا
خَبَرُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ: فَحَقٌّ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ
فِيهِ، لأََنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّ النُّكُولَ يَقُومُ مَقَامَ
الشَّاهِدِ: بَاطِلٌ، لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ،
وَلاَ مَعْقُولٌ، وَقَدْ يَنْكُلُ الْمَرْءُ، عَنِ الْيَمِينِ
تَصَاوُنًا وَخَوْفَ الشُّهْرَةِ، وَإِلَّا فَمَنْ اسْتَجَازَ أَكْلَ
الْمَالِ الْحَرَامِ بِالْبَاطِلِ فَلاَ يُنْكَرُ مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ
كَاذِبًا. وَإِنَّمَا الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَلَمْ يَجِبْ
بَعْدُ عَلَى الْمُنْكِرِ يَمِينٌ، فَلَمَّا أَتَى الْمُدَّعِي
بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ: كَانَ بَعْدُ حُكْمِ طَلَبِهِ الْبَيِّنَةَ، وَلَمْ
يَجِبْ بَعْدُ يَمِينٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَحَكَمَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم لِلطَّالِبِ بِيَمِينِهِ ابْتِدَاءً لاَ رَدًّا
لِلْيَمِينِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فَقَدْ أَسْقَطَ حُكْمَ شَاهِدِهِ،
وَإِذَا أَسْقَطَ حُكْمَ شَاهِدِهِ فَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ، وَإِذْ لاَ
بَيِّنَةَ لَهُ: فَالآنَ وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، لاَ
أَنَّ هَاهُنَا رَدَّ يَمِينٍ أَصْلاً فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ
بِالنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/379)
وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ رِوَايَةً هَالِكَةً: رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ
الْفَرَجِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ حَيْوَةِ بْنِ شُرَيْحِ: أَنَّ
سَالِمَ بْنَ غَيْلاَنَ التُّجِيبِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ طَلِبَةٌ عِنْدَ
أَخِيهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ" وَالْمَطْلُوبُ أَوْلَى بِالْيَمِينِ
فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الطَّالِبُ وَأَخَذَ".
قال أبو محمد: هَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ عِنْدَنَا،
وَلاَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّينَ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى
الْمَالِكِيِّينَ، لأََنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ
رَدِّ الْيَمِينِ فِي كُلِّ طَلِبَةِ طَالِبٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ
أَوَّلَهُ فِي كُلِّ دَعْوَى مِنْ دَم، أَوْ نِكَاحٍ، أَوْ طَلاَقٍ،
أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَتَخْصِيصُهُمْ آخِرَهُ فِي
الأَمْوَالِ بَاطِلٌ وَتَنَاقُضٌ، وَخِلاَفٌ لِلْخَبَرِ الَّذِي
مَوَّهُوا بِهِ، وَهَذَا قَبِيحٌ جِدًّا.
وقال مالك فِي "مُوَطَّئِهِ فِي بَابِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي
كِتَابِ الأَقْضِيَةِ "أَرَأَيْت رَجُلاً ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالاً
أَلَيْسَ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ: مَا ذَلِكَ الْحَقُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ
حَلَفَ بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَنَكَلَ،
عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ طَالِبُ الْحَقِّ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ
وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا مَا لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ
عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلاَ فِي بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ،
فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَخَذَ هَذَا أَمْ فِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ
وَجَدَهُ فَإِذَا أَقَرَّ بِهَذَا فَلْيُقِرَّ بِالْيَمِينِ مَعَ
الشَّاهِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
قال أبو محمد: وَهَذَا احْتِجَاجٌ نَاهِيكَ بِهِ عَجَبًا فِي
الْغَفْلَةِ: أَوَّلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي رَدِّ
الْيَمِينِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلاَ فِي بَلَدٍ مِنْ
الْبُلْدَانِ فَلَئِنْ كَانَ خَفِيَ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَهْلِ
الْعِرَاقِ بِالنُّكُولِ فَإِنَّهُ لَعَجَبٌ. ثُمَّ قَوْلُهُ: إذَا
أَقَرَّ بِرَدِّ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى فَلْيُقِرَّ بِالْيَمِينِ عَلَى الشَّاهِدِ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا أَيْضًا عَجَبٌ آخَرُ،
لأََنَّ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ ثَابِتٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
وَأَمَّا رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ
فَمَا كَانَ قَطُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ فِي سُنَّةِ
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَ الأَمْرَيْنِ فَرْقٌ، كَمَا
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. وَإِذَا وَجَبَ الأَخْذُ بِمَا جَاءَتْ
بِهِ السُّنَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَبْ فِي لَفْظِ آيَاتِ الْقُرْآنِ
فَمَا وَجَبَ قَطُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤْخَذَ بِمَا لاَ يُوجَدُ فِي
الْقُرْآنِ، وَلاَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ،
عَنِ الْيَمِينِ وَأَحْلَفَ الْحَاكِمُ الطَّالِبَ فَقَدْ اتَّفَقْنَا
عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ لَهُ بِتِلْكَ الدَّعْوَى مَا لَمْ يَحْلِفْ
الطَّالِبُ فَلَمْ نَتَّفِقْ عَلَى الْقَضَاءِ لَهُ بِتِلْكَ
الدَّعْوَى فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِمَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ، وَأَنْ لاَ
يُقْضَى عَلَى أَحَدٍ بِاخْتِلاَفٍ لاَ نَصَّ مَعَهُ.
قال أبو محمد: لَيْسَ قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ،
وَرِوَايَاتٌ سَاقِطَةٌ لاَ تَصِحُّ أَسَانِيدُهَا،
(9/380)
ثُمَّ
بِظُنُونٍ غَيْرِ صَادِقَةٍ عَلَى سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
مُخْتَلِفِينَ مِمَّا يَقُولُ: إنَّهُ إجْمَاعٌ إِلاَّ مَنْ لاَ
يَدْرِي مَا الإِجْمَاعُ. وَلَيْسَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: حُجَّةً عَلَى مَنْ لاَ
يُقَلِّدُهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فَلَمْ يَأْمُرْ عَزَّ وَجَلَّ
بِرَدِّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ إلَى أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا، فَمَنْ
رَدَّ إلَيْهِمْ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَسَقَطَ
هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ: بِعُمَرَ، وَالْمِقْدَادِ، وَعُثْمَانَ، رضي
الله عنهم، فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَكَيْفَ وَهُوَ لاَ
يَصِحُّ لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ وَالشَّعْبِيُّ لَمْ
يُدْرِكْ عُثْمَانَ، وَلاَ الْمِقْدَادَ فَكَيْفَ عُمَرُ. وَأَمَّا
الرِّوَايَةُ، عَنْ عَلِيٍّ فَسَاقِطَةٌ، لأََنَّهَا، عَنِ الْحَسَنِ
بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ ابْنُ مَتْرُوكٍ لاَ
يَحِلُّ الأَحْتِجَاجُ بِرِوَايَتِهِ فَلَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا، عَنْ
أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَلِمَةٌ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُنَا: فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ بَيْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ فِي حَائِطٍ فَقَالَ: بَيْنِي
وَبَيْنَك زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَتَيَاهُ فَضَرَبَا عَلَيْهِ
الْبَابَ، فَخَرَجَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ
أَرْسَلْتَ إلَيَّ حَتَّى آتِيَك فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فِي بَيْتِهِ
يُؤْتَى الْحَكَمُ، فَأَخْرَجَ زَيْدٌ وِسَادَةً فَأَلْقَاهَا، فَقَالَ
لَهُ عُمَرُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك وَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا،
فَتَكَلَّمَا فَقَالَ زَيْدٌ لأَُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: بَيِّنَتُك وَإِنْ
رَأَيْت أَنْ تُعْفِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ
فَأَعْفِهِ فَقَالَ عُمَرُ: تَقْضِي عَلَيَّ بِالْيَمِينِ، وَلاَ
أَحْلِفُ فَحَلَفَ. فَهَذَا زَيْدٌ لَمْ يَذْكُرْ رَدَّ يَمِينٍ، وَلاَ
حُكْمًا بِنُكُولٍ، بَلْ أَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ
قَطْعًا إِلاَّ أَنْ يُسْقِطَهَا الطَّالِبُ، وَهَذَا عُمَرُ يُنْكِرُ
أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِالْيَمِينِ، وَلاَ يُحَلِّفَ الْمُنْكِرَ
وَهُوَ قَوْلُنَا نَصًّا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى
أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فِي رِسَالَةٍ ذَكَرَهَا: الْبَيِّنَةُ
عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ فَلَمْ يَذْكُرْ
نُكُولاً، وَلاَ رَدَّ يَمِينٍ.
حدثنا حمام بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي
بَكْرٍ الْكَرْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ،
عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْت إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا تُحْرِزَانِ حَرِيزًا فِي بَيْتٍ، وَفِي
الْحُجْرَةِ حِدَاثٌ، فَأَخْرَجَتْ إحْدَاهُمَا يَدَهَا تَشْخَبُ دَمًا
فَقَالَتْ: أَصَابَتْنِي هَذِهِ، وَأَنْكَرَتْ الأُُخْرَى، قَالَ:
فَكَتَبَ إلَيَّ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:
لَوْ أَنَّ النَّاس أُعْطُوا بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ
قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، اُدْعُهَا فَاقْرَأْ عَلَيْهَا : {إنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلاً} الآيَةَ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فَقَرَأْت عَلَيْهَا،
فَاعْتَرَفَتْ". فَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَلَمْ يُفْتِ إِلاَّ بِإِيجَابِ الْيَمِينِ فَقَطْ، وَأَبْطَلَ أَنْ
يُعْطَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ
(9/381)
وَلَمْ
يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ نُكُولَ الْمَطْلُوبِ، وَلاَ رَدَّ الْيَمِينِ
أَصْلاً. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ
قَالَ: لاَ أَرُدُّ الْيَمِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْكَشْوَرِيِّ، عَنِ
الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ قَالَ: كَانَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَكَمُ بْنُ
عُتَيْبَةَ لاَ يَرَيَانِ الْيَمِينَ يَعْنِي لاَ يَرَيَانِ رَدَّهَا
عَلَى الطَّالِبِ إذَا نَكَلَ الْمَطْلُوبُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ
أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّمِ يَأْبَى، عَنِ
الْيَمِينِ أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ، وَلاَ
يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، لَكِنْ يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى
يَحْلِفَ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ طَلاَقًا
وَأَمَتُهُ أَوْ عَبْدُهُ عَتَاقًا وَأَقَامُوا شَاهِدًا وَاحِدًا
عَدْلاً بِذَلِكَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ، وَأَنَّهُ لاَ
يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلاَ بِرَدِّ الْيَمِينِ، لَكِنْ
يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِنَا: فِي كُلِّ شَيْءٍ.
قال أبو محمد: فإن قيل: فَإِنَّكُمْ رَدَدْتُمْ الرِّوَايَةَ فِي رَدِّ
الْيَمِينِ بِأَنَّهَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَلَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ،
وَلاَ الْمِقْدَادَ، وَلاَ عُمَرُ ثُمَّ ذَكَرْتُمْ لأََنْفُسِكُمْ
رِوَايَةَ حُكُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَ عُمَرَ، وَأُبَيُّ. قلنا: لَمْ
نُورِدْ شَيْئًا مِنْ هَذَا كُلِّهِ احْتِجَاجًا لأََنْفُسِنَا فِي
تَصْحِيحِ مَا قُلْنَاهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ نَرَى فِي
قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجَّةً فِي
الدِّينِ، وَلَكِنْ تَكْذِيبًا لِمَنْ قَدْ سَهَّلَ الشَّيْطَانُ لَهُ
الْكَذِبَ عَلَى جَمِيعِ الأُُمَّةِ فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ
مُجَاهَرَةً، حَيْثُ لاَ يَجِدُ إِلاَّ رِوَايَاتٍ كُلَّهَا هَالِكَةً،
بِظُنُونٍ كَاذِبَةٍ، عَلَى ثَلاَثَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ رُوِيَ
مِثْلُهَا بِخِلاَفِهَا، عَنْ ثَلاَثَةٍ آخَرِينَ مِنْهُمْ،
فَأَرَيْنَاهُمْ لأََنْفُسِنَا مِثْلَهَا، بَلْ أَحْسَنَ مِنْهَا، عَنْ
ثَلاَثَةٍ أَيْضًا مِنْهُمْ أَوْ أَرْبَعَةٍ، إِلاَّ أَنَّ
الْمُوَافَقَةَ لِقَوْلِنَا أَصَحُّ، لأََنَّهَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ
فِي ذِكْرِ قَضِيَّةٍ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيٍّ قَضَى فِيهَا زَيْدُ
بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا وَالشَّعْبِيُّ: قَدْ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ وَصَحِبَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ كَثِيرًا فَهَذِهِ أَقْرَبُ بِلاَ
شَكٍّ إلَى أَنْ تَكُونَ مُسْنَدَةً مِنْ تِلْكَ الَّتِي لَمْ يَلْقَ
الشَّعْبِيَّ أَحَدًا مِمَّنْ ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ، وَلاَ
أَدْرَكَهُ بِعَقْلِهِ.
قال أبو محمد: مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُجَوِّزَ أَهْلُ الْجَهْلِ
وَالْغَبَاوَةِ لأََبِي حَنِيفَةَ أَنْ لاَ يَقْضِيَ بِالنُّكُولِ،
وَلاَ بِرَدِّ الْيَمِينِ، لَكِنْ بِالأَخْذِ بِالْيَمِينِ، وَلاَ
بُدَّ فِي بَعْضِ الدَّعَاوَى دُونَ بَعْضٍ بِرَأْيِهِ وَيُجَوِّزَ
مِثْلَ ذَلِكَ لِمَالِكٍ فِي دَعْوَى الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ، وَلاَ
يُجَوِّزَ لِمَنْ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ
فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْقَضَاءِ
بِالنُّكُولِ، وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ إذَا
نَكَلَ الْمَطْلُوبُ، لِتَعَرِّي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، عَنْ دَلِيلٍ
مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ السُّنَّةِ وَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ فِي
أَحَدِهِمَا قَوْلٌ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،،
فَالْوَاجِبُ أَنْ نَأْتِيَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: قَدْ صَحَّ مَا قَدْ أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ عَلَى
(9/382)
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَعْطَى النَّاسَ بِدَعْوَاهُمْ
لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَمَا قَدْ أَتَيْنَا
بِهِ قَبْلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ مِنْ قَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ
لَيْسَ لَك إِلاَّ ذَلِكَ". فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ
يُعْطَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ دُونَ بَيِّنَةٍ، فَبَطَلَ بِهَذَا
أَنْ يُعْطَى شَيْئًا بِنُكُولِ خَصْمِهِ أَوْ بِيَمِينِهِ إذَا نَكَلَ
خَصْمُهُ، لأََنَّهُ أُعْطِيَ بِالدَّعْوَى. وَصَحَّ أَنَّ الْيَمِينَ
بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة
والسلام عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لاَ
يُعْطَى الْمُدَّعِي يَمِينًا أَصْلاً إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ
بِأَنْ يُعْطَاهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ فِي الْقَسَامَةِ فِي
الْمُسْلِمِ يُوجَدُ مَقْتُولاً، وَفِي الْمُدَّعِي يُقِيمُ شَاهِدًا
عَدْلاً فَقَطْ، وَكَانَ مَنْ أَعْطَى الْمُدَّعِيَ بِنُكُولِ خَصْمِهِ
فَقَطْ أَوْ بِيَمِينِهِ إذَا نَكَلَ خَصْمُهُ قَدْ أَخْطَأَ كَثِيرًا،
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَأَعْطَاهُ بِدَعْوَاهُ الْمُجَرَّدَةِ،
عَنِ الْبَيِّنَةِ وَأَسْقَطَ الْيَمِينَ عَمَّنْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يُزِلْهَا عَنْهُ إِلاَّ أَنْ يُسْقِطَهَا
الَّذِي هِيَ لَهُ وَهُوَ الطَّالِبُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى
لَهُ الْبَيِّنَةَ فَيَأْخُذُ أَوْ يَمِينَ مَطْلُوبِهِ، فَإِذْ هِيَ
لَهُ فَلَهُ تَرْكُ حَقِّهِ إنْ شَاءَ فَظَهَرَ صِحَّةُ قَوْلِنَا
يَقِينًا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} ِ. فَمَنْ أَطْلَقَ لِلْمَطْلُوبِ
الأَمْتِنَاعَ مِنْ الْيَمِينِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ بِهَا وَقَدْ
أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَعَلَى تَرْكِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ إلْزَامَهُ إيَّاهُ وَأَخْذَهُ بِهِ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا فِي كَلاَمِنَا " فِي الإِمَامَةِ " قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ
بِيَدِهِ" إنْ اسْتَطَاعَ فَوَجَدْنَا الْمُمْتَنِعَ مِمَّا أَوْجَبَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَخْذَهُ بِهِ مِنْ الْيَمِينِ قَدْ أَتَى
مُنْكَرًا بِيَقِينٍ، فَوَجَبَ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ بِأَمْرِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّغْيِيرُ بِالْيَدِ: هُوَ الضَّرْبُ
فِيمَنْ لَمْ يَمْتَنِعْ، أَوْ بِالسِّلاَحِ فِي الْمُدَافِعِ
بِيَدِهِ، الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَخْذِهِ بِالْحَقِّ فَوَجَبَ ضَرْبُهُ
أَبَدًا حَتَّى يُحْيِيَهُ الْحَقُّ مِنْ إقْرَارِهِ، أَوْ يَمِينِهِ،
أَوْ يَقْتُلَهُ الْحَقُّ، مِنْ تَغْيِيرِ مَا أَعْلَنَ بِهِ مِنْ
الْمُنْكَرِ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ أَحْسَنَ. وَأَمَّا السِّجْنُ:
فَلاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطُّ سِجْنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَقَدْ لاَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَنَا ثَابِتٌ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا أَوْرَدْنَا، وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، خِلاَفُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/383)
1784 -
مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ أَنْ
يَحْلِفَ إِلاَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ فَقَطْ، كَيْفَمَا شَاءَ
مِنْ قُعُودٍ أَوْ قِيَامٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَحْوَالِ، وَلاَ
يُبَالِي إلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَ وَجْهُهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ
فِي هَذَا: فَرُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَتَبَ
إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ الْعِرَاقِ: أَنَّ رَجُلاً
قَالَ لأَمْرَأَتِهِ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى
عَامِلِهِ أَنْ يُوَافِيَهُ الرَّجُلُ بِمَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ،
فَفَعَلَ، فَأَتَاهُ الرَّجُلُ وَعُمَرُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقَالَ
لِعُمَرَ: أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي أَمَرْتَ أَنْ أُجْلَبَ عَلَيْكَ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْشُدُك
(9/383)
بِرَبِّ
هَذِهِ الْبِنْيَةِ مَا أَرَدْت بِقَوْلِك "حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ"
الْفِرَاقَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَوْ اسْتَحْلَفْتَنِي فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَكَانِ مَا صَدَقْتُك أَرَدْت بِذَلِكَ الْفِرَاقَ قَالَ
عُمَرُ: هُوَ مَا أَرَدْتَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ
رَجُلاً قَالَ لأَمْرَأَتِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ: حَبْلُكِ عَلَى
غَارِبِكِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَاسْتَحْلَفَهُ عُمَرُ بَيْنَ الرُّكْنِ
وَالْمَقَامِ فَقَالَ: أَرَدْت الطَّلاَقَ ثَلاَثًا، فَأَمْضَاهُ
عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لأَمْرَأَتِهِ: حَبْلُكِ
عَلَى غَارِبِكِ، فَسَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ،
فَكَتَبَ عُمَرُ بِأَنْ يُوَافِيَهُ بِالْمَوْسِمِ، فَوَافَاهُ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْكَشْوَرِيِّ، عَنِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
اسْتَحْلَفَ مُعَاوِيَةُ فِي دَمٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ بِغَيْرِ إسْنَادٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ عَوْفٍ أَنْكَرَ التَّحْلِيفَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ إِلاَّ فِي دَمٍ
أَوْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَالِ. وَأَمَّا فِعْلُ مُعَاوِيَةَ
الْمَذْكُورُ: فَإِنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَحْلَفَ مُصْعَبَ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمُعَاذَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
مَعْمَرٍ، وَعُقْبَةَ بْنَ جَعْوَنَةَ بْنِ شَعُوبٍ اللَّيْثِيُّ فِي
دَمِ إسْمَاعِيلَ بْنِ هَبَّارٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ
وَهَؤُلاَءِ مَدَنِيُّونَ اسْتَجْلَبَهُمْ إلَى مَكَّةَ. وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ:
يُسْتَحْلَفُ أَهْلَ الْكِتَابِ " بِاَللَّهِ " حَيْثُ يَكْرَهُونَ.
وبه إلى سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ أَدْخَلَ يَهُودِيًّا
الْكَنِيسَةَ وَوَضَعَ التَّوْرَاةَ عَلَى رَأْسِهِ وَاسْتَحْلَفَهُ
بِاَللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ
أَنَّ كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ كَانَ يُحَلِّفُ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْنِي
النَّصَارَى يَضَعُ الإِنْجِيلَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ
إلَى الْمَذْبَحِ فَيُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
أَبِي مسيرة قَالَ: اخْتَصَمَ إلَى الشَّعْبِيِّ مُسْلِمٌ
وَنَصْرَانِيٌّ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَحْلِفُ بِاَللَّهِ فَقَالَ
لَهُ الشَّعْبِيُّ: لاَ، يَا خَبِيثُ قَدْ فَرَّطْت فِي اللَّهِ،
وَلَكِنْ اذْهَبْ إلَى الْبَيْعَةِ فَاسْتَحْلَفَهُ بِمَا يُسْتَحْلَفُ
بِهِ مِثْلُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ يَقُولُ:
اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ مُطِيعٍ إلَى مَرْوَانَ فِي
دَارٍ، فَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ:
لاَ، وَاَللَّهِ إِلاَّ فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ، فَجَعَلَ زَيْدٌ
يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ، وَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى
الْمِنْبَرِ فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْ زَيْدٍ. وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَحْلَفَ عُمَّالَ سُلَيْمَانَ
عِنْدَ الصَّخْرَةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَمِنْ طَرِيقِ
الْكَشْوَرِيِّ، عَنِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
(9/384)
إسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ
أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ أَحْلَفَ يَهُودِيًّا بِاَللَّهِ تَعَالَى
فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَدْخَلَهُ الْكَنِيسَةَ. فَهَذَا يُوضِحُ
أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمْ يُدْخِلْهُ الْكَنِيسَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ
أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ السَّمَّانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ وَصِيَّ رَجُلٍ
فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِصَكٍّ قَدْ دَرَسَتْ أَسْمَاءُ شُهُودِهِ، فَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ: يَا نَافِعٌ اذْهَبْ بِهِ إلَى الْمِنْبَرِ
فَاسْتَحْلِفْهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ أَتُرِيدُ أَنْ تُسْمِعَ
فِي الَّذِي يَسْمَعُنِي، ثُمَّ يَسْمَعُنِي هَاهُنَا فَقَالَ ابْنُ
عُمَرَ: صَدَقَ فَاسْتَحْلَفَهُ، وَأَعْطَاهُ إيَّاهُ.
قال أبو محمد: لَيْسَ فِي هَذَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى رَدَّ
الْيَمِينِ عَلَى الطَّالِبِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الصَّكُّ
بَرَاءَةً مِنْ حَقٍّ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَحَقُّهُ الْيَمِينُ،
إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِالْبَرَاءَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي
الْهَيَّاجِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَعَثَ أَبَا
الْهَيَّاجِ قَاضِيًا إلَى السَّوَادِ، وَأَمَرَ أَنْ يُحَلِّفَهُمْ
بِاَللَّهِ. فَفِي هَذَا: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ
مَسْعُودٍ: جُلِبَ رَجُلٌ مِنْ الْعِرَاقِ إلَى مَكَّةَ لِلْحُكْمِ
وَإِحْلاَفِهِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَاسْتِحْلاَفُ مُعَاوِيَةَ فِي
دَمٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْكَارُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ الأَسْتِحْلاَفَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، إِلاَّ فِي دَمٍ أَوْ
كَثِيرٍ مِنْ الْمَالِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ: اسْتِحْلاَفُ
الْكُفَّارِ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ وَكَذَلِكَ كَعْبُ بْنُ سَوَّارٍ
وَزَادَ: وَضْعَ التَّوْرَاةِ عَلَى رَأْسِ الْيَهُودِيِّ،
وَالإِنْجِيلِ عَلَى رَأْسِ النَّصْرَانِيِّ. وَعَنْ مَرْوَانَ: أَنَّ
الأَسْتِحْلاَفَ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ اسْتِحْلاَفُ
الْعُمَّالِ عِنْدَ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ،
وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: الأَسْتِحْلاَفُ
"بِاَللَّهِ" فَقَطْ حَيْثُ كَانَ مِنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ. وَهُوَ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَكَذَلِكَ، عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا
نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا
بِمَاذَا يَحْلِفُونَ فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا فِي " بَابِ
الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ " تَحْلِيفَ عُثْمَانَ لأَبْنِ عُمَرَ "
بِاَللَّهِ " فَقَطْ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ
لَقَدْ بَاعَ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ. وَذَكَرْنَا
آنِفًا، عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي مُوسَى اسْتِحْلاَفَ الْكُفَّارِ "
بِاَللَّهِ " فَقَطْ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْحَلِفُ "
بِاَللَّهِ " فَقَطْ وَهُوَ عَنْهُ، وَعَنْ عُثْمَانَ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا
الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يُسْتَحْلَفُوا " بِاَللَّهِ ".
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ
سَمِعْت الشَّعْبِيَّ يَقُولُ فِي كَلاَمٍ كَثِيرٍ: إنْ لَمْ يُقِيمُوا
الْبَيِّنَةَ فَيَمِينُهُ "بِاَللَّهِ". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: كُنْت مَعَ أَبِي
عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ قَاضٍ
فَاخْتَصَمَ إلَيْهِ: مُسْلِمٌ، وَنَصْرَانِيٌّ، فَقَضَى بِالْيَمِينِ
عَلَى النَّصْرَانِيِّ فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ: اسْتَحْلِفْهُ
(9/385)
لِي فِي
الْبَيْعَةِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: اسْتَحْلِفْهُ
"بِاَللَّهِ" وَخَلِّ سَبِيلَهُ وَنَحْوُهُ، عَنْ عَطَاءٍ. وَعَنْ
مَسْرُوقٍ: اسْتِحْلاَفُهُمْ بِاَللَّهِ فَقَطْ. وَمِنْ طَرِيقِ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: يُسْتَحْلَفُونَ " بِاَللَّهِ " وَيُغَلَّظُ
عَلَيْهِمْ بِدِينِهِمْ. وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ
يَسْتَحْلِفُهُمْ بِدِينِهِمْ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
قَالَ: يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِي مَجْلِسِ
الْحَاكِمِ. فأما الْمُسْلِمُ فَيُسْتَحْلَفُ "بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ
إلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ
الرَّحِيمُ الطَّالِبُ الْغَالِبُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا
يَعْلَمُ مِنْ الْعَلاَنِيَةِ". وَيُسْتَحْلَفُ الْيَهُودِيُّ
"بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى".
وَيُسْتَحْلَفُ النَّصْرَانِيُّ " بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ
الإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى". وَيُسْتَحْلَفُ الْمَجُوسِيُّ "بِاَللَّهِ
الَّذِي خَلَقَ النَّارَ". وَكُلُّ هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ،
إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي التَّحْلِيفِ الطَّالِبَ الْغَالِبَ
وَرَأَى أَنْ يُحَلَّفَ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ فِي جِرَاحِ
الْعَمْدِ عِنْدَ الْمَقَامِ بِمَكَّةَ، وَعِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ يُحَلَّفَ سَائِرُ أَهْلِ
الْبِلاَدِ فِي جَوَامِعِهِمْ. وَأَمَّا مَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا
فَفِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ. وَرَأَى أَنْ يُحَلَّفَ الْكُفَّارُ حَيْثُ
يُعَظِّمُونَ. وقال مالك: يُحَلَّفُونَ فِي ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ
فَصَاعِدًا فِي مَكَّةَ عِنْدَ الْمَقَامِ، وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ
مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ
الْبِلاَدِ فَحَيْثُ يُعَظَّمُ مِنْ الْجَوَامِعِ وَتَخْرُجُ
الْمَرْأَةُ الْمَسْتُورَةُ لِذَلِكَ لَيْلاً. وَأَمَّا مَا دُونَ
ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ فَفِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ. وَيُحَلَّفُ
الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ "بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ".
وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: يُحَلَّفُ الْمُسْلِمُ " بِاَللَّهِ " فِي
مَجْلِسِ الْحَاكِمِ فِي الْمُصْحَفِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَكَمَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيهِمْ سَوَاءٌ سَوَاءٌ. وَ
مَا رُوِّينَا مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ إِلاَّ، عَنْ شُرَيْحٍ مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا
دَاوُد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ: ، أَنَّهُ قَالَ فِي
كَلاَمٍ كَثِيرٍ " وَيَمِينُك بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ
هُوَ " يَعْنِي عَلَى الْمَطْلُوبِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ فِيمَا
يُسْتَحْلَفُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَاهُ،
وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ فِيهِ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ،
وَلاَ سَقِيمَةٍ، وَلاَ بِقَوْلِ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وقال
بعضهم: قلنا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ فِي الْيَمِينِ. قلنا: مَا
هَذَا بِتَأْكِيدٍ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا ذُكِرَ بِاسْمِهِ
اقْتَضَى الْقُدْرَةَ وَالْعِلْمَ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ، وَأَنَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَاقْتَضَى كُلَّ مَا يُخْبَرُ بِهِ، عَنِ
اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْلُكُوا مَسْلَكَ
الدُّعَاءِ وَالتَّعَبُّدِ فَكَانَ أَوْلَى بِكُمْ أَنْ تَزِيدُوا مَا
زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآيَةَ،
فَزِيدُوا هَكَذَا حَتَّى تَفْنَى أَعْمَارُكُمْ، وَتَنْقَطِعَ
أَنْفَاسُكُمْ، وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي مَكَانِ حُكْمٍ لاَ فِي
تَفَرُّغٍ لِذِكْرٍ وَعِبَادَةٍ. ثُمَّ أَغْرَبُ شَيْءٍ زِيَادَةُ
أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى " الطَّالِبَ
الْغَالِبَ " فَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَمَنْ
كَثُرَ كَلاَمُهُ
(9/386)
بِمَا
لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، وَلاَ نُدِبَ إلَيْهِ: كَثُرَ خَطَؤُهُ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ. فَإِنْ قَالُوا: قَصَدْنَا بِذَلِكَ
التَّغْلِيظَ قلنا: فَاجْلُبُوهُمْ مِنْ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا إلَى
مَكَّةَ فَهُوَ أَشَدُّ تَغْلِيظًا كَمَا رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ، أَوْ
حَلِّفُوهُمْ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ،
فَهُوَ أَشَدُّ تَغْلِيظًا، وَحَلِّفُوهُمْ بِمَا تَرَوْنَهُ
أَيْمَانًا مِنْ الطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ، وَصَدَقَةِ الْمَالِ،
فَهُوَ عِنْدَكُمْ أَغْلَظُ وَأَوْكَدُ مِنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ،
فَأَيُّ شَيْءٍ قَالُوا رُدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الزِّيَادَاتِ
الَّتِي زَادُوهَا، وَلاَ فَرْقَ. أَوْ نَقُولُ: حَلِّفُوهُمْ بِ "
عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ إنْ كَانَ كَاذِبًا " قِيَاسًا عَلَى
الْمُلاَعِنِ، أَوْ رُدُّوا عَلَيْهِ الأَيْمَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: أَنْ يُحَلَّفَ النَّصْرَانِيُّ "
بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى " فَعَجَبٌ،
وَلاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَاهُ، فَمَا فِي الأَمْرِ لَهُمْ
بِهَذِهِ الْيَمِينِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ
سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ أَصْلاً. وأعجب شَيْءٍ جَهْلُ مَنْ
يُحَلِّفُهُمْ بِهَذَا، وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَهُ، وَلاَ يُقِرُّونَ
بِهِ، وَلاَ قَالَ نَصْرَانِيٌّ قَطُّ: إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ
الإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَإِنَّمَا الإِنْجِيلُ عِنْدَ جَمِيعِ
النَّصَارَى لاَ نُحَاشِي مِنْهُمْ أَحَدًا أَرْبَعَةُ تَوَارِيخَ:
أَلَّفَ أَحَدَهَا: مَتَّى وَأَلَّفَ الآخَرَ: يُوحَنَّا وَهُمَا
عِنْدَهُمْ حَوَارِيَّانِ. وَأَلَّفَ الثَّالِثَ: مُرْقُسُ وَأَلَّفَ
الرَّابِعَ: لُوقَا، وَهُمَا تِلْمِيذَانِ لِبَعْضِ الْحَوَارِيِّينَ
عِنْدَ كُلِّ نَصْرَانِيٍّ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ. وَلاَ
يَخْتَلِفُونَ: أَنَّ تَأْلِيفَهَا كَانَ عَلَى سِنِينَ مِنْ رَفْعِ
عِيسَى عليه السلام. فَإِنْ قَالُوا: حَلَّفْنَاهُمْ بِمَا هُوَ
الْحَقُّ قلنا: فَحَلِّفُوهُمْ " بِالْقُرْآنِ " فَهُوَ حَقٌّ. فَإِنْ
قَالُوا: هُمْ لاَ يُقِرُّونَ بِهِ. قلنا: وَهُمْ لاَ يُقِرُّونَ
بِأَنَّ الإِنْجِيلَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِيسَى عليه
السلام، وَلاَ فَرْقَ. وَأَمَّا تَحْلِيفُهُمْ الْيَهُودَ "بِاَللَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى" فَإِنَّهُمْ مَوَّهُوا
فِي ذَلِكَ بِالْخَبَرَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ
الْبَرَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَيْهِ
يَهُودِيٌّ مُحَمَّمٌ مَجْلُودٌ، فَدَعَا رَجُلاً مِنْ عُلَمَائِهِمْ
فَقَالَ: "أَنْشُدُكَ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى
مُوسَى أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ" قَالَ:
لاَ، وَلَوْلاَ أَنَّكَ أَنْشَدْتَنِي بِهَذَا مَا أَخْبَرْتُكَ
بِحَدِّ الرَّجْمِ . وَالآخَرُ: مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِيِّ:
"أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى
مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إذَا أَحْصَنَ"
قَالُوا: يُحَمَّمُ وَيُجَبَّهُ، وَشَابٌّ مِنْهُمْ سَكَتَ وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ هَذَا
التَّحْلِيفَ لَمْ يَكُنْ فِي خُصُومَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي
مُنَاشَدَةٍ، وَنَحْنُ لاَ نَمْنَعُ الْمُنَاشِدَ أَنْ يَنْشُدَ بِمَا
شَاءَ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَيْسَ فِيهِمَا: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُحَلَّفَ هَكَذَا
فَكَانَ مَنْ أَلْزَمَ ذَلِكَ فِي التَّحْلِيفِ شَارِعًا مَا لَمْ
يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ يُسْتَحْلَفُ
الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ " بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ
" فَإِنَّهُمْ عَوَّلُوا فِي ذَلِكَ عَلَى خَبَرٍ: رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو
الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
لِرَجُلٍ أَحْلَفَهُ احْلِفْ: بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ
(9/387)
هُوَ مَا
لَهُ عِنْدَكَ شَيْءٌ.
قال أبو محمد: هَذَا حَدِيثٌ سَاقِطٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ مِصْدَعٌ الأَعْرَجُ وَهُوَ
مُجَرَّحٌ قُطِعَتْ عُرْقُوبَاهُ فِي التَّشَيُّعِ.
وَالثَّانِي أَنَّ أَبَا الأَحْوَصِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ إِلاَّ بَعْدَ اخْتِلاَطِ عَطَاءٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ
عَطَاءٍ قَبْلَ اخْتِلاَطِهِ: سُفْيَانُ، وَشُعْبَةُ، وَحَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ، وَالأَكَابِرُ الْمَعْرُوفُونَ. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا
الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
"قَالَ: جَاءَ رَجُلاَنِ يَخْتَصِمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَقَالَ لِلْمُدَّعِي: أَقِمْ الْبَيِّنَةَ، فَلَمْ يُقِمْ،
وَقَالَ لِلآخَرِ: احْلِفْ، فَحَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ
إِلاَّ هُوَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ادْفَعْ
حَقَّهُ وَسَتُكَفِّرُ عَنْكَ لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا صَنَعْتَ .
فَسُفْيَانُ الَّذِي صَحَّ سَمَاعُهُ مِنْ عَطَاءٍ يَذْكُرُ أَنَّ
الرَّجُلَ حَلَفَ كَذَلِكَ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَحْلِفَ كَذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَأَبُو
يَحْيَى لاَ شَيْءٌ ثُمَّ الْعَجَبُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ
خِلاَفًا لِمَذْهَبِ مَالِكٍ فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ بِلاَ
بَيِّنَةٍ. ثُمَّ هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مَكْذُوبٌ فَاسِدٌ، لأََنَّ
مِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَأْمُرُهُ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَهُوَ عليه الصلاة
والسلام يَدْرِي أَنَّهُ كَاذِبٌ فَيَأْمُرُهُ بِالْكَذِبِ، حَاشَ
لِلَّهِ مِنْ هَذَا. وَعَلَى خَبَرٍ آخَرَ: مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ
عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ رَجُلاً حَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لاَ
إلَهَ إِلاَّ هُوَ كَاذِبًا فَغُفِرَ لَهُ" .
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَلِفِ بِذَلِكَ فِي
الْحُقُوقِ أَصْلاً، بَلْ هُوَ ضِدُّ قَوْلِهِمْ: إنَّهُمْ زَادُوا
ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَعْظِيمًا فَعَلَى هَذَا الْخَبَرِ مَا هِيَ
إِلاَّ زِيَادَةُ تَخْفِيفٍ مُوجِبَةٌ لِلْمَغْفِرَةِ لِلْكَاذِبِ فِي
يَمِينِهِ، مُسَهِّلَةٌ عَلَى الْفُسَّاقِ أَنْ يَحْلِفُوا بِهَا
كَاذِبِينَ. وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمُ اللَّهِ
تَعَالَى وَالتَّوْحِيدُ لَهُ يُوَازِنُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
يُوَازِنَهُ مِنْ الْمَعَاصِي فَيُذْهِبُهَا. قَالَ تَعَالَى {إنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. وَذَكَرُوا حَدِيثًا آخَرَ:
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ،
عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلاً
يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ أَسَرَقْتَ فَقَالَ: لاَ، وَاَللَّهِ الَّذِي
لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ فَقَالَ عِيسَى عليه السلام: آمَنْتُ بِاَللَّهِ
وَكَذَّبْتُ بَصَرِي" .
قال أبو محمد: وَحَتَّى لَوْ صَحَّ هَذَا، فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ عِيسَى
عليه السلام أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْلِفَ كَذَلِكَ فِي خُصُومَةٍ ثُمَّ
لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ فَشَرِيعَةُ عِيسَى عليه السلام لاَ
تَلْزَمُنَا، إنَّمَا يَلْزَمُنَا مَا أَتَانَا بِهِ مُحَمَّدٌ صلى
الله عليه وسلم.
(9/388)
وَذَكَرُوا الْخَبَرَ الَّذِي رُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ الْحَرَّانِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ
أَنَّهُ قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "آللَّهِ
الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ، قُلْت: آللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ
إِلاَّ هُوَ، قَالَ: آللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ قُلْتُ:
آللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ قَالَ: انْطَلِقْ فَاسْتَثْبِتْ
فَانْطَلَقْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنْ
جَاءَكُمْ يَسْعَى مِثْلَ الطَّيْرِ يَضْحَكُ فَقَدْ صَدَقَ" ،
فَانْطَلَقْتُ فَاسْتَثْبَتُّ ثُمَّ جِئْتُ وَأَنَا أَسْعَى مِثْلَ
الطَّيْرِ أَضْحَكُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "انْطَلِقْ فَأَرِنِي
مَكَانَهُ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَأَرَيْتُهُ مَكَانَهُ فَحَمِدَ
اللَّهَ وَقَالَ: هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُُمَّةِ".
قال علي: وهذا خَبَرٌ لاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِهِ أَصْلاً، لِوُجُوهٍ:
مِنْهَا أَنَّهُ إسْنَادٌ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
إنَّمَا قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ ابْنَا عَفْرَاءَ. ثُمَّ إنَّهَا لَمْ
تَكُنْ خُصُومَةً، إنَّمَا كَانَتْ مُنَاشَدَةً. ثُمَّ إنْ كَانَتْ
مُنَاشَدَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأَبْنِ مَسْعُودٍ تُوجِبُ
أَنْ لاَ يَكُونَ التَّحْلِيفُ فِي الْحُقُوقِ إِلاَّ كَذَلِكَ،
فَإِنَّ تَكْرَارَهُ عليه الصلاة والسلام مُنَاشَدَتَهُ يُوجِبُ أَنْ
تَتَكَرَّرَ الْيَمِينُ عَلَى الْحَالِفِ فِي الْحُقُوقِ، وَهَذَا
بَاطِلٌ فَبَطَلَ مَا تَعَلَّقْتُمْ بِهِ.
قال أبو محمد: فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلاً فِي إيجَابِهِمْ
هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي التَّحْلِيفِ. فَإِنْ قَالُوا: هِيَ زِيَادَةُ
خَيْرٍ. قلنا: نَعَمْ فَأَلْزِمُوهُ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ يُصَلِّيَ
أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ زِيَادَةُ خَيْرٍ، وَلاَ يَحِلُّ
لأََحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ آخَرَ فِعْلَ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الذِّكْرِ
وَالْبِرِّ إِلاَّ بِقُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ يُوجِبُ نَصُّهُمَا ذَلِكَ،
وَإِلَّا فَالْمُوجِبُ مَا لاَ نَصَّ فِي إيجَابِهِ عَاصٍ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ مُتَعَدٍّ لِحُدُودِهِ.
قال أبو محمد: وَوَجَبَ أَنْ نَنْظُرَ فِيمَا يَشْهَدُ بِصِحَّةِ
قَوْلِنَا مِنْ النُّصُوصِ: فَوَجَدْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
يَقُولُ: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ
بِاَللَّهِ إنْ ارْتَبْتُمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ
بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} . وَقَالَ
تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ
أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا
بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إي
وَرَبِّي} . فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَحَدًا بِأَنْ
يَزِيدَ فِي الْحَلِفِ عَلَى " بِاَللَّهِ " شَيْئًا، فَلاَ يَحِلُّ
لأََحَدٍ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مُوجِبًا لِتِلْكَ
الزِّيَادَةِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا
إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ
بِاَللَّهِ" . وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى إبْطَالِ زِيَادَتِهِمْ
وَإِيجَابِهِمْ مِنْ ذَلِكَ خِلاَفَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ
فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَصَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة
(9/389)
والسلام
كَانَ يَحْلِفُ: لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ. فَصَحَّ: أَنَّ أَسْمَاءَ
اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا يَحْلِفُ الْحَالِفُ بِأَيِّهَا شَاءَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ عُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مِمَّا صَحَّ عَنْهُمَا، وَمَا
رُوِيَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَعَلِيٍّ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ أَصْلاً
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَا وَجَدْنَا قَوْلَ أَبِي
حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ:
فَعَنْ شُرَيْحٍ وَحْدَهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ: مِنْ حَيْثُ يَحْلِفُ النَّاسُ، فَقَوْلٌ لَمْ
يُوجِبْهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ،
وَقَلَّدُوا فِيهَا مَرْوَانَ. وَخَالَفُوا: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ،
وَابْنَ عُمَرَ، وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَخَالَفُوا: عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ فِي جَلْبِهِ رَجُلاً مِنْ الْعِرَاقِ لِيَحْلِفَ
بِمَكَّةَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ بِالْعِرَاقِ، وَالْحِجَازِ،
وَمُعَاوِيَةَ فِي جَلْبِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ بِحَضْرَةِ
الصَّحَابَةِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِهِمْ سَلَفًا مِنْ الصَّحَابَةِ
تَعَلَّقُوا بِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ شَغَبُوا بِأَخْبَارٍ نَذْكُرُهَا
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ
هَاشِمِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ عِنْدَ
مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ
. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ
يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُنِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ
ثَعْلَبَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطِيَّةَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ بْنُ
ثَعْلَبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ
حَلَفَ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَسْتَحِلُّ بِهَا
مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ عَدْلاً،
وَلاَ صَرْفًا" . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَضَّاحٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ
بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ
عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ
اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضٍ،
وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُدَّعِي:
"أَلَكَ بَيِّنَةٌ" قَالَ: لاَ، قَالَ: "فَلَكَ يَمِينُهُ". فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ فَاجِرٌ لَيْسَ يُبَالِي مَا حَلَفَ لَيْسَ
يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ" قَالَ: فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ
لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَاَللَّهِ
لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ
اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ" . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا حِبَّانُ، هُوَ
ابْنُ هِلاَلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ،
هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، هُوَ ابْنُ وَائِلٍ، عَنْ
وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ " أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ لِلْمُدَّعِي فِي أَرْضٍ: "بَيِّنَتُكَ" قَالَ: لَيْسَ لِي،
قَالَ: "يَمِينُهُ" ، قَالَ: إذًا يَذْهَبُ بِمَالِي قَالَ: لَيْسَ
لَكَ إِلاَّ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَامَ لِيَحْلِفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اقْتَطَعَ
(9/390)
أَرْضًا
ظَالِمًا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ
غَضْبَانُ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ: فأما خَبَرُ عَلْقَمَةَ
بْنِ وَائِلٍ: فَإِنَّ رَاوِيَ لَفْظَةِ "انْطَلَق": سِمَاكُ بْنُ
حَرْبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ
أَنَّهُ انْطَلَقَ إلَى الْمِنْبَرِ، وَقَدْ يُرِيدُ انْطَلَقَ فِي
كَلاَمِهِ لِيَحْلِفَ، وَلاَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَمَرَهُ بِالأَنْطِلاَقِ، وَلاَ بِالْقِيَامِ، وَلاَ
حُجَّةَ فِي فِعْلِ أَحَدٍ دُونَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم. وَأَمَّا الْخَبَرَانِ الأَوَّلاَنِ: فَلَيْسَ
فِيهِمَا إِلاَّ تَعْظِيمُ الْيَمِينِ عِنْدَ مِنْبَرِهِ عليه الصلاة
والسلام فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِمَا أَنَّهُ أَمَرَ عليه الصلاة والسلام
بِأَنْ لاَ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ إِلاَّ عِنْدَهُ، وَنَحْنُ لَمْ
نُخَالِفْهُمْ فِي هَذَا. وَلَوْ كَانَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ
يُوجِبَانِ أَنْ لاَ يَحْلِفَ الْمَطْلُوبُ إِلاَّ عِنْدَ مِنْبَرِهِ
عليه الصلاة والسلام لَكَانَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، قَدْ
خَالَفَهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا لاَ يُحَلِّفَانِ
عِنْدَهُ إِلاَّ فِي مِقْدَارٍ مَا مِنْ الْمَالِ لاَ فِي أَقَلَّ
مِنْهُ، فَلَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ وَجَدَا هَذَا وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ
الْخَبَرَيْنِ تَخْصِيصُ الْحَلِفِ عِنْدَهُ فِي عَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ،
بَلْ فِيهِ نَصُّ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي
ذَلِكَ: كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُونُسَ، حَدَّثَنَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ،
حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ نِسْطَاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحْلِفُ
أَحَدٌ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ وَلَوْ عَلَى
سِوَاكٍ أَخْضَرَ إِلاَّ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" .
فَظَهَرَ خِلاَفُهُمْ لِهَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ. وَالْمَوْضِعُ
الآخَرُ أَنَّهُمَا يُحَلِّفَانِ مَنْ بَعُدَ فِي غَيْرِهِ مِنْ
الْجَوَامِعِ، فَقَدْ خَالَفَا هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا، وَلَئِنْ
جَازَ أَنْ لاَ يُحَلَّفَ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ عَلَيْهِ إنَّهُ
لَجَائِزٌ فِيمَا قَرُبَ أَيْضًا، وَلاَ فَرْقَ، وَلَيْسَ لِلْبُعْدِ
وَالْقُرْبِ حَدٌّ فِي الشَّرِيعَةِ، إِلاَّ أَنْ يَحُدَّ حَادٌّ
بِرَأْيِهِ فَيَزِيدُ فِي الْبَلاَءِ وَالشَّرْعِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ
بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ نَجِدُ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ
لِضَعْفِهِ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَمَنْ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشْيُ
خَمْسِينَ مِيلاً، فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً. وَأَيْضًا:
فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصَحِّ
طَرِيقٍ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مَالِكٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ النَّار" َ، قَالُوا: وَإِنْ كَانَ
شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا
مِنْ أَرَاكٍ" قَالَهَا ثَلاَثًا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبَزَّارِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثَةٌ لاَ
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَكَرَ فِيهِمْ وَرَجُلٌ
حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا
مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ" .
(9/391)
قال أبو
محمد: فَإِنْ كَانَ تَعْظِيمُ الْحَلِفِ عِنْدَ مِنْبَرِهِ عليه الصلاة
والسلام مُوجِبًا لاََنْ لاَ يُحَلَّفَ الْمَطْلُوبُونَ إِلاَّ
عِنْدَهُ، فَإِنَّ تَعْظِيمَهُ عليه الصلاة والسلام الْحَلِفَ بَعْدَ
صَلاَةِ الْعَصْرِ مُوجِبٌ أَيْضًا: أَنْ لاَ يُحَلَّفَ
الْمَطْلُوبُونَ إِلاَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا خِلاَفُ
قَوْلِهِمْ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ قِيَاسُهُمْ سَائِرَ الْجَوَامِعِ
عَلَى مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ
فَضْلَ لِجَامِعٍ فِي سَائِرِ الْبِلاَدِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ،
وَأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مَسْجِدٌ آخَرُ جَامِعًا وَتُرِكَ التَّجْمِيعُ
فِي الْجَامِعِ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ أَصْلاً، وَلاَ
كَرَاهَةٌ، فَمِنْ أَيْنَ خَرَجَتْ هَذِهِ الْقِيَاسَاتُ الْفَاسِدَةُ.
فَإِنْ قَالُوا: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَزْدَجِرَ الْمُبْطِلُ قلنا:
فَافْعَلُوا ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَإِنَّ الْوَعِيدَ
جَاءَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءً، حَتَّى
فِي قَضِيبٍ مِنْ أَرَاكٍ، إِلاَّ إنْ كَانَ الْقَلِيلُ عِنْدَكُمْ
خَفِيفًا فَهَذَا مَذْهَبُ النَّظَّامِ، وَأَبِي الْهُذَيْلِ
الْعَلَّافِ، وَبِشْرِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَهُمْ الْقَوْمُ لاَ
يُتَكَثَّرُ بِهِمْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُحِقَّ قَدْ يَخْشَى
السُّمْعَةَ وَالشُّهْرَةَ فِي حَمْلِهِ إلَى الْجَامِعِ فَيَتْرُكُ
حَقَّهُ، فَقَدْ حَصَلْتُمْ بِنَظَرِكُمْ عَلَى إبْطَالِ الْحُقُوقِ،
وَأُفٍّ لِهَذَا نَظَرًا.
قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الْيَمِينُ فِي مَكَان
دُونَ مَكَان، وَفِي حَالٍ دُونَ حَالٍ: لَبَيَّنَهَا عليه الصلاة
والسلام فَإِذْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَلاَ يُخَصُّ بِالْيَمِينِ
مَكَانٌ دُونَ مَكَان، وَلاَ حَالٌ دُونَ حَالٍ. وَأَمَّا مِقْدَارُ
مَا يَرَى فِيهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: التَّحْلِيفَ فِي
الْجَوَامِعِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ: أَنَّ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَنْكَرَ التَّحْلِيفَ عِنْدَ
الْكَعْبَةِ إِلاَّ فِي دَمٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَالِ وَهَذَا
لَيْسَ بِشَيْءٍ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهَا رِوَايَةٌ سَاقِطَةٌ
لاَ يُدْرَى لَهَا أَصْلٌ، وَلاَ مُنْبَعَثٌ، وَلاَ مَخْرَجٌ، ثُمَّ
لَوْ صَحَّتْ فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم، ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَاتَ زَمَنَ عُثْمَانَ رضي
الله عنهما فَوَالِي مَكَّةَ يَوْمئِذٍ كَانَ بِلاَ شَكٍّ مِنْ
الصَّحَابَةِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ، فَلَيْسَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَوْلَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ لَمْ يَحُدَّ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي كَثِيرِ الْمَالِ مَا حَدَّهُ مَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَ مَالِكًا إلَى
تَحْدِيدِ ذَلِكَ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، وَلاَ مَنْ سَبَقَ
الشَّافِعِيِّ إلَى تَحْدِيدِهِ بِعِشْرِينَ دِينَارًا. فإن قيل: إنَّ
فِي ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ تُقْطَعُ الْيَدُ فِيهَا. قلنا: وَمَنْ حَدَّ
ذَلِكَ، إنَّمَا حَدَّ قَوْمٌ بِرُبُعِ دِينَارٍ، وَأَمَّا بِثَلاَثَةِ
دَرَاهِمَ فَلاَ وَيُعَارِضُ هَذَا تَحْدِيدُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ
عِشْرِينَ دِينَارًا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ
لَهُمْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ الَّتِي صَحَّ
فِيهَا النَّصُّ. أَوْ يُعَارِضُهُمْ آخَرُونَ بِمِقْدَارِ الدِّيَةِ،
وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ لاَ مَعْنَى لَهُ. وَيُقَالُ لَهُمْ:
أَتَرَوْنَ مَا دُونَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ أَيُتَسَاهَلُ فِي
ظُلْمِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا، وَقَدْ
وَجَدْنَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ تُؤْخَذُ غَصْبًا فَلاَ يَجِبُ
فِيهَا قَطْعٌ، وَالْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا
ظُلْمٌ، وَأَخْذُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَلَعَلَّ الْغَاصِبَ أَعْظَمُ
إثْمًا، لأَهْتِضَامِهِ الْمُسْلِمَ عَلاَنِيَةً، بَلْ لاَ نَشُكُّ فِي
أَنَّ غَاصِبَ دِينَارٍ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ سَارِقِ رُبُعِ دِينَارٍ،
وَفِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ الدِّرْهَمُ عِنْدَهُ عَظِيمٌ لِفَقْرِهِ،
وَفِيهِمْ مَنْ أَلْفُ دِينَارٍ
(9/392)
عِنْدَهُ
قَلِيلٌ لِيَسَارِهِ، فَظَهَرَ فَسَادُ هَذِهِ الأَقْوَالِ بِيَقِينٍ
لاَ إشْكَالَ فِيهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(9/393)
|