الموسوعة
الفقهية الكويتية اخْتِلاَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِخْتِلاَل لُغَةً مَصْدَرُ اخْتَل. وَأَصْلُهُ يَكُونُ مِنَ
الْخَلَل (1) ، وَهُوَ الْفَسَادُ وَالْوَهَنُ فِي الرَّأْيِ وَالأَْمْرِ،
كَأَنَّهُ تُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعٌ لَمْ يُبْرَمْ وَلاَ أُحْكِمَ. وَمِنْ
هُنَا فَإِنَّ الاِخْتِلاَل إِمَّا حِسِّيٌّ وَإِمَّا مَعْنَوِيٌّ.
فَالْحِسِّيُّ نَحْوُ اخْتِلاَل الْجِدَارِ وَالْبِنَاءِ. وَالْمَعْنَوِيُّ
بِمَعْنَى الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ (2) . وَالاِخْتِلاَل فِي اصْطِلاَحِ
الْفُقَهَاءِ لاَ يَبْعُدُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمَذْكُورِ،
إِذْ يَأْتِي بِمَعْنَى مُدَاخَلَةِ الْوَهَنِ وَالنَّقْصِ لِلشَّيْءِ أَوِ
الأَْمْرِ. وَمِنْهُ " اخْتِلاَل الْعَقْل "، وَهُوَ الْعَتَهُ الَّذِي
يَخْتَلِطُ مَعَهُ كَلاَمُ صَاحِبِهِ فَيُشْبِهُ مَرَّةً كَلاَمَ
الْعُقَلاَءِ، وَمَرَّةً كَلاَمَ الْمَجَانِينِ، " وَاخْتِلاَل
الْعِبَادَةِ أَوِ الْعَقْدِ " بِفَقْدِ شَرْطٍ أَوْ رُكْنٍ أَوْ
فَسَادِهِمَا، " وَاخْتِلاَل الرِّضَا " بِالإِْكْرَاهِ أَوْ تَفْرِيقِ
الصَّفْقَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا، " وَاخْتِلاَل الضَّبْطِ " لَدَى الرَّاوِي
الَّذِي يَتَبَيَّنُ بِمُخَالَفَتِهِ رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ (3) .
__________
(1) وفي المصباح، والمرجع في اللغة، أن الخل سمي بذلك لاختلال
طعم الحلاوة في العصير إذا تحول خلا.
(2) لسان العرب.
(3) شرح مسلم الثبوت 1 / 173، والتلويح على التوضيح 2 / 168 ط صبيح، مقدمة
ابن الصلاح، بتحقيق الدكتور العتر، النوع 23 ص 55، 56
(2/313)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - أ - الإِْخْلاَل: هُوَ فِعْل الشَّخْصِ إِذَا أَوْقَعَ الْخَلَل
بِشَيْءٍ مَا، وَالاِخْتِلاَل مُطَاوَعَةٌ، " وَالإِْخْلاَل " بِالْعَهْدِ
وَالْعَقْدِ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِهِمَا (1) ، وَإِخْلاَل التَّصَرُّفِ
بِالنِّظَامِ الْعَامِّ أَوِ الآْدَابِ كَوْنُهُ مُخَالِفًا لَهُمَا (2) .
ب - الْفَسَادُ وَالْبُطْلاَنُ: الاِخْتِلاَل أَعَمُّ مِنَ الْفَسَادِ
وَالْبُطْلاَنِ، إِذْ يَدْخُل فِيهِ اخْتِلاَل الْعِبَادَةِ أَوِ الْعَقْدِ
أَوْ غَيْرِهِمَا بِنَقْصِ بَعْضِ الْمُكَمِّلاَتِ الَّتِي لاَ يَقْتَضِي
نَقْصُهَا بُطْلاَنًا وَلاَ فَسَادًا، كَتَرْكِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ
نِسْيَانًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلاَةِ، وَتَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى
لِلْحَاجِّ، وَتَرْكِ الإِْشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ، أَوْ بِفِعْلٍ
مُخَالِفٍ لِمُقْتَضَى الْكَمَال فِي الْعِبَادَةِ أَوِ التَّصَرُّفِ،
كَالْحَرَكَةِ الْيَسِيرَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَكَإِيقَاعِ الْبَيْعِ بَعْدَ
نِدَاءِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ مَنْ لاَ يُبْطِلُهُ بِذَلِكَ. فَإِنَّ كُل
ذَلِكَ لاَ يَقْتَضِي فَسَادًا وَلاَ بُطْلاَنًا، وَلاَ تَخْرُجُ بِهِ
الْعِبَادَةُ أَوِ التَّصَرُّفُ عَنِ الصِّحَّةِ، وَلَكِنْ تَفْقِدُ بَعْضَ
الْكَمَال.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَتَعَرَّضُ الْفُقَهَاءُ لِلاِخْتِلاَل فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ
كَلاَمِهِمْ، وَمِنْ أَبْرَزِهَا مَا يَلِي:
3 - أ - قَسَّمَ الشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ
ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: الضَّرُورِيَّاتِ، وَالْحَاجِيَّاتِ،
وَالتَّحْسِينَاتِ (أَوِ التَّكْمِيلِيَّاتِ) ، ثُمَّ قَعَّدَ
الشَّاطِبِيُّ لِتَأْثِيرِ اخْتِلاَل كُلٍّ مِنْهَا فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا
لَهُ ارْتِبَاطٌ بِهِ خَمْسَ قَوَاعِدَ:
1 - أَنَّ الضَّرُورِيَّ أَصْلٌ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْحَاجِيِّ
وَالتَّكْمِيلِيِّ.
__________
(1) المرجع في اللغة.
(2) مجلة الأحكام العدلية م 388
(2/314)
2 - أَنَّ اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ
يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلاَل الْبَاقِيَيْنِ بِإِطْلاَقٍ.
3 - أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنَ اخْتِلاَل الْبَاقِيَيْنِ بِإِطْلاَقٍ
اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ.
4 - أَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُ مِنَ اخْتِلاَل التَّحْسِينِيِّ بِإِطْلاَقٍ،
أَوِ الْحَاجِيِّ بِإِطْلاَقٍ، اخْتِلاَل الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مَا.
5 - أَنَّهُ يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ
وَالضَّرُورِيِّ.
ثُمَّ أَطَال فِي بَيَانِ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ (1) .
ب - الاِخْتِلاَل فِي الْعِبَادَاتِ:
4 - الْخَلَل فِي الْعِبَادَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَرْكِ شَرْطٍ فِيهَا
أَوْ رُكْنٍ أَوْ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ، أَوْ بِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ
فِيهَا أَوْ مَكْرُوهٍ. وَقَدْ يَتْرُكُ ذَلِكَ، أَوْ يَفْعَل عَمْدًا أَوْ
خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا. ثُمَّ قَدْ يُؤَدِّي بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى
بُطْلاَنِ الْعِبَادَةِ أَوْ فَسَادِهَا. وَقَدْ يُمْكِنُ تَدَارُكُ
الْمَتْرُوكِ أَحْيَانًا أَوْ يُجْبَرُ بِنَحْوِ سُجُودِ سَهْوٍ أَوْ
فِدْيَةٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل كُل ذَلِكَ
فِي مَوَاضِعِهِ (ر: اسْتِدْرَاكٌ. بُطْلاَنٌ. سَهْوٌ. فِدْيَةٌ. فَسَادٌ.
. إِلَخْ) .
ج - اخْتِلاَل الْعُقُودِ:
5 - اخْتِلاَل الْعَقْدِ إِنْ كَانَ بِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعَقْدِ
فَإِنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ. فَبَيْعُ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ
وَبَيْعُ الْمَجْنُونِ وَشِرَاؤُهُمَا بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ بِخَلَلٍ فِي
غَيْرِ الرُّكْنِ بَل فِي بَعْضِ أَوْصَافِهِ الْخَارِجَةِ، كَمَا إِذَا
كَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولاً، أَوْ كَانَ الْخَلَل فِي أَوْصَافِ
الثَّمَنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ
__________
(1) الموافقات 2 / 16 وما بعدها.
(2/314)
الْبُطْلاَنَ بَل قَدْ يُوجِبُ الْفَسَادَ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَقَدْ يَخْتَل تَنْفِيذُ الْعَقْدِ نَتِيجَةً لِحَادِثٍ لاَ مَجَال مَعَهُ
لِتَنْفِيذِ الْعَقْدِ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي تَمَّ التَّعَاقُدُ
عَلَيْهَا، كَمَا فِي حَالَةِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بِهَلاَكِ بَعْضِ
الْمَبِيعِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ. وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى تَعَيُّبِ رِضَا
الطَّرَفِ الآْخَرِ، فَيُوجِبُ الْخِيَارَ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَخْتَل رِضَا
أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ بِوُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ
الْمُعَيَّنِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ، جَبْرًا لِذَلِكَ. قَال
الْكَاسَانِيُّ: " لأَِنَّ السَّلاَمَةَ لَمَّا كَانَتْ مَرْغُوبَةً
لِلْمُشْتَرِي، وَلَمْ تَحْصُل، فَقَدِ اخْتَل رِضَاهُ. وَهَذَا يُوجِبُ
الْخِيَارَ؛ لأَِنَّ الرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ؛ لِقَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ} (2) فَامْتِنَاعُ الرِّضَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ،
وَاخْتِلاَلُهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ فِيهِ، إِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى
قَدْرِ الدَّلِيل (3) ". وَلِلتَّوَسُّعِ فِي ذَلِكَ (ر: خِيَارٌ) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية وشروحها م 346، 361، 362، 364
(2) سورة النساء / 29
(3) بدائع الصنائع 5 / 274
(2/315)
اخْتِيَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِخْتِيَارُ لُغَةً: تَفْضِيل الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ
وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِل بِتَرْجِيحِ أَحَدِ
الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخِيَارُ:
2 - الْخِيَارُ حَقٌّ يَنْشَأُ بِتَخْوِيلٍ مِنَ الشَّارِعِ، كَخِيَارِ
الْبُلُوغِ، أَوْ مِنَ الْعَاقِدِ، كَخِيَارِ الشَّرْطِ. فَالْفَرْقُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِخْتِيَارِ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا
مُطْلَقًا، فَكُل خِيَارٍ يَعْقُبُهُ اخْتِيَارٌ، وَلَيْسَ كُل اخْتِيَارٍ
يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى خِيَارٍ.
ب - الإِْرَادَةُ:
3 - الإِْرَادَةُ لُغَةً: الْمَشِيئَةُ، وَفِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ
هِيَ " الْقَصْدُ (3) "، أَيِ اعْتِزَامُ الْفِعْل وَالاِتِّجَاهُ
إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ فِي طَلاَقِ الْكِنَايَةِ مَثَلاً: إِنْ أَرَادَ
بِهِ الطَّلاَقَ وَقَعَ طَلاَقًا، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ طَلاَقًا لَمْ
يَقَعْ طَلاَقًا.
__________
(1) القاموس المحيط، ومتن اللغة، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، مادة:
خير.
(2) كشف الأسرار 4 / 1503 طبع مكتب الصنائع سنة 1307 هـ
(3) المقنع 3 / 143 طبع السلفية، والبحر الرائق 3 / 322، وحاشية البجيرمي 4
/ 5
(2/315)
وَيَقُولُونَ فِي الْعُقُودِ: يُشْتَرَطُ
لِصِحَّتِهَا تَلاَقِي الإِْرَادَتَيْنِ. وَيَقُولُونَ فِي الأَْيْمَانِ:
يُسْأَل الْحَالِفُ عَنْ مُرَادِهِ. . . وَهَكَذَا. وَمِنْ هُنَا
يَتَبَيَّنُ أَنَّ كُل اخْتِيَارٍ لاَ بُدَّ أَنْ يَشْتَمِل عَلَى
إِرَادَةٍ، وَلَيْسَ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَكُونَ فِي كُل إِرَادَةٍ
اخْتِيَارٌ.
ج - الرِّضَا:
4 - يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ بَيْنَ الاِخْتِيَارِ
وَالرِّضَا. وَإِذَا كَانَ الاِخْتِيَارُ كَمَا تَقَدَّمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ
الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، فَإِنَّ الرِّضَا. هُوَ الاِنْشِرَاحُ
النَّفْسِيُّ، وَلاَ تَلاَزُمَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ عَامٍّ (1) ، فَقَدْ
يَخْتَارُ الْمَرْءُ أَمْرًا لاَ يَرْضَاهُ. وَيَظْهَرُ هَذَا التَّفْرِيقُ
عِنْدَهُمْ - أَيِ الْحَنَفِيَّةِ - فِي مَسَائِل الإِْكْرَاهِ،
فَالإِْكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ - كَالضَّرْبِ الْمُحْتَمَل،
وَالْقَيْدِ، وَنَحْوِهِمَا - يُفْسِدُ الرِّضَا وَلَكِنَّهُ لاَ يُفْسِدُ
الاِخْتِيَارَ، أَمَّا الإِْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ فَإِنَّهُ يُعْدِمُ
الرِّضَا وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ (2) .
شُرُوطُ الاِخْتِيَارِ:
5 - لِكَيْ يَكُونَ الاِخْتِيَارُ صَحِيحًا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَنْ
لَهُ الاِخْتِيَارُ مُكَلَّفًا، وَأَنْ يَكُونَ فِي قَصْدِهِ مُسْتَبِدًّا،
أَيْ: لاَ سُلْطَانَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ
الاِخْتِيَارَ يَكُونُ فَاسِدًا إِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ
التَّكْلِيفِ، بِأَنْ كَانَ مَنْ لَهُ الاِخْتِيَارُ مَجْنُونًا، أَوْ
صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ، أَوْ كَانَ اخْتِيَارُهُ مَبْنِيًّا عَلَى
اخْتِيَارِ غَيْرِهِ، فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَى
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 1503
(2) كشف الأسرار 4 / 1503، وشرح المنار لابن ملك وحواشيه ص 992 طبع المطبعة
العثمانية سنة 1315 هـ، وبدائع الصنائع 7 / 179 الطبعة الأولى
(2/316)
مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ بِالإِْكْرَاهِ
الْمُلْجِئِ، كَانَ قَصْدُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ دَفْعَ الإِْكْرَاهِ
حَقِيقَةً، فَيَصِيرُ الاِخْتِيَارُ فَاسِدًا؛ لاِبْتِنَائِهِ عَلَى
اخْتِيَارِ الْمُكْرِهِ - بِالْكَسْرِ - وَإِنْ لَمْ يَنْعَدِمْ أَصْلاً
(1) .
تَعَارُضُ الاِخْتِيَارِ الصَّحِيحِ مَعَ الاِخْتِيَارِ الْفَاسِدِ:
6 - إِذَا تَعَارَضَ الاِخْتِيَارُ الْفَاسِدُ وَالاِخْتِيَارُ الصَّحِيحُ،
وَجَبَ تَرْجِيحُ الاِخْتِيَارِ الصَّحِيحِ عَلَى الاِخْتِيَارِ الْفَاسِدِ
إِنْ أَمْكَنَ نِسْبَةُ الْفِعْل إِلَى الاِخْتِيَارِ الصَّحِيحِ. وَإِنْ
لَمْ يُمْكِنْ نِسْبَتُهُ إِلَى الاِخْتِيَارِ الصَّحِيحِ بَقِيَ
مَنْسُوبًا إِلَى الاِخْتِيَارِ الْفَاسِدِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي
الإِْكْرَاهِ عَلَى الأَْقْوَال وَعَلَى الأَْفْعَال الَّتِي لاَ يَصْلُحُ
أَنْ يَكُونَ فِيهَا الإِْنْسَانُ آلَةً لِغَيْرِهِ، كَالأَْكْل
وَالْوَطْءِ وَنَحْوِهِمَا (2) . وَمَحَل تَفْصِيل ذَلِكَ بَحْثُ
(إِكْرَاهٌ) .
الْمُخَيَّرُ:
7 - التَّخْيِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنِ الشَّارِعِ،
كَتَخْيِيرِ الْمُسْتَنْجِي بَيْنَ اسْتِعْمَال الْمَاءِ أَوِ الْحِجَارَةِ
وَنَحْوِهَا لِلاِسْتِنْجَاءِ، وَتَخْيِيرِ الْحَانِثِ فِي التَّكْفِيرِ
عَنْ يَمِينِهِ بَيْنَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الآْيَةُ مِنْ خِصَالٍ. وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ غَيْرِهِ كَتَخْيِيرِ الشَّرِيكِ شَرِيكَهُ
بَيْنَ شِرَاءِ حِصَّتِهِ مِنَ الدُّكَّانِ أَوْ بَيْعِ حِصَّتِهِ لَهُ،
أَوْ بَيْعِ الدُّكَّانِ كَامِلاً لِشَخْصٍ ثَالِثٍ.
وَلاَ يَمْلِكُ التَّخْيِيرَ إِلاَّ صَاحِبُ الْحَقِّ أَوْ مَنْ يَنُوبُ
عَنْهُ شَرْعًا. وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَلَى ذَلِكَ مُفَصَّلاً فِي
مُصْطَلَحِ (تَخْيِيرٌ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 1503
(2) شرح المنار وحواشيه ص 991
(2/316)
مَا يَرِدُ عَلَيْهِ الاِخْتِيَارُ:
8 - أ - الْحُقُوقُ عَلَى نَوْعَيْنِ، حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ
الْعِبَادِ.
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْوَاجِبِ
الْمُعَيَّنِ كَالصَّلاَةِ وَمِنَ الْمُحَرَّمِ كَالزِّنَى، فَلاَ
اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهَا مِنَ النَّاحِيَةِ التَّكْلِيفِيَّةِ. أَمَّا
مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ كَالدَّيْنِ، وَالْهِبَةِ،
وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،
فَإِنَّ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارًا. قَال الشَّاطِبِيُّ: " مَا كَانَ مِنْ
حُقُوقِ اللَّهِ فَلاَ خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى حَالٍ، وَأَمَّا
مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ فَلَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ (1)
"، مِنْ حَيْثُ جَعَل اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لاَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ
مُسْتَقِلٌّ بِالاِخْتِيَارِ (2) .
ب - وَالتَّخْيِيرُ قَدْ يَرِدُ عَلَى شَيْئَيْنِ كِلاَهُمَا حَلاَلٌ،
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الاِخْتِيَارُ عَلَى أَيِّ
الشَّيْئَيْنِ يُرِيدُهُ الْمُخَيِّرُ (بِكَسْرِ الْيَاءِ) .
وَقَدْ يَرِدُ عَلَى شَيْئَيْنِ كِلاَهُمَا مُحَرَّمٌ، فَإِذَا مَا
أُكْرِهَ الْمُخَيَّرُ (بِفَتْحِ الْيَاءِ) عَلَى اخْتِيَارِ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لَزِمَهُ اخْتِيَارُ مَا كَانَ أَخَفَّ ضَرَرًا؛ لأَِنَّهُ
يَرْتَكِبُ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ لاِتِّقَاءِ أَشَدِّهِمَا (3) . وَقَدْ
يَرِدُ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا حَلاَلٌ وَالآْخَرُ حَرَامٌ، وَفِي
هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الاِخْتِيَارُ عَلَى غَيْرِ
الْحَلاَل.
اشْتِرَاطُ الاِخْتِيَارِ لِتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ:
9 - الاِخْتِيَارُ شَرْطٌ لِتَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي
__________
(1) الموافقات 2 / 285، المطبعة الرحمانية.
(2) الموافقات 2 / 278
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي ص 121، والأشباه والنظائر
للسيوطي ص 87 طبع البابي الحلبي.
(2/317)
الآْخِرَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ لِتَرَتُّبِ
الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفِعْل فِي الدُّنْيَا، وَمَحَل بَحْثِ ذَلِكَ
كُلِّهِ مُصْطَلَحُ (إِكْرَاهٌ) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الاِخْتِيَارِ:
10 - شُرِعَ الاِخْتِيَارُ لِتَحْقِيقِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ الَّتِي هِيَ
غَايَةٌ مِنْ غَايَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ قَدْ تَكُونُ
مَصْلَحَةً فَرْدِيَّةً لِلْمُخْتَارِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ عِنْدَمَا
يَكُونُ مَحَل الاِخْتِيَارِ قَاصِرًا عَلَيْهِ لاَ يَتَعَدَّاهُ إِلَى
غَيْرِهِ. وَقَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي يَجِبُ تَوَخِّيهَا فِي
الاِخْتِيَارِ مَصْلَحَةً جَمَاعِيَّةً.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
11 - اخْتِيَارُ الْمُسْتَنْجِي بَيْنَ اسْتِعْمَال الْمَاءِ وَغَيْرِهِ
مِنْ أَدَوَاتِ التَّطْهِيرِ، ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ
الطَّهَارَةِ، بَابِ الاِسْتِنْجَاءِ.
وَاخْتِيَارُ الْمُنْفَرِدِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ فِي
الصَّلَوَاتِ الْجَهْرِيَّةِ، ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ
الصَّلاَةِ.
وَاخْتِيَارُ مَنْ رُخِّصَ لَهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ
بَيْنَ الْجَمْعِ وَعَدَمِهِ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ
الصَّلاَةِ، بَابِ صَلاَةِ الْمُسَافِرِ.
وَاخْتِيَارُ الَّذِي قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلاَةِ بَيْنَ
السُّجُودِ حَالاً وَالإِْرْجَاءِ، ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ
الصَّلاَةِ بَابِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ.
وَاخْتِيَارُ الْحَاجِّ بَيْنَ الإِْفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ،
وَاخْتِيَارُهُ فِي فِدْيَةِ حَلْقِ الشَّعْرِ بَيْنَ الصِّيَامِ
وَالصَّدَقَةِ وَالنُّسُكِ، وَاخْتِيَارُهُ بَيْنَ الْحَلْقِ
وَالتَّقْصِيرِ فِي التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ، وَاخْتِيَارُهُ بَيْنَ
التَّعَجُّل فِي يَوْمَيْنِ - مِنْ
(2/317)
أَيَّامِ مِنًى - وَبَيْنَ التَّأَخُّرِ،
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
وَاخْتِيَارُ دَافِعِ الزَّكَاةِ - عِنْدَ الْبَعْضِ - إِنْ لَمْ يَجِدِ
السِّنَّ الْمَطْلُوبَةَ فِي زَكَاةِ الإِْبِل أَنْ يَدْفَعَ السِّنَّ
الأَْدْنَى مَعَ دَفْعِ الْفَرْقِ - وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ - أَوْ
يَدْفَعُ السِّنَّ الأَْعْلَى مَعَ أَخْذِ الْفَرْقِ. كَمَا نَصُّوا عَلَى
ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
وَاخْتِيَارُ الْمُسَافِرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، عِنْدَ
الْبَعْضِ، كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ. - وَاخْتِيَارُ
الْحَانِثِ بَيْنَ الإِْعْتَاقِ وَالْكِسْوَةِ وَالإِْطْعَامِ فِي
الْكَفَّارَةِ كَمَا نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الأَْيْمَانِ.
وَاخْتِيَارُ الزَّوْجِ فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ بَيْنَ إِرْجَاعِ
زَوْجَتِهِ أَوْ بَتِّ طَلاَقِهَا، وَاخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ الَّتِي
خُيِّرَتْ بَيْنَ إِيقَاعِ الطَّلاَقِ وَعَدَمِهِ كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ
عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الطَّلاَقِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الصَّغِيرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحَضَانَةِ أَحَدَ
وَالِدَيْهِ لِيَكُونَ مَعَهُ - عِنْدَ الْبَعْضِ - كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ
عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَضَانَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ صَاحِبِ الْحَقِّ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الأَْصِيل أَوِ
الْوَكِيل، أَوْ مُطَالَبَةِ أَيِّ الْكَفِيلَيْنِ شَاءَ كَمَا هُوَ
مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَفِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ مِنْ
كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الصَّغِيرَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ حِينَ بُلُوغِهَا بَيْنَ
الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ أَوْ فَسْخِهِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي
خِيَارِ الْبُلُوغِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الأَْمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ إِذَا عَتَقَتْ بَيْنَ الْبَقَاءِ
عَلَى النِّكَاحِ أَوْ فَسْخِهِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي خِيَارِ
الْعِتْقِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
(2/318)
وَالاِخْتِيَارُ يُبْحَثُ أَيْضًا " فِي
الْعَيْبِ وَفِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخِيَارَاتِ
الْعَقْدِيَّةِ.
وَاخْتِيَارُ مَنْ لَهُ الشُّفْعَةُ بَيْنَ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ
وَالتَّرْكِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الإِْمَامِ فِي الأَْرَاضِي الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً بَيْنَ
قِسْمَتِهَا وَوَقْفِهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ
الْجِهَادِ بَابِ الْغَنَائِمِ.
وَاخْتِيَارُ الإِْمَامِ بَيْنَ التَّنْفِيل وَعَدَمِهِ فِي الْجِهَادِ
كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِهِ.
وَاخْتِيَارُ الإِْمَامِ بَيْنَ الإِْجَابَةِ إِلَى الْهُدْنَةِ
وَعَدَمِهَا كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ.
وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي الْعُقُوبَةَ الرَّادِعَةَ فِي التَّعْزِيرِ كَمَا
هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ التَّعْزِيرِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
اخْتِيَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِخْتِيَال فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْكِبْرِ، كَمَا
يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعُجْبِ، وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ
عَنْ هَذَيْنِ الإِْطْلاَقَيْنِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِبْرُ:
2 - مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكِبْرَ يَنْقَسِمُ إِلَى بَاطِنٍ،
وَظَاهِرٍ
(2/318)
فَالْبَاطِنُ هُوَ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ،
وَالظَّاهِرُ هُوَ أَعْمَالٌ تَصْدُرُ عَنِ الْجَوَارِحِ. وَاسْمُ
الْكِبْرِ بِالْخُلُقِ الْبَاطِنِ أَحَقُّ، وَأَمَّا الأَْعْمَال
فَإِنَّهَا ثَمَرَاتٌ لِذَلِكَ الْخُلُقِ. وَخُلُقُ الْكِبْرِ مُوجِبٌ
لِلأَْعْمَال، وَلِذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى الْجَوَارِحِ يُقَال:
تَكَبَّرَ، وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يُقَال: فِي نَفْسِهِ كِبْرٌ، فَالأَْصْل
هُوَ الْخُلُقُ الَّذِي فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الاِسْتِرْوَاحُ
وَالرُّكُونُ إِلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ الْكِبْرَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ
لاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ
غَيْرِهِ، وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ فَوْقَ هَذَا الْغَيْرِ فِي صِفَاتِ
الْكَمَال، فَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ مُتَكَبِّرًا، وَلاَ يَكْفِي أَنْ
يَسْتَعْظِمَ نَفْسَهُ لِيَكُونَ مُتَكَبِّرًا، فَإِنَّهُ قَدْ
يَسْتَعْظِمُ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّهُ يَرَى غَيْرَهُ أَعْظَمَ مِنْ
نَفْسِهِ، أَوْ مِثْل نَفْسِهِ، فَلاَ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ. وَلاَ يَكْفِي
أَنْ يَسْتَحْقِرَ غَيْرَهُ. فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَوْ رَأَى غَيْرَهُ
مِثْل نَفْسِهِ لَمْ يَتَكَبَّرْ. بَل يَنْبَغِي لِيَكُونَ مُتَكَبِّرًا
أَنْ يَرَى لِنَفْسِهِ مَرْتَبَةً وَلِغَيْرِهِ مَرْتَبَةً، ثُمَّ يَرَى
مَرْتَبَةَ نَفْسِهِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ غَيْرِهِ، فَعِنْدَ هَذِهِ
الاِعْتِقَادَاتِ الثَّلاَثَةِ يَحْصُل فِيهِ خُلُقُ الْكِبْرِ. بَل إِنَّ
هَذِهِ الْعَقِيدَةَ تُنْفَخُ فِيهِ، فَيَحْصُل فِي قَلْبِهِ اعْتِدَادٌ،
وَهِزَّةٌ، وَفَرَحٌ، وَرُكُونٌ إِلَى مَا اعْتَقَدَهُ، وَعِزٌّ فِي
نَفْسِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْعِزَّةُ، وَالْهِزَّةُ،
وَالرُّكُونُ إِلَى الْعَقِيدَةِ هُوَ خُلُقُ الْكِبْرِ (1) .
ب - الْعُجْبُ:
3 - الْعُجْبُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الزُّهُوُّ، يُقَال رَجُل مُعْجَبٌ:
يَعْنِي مَزْهُوٌّ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا (2) .
__________
(1) إحياء علوم الدين للغزالي 11 / 18، 19
(2) لسان العرب لابن منظور 5 / 582
(2/319)
وَأَصْل الْعُجْبِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ
هُوَ حَمْدُ النَّفْسِ، وَنِسْيَانُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَظَرُ الْعَبْدِ
إِلَى نَفْسِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَيَنْسَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ
مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَيَحْسُنُ حَال نَفْسِهِ
عِنْدَهُ، وَيَقِل شُكْرُهُ، وَيَنْسُبُ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا هُوَ مِنْ
غَيْرِهَا، وَهِيَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى خِلاَفِهِ (1) .
ح - التَّبَخْتُرُ:
4 - التَّبَخْتُرُ مِشْيَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ مِشْيَةُ الْمُتَكَبِّرِ
الْمُعْجَبِ بِنَفْسِهِ. وَالتَّبَخْتُرُ آفَةٌ مِنَ الآْفَاتِ
الْمُهْلِكَةِ؛ لأَِنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ.
5 - وَهَذِهِ الأَْلْفَاظُ الْمُتَشَابِهَةُ يُفَرَّقُ بَيْنَهَا بِأَنَّ
الْكِبْرَ يَكُونُ بِالْمَنْزِلَةِ، وَالْعُجْبَ يَكُونُ بِالْفَضِيلَةِ،
فَالْمُتَكَبِّرُ يُجِل نَفْسَهُ، وَالْمُعْجَبُ يَسْتَكْثِرُ فَضْلَهُ (2)
. وَالْكِبْرُ يَسْتَلْزِمُ مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِذَلِكَ، أَمَّا الْعُجْبُ فَلاَ يَسْتَلْزِمُهُ؛
لأَِنَّ الْعُجْبَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ، فَقَدْ يُعْجَبُ الشَّخْصُ
بِلُبْسِهِ أَوْ مِشْيَتِهِ أَوْ عِلْمِهِ. . . إِلَخْ. كَمَا أَنَّ
الْعُجْبَ قَدْ يَحْدُثُ بِأَسْبَابِ الْكِبْرِ كَالْعِلْمِ، وَالْعَمَل،
وَالنَّسَبِ، وَالْجَمَال، وَالْمَال. . . إِلَخْ، وَقَدْ يَحْدُثُ
بِغَيْرِ أَسْبَابِ الْكِبْرِ كَعُجْبِهِ بِرَأْيِهِ الْخَطَأِ الَّذِي
يُزَيَّنُ لَهُ بِجَهْلِهِ (3) . وَالاِخْتِيَال أَحَدُ مَظَاهِرِ
الْكِبْرِ، سَوَاءٌ فِي الْمَشْيِ، أَوِ الرُّكُوبِ، أَوِ اللِّبَاسِ، أَوِ
الْبُنْيَانِ (4) .
__________
(1) المدخل لابن الحاج 3 / 54
(2) أدب الدنيا والدين للماوردي بهامش الكشكول للعاملي ص 182
(3) إحياء علوم الدين 11 / 22
(4) المرجع السابق.
(2/319)
وَقَدْ يَكُونُ مُظْهِرًا لإِِعْجَابِ
الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْعُجْبِ الْجَمَال،
وَالْمَال. وَاللِّبَاسَ وَالرُّكُوبَ وَالْمَشْيَ مِنَ الْجَمَال
وَالزِّينَةِ. وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْعُجْبَ آفَةٌ نَفْسِيَّةٌ تَحْتَاجُ
إِلَى إِظْهَارِ آثَارِهَا، وَلِهَذَا فَقَدْ يَظْهَرُ الْعُجْبُ فِي
صُورَةِ اخْتِيَالٍ فِي الْمَشْيِ أَوِ اللِّبَاسِ. . إِلَخْ. أَمَّا
التَّبَخْتُرُ فَهُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ،
وَالاِخْتِيَال، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمَشْيِ، يُقَال: فُلاَنٌ يَمْشِي
البَخْتَرَى، أَيْ مِشْيَةً حَسَنَةً. فَأَهْل هَذَا الْخُلُقِ
مُلاَزِمُونَ لِلْفَخْرِ، وَالْخُيَلاَءِ. فَالْمَرِحُ مُخْتَالٌ فِي
مِشْيَتِهِ.
صِفَةُ الاِخْتِيَال (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
6 - الأَْصْل فِي الاِخْتِيَال أَنَّهُ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ،
لِنَهْيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (ص) عَنْهُ، وَسَيَأْتِي دَلِيل كُل مَظْهَرٍ
مِنْ مَظَاهِرِ الاِخْتِيَال عِنْدَ بَيَانِهِ. وَمَظَاهِرُ الاِخْتِيَال
كَثِيرَةٌ، مِنْهَا الاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ، وَمِنْهَا
الاِخْتِيَال فِي اللِّبَاسِ، وَمِنْهَا الاِخْتِيَال فِي الْبُنْيَانِ.
أ - الاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ:
7 - الاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ يَحْدُثُ بِتَجَاوُزِ الإِْنْسَانِ حَدَّ
الْقَصْدِ وَالاِعْتِدَال فِي مِشْيَتِهِ. وَالْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ
يَكُونُ بَيْنَ الإِْسْرَاعِ وَالْبُطْءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الإِْنْسَانَ
لاَ يُسْرِعُ فِي مِشْيَتِهِ بِأَنْ يَثِبَ وَثْبَ الشُّطَّارِ، لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: سُرْعَةُ الْمَشْيِ مُذْهِبُ بِهَاءِ الْمُؤْمِنِ (1)
كَمَا
__________
(1) حديث " سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن " أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي
هريرة. قال في الميزان: " حديث منكر جدا " (فيض القدير 4 / 104)
(2/320)
أَنَّهُ لاَ يُبْطِئُ فِي مِشْيَتِهِ
بِحَيْثُ يَدِبُّ عَلَى الأَْرْضِ دَبِيبَ الْمُتَمَاوِتِينَ
الْمُتَثَاقِلِينَ.
وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْقَصْدِ فِي الْمَشْيِ، فَقَال تَعَالَى:
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (1) ، كَمَا امْتَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ
يَقْتَصِدُ فِي مِشْيَتِهِ وَلاَ يَتَجَاوَزُ الاِعْتِدَال بِقَوْلِهِ:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَْرْضِ هَوْنًا
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} . (2)
وَمِنْ ثَمَّ إِذَا تَجَاوَزَ الإِْنْسَانُ حَدَّ الاِعْتِدَال (3)
وَالْقَصْدِ فِي الْمَشْيِ يَكُونُ قَدْ وَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ، وَهُوَ
الاِخْتِيَال. وَالأَْصْل فِي تَحْرِيمِ الاِخْتِيَال فِي الْمَشْيِ
وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَْرْضِ
مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَْرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَال طُولاً
كُل ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} . (4)
وَالْمُرَادُ بِالْمَرَحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ
هُوَ الْخُيَلاَءُ فِي الْمَشْيِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ
الْخُيَلاَءِ وَأَمَرَ بِالتَّوَاضُعِ. وَقَدِ اسْتَدَل الْعُلَمَاءُ
بِالآْيَةِ عَلَى ذَمِّ الاِخْتِيَال. وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْقَبَ النَّهْيَ عَنِ الْمَرَحِ بِأَنَّ ذَلِكَ
عَمَلٌ سَيِّئٌ مَكْرُوهٌ، فِي: {كُل ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ
رَبِّكَ مَكْرُوهًا} فَهَذَا يَدُل عَلَى حَظْرِهِ وَتَحْرِيمِهِ، كَمَا
أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالزِّنَا وَالْقَتْل وَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، فَدَل
عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ (5) . وَمِنْ مَعَانِي
الْمَرَحِ: الْكِبْرُ، وَتَجَاوُزُ الإِْنْسَانِ
__________
(1) سورة لقمان / 18
(2) سورة الفرقان / 63
(3) تفسير القرطبي 7 / 261
(4) سورة الإسراء / 37، 38
(5) تفسير القرطبي 7 / 261
(2/320)
قَدْرَهُ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ (1) ، وَمِنْ
أَدِلَّةِ تَحْرِيمِهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَال: " مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَال فِي مِشْيَتِهِ، لَقِيَ
اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ (2) ".
ب - الاِخْتِيَال فِي اللِّبَاسِ:
8 - الاِخْتِيَال فِي اللِّبَاسِ يَحْدُثُ بِسَبَبِ تَجَاوُزِ حَدِّ
الاِعْتِدَال وَالْقَصْدِ فِيهِ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الدَّاعِيَةِ إِلَى
ذَلِكَ (3) . وَالنِّيَّةُ وَالْقَصْدُ هُمَا الأَْصْل فِي ذَلِكَ.
وَحَدُّ الاِعْتِدَال وَالْقَصْدِ فِي اللِّبَاسِ يَكُونُ بِاتِّبَاعِ مَا
وَرَدَ فِي صِفَةِ اللِّبَاسِ مِنْ آثَارٍ صَحِيحَةٍ، وَاجْتِنَابِ مَا
وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ. وَلِلْعُرْفِ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ، مَا لَمْ
يُلْغِهِ الشَّرْعُ.
وَفِي الْمَوَاهِبِ: مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْخُيَلاَءِ
فَلاَ شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَمَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ فَلاَ
تَحْرِيمَ فِيهِ، مَا لَمْ يَصِل إِلَى جَرِّ الذَّيْل الْمَمْنُوعِ
مِنْهُ. وَنَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهَةَ كُل مَا
زَادَ عَلَى الْعَادَةِ فِي اللِّبَاسِ لِمِثْل لاَبِسِهِ فِي الطُّول
وَالسِّعَةِ (4) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) حديث " من تعظم في نفسه، واختال في مشيه. . . أخرجه أحمد في مسنده
والبخاري في الأدب المفرد عن حديث عمر بن الخطاب، رمز السيوطي لحسنه وقال
المناوي: هو كما قال، أو أعلى. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال
المنذري: رراته محتج بهم في الصحيح (فيض القدير 6 / 106)
(3) ومن الدواعي التي تبيح الاختيال في اللباس
داعي الحرب، أو أن يكون بغرض إظهار نعمة الله عليه فقط. كما سيأتي.
(4) شرح الزرقاني على موطأ مالك 1 / 273
(2/321)
مَا يَحِل مِنْ ثِيَابِ الزِّينَةِ وَلاَ
يُعْتَبَرُ اخْتِيَالاً:
9 - الأَْصْل فِي لُبْسِ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ لِلتَّزَيُّنِ بِهَا
الإِْبَاحَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (1) } ،
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُل
الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقَال
رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ الرَّجُل مِنَّا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ
ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال، الْكِبْرُ بَطَرُ
الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَبَطَرُ الْحَقِّ هُوَ دَفْعُهُ وَإِنْكَارُهُ تَرَفُّعًا وَتَجَبُّرًا،
قَالَهُ النَّوَوِيُّ. وَفِي الْقَامُوسِ: بَطَرُ الْحَقِّ أَنْ
يَتَكَبَّرَ عِنْدَهُ فَلاَ يَقْبَلَهُ، وَالْغَمْطُ وَالْغَمْصُ بِمَعْنًى
وَاحِدٍ (2) . وَقِيل غَمْصُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ (3) .
وَالْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ لُبْسِ الثَّوْبِ الْحَسَنِ،
وَالنَّعْل الْحَسَنَةِ، وَتَخَيُّرَ اللِّبَاسِ الْجَمِيل، لَيْسَ مِنَ
الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ، قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ
فِيهِ فِيمَا أَعْلَمُ (4) .
وَفِي سُبُل السَّلاَمِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى
عَبْدِهِ (5) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى
عَبْدٍ نِعْمَةً فَإِنَّهُ يُحِبُّ
__________
(1) سورة الأعراف / 32
(2) نيل الأوطار للشوكاني 2 / 92
(3) أنوار البروق على هامش الفروق للقرافي 4 / 225
(4) نيل الأوطار 2 / 92
(5) حديث: " إن الله يحب. . " أخرجه الترمذي (10 / 259 ط مطبعة الصاوي) عن
ابن عمرو، وقال: حديث حسن، وفي الباب عن أبي الأحوص عن أبيه وعمران بن
حصين.
(2/321)
أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ فِي
مَأْكَلِهِ، وَمَلْبَسِهِ، فَإِنَّهُ شُكْرٌ لِلنِّعْمَةِ؛ وَلأَِنَّهُ
إِذَا رَآهُ الْمُحْتَاجُ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ قَصَدَهُ لِيَتَصَدَّقَ
عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ بَذَاذَةَ الْهَيْئَةِ سُؤَالٌ وَإِظْهَارٌ لِلْفَقْرِ
بِلِسَانِ الْحَال، وَلِذَا قِيل: وَلِسَانُ حَالِي بِالشِّكَايَةِ
يَنْطِقُ وَقِيل: وَكَفَاكَ شَاهِدُ مَنْظَرِي عَنْ مَخْبَرِي (1) ، وَقَدْ
يَكُونُ التَّزَيُّنُ بِاللِّبَاسِ وَاجِبًا. كَتَوَقُّفِ تَنْفِيذِ
الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فِي نَحْوِ وُلاَةِ الأُْمُورِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ
الْهَيْئَةَ الرَّثَّةَ لاَ تَحْصُل مَعَهَا مَصَالِحُ الْعَامَّةِ مِنْ
وُلاَةِ الأُْمُورِ.
وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ. قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ} (2) ، وَفِي
الْجَمَاعَاتِ؛ لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ
نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ
الْجَمَال. (3) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَكَمَا فِي الْحُرُوبِ لإِِرْهَابِ
الْعَدُوِّ، وَفِي الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَفِي الْعُلَمَاءِ
لِتَعْظِيمِ الْعِلْمِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَقَدْ قَال عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: أُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَارِئِ الْقُرْآنِ أَبْيَضَ
الثِّيَابِ. وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا إِذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمُحَرَّمٍ،
كَمَنْ يَتَزَيَّنُ لِلنِّسَاءِ الأَْجْنَبِيَّاتِ، وَكَمَنْ تَتَزَيَّنُ
لِلرِّجَال
__________
(1) المدخل لابن الحاج 1 / 41، وسبل السلام للصنعاني شرح بلوغ المرام لابن
حجر العسقلاني 2 / 86
(2) سورة الأعراف / 31
(3) حديث: " إن الله جميل. . . " أخرجه مسلم 1 / 93 ط عيسى الحلبي، تحقيق
محمد فواد عبد الباقي، كذلك أخرجه أحمد 4 / 134 طبع المطبعة الميمنية.
(2/322)
الأَْجَانِبِ (1) .
إِطَالَةُ الْمَرْأَةِ ثِيَابَهَا:
10 - شُرِعَ لِلنِّسَاءِ إِسْبَال الإِْزَارِ وَالثِّيَابِ وَكُل مَا
يَسْتُرُ جَمِيعَ أَبْدَانِهِنَّ. يَدُل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ
سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ ذَكَرَ الإِْزَارَ فَالْمَرْأَةُ يَا
رَسُول اللَّهِ. قَال: تُرْخِيهِ شِبْرًا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: إِذَنْ
يَنْكَشِفُ عَنْهَا. قَال: فَذِرَاعًا، لاَ تَزِدْ عَلَيْهِ (2) ، إِذْ
بِهِ يَحْصُل أَمْنُ الاِنْكِشَافِ.
وَالْحَاصِل أَنَّ لَهَا حَالَةَ اسْتِحْبَابٍ، وَهُوَ قَدْرُ شِبْرٍ،
وَحَالَةَ جَوَازٍ، بِقَدْرِ الذِّرَاعِ.
قَال الإِْمَامُ الزَّرْقَانِيُّ: وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ
لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسْبِل إِزَارَهَا، أَيْ تَجُرَّهُ عَلَى الأَْرْضِ
ذِرَاعًا. وَالْمُرَادُ ذِرَاعُ الْيَدِ - وَهُوَ شِبْرَانِ - لِمَا رَوَى
ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَال: رَخَّصَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لأُِمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شِبْرًا، ثُمَّ اسْتَزَدْنَهُ
فَزَادَهُنَّ شِبْرًا (3) . فَدَل عَلَى أَنَّ الذِّرَاعَ الْمَأْذُونَ
فِيهِ شِبْرَانِ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا
عَوْرَةٌ إِلاَّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا (4) .
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 245، وابن عابدين 5 / 231، وفتاوي البزاز الكردري
بهامش الفتاوى الهندية 5 / 231 و 6 / 368
(2) هذا لفظ الموطأ (بشرح الزرقاني 4 / 274) ورواه بألفاظ أخرى أبو داود
والترمذي والنسائي (فيض القدير 6 / 113) وحديث الإزار هو " لا ينظر الله
إلى من جر ثوبه خيلاء) ، متفق عليه من حديث ابن عمر (الفتح الكبير 3 / 372)
(3) هكذا قال الزرقاني. وليس قوله " فزادهن شبرًا " في النسخة المطبوعة من
سنن ابن ماجه.
(4) المرجع السابق.
(2/322)
ج - الاِخْتِيَال فِي الرُّكُوبِ:
11 - قَدْ يَكُونُ فِي اسْتِعْمَال الْمَرْكُوبِ وَاقْتِنَائِهِ خُيَلاَءَ،
وَقَدْ يَكُونُ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَإِظْهَارًا لَهَا،
مِثْلُهَا مِثْل الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ. وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى كُل
مُسْلِمٍ يَتَّخِذُ مَرْكُوبًا لِلزِّينَةِ أَلاَّ يَكُونَ قَاصِدًا بِهِ
الْخُيَلاَءَ.
وَالأَْصْل فِي إِبَاحَةِ اتِّخَاذِ الْمَرْكُوبِ الْجَمِيل لِلزِّينَةِ
إِذَا لَمْ يَكُنْ بِغَرَضِ الْخُيَلاَءِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْل
وَالْبِغَال وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ (1) } ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ
تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (2) } . وَهَذَا الْجَمَال وَالتَّزَيُّنُ،
وَإِنْ كَانَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ فِيهِ (3) .
د - الاِخْتِيَال فِي الْبُنْيَانِ:
12 - يُبَاحُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ دَارًا يَسْكُنَهَا
يَدْفَعَ بِهَا الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَالْمَطَرَ وَيَدْفَعَ بِهَا
الأَْذَى وَالأَْعْيُنَ، وَيَنْبَغِي أَلاَّ يَقْصِدَ بِهَا الاِخْتِيَال
أَوْ تُؤَدِّيَ إِلَيْهِ.
هـ - الاِخْتِيَال لإِِرْهَابِ الْعَدُوِّ:
13 - مِنَ الاِخْتِيَال مَا يَكُونُ مَحْمُودًا يُحِبُّهُ اللَّهُ
تَعَالَى، وَهُوَ الاِخْتِيَال لإِِرْهَابِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ
وَإِغَاظَتِهِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ.
__________
(1) سورة النحل / 8
(2) سورة النحل / 6
(3) راجع أحكام القرآن لابن العربي 2 / 12، وتفسير القرطبي 10 / 71 وما
بعدها.
(2/323)
إِخْدَامٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْخْدَامُ لُغَةً: إِعْطَاءُ خَادِمٍ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ
اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - إِعْطَاءُ الْخَادِمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الزَّوْجِ إِلَى
زَوْجَتِهِ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَجِبُ الإِْخْدَامُ عَلَى الزَّوْجِ
لِزَوْجَتِهِ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا، وَالإِْنْفَاقُ
عَلَى خَادِمِهَا الَّذِي مَعَهَا لِحُصُول الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ (3) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الإِْخْدَامَ فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ:
فَإِخْدَامُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ يُذْكَرُ فِي أَبْوَابِ النَّفَقَاتِ،
وَإِخْدَامُ الْمُفْلِسِ لِزَمَانَتِهِ - أَيْ إِنْ كَانَ مَرِيضًا
مُزْمِنًا، وَيَحْتَاجُ فَضْلاً عَنِ النَّفَقَةِ إِلَى الْخَادِمِ، أَوْ
إِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ مَنْصِبُهُ - يُبْحَثُ فِي التَّفْلِيسِ، عِنْدَ
الْحَدِيثِ عَمَّا يُفْعَل بِمَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ،
وَإِخْدَامُ الْمَحْبُوسِ فِي التَّفْلِيسِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ حَبْسِ
الْفَلَسِ لِيُقِرَّ بِمَا عَلَيْهِ، أَوْ بِمَالٍ ثَبَتَ كِتْمَانُهُ.
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس، ولسان العرب، والصحاح.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 510، 511 ط عيسى الحلبي.
(3) البدائع 5 / 2215 ط الإمام، والشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 510 - 511،
والإقناع للشربيني 4 / 152 ط محمد علي صبيح، والمغني 9 / 237 وما بعدها ط
المنار الأولى.
(2/323)
إِخْرَاجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْخْرَاجُ لُغَةً الدَّفْعُ مِنَ الدَّاخِل. وَهُوَ أَيْضًا
الإِْبْعَادُ وَالتَّنْحِيَةُ (1) . وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّخَارُجُ:
2 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الإِْخْرَاجِ وَالتَّخَارُجِ،
فَيَجْعَلُونَ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا فَيَخُصُّونَ التَّخَارُجَ
بِتَصَالُحِ الْوَرَثَةِ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنَ الْمِيرَاثِ
بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ التَّرِكَةِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - مَا يَكُونُ بِهِ الإِْخْرَاجُ: يَتَبَيَّنُ مِنَ اسْتِقْرَاءِ كَلاَمِ
الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ إِخْرَاجَ كُل شَيْءٍ بِحَسْبِهِ:
أ - فَالإِْخْرَاجُ لِلإِْنْسَانِ الْقَائِمِ مِنَ الدَّارِ يَكُونُ
بِإِخْرَاجِ قَدَمَيْهِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ
يَكُونُ بِإِخْرَاجِ إِحْدَى قَدَمَيْهِ إِنْ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا،
وَإِنْ كَانَ قَاعِدًا يَكُونُ بِإِخْرَاجِ رِجْلَيْهِ وَبَدَنِهِ، وَإِنْ
__________
(1) لسان العرب مادة: خرج.
(2) مغني المحتاج 4 / 331 طبع مصطفى الحلبي.
(3) شرح السراجية ص 127 طبع مصطفى الحلبي سنة 1363 هـ.
(2/324)
كَانَ مُسْتَلْقِيًا يَكُونُ بِإِخْرَاجِ
أَكْثَرِ بَدَنِهِ (1) ، كَمَا فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ
الأَْيْمَانِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى الدُّخُول
وَالْخُرُوجِ.
ب - وَالإِْخْرَاجُ مِنَ الْمَدِينَةِ يَكُونُ بِمُجَاوَزَةِ عُمْرَانِهَا
بِبَدَنِهِ.
ج - وَالإِْخْرَاجُ مِنَ الدَّارِ الْمَسْكُونَةِ يَكُونُ بِإِخْرَاجِ
السَّاكِنِ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَعِيَالِهِ (2) .
د - وَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ يَكُونُ بِتَمْلِيكِهَا
لِلْفَقِيرِ عِنْدَ الْبَعْضِ، حَتَّى لَوْ تَلِفَتْ قَبْل ذَلِكَ وَجَبَ
عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا ثَانِيَةً. وَعِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ يَكُونُ
إِخْرَاجُهَا بِالْعَزْل دُونَ اشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ، حَتَّى لَوْ
تَلِفَتْ بَعْدَ الْعَزْل بِغَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يُكَلَّفِ الْمُزَكِّي
إِخْرَاجَهَا ثَانِيَةً (3) ، كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي
كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَفِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ.
هـ - وَإِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ
ظَاهِرًا - أَيْ مُظْهَرًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ
ظُهُورُهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَمَنِ ابْتَلَعَ جَوْهَرَةً وَخَرَجَ بِهَا
لاَ يُقْطَعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُقْطَعُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ (4) ،
كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 79 طبع بولاق، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 2،
3 ط دار إحياء التراث.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 78، 79
(3) انظر: حاشية الدسوقي 1 / 502، 503 ط عيسى البابي الحلبي، والمغني 2 /
686 طبع المنار الطبعة الثالثة، والمجموع 6 / 35 نشر مكتبة الإرشاد بجدة،
وحاشية البجيرمي على الخطيب 4 / 307 نشر دار المعرفة، والأموال لأبي عبيد ص
601 ط مطبعة عبد اللطيف حجازي، والمحلي 5 / 264 ط المنيرية، ومصنف ابن أبي
شيبة 1 / 137 ب مخطوط اسطنبول.
(4) الفتاوى الهندية 2 / 171، ومواهب الجليل 6 / 308 نشر مكتبة النجاح -
ليبيا.
(2/324)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا
لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الإِْخْرَاجَ يُنْسَبُ إِلَى الْفَاعِل إِذَا
كَانَ ابْتِدَاءُ الإِْخْرَاجِ مِنْهُ، وَلاَ يَضُرُّ انْقِطَاعُهُ بَعْدَ
ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي إِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ
وَإِلْقَائِهِ بَعِيدًا ثُمَّ أَخْذِهِ إِيَّاهُ إِنَّهُ يُقْطَعُ، كَمَا
فَسَّرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ
عَلَى شُرُوطِ الإِْخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلإِْخْرَاجِ:
4 - يَتَبَيَّنُ مِنَ اسْتِقْرَاءِ الأَْحْكَامِ الْمُتَّصِلَةِ
بِالإِْخْرَاجِ أَنَّهُ لاَ يَنْتَظِمُهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ، بَل يَكُونُ
حُكْمُهُ حَسَبَ أَحْوَالِهِ. فَأَحْيَانًا يَكُونُ الإِْخْرَاجُ وَاجِبًا
- أَيْ فَرْضًا - كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَمَا قَامَ
الدَّلِيل عَلَى فَرْضِيَّتِهِ - كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ
الزَّكَاةِ وَكِتَابِ الْكَفَّارَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَإِخْرَاجُ
مَنِ اسْتَحَقَّ الْحَدَّ مِنَ الْمَسْجِدِ لإِِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ
(2) ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ،
وَكَإِخْرَاجِ الْمُحْتَرِفِينَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْهُ (3) .
وَأَحْيَانًا يَكُونُ حَرَامًا كَإِخْرَاجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ بَيْتِهَا
بِغَيْرِ حَقٍّ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْعِدَّةِ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ، وَفِي شَرْحِ قَوْله تَعَالَى {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ (4) } مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَكَإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ
مِنَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 180، والمغني 8 / 255، وحاشية القليوبي 4 / 195 ط
عيسى البابي الحلبي، والدسوقي 4 / 338
(2) المحلى 11 / 123، والمغني 8 / 316 و 9 / 45، ومصنف عبد الرزاق 1 / 436،
و 10 / 23، طبع المكتب الإسلامي، وصحيح البخاري في كتاب الأحكام (باب من
حكم في المسجد) ، ونيل الأوطار 2 / 176
(3) كنز العمال برقم 23131 مطبعة البلاغة - حلب.
(4) سورة الطلاق / 1
(2/325)
الْحِرْزِ بِنِيَّةِ السَّرِقَةِ، كَمَا
هُوَ مَذْكُورٌ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
إِخْلاَفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْخْلاَفِ فِي اللُّغَةِ عَدَمُ الْوَفَاءِ
بِالْعَهْدِ (1) قَال الزَّجَّاجُ: وَالْعُقُودُ أَوْكَدُ مِنَ الْعُهُودِ،
إِذِ الْعَهْدُ إِلْزَامٌ، وَالْعُقُودُ إِلْزَامٌ عَلَى سَبِيل
الإِْحْكَامِ وَالاِسْتِيثَاقِ، مِنْ عَقَدَ الشَّيْءَ بِغَيْرِهِ:
وَصَلَهُ بِهِ كَمَا يُعْقَدُ الْحَبْل بِالْحَبْل. وَلاَ يَخْرُجُ
اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمَذْكُورِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَذِبُ
2 - مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْكَذِبِ وَالإِْخْلاَفِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَجَعَل الْكَذِبَ فِي الْمَاضِي
وَالْحَاضِرِ، وَإِخْلاَفَ الْوَعْدِ فِي الْمُسْتَقْبَل (2) .
مَا يَقَعُ فِيهِ الإِْخْلاَفُ:
3 - يَقَعُ الإِْخْلاَفُ فِي الْوَعْدِ وَفِي الْعَهْدِ وَمِنَ
الْفُقَهَاءِ مَنْ جَعَل الْوَعْدَ وَالْعَهْدَ وَاحِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ
جَعَل الْوَعْدَ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط مادة " خلف ".
(2) انظر: الفروق للقرافي، وحاشية ابن الشاط عليه 4 / 24، بتصرف، طبع دار
المعرفة - بيروت.
(2/325)
غَيْرَ الْعَهْدِ، فَخَصَّ الْعَهْدَ بِمَا
أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَرَّمَهُ، وَجَعَل الْوَعْدَ فِيمَا
عَدَا ذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلإِْخْلاَفِ:
4 - عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْوَعْدِ يَكُونُ إِخْلاَفُ
الْعَهْدِ حَرَامًا أَمَّا الإِْخْلاَفُ بِالْوَعْدِ فَقَدْ قَال
النَّوَوِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَعَدَ
إِنْسَانًا شَيْئًا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ
بِوَعْدِهِ وَهَل ذَلِكَ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ خِلاَفٌ
بَيْنَهُمْ. ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ إِلَى
أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ تَرَكَهُ فَاتَهُ الْفَضْل وَارْتَكَبَ
الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ شَدِيدَةٍ، وَلَكِنْ لاَ يَأْثَمُ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، قَال الإِْمَامُ أَبُو بَكْرِ
بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ: أَجَل مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا
الْمَذْهَبِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
قَال: وَذَهَبَتِ الْمَالِكِيَّةُ مَذْهَبًا ثَالِثًا أَنَّهُ إِنِ
ارْتَبَطَ الْوَعْدُ بِسَبَبٍ كَقَوْلِهِ: تَزَوَّجْ وَلَكَ كَذَا، أَوِ
احْلِفْ أَنَّكَ لاَ تَشْتُمْنِي وَلَكَ كَذَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَجَبَ
الْوَفَاءُ، وَإِنْ كَانَ وَعْدًا مُطْلَقًا لَمْ يَجِبْ. وَاسْتَدَل مَنْ
لَمْ يُوجِبْهُ بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ، وَالْهِبَةُ لاَ تَلْزَمُ
إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
تَلْزَمُ قَبْل الْقَبْضِ (1) .
هَذَا، وَإِنَّ مَنْ وَعَدَ وَفِي نِيَّتِهِ الإِْخْلاَفُ فَهُوَ آثِمٌ
قَطْعًا، وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ؛
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ
ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا
اؤْتُمِنَ خَانَ. (2)
__________
(1) الأذكار ص / 281، 282
(2) حديث: آية المنافق ثلاث، متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان ص 12)
(2/326)
آثَارُ الإِْخْلاَفِ:
أ - إِخْلاَفُ الْوَعْدِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَعْدَ لاَ يَلْزَمُ قَضَاءً
إِلاَّ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْوَعْدَ
بِالْعَقْدِ مُلْزِمٌ لِلْوَاعِدِ قَضَاءً إِذَا دَخَل الْمَوْعُودُ تَحْتَ
الْتِزَامٍ مَالِيٍّ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْوَعْدِ، كَمَا إِذَا قَال
لَهُ: اهْدِمْ دَارَكَ وَأَنَا أُسَلِّفُكَ مَا تَبْنِي بِهِ. (2)
فَإِذَا مَا أَخْلَفَ وَعْدَهُ - ضَمِنَ الشُّرُوطَ الَّتِي اشْتَرَطَهَا
الْحَنَفِيَّةُ أَوِ الْمَالِكِيَّةُ - أُجْبِرَ عَلَى التَّنْفِيذِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحَ الرَّحِيبَانِيُّ مِنْهُمْ
بِأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ حُكْمًا (وَفَسَّرَهُ
بِقَوْلِهِ: أَيْ فِي الظَّاهِرِ) . وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ (3) .
وَمُقْتَضَى حُكْمِ الشَّافِعِيَّةِ بِكَرَاهَةِ الإِْخْلاَفِ عَدَمُ
إِجْبَارِ الْمُخْلِفِ عَلَى التَّنْفِيذِ (4) .
ب - إِخْلاَفُ الشَّرْطِ:
الأَْصْل فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا، فَإِذَا أَخْلَفَهُ،
اعْتُبِرَ إِخْلاَفُهُ إِخْلاَلاً بِالْعَقْدِ أَوْ مُثْبِتًا خِيَارًا،
عَدَا بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ يَضُرُّ الإِْخْلاَل بِهَا فِي
النِّكَاحِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّهَا تُعْتَبَرُ مُلْغَاةً مُنْذُ
اشْتِرَاطِهَا عِنْدَ الْبَعْضِ، كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي
كِتَابِ النِّكَاحِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر 2 / 110، وانظر شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر،
ومحمد خالد الأتاسي، المادة 84
(2) الفروق 2 / 25
(3) مطالب أولي النهى 6 / 434، وكشاف القناع 6 / 284، والإنصاف 11 / 152
(4) الروضة للنووي 5 / 390، وشرح الأذكار 6 / 258، 259، والقليوبي 3 / 28
(2/326)
أَدَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْدَاءُ: الإِْيصَال يُقَال: أَدَّى الشَّيْءَ أَوْصَلَهُ، وَأَدَّى
دَيْنَهُ تَأْدِيَةً أَيْ قَضَاهُ. وَالاِسْمُ: الأَْدَاءُ. كَذَلِكَ
الأَْدَاءُ وَالْقَضَاءُ يُطْلَقَانِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الإِْتْيَانِ
بِالْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ وَقَضَائِهَا،
وَبِغَيْرِ الْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالأَْمَانَةِ،
وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) . وَفِي اصْطِلاَحِ الْجُمْهُورِ
مِنَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: الأَْدَاءُ فِعْل بَعْضِ (وَقِيل
كُل) مَا دَخَل وَقْتُهُ قَبْل خُرُوجِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا،
أَمَّا مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زَمَانٌ فِي الشَّرْعِ، كَالنَّفْل
وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالزَّكَاةِ، فَلاَ يُسَمَّى فِعْلُهُ أَدَاءً
وَلاَ قَضَاءً (2) . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ
مَا ثَبَتَ بِالأَْمْرِ. وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْرِيفِ التَّقْيِيدُ
بِالْوَقْتِ لِيَشْمَل أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَالأَْمَانَاتِ
وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَعُمُّ فِعْل
الْوَاجِبِ وَالنَّفَل. وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الأَْدَاءِ
وَالْقَضَاءِ عَلَى الآْخَرِ مَجَازًا شَرْعِيًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والتلويح على التوضيح 1 / 160 ط صبيح،
وكشاف اصطلاحات الفنون ص 100
(2) جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني 1 / 109 ط الأزهرية، والبدخشي
مع الأسنوي 1 / 64 ط صبيح، والتلويح 1 / 160 ط صبيح
(2/327)
مَنَاسِكَكُمْ} (1) أَيْ أَدَّيْتُمْ،
وَكَقَوْلِكَ: نَوَيْتُ أَدَاءَ ظُهْرِ الأَْمْسِ (2) .
2 - وَالأَْدَاءُ إِمَّا مَحْضٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ كَامِلاً كَصَلاَةِ
الْمَكْتُوبَةِ فِي جَمَاعَةٍ، أَمْ قَاصِرًا كَصَلاَةِ الْمُنْفَرِدِ؛
وَإِمَّا غَيْرُ مَحْضٍ، وَهُوَ الشَّبِيهُ بِالْقَضَاءِ، كَفِعْل
اللاَّحِقِ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّل الصَّلاَةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفَاتَهُ
الْبَاقِي فَأَتَمَّ صَلاَتَهُ بَعْدَ فَرَاغِ الإِْمَامِ، فَفِعْلُهُ
أَدَاءٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِي الْوَقْتِ، قَضَاءٌ بِاعْتِبَارِ
فَوَاتِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الأَْدَاءِ مَعَ الإِْمَامِ، فَهُوَ يَقْضِي
مَا انْعَقَدَ لَهُ إِحْرَامُ الإِْمَامِ، مِنَ الْمُتَابَعَةِ
وَالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ بِمِثْلِهِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
3 - الْقَضَاءُ لُغَةً: مَعْنَاهُ الأَْدَاءُ. وَاسْتَعْمَلَهُ
الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ الآْتِي، خِلاَفًا لِلْوَضْعِ
اللُّغَوِيِّ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَْدَاءِ. وَاصْطِلاَحًا:
مَا فُعِل بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ أَدَائِهِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ
لِفِعْلِهِ مُقْتَضٍ، أَوْ تَسْلِيمِ مِثْل مَا وَجَبَ بِالأَْمْرِ، كَمَا
يَقُول الْحَنَفِيَّةُ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَْدَاءِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ مُرَاعَاةُ قَيْدِ الْوَقْتِ فِي الأَْدَاءِ دُونَ
الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُرَاعَاةُ
__________
(1) سورة البقرة / 200
(2) التلويح 1 / 161، 162، وشرح المنار ص 150، 154 ط العثمانية، وكشاف
اصطلاحات الفنون ص 102 ط الهند، وكشف الأسرار 1 / 135 وما بعدها ط مكتبة
الصنايع.
(3) التلويح 1 / 116، وكشاف اصطلاحات الفنون ص 102
(2/327)
الْعَيْنِ فِي الأَْدَاءِ وَالْمِثْل فِي
الْقَضَاءِ، إِذِ الأَْدَاءُ كَمَا سَبَقَ هُوَ فِعْل الْمَأْمُورِ بِهِ
فِي وَقْتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَهُ وَقْتٌ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي
أَيِّ وَقْتٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ.
ب - الإِْعَادَةُ:
4 - الإِْعَادَةُ لُغَةً: رَدُّ الشَّيْءِ ثَانِيًا، وَاصْطِلاَحًا: مَا
فُعِل فِي وَقْتِ الأَْدَاءِ ثَانِيًا لِخَلَلٍ فِي الأَْوَّل وَقِيل
لِعُذْرٍ. فَالصَّلاَةُ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ مُنْفَرِدًا
تَكُونُ إِعَادَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ طَلَبَ الْفَضِيلَةِ عُذْرٌ (1) ،
فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الأَْدَاءِ السَّبْقُ وَعَدَمُهُ.
الأَْدَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ:
5 - الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَمْ تُحَدَّدْ بِوَقْتٍ لاَ تُوصَفُ
بِالأَْدَاءِ بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ، أَيِ الَّذِي يُقَابِل
الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا لَفْظَ الأَْدَاءِ إِطْلاَقًا لُغَوِيًّا بِمَعْنَى
الإِْتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الأَْعَمِّ مِنَ الأَْدَاءِ الَّذِي
يُقَابِل الْقَضَاءَ. وَلِذَلِكَ يَقُول الشَّبْرَامُلْسِيُّ عِنْدَ
الْكَلاَمِ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ - أَيْ دَفْعِهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ
بِالأَْدَاءِ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ لاَ
وَقْتَ لَهَا مُحَدَّدًا حَتَّى تَصِيرَ قَضَاءً بِخُرُوجِهِ (2) . أَمَّا
الْحَنَفِيَّةُ فَغَيْرُ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا
وَعُرْفًا، وَالْقَضَاءُ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْمُوَقَّتِ (3) .
__________
(1) التلويح 1 / 161، وجمع الجوامع 1 / 109 - 118 والبدخشي 1 / 64
(2) نهاية المحتاج 3 / 134، والتلويح 1 / 160، 204، وجمع الجوامع 1 / 110
(3) كشف الأسرار 1 / 136، 146، وابن عابدين 1 / 487 ط بولاق.
(2/328)
أَقْسَامُ الْعِبَادَاتِ بِاعْتِبَارِ
وَقْتِ الأَْدَاءِ:
6 - الْعِبَادَاتُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الأَْدَاءِ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ
وَمُؤَقَّتَةٌ.
فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ يُقَيَّدْ أَدَاؤُهَا بِوَقْتٍ
مُحَدَّدٍ لَهُ طَرَفَانِ؛ لأَِنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ
الْوَقْتِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ
وَاجِبَةً كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ مَنْدُوبَةً كَالنَّفْل
الْمُطْلَقِ (1) .
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ: فَهِيَ مَا حَدَّدَ الشَّارِعُ
وَقْتًا مُعَيَّنًا لأَِدَائِهَا، لاَ يَجِبُ الأَْدَاءُ قَبْلَهُ،
وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا،
وَذَلِكَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَوَقْتُ
الأَْدَاءِ إِمَّا مُوَسَّعٌ وَأَمَّا مُضَيَّقٌ.
فَالْمُضَيَّقُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَسَعُ الْفِعْل وَحْدَهُ،
وَلاَ يَسَعُ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَذَلِكَ كَرَمَضَانَ فَإِنَّ وَقْتَهُ لاَ
يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ، وَيُسَمَّى مِعْيَارًا أَوْ
مُسَاوِيًا (2) .
وَالْمُوَسَّعُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَفْضُل عَنْ أَدَائِهِ،
أَيْ أَنَّهُ يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ الْفِعْل وَأَدَاءِ غَيْرِهِ مِنْ
جِنْسِهِ، وَذَلِكَ كَوَقْتِ الظُّهْرِ مَثَلاً، فَإِنَّهُ يَسَعُ أَدَاءَ
صَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءَ صَلَوَاتٍ أُخْرَى، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى
ظَرْفًا (3) . وَالْحَجُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْتَبَهُ وَقْتُ
أَدَائِهِ بِالْمُوَسَّعِ وَالْمُضَيَّقِ؛ لأَِنَّ الْمُكَلَّفَ لاَ
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَدِّيَ
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 146، 213، وجمع الجوامع 1 / 109،192 وما بعدها،
والتلويح 1 / 202 وما بعدها.
(2) كشف الأسرار 1 / 213، والتلويح 1 / 202، وفواتح الرحموت شرح مسلم
الثبوت 1 / 71
(3) فواتح الرحموت 1 / 71، والتلويح 1 / 202، وشرح البدخشي 1 / 89 ط صبيح،
والقواعد والفوائد الأصولية ص 70 ط السنة المحمدية.
(2/328)
حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ
بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُضَيَّقَ، وَلَكِنْ أَعْمَال الْحَجِّ لاَ
تَسْتَوْعِبُ وَقْتَهُ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُوَسَّعَ، هَذَا عَلَى
اعْتِبَارِهِ مِنَ الْوَقْتِ، وَقِيل إِنَّهُ مِنَ الْمُطْلَقِ
بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُمْرَ وَقْتٌ لِلأَْدَاءِ كَالزَّكَاةِ (1) .
صِفَةُ الأَْدَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - الْعِبَادَاتُ إِمَّا فَرْضٌ أَوْ مَنْدُوبٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا
كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ
وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ
الأَْهْل أَدَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، إِذَا تَحَقَّقَ
سَبَبُهَا، وَتَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا. فَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ
مُحَدَّدَةً بِوَقْتٍ لَهُ طَرَفَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْتُ
مُوَسَّعًا، كَوَقْتِ الصَّلاَةِ، أَمْ كَانَ مُضَيَّقًا كَرَمَضَانَ
فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَلاَ يَجُوزُ
أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلاَ أَنْ تَتَأَخَّرَ عَنْهُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛
لأَِنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ دُونَ أَدَاءٍ،
وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تَقْتَضِيَ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الأَْدَاءُ
فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ
بِالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ زَمَنٌ فَارِغٌ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ
يَخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِصِحَّةِ الأَْدَاءِ فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ يَكْفِي مُطْلَقُ النِّيَّةِ؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ لَمَّا
كَانَ مِعْيَارًا فَلاَ يَصْلُحُ لِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَعِنْدَ
الْجُمْهُورِ لاَ بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَمْ
يُجْزِهِ (2) .
__________
(1) شرح مسلم الثبوت 1 / 71، والتلويح 1 / 202، والبدخشي 1 / 92، وجمع
الجوامع 1 / 191
(2) التلويح 1 / 208، والبدخشي 1 / 89، وكشف الأسرار 1 / 214، والبدائع 1 /
96، والمهذب 1 / 187، ومنتهى الإرادات 1 / 437، 445، ومنح الجليل 1 / 384،
387
(2/329)
أَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْجُزْءِ الَّذِي
يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الأَْدَاءِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ الْكُل
لاَ جُزْءٌ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ يَقْتَضِي إِيقَاعَ الْفِعْل فِي
أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ (1) ، وَهُوَ
يَتَنَاوَل جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَلَيْسَ تَعْيِينُ بَعْضِ الأَْجْزَاءِ
لِوُجُوبِ الأَْدَاءِ بِأَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ الْبَعْضِ الآْخَرِ، إِلاَّ
أَنَّ الأَْدَاءَ يَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ مَعَ الإِْمْكَانِ، وَقِيل
يُسْتَحَبُّ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَوَّل الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ (2) .
وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ؛ لأَِنَّ
عَدَمَ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيهِ ضِيقٌ عَلَى النَّاسِ، فَسُمِحَ لَهُمْ
بِالتَّأْخِيرِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ
التَّأْخِيرُ لَكِنْ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْل، فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ
أَثِمَ. وَإِنْ ظَنَّ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ إِلَى آخِرِ
الْوَقْتِ، الْمُوَسَّعِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ
التَّأْخِيرُ اعْتِبَارًا بِظَنِّهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ وَمَاتَ عَصَى
اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بَل عَاشَ وَفَعَل فِي آخِرِ الْوَقْتِ
فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ أَدَاءٌ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِصِدْقِ
__________
(1) حديث: " الوقت ما بين. . . " أخرجه مسلم (1 / 370،371) تحقيق محمد فؤاد
عبد الباقي، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة وأحمد
(الدراية 1 / 98 - 100)
(2) أخرجه الدارقطني، وله اللفظ المذكور (الفتح الكبير 1 / 466) . وأخرجه
الترمذي (1 / 321 ط البابي الحلبي - تحقيق أحمد شاكر 1356 هـ) بلفظ: "
الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله ". وفي سنده راو
منكر الحديث، وفي الباب عن غير ابن عمر، إلا أن الإمام أحمد قال: لا أعرف
شيئا يثبت فيه، يعني في هذا الباب (تلخيص الحبير 1 / 180) .
(2/329)
تَعْرِيفِ الأَْدَاءِ عَلَيْهِ، وَلاَ
عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ.
وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقْتُ الأَْدَاءِ هُوَ
الْجُزْءُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْفِعْل، وَأَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَجِبُ
فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ
مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى
الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْل حَتَّى إِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَوَّل
الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ
أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ
مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا - وَهُوَ مُقِيمٌ - يَجِبُ
عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلأَْدَاءِ فِعْلاً وَيَأْثَمُ
بِتَرْكِ التَّعْيِينِ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ: إِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ
يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَعَلَى هَذَا، فَإِنْ قَدَّمَهُ ثُمَّ
زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ قَبْل آخِرِ الْوَقْتِ فَالْمُؤَدَّى نَفْلٌ. وَقَال
بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّل
الْوَقْتِ فَإِنْ أَخَّرَهُ فَهُوَ قَضَاءٌ. وَكِلاَ الْفَرِيقَيْنِ
مِمَّنْ يُنْكِرُونَ التَّوَسُّعَ فِي الْوُجُوبِ (1) .
بِمَ يَتَحَقَّقُ الأَْدَاءُ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ؟
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُمْكِنُ بِهِ إِدْرَاكُ الْفَرْضِ
إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ
بِرَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا فِي الْوَقْتِ، فَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً فِي
الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْجَمِيعِ، لِمَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) شرح البدخشي 1 / 89، والتلويح 1 / 207، وجمع الجوامع 1 / 187 وما
بعدها، والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص 70، 71، مطبعة أنصار
السنة، والفروق للقرافي 2 / 75 وما بعدها ط دار المعرفة بيروت، والبدائع 1
/ 95، والمهذب 1 / 60 والمغني 1 / 395 ط الثالثة بمطبعة المنار.
(2/330)
قَال: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ
الصُّبْحِ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ،
وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ
فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ (1) ، وَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّهَا
تُدْرَكُ بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ
الْحَنَابِلَةِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ الصَّلاَةِ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ،
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّل سَجْدَةٍ مِنْ
صَلاَةِ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ،
وَإِذَا أَدْرَكَ أَوَّل سَجْدَةٍ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْل أَنْ
تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَدْ
أَدْرَكَ؛ وَلأَِنَّ الإِْدْرَاكَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فِي
الصَّلاَةِ اسْتَوَى فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا دُونَهَا. وَقَال بَعْضُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا
صَلَّى فِي الْوَقْتِ قَاضِيًا لِمَا صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ،
اعْتِبَارًا لِكُل جُزْءٍ بِزَمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ
ذَلِكَ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَحْدَهَا، فَإِنَّهَا لاَ تُدْرَكُ إِلاَّ
بِأَدَائِهَا كُلِّهَا قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ
بِطُرُوءِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ عَلَى الْوَقْتِ الْكَامِل، وَلِذَا
عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ (3)
__________
(1) حديث أبو هريرة: " من أدرك. . . " متفق عليه (تلخيص الحبير 1 / 175)
(2) حديث أبي هريرة " إذا أدرك أحدكم. . . " رواه النسائي، وهذا لفظه (1 /
257) ط المكتبة التجارية، ورواه مسلم من حديث عائشة (1 / 424)
(3) ابن عابدين 1 / 242، ومنح الجليل 1 / 111، والمهذب 1 / 60، ونهاية
المحتاج 1 / 360، 361، والدسوقي 1 / 182، والمغني 1 / 377، 378، ومنتهى
الإرادات 1 / 136، ومراقي الفلاح 180 بحاشية الطحطاوي.
(2/330)
وَأَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُطْلَقًا
كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الأَْدَاءِ بِنَاءً عَلَى
اخْتِلاَفِهِمْ فِي الأَْمْرِ بِهِ، هَل هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى
التَّرَاخِي؟ وَالْكَلاَمُ فِيهِ عَلَى مِثَال مَا قِيل فِيمَا كَانَ
وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيل الأَْدَاءِ فِي أَوَّل
أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بِدُونِ عَزْمٍ عَلَى
الْفِعْل، أَوْ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَلاَ يَجِبُ التَّعْجِيل وَلاَ
يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ، لَكِنَّ
الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَتَضَيَّقُ فِي
آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الأَْدَاءِ قَبْل
مَوْتِهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ
أَثِمَ بِتَرْكِهِ (1) . هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ
سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُوَقَّتَةً أَمْ مُطْلَقَةً.
9 - أَمَّا الْمَنْدُوبُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ
الْمَنْدُوبَ حُكْمُهُ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْل وَعَدَمُ اللَّوْمِ عَلَى
التَّرْكِ، لَكِنَّ فِعْلَهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ. وَمِنَ الْمَنْدُوبِ
مَا هُوَ مُوَقَّتٌ كَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْل الظُّهْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ
بَعْدَهُ، وَمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ،
وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسَبَّبٌ كَصَلاَةِ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ، وَمِنْهُ
مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالتَّهَجُّدِ. وَمِثْل ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ أَيْضًا،
فَمِنْهُ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ، كَصِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ
الْحَاجِّ، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمِنْهُ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ
الإِْنْسَانُ فِي أَيِّ يَوْمٍ. وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي
فَضْل مَا زَادَ عَلَى الْفَرْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ
وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الصَّلاَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 96، 104، 118، وابن عابدين 2 / 28، والمغني 2 / 684
و 3 / 341، ومنتهى الإرادات 1 / 416، ونهاية المحتاج 3 / 229 والمهذب 1 /
147، 206
(2/331)
بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْل (1)
.
وَقَوْلُهُ: صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ (2) . وَكَذَلِكَ
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُول اللَّهِ أَنَّهُ
قَال: مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (3) . وَهَذِهِ
الْعِبَادَاتُ الْمَنْدُوبَةُ يُطْلَبُ أَدَاؤُهَا طَلَبًا لِلثَّوَابِ
وَلاَ يَجِبُ الأَْدَاءُ إِلاَّ مَا شُرِعَ فِيهِ، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ،
وَإِذَا فَسَدَ قَضَاهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيُسْتَحَبُّ
الإِْتْمَامُ إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ
إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ (4)
.
أَدَاءُ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ:
10 - يُشْتَرَطُ لأَِدَاءِ الْعِبَادَةِ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ مَعَ
الإِْمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ
الأَْدَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَانَ أَهْلاً لِلأَْدَاءِ فِي أَوَّل
الْوَقْتِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ عُذْرٌ
__________
(1) حديث: " أفضل الصلاة. . . " رواه مسلم، وهذا لفظه (2 / 821) ط الحلبي،
وأحمد (2 / 303، 329) ط الميمنية، وأبو داود (1 / 566) ط الحلبي.
(2) حديث: " صوم يوم عاشوراء. . . . " رواه مسلم وابن حبان من حديث أبي
قتادة (تلخيص الحبير 2 / 213) .
(3) حديث عائشة: " من ثابر. . . " رواه النسائي وابن ماجه والترمذي، وقال
الترمذي: غريب من هذا الوجه وقال النسائي: المغيرة بن زياد ليس بالقوي.
وقال أحمد ضعيف. وأخرجه مسلم من حديث عنبسة بن أبي سفيان عن أم جيبة (تلخيص
الحبير 2 / 12) .
(4) ابن عابدين 1 / 84، والبدائع 1 / 284 - 290، ونهاية المحتاج 3 / 124،
ومنتهى الإرادات 1 / 461، والمغني 2 / 140، ومنح الجليل 1 / 210، 409، 563،
والتلويح 1 / 125، وجمع الجوامع 1 / 90
(2/331)
فِي آخِرِهِ، كَمَنْ كَانَ أَهْلاً
لِلصَّلاَةِ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، فَلَمْ يُصَل حَتَّى طَرَأَ عَلَيْهِ
آخِرَ الْوَقْتِ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنَ الأَْدَاءِ، كَمَا إِذَا حَاضَتِ
الطَّاهِرَةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ نَفِسَتْ أَوْ جُنَّ الْعَاقِل أَوْ
أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ
وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ. فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ
يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ وَالأَْهْلِيَّةَ ثَابِتَةٌ
فِي أَوَّل الْوَقْتِ فَيَلْزَمُهُمُ الْقَضَاءُ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلاَ يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لأَِنَّ
الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الأَْدَاءُ
قَبْلَهُ، فَيَسْتَدْعِي الأَْهْلِيَّةَ فِيهِ؛ لاِسْتِحَالَةِ الإِْيجَابِ
عَلَى غَيْرِ الأَْهْل، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ.
وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ
عَرَفَةَ، خِلاَفًا لِبَعْضِ أَهْل الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ
حَيْثُ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ أَحْوَطُ.
أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً فِي أَوَّل الْوَقْتِ، ثُمَّ زَال
الْعُذْرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، كَمَا إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ فِي آخِرِ
الْوَقْتِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ
الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أَوْ سَافَرَ
الْمُقِيمُ فَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْل زُفَرَ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْفَرْضُ وَلاَ
يَتَغَيَّرُ الأَْدَاءُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا
يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْفَرْضِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ
يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَتَغَيَّرُ الأَْدَاءُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ
مِقْدَارُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ
وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ الْفَرْضُ
إِذَا بَقِيَ مِنَ
(2/332)
الْوَقْتِ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مَعَ زَمَنٍ
يَسَعُ الطُّهْرَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ
آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا بَقِيَ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَقَطْ (1) .
هَذَا مِثَالٌ لاِعْتِبَارِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ فِي بَعْضِ
الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. وَلِمَعْرِفَةِ التَّفَاصِيل (ر:
أَهْلِيَّةٌ. حَجٌّ. صَلاَةٌ. صَوْمٌ) .
11 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الأَْدَاءِ فَإِنَّ
الْمَطْلُوبَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا
الشَّرْعُ، فَفِي الصَّلاَةِ مَثَلاً يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا عَلَى
الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) ، فَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلاَةِ
عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالصِّفَةِ
الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِهَا أَدَاءَ الصَّلاَةِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ
الْقِيَامِ صَلَّى جَالِسًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ
فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (3) ، وَهَكَذَا (4) ،
وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ لِشَيْخُوخَةٍ أَوْ مَرَضٍ لاَ
يُرْجَى بُرْؤُهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ لِقَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (5) مَعَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 95، 96، والمهذب 1 / 60، 61، ومنح الجليل 1 / 111 -
114، والفروق للقرافي 2 / 137، والكافي 1 / 238، والدسوقي 1 / 185، 186 ط
دار الفكر، والمغني 1 / 373، 396، 397، نشر مكتبة الرياض الحديثة.
(2) متفق عليه (تلخيص الحبير 1 / 217 و 2 / 122)
(3) أخرجه البخاري والنسائي (تلخيص الحبير 1 / 225)
(4) المغني 4 / 143 ط الرياض، والمهذب 1 / 108 ط دار المعرفة بيروت، ومنح
الجليل 1 / 165، 166، والدسوقي 1 / 257 وما بعدها والبدائع 1 / 106
(5) سورة الحج / 78
(2/332)
الاِخْتِلاَفِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ
وَعَدَمِهَا، فَقِيل: تَجِبُ عَنْ كُل يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَقِيل:
لاَ تَجِبُ (1) . وَالْحَجُّ أَيْضًا لاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلاَّ عَلَى
الْمُسْتَطِيعِ بِالْمَال وَالْبَدَنِ وَالْمَحْرَمِ أَوِ الرُّفْقَةِ
الْمَأْمُونَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ. فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ
فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ (2) ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً (3) } .
12 - وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ
فَنَظَرًا لِلأَْهْلِيَّةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ
عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَجِبُ الزَّكَاةُ
فِي مَال الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ
بِالْمَال، وَيُؤَدِّي عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ
الْوَلِيِّ فِي الإِْخْرَاجِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجِبُ
عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا
مِنْ أَهْلِهَا (4) .
وَكَذَلِكَ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ
الْكَفَّارَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ: الْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الأَْدَاءِ لاَ بِوَقْتِ
الْوُجُوبِ، وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ
كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ
الْعِبْرَةَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ لاَ بِوَقْتِ الأَْدَاءِ. وَفِي قَوْلٍ
آخَرَ
__________
(1) المهذب 1 / 185 ومنتهى الإرادات 1 / 443 ط دار الفكر، ومنح الجليل 1 /
392، والدسوقي 1 / 516، وابن عابدين 2 / 123 ط الثالثة.
(2) المهذب 1 / 203، ومنتهى الإرادات 2 / 2، والكافي 1 / 356 ط مكتبة
الرياض، والبدائع 2 / 118
(3) سورة آل عمران / 97
(4) المغني 2 / 622، ومنح الجليل 1 / 344، والمهذب 1 / 147، وبدائع الصنائع
2 / 4، 5
(2/333)
لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ
يُعْتَبَرُ أَغْلَظُ الأَْحْوَال مِنْ حِينِ الْوُجُوبِ إِلَى حِينِ
التَّكْفِيرِ (1) .
تَعْجِيل الأَْدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ سَبَبِهِ:
13 - الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ بِوَقْتٍ، وَالَّتِي يُعْتَبَرُ
الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ فَإِنَّ
الْوَقْتَ فِيهِمَا سَبَبُ الْوُجُوبِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أَقِمِ
الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ (2) } ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (3) } . هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لاَ يَجُوزُ
تَعْجِيل الأَْدَاءِ فِيهَا عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
أَمَّا الْعِبَادَاتُ الَّتِي لاَ يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا
لِوُجُوبِهَا، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، كَالزَّكَاةِ، أَوِ
الْمُطْلَقَةِ الْوَقْتِ كَالْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ
يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ تَعْجِيل الأَْدَاءِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا
أَوْ عَنْ أَسْبَابِهَا: فَفِي الزَّكَاةِ مَثَلاً يَجُوزُ تَعْجِيل
الأَْدَاءِ قَبْل الْحَوْل مَتَى تَمَّ النِّصَابُ، وَذَلِكَ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَسَلَّفَ مِنَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَكَاةَ
عَامَيْنِ (4) ؛ وَلأَِنَّهُ حَقُّ مَالٍ أُجِّل لِلرِّفْقِ، فَجَازَ
تَعْجِيلُهُ قَبْل مَحِلِّهِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِخْرَاجُ
الْوَاجِبِ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ
كَالشَّهْرِ. وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ فَلاَ يَجُوزُ
__________
(1) البدائع 5 / 97، والكافي 1 / 454، ونهاية المحتاج 8 / 174، والمهذب 2 /
116، والمغني 7 / 381
(2) سورة الإسراء / 78
(3) سورة البقرة / 85
(4) أخرجه الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود وفي إسناده محمد بن ذكوان
وهو ضعيف (تلخيص الحبير 2 / 163)
(2/333)
إِخْرَاجُهَا قَبْل وَقْتِهَا إِلاَّ
بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ.
وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْل الْحِنْثِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، مَعَ تَخْصِيصِ الشَّافِعِيَّةِ التَّقْدِيمَ إِذَا كَانَ
بِغَيْرِ الصَّوْمِ، وَلاَ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْحِنْثِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (1) . وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ
فِي مَوَاضِعِهَا.
النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ:
14 - الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ
وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ هِيَ
عَلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ
الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَال، وَهُوَ يَحْصُل بِفِعْل النَّائِبِ.
15 - أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلاَةِ
وَالصَّوْمِ فَلاَ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ
بِاتِّفَاقٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ
إِلاَّ مَا سَعَى} ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ
أَحَدٍ (2) ، أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، لاَ فِي حَقِّ
الثَّوَابِ. أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ
عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 27، والبدائع 2 / 40، 50 و 5 / 97، ونهاية المحتاج 3 /
139 و 8 / 171، 172، والحطاب 4 / 275، ومنح الجليل 1 / 333، والكافي 1 /
303 وشرح. منتهى الإرادات 3 / 428 و 1 / 422، والمغني 9 / 30
(2) أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر موقوفا (الدراية 1 / 283) ، وذكره مالك
بلاغا من قول ابن عمر كذلك (الموطأ بتحقيق محمد عبد الباقي 1 / 303)
(2/334)
مِنَ الصَّلَوَاتِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي
الصَّلاَةِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ
فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ، وَمَاتَ قَبْل إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَلاَ
شَيْءَ عَلَيْهِ، أَيْ لاَ يُفْدَى عَنْهُ وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، أَمَّا
إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ
قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ، لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ
بَدَنِيَّةٌ، فَلاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ
فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ، بَل
يُنْدَبُ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ
وَلِيُّهُ (2) وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الأَْظْهَرُ. قَال السُّبْكِيُّ:
وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْمُفْتَى بِهِ،
وَالْقَوْلاَنِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ
يُؤَدَّ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي
الصَّلاَةِ أَوِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ بِأَصْل الشَّرْعِ - أَيِ
الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ - لأَِنَّ هَذِهِ
الْعِبَادَاتِ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ
الْمَوْتِ كَذَلِكَ. أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ
بِالنَّذْرِ، مِنْ صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَمَكَّنْ
مِنْ فِعْل الْمَنْذُورِ، كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَمَاتَ
قَبْل حُلُولِهِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الأَْدَاءِ
وَلَمْ يَفْعَل حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْل النَّذْرِ عَنْهُ؛
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ
__________
(1) البدائع 2 / 212 ط شركة. المطبوعات العلمية، وابن عابدين 1 / 514 و 2 /
121 - 130 و 5 / 96 ط بولاق ثالثة، والحطاب 2 / 543، 544 نشر مكتبة النجاح،
والفروق 2 / 205، 3 / 188،. وكشف الأسرار 1 / 150
(2) متفق عليه من حديث عائشة (تلخيص الحبير 2 / 209)
(3) نهاية المحتاج 3 / 184 - 187
(2/334)
امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي
مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال: أَرَأَيْتِ
لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ
عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ (1) . وَلأَِنَّ
النِّيَابَةَ تَدْخُل فِي الْعِبَادَةِ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ
أَخَفُّ حُكْمًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِأَصْل الشَّرْعِ. وَيَجُوزُ
لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْل مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ
وَبِدُونِ إِذْنِهِ (2) .
16 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ بِاعْتِبَارِ
مَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ. وَالْمَالِكِيَّةُ -
فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ
النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ. أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَتَصِحُّ
عِنْدَهُمُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ
بِالْعُذْرِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ؛ لِمَا رَوَاهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ
إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي
شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ
أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: نَعَمْ. (3)
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَال لِرَجُلٍ: أَرَأَيْتُكَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ
دَيْنٌ، فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ قُبِل مِنْكَ؟ قَال: نَعَمْ، فَقَال
__________
(1) حديث ابن عباس: " جاءت امرأة. . . أخرجه مسلم (2 / 804 تحقيق محمد عبد
الباقي) ورواه البخاري ببعض اختلاف في ألفاظه 3 / 44 ط محمد علي صبيح.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 121، 417، 418، 457، 458، والمغني 9 / 31
(3) حديث ابن عباس: " إن امرأة من خثعم. . . " أخرجه مسلم (2 / 973) ، وهذا
لفظه، وأخرجه البخاري (تلخيص الحبير 2 / 224)
(2/335)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَاللَّهُ أَرْحَمُ. حُجَّ عَنْ أَبِيكَ. (1)
وَضَابِطُ الْعُذْرِ الَّذِي تَصِحُّ مَعَهُ النِّيَابَةُ هُوَ الْعَجْزُ
الدَّائِمُ إِلَى الْمَوْتِ، وَذَلِكَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ
وَالْمَرِيضِ الَّذِي لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ. فَهَؤُلاَءِ إِذَا وَجَدُوا
مَالاً يَلْزَمُهُمُ الاِسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُمْ.
وَمَنْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لِلْعُذْرِ الدَّائِمِ، ثُمَّ زَال الْعُذْرُ
قَبْل الْمَوْتِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ
عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لأَِنَّ جَوَازَ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ
ثَبَتَ بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ، لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لاَ يُرْجَى
زَوَالُهُ، فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْزِئُ حَجُّ الْغَيْرِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ
الْفَرْضُ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ،
كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ. لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا عُوفِيَ
بَعْدَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ، فَإِذَا عُوفِيَ قَبْل فَرَاغِ
النَّائِبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ
عَلَى الأَْصْل قَبْل تَمَامِ الْبَدَل، وَيُحْتَمَل أَنْ يُجْزِئَهُ،
وَإِنْ بَرَأَ قَبْل إِحْرَامِ النَّائِبِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ بِالإِْجْزَاءِ وَعَدَمِهِ وَالْمَرِيضُ
الَّذِي يُرْجَى زَوَال مَرَضِهِ وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ إِذَا أَحَجَّ
عَنْهُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْحَجُّ مَوْقُوفٌ. إِنْ مَاتَ
الْمَحْجُوجُ عَنْهُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ الْحَجُّ، وَإِنْ
زَال الْمَرَضُ أَوِ الْحَبْسُ قَبْل الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ. وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ
__________
(1) حديث: " أرايتك لو كان على أبيك دين. . . " أخرجه أحمد 6 / 429
(2) البدائع 2 / 212، وابن عابدين 2 / 244،245، 247
(2/335)
يَسْتَنِيبَ أَصْلاً؛ لأَِنَّهُ لَمْ
يَيْأَسْ مِنَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلاَ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ
كَالصَّحِيحِ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ
وَلَوْ لَمْ يَبْرَأْ؛ لأَِنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ
بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ الاِسْتِنَابَةُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ
عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ
أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إِذَا مَاتَ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَّا
أَنَّهُ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْهُ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ
فِي الْحَجِّ مُطْلَقًا. وَقِيل تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ
لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، قَال الْبَاجِيُّ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ
لِلْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرِمِ.
وَقَال أَشْهَبُ: إِنْ آجَرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ
لِلْخِلاَفِ (2) . وَسَوَاءٌ فِيمَا مَرَّ فِي الْمَذَاهِبِ حَجُّ
الْفَرِيضَةِ وَحَجُّ النَّذْرِ. وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحَجِّ (3)
.
17 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
تَجُوزُ فِيهِ الاِسْتِنَابَةُ بِعُذْرٍ وَبِدُونِ عُذْرٍ، وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ
فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا يَجُوزُ؛ لأَِنَّهَا حَجَّةٌ لاَ تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ،
فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا كَالْمَعْضُوبِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى
الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ كَالْفَرْضِ،
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ فِيمَا إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ: أَحَدُهُمَا
لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الاِسْتِنَابَةِ فِيهِ،
فَلَمْ تَجُزِ الاِسْتِنَابَةُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لأَِنَّ كُل عِبَادَةٍ جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي
فَرْضِهَا
__________
(1) المغني 3 / 227 - 230، والمهذب 1 / 206، ومغني المحتاج 1 / 469
(2) منح الجليل 1 / 449 - 455، والدسوقي 2 / 17، 18
(3) البدائع 2 / 212 و 5 / 96، وابن عابدين 4 / 244 وما بعدها ومغني
المحتاج 1 / 469 و 4 / 364، والمغني 3 / 227 وما بعدها.
(2/336)
جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهَا.
وَتُكْرَهُ الاِسْتِنَابَةُ فِي التَّطَوُّعِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
18 - وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ. أَمَّا
الْمَيِّتُ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: مَنْ مَاتَ قَبْل
أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ سَقَطَ فَرْضُهُ، وَلاَ يَجِبُ
الْقَضَاءُ عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ
وَلَمْ يُؤَدِّ لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ
تَرِكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَال: أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ
أُمِّي مَاتَتْ، وَلَمْ تَحُجَّ فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ (2) ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ
تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ،
كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ، وَمِثْل ذَلِكَ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ؛ لِمَا رَوَى
ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا
مَاتَتْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ
عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: فَاقْضِ اللَّهَ
فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ
فَلاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، فَإِذَا
أَوْصَى حُجَّ مِنْ تَرِكَتِهِ. وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ،
فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ
رَجُلاً جَازَ، وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 515 و 2 / 244، والمغني 3 / 230، والمهذب 1 / 306، ومنح
الجليل 1 / 449
(2) أخرجه مسلم 2 / 805 عيسى الحلبي.
(3) حديث: " إن أختي نذرت. . . " أخرجه البخاري 8 / 177 ط محمد علي صبيح.
(4) ابن عابدين 1 / 514، 515 و 2 / 245، والمغني 3 / 241 - 243، ومغني
المحتاج 1 / 468، والمهذب 1 / 206، ومنح الجليل 1 / 451
(2/336)
تَأْخِيرُ الأَْدَاءِ عَنْ وَقْتِ
الْوُجُوبِ:
19 - تَأْخِيرُ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ دُونَ عُذْرٍ
يُوجِبُ الإِْثْمَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ
بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا،
وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ. وَإِنْ كَانَتِ
الْعِبَادَاتُ وَقْتُهَا الْعُمْرُ، كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ فَإِنَّهُ
مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الأَْدَاءِ، كَحَوَلاَنِ الْحَوْل وَكَمَال
النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ إِمْكَانِ الأَْدَاءِ، وَلَمْ يَتِمَّ
الأَْدَاءُ تَرَتَّبَ الْمَال فِي الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ إِذَا
وُجِدَتِ الاِسْتِطَاعَةُ الْمَالِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ، وَلَمْ يُؤَدِّ
الْحَجَّ فَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الْمُطْلَقَةُ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ
مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ مَاتَ، وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ
أَوِ الْحَجَّ أَوِ النَّذْرَ أَوِ الْكَفَّارَةَ، وَكُل مَا كَانَ
وَاجِبًا مَالِيًّا، وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ، وَلَمْ يُؤَدَّ حَتَّى مَاتَ
الْمُكَلَّفُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ تُؤَدَّى
مِنْ تَرِكَتِهِ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ
سَقَطَتْ بِالنِّسْبَةِ لأَِحْكَامِ الدُّنْيَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِلتَّفْصِيل (ر: قَضَاءٌ. حَجٌّ. زَكَاةٌ.
نَذْرٌ) . هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ
كَانَتْ مُؤَقَّتَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ.
__________
(1) البدائع 2 / 103، 212، وابن عابدين 1 / 514، 515 و 2 / 121، والدسوقي 1
/ 263 و 4 / 442، ومنح الجليل 1 / 451، ونهاية المحتاج 3 / 151، والمهذب 1
/ 61، 182، 206، 250، ومنتهى الإرادات 1 / 417، 2 / 4، والمغني 3 / 242
(2/337)
20 - أَمَّا النَّفْل - سَوَاءٌ مِنْهُ
الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُتَرَتِّبُ بِسَبَبٍ أَوْ وَقْتٍ - فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي قَضَائِهِ إِذَا فَاتَ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ لاَ يُقْضَى شَيْءٌ مِنَ السُّنَنِ سِوَى سُنَّةُ
الْفَجْرِ. وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَتْ أُمُّ
سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل
حُجْرَتِي بَعْدَ الْعَصْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول
اللَّهِ: مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ لَمْ تَكُنْ
تُصَلِّيهِمَا مِنْ قَبْل؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ، وَفِي
رِوَايَةٍ: رَكْعَتَا الظُّهْرِ شَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ، فَكَرِهْتُ
أَنْ أُصَلِّيَهُمَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَيَرَوْنِي. فَقُلْتُ:
أَفَأَقْضِيهِمَا إِذَا فَاتَتَا؟ قَال: لاَ. (1) وَهَذَا نَصٌّ عَلَى
أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الأُْمَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ
اخْتُصَّ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيَاسُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ قَضَاءُ رَكْعَتَيِ
الْفَجْرِ أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ إِذَا فَاتَتَا
مَعَ الْفَرْضِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَعَلَهُمَا مَعَ الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ (2) ، فَنَحْنُ نَفْعَل
ذَلِكَ لِنَكُونَ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْوِتْرِ؛
لأَِنَّهُ
__________
(1) لم نجده بهذا اللفظ، وقد أخرجه بألفاظ مقاربة أحمد في مسنده 6 / 315 ط
الميمنية، وابن حبان في صحيحه (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 3 / 80 - 82
ط المكتبة السلفية بالمدينة) ، والبيهقي في " سننه " 2 / 484، 485 ط 2
بدائرة المعارف العثمانية. قال الهيثمي " رجال أحمد رجال الصحيح " (مجمع
الزوائد 2 / 224) ط القدسي.
(2) رواه بالمعنى مسلم (1 / 471، نشر محمد عبد الباقي) وأبو داود من حديث
أبي هريرة، في قصة التعريس في الوادي، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم
(الدراية في تخريج أحاديث الهداية ص 118)
(2/337)
وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَالْوَاجِبُ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَل (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى شَيْئًا مِنَ
التَّطَوُّعِ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ
الْعَصْرِ، وَقَال الْقَاضِي وَبَعْضُ الأَْصْحَابِ: لاَ يُقْضَى إِلاَّ
رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَرَكْعَتَا الظُّهْرِ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: تُقْضَى
جَمِيعُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَعْضَهَا وَقِسْنَا الْبَاقِيَ عَلَيْهِ. وَفِي
شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: يُسَنُّ قَضَاءُ الرَّوَاتِبِ إِلاَّ مَا
فَاتَ مَعَ فَرْضِهِ وَكَثُرَ فَالأَْوْلَى تَرْكُهُ، إِلاَّ سُنَّةَ
فَجْرٍ، فَيَقْضِيهَا مُطْلَقًا لِتَأَكُّدِهَا.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ
لاَ تُقْضَى؛ لأَِنَّهَا صَلاَةُ نَفْلٍ، فَلَمْ تُقْضَ، كَصَلاَةِ
الْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَالثَّانِي تُقْضَى (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ سَهَا
فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا (3) .
21 - وَأَمَّا قَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ إِذَا فَاتَتْ فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُقْضَى إِلاَّ إِذَا فَاتَتْ مَعَ الْفَجْرِ، وَإِذَا
فَاتَتْ وَحْدَهَا فَلاَ تُقْضَى. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تُقْضَى
سَوَاءٌ فَاتَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ الْفَجْرِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ
الَّذِي يَمْتَدُّ إِلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَعِنْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 287، ومنح الجليل 1 / 210، والدسوقي 1 / 319
(2) المغني 2 / 128 ومنتهى الإرادات 1 / 230 والمهذب 1 / 91
(3) ذكره بهذا اللفظ صاحب المهذب (1 / 91) وفي كتب الحديث " من نسي صلاة أو
نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها. . . " رواه الإمام أحمد والبخاري
ومسلم والترمذي والنسائي. الفتح الكبير (3 / 242)
(2/338)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: تُقْضَى
إِلَى الزَّوَال، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الضُّحَى، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ تُقْضَى أَبَدًا (1) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَكَانٍ آخَرَ (ر: نَفْلٌ. قَضَاءٌ) .
22 - وَمَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ النَّفْل الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ يَجِبُ
إِتْمَامُهُ، وَإِذَا فَسَدَ يُقْضَى. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ
الإِْتْمَامُ وَلاَ يَجِبُ، كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقَضَاءُ إِلاَّ
فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا إِذَا
شَرَعَ فِيهِمَا (2) .
الاِمْتِنَاعُ عَنِ الأَْدَاءِ:
23 - الْعِبَادَاتُ الْوَاجِبَةُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا أَوْ كِفَائِيًّا
كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَصَلاَةِ
الْجِنَازَةِ تُعْتَبَرُ مِنْ فَرَائِضِ الإِْسْلاَمِ وَمَعْلُومَةٌ مِنَ
الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَقَدْ وَرَدَ الأَْمْرُ بِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ
آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقَوْله تَعَالَى (3) {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَال} (4) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ (5) . وَهَذِهِ
الْعِبَادَاتُ يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ أَدَاؤُهَا عَلَى الصِّفَةِ
الَّتِي وَرَدَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 474 ومنح الجليل 1 / 210 والمجموع شرح المهذب 4 / 41،42
ط المنيرية والمغني 2 / 128
(2) البدائع 1 / 287 وابن عابدين 1 / 463 والشرح الصغير 1 / 408 ومنتهى
الإرادات 1 / 461 والمهذب 1 / 195
(3) سورة البقرة / 43
(4) سورة البقرة / 216
(5) أخرجه البخاري 1 / 10 ط محمد علي صبيح، ومسلم باختلاف يسير في ألفاظه 1
/ 45 بتحقيق محمد عبد الباقي.
(2/338)
بِهَا الشَّرْعُ. وَمَنِ امْتَنَعَ عَنْ
أَدَائِهَا فَإِنْ كَانَ جَاحِدًا لَهَا فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَافِرًا
يُقْتَل كُفْرًا بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ. وَإِنِ امْتَنَعَ عَنْ
أَدَائِهَا كَسَلاً فَفِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، كَالصَّلاَةِ
يُؤَدَّبُ وَيُعَزَّرُ، وَيُتْرَكُ إِلَى أَنْ يَتَضَيَّقَ الْوَقْتُ،
فَإِنْ ظَل عَلَى امْتِنَاعِهِ قُتِل حَدًّا لاَ كُفْرًا، وَهَذَا عِنْدَ
الْجُمْهُورِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى يُصَلِّيَ.
وَفِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ إِنِ امْتَنَعَ عَنْ
أَدَائِهَا بُخْلاً فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ كُرْهًا، وَيُقَاتَل
عَلَيْهَا كَمَا فَعَل أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَانِعِي
الزَّكَاةِ، أَمَّا تَارِكُ الْحَجِّ كَسَلاً فَسَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى
الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي فَإِنَّهُ يُتْرَكُ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ
بِهِ وَيُدَيَّنُ لأَِنَّ شَرْطَهُ الاِسْتِطَاعَةُ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ
عُذْرٌ بَاطِنِيٌّ لَمْ يُعْرَفْ.
24 - أَمَّا غَيْرُ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى
مَنْدُوبًا أَوْ سُنَّةً أَوْ نَافِلَةً فَهُوَ مَا يُثَابُ فَاعِلُهُ
وَلاَ يُذَمُّ تَارِكُهُ، وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ لأَِنَّ مِنَ
السُّنَّةِ مَا يُعْتَبَرُ إِظْهَارًا لِلدِّينِ، وَتَرْكُهَا يُوجِبُ
إِسَاءَةً وَكَرَاهِيَةً، وَذَلِكَ كَالْجَمَاعَةِ وَالأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ
الإِْسْلاَمِ، وَفِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ بِالشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَوِ
اتَّفَقَ أَهْل بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ بِخِلاَفِ
سَائِرِ الْمَنْدُوبَاتِ؛ لأَِنَّهَا تُفْعَل فُرَادَى (1) .
أَثَرُ الأَْدَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ:
25 - أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ بِاسْتِيفَاءِ
أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا يَسْتَلْزِمُ الإِْجْزَاءَ وَهَذَا
بِاتِّفَاقٍ عَلَى
__________
(1) الاختيار 1 / 103 والبدائع 1 / 141، 311، والمهذب 1 / 58، 62، 125، 183
و 2 / 228 ومنتهى الإرادات 1 / 117، 122، 305، 336، ومنح الجليل 1 / 117،
710 والتلويح على التوضيح 2 / 124، وشرح البدخشي 1 / 47، وابن عابدين 1 /
72 والشرح الصغير 1 / 246
(2/339)
تَفْسِيرِ الإِْجْزَاءِ بِمَعْنَى
الاِمْتِثَال بِالإِْتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ. وَأَنَّ ذَلِكَ
يُبَرِّئُ الذِّمَّةَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَعَلَى تَفْسِيرِ الإِْجْزَاءِ
بِمَعْنَى إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُهُ،
خِلاَفًا لِعَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ مِنْ أَنَّهُ لاَ
يَسْتَلْزِمُهُ. وَالْفِعْل الْمُؤَدَّى عَلَى وَجْهِهِ الْمَشْرُوعِ
يُوصَفُ بِالصِّحَّةِ، وَإِلاَّ فَبِالْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلاَنِ، مَعَ
تَفْرِيقِ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل. وَالصِّحَّةُ
أَعَمُّ مِنَ الإِْجْزَاءِ؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ صِفَةً لِلْعِبَادَاتِ
وَالْمُعَامَلاَتِ، أَمَّا الإِْجْزَاءُ فَلاَ يُوصَفُ بِهِ إِلاَّ
الْعِبَادَاتُ (1) .
وَإِذَا كَانَتِ الْعِبَادَاتُ الْمُسْتَجْمَعَةُ شَرَائِطُهَا
وَأَرْكَانُهَا تُبَرِّئُ الذِّمَّةَ بِلاَ خِلاَفٍ فَإِنَّهُ قَدِ
اخْتُلِفَ فِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ أَوْ عَدَمِ
تَرَتُّبِهِ، فَقِيل: إِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْ إِبْرَاءِ الذِّمَّةِ
تَرَتُّبُ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْل، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ يُبَرِّئُ
الذِّمَّةَ بِالْفِعْل وَلاَ يُثِيبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ،
وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَبُول، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ
الْقَبُول وَالثَّوَابَ غَيْرُ الإِْجْزَاءِ وَغَيْرُ الْفِعْل الصَّحِيحِ.
وَقِيل: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِ وَاجِبٌ صَحِيحٌ يُجْزِئُ
إِلاَّ وَهُوَ مَقْبُولٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ
سَعَةِ الثَّوَابِ، وَالآْيَاتِ وَالأَْحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِوَعْدِ
الْمُطِيعِ بِالثَّوَابِ (2) .
__________
(1) جمع الجوامع 1 / من 100الى 105 ط مصطفى الحلبي الثانية، والبدخشي من 1
/ 57 إلى 60 وما بعدها ط صبيح، ومسلم الثبوت 1 / 120، 393، والتلويح 2 /
122
(2) الفروق للقرافي 2 / 50 وما بعدها، وهامش الفروق 2 / 78 ط دار المعرفة
بيروت.
(2/339)
أَدَاءُ الشَّهَادَةِ
حُكْمُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
26 - أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (1) ، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (2) ، فَإِذَا تَحَمَّلَهَا جَمَاعَةٌ
وَقَامَ بِأَدَائِهَا مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ الأَْدَاءُ
عَنِ الْبَاقِينَ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا حِفْظُ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ
يَحْصُل بِبَعْضِهِمْ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْكُل أَثِمُوا جَمِيعًا لِقَوْل
اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (3) ، وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ
فَلَزِمَ الأَْدَاءُ عِنْدَ الطَّلَبِ. وَقَدْ يَكُونُ أَدَاءُ
الشَّهَادَةِ فَرْضَ عَيْنٍ إِذَا كَانَ لاَ يُوجَدُ غَيْرُهُ مِمَّنْ
يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ، وَتَوَقَّفَ الْحَقُّ عَلَى شَهَادَتِهِ
فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الأَْدَاءُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل
الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِهِ.
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ
الْعِبَادِ وَأَسْبَابِهَا أَيْ فِي مَحْضِ حَقِّ الآْدَمِيِّ، وَهُوَ مَا
لَهُ إِسْقَاطُهُ كَالدَّيْنِ وَالْقِصَاصِ فَلاَ بُدَّ مِنْ طَلَبِ
الْمَشْهُودِ لَهُ لِوُجُوبِ الأَْدَاءِ، فَإِذَا طُلِبَ وَجَبَ عَلَيْهِ
الأَْدَاءُ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَأْثَمُ، وَلاَ
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَبْل طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي،
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو
الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُل قَبْل أَنْ
__________
(1) سورة الطلاق / 2
(2) سورة البقرة / 282
(3) سورة البقرة / 283
(2/340)
يُسْتَشْهَدَ. (1) وَلأَِنَّ أَدَاءَهَا
حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، فَلاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَإِذَا
لَمْ يَعْلَمْ رَبُّ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ الشَّاهِدَ تَحَمَّلَهَا
اسْتُحِبَّ لِمَنْ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ إِعْلاَمُ رَبِّ الشَّهَادَةِ
بِهَا.
وَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَفِيمَا سِوَى الْحُدُودِ، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِهَا مِنْ
أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ فَيَلْزَمُهُ الأَْدَاءُ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى
عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الأَْدَاءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْعِبَادِ.
وَأَمَّا فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ
الْخَمْرِ فَالسَّتْرُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ
اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (2) ، وَلأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَرْءِ
الْحَدِّ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الأَْوْلَى السَّتْرُ إِلاَّ
إِذَا كَانَ الْجَانِي مُتَهَتِّكًا، وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال
الْمَالِكِيَّةُ (3) .
27 - وَإِذَا وَجَبَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى إِنْسَانٍ وَلَكِنَّهُ
عَجَزَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، كَأَنْ دُعِيَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ
أَوْ كَانَ سَيَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ
فَلاَ يَلْزَمُهُ الأَْدَاءُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُضَارَّ
كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ (4) } ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ
__________
(1) أخرجه البخاري (7 / 3 ط السلفية) .
(2) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه (الفتح الكبير 3 / 243)
ورواه البخاري بلفظ مقارب.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر 4 / 387 ط بولاق الثالثة والبدائع 6 / 282 ط
الجمالية ومغني المحتاج 4 / 451 ط مصطفى الحلبي والشرح الصغير 4 / 249 ط
دار المعارف والمغني 9 / 147، 206 ط الرياض الحديثة والمهذب للشيرازي 2 /
323 وكشاف القناع 6 / 406 ط الرياض والدسوقي 4 / 175
(4) سورة البقرة / 282
(2/340)
ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (1) . وَلأَِنَّهُ
لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَضُرَّ نَفْسَهُ لِنَفْعِ غَيْرِهِ.
كَذَلِكَ قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لاَ يَجِبُ الأَْدَاءُ إِذَا كَانَ
الْحَاكِمُ غَيْرَ عَدْلٍ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: كَيْفَ أَشْهَدُ
عِنْدَ رَجُلٍ لَيْسَ عَدْلاً، لاَ أَشْهَدُ (2) .
كَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
28 - يُعْتَبَرُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي أَدَائِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، فَيَقُول: أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِكَذَا وَنَحْوَهُ؛
لأَِنَّ الشَّهَادَةَ مَصْدَرُ شَهِدَ يَشْهَدُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ
الإِْتْيَانِ بِفِعْلِهَا الْمُشْتَقِّ مِنْهَا؛ وَلأَِنَّ فِيهَا مَعْنًى
لاَ يَحْصُل فِي غَيْرِهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ، وَلَوْ قَال: أَعْلَمُ أَوْ
أَتَيَقَّنُ أَوْ أَعْرِفُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ،
إِلاَّ أَنَّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لأَِدَاءِ
الشَّهَادَةِ صِيغَةً مَخْصُوصَةً بَل قَالُوا: الْمَدَارُ فِيهَا عَلَى
مَا يَدُل عَلَى حُصُول عِلْمِ الشَّاهِدِ بِمَا شَهِدَ بِهِ كَرَأَيْتُ
كَذَا أَوْ سَمِعْتُ كَذَا وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ (3) .
وَلِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا شُرُوطٌ تَفْصِيلُهَا فِي
مُصْطَلَحِ (شَهَادَةٌ) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ مرسلا، وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس وعبادة بن
الصامت وأخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي والدارقطني (الأشباه والنظائر
للسيوطي ص 75، 76) ط التجارية وقال المناوي في فيض القدير (6 / 432) ط
التجارية: " قال الهيثمي رجاله ثقات وقال النووي في الأذكار هو حسن ".
(2) مغني المحتاج 4 / 451، ومنتهى الإرادات 3 / 535 والشرح الصغير 4 / 285
(3) البدائع 6 / 273، والهداية 3 / 118، والشرح الصغير 2 / 348 ط الحلبي،
والمغني 9 / 216، ومغني المحتاج 4 / 453
(2/341)
أَدَاءُ الدَّيْنِ
مَفْهُومُ الدَّيْنِ:
29 - الدَّيْنُ هُوَ الْوَصْفُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ هُوَ
اشْتِغَال الذِّمَّةِ بِمَالٍ وَجَبَ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ عَقْدًا كَالْبَيْعِ وَالْكَفَالَةِ وَالصُّلْحِ وَالْخُلْعِ، أَمْ
تَبَعًا لِلْعَقْدِ كَالنَّفَقَةِ، أَمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَالْغَصْبِ
وَالزَّكَاةِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَال
الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ مَجَازًا، لأَِنَّهُ يَؤُول إِلَى الْمَال (1) .
حُكْمُ أَدَاءِ الدَّيْنِ:
30 - أَدَاءُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَجَبَ فَرْضٌ
بِالإِْجْمَاعِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ (2) } . وَهُوَ يُعْتَبَرُ كَمَا قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا
فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ الطَّلَبِ، وَيُقَال
لَهُ الدَّيْنُ الْمُعَجَّل وَذَلِكَ مَتَى كَانَ قَادِرًا عَلَى
الأَْدَاءِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل
الْغَنِيِّ ظُلْمٌ (3)
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً فَلاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ قَبْل
حُلُول الأَْجَل، لَكِنْ لَوْ أُدِّيَ قَبْلَهُ صَحَّ وَسَقَطَ عَنْ
ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 174، والأشباه لابن نجيم 2 / 209 والأشباه للسيوطي ص
329، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 / 502، وابن عابدين 4 / 176 و 3 / 323
والمغني 4 / 93، وما بعدها.
(2) سورة البقرة / 283
(3) حديث: " مطل الغني ظلم " أخرجه البخاري 3 / 117 ط محمد علي صبيح، ومسلم
(3 / 1197 تحقيق محمد عبد الباقي) .
(2/341)
وَقَدْ يُصْبِحُ الْمُؤَجَّل حَالًّا
فَيَجِبُ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ وَذَلِكَ بِالرِّدَّةِ أَوْ
بِالْمَوْتِ أَوْ بِالتَّفْلِيسِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ تُنْظَرُ فِي (دَيْنٌ.
أَجَلٌ. إِفْلاَسٌ) .
كَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الدَّيْنِ:
31 - الأَْدَاءُ هُوَ تَسْلِيمُ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَتَسْلِيمُ
الْحَقِّ فِي الدُّيُونِ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَمْثَالِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ
طَرِيقَ لأَِدَاءِ الدُّيُونِ سِوَى هَذَا، وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَقْبُوضِ
فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ حُكْمُ عَيْنِ الْحَقِّ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ
كَذَلِكَ لَصَارَ اسْتِبْدَالاً بِبَدَل الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَال السَّلَمِ
وَالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل الْقَبْضِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَكَذَا لَهُ حُكْمُ
عَيْنِ الْحَقِّ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، بِدَلِيل أَنَّهُ
يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ حَقِّهِ
لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَفِيمَا لاَ مِثْل لَهُ مِمَّا تَعَلَّقَ
بِالذِّمَّةِ تَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَالْمُتْلَفَاتِ.
وَقِيل إِنَّهُ فِي الْقَرْضِ إِذَا تَعَذَّرَ الْمِثْل فَإِنَّهُ يَجِبُ
رَدُّ الْمِثْل فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ
يَقْضِيَ الْبِكْرَ بِالْبِكْرِ؛ وَلأَِنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ
بِعَقْدِ السَّلَمِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْقَرْضِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ
مِثْلٌ (2) .
وَيَجُوزُ الأَْدَاءُ بِالأَْفْضَل إِذَا كَانَ بِدُونِ شَرْطٍ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ
بِكْرًا
__________
(1) القرطبي 3 / 415، والقواعد والفوائد الأصولية ص 182 وابن عابدين 2 / 6،
والمهذب 1 / 311، ومنح الجليل 3 / 112، والحطاب 5 / 39، وكفاية الطالب 2 /
290، والمغني 4 / 481
(2) كشف الأسرار 1 / 160، والتلويح 1 / 168، والبدائع 7 / 150، 395، 396،
والمغني 4 / 352 والدسوقي 3 / 226، والمهذب 1 / 311
(2/342)
فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِل
الصَّدَقَةِ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بِكْرَهُ،
فَرَجَعَ إِلَيْهِ رَافِعٌ فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا
رُبَاعِيًّا، فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ
أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (1) .
وَمَنْ طُولِبَ بِالأَْدَاءِ بِبَلَدٍ آخَرَ فِيمَا لاَ حِمْل لَهُ وَلاَ
مُؤْنَةَ وَجَبَ الأَْدَاءُ (2) .
مَا يَقُومُ مَقَامَ الأَْدَاءِ:
32 - إِذَا أَدَّى الْمَدِينُ مَا عَلَيْهِ بِالصِّفَةِ الْوَاجِبَةِ
سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَيَقُومُ مَقَامَ
الأَْدَاءِ فِي إِسْقَاطِ الدَّيْنِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ إِبْرَاءُ
صَاحِبِ الدِّينِ لِلْمَدِينِ مِمَّا عَلَيْهِ أَوْ هِبَتُهُ لَهُ أَوْ
تَصَدُّقُهُ بِهِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الأَْدَاءِ مِنْ
حَيْثُ الْجُمْلَةُ الْحَوَالَةُ بِالدَّيْنِ أَوِ الْمُقَاصَّةُ، أَوِ
انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ أَوِ الصُّلْحُ أَوْ تَعْجِيزُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ
فِي بَدَل الْكِتَابَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِالشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ
الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِكُل حَالَةٍ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَبُول
أَوْ عَدَمِهِ، وَفِيمَا يَجُوزُ فِيهِ مِنَ الدُّيُونِ وَمَا لاَ يَجُوزُ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ (3) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي ذَلِكَ
فِي (إِبْرَاءٌ، دَيْنٌ، حَوَالَةٌ، هِبَةٌ، إِلَخْ) .
__________
(1) حديث: " استسلف من رجل. . " أخرجه مسلم 3 / 1224 بتحقيق محمد فؤاد عبد
الباقي. وهذا لفظه. وهو في الصحيحين بمعناه من حديث أبي هريرة (تلخيص
الحبير 3 / 34)
(2) البدائع 7 / 395، والمغني 4 / 356، والدسوقي 3 / 227، والمهذب 1 / 311
(3) ابن عابدين 4 / 521، 14، 251، 263، والبدائع 6 / 11، 15، و 7 / 295
والشرح الصغير 4 / 290 والمهذب 1 / 455 و 2 / 15 والمغني 4 / 577 وما بعدها
إلى 606
(2/342)
الاِمْتِنَاعُ عَنِ الأَْدَاءِ:
33 - مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَانَ مُوسِرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، فَإِنْ مَاطَل وَلَمْ يُؤَدِّ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ
بِالأَْدَاءِ بَعْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ
لِظُلْمِهِ بِتَأْخِيرِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل
عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (1) ، وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ
وَكَانَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ؛ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ
مَالَهُ وَقَضَى دُيُونَهُ (2) . وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَاعَ مَال أُسَيْفِعٍ وَقَسَمَهُ بَيْنَ
غُرَمَائِهِ (3) .
34 - وَإِنْ كَانَ لِلْمَدِينِ مَالٌ وَلَكِنَّهُ لاَ يَفِي بِدُيُونِهِ
وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لَزِمَ الْقَاضِيَ
إِجَابَتُهُمْ، وَلَهُ مَنْعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ حَتَّى لاَ يَضُرَّ
بِالْغُرَمَاءِ، وَيَبِيعُ مَالَهُ إِنِ امْتَنَعَ هُوَ عَنْ بَيْعِهَا،
وَيَقْسِمُهَا بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ. وَهَذَا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَال: لاَ يُحْجَرُ عَلَى
الْمَدِينِ، لأَِنَّ الْحَجْرَ فِيهِ إِهْدَارٌ لآِدَمِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا
يَحْبِسُهُ الْقَاضِي إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَتَّى يَبِيعَ
__________
(1) حديث: " لي الواجد. . . " أخرجه أبو داود 3 / 426) نشر المكتبة
التجارية 1369 هـ، وابن ماجه 2 / 811) ط عيسى البابي الحلبي 1373 هـ تحقيق
محمد عبد الباقي وأحمد 4 / 222
(2) حديث: " بيع مال معاذ) أخرجه الدارقطني والحاكم بلفظ: أنه صلى الله
عليه وسلم حجر على معاذ وباع عليه ما له، ورواه البيهقي بلفظ مقارب، قال
ابن الطلاع في الأحكام: هو حديث ثابت (تلخيص الحبير 3 / 37)
(3) أثر: " بيع مال أسيفع " أخرجه مالك في الموطأ بسند منقطع ووصله
الدارقطني في العلل ورواه ابن أبي شيبة والبيهقي وعبد الرزاق (تلخيص الحبير
3 / 40، 41 وكنز العمال 6 / 253 ط حلب.
(2/343)
وَيُوَفِّيَ دَيْنَهُ، إِلاَّ إِنْ كَانَ
مَالُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَالدَّيْنُ مِثْلُهُ، فَإِنَّ
الْقَاضِيَ يَقْضِي الدَّيْنَ مِنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لأَِنَّ رَبَّ
الدَّيْنِ لَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْقَاضِي يُعِينُهُ
عَلَيْهِ.
35 - وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا وَثَبَتَ ذَلِكَ خَلَّى سَبِيلَهُ،
وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ (1) } .
36 - وَالْمَدِينُ الْمُعْسِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَسُّبُ لِوَفَاءِ مَا
عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى التَّكَسُّبِ وَلاَ عَلَى قَبُول
الْهَدَايَا وَالصَّدَقَاتِ، لَكِنْ مَا يَجِدُّ لَهُ مِنْ مَالٍ مِنْ
كَسْبِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِهِ. (2)
37 - وَالْغَارِمُ إِنِ اسْتَدَانَ لِنَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ
يُؤَدِّي دَيْنَهُ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ مَصَارِفِهَا (3) .
38 - هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ، أَمَّا مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
فَإِنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ، وَيَجِبُ الأَْدَاءُ مِنْهَا
قَبْل تَنْفِيذِ الْوَصَايَا وَأَخْذِ الْوَرَثَةِ نَصِيبَهُمْ؛ لأَِنَّ
الدَّيْنَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ مِنْ أَهَمِّ
حَوَائِجِهِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الدَّيْنُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ (4) وَأَدَاءُ الْفَرْضِ
أَوْلَى مِنَ التَّبَرُّعَاتِ،
__________
(1) سورة البقرة / 280
(2) البدائع 7 / 173 ط الجمالية والاختيار 2 / 96، 98 ط دار المعرفة بيروت،
والحطاب 5 / 44، 48، والدسوقي 3 / 270، ومغني المحتاج 2 / 146، 147،
وقليوبي 4 / 324 و 3 / 197 والمغني 4 / 484 إلى 495
(3) قليوبي 3 / 197، والمغني 2 / 667، والاختيار 1 / 119
(4) ذكره صاحب الاختبار لتعليل المختار 5 / 86، ولم نجده بلفظه في مظانه من
كتب الحديث، وأخرج الإمام أحمد والنسائي والطبراني والحاكم وأبو نعيم في
المعرفة حديثا بمعناه، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في الدين:
" والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي،
ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه ". (كنز العمال 6 / 245
نشر مكتبة التراث الإسلامي بحلب 1397هـ) .
(2/343)
وَقَدْ قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
الْقِسْمَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا
أَوْ دَيْنٍ} . (1)
فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِأَدَاءِ دَيْنِهِ تَعْجِيلاً لِلْخَيْرِ
لِحَدِيثِ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى
عَنْهُ. (2)
وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِدُيُونِ الآْدَمِيِّ. أَمَّا
دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ
فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. (ف: 14، 16)
أَدَاءُ الْقِرَاءَةِ
مَعْنَى الأَْدَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ:
39 - الأَْدَاءُ عِنْدَ الْقُرَّاءِ يُطْلَقُ عَلَى أَخْذِ الْقُرْآنِ عَنِ
الْمَشَايِخِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التِّلاَوَةِ وَالْقِرَاءَةِ،
أَنَّ التِّلاَوَةَ هِيَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مُتَتَابِعًا كَالأَْوْرَادِ
وَالأَْحْزَابِ، وَالأَْدَاءُ هُوَ الأَْخْذُ عَنِ الْمَشَايِخِ،
وَالْقِرَاءَةُ تُطْلَقُ عَلَى الأَْدَاءِ وَالتِّلاَوَةِ فَهِيَ أَعَمُّ
مِنْهُمَا. وَالأَْدَاءُ الْحَسَنُ فِي الْقِرَاءَةِ هُوَ تَصْحِيحُ
الأَْلْفَاظِ وَإِقَامَةُ الْحُرُوفِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ
أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ
__________
(1) سورة النساء / 11
(2) قليوبي 1 / 344، والشرح الصغير 4 / 618 ط دار المعارف والاختيار 5 /
85، 86، والمغني 4 / 502، وحديث: " نفس المؤمن معلقة " أخرجه الترمذي وقال:
حديث حسن 3 / 389، 390 برقم 1079 ط الحلبي، وابن ماجه 2 / 806 برقم 413 ط
الحلبي واللفظ لهما، وأخرجه أحمد (2 / 440، 475 ط الميمنية) والدارمي (2 /
262 ط محمد أحمد دهمان) .
(2/344)
الْمُتَّصِلَةِ بِالرَّسُول (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الَّتِي لاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، وَلاَ
الْعُدُول عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مِنَ اللَّحْنِ
الْخَفِيِّ مَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ عُلَمَاءُ الْقِرَاءَةِ
وَأَئِمَّةُ الأَْدَاءِ الَّذِينَ تَلَقَّوْا مِنْ أَقْوَال الْعُلَمَاءِ،
وَضَبَطُوا عَنْ أَلْفَاظِ أَهْل الأَْدَاءِ الَّذِينَ تُرْتَضَى
تِلاَوَتُهُمْ، وَيُوثَقُ بِعَرَبِيَّتِهِمْ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنِ
الْقَوَاعِدِ الصَّحِيحَةِ فَأَعْطُوا كُل حَرْفٍ حَقَّهُ مِنَ
التَّجْوِيدِ وَالإِْتْقَانِ.
حُكْمُ حُسْنِ الأَْدَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ:
40 - قَال الشَّيْخُ الإِْمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ عَلِيٌّ
بْنُ مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْمُوَضِّحُ فِي وُجُوهِ
الْقِرَاءَاتِ) : إِنَّ حُسْنَ الأَْدَاءِ فَرْضٌ فِي الْقِرَاءَةِ،
وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ
صِيَانَةً لِلْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَجِدَ اللَّحْنُ وَالتَّغْيِيرُ إِلَيْهِ
سَبِيلاً.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا
حُسْنُ الأَْدَاءِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ
عَلَى مَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ قِرَاءَتُهُ فِي الْمُفْتَرَضَاتِ،
فَإِنَّ تَجْوِيدَ اللَّفْظِ وَتَقْوِيمَ الْحُرُوفِ وَاجِبٌ فِيهِ
فَحَسْبُ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى كُل مَنْ قَرَأَ
شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ كَيْفَمَا كَانَ، لأَِنَّهُ لاَ رُخْصَةَ فِي
تَغْيِيرِ النُّطْقِ بِالْقُرْآنِ وَاتِّخَاذِ (1) اللَّحْنِ إِلَيْهِ
سَبِيلاً إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ (2) } وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي
مُصْطَلَحَيْ " تَجْوِيدٌ، تِلاَوَةٌ ".
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 102، 103 ط بيروت عن طبعة الهند، والنشر في
القراءات العشر ص 210 وما بعدها ط مصطفى محمد.
(2) الزمر / 28
(2/344)
أَدَاةٌ
انْظُرْ: آلَةٌ
أَدَبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل مَعْنَى كَلِمَةِ " أَدَبٍ " فِي اللُّغَةِ: " الْجَمْعُ (1) "،
وَمِنْهُ: الأَْدَبُ بِمَعْنَى الظَّرْفِ وَحُسْنِ التَّنَاوُل (2) .
سُمِّيَ أَدَبًا؛ لأَِنَّهُ يَأْدِبُ - أَيْ يَجْمَعُ - النَّاسَ إِلَى
الْمَحَامِدِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَلِلأَْدَبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
وَالأُْصُولِيِّينَ عِدَّةُ إِطْلاَقَاتٍ:
أ - قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: الأَْدَبُ: الْخِصَال الْحَمِيدَةُ
(4) ، وَلِذَلِكَ بَوَّبُوا فَقَالُوا: " أَدَبُ الْقَاضِي "،
وَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْبَابِ عَمَّا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ
يَفْعَلَهُ
__________
(1) أساس اللغة لأحمد بن فارس، مادة (أدب)
.
(2) القاموس المحيط، مادة (أدب) .
(3) لسان العرب، مادة (أدب) .
(4) فتح القدير 5 / 453، طبع بولاق سنة 1316 هـ، وانظر البحر الرائق 6 /
277، طبع المطبعة العلمية، وحاشية ابن عابدين 5 / 463
(2/345)
وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَهِيَ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ قَالُوا: " آدَابُ الاِسْتِنْجَاءِ "، " وَآدَابُ الصَّلاَةِ ".
وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: الأَْدَبُ: وَضْعُ الأَْشْيَاءِ
مَوْضِعَهَا (1) .
ب - كَمَا يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ لَفْظَ " أَدَبٍ "
أَيْضًا أَصَالَةً عَلَى الْمَنْدُوبِ (2) ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ
بِتَعْبِيرَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا: النَّفَل، وَالْمُسْتَحَبُّ،
وَالتَّطَوُّعُ، وَمَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ، وَمَا يُمْدَحُ بِهِ
الْمُكَلَّفُ وَلاَ يُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ، وَالْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ
شَرْعًا مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ (3) .
ج - وَقَدْ يُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ " آدَابٍ " عَلَى كُل
مَا هُوَ مَطْلُوبٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْدُوبًا أَمْ وَاجِبًا (4) .
وَلِذَلِكَ بَوَّبُوا فَقَالُوا: " آدَابُ الْخَلاَءِ وَالاِسْتِنْجَاءِ "
وَأَتَوْا فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا هُوَ مَنْدُوبٌ وَمَا هُوَ وَاجِبٌ،
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِكَلِمَةِ " آدَابٍ " هُوَ كُل مَا هُوَ
مَطْلُوبٌ.
د - وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ أَحْيَانًا (الأَْدَبَ) عَلَى الزَّجْرِ
وَالتَّأْدِيبِ بِمَعْنَى التَّعْزِيرِ. (ر: تَعْزِيرٌ) .
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 41 طبع المطبعة العامرة العثمانية
سنة 1304 هـ
(2) شرح المنار لابن ملك وحواشيه ص 588، طبع المطبعة العثمانية سنة 1315
هـ، وفتح الغفار شرح المنار 2 / 66، طبع مصطفى البابي الحلبي سنة 1355 هـ،
والفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية 4 / 25، طبع بولاق سنة 1310 هـ،
وحاشية القليوبي 1 / 38، طبع مصطفى البابي الحلبي.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 41 - 42
(4) انظر: حاشية البجيرمي على منهج الطلاب 1 / 51، / 316 طبع المكتبة
الإسلامية في ديار بكر - تركيا.
(2/345)
حُكْمُهُ:
2 - الأَْدَبُ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ الْحُكْمِ
التَّكْلِيفِيِّ، وَهُوَ غَالِبًا يُرَادِفُ الْمَنْدُوبَ، وَفَاعِلُهُ
يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ عَلَى
تَرْكِهِ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - لَقَدْ نَثَرَ الْفُقَهَاءُ الآْدَابَ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ،
فَذَكَرُوا فِي كُل بَابٍ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الآْدَابِ، فَفِي
الاِسْتِنْجَاءِ ذَكَرُوا آدَابَ الاِسْتِنْجَاءِ، وَفِي الطَّهَارَةِ
بِأَقْسَامِهَا ذَكَرُوا آدَابَهَا، وَفِي الْقَضَاءِ ذَكَرُوا آدَابَ
الْقَضَاءِ، بَل صَنَّفَ بَعْضُهُمْ كُتُبًا خَاصَّةً فِي الآْدَابِ
الشَّرْعِيَّةِ، كَالآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ، وَأَدَبِ
الدُّنْيَا وَالدِّينِ لِلْمَاوَرْدِيِّ، وَغَيْرِهِمَا.
ادِّخَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل كَلِمَةِ " ادِّخَارٍ " فِي اللُّغَةِ هُوَ " اذْتِخَارٌ "
فَقُلِبَ كُلٌّ مِنَ الذَّال وَالتَّاءِ دَالاً مَعَ الإِْدْغَامِ
فَتَحَوَّلَتِ الْكَلِمَةُ إِلَى (ادِّخَارٍ) . وَمَعْنَى ادَّخَرَ
الشَّيْءَ: خَبَّأَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي 42 ط، العثمانية.
(2) انظر لسان العرب وتاج العروس وأساس اللغة، والنهاية، مادة " ذخر "
بالذال المعجمة.
(2/346)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِكْتِنَازُ:
2 - الاِكْتِنَازُ لُغَةً: إِحْرَازُ الْمَال فِي وِعَاءٍ أَوْ دَفْنُهُ
(1) ، وَشَرْعًا: هُوَ الْمَال الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ مَدْفُونًا. فَالاِدِّخَارُ أَعَمُّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ مِنَ
الاِكْتِنَازِ.
ب - الاِحْتِكَارُ:
3 - الاِحْتِكَارُ لُغَةً: حَبْسُ الشَّيْءِ انْتِظَارًا لِغَلاَئِهِ.
وَشَرْعًا: اشْتِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلاَءِ (2)
. فَالاِدِّخَارُ أَعَمُّ مِنَ الاِحْتِكَارِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ فِيمَا
يَضُرُّ حَبْسُهُ وَمَا لاَ يَضُرُّ.
ادِّخَارُ الدَّوْلَةِ الأَْمْوَال مِنْ غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ:
4 - الأَْمْوَال إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِيَدِ الدَّوْلَةِ، أَوْ بِيَدِ
الأَْفْرَادِ. فَإِنْ كَانَتْ بِيَدِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ فَاضَتْ عَنْ
مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَال، فَفِي جَوَازِ ادِّخَارِ الدَّوْلَةِ لَهَا
اتِّجَاهَاتٌ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: لاَ يَجُوزُ لِلدَّوْلَةِ ادِّخَارُ شَيْءٍ مِنَ
الأَْمْوَال، بَل عَلَيْهَا تَفْرِيقُهَا عَلَى مَنْ يَعُمُّ بِهِ صَلاَحُ
الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَدَّخِرُهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الشَّافِعِيَّةُ (3) ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ. وَقَدِ اسْتَدَلُّوا
عَلَى
__________
(1) المصباح ولسان العرب (كنز) .
(2) ابن عابدين 5 / 278، والمصباح المنير (حكر) .
(3) الفتاوى الهندية 5 / 334، ط بولاق، وحاشية ابن عابدين 5 / 218، ط بولاق
الأولى، وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237، وتفسير القرطبي 8 / 125،
والأحكام السلطانية للماوردي ص 215، ط مصطفى البابي الحلبي، وفتح الباري 3
/ 211 ط البهية المصرية.
(2/346)
ذَلِكَ بِفِعْل الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
وَبِمَبَادِئِ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا فِعْل الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ:
فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَصَنِيعُهُمَا بِبَيْتِ
الْمَال، قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ: "
اقْسِمْ بَيْتَ مَال الْمُسْلِمِينَ فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً، اقْسِمْ
بَيْتَ مَال الْمُسْلِمِينَ فِي كُل جُمُعَةٍ مَرَّةً، اقْسِمْ بَيْتَ مَال
الْمُسْلِمِينَ فِي كُل يَوْمٍ مَرَّةً "، ثُمَّ قَال رَجُلٌ مِنَ
الْقَوْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَبْقَيْتَ فِي بَيْتِ الْمَال
بَقِيَّةً تَعُدُّهَا لِنَائِبَةٍ أَوْ صَوْتِ مُسْتَغِيثٍ، فَقَال عُمَرُ
لِلرَّجُل الَّذِي كَلَّمَهُ: جَرَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ،
لَقَّنَنِي اللَّهُ حُجَّتَهَا وَوَقَانِي شَرَّهَا، أُعِدُّ لَهَا مَا
أَعَدَّ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةُ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ (1) . وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَمَا كَانَ
عُمَرُ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى
الْعَطَاءَ فِي سَنَةٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ آتَاهُ مَالٌ مِنْ
أَصْبَهَانَ، فَقَال: اغْدُوا إِلَى عَطَاءٍ رَابِعٍ، إِنِّي لَسْتُ
بِخَازِنٍ (2) .
وَأَمَّا مَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهَا تَفْرِضُ عَلَى أَغْنِيَاءِ
الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِرَفْعِ النَّوَائِبِ عِنْدَ نُزُولِهَا (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى الدَّوْلَةِ ادِّخَارَ هَذَا
الْفَائِضِ عَنْ مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَال لِمَا يَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْ حَادِثٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
سُرْعَةِ التَّصَرُّفِ لِرَفْعِ النَّائِبَاتِ عَنْهُمْ (4) . وَإِلَى
هَذَا
__________
(1) سنن البيهقي 6 / 357، وكنز العمال برقم 11652
(2) الأموال لأبي عبيد ص 570، وتاريخ ابن عساكر 3 / 181، في ترجمة علي بن
أبي طالب برقم 1220، وكنز العمال برقم 11703
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 215، ولأبي يعلى ص 237
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 215، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237
(2/347)
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، وَهُوَ قَوْلٌ
لِلْحَنَابِلَةِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا:
إِذَا اسْتَوَتِ الْحَاجَةُ فِي كُل الْبُلْدَانِ فَإِنَّ الإِْمَامَ
يَبْدَأُ بِمَنْ جُبِيَ فِيهِمُ الْمَال حَتَّى يَغْنَوْا غِنَى سَنَةٍ،
ثُمَّ يَنْقُل مَا فَضَل لِغَيْرِهِمْ وَيُوقِفُ لِنَوَائِبِ
الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ أَكْثَرَ حَاجَةً
فَإِنَّ الإِْمَامَ يَصْرِفُ الْقَلِيل لأَِهْل الْبَلَدِ الَّذِي جُبِيَ
فِيهِمُ الْمَال ثُمَّ يَنْقُل الأَْكْثَرَ لِغَيْرِهِمْ (3) .
ادِّخَارُ الأَْفْرَادِ:
5 - الأَْمْوَال فِي يَدِ الأَْفْرَادِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَقَل مِنَ
النِّصَابِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ أُدِّيَتْ زَكَاتُهَا أَوْ لَمْ تُؤَدَّ،
فَإِنْ أُدِّيَتْ زَكَاتُهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَنْ
حَاجَاتِهِ الأَْصْلِيَّةِ أَوْ غَيْرَ زَائِدَةٍ عَنْ حَاجَاتِهِ
الأَْصْلِيَّةِ.
6 - فَإِنْ كَانَتِ الأَْمْوَال الَّتِي بِيَدِ الْفَرْدِ دُونَ.
النِّصَابِ حَل ادِّخَارُهَا (4) ؛ لأَِنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ قَلِيلٌ،
وَالْمَرْءُ لاَ يَسْتَغْنِي عَنِ ادِّخَارِ الْقَلِيل وَلاَ تَقُومُ
حَاجَاتُهُ بِغَيْرِهِ.
7 - وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ، وَصَاحِبُهَا لاَ يُؤَدِّي
زَكَاتَهَا، فَهُوَ ادِّخَارٌ حَرَامٌ، وَهُوَ اكْتِنَازٌ بِالاِتِّفَاقِ
(5) . قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
__________
(1) اللجنة ترى أن للسياسة الشرعية مدخلا في الأخذ بأحد هذين الاتجاهين
بحسب استمرار الموارد، أو انقطاعها.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237
(3) الخرشي 3 / 129
(4) فتح الباري 3 / 210
(5) انظر تفسير القرطبي والطبري وأحكام القرآن للجصاص كلهم في تفسير الآية
/ 34 من سورة التوبة، وهي قوله تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة. . .
".
(2/347)
أَيُّ مَالٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ
بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الأَْرْضِ، وَأَيُّ مَالٍ لَمْ
تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ كَانَ
عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ (1) . وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا
وَمَوْقُوفًا (2) .
وَاكْتِنَازُ الْمَال حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ حَيْثُ قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ
يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ
وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ
فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . (3)
8 - وَإِنْ كَانَتِ الأَْمْوَال الْمُدَّخَرَةُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصَابِ،
وَصَاحِبُهَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، وَهِيَ فَائِضَةٌ عَنْ حَاجَاتِهِ
الأَْصْلِيَّةِ، فَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي حُكْمِ ادِّخَارِهَا:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى
جَوَازِهِ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ.
وَيُسْتَدَل لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ؛ لأَِنَّ
اللَّهَ جَعَل فِي تَرِكَةِ الْمُتَوَفِّي أَنْصِبَاءَ لِوَرَثَتِهِ،
وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ إِذَا تَرَكَ الْمُتَوَفُّونَ أَمْوَالاً
مُدَّخَرَةً، كَمَا يُسْتَدَل لَهُمْ
__________
(1) حديث " أي مال. . . " رواه البيهقي وسعيد بن منصور عن ابن عمر، ورواه
ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن أبي حاتم من طريق ابن عمر بلفظ "
ما أدى زكاته فليس بكنز " (الدر المنثور 3 / 232) . ورواه أبو داود والحاكم
بلفظ ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي، فليس بكنز " وقال الحاكم: صحيح على شرط
البخاري، وكذلك رواه الدارقطني والبيهقي. انظر (نصب الراية 2 / 372) .
(2) انظر تفسير ابن كثير 3 / 388، طبع دار الأندلس ببيروت، وحاشية الجمل 2
/ 251، طبع دار إحياء التراث العربي
(3) سورة التوبة / 34 - 35
(2/348)
بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
الْمَشْهُورِ إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ
تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ (1) . وَهَذَا
نَصٌّ فِي أَنَّ ادِّخَارَ شَيْءٍ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ
الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا خَيْرٌ مِنْ عَدَمِ
التَّرْكِ.
وَذَهَبَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) إِلَى أَنَّ
ادِّخَارَ الْمَال الزَّائِدِ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ - مِنْ نَفَقَتِهِ
وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ - هُوَ ادِّخَارٌ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي
زَكَاتَهُ وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفْتِي بِذَلِكَ، وَيَحُثُّ
النَّاسَ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الشَّامِ - عَنْ ذَلِكَ؛
لأَِنَّهُ خَافَ أَنْ يَضُرَّهُ النَّاسُ فِي هَذَا، فَلَمْ يَتْرُكْ
دَعْوَةَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ، فَشَكَاهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَاسْتَقْدَمَهُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ
الْمُنَوَّرَةِ، وَأَنْزَلَهُ الرَّبَذَةَ، فَبَقِيَ فِيهَا إِلَى أَنْ
تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْتَجُّ لِمَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الأَْدِلَّةِ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي
سُورَةِ التَّوْبَةِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
، وَيَقُول: إِنَّ هَذِهِ الآْيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ.
وَيَحْتَجُّ بِمَا رَوَاهُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْل
الصُّفَّةِ، وَتَرَكَ دِينَارَيْنِ، أَوْ دِرْهَمَيْنِ، فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيَّتَانِ، صَلُّوا عَلَى
صَاحِبِكُمْ (3) وَبِمَا رَوَاهُ
__________
(1) حديث " إنك إن تدع. . . " أخرجه البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص (صحيح
البخاري 4 / 3 ط صبيح)
(2) طبقات ابن سعد 4 / 226، مع التصرف.
(3) حديث " كيتان صلوا. . " أخرجه الإمام أحمد وفي مجمع الزوائد (10 / 240)
: رواه أحمد وابنه عبد الله وقال: دينارًا أو درهمًا، والبزار كذلك وفيه
عتيبة الضرير وهو مجهول، وبقية رجاله وثقوا. وقال أحمد شاكر: إسناده ضعيف
(مسند أحمد بن حنبل 2 / 788) ط دار المعارف سنة 1368هـ.)
(2/348)
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ
مَوْلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ
وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ إِلاَّ جَعَل اللَّهُ بِكُل قِيرَاطٍ
صَفْحَةً مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا مِنْ قَدَمِهِ إِلَى ذَقَنِهِ. (1)
وَعَنْ ثَوْبَانَ قَال: كُنَّا فِي سَفَرٍ وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال الْمُهَاجِرُونَ:
لَوَدِدْنَا أَنَّا عَلِمْنَا أَيَّ الْمَال نَتَّخِذُهُ، إِذْ نَزَل فِي
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا نَزَل، فَقَال عُمَرُ: إِنْ شِئْتُمْ سَأَلْتُ
رَسُول اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: أَجَل، فَانْطَلَقَ، فَتَبِعْتُهُ
أُوضِعُ عَلَى بَعِيرِي، فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ
لَمَّا أَنْزَل اللَّهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا أَنْزَل قَالُوا:
وَدِدْنَا أَنَّا عَلِمْنَا أَيَّ الْمَال خَيْرٌ نَتَّخِذُهُ، قَال:
نَعَمْ، فَيَتَّخِذُ أَحَدُكُمْ لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا،
وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى إِيمَانِهِ. (2)
9 - وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّ ادِّخَارَ الأَْمْوَال يَكُونُ
حَرَامًا وَإِنْ أَدَّى الْمُدَّخِرُ زَكَاتَهَا إِذَا لَمْ يُؤَدِّ
صَاحِبُهَا الْحُقُوقَ الْعَارِضَةَ فِيهَا، كَإِطْعَامِ الْجَائِعِ،
وَفَكِّ الأَْسِيرِ
__________
(1) حديث: " ما من رجل يموت. . . "، أخرجه ابن أبي حاتم عن ثوبان (تفسير
ابن كثير 3 / 393 ط الأندلس) .
(2) تفسير ابن كثير، وتفسير الطبري، والقرطبي، وأحكام القرآن للجصاص لآية:
" والذين يكنزون الذهب والفضة. . " وعمدة القاري 8 / 248، وفتح الباري 3 /
210، وحديث ثوبان أخرجه أحمد في مسنده (5 / 82 ط الميمنية) ، وابن ماجه 1 /
596 ط الحلبي) ، والترمذي (11 / 238 ط الصاوي) ، ببعض اختلاف في اللفظ
وقال: حديث حسن.
(2/349)
وَتَجْهِيزِ الْغَازِي وَنَحْوِ ذَلِكَ (1)
.
وَذَهَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لِرَجُلٍ
أَنْ يَدَّخِرَ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَ وَإِنْ أَدَّى
زَكَاتَهَا، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: " أَرْبَعَةُ آلاَفِ
دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَهَا كَنْزٌ (2) ".
وَكَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى أَنَّ
الْقِيَامَ بِالْحَاجَاتِ الأَْصْلِيَّةِ لِلْمَرْءِ لاَ يَتَطَلَّبُ
أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ فِي أَحْسَنِ الأَْحْوَال (3) ،
فَإِنْ حَبَسَ الشَّخْصُ مَبْلَغًا أَكْبَرَ مِنْ هَذَا فَقَدْ حَبَسَ
خَيْرَهُ عَنِ النَّاسِ، وَعَنِ الْفُقَرَاءِ بِشَكْلٍ خَاصٍّ، وَهُوَ
أَمْرٌ لاَ يَجُوزُ، فَقَدْ كَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: " إِنَّ
اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ مَا يَكْفِي
فُقَرَاءَهُمْ، وَإِنْ جَاعُوا وَعَرُوا وَجَهَدُوا فَبِمَنْعِ
الأَْغْنِيَاءِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ (4) .
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
10 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِدِّخَارِ بِاخْتِلاَفِ الْبَاعِثِ عَلَيْهِ:
فَإِنْ كَانَ ادِّخَارُ مَا يَتَضَرَّرُ النَّاسُ بِحَبْسِهِ طَلَبًا
لِلرِّبْحِ، فَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُل فِي بَابِ الاِحْتِكَارِ
__________
(1) تفسير القرطبي 8 / 125، ط دار الكتب " والمجموع 5 / 274
(2) انظر تفسير الطبري وابن كثير والقرطبي والجصاص لآية: " والذين يكنزون
الذهب والفضة " وعمدة القاري 8 / 249، وأثر علي رضي الله عنه أخرجه عبد
الرزاق (المصنف 4 / 109 ط سنة 1391 هـ) .
(3) اللجنة: هذا الرأي يناسب عصره، إذ أن مبلغ الأربعة آلاف كان يكفي حاجة
أي إنسان.
(4) كنز العمال برقم 16840، ط حلب، والأموال لأبي عبيد ص 595
(2/349)
(ر: احْتِكَارٌ) . وَإِنْ كَانَ
لِتَأْمِينِ حَاجَاتِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ الاِدِّخَارُ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الاِدِّخَارِ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ
تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الأَْوْجَهُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ - وَلَهُمْ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يُكْرَهُ ادِّخَارُ مَا
فَضَل عَنْ كِفَايَتِهِ لِمُدَّةِ سَنَةٍ (1) .
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ
النَّفَقَاتِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى
أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَال، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا
بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَل مَال اللَّهِ، فَعَمِل بِذَلِكَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ (2) . وَبِمَا
رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبِيعُ نَخْل بَنِي
النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ؛ لأَِهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ (3) .
عَلَى أَنَّ الْحَطَّابَ نَقَل عَنِ النَّوَوِيِّ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ
عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ (أَيْ مَا يَحْتَاجُهُ
النَّاسُ) أَوِ اضْطُرَّ النَّاسُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ
أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ. وَهُوَ مَا
يَتَّفِقُ مَعَ قَاعِدَةِ: (يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ
ضَرَرٍ عَامٍّ) .
ادِّخَارُ لُحُومِ الأَْضَاحِي:
11 - يَجُوزُ ادِّخَارُ لُحُومِ الأَْضَاحِي فَوْقَ ثَلاَثٍ فِي قَوْل
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 93، وشرح الحطاب على مختصر خليل 4 / 227 - 228، ومطالب
أولي النهى 3 / 65، والمحلى 9 / 64 ومجلة الأحكام العدلية م 26
(2) حديث:، (حبس نفقة سنة. . " أخرجه البخاري في النفقات ومسلم والترمذي.
(3) حديث: " بيع نخل بني النضير) ، أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري 9 /
501)
(2/350)
عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ. وَلَمْ يُجِزْهُ
عَلِيٌّ وَلاَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ
الأَْضَاحِي فَوْقَ ثَلاَثٍ (1) .
وَلِلْجُمْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأَْضَاحِي فَوْقَ ثَلاَثٍ
فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ - وَرَوَتْ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِلدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ.
فَكُلُوا وَتَزَوَّدُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا. وَقَال أَحْمَدُ فِيهِ
أَسَانِيدُ صِحَاحٌ. أَمَّا عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ فَلَمْ يَبْلُغْهُمَا
تَرْخِيصُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ
كَانُوا سَمِعُوا النَّهْيَ فَرَوَوْا عَلَى مَا سَمِعُوا (2) .
ادِّخَارُ الدَّوْلَةِ الضَّرُورِيَّاتِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ:
12 - إِذَا تَوَقَّعَتِ الدَّوْلَةُ نُزُول نَازِلَةٍ بِالْمُسْلِمِينَ
مِنْ جَائِحَةٍ أَوْ قَحْطٍ أَوْ حَرْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَجَبَ
عَلَيْهَا أَنْ تَدَّخِرَ لَهُمْ مِنَ الأَْقْوَاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ مَا
يَنْهَضُ بِمَصَالِحِهِمْ، وَيُخَفِّفُ عَنْهُمْ شِدَّةَ هَذِهِ
النَّازِلَةِ، وَاسْتُدِل لِذَلِكَ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
مَعَ مَلِكِ مِصْرَ. وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا ذَلِكَ مِنْ
غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَيْسَ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ، فَقَال جَل
شَأْنُهُ: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ (3) قَال تَزْرَعُونَ
__________
(1) " النهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. . . " ثبت في حديث متفق عليه
عن عائشة مرفوعًا.
(2) المغني مع الشرح الكبير 11 / 110 ط الأولى بالمنار.
(3) سورة يوسف / 46
(2/350)
سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ
فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ
لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ} . (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الآْيَاتِ: " وَهَذَا يَدُل
عَلَى جَوَازِ احْتِكَارِ الطَّعَامِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ (2) ".
إِخْرَاجُ الْمُدَّخَرَاتِ وَقْتَ الضَّرُورَةِ:
13 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّخَرَ شَيْئًا مِنَ
الأَْقْوَاتِ الضَّرُورِيَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِعِيَالِهِ وَاضْطُرَّ
إِلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ كَانَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ
مُحْتَاجًا إِلَيْهِ حَالاً؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ (3)
.
وَيَأْثَمُ بِإِمْسَاكِهِ عَنْهُ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ
اخْتَلَفُوا هَل يَبْذُلُهُ لَهُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِدُونِهَا. وَمَحَل
تَفْصِيل ذَلِكَ مُصْطَلَحُ: (اضْطِرَارٌ) . دَلِيل وُجُوبِ الإِْخْرَاجِ
فِي هَذِهِ الْحَال مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْل زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ
عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ. (4) وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال:
بَعَثَ رَسُول اللَّهِ بَعْثًا
__________
(1) سورة يوسف / 47، 48
(2) تفسير القرطبي 9 / 203 - 204 طبع دار الكتب المصرية.
(3) الاختيار شرح المختار 3 / 71، طبع مصطفى البابي الحلبي، وحاشية الدسوقي
2 / 111 و 112 طبع المطبعة الميمنية، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 1 /
572، و 573 طبع المطبعة الميمنية، والمغني 8 / 603 طبع مكتبة الرياض
الموافقة للطبعة الثالثة. والطرق الحكمية لابن القيم ص 261 طبع مطبعة السنة
المحمدية، ومطالب أولي النهى 3 / 65
(4) حديث: " من كان عنده فضل زاد. . " أخرجه مسلم في صحيحه.
(2/351)
قِبَل السَّاحِل فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ
أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ وَأَنَا
فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ
الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ،
فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فَكَانَ يَقُوتُنَا
كُل يَوْمٍ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى فَنِيَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا
إِلاَّ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ، فَقُلْتُ: وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ، فَقَال:
لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ - أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي
أَوَّل كِتَابِ الشَّرِكَةِ.
قَال فِي عُمْدَةِ الْقَارِي: قَال الْقُرْطُبِيُّ: جَمْعُ أَبِي
عُبَيْدَةَ الأَْزْوَادَ وَقَسْمُهَا بِالسَّوِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ
حُكْمًا حَكَمَ بِهِ لَمَّا شَاهَدَ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَخَوْفُهُ مِنْ
تَلَفِ مَنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ زَادٌ، فَظَهَرَ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَى مَنْ
مَعَهُ أَنْ يُوَاسِيَ مَنْ لَيْسَ لَهُ زَادٌ، أَوْ يَكُونُ عَنْ رِضًا
مِنْهُمْ، وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ سَيِّدُنَا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
ادِّخَارُ غَيْرِ الأَْقْوَاتِ:
14 - ادِّخَارُ غَيْرِ الأَْقْوَاتِ الضَّرُورِيَّةِ جَائِزٌ
بِالاِتِّفَاقِ كَالأَْمْتِعَةِ وَالأَْوَانِي وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَعَلَى الدَّوْلَةِ أَنْ تَدَّخِرَ مِنْ غَيْرِ الضَّرُورِيَّةِ مَا قَدْ
يَنْقَلِبُ ضَرُورِيًّا فِي وَقْتٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ كَالْخَيْل مَثَلاً
وَالْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ
فِي أَوْقَاتِ السِّلْمِ، وَلَكِنَّهُ يُصْبِحُ ضَرُورِيًّا أَيَّامَ
الْحَرْبِ، وَعَلَى الدَّوْلَةِ بَذْلُهُ لِلْمُحْتَاجِ حِينَ اضْطِرَارِهِ
إِلَيْهِ (3) .
__________
(1) عمدة القاري 13 / 42، المطبعة المنيرية.
(2) حاشية الجمل 3 / 93، وحاشية ابن عابدين 5 / 218، والفتاوى الهندية 5 /
334
(3) المغني 6 / 415
(2/351)
ادِّعَاءٌ
انْظُرْ: دَعْوَى
ادِّهَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِدِّهَانُ فِي اللُّغَةِ: الاِطِّلاَءُ بِالدُّهْنِ، وَالدُّهْنُ
مَا يُدْهَنُ بِهِ مِنْ زَيْتٍ وَغَيْرِهِ (1) . وَالاِطِّلاَءُ أَعَمُّ
مِنَ الاِدِّهَانِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بِالدُّهْنِ وَغَيْرِهِ،
كَالاِطِّلاَءِ بِالنُّورَةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِدِّهَانُ بِالطِّيبِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لاَ نَجَاسَةَ فِيهِ
مُسْتَحَبٌّ فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْنْسَانِ، إِذْ هُوَ مِنَ
التَّجَمُّل الْمَطْلُوبِ لِكُل مُسْلِمٍ، وَهُوَ مِنَ الزِّينَةِ الَّتِي
يَشْمَلُهَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ (2) } . وَقَدْ رُوِيَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب.
(2) سورة الأعراف / 32
(2/352)
الاِدِّهَانِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ،
مِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَاكُوا
عَرْضًا وَادَّهِنُوا غِبًّا (1) وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الاِدِّهَانُ غِبًّا، وَهُوَ أَنْ يَدْهُنَ،
ثُمَّ يَتْرُكَ حَتَّى يَجِفَّ الدُّهْنُ، ثُمَّ يَدْهُنَ ثَانِيًا،
وَقِيل: يَدْهُنُ يَوْمًا وَيَوْمًا لاَ (2) .
وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الاِدِّهَانِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ،
وَالْعِيدِ، وَمَجَامِعِ النَّاسِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرِّجَال
وَالصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ، إِلاَّ النِّسَاءَ، فَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ
أَرَادَ مِنْهُنَّ حُضُورَ الْجُمُعَةِ (3) .
وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْحُكْمِ بَعْضُ الْحَالاَتِ الَّتِي يَحْرُمُ فِيهَا
الاِدِّهَانُ أَوْ يُكْرَهُ، كَحَالاَتِ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ أَوِ
الْعُمْرَةِ وَالاِعْتِكَافِ، وَالصَّوْمِ، وَالإِْحْدَادِ بِالنِّسْبَةِ
لِلْمَرْأَةِ (4) .
__________
(1) حديث " استاكوا عرضًا. . . " وتمامه " واكتحلوا وترًا " قال النووي في
شرح المهذب (1 / 313 ط العالمية) : هذا الحديث ضعيف غير معروف، قال ابن
الصلاح: بحثت عنه فلم أجد له أصلا ولا ذكرا في شيء من كتب الحديث ". أهـ.
(2) يدل على ذلك حديث عائشة رضى الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا أراد أن يحرم يتطيب ما يجد، ثم أجد وبيض الدهن في رأسه ولحيته بعد
ذلك ". أخرجه مسلم (2 / 848 ط عيسى الحلبي) . وانظر تفسير القرطبي 7 / 198
ط دار الكتب المصرية، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 21 ط المنار، وزاد
المعاد 1 / 44 ط مصطفى الحلبي، وفيض القدير 5 / 43 ط مصطفى محمد، والمجموع
1 / 280، 293 ط المنيرية، والمغني 1 / 93 ط الرياض.
(3) المجموع 4 / 537، والمغني 2 / 202 ط المنار، ومنح الجليل 1 / 263 نشر
ليبيا.
(4) ابن عابدين 2 / 202، 617 ط بولاق. والمغني 3 / 300 و 7 / 518، ومنح
الجليل 1 / 427، 512
(2/352)
3 - أَمَّا الاِدِّهَانُ بِالنِّسْبَةِ
لِغَيْرِ الإِْنْسَانِ، كَدَهْنِ الْحَبْل، وَالْعَجَلَةِ، وَالسَّفِينَةِ،
وَالنَّعْل، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ بِمَا لاَ نَجَاسَةَ فِيهِ،
أَمَّا الْمُتَنَجِّسُ فَفِيهِ خِلاَفٌ عَلَى أَسَاسِ جَوَازِ
الاِنْتِفَاعِ بِالْمُتَنَجِّسِ أَوْ عَدَمِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - لِلاِدِّهَانِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِل
الْفِقْهِيَّةِ مُفَصَّلَةٌ أَحْكَامُهَا فِي أَبْوَابِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ
ادِّهَانُ الْمُحْرِمِ فِي بَابِ الْحَجِّ، وَالْمُعْتَكِفِ فِي بَابِ
الاِعْتِكَافِ، وَالصَّائِمِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَالْمُحِدَّةِ فِي
بَابِ الْعِدَّةِ. كَذَلِكَ الاِدِّهَانُ بِالْمُتَنَجِّسِ فِي بَابِ
الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ.
إِدْرَاكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ الإِْدْرَاكُ فِي اللُّغَةِ وَيُرَادُ بِهِ اللُّحُوقُ
وَالْبُلُوغُ فِي الْحَيَوَانِ، وَالثَّمَرِ، وَالرُّؤْيَةِ. وَاسْمُ
الْمَصْدَرِ مِنْهُ الدَّرَكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَالْمُدْرَكُ بِضَمِّ
الْمِيمِ يَكُونُ مَصْدَرًا وَاسْمَ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، تَقُول:
أَدْرَكْتُهُ مُدْرَكًا، أَيْ إِدْرَاكًا، وَهَذَا مُدْرَكُهُ، أَيْ
مَوْضِعُ إِدْرَاكِهِ أَوْ زَمَانِهِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 220، والحطاب 1 / 117، نشر ليبيا، والمغني 1 / 38
(2) لسان العرب، وأساس البلاغة، والمصباح المنير.
(2/353)
وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ
الإِْدْرَاكَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُمْ: أَدْرَكَهُ الثَّمَنُ، أَيْ لَزِمَهُ، وَهُوَ لُحُوقٌ
مَعْنَوِيٌّ، وَأَدْرَكَ الْغُلاَمُ: أَيْ بَلَغَ الْحُلُمَ، وَأَدْرَكَتِ
الثِّمَارُ: أَيْ نَضِجَتْ. وَالدَّرَكُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَسُكُونِ
الرَّاءِ لُغَةٌ فِيهِ: اسْمٌ مِنْ أَدْرَكْتُ الشَّيْءَ، وَمِنْهُ ضَمَانُ
الدَّرَكِ (1) .
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الإِْدْرَاكَ وَيُرِيدُ بِهِ الْجُذَاذَ
(2) .
وَقَدِ اسْتَعْمَل الأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ (مَدَارِكَ الشَّرْعِ)
بِمَعْنَى مَوَاضِعَ طَلَبِ الأَْحْكَامِ، وَهِيَ حَيْثُ يُسْتَدَل
بِالنُّصُوصِ، كَالاِجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ مُدْرَكٌ مِنْ مَدَارِكِ
الشَّرْعِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللاَّحِقُ وَالْمَسْبُوقُ:
2 - يُفَرِّقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمُدْرِكِ لِلصَّلاَةِ مَثَلاً
وَاللاَّحِقِ بِهَا وَالْمَسْبُوقِ، مَعَ أَنَّ الإِْدْرَاكَ وَاللِّحَاقَ
فِي اللُّغَةِ مُتَرَادِفَانِ. فَالْمُدْرِكُ لِلصَّلاَةِ مَنْ صَلاَّهَا
كَامِلَةً مَعَ الإِْمَامِ، أَيْ أَدْرَكَ جَمِيعَ رَكَعَاتِهَا مَعَهُ،
سَوَاءٌ أَدْرَكَ التَّحْرِيمَةَ أَوْ أَدْرَكَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ رُكُوعِ
الرَّكْعَةِ الأُْولَى. وَاللاَّحِقُ مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا
أَوْ بَعْضُهَا بِعُذْرٍ بَعْدَ اقْتِدَائِهِ. أَمَّا الْمَسْبُوقُ فَهُوَ
مَنْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِكُل الرَّكَعَاتِ أَوْ بَعْضِهَا (4) .
__________
(1) النظم المستعذب 1 / 349 ط الحلبي، والمصباح المنير مادة (درك) ، وطلبة
الطلبة.
(2) القليوبي 3 / 64 ط مصطفى الحلبي.
(3) المصباح المنير، مادة (درك) .
(4) حاشية ابن عابدين - 1 / 399، 400 ط بولاق.
(2/353)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لِلإِْدْرَاكِ تَبَعًا
لِلاِسْتِعْمَالاَتِ الْفِقْهِيَّةِ أَوِ الأُْصُولِيَّةِ،
فَاسْتِعْمَالُهُ الأُْصُولِيُّ سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ
الْكَلاَمِ عَنْ مَدَارِكِ الشَّرِيعَةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ
الأُْصُولِيِّ.
أَمَّا الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ فَيَصْدُقُ عَلَى أُمُورٍ عِدَّةٍ.
فَإِدْرَاكُ الْفَرِيضَةِ: اللُّحُوقُ بِهَا وَأَخْذُ أَجْرِهَا كَامِلاً
عِنْدَ إِتْمَامِهَا عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل، مَعَ الْخِلاَفِ بِأَيِّ
شَيْءٍ يَكُونُ الإِْدْرَاكُ. وَإِدْرَاكُ فَضِيلَةِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَكُونُ بِاشْتِرَاكِ الْمَأْمُومِ مَعَ
الإِْمَامِ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلاَتِهِ، وَلَوْ آخِرَ الْقَعْدَةِ
الأَْخِيرَةِ قَبْل السَّلاَمِ، فَلَوْ كَبَّرَ قَبْل سَلاَمِ إِمَامِهِ
فَقَدْ أَدْرَكَ فَضْل الْجَمَاعَةِ (1) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ
فَعِنْدَهُمْ تُدْرَكُ الصَّلاَةُ وَيَحْصُل فَضْلُهَا بِإِدْرَاكِ
رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ مَعَ الإِْمَامِ (2) .
4 - وَفِي الْمُعَامَلاَتِ نَجِدُ فِي الْجُمْلَةِ الْقَاعِدَةَ
التَّالِيَةَ: وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ آخَرَ
فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ كُل أَحَدٍ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِلْكُهُ
بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ صَدَّقَهُ مَنْ فِي يَدِهِ الْعَيْنُ (3) .
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسْأَلَةُ (ضَمَانُ الدَّرَكِ)
وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ (4) .
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَصِحُّ ضَمَانُ الدَّرَكِ؛ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ
عِنْدَ رَجُلٍ فَهُوَ أَحَقُّ
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 143 المطبعة العثمانية، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع
2 / 6 ط محمد علي صبيح، والمقنع 1 / 192 ط السلفية.
(2) مواهب الجليل 2 / 82 - 83 ط ليبيا.
(3) نيل الأوطار 5 / 240 المطبعة العثمانية المصرية.
(4) ابن عابدين 4 / 264
(2/354)
بِهِ، وَيَتْبَعُ الْبَيْعَ مَنْ بَاعَهُ
(1) وَلِكَوْنِ الْحَاجَةِ تَدْعُو إِلَيْهِ (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَبْحَثُ الْفُقَهَاءُ مُصْطَلَحَ (إِدْرَاكٍ) فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْمَوَاطِنِ. فَمَسْأَلَةُ إِدْرَاكِ الصَّلاَةِ بُحِثَتْ فِي الصَّلاَةِ
عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ إِدْرَاكِ رَكْعَةٍ فِي آخِرِ الْوَقْتِ:
(إِدْرَاكُ الْفَرِيضَةِ، صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ،
صَلاَةُ الْخَوْفِ) ، وَمَسْأَلَةُ إِدْرَاكِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فِي
الْحَجِّ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمَسْأَلَةُ
زَكَاةِ الثَّمَرَةِ إِذَا أَدْرَكَتْ فِي الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَدِيثِ
عَنْ زَكَاةِ الثِّمَارِ، وَضَمَانُ الدَّرَكِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي
الضَّمَانِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْبَيْعِ، وَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ فِي الْكَفَالَةِ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَيُسَمُّونَهُ
عُهْدَةَ الْمَبِيعِ - فَبَحَثُوهُ فِي السَّلَمِ، عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ
أَخْذِ الضَّمَانِ عَلَى عُهْدَةِ الْمَبِيعِ، وَمَسْأَلَةُ إِدْرَاكِ
الْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ فِي الْحَجْرِ، عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ بُلُوغِ
الْغُلاَمِ، وَمَسْأَلَةُ بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ قَبْل
الإِْدْرَاكِ وَبَعْدَهُ فِي الْمُسَاقَاةِ، عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ
إِدْرَاكِ الثَّمَرِ، وَمَسْأَلَةُ إِدْرَاكِ الصَّيْدِ حَيًّا فِي
الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ.
__________
(1) حديث " من وجد عين ما له. . . " رواه أحمد 5 / 13، وأبو داود 2 / 259،
والنسائي 7 / 314 عن الحسن عن سمرة. وفي سماع الحسن عنه خلاف، وبقية رجاله
ثقات (نيل الأوطار 5 / 360) وروى أحمد أوله أيضا ببعض اختلاف في اللفظ بسند
صحيح (مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر 12 / 91)
(2) ابن عابدين 4 / 264، وحاشية الدسوقي 3 / 11 ط عيسى الحلبي، والمهذب 1 /
349 ط مصطفى الحلبي، والمغني 4 / 351 ط المنار.
(2/354)
إِدْلاَءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: أَدْلَى الدَّلْوَ أَرْسَلَهَا فِي الْبِئْرِ
لِيَسْتَقِيَ بِهَا، وَأَدْلَى بِحُجَّتِهِ أَحْضَرَهَا (1) ، وَأَدْلَى
إِلَيْهِ بِمَالِهِ دَفَعَهُ، وَأَدْلَى إِلَى الْمَيِّتِ بِالْبُنُوَّةِ
وَصَل بِهَا، وَالإِْدْلاَءُ إِرْسَال الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ
اسْتُعِيرَ فِي إِرْسَال كُل شَيْءٍ مَجَازًا. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال
الْفُقَهَاءِ لِلإِْدْلاَءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - أَغْلَبُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ: (إِدْلاَءٍ) فِي بَابَيِ
الإِْرْثِ وَالْحَضَانَةِ، فَيَذْكُرُونَ الإِْدْلاَءَ بِالنَّسَبِ وَهُمْ
يَقْصِدُونَ الصِّلَةَ الَّتِي تَصِل الإِْنْسَانَ بِالْمَيِّتِ أَوْ
بِالْمَحْضُونِ، وَيُقَدِّمُونَ مَنْ يُدْلِي بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ
يُدْلِي بِغَيْرِهِ، وَمَنْ يُدْلِي بِجِهَتَيْنِ عَلَى مَنْ يُدْلِي
بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ (3) .
إِدْمَانٌ
انْظُرْ: خَمْرٌ - مُخَدِّرٌ
__________
(1) اللسان والمغرب، والمصباح
(2) دستور العلماء 1 / 63
(3) السراجية ص 85، 86 ط مصطفى الحلبي، والمهذب 2 / 169 ط عيسى الحلبي.
(2/355)
أَذًى
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْذَى فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ تَكْرَهُهُ وَلاَ
تُقِرُّهُ (1) ، وَمِنْهُ الْقَذَرُ (2) . وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى
الأَْثَرِ الَّذِي يَتْرُكُهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِذَا كَانَ أَثَرًا
يَسِيرًا، جَاءَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ عَنِ الْخَطَّابِيِّ: الأَْذَى:
الْمَكْرُوهُ الْيَسِيرُ (3) .
وَالأَْذَى يَرِدُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ بِهَذَيْنِ
الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا (4) ، فَهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى الشَّيْءِ
الْمُؤْذِي، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَْذَى عَنِ الطَّرِيقِ. (5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّرَرُ:
2 - الشَّرُّ عِنْدَمَا يَكُونُ يَسِيرًا يُسَمِّيهِ أَهْل اللُّغَةِ "
أَذًى "، وَعِنْدَمَا يَكُونُ جَسِيمًا يُسَمُّونَهُ " ضَرَرًا ". قَال فِي
تَاجِ الْعَرُوسِ: " الأَْذَى: الشَّرُّ الْخَفِيفُ، فَإِنْ زَادَ فَهُوَ
ضَرَرٌ (6) ".
__________
(1) أساس اللغة لابن فارس مادة: أذى
(بتصرف) .
(2) المصباح المنير مادة: أذى.
(3) تاج العروس، والمرجع للعلايلي مادة: أذى.
(4) مفردات الراغب الأصفهاني مادة: أذى.
(5) حديث: (وأدناها إماطة الأذى. . .) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان باب عدد
شعب الأيمان.
(6) تاج العروس مادة: أذى.
(2/355)
أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّ
اسْتِعْمَالَهُمُ الْعَامَّ لِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ (أَذًى، ضَرَرٌ)
يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ هَذَا الْفَرْقَ وَيُرَاعُونَهُ فِي
كَلاَمِهِمْ، فَهُمْ يَقُولُونَ: عَلَى الطَّائِفِ حَوْل الْكَعْبَةِ
أَلاَّ يُؤْذِيَ فِي طَوَافِهِ أَحَدًا (1) ، وَيَقُولُونَ: عَلَى
الْمُسْلِمِينَ أَلاَّ يُؤْذُوا أَحَدًا مِنْ أَهْل الْهُدْنَةِ مَا
دَامُوا فِي هُدْنَتِهِمْ (2) ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ. بَيْنَمَا هُمْ يَقُولُونَ: لاَ يَجُوزُ لِمَرِيضٍ أَنْ
يُفْطِرَ إِنْ كَانَ لاَ يَتَضَرَّرُ بِالصَّوْمِ (3) .
وَيَقُولُونَ: ضَمَانُ الضَّرَرِ، وَلاَ يَقُولُونَ: ضَمَانُ الأَْذَى،
كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
فَنِسْبَةُ الأَْذَى لِلضَّرَرِ كَنِسْبَةِ الصَّغَائِرِ إِلَى
الْكَبَائِرِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أ - الأَْذَى بِمَعْنَى الضَّرَرِ الْبَسِيطِ:
3 - الأَْذَى حَرَامٌ، وَتَرْكُهُ وَاجِبٌ بِالاِتِّفَاقِ (4) مَا لَمْ
يُعَارَضْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ، فَعِنْدَئِذٍ يُرْتَكَبُ الأَْذَى، عَمَلاً
بِالْقَاعِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: يُرْتَكَبُ أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ
لاِتِّقَاءِ أَشَدِّهِمَا (5) . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي
مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: كِتَابُ الْحَجِّ، عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى
لَمْسِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، وَفِي كِتَابِ الرِّقِّ، عِنْدَ كَلاَمِهِمْ
عَلَى مُعَامَلَةِ الرَّقِيقِ، وَفِي كِتَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَثِيرُ مِنْ هَذَا الْقَبِيل.
ب -
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 66، طبع بولاق الأولى.
(2) حاشية قليوبي 4 / 238، طبع مصطفى البابي الحلبي.
(3) الفروع 2 / 21، طبع مطبعة المنار سنة 1341 هـ
(4) انظر: الدر المختار بحاشية ابن عابدين 2 / 166، طبع بولاق الأولى،
وحاشية قليوبي 4 / 94 و 238، والفروع 2 / 388
(5) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم بحاشية الحموي ص 120
(2/356)
الأَْذَى بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُؤْذِي:
4 - يُنْدَبُ إِزَالَةُ الأَْشْيَاءِ الْمُؤْذِيَةِ لِلْمُسْلِمِينَ
أَيْنَمَا وُجِدَتْ، فَقَدِ اعْتَبَرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِمَاطَةَ الأَْذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنَ الإِْيمَانِ
بِقَوْلِهِ: الإِْيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَْذَى عَنِ الطَّرِيقِ.
(1)
وَقَال أَبُو بَرْزَةَ: يَا رَسُول اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ
يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَال: اعْزِل الأَْذَى عَنْ طَرِيقِ
الْمُسْلِمِينَ. (2) وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِنَبْلِهِ فِي مَكَانٍ
يَكْثُرُ فِيهِ النَّاسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ بِنَصْلِهِ؛ لِئَلاَّ
يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (3) . وَمَنْ رَأَى عَلَى أَخِيهِ
أَذًى فَعَلَيْهِ أَنْ يُمِيطَهُ عَنْهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ، فَإِنْ رَأَى بِهِ
أَذًى فَلْيُمِطْهُ عَنْهُ (4) .
وَالْمَوْلُودُ يُحْلَقُ شَعْرُهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَيُمَاطُ
عَنْهُ الأَْذَى (5) .
__________
(1) حديث: (الأيمان بضع وسبعون شعبة. . . .) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان
باب عدد شعب الأيمان.
(2) حديث: (اعزل الأذى. . . .) أخرجه مسلم - انظر شرح النووي لمسلم 16 /
171، طبع المطبعة الأزهرية، والإمام أحمد في المسند 4 / 423، الطبعة
الأولى.
(3) شرح النووي لمسلم 16 / 169
(4) حديث " إن أحدكم مرآة. . . " أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: "
يحيى بن عبيد الله ضعفه شعبة، وفي الباب عن أنس " وأخرجه الطبراني في
الأوسط، والضياء بلفظ: " المؤمن مرآة المؤمن " قال المناوي: بإسناد حسن
(تحفة الأحوذي 2 / 416 ط. التجارية) .
(5) مسند الإمام أحمد 4 / 18، والمغني 8 / 646، طبع المنار الثالثة.
(2/356)
وَيُقْتَل الْحَيَوَانُ الْمُؤْذِي (1)
وَلَوْ وُجِدَ فِي الْحَرَمِ، كَفًّا لأَِذَاهُ عَنِ النَّاسِ.
5 - الأَْشْيَاءُ الْمُؤْذِيَةُ إِذَا وُجِدَتْ فِي بِلاَدِ الْحَرْبِ
فَإِنَّهَا لاَ تُزَال إِضْعَافًا لِلْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ، فَلاَ
يُقْتَل الْحَيَوَانُ الْمُؤْذِي فِي بِلاَدِهِمْ (2) ، كَمَا نَصَّ عَلَى
ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
أَذَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْذَانُ لُغَةً: الإِْعْلاَمُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ (3) } أَيْ أَعْلِمْهُمْ بِهِ (4)
وَشَرْعًا: الإِْعْلاَمُ بِوَقْتِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ، بِأَلْفَاظٍ
مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ. أَوِ الإِْعْلاَمُ
بِاقْتِرَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَقَطْ عِنْدَ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ (5) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 528، طبع مصطفى البابي الحلبي، والفتاوى الهندية 1 /
252، طبع بولاق، والموطأ 1 / 357، طبع عيسى البابي الحلبي، والمغني 3 / 341
وما بعدها.
(2) ابن عابدين 3 / 230، طبع بولاق الأولى، وحاشية الشرقاوي على التحرير 2
/ 408، طبع مصطفى البابي الحلبي.
(3) سورة الحج / 27
(4) لسان العرب والمصباح المنير.
(5) شرح منتهى الإرادات 1 / 122 ط دار الفكر، والاختيار 1 / 42 ط دار
المعرفة بيروت، ومنح الجليل 1 / 117 نشر مكتبة النجاح ليبيا.
(2/357)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّعْوَةُ - النِّدَاءُ:
2 - كِلاَ اللَّفْظَيْنِ يَتَّفِقُ مَعَ الأَْذَانِ فِي الْمَعْنَى
الْعَامِّ وَهُوَ النِّدَاءُ وَالدُّعَاءُ وَطَلَبُ الإِْقْبَال (1) .
ب - الإِْقَامَةُ:
3 - لِلإِْقَامَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ عِدَّةٌ، مِنْهَا
الاِسْتِقْرَارُ، وَالإِْظْهَارُ، وَالنِّدَاءُ وَإِقَامَةُ الْقَاعِدِ.
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: إِعْلاَمٌ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلاَةِ
بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
ج - التَّثْوِيبُ:
4 - التَّثْوِيبُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ فِي الأَْذَانِ:
الْعَوْدُ إِلَى الإِْعْلاَمِ بَعْدَ الإِْعْلاَمِ، وَهُوَ زِيَادَةُ
عِبَارَةِ: (الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ
الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ،
أَوْ زِيَادَةُ عِبَارَةِ (حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ)
بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ (3) .
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْذَانَ مِنْ خَصَائِصِ
الإِْسْلاَمِ وَشَعَائِرِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ أَهْل
بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ،
فَقِيل: إِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَضَرِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَهْل الْمِصْرِ،
وَاسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) لسان العرب، وشرح منتهى الإرادات 1 / 122، ومغني المحتاج 1 / 133 ط
الحلبي.
(3) لسان العرب، وشرح منتهى الإرادات 1 / 127 ومغني المحتاج 1 / 136، وابن
عابدين 1 / 260، 261 ط بولاق.
(2/357)
الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسَاجِدِ
الْجَمَاعَاتِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ. كَذَلِكَ نُقِل عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ
وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، بِنَاءً عَلَى اصْطِلاَحِهِمْ فِي الْوَاجِبِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ
أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ (1) ، وَالأَْمْرُ هُنَا
يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ وَلأَِنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ
الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْجِهَادِ وَقِيل:
إِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَنْتَظِرُ آخَرِينَ لِيُشَارِكُوهُمْ فِي
الصَّلاَةِ، وَفِي السَّفَرِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
وَمُطْلَقًا فِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ الَّتِي مَشَى
عَلَيْهَا الْخِرَقِيُّ. وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ
صَلاَتَهُ: افْعَل كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَذْكُرِ الأَْذَانَ مَعَ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلاَةِ (2) . وَعَلَى كِلاَ الرَّأْيَيْنِ
لَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّوْا بِغَيْرِ أَذَانٍ صَحَّتْ صَلاَتُهُمْ
وَأَثِمُوا، لِمُخَالَفَتِهِمُ السُّنَّةَ وَأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيل هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ
رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ
لِلْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمُعَةِ، سُنَّةٌ فِي
غَيْرِهَا عِنْدَ
__________
(1) حديث: " إذا حضرت الصلاة. . " أخرجه البخاري (1 / 153 ط صبيح) واللفظ
له، ومسلم من حديث مالك بن الحويرث (تلخيص الحبير 1 / 193)
(2) حديث المسيء صلاته متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان رقم 224)
(2/358)
الْجُمْهُورِ (1) .
بَدْءُ مَشْرُوعِيَّةِ الأَْذَانِ:
6 - شُرِعَ الأَْذَانُ بِالْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الأُْولَى مِنَ
الْهِجْرَةِ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ
فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ أَنَّهُ قَال: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ
يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاَةَ وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ
فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَال بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا
نَاقُوسًا مِثْل نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَال بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْل
قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوَلاَ
تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلاَةِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بِلاَل قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ
جَاءَتْ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَال: لَمَّا أَمَرَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَل حَتَّى
يُضْرَبَ بِهِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلاَةِ طَافَ بِي وَأَنَا
نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِل نَاقُوسًا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ
أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ فَقَال: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ
لِلصَّلاَةِ، فَقَال: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟
، قُلْتُ: بَلَى، قَال: تَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ،
فَذَكَرَ الأَْذَانَ وَالإِْقَامَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا
رَأَيْتُ، فَقَال: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ
مَعَ بِلاَلٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ
__________
(1) الإنصاف 1 / 407 ط أولى، والمغني 1 / 417 - 418 ط الرياض، والحطاب 1 /
422 - 423 ط النجاح ليبيا، والمجموع 3 / 81 ط المكتبة السلفية بالمدينة
المنورة، ومغني المحتاج 1 / 134 ط الحلبي، وفتح القدير 1 / 209 - 210 ط دار
إحياء التراث العربي، والاختيار 1 / 42 ط دار المعرفة بيروت.
(2/358)
فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ. (1)
وَقِيل: إِنَّ الأَْذَانَ شُرِعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ
الْهِجْرَةِ. وَقِيل: إِنَّهُ شُرِعَ بِمَكَّةَ قَبْل الْهِجْرَةِ، وَهُوَ
بَعِيدٌ لِمُعَارَضَتِهِ الأَْحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ.
وَقَدِ اتَّفَقَتِ الأُْمَّةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ
الأَْذَانِ، وَالْعَمَل بِهِ جَارٍ مُنْذُ عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا بِلاَ خِلاَفٍ (2) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الأَْذَانِ:
7 - شُرِعَ الأَْذَانُ لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ،
وَإِعْلاَءِ اسْمِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ، وَإِظْهَارِ شَرْعِهِ
وَرِفْعَةِ رَسُولِهِ، وَنِدَاءِ النَّاسِ إِلَى الْفَلاَحِ وَالنَّجَاحِ
(3) .
فَضْل الأَْذَانِ:
8 - الأَْذَانُ مِنْ خَيْرِ الأَْعْمَال الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى، وَفِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي
فَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَوْ
يَعْلَمُ
__________
(1) حديث رؤيا عبد الله بن زيد رواه أبو داود في سننه من طريق محمد بن
إسحاق، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وقال: " سألت عنه البخاري، فقال
هو عندي صحيح ". ورواه ابن حبان وابن خزيمة وقال عنه البيهقي. ثابت صحيح
(نصب الراية 1 / 259) .
(2) انظر مسلم بشرح النووي 4 / 75 وسبل السلام 1 / 188 ط التجارية، وابن
عابدين 1 / 257 ط بولاق، والحطاب 1 / 421 ط النجاح ليبيا، وفتح القدير 1 /
167 والمغني 1 / 403، ط الرياض.
(3) البحر الرائق 1 / 279 ط المطبعة العلمية بالقاهرة.
(2/359)
النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ
الأَْوَّل ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ
لاَسْتَهَمُوا. (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَل النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (2)
وَقَدْ فَضَّلَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الإِْمَامَةِ لِلأَْخْبَارِ الَّتِي وَرَدَتْ
فِيهِ قَالُوا: وَلَمْ يَتَوَلَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلاَ خُلَفَاؤُهُ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ، وَلِهَذَا قَال عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْلاَ الْخِلاَفَةُ لأََذَّنْتُ (3) .
9 - وَنَظَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلٍ وَدَعْوَةِ الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الإِْقْبَال عَلَيْهِ فَقَدْ ذَكَرَ
الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَشَاحَّ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى
الأَْذَانِ قُدِّمَ مَنْ تَوَافَرَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الأَْذَانِ، فَإِنْ
تَسَاوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَقَدْ تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الأَْذَانِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ
فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ (4) .
أَلْفَاظُ الأَْذَانِ:
10 - أَلْفَاظُ الأَْذَانِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ زَيْدٍ فِي رُؤْيَاهُ الَّتِي قَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَهِيَ:
__________
(1) حديث " لو يعلم. . " متفق عليه، من حديث أبي هريرة (تلخيص الحبير 1 /
209) .
(2) المغني 1 / 402 والحطاب 1 / 422 والمهذب 1 / 61، وحديث " المؤذنون
أطول. . " أخرجه مسلم من حديث معاوية (تلخيص الحبير 1 / 208) .
(3) المغني 1 / 403 والحطاب 1 / 422 والمهذب 1 / 61، والأثر عن عمر رواه كل
من أبي الشيخ، والبيهقي بلفظ: " لولا الخليفا لأذنت " وسيد بن منصور يلفظ:
" لو أطيق مع الخليفا لأذنت ". (تلخيص الحبير 1 / 211)
(4) المغني 1 / 429 - 430، والمهذب 1 / 62
(2/359)
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ،
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ،
حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ،
حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ (1) .
هَكَذَا حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَذَانَ (الْمَلَكِ) النَّازِل
مِنَ السَّمَاءِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ،
فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُمْ
مَعَ بِلاَلٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ
فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ (2) "
وَأَخَذَ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ (3) ، وَهُوَ
بِنَفْسِ الأَْلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
زَيْدٍ، مَعَ زِيَادَةِ التَّرْجِيعِ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّل الأَْذَانِ مَرَّتَانِ
فَقَطْ مِثْل آخِرِهِ وَلَيْسَ أَرْبَعًا؛ لأَِنَّهُ عَمَل السَّلَفِ
بِالْمَدِينَةِ، وَلِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ
فِيهَا التَّكْبِيرُ فِي أَوَّل الأَْذَانِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ (5) .
__________
(1) الاختيار 1 / 42، والمغني 1 / 404
(2) رواه أبو داود وهذا لفظه، وروى نحوه كل من الترمذي وابن ماجه، وقال
الترمذي: حديث حسن صحيح (سنن أبي داود وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد
عليها 1 / 196 مطبعة السعادة، وسنن الترمذي 1 / 359 ط الحلبي) .
(3) حديث أذان أبي محذورة رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (جامع
الأصول 5 / 280 نشر دار البيان) .
(4) المهذب 1 / 63 ط دار المعرفة.
(5) البدائع 1 / 147 ط أولى شركة المطبوعات العلمية، وفتح القدير 1 / 211،
والزرقاني 1 / 157 ط دار الفكر، والشرح الصغير 1 / 249 ط دار المعارف،
والفواكه الدواني 1 / 201 - 202 ط دار المعرفة.
(2/360)
التَّرْجِيعُ فِي الأَْذَانِ:
11 - التَّرْجِيعُ هُوَ أَنْ يَخْفِضَ الْمُؤَذِّنُ صَوْتَهُ
بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ إِسْمَاعِهِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ يَعُودُ
فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِمَا. وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا فِي الرَّاجِحِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ بِلاَلاً لَمْ يَكُنْ يُرَجِّعُ فِي
أَذَانِهِ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ فِي أَذَانِ الْمَلَكِ النَّازِل مِنَ
السَّمَاءِ (1) .
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ؛ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَهِيَ
الصِّفَةُ الَّتِي عَلَّمَهَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مُبَاحٌ وَلاَ يُكْرَهُ الإِْتْيَانُ بِهِ
لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ. وَبِهَذَا أَيْضًا قَال بَعْضُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ (3) ، وَقَال الْقَاضِي
حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ رُكْنٌ فِي الأَْذَانِ (4) .
التَّثْوِيبُ:
12 - التَّثْوِيبُ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُؤَذِّنُ عِبَارَةَ (الصَّلاَةُ
خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ
الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَ الأَْذَانِ كَمَا يَقُول بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ،
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي مَحْذُورَةَ: فَإِذَا كَانَ صَلاَةُ
الصُّبْحِ قُلْتَ: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاَةُ خَيْرٌ
مِنَ النَّوْمِ (5) ، كَذَلِكَ لَمَّا أَتَى
__________
(1) ابن عابدين 1 / 259
(2) منح الجليل 1 / 119 ط النجاح، والفواكه الدواني 1 / 201 - 202،
والمجموع 3 / 90 - 91، ومغني المحتاج 1 / 136
(3) المغني 1 / 405، وكشاف القناع 1 / 214 - 215
(4) المجموع 3 / 90 - 91
(5) حديث " الصلاة خير من النوم " أخرجه أبو داود بهذا اللفظ وأخرج نحوه
ابن أبي شية وابن حبان، وصححه ابن خزيمة من طريق ابن جريج (سنن أبي داود 1
/ 196 - مطبعة السعادة نصب الراية 1 / 265)
(2/360)
بِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْذِنْهُ بِالصُّبْحِ فَوَجَدَهُ
رَاقِدًا فَقَال: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا
بِلاَل، اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ. وَخُصَّ التَّثْوِيبُ بِالصُّبْحِ لِمَا
يَعْرِضُ لِلنَّائِمِ مِنَ التَّكَاسُل بِسَبَبِ النَّوْمِ (1) .
وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّثْوِيبَ
فِي الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ؛ لأَِنَّ الْعِشَاءَ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ
كَالْفَجْرِ (2)
وَأَجَازَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ؛ لِفَرْطِ
الْغَفْلَةِ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا (3) ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي
غَيْرِ الْفَجْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِمَا
رُوِيَ عَنْ بِلاَلٍ أَنَّهُ قَال: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْفَجْرِ وَنَهَانِي أَنْ
أُثَوِّبَ فِي الْعِشَاءِ (4) . وَدَخَل ابْنُ عُمَرَ مَسْجِدًا يُصَلِّي
فِيهِ فَسَمِعَ رَجُلاً يُثَوِّبُ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ فَخَرَجَ، فَقِيل
لَهُ: أَيْنَ؟ فَقَال: أَخْرَجَتْنِي الْبِدْعَةُ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 260 والهداية 1 / 41 ط المكتبة الإسلامية ومغني المحتاج
1 / 136 ومنح الجليل 1 / 118 ومنتهى الإرادات 1 / 126 - 127
(2) البدائع 1 / 148، والمجموع 3 / 97 - 98
(3) المجموع 3 / 97 - 98
(4) حديث بلال: " أمرني. . . " أخرجه ابن ماجه واللفظ له، ورواه الترمذي
وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي إسرائيل الملائي، وليس بالقوي ولم
يسمعه من الحكم، وأخرج البيهقي نحوه، وأعله وقال: عبد الرحمن لم يلق بلالا
(نصب الراية 1 / 279، وسنن ابن ماجه 1 / 237 ط الحلبي) .
(5) كشاف القناع 1 / 215، والمغني 1 / 408، والحطاب 1 / 431، والمجموع 3 /
97 - 98، والبدائع 1 / 148، والهداية 1 / 41، والأثر عن مجاهد ذكره في جامع
الأصول 5 / 287
(2/361)
هَذَا هُوَ التَّثْوِيبُ الْوَارِدُ فِي
السُّنَّةِ.
13 - وَقَدِ اسْتَحْدَثَ عُلَمَاءُ الْكُوفَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ
عَهْدِ الصَّحَابَةِ تَثْوِيبًا آخَرَ، وَهُوَ زِيَادَةُ الْحَيْعَلَتَيْنِ
أَيْ عِبَارَةِ " حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ "
مَرَّتَيْنِ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِي الْفَجْرِ،
وَاسْتَحْسَنَهُ مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفَجْرِ فَقَطْ،
وَكُرِهَ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمُ
اسْتَحْسَنُوهُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا - إِلاَّ فِي الْمَغْرِبِ
لِضِيقِ الْوَقْتِ - وَذَلِكَ لِظُهُورِ التَّوَانِي فِي الأُْمُورِ
الدِّينِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ التَّثْوِيبَ بَيْنَ الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْل
كُل بَلَدٍ، بِالتَّنَحْنُحِ، أَوِ الصَّلاَةَ، الصَّلاَةَ، أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ. كَذَلِكَ اسْتَحْدَثَ أَبُو يُوسُفَ جَوَازَ التَّثْوِيبِ؛
لِتَنْبِيهِ كُل مَنْ يَشْتَغِل بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ،
كَالإِْمَامِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا، فَيَقُول الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ
الأَْذَانِ:
السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَْمِيرُ، حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ
عَلَى الْفَلاَحِ، الصَّلاَةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ (1) وَشَارَكَ أَبَا
يُوسُفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ
الْحَنَابِلَةُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ وَنَحْوُهُ قَدْ سَمِعَ
الأَْذَانَ (2) ، وَاسْتَبْعَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لأَِنَّ
النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ فِي أَمْرِ الْجَمَاعَةِ وَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ
بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
14 - وَأَمَّا مَا يَقُومُ بِهِ بَعْضُ الْمُؤَذِّنِينَ مِنَ التَّسْبِيحِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 261، وفتح القدير 1 / 214 - 215، والبدائع 1 / 148
(2) المهذب 1 / 66، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 427، وكشاف القناع 1
/ 215
(3) الحطاب 1 / 431
(2/361)
وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ
اللَّيْل فَقَدِ اعْتَبَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِدْعَةً
حَسَنَةً، وَقَال عَنْهُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ
الْمَكْرُوهَةِ، وَلاَ يَلْزَمُ فِعْلُهُ وَلَوْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ
لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ (1) .
الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
الأَْذَانِ:
15 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ
الأَْذَانِ سُنَّةٌ، وَعِنْدَهُمْ يُسَنُّ لِلْمُؤَذِّنِ مُتَابَعَةُ
قَوْلِهِ سِرًّا مِثْلَهُ كَالْمُسْتَمِعِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ
الأَْذَانِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ
كَانَ إِذَا أَذَّنَ فَقَال كَلِمَةً مِنَ الأَْذَانِ قَال مِثْلَهَا
سِرًّا؛ لِيَكُونَ مَا يُظْهِرُهُ أَذَانًا وَدُعَاءً إِلَى الصَّلاَةِ،
وَمَا يُسِرُّهُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ
سَمِعَ الأَْذَانَ.
بِذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَشْمَل الْمُؤَذِّنَ الأَْمْرُ الْوَارِدُ فِي
قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَمِعْتُمُ
الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ
مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ
سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ
لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ
وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَل اللَّهَ لِيَ
الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ (2) .
وَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِدْعَةً حَسَنَةً وَقَدْ
ذَكَرَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبِشْبِيشِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ
بِالتُّحْفَةِ السَّنِيَّةِ فِي أَجْوِبَةِ الأَْسْئِلَةِ الْمَرْضِيَّةِ
أَنَّ أَوَّل مَا زِيدَتِ
__________
(1) الحطاب 1 / 430، وكشاف القناع 1 / 221
(2) منتهى الإرادات 1 / 130، والمغني 1 / 428، ومغني المحتاج 1 / 141.
وحديث: " إذا سمعتم المؤذن. . . " رواه مسلم (صحيح مسلم 1 / 288)
(2/362)
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ كُل أَذَانٍ عَلَى الْمَنَارَةِ
زَمَنَ السُّلْطَانِ الْمَنْصُورِ حَاجِّيِّ بْنِ الأَْشْرَفِ شَعْبَانَ
وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 791 هـ وَكَانَ قَدْ حَدَثَ قَبْل ذَلِكَ
فِي أَيَّامِ السُّلْطَانِ يُوسُفَ صَلاَحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ أَنْ
يُقَال قَبْل أَذَانِ الْفَجْرِ فِي كُل لَيْلَةٍ بِمِصْرَ وَالشَّامِ:
السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ
777 هـ فَزِيدَ فِيهِ بِأَمْرِ الْمُحْتَسِبِ صَلاَحِ الدِّينِ
الْبُرُلُّسِيِّ أَنْ يُقَال: الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول
اللَّهِ ثُمَّ جَعَل ذَلِكَ عَقِبَ كُل أَذَانٍ سَنَةَ (791) هـ (1) .
النِّدَاءُ بِالصَّلاَةِ فِي الْمَنَازِل:
16 - يَجُوزُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَقُول عِنْدَ شِدَّةِ الْمَطَرِ أَوِ
الرِّيحِ أَوِ الْبَرْدِ: أَلاَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ
بَعْدَ الأَْذَانِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ
فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَال: أَلاَ صَلُّوا فِي
الرِّحَال، ثُمَّ قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ
بَرْدٍ وَمَطَرٍ أَنْ يَقُول: أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَال (2) ، وَرُوِيَ
أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا
ابْتَلَّتِ النِّعَال فَالصَّلاَةُ فِي الرِّحَال (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 261، والدسوقي 1 / 193 ط دار الفكر.
(2) حديث ابن عمر " أنه أذن. . . " أخرجه النسائي (2 / 15)
(3) هامثس الحطاب 1 / 427، ومنتهى الإرادات 1 / 281، والمجموع 3 / 129 -
130، والشلبي على الزيلعي 1 / 133 ط دار المعرفة وحديث " إذا ابتلت النعال
" لم يرد بهذا اللفظ في كتب الحديث وذكره ابن الأثير في النهاية وقال الشيخ
تاج الدين الفزاري في الأقليد لم أجده في الأصول وإنما ذكره أهل العربية
وللحديث شاهد آخر " إذا كان مطر وابل فصلوا في نعالكم " رواه الحاكم وعبد
الله بن الإمام أح (تلخيص الحبير 2 / 31)
(2/362)
شَرَائِطُ الأَْذَانِ
يُشْتَرَطُ فِي الأَْذَانِ لِلصَّلاَةِ مَا يَأْتِي:
دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ:
17 - دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْطٌ لِلأَْذَانِ، فَلاَ
يَصِحُّ الأَْذَانُ قَبْل دُخُول الْوَقْتِ - إِلاَّ فِي الأَْذَانِ
لِصَلاَةِ الْفَجْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي - لأَِنَّ الأَْذَانَ شُرِعَ
لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول الْوَقْتِ، فَإِذَا قُدِّمَ عَلَى الْوَقْتِ لَمْ
يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَبْل الْوَقْتِ
أَعَادَ الأَْذَانَ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ، إِلاَّ إِذَا صَلَّى النَّاسُ
فِي الْوَقْتِ وَكَانَ الأَْذَانُ قَبْلَهُ فَلاَ يُعَادُ. وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ بِلاَلاً أَذَّنَ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلاَ إِنَّ
الْعَبْدَ قَدْ نَامَ، فَرَجَعَ فَنَادَى: أَلاَ إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ
نَامَ. (1)
وَالْمُسْتَحَبُّ إِذَا دَخَل الْوَقْتُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهِ،
لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلصَّلاَةِ، وَكَانَ
بِلاَلٌ لاَ يُؤَخِّرُ الأَْذَانَ عَنْ أَوَّل الْوَقْتِ (2)
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ
الأَْذَانُ لِلْفَجْرِ
__________
(1) الحطاب 1 / 428، وكشاف القناع 1 / 220، والمجموع 3 / 87، والبدائع 1 /
154، وحديث (إن بلالا أذن) . . أخرجه أبو داود وقال: هذا الحديث لم يروه عن
أيوب إلا حماد ابن سلمة، وذكر الترمذي لفظ الحديث وقال: هذا حديث غير محفوظ
(سنن أبي داود 1 / 210 ط السعادة، وانظر نصب الراية 1 / 285)
(2) المغني 1 / 412، والأثر عن بلال أخرجه ابن ماجه 1 / 236 ط عيسى الحلبي.
(2/363)
قَبْل الْوَقْتِ، فِي النِّصْفِ الأَْخِيرِ
مِنَ اللَّيْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ،
وَفِي السُّدُسِ الأَْخِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَيُسَنُّ الأَْذَانُ
ثَانِيًا عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرِ أَبِي يُوسُفَ - لاَ يَجُوزُ الأَْذَانُ
لِصَلاَةِ الْفَجْرِ إِلاَّ عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ، وَلاَ فَرْقَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ لِمَا رَوَى شَدَّادٌ
مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال لِبِلاَلٍ: لاَ تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ
الْفَجْرُ. (2)
18 - وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَمِثْل بَاقِي الصَّلَوَاتِ لاَ يَجُوزُ
الأَْذَانُ لَهَا قَبْل دُخُول الْوَقْتِ، وَلِلْجُمُعَةِ أَذَانَانِ،
أَوَّلُهُمَا عِنْدَ دُخُول الْوَقْتِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ مِنْ
خَارِجِ الْمَسْجِدِ - عَلَى الْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا - وَقَدْ أَمَرَ
بِهِ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ إِذَا صَعِدَ الإِْمَامُ عَلَى
الْمِنْبَرِ، وَيَكُونُ دَاخِل الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ،
وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حَتَّى أَحْدَثَ عُثْمَانُ
الأَْذَانَ الثَّانِيَ.
وَكِلاَ الأَْذَانَيْنِ مَشْرُوعٌ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ
__________
(1) البدائع 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 139، ومنتهى الإرادات 1 / 129
والحطاب 1 / 428، وحديث: " إن بلالا يؤذن. . " متفق عليه (نصب الراية 1 /
288)
(2) حديث شداد: (لا تؤذن حتى. . . " أخرجه أبو داود بزيادة " هكذا " ومد
يده عرضا، وسكت عنه وأعله البيهقي بالانقطاع وقال في المعرفة: شداد مولي
عياض لم يدرك بلالا. وقال ابن القطان: شداد مجهول ولا يعرف بغير رواية جعفر
بن برقان عنه (سنن أبي داود 1 / 210، ونصف الراية 1 / 283)
(2/363)
مِنْ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَكُونَ
لِلْجُمُعَةِ أَذَانٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الْمِنْبَرِ (1) . هَذَا وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَذَانَيِ الْجُمُعَةِ مِنْ
أَحْكَامٍ وَأَيِّهِمَا الْمُعْتَبَرِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ (ر: بَيْعٌ،
وَصَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
النِّيَّةُ فِي الأَْذَانِ:
19 - نِيَّةُ الأَْذَانِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) ،
وَلِذَلِكَ لَوْ أَخَذَ شَخْصٌ فِي ذِكْرِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ
بَدَا لَهُ عَقِبَ مَا كَبَّرَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ
الأَْذَانَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلاَ يَبْنِي عَلَى مَا قَال. وَالنِّيَّةُ
لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْرْجَحِ وَلَكِنَّهَا
مَنْدُوبَةٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ الصَّارِفِ
فَلَوْ قَصَدَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ النِّيَّةُ لِصِحَّةِ
الأَْذَانِ وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ (3) .
أَدَاءُ الأَْذَانِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:
20 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَوْنَ الأَْذَانِ
بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ وَلاَ يَصِحُّ الإِْتْيَانُ
بِهِ بِأَيِّ لُغَةٍ أُخْرَى وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ أَذَانٌ.
__________
(1) منح الجيل 1 / 118، والبدائع 1 / 152، والمغني 2 / 297 والمجموع 3 /
124
(2) حديث " إنما الأعمال. . . . متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله
عنه واللفظ للبخاري (اللؤلؤ والمرجان ص 496)
(3) منتهى الإرادات 1 / 129، والحطاب 1 / 424، ونهاية المحتاج 1 / 394،
والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 11 ط الجمالية.
(2/364)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ إِنْ
كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ وَفِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ
يَجُزِ الأَْذَانُ بِغَيْرِهَا، وَيُجْزِئُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ
يُحْسِنُهَا، وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ
الْعَرَبِيَّةَ لاَ يُجْزِئُهُ الأَْذَانُ بِغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ لاَ
يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ (1) . وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصٌّ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
خُلُوُّ الأَْذَانِ مِنَ اللَّحْنِ:
21 - اللَّحْنُ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فِي الأَْذَانِ كَمَدِّ
هَمْزَةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ بَائِهِ يُبْطِل الأَْذَانَ، فَإِنْ لَمْ
يُغَيِّرِ الْمَعْنَى فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: اللَّحْنُ
الَّذِي يُغَيِّرُ الْكَلِمَاتِ لاَ يَحِل فِعْلُهُ (2) .
التَّرْتِيبُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ:
22 - يُقْصَدُ بِالتَّرْتِيبِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤَذِّنُ بِكَلِمَاتِ
الأَْذَانِ عَلَى نَفْسِ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي
السُّنَّةِ دُونَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ لِكَلِمَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ عَلَى
الأُْخْرَى، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُمْ
وَاجِبٌ فَإِنْ فَعَل الْمُؤَذِّنُ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ الأَْذَانَ مِنْ
أَوَّلِهِ؛ لأَِنَّ تَرْكَ التَّرْتِيبِ يُخِل بِالإِْعْلاَمِ
الْمَقْصُودِ، وَلأَِنَّهُ ذِكْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ فَلاَ يَجُوزُ
الإِْخْلاَل بِنَظْمِهِ، وَقِيل: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى
الْمُنْتَظِمِ مِنْهُ، فَلَوْ قَدَّمَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ عَلَى
الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ أَعَادَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنْ
كَانَ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 106، وابن عابدين 1 / 256، وكشاف القناع 1 / 215،
والمجموع 3 / 129
(2) منتهى الإرادات 1 / 130، والحطاب 1 / 438، والمجموع 3 / 108 - 110 وابن
عابدين 1 / 259، والاختيار 1 / 44
(2/364)
الاِسْتِئْنَافُ أَوْلَى (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِنْدَهُمُ التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ، فَلَوْ قَدَّمَ
فِي الأَْذَانِ جُمْلَةً عَلَى الأُْخْرَى أَعَادَ مَا قَدَّمَ فَقَطْ
وَلاَ يَسْتَأْنِفُهُ مِنْ أَوَّلِهِ (2) .
الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الأَْذَانِ:
23 - الْمُوَالاَةُ فِي الأَْذَانِ هِيَ الْمُتَابَعَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ
بِدُونِ فَصْلٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمِنَ الْفَصْل بَيْنَ أَلْفَاظِهِ
مَا يَحْدُثُ دُونَ إِرَادَةٍ كَالإِْغْمَاءِ أَوِ الرُّعَافِ أَوِ
الْجُنُونِ. وَالْفَصْل بَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ بِأَيِّ شَيْءٍ
كَسُكُوتٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ كَلاَمٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ
كَانَ يَسِيرًا فَلاَ يُبْطِل الأَْذَانَ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى،
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُسَنُّ اسْتِئْنَافُ الأَْذَانِ فِي غَيْرِ
السُّكُوتِ وَالْكَلاَمِ. هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى
كَرَاهَةِ الْكَلاَمِ الْيَسِيرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ أَوْ
ضَرُورَةٍ.
أَمَّا إِذَا طَال الْفَصْل بَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ بِكَلاَمٍ
كَثِيرٍ، وَلَوْ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى، أَوْ نَوْمٍ
طَوِيلٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ فَيَبْطُل الأَْذَانُ وَيَجِبُ
اسْتِئْنَافُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ، قَال الرَّافِعِيُّ: وَالأَْشْبَهُ وُجُوبُ
الاِسْتِئْنَافِ عِنْدَ طُول الْفَصْل، وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ بِعَدَمِ الْبُطْلاَنِ مَعَ اسْتِحْبَابِ الاِسْتِئْنَافِ.
وَأَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ بِحَالاَتِ بُطْلاَنِ الأَْذَانِ وَوُجُوبِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 137، ومنتهى الإرادات 1 / 128، والحطاب 1 / 425
(2) بدائع الصنائع 1 / 149
(2/365)
اسْتِئْنَافِهِ الْفَصْل بِالْكَلاَمِ
الْيَسِيرِ الْفَاحِشِ كَالشَّتْمِ وَالْقَذْفِ (1) .
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالأَْذَانِ:
24 - أَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ رَفْعَ الصَّوْتِ
بِالأَْذَانِ؛ لِيَحْصُل السَّمَاعُ الْمَقْصُودُ لِلأَْذَانِ، وَهُوَ
كَذَلِكَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَرَضُ إِعْلاَمَ
غَيْرِ الْحَاضِرِينَ بِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا مَنْ يُؤَذِّنُ
لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاضِرٍ مَعَهُ فَلاَ يُشْتَرَطُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ
إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ أَوْ يَسْمَعُهُ الْحَاضِرُ مَعَهُ،
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا
كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ
صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ
جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) وَهُوَ
سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: عَلِّمْهُ بِلاَلاً فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدَّ
صَوْتًا مِنْكَ.
25 - هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ
يُجْهِدَ الْمُؤَذِّنُ نَفْسَهُ بِمَا فَوْقَ طَاقَتِهِ مُبَالَغَةً فِي
رَفْعِ صَوْتِهِ
__________
(1) البحر الرائق 1 / 272، وابن عابدين 1 / 260 - 261، والبدائع 1 / 149،
والحطاب 1 / 427، ومغني المحتاج 1 / 137، والمجموع 3 / 114 وكشاف القناع 1
/ 218، والمغني 1 / 424
(2) منتهى الإرادات 1 / 129، وكشاف القناع 1 / 217، وحاشية الجمل على شرح
المنهج 1 / 298، 302 وابن عابدين 1 / 261 والبدائع 1 / 149، ومغني المحتاج
1 / 137، والحطاب 1 / 426 - 437، والرهوني 1 / 314 ط بولاق، والجواهر 1 /
36، وحديث " إني أراك. . " رواه البخاري 1 / 150 ط صبيح والنسائي ومالك
والبيهقي (تلخيص الحبير 1 / 193)
(2/365)
بِالأَْذَانِ خَشْيَةَ حُدُوثِ بَعْضِ
الأَْمْرَاضِ لَهُ.
26 - وَلِكَيْ يَكُونَ الأَْذَانُ مَسْمُوعًا وَمُحَقِّقًا لِلْغَرَضِ
مِنْهُ اسْتَحَبَّ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الأَْذَانُ مِنْ فَوْقِ
مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ يُسَاعِدُ عَلَى انْتِشَارِ الصَّوْتِ بِحَيْثُ
يَسْمَعُهُ أَكْبَرُ عَدَدٍ مُمْكِنٍ مِنَ النَّاسِ كَالْمِئْذَنَةِ
وَنَحْوِهَا.
سُنَنُ الأَْذَانِ
اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ:
27 - يُسَنُّ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ حَال الأَْذَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ تَرَكَ الاِسْتِقْبَال يُجْزِئُهُ
وَيُكْرَهُ، لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ؛ لأَِنَّ مُؤَذِّنِي
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُؤَذِّنُونَ
مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ (1) ،
وَجَازَ عِنْدَ بَعْضِ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
الدَّوَرَانُ حَال الأَْذَانِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَسْمَعَ لِصَوْتِهِ،
لأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الإِْعْلاَمُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الإِْعْلاَمُ بِتَحْوِيل وَجْهِهِ
عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فَقَطْ مَعَ ثَبَاتِ قَدَمَيْهِ فَإِنَّهُ
يَسْتَدِيرُ بِجِسْمِهِ فِي الْمِئْذَنَةِ (2) .
__________
(1) حديث " كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة " أخرج ابن عدي والحاكم من طريق
عبد الرحمن بن سعد القرظ، حدثني أبي عن آبائه: أن بلالا كان إذا كبر
بالأذان استقبل القبلة. وسئل يحيى بن معين عن عبد الرحمن بن سعد هذا فقال:
مدني ضعيف، ولم نجد نقلا في ذلك عن فعل غير بلال من مؤذني النبي صلى الله
عليه وسلم (الدراية 1 / 117 ونصب الراية 1 / 275)
(2) ابن عابدين 1 / 259 - 260، والبدائع 1 / 149، والبحر الرائق 1 / 272،
والحطاب 1 / 441، والدسوقي 1 / 196، والمجموع 3 / 106، ومغني المحتاج 1 /
136 - 137، وكشاف القناع 1 / 217، والمغني 1 / 426
(2/366)
وَعِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَيْ قَوْلِهِ
(حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ) يُسَنُّ أَنْ يَلْتَفِتَ
الْمُؤَذِّنُ فَيُحَوِّل وَجْهَهُ - فَقَطْ دُونَ اسْتِدَارَةِ جِسْمِهِ -
يَمِينًا وَيَقُول: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُحَوِّل
وَجْهَهُ شِمَالاً وَهُوَ يَقُول: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ مَرَّتَيْنِ،
هَكَذَا كَانَ أَذَانُ بِلاَلٍ وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.
التَّرَسُّل أَوِ التَّرْتِيل:
28 - التَّرَسُّل هُوَ التَّمَهُّل وَالتَّأَنِّي، وَيَكُونُ بِسَكْتَةٍ -
تَسَعُ الإِْجَابَةَ - بَيْنَ كُل جُمْلَتَيْنِ مِنْ جُمَل الأَْذَانِ،
عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَيُفْرِدَ
بَاقِيَ كَلِمَاتِهِ؛ لِلأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّل (1) ، وَلأَِنَّ
الْمَقْصُودَ مِنَ الأَْذَانِ هُوَ إِعْلاَمُ الْغَائِبِينَ بِدُخُول
وَقْتِ الصَّلاَةِ، وَالتَّرَسُّل أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْسْرَاعِ
وَقَدْ لَخَّصَ ابْنُ عَابِدِينَ مَا فِي مَسْأَلَةِ حَرَكَةِ رَاءِ
التَّكْبِيرَاتِ فَقَال " الْحَاصِل أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الثَّانِيَةَ فِي
الأَْذَانِ سَاكِنَةُ الرَّاءِ لِلْوَقْفِ حَقِيقَةً وَرَفْعُهَا خَطَأٌ،
وَأَمَّا التَّكْبِيرَةُ الأُْولَى مِنْ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ مِنْهُ
وَجَمِيعُ تَكْبِيرَاتِ الإِْقَامَةِ فَقِيل مُحَرَّكَةُ الرَّاءِ
بِالْفَتْحَةِ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ، وَقِيل بِالضَّمَّةِ إِعْرَابًا،
وَقِيل سَاكِنَةٌ بِلاَ حَرَكَةٍ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ
الأَْمْدَادِ وَالزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالَّذِي يُظْهِرُ الإِْعْرَابَ لِمَا ذَكَرَهُ عَنِ
الطَّلَبَةِ، وَلِمَا فِي
__________
(1) حديث " إذا أذنت فترسل " رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وابن عدي
وضعفوه، إلا الحاكم فقال: ليس في إسناده مطعون غير عمرو بن قائد، وهو في
رواية الحاكم وليس في رواية الباقين وعندهم فيه عبد المنعم صاحب السقاء وهو
كاف في تضعيف الحديث، وقد تكلم المحدثون في كل رواياته بالتضعيف. (تلخيص
الحبير 1 / 200)
(2/366)
الأَْحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ
لِلْجِرَاحِيِّ أَنَّهُ سُئِل السُّيُوطِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَال
هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ كَمَا قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ
مِنْ قَوْل إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمَعْنَاهُ كَمَا قَال جَمَاعَةٌ
مِنْهُمُ الرَّافِعِيُّ وَابْنُ الأَْثِيرِ أَنَّهُ لاَ يَمُدُّ.
وَإِطْلاَقُ الْجَزْمِ عَلَى حَذْفِ الْحَرَكَةِ الإِْعْرَابِيَّةِ لَمْ
يَكُنْ مَعْهُودًا فِي الصَّدْرِ الأَْوَّل، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلاَحٌ
حَادِثٌ فَلاَ يَصِحُّ الْحَمْل عَلَيْهِ (1) ".
صِفَاتُ الْمُؤَذِّنِ
مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ:
الإِْسْلاَمُ:
29 - إِسْلاَمُ الْمُؤَذِّنِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، فَلاَ يَصِحُّ أَذَانُ
الْكَافِرِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ
يَعْتَقِدُ الصَّلاَةَ الَّتِي يُعْتَبَرُ الأَْذَانُ دُعَاءً لَهَا،
فَإِتْيَانُهُ بِالأَْذَانِ ضَرْبٌ مِنَ الاِسْتِهْزَاءِ، وَهَذَا
بِاتِّفَاقٍ (2) ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ، وَفِي حُكْمِ إِسْلاَمِهِ
لَوْ أَذَّنَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحَ: (إِسْلاَمٌ) .
الذُّكُورَةُ:
30 - مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً،
فَلاَ يَصِحُّ أَذَانُ الْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّ رَفْعَ صَوْتِهَا قَدْ يُوقِعُ
فِي الْفِتْنَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ
يُعْتَدُّ بِأَذَانِهَا لَوْ أَذَّنَتْ. وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ
الذُّكُورَةَ مِنَ السُّنَنِ، وَكَرِهُوا أَذَانَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 258 - 251، والحطاب 1 / 426، 437، ومغني المحتاج 1 /
136، والمغني 1 / 407، ومنتهى الإرادات 1 / 126
(2) منتهى الإرادات 1 / 125، ومنح الجليل 1 / 120، والمهذب 1 / 64، وابن
عابدين 1 / 263 - 264
(2/367)
الْمَرْأَةِ، وَاسْتَحَبَّ الإِْمَامُ
أَبُو حَنِيفَةَ إِعَادَةَ الأَْذَانِ لَوْ أَذَّنَتْ، وَفِي الْبَدَائِعِ:
لَوْ أَذَّنَتْ لِلْقَوْمِ أَجْزَأَ، وَلاَ يُعَادُ، لِحُصُول
الْمَقْصُودِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَذَانَهَا لِجَمَاعَةِ
النِّسَاءِ دُونَ رَفْعِ صَوْتِهَا (1) .
الْعَقْل:
31 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، فَلاَ يَصِحُّ
الأَْذَانُ مِنْ مَجْنُونٍ وَسَكْرَانَ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِمَا، وَيَجِبُ
إِعَادَةُ الأَْذَانِ لَوْ وَقَعَ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ كَلاَمَهُمَا لَغْوٌ،
وَلَيْسَا فِي الْحَال مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ (2) ، وَهَذَا عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ أَذَانَ غَيْرِ الْعَاقِل،
وَاسْتُحِبَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِعَادَةُ أَذَانِهِ (3) .
الْبُلُوغُ:
32 - الصَّبِيُّ غَيْرُ الْعَاقِل (أَيْ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ) لاَ يَجُوزُ
أَذَانُهُ بِاتِّفَاقٍ؛ لأَِنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ،
أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَجُوزُ أَذَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
(مَعَ كَرَاهَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى بَالِغٍ عَدْلٍ فِي مَعْرِفَةِ
دُخُول الْوَقْتِ (4) .
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 125، ومنح الجليل 1 / 120، وابن عابدين 1 / 263،
والبدائع 1 / 150، ومغني المحتاج 1 / 135، 137
(2) منتهى الإرادات 1 / 125، ومنح الجليل 1 / 120، والمهذب 1 / 64
(3) البدائع 1 / 150، وابن عابدين 1 / 264
(4) المغني 1 / 413 - 414، ومغني المحتاج 1 / 137، والمهذب 1 / 64، ومنح
الجليل 1 / 120، والبدائع 1 / 150، وابن عابدين 1 / 263، والحطاب 1 / 434
(2/367)
مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ
الْمُؤَذِّنُ:
33 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ طَاهِرًا مِنَ الْحَدَثِ
الأَْصْغَرِ وَالأَْكْبَرِ؛ لأَِنَّ الأَْذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ،
فَالإِْتْيَانُ بِهِ مَعَ الطَّهَارَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ،
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لاَ يُؤَذِّنُ إِلاَّ
مُتَوَضِّئٌ (1) ، وَيَجُوزُ أَذَانُ الْمُحْدِثِ مَعَ الْكَرَاهَةِ
بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ الأَْكْبَرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ
الأَْصْغَرِ كَذَلِكَ (2) .
34 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَدْلاً؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ عَلَى
الْمَوَاقِيتِ، وَلْيُؤَمِّنْ نَظَرَهُ إِلَى الْعَوْرَاتِ. وَيَصِحُّ
أَذَانُ الْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
لاَ يُعْتَدُّ بِأَذَانِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْبَل
خَبَرُهُ، وَفِي الْوَجْهِ الآْخَرِ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ؛ لأَِنَّهُ
تَصِحُّ صَلاَتُهُ بِالنَّاسِ، فَكَذَا أَذَانُهُ (3) .
35 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا، أَيْ حَسَنَ الصَّوْتِ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
زَيْدٍ: فَقُمْ مَعَ بِلاَلٍ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَإِنَّهُ
أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ (4) ؛ وَلأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِْعْلاَمِ،
هَذَا مَعَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " لا يؤذن إلا متوضئ "، رواه الترمذي من حديث الزهري
عن أبي هريرة، وهو منقطع والراوي له عن الزهري ضعيف، ورواه أيضا من رواية
يونس عن الزهري عنه موقوفا وهو أصح. (تلخيص الحبير 1 / 206)
(2) منح الجليل 1 / 120، ومنتهى الإرادات 1 / 127، ومغني المحتاج 1 / 138،
والبدائع 1 / 151
(3) مغني المحتاج 1 / 138، والمغني 1 / 413، وابن عابدين 1 / 263، والحطاب
1 / 436
(4) حديث: " فقم مع بلال. . . " " رواه أبو داود (1 / 188 عون المعبود - ط
المطبعة الأنصارية بدهلي، وابن ماجه رقم 706 - ط عيسى الحلبي، والترمذي رقم
189 - ط مصطفى الحلبي، وقال عنه: " حسن صحيح ".
(2/368)
كَرَاهَةِ التَّمْطِيطِ وَالتَّطْرِيبِ (1)
.
36 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَل أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ حَال
الأَْذَانِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلاَلاً بِذَلِكَ وَقَال: إِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ
(2) .
37 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلاَلٍ: قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلاَةِ (3) ،
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنَ
السُّنَّةِ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِْسْمَاعِ. وَلاَ يُؤَذِّنُ
قَاعِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، أَوْ كَانَ الأَْذَانُ لِنَفْسِهِ كَمَا يَقُول
الْحَنَفِيَّةُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا إِلاَّ فِي سَفَرٍ،
وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ أَذَانَ الرَّاكِبِ فِي
الْحَضَرِ (4)
38 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلاَةِ؛
لِيَتَحَرَّاهَا فَيُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهَا، حَتَّى كَانَ الْبَصِيرُ
أَفْضَل مِنَ الضَّرِيرِ، لأَِنَّ الضَّرِيرَ لاَ عِلْمَ لَهُ بِدُخُول
الْوَقْتِ (5)
39 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ هُوَ الْمُقِيمَ؛ لِمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ، حِينَ أَذَّنَ
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 125 - 130، ومغني المحتاج 1 / 138، وابن عابدين 1 /
259، والحطاب 1 / 437
(2) كشاف القناع 1 / 218، والمهذب 1 / 64، والحطاب 1 / 439، والبدائع 1 /
151، وحديث: " جعل الأصبعين. . . "، أخرجه ابن ماجه في سننه، والحاكم في
المستدرك، وسكت عنه، والطبراني في معجمه وضعفه ابن أبي حاتم (نصب الراية 1
/ 278)
(3) حديث: " قم فأذن. . " متفق عليه، وهذا اللفظ للنسائي، ولفظهما: " قم يا
بلال فناد بالصلاة) . (تلخيص الحبير 1 / 203)
(4) كشاف القناع 1 / 216، والحطاب 1 / 441، المهذب 1 / 64، والبدائع 1 /
151، وابن عابدين 1 / 263
(5) المغني 1 / 414، والبدائع 1 / 150، والحطاب 1 / 436، ومغني المحتاج 1 /
137
(2/368)
فَأَرَادَ بِلاَلٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ
أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ (1) .
40 - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا، وَلاَ يَأْخُذَ عَلَى
الأَْذَانِ أَجْرًا؛ لأَِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِبًا كُتِبَتْ
لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ (2) ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مُتَطَوِّعٌ
رَزَقَ الإِْمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَال مَنْ يَقُومُ بِهِ؛ لِحَاجَةِ
الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ.
41 - وَبِالنِّسْبَةِ لِلإِْجَارَةِ عَلَى الأَْذَانِ فَقَدْ أَجَازَهُ
مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ، لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَجَازَهُ كَذَلِكَ
الإِْمَامُ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ (3) (ر: إِجَارَةٌ) .
مَا يُشْرَعُ لَهُ الأَْذَانُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
42 - الأَْصْل أَنَّ الأَْذَانَ شُرِعَ لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فِي
حَال الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالاِنْفِرَادِ، أَدَاءً
وَقَضَاءً، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (4) ، إِلاَّ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ
مِنْ أَنَّهُ
__________
(1) البدائع 1 / 151، ومنتهى الإرادات 1 / 128، والمهذب 1 / 66، ومنح
الجليل 1 / 122، وحديث: " إن أخا صداء. . . " رواه أحمد وأبو داود وابن
ماجه والترمذي، واللفظ له، وقال الترمذي: إنما يعرف من حديث عبد الرحمن بن
زياد الأفريقي، وقد ضعفه القطان وغيره. قال: ورأيت محمد بن إسماعيل - يعني
الإمام البخاري - يقوي أمره ويقول: هو مقارب الحديث. قال: والعمل على هذا
عند أكثر أهل العلم (تلخيص الحبير 1 / 209)
(2) حديث: " من أذن. . " أخرجه ابن ماجه رقم 727 - ط عيسى الحلبي، وقال عنه
البوصيري: " أخرجه الترمذي وقال: جابر بن يزيد الجعفر ضعفوه "، يعني الذين
في إسناده.
(3) البدائع 1 / 152، والمغني 1 / 415، والمهذب 1 / 66، والحطاب 1 / 455،
وابن عابدين 5 / 34
(4) البحر الرائق 1 / 276 ط المطبعة العلمية بالقاهرة، والإنصاف 1 / 406 ط
أولى، ونهاية المحتاج 1 / 384
(2/369)
يُكْرَهُ الأَْذَانُ لِلْفَائِتَةِ، وَمَا
قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لاَ أَذَانَ فِي الْحَضَرِ
لِلْمُنْفَرِدِ، وَلِلْجَمَاعَةِ غَيْرِ الْمُسَافِرَةِ الْمُجْتَمِعِينَ
بِمَوْضِعٍ وَلاَ يُرِيدُونَ دُعَاءَ غَيْرِهِمْ؛ لأَِنَّ الأَْذَانَ
إِنَّمَا جُعِل لِيُدْعَى بِهِ الْغَائِبُ، وَلاَ غَائِبَ حَتَّى يُدْعَى.
وَيُنْدَبُ لَهُمُ الأَْذَانُ فِي السَّفَرِ (1) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا
الأَْصْل بَعْضُ الْفُرُوعِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ وَهِيَ:
الأَْذَانُ لِلْفَوَائِتِ:
43 - سَبَقَ أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ الأَْذَانِ
لِلْفَوَائِتِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّ الْفَائِتَةَ الْوَاحِدَةَ
يُؤَذَّنُ لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ
الأَْنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ قَال: فَمَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَوَضَعَ
رَأْسَهُ، ثُمَّ قَال: احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاَتَنَا، فَكَانَ أَوَّل
مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ. قَال: فَقُمْنَا فَزِعِينَ. ثُمَّ قَال:
ارْكَبُوا فَرَكِبْنَا، فَسِرْنَا، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ
نَزَل. ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ.
قَال فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ. قَال: وَبَقِيَ فِيهَا
شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ. ثُمَّ قَال لأَِبِي قَتَادَةَ: احْفَظْ عَلَيْنَا
مِيضَأَتَكَ، فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ
بِالصَّلاَةِ، فَصَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ، فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُل
يَوْمٍ (2) .
__________
(1) الحطاب 1 / 451، ومنح الجليل 1 / 122
(2) حديث التعريس رواه مسلم (مسلم 1 / 472 ط عيسى الحلبي) .
(2/369)
44 - أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَتِ
الْفَوَائِتُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْوْلَى أَنْ يُؤَذِّنَ
وَيُقِيمَ لِكُل صَلاَةٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلأُْولَى فَقَطْ
وَيُقِيمَ لِمَا بَعْدَهَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
أَيْضًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِلاَلاً، فَأَذَّنَ
وَأَقَامَ لِكُل صَلاَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ
لِلأُْولَى، ثُمَّ أَقَامَ لِكُل صَلاَةٍ بَعْدَهَا، وَفِي بَعْضِهَا
أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الإِْقَامَةِ لِكُل صَلاَةٍ (1) . وَبِهَذِهِ
الرِّوَايَةِ الأَْخِيرَةِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَا جَاءَ فِي
الأُْمِّ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ خِلاَفُ ذَلِكَ،
وَوَرَدَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الإِْمْلاَءِ أَنَّهُ إِنْ أَمَّل
اجْتِمَاعَ النَّاسِ أَذَّنَ وَأَقَامَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّل أَقَامَ؛
لأَِنَّ الأَْذَانَ يُرَادُ لِجَمْعِ النَّاسِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَمَّل
الْجَمْعُ لَمْ يَكُنْ لِلأَْذَانِ وَجْهٌ (2) .
الأَْذَانُ لِلصَّلاَتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ:
45 - إِذَا جُمِعَتْ صَلاَتَانِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، كَجَمْعِ
الْعَصْرِ مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَكَجَمْعِ
الْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ
لِلأُْولَى فَقَطْ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ
(3) . وَهَذَا عِنْدَ
__________
(1) انظر الروايات في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلوات التي
فاتته يوم الخندق.
(2) البدائع 1 / 154، والمغني 1 / 419، ومنتهى الإرادات 1 / 129، والمهذب 1
/ 62، ومغني المحتاج 1 / 135
(3) حديث: " صلى المغرب والعشاء بمزدلفة. . . " رواه مسلم من قول جابر في
حديثه الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري عن
ابن عمر ذكر الإقامتين ولم يذكر أذانا، وفي البخاري أن ابن مسعود صلاهما
بأذانين وإقامتين (البخاري 1 / 290 ط دار المعرفة بلبنان، ومسلم 2 / 891
بتحقيق محمد عبد الباقي، وانظر تلخيص الحبير ص 192)
(2/370)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنَّ الأَْشْهَرَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ
لِكُل صَلاَةٍ مِنْهُمَا (1) .
الأَْذَانُ فِي مَسْجِدٍ صُلِّيَتْ فِيهِ الْجَمَاعَةُ:
46 - لَوْ أُقِيمَتْ جَمَاعَةٌ فِي مَسْجِدٍ فَحَضَرَ قَوْمٌ لَمْ
يُصَلُّوا فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُمُ
الأَْذَانُ دُونَ رَفْعِ الصَّوْتِ لِخَوْفِ اللَّبْسِ - سَوَاءٌ أَكَانَ
الْمَسْجِدُ مَطْرُوقًا أَمْ غَيْرَ مَطْرُوقٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
يَسْتَوِي الأَْمْرُ، إِنْ أَرَادُوا أَذَّنُوا وَأَقَامُوا، وَإِلاَّ
صَلَّوْا بِغَيْرِ أَذَانٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ دَخَل
مَسْجِدًا قَدْ صَلَّوْا فِيهِ فَأَمَرَ رَجُلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ
فَصَلَّى بِهِمْ فِي جَمَاعَةٍ (2) .
وَيُفَصِّل الْحَنَفِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ لَهُ
أَهْلٌ مَعْلُومُونَ وَصَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ
لاَ يُكْرَهُ لأَِهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الأَْذَانَ وَالإِْقَامَةَ إِذَا
صَلَّوْا، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ أَوْ بَعْضُ
أَهْلِهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَلِلْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ
يُعِيدُوا الأَْذَانَ وَالإِْقَامَةَ إِذَا صَلَّوْا، وَإِنْ كَانَ
الْمَسْجِدُ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ بِأَنْ كَانَ عَلَى
الطَّرِيقِ لاَ يُكْرَهُ تَكْرَارُ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ فِيهِ.
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَتَى بَعْدَ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ صَلَّى
بِغَيْرِ أَذَانٍ (3) .
__________
(1) البدائع 1 / 152 والمجموع 3 / 83 والحطاب 1 / 468
(2) رواه أبو يعلي، مجمع الزوائد 2 / 4 ط القدس.
(3) البدائع 1 / 153، والمجموع 3 / 85، والمغني 1 / 421، والحطاب 1 / 468
(2/370)
تَعَدُّدُ الْمُؤَذِّنِينَ:
47 - يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ،
وَلاَ يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى اثْنَيْنِ؛ لأَِنَّ الَّذِي حُفِظَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ
مُؤَذِّنَانِ بِلاَلٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ (1) ، إِلاَّ أَنْ تَدْعُوَ
الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا فَيَجُوزُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ (2) ، وَإِنْ دَعَتِ
الْحَاجَةُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَشْرُوعًا.
وَكَيْفِيَّةُ أَذَانِهِمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَاحِدُ يُسْمِعُ
النَّاسَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، لأَِنَّ
مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
أَحَدُهُمَا يُؤَذِّنُ بَعْدَ الآْخَرِ (3) ، وَإِذَا كَانَ الإِْعْلاَمُ
لاَ يَحْصُل بِوَاحِدٍ أَذَّنُوا بِحَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، إِمَّا
أَنْ يُؤَذِّنَ كُل وَاحِدٍ فِي مَنَارَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ أَوْ أَذَّنُوا
دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ خَافُوا مِنْ تَأْذِينٍ
وَاحِدٍ بَعْدَ الآْخَرِ فَوَاتَ أَوَّل الْوَقْتِ أَذَّنُوا جَمِيعًا
دَفْعَةً وَاحِدَةً (4) .
مَا يُعْلَنُ بِهِ عَنِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يُشْرَعْ لَهَا
الأَْذَانُ:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْذَانَ إِنَّمَا شُرِعَ
لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلاَ يُؤَذَّنُ لِصَلاَةٍ غَيْرِهَا
كَالْجِنَازَةِ
__________
(1) حديث: " كان له مؤذنان. . . "، أخرجه البخاري ومسلم من حديث القاسم عن
عائشة (تلخيص الحبير 1 / 208)
(2) يعرف ذلك مما في الصحيحين من حديث عمر وعائشة: " أن بلالا يؤذن بليل. .
. " (نصب الراية 1 / 288)
(3) الأثر عن عثمان ذكره جماعة من الفقهاء منهم صاحب المهذب وبيض له
المنذري والنووي. ولا يعرف له أصل. واحتج به الشافعي في الإملاء في جواز
أكثر من مؤذنين (تلخيص الحبير 1 / 212)
(4) المغني 1 / 429، والحطاب 1 / 452 - 453، ومغني المحتاج 1 / 139،
والمهذب 1 / 66، وابن عابدين 1 / 266
(2/371)
وَالْوِتْرِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْذَانَ لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ،
وَالْمَكْتُوبَاتُ هِيَ الْمُخَصَّصَةُ بِأَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ،
وَالنَّوَافِل تَابِعَةٌ لِلْفَرَائِضِ، فَجَعَل أَذَانَ الأَْصْل أَذَانًا
لِلتَّبَعِ تَقْدِيرًا، أَمَّا صَلاَةُ الْجِنَازَةِ فَلَيْسَتْ بِصَلاَةٍ
عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذْ لاَ قِرَاءَةَ فِيهَا وَلاَ رُكُوعَ وَلاَ
سُجُودَ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ
قَال: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ
إِقَامَةٍ (1) .
49 - أَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّدَاءِ لِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لاَ
أَذَانَ لَهَا فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ
لِلْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ وَالتَّرَاوِيحِ إِذَا
صُلِّيَتْ جَمَاعَةً - وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ
لِصَلاَةِ الْجِنَازَةِ - فَإِنَّهُ يُنَادَى لَهَا: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ،
وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِيدِ وَالْكُسُوفِ
وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ
بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَاسْتَحْسَنَ عِيَاضٌ مَا
اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَنْ يُنَادَى لِكُل صَلاَةٍ لاَ
يُؤَذَّنُ لَهَا: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ.
وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ الْفُقَهَاءُ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَسَفَتِ
الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ (2) .
__________
(1) حديث جابر بن سمرة: " صليت. . . "، أخرجه مسلم (2 / 604 ط عيسى الحلبي)
.
(2) ابن عابدين 1 / 565، وفتح القدير 1 / 210، والمجموع 3 / 77، والشرواني
على التحفة 1 / 462 ط دار صادر والحطاب 1 / 435 و 2 / 191، والمواق بهاش
الحطاب 1 / 423، وكشاف القناع 1 / 211، وحديث عائشة: " خسفت الشمس. . "
رواه مسلم 2 / 620، وانظر نصب الراية (1 / 257)
(2/371)
إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ وَالدُّعَاءُ
بَعْدَ الإِْجَابَةِ:
50 - يُسَنُّ لِمَنْ سَمِعَ الأَْذَانَ مُتَابَعَتُهُ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ
أَنْ يَقُول مِثْل مَا يَقُول، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول
الْمُؤَذِّنُ (1) وَيُسَنُّ أَنْ يَقُول عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ: لاَ حَوْل
وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. فَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَال
الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَال أَحَدُكُمْ:
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَال: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ قَال: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. ثُمَّ
قَال: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. قَال: أَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. ثُمَّ قَال: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ. قَال: لاَ
حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَال: حَيَّ عَلَى
الْفَلاَحِ. قَال: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَال:
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ
أَكْبَرُ. ثُمَّ قَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ، مِنْ قَلْبِهِ - دَخَل الْجَنَّةَ (2) .
وَلأَِنَّ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ خِطَابٌ
فَإِعَادَتُهُ عَبَثٌ. وَفِي التَّثْوِيبِ وَهُوَ قَوْل " الصَّلاَةُ
خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " فِي أَذَانِ الْفَجْرِ يَقُول: صَدَقْتَ
وَبَرِرْتَ - بِكَسْرِ الرَّاءِ الأُْولَى - ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ
رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ
مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ
__________
(1) حديث: " إذا سمعتم المؤذن. . . " أخرجه الحاكم. وقال الترمذي حديث حسن
صحيح وهو في الصحيحين بلفظ: " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن
"، (تلخيص الحبير 1 / 211، واللؤلؤ والمرجان ص 78، وسنن الترمذي 1 / 407
مطبعة الحلبي) .
(2) حديث عمر بن الخطاب: " إذا قال المؤذن. . .) ، أخرجه مسلم (1 / 288 - ط
عيسى الحلبي) .
(2/372)
وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا
مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: إِذَا سَمِعْتُمُ
الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ
مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ
سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ
لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ،
وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَل اللَّهَ لِيَ
الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَ
الأَْذَانِ بِمَا شَاءَ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: الدُّعَاءُ لاَ
يُرَدُّ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ (1) "، وَيَقُول عِنْدَ أَذَانِ
الْمَغْرِبِ: اللَّهُمَّ هَذَا إِقْبَال لَيْلِكَ وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ
وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ فَاغْفِرْ لِي.
وَلَوْ سَمِعَ مُؤَذِّنًا ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا اسْتُحِبَّ لَهُ
الْمُتَابَعَةُ أَيْضًا. وَمَا سَبَقَ هُوَ بِاتِّفَاقٍ إِلاَّ أَنَّ
الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَحْكِيَ السَّامِعُ لآِخِرِ
الشَّهَادَتَيْنِ فَقَطْ، وَلاَ يَحْكِي التَّرْجِيعَ، وَلاَ يَحْكِي
الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ وَلاَ يُبَدِّلُهَا بِصَدَقْتَ
وَبَرِرْتَ، وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ أَنَّهُ يَحْكِي لآِخِرِ الأَْذَانِ
(2) .
الأَْذَانُ لِغَيْرِ الصَّلاَةِ:
51 - شُرِعَ الأَْذَانُ أَصْلاً لِلإِْعْلاَمِ بِالصَّلاَةِ إِلاَّ أَنَّهُ
قَدْ يُسَنُّ الأَْذَانُ لِغَيْرِ الصَّلاَةِ تَبَرُّكًا وَاسْتِئْنَاسًا
أَوْ إِزَالَةً لِهَمٍّ طَارِئٍ
__________
(1) حديث: أنس " الدعاء لا يرد. . " رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان
وأخرجه أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح (تلخيص الحبير 1
/ 213، وسنن الترمذي 1 / 416 مطبعة مصطفى الحلبي) .
(2) منتهى الإرادات 1 / 130، والمغني 1 / 426 - 427، ومغني المحتاج 1 /
140، والمهذب 1 / 65، ومنح الجليل 1 / 121، والحطاب 1 / 442، والبدائع 1 /
155، وابن عابدين 1 / 265 - 266
(2/372)
وَالَّذِينَ تَوَسَّعُوا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ
هُمْ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالُوا: يُسَنُّ الأَْذَانُ فِي أُذُنِ
الْمَوْلُودِ حِينَ يُولَدُ، وَفِي أُذُنِ الْمَهْمُومِ فَإِنَّهُ يُزِيل
الْهَمَّ، وَخَلْفَ الْمُسَافِرِ، وَوَقْتَ الْحَرِيقِ، وَعِنْدَ
مُزْدَحِمِ الْجَيْشِ، وَعِنْدَ تَغَوُّل الْغِيلاَنِ وَعِنْدَ الضَّلاَل
فِي السَّفَرِ، وَلِلْمَصْرُوعِ، وَالْغَضْبَانِ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ
مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ، وَعِنْدَ إِنْزَال الْمَيِّتِ الْقَبْرَ
قِيَاسًا عَلَى أَوَّل خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَدْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الأَْحَادِيثِ مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو
رَافِعٍ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ
فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ (1) ، كَذَلِكَ رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ وُلِدَ
لَهُ مَوْلُودٌ فَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى وَأَقَامَ فِي
الْيُسْرَى لَمْ تَضُرَّهُ أُمُّ الصِّبْيَانِ (2) . وَرَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ (3) . . " إِلَخْ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ مَسْأَلَةَ الأَْذَانِ فِي أُذُنِ
الْمَوْلُودِ فَقَطْ وَنَقَل الْحَنَفِيَّةُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ
وَلَمْ يَسْتَبْعِدُوهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ مَا صَحَّ فِيهِ
الْخَبَرُ بِلاَ مُعَارِضٍ مَذْهَبٌ لِلْمُجْتَهِدِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ
عَلَيْهِ، وَكَرِهَ الإِْمَامُ
__________
(1) حديث أبو رافع: " رأيت رسول الله. . . " رواه الترمذي وقال: هذا حديث
صحيح والعمل عليه (تحفة الأحوذي 5 / 107، مطبعة الفجالة) .
(2) أم الصبيان: تابعة الجن، أي من يتبع الإنس من الجن للإيذاء، وحديث: "
أذان من ولد. . . " رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، والبيهقي قال المناوي:
إسناده ضعيف (تحفة الأحوذي 5 / 107، مطبعة الفجالة، وفيض القدير 6 / 238)
(3) حديث أبي هريرة: " إن الشيطان. . . " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان ص
114)
(2/373)
مَالِكٌ هَذِهِ الأُْمُورَ وَاعْتَبَرَهَا
بِدْعَةً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ نَقَل مَا قَالَهُ
الشَّافِعِيَّةُ ثُمَّ قَالُوا: لاَ بَأْسَ بِالْعَمَل بِهِ (1) .
إِذْخِرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْذْخِرُ نَبَاتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - لاَ يَحِل قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ حَرَمِ مَكَّةَ الَّذِي نَبَتَ
دُونَ تَدَخُّل الإِْنْسَانِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الإِْذْخِرُ،
فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَطْعُهُ (3) ، لاِسْتِثْنَاءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِيمَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَرَّمَ اللَّهُ
مَكَّةَ فَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ لأَِحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ
لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ
شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ
لِمُعَرِّفٍ، قَال الْعَبَّاسُ:
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 383، وتحفة المحتاج بهامش الشرواني 1 / 461، وكشاف
القناع 1 / 212، وابن عابدين 1 / 258، والحطاب 1 / 433 - 434
(2) لسان العرب، والنهاية لابن الأثير مادة: (إذخر)
(3) مغني المحتاج 1 / 528، طبع مصطفى البابي الحلبي، وحاشية قليوبي 2 /
142، طبع مصطفى البابي الحلبي، والفتاوى الهندية 1 / 253، طبع بولاق،
وحاشية ابن عابدين 2 / 218، طبع بولاق الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 198، طبع
مطبعة عباس، والمغني لابن قدامة 3 / 349، طبع المنار الثالثة.
(2/373)
إِلاَّ الإِْذْخِرَ لِصَاغَتِنَا
وَقُبُورِنَا، فَقَال: إِلاَّ الإِْذْخِرَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِقُبُورِنَا
وَبُيُوتِنَا (1) . وَإِذَا جَازَ قَطْعُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فَإِنَّ هَذَا
الاِسْتِعْمَال يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ فِي التَّطَيُّبِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَجِّ فِي بَابِ مَا يُحْظَرُ
فِي الْحَرَمِ مِنَ الصَّيْدِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
إِذْكَارٌ
انْظُرْ: ذِكْرٌ
أُذُنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْذُنُ: بِضَمِّ الذَّال وَسُكُونِهَا، عُضْوُ السَّمْعِ، وَهُوَ
مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْل اللُّغَةِ.
وَإِذَا كَانَتِ الأُْذُنُ عُضْوَ السَّمْعِ، فَإِنَّ السَّمْعَ هُوَ
إِدْرَاكُ الأَْصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ (3) وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا.
__________
(1) متفق عليه واللفظ للبخاري. انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 3 / 166،
طبع المطبعة البهية المصرية وشرح النووي لصحيح مسلم 9 / 127، طبع المطبعة
المصرية.
(2) فتح الباري 3 / 166
(3) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص 81 طبع دار الآفاق الجديدة -
بيروت.
(2/374)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ
الْبَحْثِ:
2 - الأُْذُنُ عُضْوُ السَّمْعِ، وَفِي الْجَسَدِ مِنْهُ اثْنَتَانِ فِي
الْعَادَةِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ هِيَ:
أ - يُطْلَبُ الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى،
وَالإِْقَامَةُ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى، لِيَكُونَ الأَْذَانُ بِمَا فِيهِ
مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ أَوَّل مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ (1) ، وَقَدْ
وَرَدَ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ بِذَلِكَ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ هَذَا
غَالِبًا فِي الأَْذَانِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي
يُسَنُّ فِيهَا الأَْذَانُ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الأُْضْحِيَةِ
عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى الْعَقِيقَةِ.
ب - يَرَى الْفُقَهَاءُ عَدَمَ إِبَاحَةِ سَمَاعِ الْمُنْكَرِ، وَيَرَوْنَ
وُجُوبَ كَفِّ السَّمْعِ عَنْ سَمَاعِهِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ الْمَرْءُ
بِمَكَانٍ لاَ مَنَاصَ لَهُ مِنَ الْمُرُورِ فِيهِ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ
هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ، وَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي آذَانِهِ لِئَلاَّ يَسْمَعَ
شَيْئًا مِنْهَا. كَمَا فَعَل ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ
رَوَى نَافِعٌ قَال: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ صَوْتَ مِزْمَارِ رَاعٍ
فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَعَدَل رَاحِلَتَهُ عَنِ الطَّرِيقِ
وَهُوَ يَقُول: يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ؟ فَأَقُول: نَعَمْ، فَيَمْضِي،
حَتَّى قُلْتُ: لاَ، فَرَفَعَ يَدَهُ وَعَدَل رَاحِلَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ
وَقَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ
زَمَّارَةَ رَاعٍ فَصَنَعَ مِثْل هَذَا (2) .
ج - وَإِذَا كَانَتِ الأُْذُنُ غَيْرَ السَّمْعِ وَهِيَ آلَتُهُ، فَإِنَّ
__________
(1) تحفة المودود في أحكام المولود ص 17 ط مطبعة الإمام وحاشية القليوبي 4
/ 256 ط مصطفى البابي الحلبي، وحاشية ابن عابدين 1 / 258، ط بولاق الأولى،
والمغني 8 / 649 طبع المنار الثالثة.
(2) نيل الأوطار 8 / 100 طبع المطبعة العثمانية المصرية وعزاه إلى الإمام
أحمد وأبي داود وابن ماجه وإسناده صحيح (المسند بتحقيق شاكر 6 / 245)
(2/374)
الْجِنَايَةِ عَلَى الأُْذُنِ الْوَاحِدَةِ
تُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ، وَنِصْفَ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ
حَتَّى وَلَوْ بَقِيَ السَّمْعُ سَلِيمًا. فَإِنْ ذَهَبَ السَّمْعُ أَيْضًا
مَعَ الأُْذُنِ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ
الدِّيَةِ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ، وَفِي
الدِّيَاتِ (1) .
هَل الأُْذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ؟
3 - فِي اعْتِبَارِ الأُْذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْوَجْهِ
خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الاِخْتِلاَفُ فِي
حُكْمِ مَسْحِ الأُْذُنَيْنِ، هَل هُوَ وَاجِبٌ أَمْ غَيْرُ وَاجِبٍ؟ وَهَل
يُجْزِئُ مَسْحُهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ أَمْ لاَ يُجْزِئُ؟ وَفَصَّل
الْفُقَهَاءُ الْقَوْل فِي ذَلِكَ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ (2) فِي بَابِ
الْوُضُوءِ.
دَاخِل الأُْذُنَيْنِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ دَاخِل الأُْذُنِ مِنَ
الْجَوْفِ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي إِفْطَارِ الصَّائِمِ
بِإِدْخَال شَيْءٍ إِلَى بَاطِنِ الأُْذُنِ إِذَا لَمْ يَصِل إِلَى
حَلْقِهِ (3) . وَفَصَّلُوا الْكَلاَمَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ
فِي بَابِ مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ.
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين 5 / 370، والفتاوى الهندية 6 / 10، 25 طبع
بولاق، وحاشية قليوبي 4 / 13، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 421، طبع المنار
الأولى.
(2) نيل الأوطار 1 / 161، والمغني 1 / 123، 106 طبع المنار الثالثة.
(3) حاشية قليوبي 2 / 56، والغرر البهية شرح البهجة الوردية 2 / 213، طبع
المطبعة الميمنية، ومواهب الجيل 2 / 425، طبع مطبعة النجاح - ليبيا، وفتح
القدير 2 / 72، 73 طبع بولاق سنة / 1315
(2/375)
هَل يُعَبَّرُ بِالأُْذُنِ عَنِ الْجَسَدِ
كُلِّهِ؟
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأُْذُنَ عُضْوٌ مِنَ الْبَدَنِ
لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْكُل، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ
إِذَا أَضَافَ الظِّهَارَ أَوِ الطَّلاَقَ أَوِ الْعِتْقَ وَنَحْوَهَا
إِلَى الأُْذُنِ لاَ يَقَعُ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ. كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ
مِنْ كَلاَمِهِمْ فِي الأَْبْوَابِ الْمَذْكُورَةِ.
هَل الأُْذُنُ مِنَ الْعَوْرَةِ؟
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأُْذُنَ فِي الْمَرْأَةِ مِنَ
الْعَوْرَةِ، وَلاَ يَجُوزُ إِظْهَارُهَا لِلأَْجْنَبِيِّ.
وَمَا اتَّصَل بِهَا مِنَ الزِّينَةِ - كَالْقُرْطِ - هُوَ مِنَ الزِّينَةِ
الْبَاطِنَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ إِظْهَارُهَا أَيْضًا إِلاَّ مَا حَكَاهُ
الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ
وَقَتَادَةَ مِنَ اعْتِبَارِ الْقُرْطِ مِنَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ
الَّتِي يَجُوزُ إِظْهَارُهَا (1) .
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الأُْذُنَ مَوْضِعٌ لِلزِّينَةِ فِي
الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُل، وَلِذَلِكَ أَبَاحُوا ثَقْبَ أُذُنِ
الْجَارِيَةِ لإِِلْبَاسِهَا الْقُرْطَ (2) . وَلَيْسَ لِذَلِكَ مَكَانٌ
مُحَدَّدٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي
كِتَابِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ، وَذَكَرَهُ الْقَلْيُوبِيُّ فِي كِتَابِ
الصِّيَال، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 228، طبع دار الكتب، وتفسير الطبري 18 / 118، طبع
مصطفى البابي الحلبي، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 388، طبع المطبعة البهية
المصرية سنة 1374 وأحكام القرآن لابن العربي ص 1357، طبع عيسى البابي
الحلبي، ونهاية المحتاج 6 / 184، طبع مصطفى البابي الحلبي، وإعانة الطالبين
3 / 259، طبع مصطفى البابي الحلبي الثانية، الزيلعي على الكنز 6 / 17، طبع
بولاق سنة / 1313
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 249، 270، وتحفة الودود في أحكام المولود ص 153،
وحاشية القليوبي 4 / 209، 211
(2/375)
فِيمَا يَحِقُّ لِلْوَلِيِّ فِعْلُهُ فِي
الصَّغِيرِ الْمُولَى عَلَيْهِ.
7 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ إِجْزَاءِ مَقْطُوعَةِ الأُْذُنِ
فِي الأُْضْحِيَةِ وَالْهَدْيِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ تَعَيَّبَتْ
أُذُنُهَا عَيْبًا فَاحِشًا، فَأَجَازَهَا الْبَعْضُ وَلَمْ يُجِزْهَا
الْبَعْضُ الآْخَرُ (1) . وَمَحَل تَفْصِيل ذَلِكَ فِي كِتَابِ الأَْضَاحِي
مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
8 - يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ
أَثْنَاءَ الأَْذَانِ (2) . وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ فِي
كِتَابِ الأَْذَانِ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَا يُسْتَحَبُّ
لِلْمُؤَذِّنِ.
9 - وَيُسَنُّ لِلرَّجُل رَفْعُ يَدَيْهِ إِلَى حِذَاءِ أُذُنَيْهِ، عِنْدَ
الْبَعْضِ، فِي تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَتَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَال فِي
الصَّلاَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ.
10 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ وَسْمَ الْحَيَوَانَاتِ لِغَايَةٍ
مَشْرُوعَةٍ - كَعَدَمِ اخْتِلاَطِهَا بِغَيْرِهَا - مُبَاحٌ، وَيَرَى
الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ أَفْضَل مَكَانٍ لِوَسْمِ الْغَنَمِ هُوَ آذَانُهَا،
لِقِلَّةِ الشَّعْرِ فِيهَا (3) .
وَقَدْ ذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ.
11 - وَمَا يَسِيل مِنَ الأُْذُنِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ نَجِسٌ، وَفِي
انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى
خِلاَفِهِمْ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ (4) بِكُل خَارِجٍ نَجِسٍ مِنَ
الْبَدَنِ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ عِنْدَ
كَلاَمِهِمْ عَلَى نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ.
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 444، طبع مكتبة الكليات الأزهرية، والمغني 8 / 625،
وحاشية القليوبي 4 / 251، 252
(2) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 106، طبع المطبعة العامرة العثمانية،
والمغني 1 / 422
(3) حاشية القليوبي 3 / 194
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 100
(2/376)
إِذْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْذْنِ فِي اللُّغَةِ: إِطْلاَقُ الْفِعْل
وَالإِْبَاحَةُ (1) .
وَلَمْ يَخْرُجِ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ لِلإِْذْنِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبَاحَةُ:
2 - الإِْبَاحَةُ هِيَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ دُونَ
تَرَتُّبِ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ. وَيَذْكُرُهَا الأُْصُولِيُّونَ عِنْدَ
الْكَلاَمِ عَلَى الْحُكْمِ وَأَقْسَامِهِ بِاعْتِبَارِهَا مِنْ أَقْسَامِ
الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ (3) . وَلَهُمْ
فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ حَيْثُ تَقْسِيمُ الإِْبَاحَةِ،
وَتَقْسِيمُ مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ الْمُبَاحُ (انْظُرِ: الْمُلْحَقَ
الأُْصُولِيَّ) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، وكشاف اصطلاحات الفنون
1 / 93، 113 ط بيروت، والكليات للكفوي 1 / 99 ط منشورات وزارة الثقافة -
سورية.
(2) ابن عابدين 5 / 101، 221 ط بولاق الثالثة، وتكملة فتح القدير 8 / 211 ط
دار إحياء التراث العربي، والدسوقي 3 / 304 ط دار الفكر، ومغني المحتاج 2 /
99 ط مصطفى الحلبي.
(3) جمع الجوامع 1 / 84 ط الأولى - الأزهرية، والمستصفي 1 / 75 ط بولاق.
(2/376)
وَالْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ يُفَسِّرُونَ
الإِْبَاحَةَ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ الَّذِي ذَكَرَهُ الأُْصُولِيُّونَ
(1) .
وَأَيْضًا يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الإِْذْنَ وَالإِْبَاحَةَ بِمَعْنًى
وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يُفِيدُ إِطْلاَقَ التَّصَرُّفِ فَقَدْ قَال
الْجُرْجَانِيُّ (2) : الإِْبَاحَةُ هِيَ الإِْذْنُ بِالإِْتْيَانِ
بِالْفِعْل كَيْفَ شَاءَ الْفَاعِل. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ (3) : مَنْ
نَثَرَ عَلَى النَّاسِ نِثَارًا كَانَ إِذْنًا فِي الْتِقَاطِهِ وَأُبِيحَ
أَخْذُهُ، وَفَسَّرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْمُبَاحَ بِالْمَأْذُونِ فِيهِ
(4) .
وَإِذَا كَانَ الإِْذْنُ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الإِْبَاحَةِ فَلأَِنَّ
الإِْبَاحَةَ مَرْجِعُهَا الإِْذْنُ. فَالإِْذْنُ هُوَ أَصْل الإِْبَاحَةِ.
وَلَوْلاَ صُدُورُ مَا يَدُل عَلَى الإِْذْنِ لَمَا كَانَ الْفِعْل جَائِزَ
الْوُقُوعِ، فَالإِْبَاحَةُ الشَّرْعِيَّةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عِنْدَ
جُمْهُورِ الأُْصُولِيِّينَ، وَيَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الشَّرْعِ (5)
.
وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الإِْبَاحَةَ تَكُونُ بِمُقْتَضَى الإِْذْنِ
سَوَاءٌ أَكَانَ صَرِيحًا أَمْ ضِمْنًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الشَّارِعِ
أَمْ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
ب - الإِْجَازَةُ:
3 - الإِْجَازَةُ مَعْنَاهَا الإِْمْضَاءُ يُقَال: أَجَازَ أَمْرَهُ إِذَا
أَمْضَاهُ وَجَعَلَهُ جَائِزًا، وَأَجَزْتُ الْعَقْدَ جَعَلْتُهُ جَائِزًا
وَنَافِذًا. وَالإِْذْنُ هُوَ إِجَازَةُ الإِْتْيَانِ بِالْفِعْل.
فَالإِْجَازَةُ وَالإِْذْنُ كِلاَهُمَا يَدُل عَلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى
الْفِعْل
__________
(1) ابن عابدين 5 / 221
(2) التعريفات للجرجاني ص 3 ط مصطفى الحلبي.
(3) المغني 5 / 604 ط مكتبة الرياض.
(4) منح الجليل 1 / 596 ط مكتبة النجاح طرابلس - ليبيا. .
(5) جمع الجوامع 1 / 175، والمستصفى 1 / 100، والموافقات للشاطبي 1 / 186 ط
المكتبة التجارية - مصر.
(2/377)
إِلاَّ أَنَّ الإِْذْنَ يَكُونُ قَبْل
الْفِعْل، وَالإِْجَازَةَ تَكُونُ بَعْدَ وُقُوعِهِ (1) .
ج - الأَْمْرُ:
4 - الأَْمْرُ مِنْ مَعَانِيهِ لُغَةً: الطَّلَبُ، وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ
الْفِعْل عَلَى سَبِيل الاِسْتِعْلاَءِ. فَكُل أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ إِذْنًا
بِالأَْوْلَوِيَّةِ.
أَقْسَامُ الإِْذْنِ
الإِْذْنُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا، وَالْعُمُومُ
وَالْخُصُوصُ قَدْ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْذُونِ لَهُ، وَقَدْ
يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَوْضُوعِ أَوِ الْوَقْتِ أَوِ الزَّمَانِ.
أ - الإِْذْنُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْذُونِ لَهُ:
5 - الإِْذْنُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ لِلشَّخْصِ الْمَأْذُونِ
لَهُ، وَذَلِكَ كَمَنْ أَلْقَى شَيْئًا وَقَال: مَنْ أَخَذَهُ فَهُوَ لَهُ
فَلِمَنْ سَمِعَهُ أَوْ بَلَغَهُ ذَلِكَ الْقَوْل أَنْ يَأْخُذَهُ،
وَكَمَنْ وَضَعَ الْمَاءَ عَلَى بَابِهِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ الشُّرْبُ
مِنْهُ لِمَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ، وَكَذَا مَنْ غَرَسَ
شَجَرَةً فِي مَوْضِعٍ لاَ مِلْكَ فِيهِ لأَِحَدٍ، وَلَمْ يَقْصِدِ
الإِْحْيَاءَ، فَقَدْ أَبَاحَ لِلنَّاسِ ثِمَارَهَا. وَكَأَنْ يَجْعَل
الإِْمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَوْضِعًا لِوُقُوفِ الدَّوَابِّ فِيهِ،
فَلِكُل مُسْلِمٍ حَقُّ الْوُقُوفِ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ مِنَ
السُّلْطَانِ (2) . وَمِنْ ذَلِكَ الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ لِلْوَلِيمَةِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وابن عابدين 2 / 383
(2) ابن عابدين 3 / 334، ومغني المحتاج 3 / 248، والمغني 5 / 604، والحطاب
4 / 6 ط النجاح - ليبيا، والاختيار 5 / 48 ط دار المعرفة بيروت، ومنتهى
الإرادات 3 / 85 ط دار الفكر
(2/377)
وَقَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ خَاصًّا
بِشَخْصٍ، كَمَنْ يَقُول: هَذَا الشَّيْءُ صَدَقَةٌ لِفُلاَنٍ، أَوْ
كَالْوَقْفِ عَلَى أَهْل مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لِصَرْفِ غَلَّةِ الْوَقْفِ
عَلَيْهِمْ، أَوْ تَخْصِيصِ أَحَدِ الضِّيفَانِ بِطَعَامٍ خَاصٍّ، أَوِ
اقْتِصَارِ الدَّعْوَةِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ (1) .
ب - الإِْذْنُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ:
6 - قَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصَرُّفِ
وَالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا، فَإِذْنُ السَّيِّدِ
لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْنًا عَامًّا يُجِيزُ
لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي سَائِرِ التِّجَارَاتِ مَا
عَدَا التَّبَرُّعَاتِ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ
التِّجَارَاتِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي جَمِيعِهَا، خِلاَفًا لِزُفَرَ؛
لأَِنَّ الإِْذْنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِسْقَاطُ الْحَقِّ،
وَالإِْسْقَاطَاتُ لاَ تَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ، وَلاَ تَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ
دُونَ نَوْعٍ، وَلاَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ يَوْمًا
صَارَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ
قَال لَهُ: أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فِي الْبَرِّ دُونَ الْبَحْرِ،
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ خَاصٍّ كَأَنْ يَقُول
لَهُ: اشْتَرِ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا لِنَفْسِكَ أَوِ اشْتَرِ كِسْوَةً فَفِي
الاِسْتِحْسَانِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ؛ لأَِنَّ هَذَا
مِنْ بَابِ الاِسْتِخْدَامِ، يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: اعْلَمْ أَنَّ
الإِْذْنَ بِالتَّصَرُّفِ إِذْنٌ بِالتِّجَارَةِ وَبِالشَّخْصِ
اسْتِخْدَامٌ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 443، والدسوقي 4 / 87، 88 ط دار الفكر، ومنتهى الإرادات
2 / 514 ط دار الفكر، ومغني المحتاج 3 / 249، 390
(2) ابن عابدين 5 / 101، 102، والاختيار 2 / 101ط دارا لمعرفة بيروت،
وبدائع الصنائع 7 / 191 ط الجالية، والدسوقي 3 / 304، والهداية 4 / 3 ط
المكتبة الإسلامية.
(2/378)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَقَيَّدُ
الإِْذْنُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَبْدِ، فَلاَ يَصِيرُ الْعَبْدُ مَأْذُونًا
إِلاَّ فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ سَيِّدُهُ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ
مُسْتَفَادٌ مِنَ الإِْذْنِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَأْذُونِ فِيهِ،
فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي نَوْعٍ، كَالثِّيَابِ، أَوْ فِي
وَقْتٍ كَشَهْرِ كَذَا أَوْ فِي بَلَدٍ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَتَجَاوَزَهُ، كَالْوَكِيل وَعَامِل الْقِرَاضِ؛ لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ
بِالإِْذْنِ مِنْ جِهَةِ الآْدَمِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَا
أَذِنَ لَهُ فِيهِ (1) ، فَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى شَيْءٍ وَتَصَرَّفَ
حَسَبَ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَتَصَرَّفُ فِي كُل
الأَْنْوَاعِ وَالأَْزْمِنَةِ وَالْبُلْدَانِ. وَأَمْثِلَةُ الإِْذْنِ
الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَثِيرَةٌ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ
وَالشَّرِكَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَتُنْظَرُ فِي
أَبْوَابِهَا.
مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْذْنِ:
إِذْنُ الشَّارِعِ:
7 - إِذْنُ الشَّارِعِ يَكُونُ إِمَّا بِنَصٍّ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنَ
الْحَاكِمِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مَعَ مُرَاعَاةِ
الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، كَجَلْبِ الْمَصَالِحِ
وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ.
وَوُجُوهُ الإِْذْنِ مِنَ الشَّارِعِ مُتَعَدِّدَةُ الأَْسْبَابِ
لِتَفَرُّعِ مَنَاحِي الشَّرِيعَةِ فِي الْحِفَاظِ عَلَى كِيَانِ الْفَرْدِ
وَالْمُجْتَمَعِ.
8 - فَالإِْذْنُ مِنَ الشَّارِعِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّوْسِعَةِ
وَالتَّيْسِيرِ عَلَى الْعِبَادِ فِي حَيَاتِهِمْ، كَالْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 99، والمغني 5 / 84، والدسوقي 3 / 304
(2/378)
وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، وقَوْله
تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2) . . . إِلَخْ.
وَكَذَلِكَ الإِْذْنُ بِالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ، كَالْمَأْكَل
وَالْمَشْرَبِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَلْبَسِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْله
تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (3) .
وَالإِْذْنُ بِالنِّكَاحِ لِلتَّمَتُّعِ وَالتَّنَاسُل عَلَى مَا جَاءَ فِي
قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (4) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الإِْذْنُ بِالصَّيْدِ إِلاَّ فِي حَالَةِ
الإِْحْرَامِ وَالإِْذْنُ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَالإِْذْنُ
بِالاِنْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ وَالْمَسِيل الْعَامِّ وَهَكَذَا
(5) .
9 - وَقَدْ يَكُونُ إِذْنُ الشَّارِعِ بِالاِنْتِفَاعِ عَلَى وَجْهِ
التَّعَبُّدِ وَالْقُرْبَةِ، كَالاِنْتِفَاعِ بِالْمَسَاجِدِ
وَالْمَقَابِرِ وَالرِّبَاطَاتِ (6) . وَالإِْذْنُ فِي كُل مَا سَبَقَ
يَجِبُ أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الأَْصْل الَّذِي وَرَدَ مِنَ
الشَّارِعِ مُقَيَّدًا بِعَدَمِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ، إِذْ لاَ ضَرَرَ
وَلاَ ضِرَارَ فِي الإِْسْلاَمِ.
وَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ لِكُل هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ قَوَاعِدَ
وَشَرَائِطَ لاَ بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا، وَمُخَالَفَةُ ذَلِكَ تُبْطِل
التَّصَرُّفَ.
__________
(1) سورة البقرة / 275
(2) سورة البقرة / 283
(3) سورة الأعراف / 32
(4) سورة النساء / 3
(5) الموافقات 1 / 126، 131، 188، 195، و 2 / 180، 181، ومغني المحتاج 2 /
361، والمغني 5 / 561، 575، 581 و 8 / 539، وابن عابدين 5 / 283، والاختيار
3 / 67 ط دار المعرفة بيروت.
(6) ابن عابدين 1 / 4 49 والدسوقي 4 / 70 ومنتهي الإرادات 2 / 495، ومغني
المحتاج 2 / 389
(2/379)
10 - وَقَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ مِنَ
الشَّارِعِ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ؛ لأَِنَّ
الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالإِْعْنَاتِ
فِيهِ وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْله
تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) ،
وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} (2) ، وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}
(3) .
كَذَلِكَ وَرَدَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ
إِثْمًا، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنِ
الْوِصَال فِي الْعِبَادَةِ وَيَقُول: خُذُوا مِنَ الأَْعْمَال مَا
تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَل حَتَّى تَمَلُّوا. (4)
وَعَلَى هَذَا الأَْسَاسِ كَانَ الإِْذْنُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ
بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ. وَلَقَدْ نُقِل عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
مَنْعُ الصَّوْمِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ بِهِ وَأَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ
إِنْ فَعَل، وَنُقِل الْمَنْعُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ
وَالاِنْتِقَال إِلَى التَّيَمُّمِ. وَالدَّلِيل عَلَى الْمَنْعِ قَوْلُهُ:
{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (5) ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ النَّاذِرِ
لِلصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ حَيْثُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَلِمَ بِذَلِكَ: مُرُوهُ فَلْيَسْتَظِل
__________
(1) سورة البقرة / 286
(2) سورة البقرة / 185
(3) سورة النساء / 28
(4) حديث " خذوا من. . " أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له (فتح الباري 4 /
213 ط السلفية وصحيح مسلم 2 / 811 - الحديث رقم 177 تحقيق محمد فؤاد عبد
الباقي) .
(5) سورة النساء / 29
(2/379)
وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ. (1)
وَكَذَلِكَ كَانَ الإِْذْنُ بِإِبَاحَةِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا لِذَاتِهِ
وَأَذِنَ بِهِ لِعَارِضٍ كَأَكْل الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ
وَشُرْبِ الْخَمْرِ لإِِزَالَةِ الْغُصَّةِ وَذَلِكَ إِذَا عَرَضَتْ
ضَرُورَةٌ وَهِيَ خَشْيَةُ الْمَوْتِ أَوِ التَّلَفِ، وَكَذَلِكَ الإِْذْنُ
بِإِبَاحَةِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ كَالإِْذْنِ بِنَظَرِ
الأَْجْنَبِيَّةِ لِلزَّوَاجِ وَبِنَظَرِ الْعَوْرَةِ إِذَا عَرَضَتْ
حَاجَةٌ كَالْعِلاَجِ (2) .
وَكُل مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل مِمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ
سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ حَاصِلَةً بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ
كَالنَّاذِرِ الصِّيَامَ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، أَمْ كَانَتِ
الْمَشَقَّةُ تَابِعَةً لِلْفِعْل كَالْمَرِيضِ غَيْرِ الْقَادِرِ عَلَى
الصَّوْمِ أَوِ الصَّلاَةِ، وَالْحَاجِّ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى
الْحَجِّ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ خَارِجَةٍ عَنِ
الْمُعْتَادِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْيُسْرُ
وَمَشْرُوعِيَّةُ الرُّخْصِ.
وَلَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ بَعْضَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِذَلِكَ،
كَقَوْلِهِمْ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. الْمَشَقَّةُ
تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ. الضَّرَرُ يُزَال (3) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ
لَيْسَتْ بِسَبَبِهِ، وَلاَ بِسَبَبِ دُخُولِهِ فِي عَمَلٍ تَنْشَأُ عَنْهُ
__________
(1) الموافقات 2 / 120 - 142، 152، والأشباه للسيوطي ص 76 ط مصطفى الحلبي.
وحديث: " مروه فليستظل. . . " أخرجه البخاري وأبو داود بلفظ: " مروه
فليتكلم، ليستظل وليقعد وليتم صومه "، وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه ومالك في
الموطأ (فتح الباري 11 / 586 ط السلفية، وأبو داود، 2 / 208 ط م الحلبي
1371 هـ، والمسند 4 / 168، وابن ماجه 1 / 690 ط ع الحلبي 1372 هـ، والموطأ،
2 / 475 ترتيب محمد عبد الباقي) .
(2) الاختيار 4 / 154، والمغني 6 / 552، 8 / 596، ومنح الجليل 1 / 596
(3) الموافقات 2 / 134، 152 والأشباه للسيوطي ص 76
(2/380)
فَلَقَدْ فُهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ
الشَّرِيعَةِ الإِْذْنُ فِي دَفْعِهَا عَلَى الإِْطْلاَقِ رَفْعًا
لِلْمَشَقَّةِ، بَل إِنَّ الشَّارِعَ أَذِنَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهَا
عِنْدَ تَوَقُّعِهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ، وَمِنْ ذَلِكَ الإِْذْنُ فِي
دَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالإِْذْنُ
فِي التَّدَاوِي عِنْدَ وُقُوعِ الأَْمْرَاضِ، وَفِي التَّوَقِّي مِنْ كُل
مُؤْذٍ آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ:
لاَ ضَمَانَ فِي قَتْل الصَّائِل عَلَى نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ أَوْ بُضْعٍ
أَوْ مَالٍ (1) .
إِذْنُ الْمَالِكِ:
11 - الْمِلْكُ - كَمَا جَاءَ فِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ - هُوَ اتِّصَالٌ
شَرْعِيٌّ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَبَيْنَ شَيْءٍ يَكُونُ سَبَبًا
لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ وَمَانِعًا مِنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهِ (2) .
وَيَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمِلْكُ قُدْرَةٌ يُثْبِتُهَا الشَّارِعُ
ابْتِدَاءً عَلَى التَّصَرُّفِ (3) .
وَالأَْصْل أَنَّ كُل مَمْلُوكٍ لِشَخْصٍ لاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ غَيْرِهِ
فِيهِ بِدُونِ إِذْنِهِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، كَأَنْ يَحْتَاجَ الْمَرِيضُ
لِدَوَاءٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدِ الشِّرَاءُ مِنْ
مَال الْمَرِيضِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرِيضُ بِدُونِ إِذْنِهِ (4) .
وَإِذْنُ الْمَالِكِ لِغَيْرِهِ فِيمَا يَمْلِكُهُ يَكُونُ عَلَى
الْوُجُوهِ الآْتِيَةِ:
أ - الإِْذْنُ بِالصَّرْفِ:
12 - يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا
يَمْلِكُهُ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ
(الْمُضَارَبَةُ)
__________
(1) الموافقات 2 / 150 والشرح الصغير 2 / 533 ط مصطفى الحلبي ومغني المحتاج
4 / 194، والاختيار 4 / 170، وما بعدها.
(2) دستور العلماء 3 / 322
(3) الأشباه لابن نجيم ط المطبعة الحسينية.
(4) ابن عابدين 5 / 131 ط بولاق ط الثالثة.
(2/380)
فَإِنَّ الْوَكِيل وَعَامِل الْقِرَاضِ
يَتَصَرَّفَانِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِمَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ عَلَى مَا
يَقَعُ عَلَيْهِ الإِْذْنُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا
الْوَصِيُّ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ، وَلِذَلِكَ شُرُوطٌ مُفَصَّلَةٌ فِي
كُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْوَصِيَّةِ
وَالْوَقْفِ.
ب - الإِْذْنُ بِانْتِقَال الْمِلْكِ إِلَى الْغَيْرِ:
13 - كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ بِشُرُوطِهِ.
ج - الإِْذْنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ:
14 - وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْذَنَ الْمَالِكُ بِاسْتِهْلاَكِ مَا هُوَ
مَمْلُوكٌ لَهُ مِنْ رَقَبَةِ الْعَيْنِ، حَيْثُ يَأْذَنُ لِغَيْرِهِ
بِتَنَاوُلِهَا وَأَخْذِهَا وَذَلِكَ كَالطَّعَامِ الَّذِي يُقَدَّمُ فِي
الْوَلاَئِمِ وَالْمَنَائِحِ وَالضِّيَافَاتِ، وَمَا يُنْثَرُ عَلَى
النَّاسِ فِي الأَْحْفَال مِنْ دَرَاهِمَ وَوُرُودٍ، وَيَشْمَل ذَلِكَ
أَيْضًا الإِْذْنَ بِالاِسْتِهْلاَكِ بِبَدَلٍ كَمَا فِي الْقَرْضِ (1) .
د - الإِْذْنُ بِالاِنْتِفَاعِ:
15 - وَذَلِكَ كَأَنْ يَأْذَنَ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضِهِمْ
بِالاِنْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ، وَالإِْذْنُ بِالاِنْتِفَاعِ
لاَ يَقْتَضِي مِلْكِيَّةَ الآْذِنِ لِلْعَيْنِ بَل يَكْفِي كَوْنُهُ
مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ، وَالإِْذْنُ بِالاِنْتِفَاعِ قَدْ يَكُونُ
بِدُونِ عِوَضٍ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ كَمَا
فِي الإِْجَارَةِ.
وَقَدْ يَتَنَوَّعُ الإِْذْنُ بِالاِنْتِفَاعِ حَسَبَ كَوْنِ الآْذِنِ
مَالِكًا لِلْعَيْنِ مِلْكِيَّةً تَامَّةً أَوْ مَالِكًا لِمَنْفَعَتِهَا
فَقَطْ وَقْتَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 324، ومنتهى الإرادات 3 / 89، وقواعد الأحكام في مصالح
الأنام 2 / 73، 74 ط الاستقامة، الشرح الصغير 2 / 206 ط مصطفى الحلبي.
(2/381)
الإِْذْنِ، فَقَدْ يَكُونُ الآْذِنُ
مُسْتَأْجِرًا وَيَأْذَنُ لِغَيْرِهِ بِالاِنْتِفَاعِ فِي الْجُمْلَةِ
عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ، وَمِثْل ذَلِكَ الإِْعَارَةُ
وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْوَقْفُ فَيَكُونُ لِلْمُسْتَعِيرِ
وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ - إِذَا كَانَ
فِي صِيَغِهَا مَا يُفِيدُ الإِْذْنَ بِذَلِكَ - حَقُّ الإِْذْنِ
لِلْغَيْرِ بِالاِنْتِفَاعِ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِذْنُ الأَْفْرَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
بِالاِنْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ الْخَاصِّ وَالْمَجْرَى الْخَاصِّ (2) .
فَالإِْذْنُ فِي كُل ذَلِكَ إِذْنٌ بِالاِنْتِفَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ
أَنْ يُرَاعَى أَنْ يَكُونَ الإِْذْنُ لاَ مَعْصِيَةَ فِيهِ كَإِعَارَةِ
الْجَارِيَةِ لِلْوَطْءِ وَأَنْ يَكُونَ الاِنْتِفَاعُ عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الْمَالِكُ أَوْ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ وَإِلاَّ
كَانَ مُتَعَدِّيًا (3) .
إِذْنُ صَاحِبِ الْحَقِّ:
16 - حَقُّ الإِْنْسَانِ هُوَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ
مُقَرَّرَةٌ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِيًّا أَمْ
غَيْرَ مَالِيٍّ. وَالأَْصْل أَنَّ كُل تَصَرُّفٍ إِذَا كَانَ يَمَسُّ
حَقًّا لِغَيْرِ مَنْ يُبَاشِرُهُ وَجَبَ لِنَفَاذِهِ الإِْذْنُ فِيهِ مِنْ
صَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ.
وَصُوَرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي مَسَائِل الْفِقْهِ وَمِنْهَا الأَْمْثِلَةُ
الآْتِيَةُ:
17 - أ - مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ مَنْعُهَا مِنَ
الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا
الْخُرُوجُ
__________
(1) الاختيار 3 / 55 وما بعدها والهداية 4 / 252 ط المكتبة الإسلامية
والدسوقي 3 / 437 و 4 / 41، 72، 88، والحطاب 6 / 35 ط دار الفكر والمغني 5
/ 226
(2) المغني 5 / 587 وما بعدها.
(3) الدسوقي 3 / 435
(2/381)
إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ
ذَلِكَ الْخُرُوجُ لِحَقٍّ أَقْوَى مِنْ حَقِّهِ كَحَقِّ الشَّرْعِ (مِثْل
حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ) ، أَوْ لِلْعِلاَجِ، أَوْ لِزِيَارَةِ أَبَوَيْهَا
عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ (1) .
18 - ب - لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ حَبْسِ الْمَرْهُونِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ
دَيْنَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ بَيْعُ الْمَرْهُونِ
إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا بَاعَهُ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى
إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (2) وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ) .
19 - ج - لِلْوَاهِبِ قَبْل إِقْبَاضِ الْهِبَةِ أَوْ الإِْذْنِ فِي
الإِْقْبَاضِ حَقُّ الْمِلْكِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ
لِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْضُ الْهِبَةِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، فَلَوْ
قَبَضَ بِلاَ إِذْنٍ أَوْ إِقْبَاضٍ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ لِلْفُقَهَاءِ
فِي ذَلِكَ (3) .
20 - د - لِلزَّوْجَةِ حَقٌّ فِي الْوَطْءِ وَالاِسْتِمْتَاعِ وَلِذَلِكَ
لاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِل عَنِ الْحُرَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا
(4) .
21 - هـ - لِلْمَرْأَةِ حَقٌّ فِي أَمْرِ نَفْسِهَا عِنْدَ إِنْكَاحِهَا،
وَلِذَلِكَ تُسْتَأْذَنُ عِنْدَ إِنْكَاحِهَا عَلَى الْوُجُوبِ
بِالإِْجْمَاعِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَعَلَى الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالاِسْتِحْبَابِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا
(5) .
22 وَلِصَاحِبِ الْبَيْتِ حَقٌّ فِي عَدَمِ دُخُول أَحَدٍ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ دُخُول بَيْتٍ إِلاَّ
__________
(1) المغني 7 / 20، وابن عابدين 2 / 664، والدسوقي 2 / 512، والقليوبي 4 /
74
(2) الاختيار 2 / 69
(3) مغني المحتاج 2 / 400، الدسوقي 4 / 101
(4) الاختيار 4 / 163
(5) منتهى الإرادات 3 / 13، 14، والدسوقي 2 / 222، 228، والهداية 1 / 196
(2/382)
بِإِذْنٍ مِنْ سَاكِنِهِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} ، أَيْ تَسْتَأْذِنُوا (1) .
وَالصُّوَرُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
إِذْنُ الْقَاضِي:
23 - الْقَضَاءُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ
إِقَامَةُ الْعَدْل وَإِيصَال الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَلَمَّا
كَانَتْ تَصَرُّفَاتُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ قَدْ يَشُوبُهَا
الْجَوْرُ وَعَدَمُ الإِْنْصَافِ مِمَّا يَكُونُ مَحَل نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ
كَانَ لاَ بُدَّ لِنَفَاذِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ إِذْنِ الْقَاضِي
تَحْقِيقًا لِلْعَدْل وَمَنْعًا لِلتَّنَازُعِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ
مَا يَأْتِي:
24 - تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ، فَإِذَا أَعْسَرَ
الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا، بَل يَفْرِضُ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ، ثُمَّ يَأْمُرُهَا
بِالاِسْتِدَانَةِ، فَإِذَا اسْتَدَانَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي صَارَتْ
دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ وَيُطَالَبُ بِهَا، أَمَّا لَوِ اسْتَدَانَتْ
بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَتَكُونُ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهَا (2)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ (نَفَقَةٌ وَإِعْسَارٌ) .
25 - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَال الصَّغِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
فَإِذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ وَصِيٌّ فَقَدْ قَال مُتَأَخِّرُو الْمَذْهَبِ:
لاَ يُزَكِّي عَنْهُ الْوَصِيُّ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الْحَاكِمِ، خُرُوجًا
مِنَ الْخِلاَفِ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ يَرَى
عَدَمَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ قَال
الإِْمَامُ مَالِكٌ: إِذَا وَجَدَ الْوَصِيُّ فِي التَّرِكَةِ خَمْرًا
فَلاَ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 530 ط مصطفى الحلبي، ومغني المحتاج 4 / 199 والآية من
سورة النور / 27
(2) الاختيار 4 / 6
(2/382)
يُرِيقُهَا إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَعَةِ
السُّلْطَانِ لِئَلاَّ، يَكُونَ مَذْهَبُهُ جَوَازَ تَخْلِيلِهَا (1) .
26 - يَقُول الْحَنَابِلَةُ: مَنْ غَابَ وَلَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ نَحْوُهَا
وَأَوْلاَدٌ فَإِنَّ الإِْنْفَاقَ عَلَيْهِمْ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِإِذْنِ
الْحَاكِمِ أَمَّا الإِْنْفَاقُ عَلَى اللَّقِيطِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ
إِذْنُ الْحَاكِمِ وَإِنْ كَانَ الأَْوْلَى إِذْنَهُ احْتِيَاطًا (2) . (ر:
وَدِيعَةٌ - نَفَقَةٌ) . وَالصُّوَرُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ
وَتُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
إِذْنُ الْوَلِيِّ:
27 - الْوَلِيُّ هُوَ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى غَيْرِهِ،
فِي النَّفْسِ أَوْ فِي الْمَال؛ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ وَيَظَل الْحَجْرُ قَائِمًا إِلَى أَنْ يَزُول سَبَبُهُ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَعُودُ تَصَرُّفُهُمْ
بِالضَّرَرِ عَلَيْهِمْ، أَوْ عَلَى السَّيِّدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَبْدِ،
كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ نَظَرِ الْوَلِيِّ وَإِذْنِهِ مَنْعًا لِلضَّرَرِ.
وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ وَالْمُمَيِّزِ
وَالْعَبْدِ فِي الْمَال وَالنِّكَاحِ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ إِذْنِ
الْوَلِيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ
حَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ
وَالصَّغِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَابِلَةِ، لاَ
يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ وَلَوْ بِالإِْذْنِ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ
لِصِحَّةِ عَقْدَيِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ السَّفِيهُ فِي
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَابِلَةِ لاَ
يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَال وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى لأَِنَّ
الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِتَبْذِيرِهِ وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ، فَإِذَا أَذِنَ
لَهُ فَقَدْ أَذِنَ فِيمَا لاَ مَصْلَحَةَ فِيهِ،
__________
(1) منح الجليل 4 / 693 ط مكتبة النجاح طرابلس - ليبيا.
(2) منتهى الإرادات 2 / 483.
(2/383)
وَقِيل يَصِحُّ بِالإِْذْنِ، أَمَّا
نِكَاحُهُ فَيَصِحُّ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ فَلاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا
وَلَوْ بِالإِْذْنِ،
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ إِذَا تَصَرَّفَ الْمُمَيِّزُ وَالسَّفِيهُ
وَالْعَبْدُ بِدُونِ إِذْنِ الْوَلِيِّ بَيْنَ الإِْجَازَةِ وَالرَّدِّ
وَالْبُطْلاَنِ (1) .
28 - وَالْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَتْ رَشِيدَةً لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ
الْوَلِيِّ عِنْدَ نِكَاحِهَا - بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا - عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِدُونِ إِذْنِ وَلِيِّهَا
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. (2)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ -
يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ بِرِضَاهَا
وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا وَلِيٌّ - بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا؛
لأَِنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ؛
لِكَوْنِهَا عَاقِلَةً مُمَيِّزَةً، وَلَهَا اخْتِيَارُ الأَْزْوَاجِ،
وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ كَيْ لاَ تُنْسَبَ إِلَى
الْوَقَاحَةِ (3) .
إِذْنُ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ:
29 - مُتَوَلِّي الْوَقْفِ أَوْ نَاظِرُ الْوَقْفِ هُوَ مَنْ يَتَوَلَّى
الْقِيَامَ بِشُئُونِ الْوَقْفِ وَحِفْظِهِ وَعِمَارَتِهِ وَتَنْفِيذِ
شَرْطِ
__________
(1) الاختيار 2 / 94، 96، 97، 100، والهداية 1 / 215 و 3 / 280، وابن
عابدين 2 / 304، 5 / 113 ط ثالثة بولاق، والدسوقي 3 / 294، والحطاب 4 / 246
ط دار الفكر، ومنح الجليل 2 / 36، 37 و 3 / 168، وقليوبي 2 / 302، 303 ط
عيسى الحلبي ومغني المحتاج 2 / 99، 165، 171، والمهذب 1 / 264، 339، 396 و
2 / 34، 36، 41 ط دار المعرفة بيروت، والمغني 6 / 449، 475، 491، 515، 525
ط مكتبة الرياض و 4 / 272 وما بعدها، ومنتهى الإرادات 2 / 141، 296 و 3 /
14
(2) حديث: " أيما امرأة. . . " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عائشة
وهو صحيح (فيض القدير 3 / 143)
(3) المراجع السابقة، والهداية 1 / 196
(2/383)
الْوَاقِفِ، وَلاَ يَتَصَرَّفُ إِلاَّ
بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْوَقْفِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ
أَوْ لِغَيْرِهِمْ إِحْدَاثُ شَيْءٍ فِيهِ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غَرْسٍ
إِلاَّ بِإِذْنِ نَاظِرِ الْوَقْفِ - إِذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً، وَلاَ
يَحِل لِلْمُتَوَلِّي الإِْذْنُ إِلاَّ فِيمَا يَزِيدُ الْوَقْفُ بِهِ
خَيْرًا.
كَذَلِكَ مِنْ وَظِيفَةِ النَّاظِرِ تَحْصِيل الْغَلَّةِ، وَقِسْمَتُهَا
عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَتَنْزِيل الطَّلَبَةِ مَنَازِلَهُمْ، وَلاَ
يَجُوزُ مِثْل ذَلِكَ لِلْجَابِي، وَلاَ لِلْعَامِل وَلاَ لِلْمُدَرِّسِ
إِلاَّ بِإِذْنِ النَّاظِرِ.
وَمَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، يَسْتَوْفِيهَا
بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، بِإِعَارَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ، كَمَا يَقُول
الشَّافِعِيَّةُ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ (1) مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ
بِإِذْنِ النَّاظِرِ، مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ،
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
إِذْنُ الْمَأْذُونِ لَهُ:
30 - غَالِبًا مَا يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْمَأْذُونِ لَهُ عَلَى
الْعَبْدِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلِذَلِكَ
يَعْقِدُونَ لَهُ بَابًا يُسَمَّى بَابُ الْمَأْذُونِ.
وَلَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ:
هَل يَمْلِكُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِي التِّجَارَةِ أَمْ لاَ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ
الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ لِغَيْرِهِ فِي التِّجَارَةِ؛ لأَِنَّ
الإِْذْنَ فِي التِّجَارَةِ تِجَارَةٌ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 412، 442 وما بعدها ط بولاق الثالثة، ومغني المحتاج 2 /
389 ط مصطفى الحلبي، وقليوبي 3 / 109 ط عيسى الحلبي، ومنتهى الإرادات 2 /
506 ط دار الفكر، ومنح الجليل 4 / 34 - 82 ط مكتبة النجاح، والدسوقي 4 / 97
(2/384)
يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ بِالتِّجَارَةِ
بِدُونِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ جَازَ،
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا فِي التَّصَرُّفِ الْعَامِّ، فَإِنْ أَذِنَ
لَهُ فِي تَصَرُّفٍ خَاصٍّ كَشِرَاءِ ثَوْبٍ جَازَ (1) .
31 - وَمِمَّا يَدْخُل فِي ذَلِكَ أَيْضًا عَامِل الْقِرَاضِ
بِاعْتِبَارِهِ مَأْذُونًا مِنْ رَبِّ الْمَال فِي التِّجَارَةِ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِعَامِل
الْمُضَارَبَةِ أَنْ يُضَارِبَ غَيْرَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَال،
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ جَازَ. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ رَبَّ الْمَال
لَوْ فَوَّضَ الأَْمْرَ لِلْعَامِل، بِأَنْ قَال لَهُ اعْمَل بِرَأْيِكَ
مَثَلاً، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِل أَنْ يُضَارِبَ بِدُونِ إِذْنِ
رَبِّ الْمَال. أَمَّا إِذَا قَيَّدَهُ بِشَيْءٍ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَارِضَ
غَيْرَهُ وَلَوْ بِالإِْذْنِ، لأَِنَّ الْقِرَاضَ عَلَى خِلاَفِ
الْقِيَاسِ. وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَجُوزُ بِالإِْذْنِ، وَقَوَّاهُ
السُّبْكِيُّ، وَقَال إِنَّهُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْوَكِيل وَالْوَصِيُّ وَالْقَاضِي، وَتُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحَاتِهَا.
التَّعَارُضُ فِي الإِْذْنِ:
32 - إِذَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ، مِمَّنْ لَهُمْ حَقُّ
الإِْذْنِ فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ مَثَلاً، وَكَانُوا فِي دَرَجَةٍ
وَاحِدَةٍ، كَإِخْوَةٍ أَوْ بَنِيهِمْ أَوْ أَعْمَامٍ، وَتَشَاحُّوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ، وَطَلَبَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 100، ومنتهى الإرادات 2 / 297، والدسوقي 3 / 304،
والبدائع 7 / 197
(2) الاختيار 3 / 20، والمغني 5 / 48، والدسوقي 3 / 388، ومغني المحتاج 2 /
314
(2/384)
كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ، فَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ، قَطْعًا
لِلنِّزَاعِ، وَلِتَسَاوِيهِمْ فِي الْحَقِّ وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ
بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ زَوَّجَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ
نِسَائِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِيمَنْ يَرَاهُ
أَحْسَنَهُمْ رَأْيًا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
يَكُونُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُزَوِّجَهَا عَلَى حِيَالِهِ -
رَضِيَ الآْخَرُ أَوْ سَخِطَ - إِذَا كَانَ التَّزْوِيجُ مِنْ كُفْءٍ
بِمَهْرٍ وَافِرٍ.
وَهَذَا إِذَا اتَّحَدَ الْخَاطِبُ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ الْخَاطِبُ
فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ رِضَاهَا، وَتُزَوَّجُ بِمَنْ عَيَّنَتْهُ، فَإِنْ
لَمْ تُعَيِّنِ الْمَرْأَةُ وَاحِدًا وَرَضِيَتْ بِأَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ،
نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي تَزْوِيجِهَا مِنَ الأَْصْلَحِ، كَمَا يَقُول
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَإِنْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ فَزَوَّجَهَا
مِنْ كُفْءٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يُمَيِّزُ
أَحَدَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَوْ أَذِنَتْ لَهُمْ فِي التَّزْوِيجِ، فَزَوَّجَهَا أَحَدُ
الأَْوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ فِي الدَّرَجَةِ مِنْ وَاحِدٍ، وَزَوَّجَهَا
الآْخَرُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ عُرِفَ السَّابِقُ فَهُوَ الصَّحِيحُ
وَالآْخَرُ بَاطِلٌ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، أَوْ
جُهِل السَّابِقُ مِنْهُمَا فَبَاطِلاَنِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) ، مَعَ
تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ. (ر: نِكَاحُ وَلِيٍّ) .
33 - وَفِي الْوَصِيَّةِ لَوْ أُوصِيَ لاِثْنَيْنِ مَعًا فَهُمَا
وَصِيَّانِ، وَلاَ يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِنْفِرَادُ
بِالتَّصَرُّفِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْوَصِيَّانِ فِي أَمْرٍ، كَبَيْعٍ
وَشِرَاءٍ، نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيمَا فِيهِ الأَْصْلَحُ، كَمَا يَقُول
الْمَالِكِيَّةُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - لاَ يَنْفَرِدُ
أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ بِالتَّصَرُّفِ إِلاَّ إِذَا كَانَا مِنْ جِهَةِ
__________
(1) البدائع 2 / 251، ومغني المحتاج 2 / 160، والدسوقي 2 / 233، والمغني 6
/ 511
(2/385)
قَاضِيَيْنِ مِنْ بَلْدَتَيْنِ، فَإِنَّهُ
حِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ. وَقَال
أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الأُْمُورِ (1) .
بِمَ يَكُونُ الإِْذْنُ؟
34 - لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الإِْذْنِ وَسَائِل مُتَعَدِّدَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ
اللَّفْظُ الصَّرِيحُ الدَّال عَلَى الإِْذْنِ، كَقَوْل الأَْبِ لِوَلَدِهِ
الْمُمَيِّزِ: أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ، أَوِ اشْتَرِ لِي ثَوْبًا
وَبِعْهُ، أَوِ اتَّجِرْ فِي كَذَا (2) .
35 - وَقَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ بِالإِْشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ أَوِ
الرِّسَالَةِ وَذَلِكَ كَإِذْنِ الْمَرْأَةِ فِي إِنْكَاحِهَا إِذَا
كَانَتْ خَرْسَاءَ، أَوْ إِذْنِ الْوَلِيِّ بِالإِْشَارَةِ إِذَا كَانَ
أَخْرَسَ، فَإِنَّ الإِْذْنَ هُنَا يَصِحُّ بِالإِْشَارَةِ إِذَا كَانَتِ
الإِْشَارَةُ مَعْهُودَةً مَفْهُومَةً، وَكَذَلِكَ الدَّعْوَةُ إِلَى
الْوَلِيمَةِ بِكِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ تُعْتَبَرُ إِذْنًا فِي الدُّخُول
وَالأَْكْل، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا
دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُول فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ (3)
وَكَمَا يَكُونُ الإِْذْنُ مُبَاشَرَةً مِمَّنْ يَمْلِكُهُ فَإِنَّهُ
يَكُونُ بِالإِْنَابَةِ مِنْهُ.
__________
(1) الدسوقي 4 / 453، والكافي 2 / 1031 ط مكتبة الرياض الحديثة، وابن
عابدين 5 / 464 ط ثالثة بولاق، ومغني المحتاج 2 / 77، والمغني 6 / 144
(2) ابن عابدين 5 / 101 ط ثالثة بولاق، ومغني المحتاج 2 / 99، وما بعدها،
والدسوقي 3 / 304، ومنتهى الإرادات 2 / 296
(3) حديث: " إذا دعي أحدكم. . . " أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأبو
داود والبيهقي في شعب الأيمان، وهو حسن (فيض القدير 1 / 347)
(2/385)
كَذَلِكَ التَّوْكِيل بِالْكِتَابَةِ
وَالرِّسَالَةِ يُعْتَبَرُ إِذْنًا (1) .
36 - وَقَدْ يُعْتَبَرُ السُّكُوتُ إِذْنًا فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ.
وَالأَْصْل أَنَّ السُّكُوتَ لاَ يُعْتَبَرُ إِذْنًا، وَذَلِكَ
لِقَاعِدَةِ: " لاَ يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ " وَلَكِنْ خَرَجَ عَنْ
هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي يُعْتَبَرُ السُّكُوتُ
فِيهَا إِذْنًا، وَمِنْ ذَلِكَ سُكُوتُ الْبِكْرِ عِنْدَ وَلِيِّهَا،
فَإِنَّ سُكُوتَهَا يُعْتَبَرُ إِذْنًا، وَذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ:
اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ فَإِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي
فَتَسْكُتُ فَهُوَ إِذْنُهَا (2) وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ
أَكَانَ الاِسْتِئْذَانُ مُسْتَحَبًّا أَمْ وَاجِبًا (3) .
37 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُكُوتِ الْوَلِيِّ عِنْدَ
رُؤْيَتِهِ مُوَلِّيَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ هَل يُعْتَبَرُ
سُكُوتُهُ إِذْنًا أَمْ لاَ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ
لِلْمَالِكِيَّةِ يُعْتَبَرُ إِذْنًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ
لِلْمَالِكِيَّةِ لاَ يُعْتَبَرُ إِذْنًا؛ لأَِنَّ مَا يَكُونُ الإِْذْنُ
فِيهِ شَرْطًا لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ السُّكُوتُ، كَمَنْ يَبِيعُ مَال
غَيْرِهِ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 136، 137 ط المطبعة الحسينية المصرية، والأشباه
للسيوطي ص 155، 311، 312، ومغني المحتاج 2 / 150، 223، 266، والمغني 6 /
317، 534، ومنهى الإرادات 2 / 314 و 3 / 12، والدسوقي 3 / 280، ومنح الجليل
2 / 166، 464، 3 / 358،360، 490، وجواهر الإكليل 1 / 325 ط دار المعرفة
بيروت.
(2) حديث: " استأمروا النساء. . . . " أخرجه أحمد بلفظ " استأمروا النساء
في أبضاعهن قال: قيل فإن البكر تستحي، فتسكت، قال: فهو إذنها " وأخرجه
البخاري والنسائي بألفاظ مقاربة (المسند 6 / 203، وفتح الباري 12 / 319 ط
السلفية، والنسائي 6 / 70 ط م الحلبي سنة 1383 هـ)
(3) الأشباه لابن نجيم ص 61، والأشباه للسيوطي ص 141، ومغني المحتاج 2 /
147، والمغني 6 / 491، والاختيار 3 / 92، والكافي 2 / 524
(2/386)
وَصَاحِبُهُ سَاكِتٌ فَلاَ يُعْتَبَرُ
إِذْنًا؛ وَلأَِنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِل الرِّضَا وَيَحْتَمِل السَّخَطَ،
فَلاَ يَصْلُحُ دَلِيل الإِْذْنِ عِنْدَ الاِحْتِمَال (1) .
38 - وَقَدْ يَكُونُ الإِْذْنُ بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ، وَذَلِكَ
كَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ لِلضُّيُوفِ، فَإِنَّهُ قَرِينَةٌ تَدُل عَلَى
الإِْذْنِ وَكَشِرَاءِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِضَاعَةً وَوَضْعِهَا فِي
حَانُوتِهِ، وَأَمْرِهِ بِالْجُلُوسِ فِيهِ، وَكَبِنَاءِ السِّقَايَاتِ
وَالْخَانَاتِ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَبْنَاءِ السَّبِيل (2) .
تَقْيِيدُ الإِْذْنِ بِالسَّلاَمَةِ:
39 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ
مَأْذُونٍ فِيهِ لاَ أَثَرَ لَهُ، أَيْ لاَ يَكُونُ مَضْمُونًا،
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا كَانَ مَشْرُوطًا بِسَلاَمَةِ
الْعَاقِبَةِ (3) .
وَيَقْسِمُ الْحَنَفِيَّةُ الْحُقُوقَ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْمَأْذُونِ
إِلَى قِسْمَيْنِ:
حُقُوقٌ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِإِيجَابِ الشَّارِعِ، كَحَقِّ
الإِْمَامِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِي الْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ، أَمْ
كَانَتْ وَاجِبَةً بِإِيجَابِ الْعَقْدِ، كَعَمَل الْفَصَّادِ
وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ.
وَهَذِهِ الْحُقُوقُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا سَلاَمَةُ الْعَاقِبَةِ إِلاَّ
بِالتَّجَاوُزِ عَنِ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ.
حُقُوقٌ مُبَاحَةٌ، كَحَقِّ الْوَلِيِّ فِي التَّأْدِيبِ عِنْدَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 100، وابن عابدين 5 / 113، والاختيار 2 / 100،
والمغني 5 / 85، ومنتهى الإرادات 2 / 298، والبهجة في شرح التحفة 2 / 295 ط
مصطفى الحلبي الثانية.
(2) الاختيار 3 / 45، ومنتهى الإرادات 3 / 89، والقلبوبي 3 / 298، والحطاب
4 / 223
(3) الأشباه للسيوطي ص 111، وبدائع الصنائع 7 / 305
(2/386)
أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَقِّ الزَّوْجِ فِي
التَّعْزِيرِ فِيمَا يُبَاحُ لَهُ، وَحَقِّ الاِنْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ
الْعَامِّ،
وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ (1) .
وَبِالنَّظَرِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ
أَنَّهُمْ يُسَايِرُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ
الْفُقَهَاءَ جَمِيعًا - وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ - يَخْتَلِفُونَ فِي
تَحْدِيدِ الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ،
وَالَّتِي لاَ تَتَقَيَّدُ بِهَا، تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ وُجْهَتِهِمْ فِي
تَعْلِيل الْفِعْل، حَتَّى بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ نَجِدُ
ذَلِكَ فِي الْفِعْل الْوَاحِدِ كَالْخِلاَفِ بَيْنَ الإِْمَامِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي اقْتِصَاصِ الإِْنْسَانِ لِنَفْسِهِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً - مَا لاَ يَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ:
أ - الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ بِإِيجَابِ الشَّارِعِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا:
40 - إِذَا أَقَامَ الإِْمَامُ الْحَدَّ، فَجَلَدَ شَارِبَ الْخَمْرِ، أَوْ
قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ، فَمَاتَ الْمَحْدُودُ فَلاَ ضَمَانَ لأَِنَّ
الْحُدُودَ إِذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَلاَ ضَمَانَ
فِيمَا تَلِفَ بِهَا؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ فَعَل ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ
وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يُؤَاخَذُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا اقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ دُونَ
تَجَاوُزٍ، فَسَرَتِ الْجِرَاحَةُ، فَمَاتَ فَلاَ ضَمَانَ؛ لأَِنَّهُ
بِفِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) .
41 - وَإِذَا عَزَّرَ الإِْمَامُ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّعْزِيرُ،
فَمَاتَ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 116
(2) البدائع 7 / 305، والدسوقي 4 / 355، ومنح الجليل 4 / 369 - 371، ونهاية
المحتاج 8 / 29، والمهذب 2 / 189، والمغني 8 / 311، و 7 / 727
(2/387)
الْمُعَزَّرُ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ؛
لأَِنَّهُ فَعَل مَا فَعَل بِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَفِعْل الْمَأْمُورِ لاَ
يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ
إِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ إِنْ ظَنَّ السَّلاَمَةَ، أَمَّا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّ تَعْزِيرَ الإِْمَامِ
عِنْدَهُمْ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (1) .
42 - وَإِذَا اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَقَطَعَ يَدَ
الْقَاطِعِ، فَسَرَتِ الْجِرَاحَةُ، فَمَاتَ فَلاَ ضَمَانَ؛ لأَِنَّهُ
قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ مُقَدَّرٌ فَلاَ تُضْمَنُ سِرَايَتُهُ كَقَطْعِ
السَّارِقِ، وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، مَا عَدَا أَبَا
حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ عِنْدَهُ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى
عَاقِلَتِهِ؛ لأَِنَّ الْقَطْعَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى مَنْ لَهُ
الْقِصَاصُ، بَل هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَالْعَفْوُ أَوْلَى، وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُؤَدَّبُ لاِفْتِيَاتِهِ عَلَى
الإِْمَامِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (2) .
ب - الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ بِإِيجَابِ الْعَقْدِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا:
43 - الْحَجَّامُ وَالْفَصَّادُ وَالْخَتَّانُ وَالطَّبِيبُ لاَ ضَمَانَ
عَلَيْهِمْ فِيمَا يَتْلَفُ بِفِعْلِهِمْ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِالإِْذْنِ
وَلَمْ يُجَاوِزُوا الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ، وَكَانَتْ لَهُمْ
بِصَنْعَتِهِمْ بَصَارَةٌ وَمَعْرِفَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ (3)
.
44 - وَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ أَمَانَةٍ،
وَلاَ
__________
(1) المغني 8 / 326، والهداية 2 / 117، والأشباه للسيوطي ص 111، والمهذب 2
/ 290، ومنح الجليل 4 / 556، 557
(2) البدائع 7 / 305، والأشباه للسيوطي ص 111، والمغني 7 / 690، 727،
والمواق بهامش الحطاب 6 / 233، 234
(3) المغني 5 / 538، ومنح الجليل 4 / 557، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 /
348، ونهاية المحتاج 8 / 30، 32، وابن عابدين 5 / 44 ط ثالثة.
(2/387)
يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ مَا تَلِفَ
بِالاِسْتِعْمَال الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَأَمَّا لَوْ فَرَّطَ أَوْ جَاوَزَ
مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، بِأَنْ ضَرَبَ الدَّابَّةَ أَوْ كَبَحَهَا فَوْقَ
الْعَادَةِ فَتَلِفَتْ ضَمِنَ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) .
ثَانِيًا - مَا يَتَقَيَّدُ بِوَصْفِ السَّلاَمَةِ:
45 - وَهُوَ الْحُقُوقُ الْمُبَاحَةُ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: ضَرْبُ
الزَّوْجَةِ لِلنُّشُوزِ، فِيهِ الضَّمَانُ فِيمَا يَنْشَأُ مِنْهُ مِنْ
تَلَفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ ضَمَانَ فِيهِ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِنْ ظَنَّ السَّلاَمَةَ (2) .
46 - وَالاِنْتِفَاعُ بِالطَّرِيقِ الْعَامَّةِ مِنْ سَيْرٍ وَسُوقٍ
مَأْذُونٍ فِيهِ لِكُل النَّاسِ بِشَرْطِ سَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، فَمَا
لَمْ تَسْلَمْ عَاقِبَتُهُ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ، فَالْمُتَوَلَّدُ
مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ
الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالرَّاكِبُ إِذَا وَطِئَتْ
دَابَّتُهُ رَجُلاً فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ يَدُهَا أَوْ رِجْلُهَا
أَوْ رَأْسُهَا أَوْ صَدَمَتْ؛ لأَِنَّ هَذِهِ أَفْعَالٌ يُمْكِنُ
الاِحْتِزَازُ عَنْهَا.
وَلاَ يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ
يُمْكِنُ الاِحْتِزَازُ عَنْهُ، وَلَوْ وَقَّفَهَا فِي الطَّرِيقِ فَهُوَ
ضَامِنٌ لِلنَّفْحَةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ شَرْعًا هُوَ
الْمُرُورُ، وَلَيْسَ الْوُقُوفُ إِلاَّ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ وُقُوفَ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ
الْوَاسِعِ لِغَيْرِ شَيْءٍ لاَ ضَمَانَ فِيهِ. وَلَوْ وَقَّفَهَا أَمَامَ
بَابِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ كَالطَّرِيقِ، فَيَضْمَنُ وَلَوْ خَصَّصَ
الإِْمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَوْقِفًا فَلاَ ضَمَانَ إِلاَّ إِذَا كَانَ
رَاكِبًا.
وَلَوْ كَانَ سَائِرًا أَوْ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا فِي مَوَاضِعَ أَذِنَ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 190، والمغني 5 / 481، 503، والاختيار 2 / 53،
والمهذب 1 / 415
(2) ابن عابدين 5 / 375، والهداية 2 / 117، والمغني 8 / 327، والتبصرة 2 /
349، ومنح الجليل 4 / 556، ونهاية المحتاج 8 / 28
(2/388)
الإِْمَامُ لِلنَّاسِ فِيهَا بِالْوُقُوفِ
ضَمِنَ، لأَِنَّ أَثَرَ الإِْذْنِ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الْوُقُوفِ، لاَ فِي
السَّيْرِ وَالسَّوْقِ، وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ (1) .
47 - وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
لِمَصْلَحَةٍ فَفِيهَا الضَّمَانُ بِمَا تَلِفَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ
لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ وَمَاتَ فَإِنْ
كَانَ الْحَفْرُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّ أَمْرَ الْعَامَّةِ إِلَى الإِْمَامِ،
فَلاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا أَبِي يُوسُفَ فَعِنْدَهُ لاَ
يَضْمَنُ؛ لأَِنَّ مَا كَانَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ
الإِْذْنُ فِيهِ ثَابِتًا دَلاَلَةً، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيٌ
لِلشَّافِعِيَّةِ، وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِالإِْذْنِ.
وَمَنْ حَفَرَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ
اتِّفَاقًا (2) . وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْحَفْرِ
لَوْ مَاتَ جُوعًا أَوْ غَمًّا فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ
وَيُوَافِقُهُ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمَوْتِ جُوعًا أَمَّا إِنْ مَاتَ
غَمًّا فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ.
48 - وَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إِلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَصَبَ
مِيزَابًا أَوْ بَنَى دُكَّانًا أَوْ وَضَعَ حَجَرًا أَوْ خَشَبَةً أَوْ
قِشْرَ بِطِّيخٍ أَوْ صَبَّ مَاءً، فَزَلَقَ بِهِ إِنْسَانٌ فَمَا نَشَأَ
مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3) . وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ (4) يَضْمَنُ فِيمَا
__________
(1) البدائع 7 / 272، والهداية 4 / 197، 198، ومغني المحتاج 4 / 204، 205،
والمهذب 2 / 195، والمغني 8 / 38، والتبصرة 2 / 351 - 353، ومنح الجليل 4 /
353
(2) البدائع 7 / 278، والهداية 4 / 193، والتبصرة 2 / 346، والشرح الصغير 2
/ 384، ط الحلبي ومغني المحتاج 4 / 83 - 85، والمغني 7 / 823، 824
(3) المغني 7 / 830، والبدائع 7 / 278، 279، والاختيار 5 / 45، ومغني
المحتاج 4 / 85
(4) التبصرة 2 / 347
(2/388)
وَضَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، كَقِشْرِ
الْبِطِّيخِ أَوْ صَبِّ الْمَاءِ، أَمَّا مَنْ وَضَعَ مِيزَابًا
لِلْمَطَرِ، وَنَصَبَهُ عَلَى الشَّارِعِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ سَقَطَ
عَلَى رَأْسِ إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، أَوْ عَلَى مَالٍ فَأَتْلَفَهُ فَلاَ
ضَمَانَ، لأَِنَّهُ فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ.
49 - وَمَنْ بَنَى جِدَارًا مَائِلاً إِلَى الشَّارِعِ فَتَلِفَ بِهِ
شَيْءٌ فَفِيهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ بَنَاهُ مُسْتَوِيًا أَوْ مَائِلاً
إِلَى مِلْكِهِ فَسَقَطَ فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ مَال قَبْل وُقُوعِهِ إِلَى
هَوَاءِ الطَّرِيقِ، أَوْ إِلَى مِلْكِ إِنْسَانٍ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
نَقْضُهُ وَلاَ فَرَّطَ فِي تَرْكِ نَقْضِهِ لِعَجْزِهِ فَلاَ ضَمَانَ،
فَإِنْ أَمْكَنَهُ وَطُولِبَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَل ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ
يُطَالَبْ لَمْ يَضْمَنْ (1) .
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي دُخُول الْبُيُوتِ:
50 - لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ دُخُول دَارِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ
وَلِذَلِكَ وَجَبَ الاِسْتِئْذَانُ عِنْدَ إِرَادَةِ الدُّخُول لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (2) ،
فَإِنْ أُذِنَ لَهُ دَخَل وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ رَجَعَ.
وَلِلإِْذْنِ فِي دُخُول الْبُيُوتِ أَثَرٌ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ، إِذْ
يُعْتَبَرُ الإِْذْنُ بِالدُّخُول شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ؛ لأَِنَّ
الدَّارَ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ حِرْزًا بِالإِْذْنِ،
وَلأَِنَّهُ لَمَّا أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُول فَقَدْ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْل
الدَّارِ، فَإِذَا أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ خَائِنٌ لاَ سَارِقٌ (3) ، إِلاَّ
أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي
__________
(1) المغني 7 / 827، ومغني المحتاج 4 / 86، والهداية 4 / 195، 196 والتبصرة
2 / 347
(2) سورة النور / 27
(3) المغني 8 / 254، والبدائع 7 / 73، ومغني المحتاج 4 / 174، والمهذب 2 /
281، والشرح الصغير 4 / 483، ط دار المعارف.
(2/389)
تَحْدِيدِ مَا يُعْتَبَرُ سَرِقَةً وَمَا
لاَ يُعْتَبَرُ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (سَرِقَةٌ) .
51 - وَكَذَلِكَ لِلإِْذْنِ فِي دُخُول الْبُيُوتِ أَثَرٌ فِي الْجِنَايَةِ
وَالضَّمَانِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ دَخَل دَارَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ
فَعَقَرَهُ كَلْبُهُ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي
الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِهِ (1)
، لأَِنَّهُ تَسَبَّبَ فِي إِتْلاَفِهِ بِعَدَمِ كَفِّ الْكَلْبِ عَنْهُ
خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِهِ، وَدَخَل الدَّارَ رَجُلٌ
بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ، فَوَقَعَ فِيهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ
الدَّارِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ مَكْشُوفَةً
وَالدَّاخِل بَصِيرٌ يُبْصِرُهَا فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِل
أَعْمَى، أَوْ كَانَتِ الْبِئْرُ فِي ظُلْمَةٍ لاَ يُبْصِرُهَا، فَعَلَى
صَاحِبِ الدَّارِ الضَّمَانُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ لاَ ضَمَانَ
(2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ) .
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي الْعُقُودِ:
52 - الأَْصْل أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ يَنْفُذُ
تَصَرُّفُهُ فِيمَا لَهُ فِيهِ نَفْعٌ، كَالصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ عِنْدَ
مَنْ يُجِيزُ تَصَرُّفَ الصَّبِيِّ. أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ
فَلاَ تَصِحُّ وَلَوْ بِالإِْذْنِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ.
وَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الْمَأْذُونُ لَهُ يَمْلِكُ مَا يَمْلِكُهُ
الْبَالِغُ
__________
(1) المغني 8 - 338، والبدائع 7 / 273، والمهذب 2 / 194، ومنح الجليل 4 /
354
(2) المغني 7 / 827، ومنح الجليل 4 / 353، ومغني المحتاج 4 / 83، والزيلعي
6 / 145، والبدايع 7 / 274، 277
(2/389)
لَكِنْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْذْنِ
أَنْ يَعْقِل أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ لِلْمِلْكِ عَنِ الْبَائِعِ،
وَالشِّرَاءُ جَالِبٌ لَهُ، وَيَعْرِفُ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ مِنَ
الْفَاحِشِ (1) .
53 - وَالإِْذْنُ فِي الْعُقُودِ يُفِيدُ ثُبُوتَ وِلاَيَةِ التَّصَرُّفِ
الَّذِي تَنَاوَلَهُ الإِْذْنُ، وَذَلِكَ كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ
وَالْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) ، فَإِنَّهُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْعُقُودِ
يَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنَ الْوَكِيل وَعَامِل الْقِرَاضِ وَالشَّرِيكِ
وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الإِْذْنُ، كَالْوَكَالَةِ فِي
عَقْدِ الْبَيْعِ أَوْ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَهَكَذَا، وَلاَ يَجُوزُ
لَهُ مُبَاشَرَةُ أَيِّ عَقْدٍ يُخَالِفُ نَصَّ الإِْذْنِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ مَا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ عُقُودٍ مَأْذُونٍ فِيهَا
فَبِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِيكِ تَرْجِعُ إِلَيْهِمَا، وَبِالنِّسْبَةِ
لِعَامِل الْمُضَارَبَةِ تَرْجِعُ إِلَى رَبِّ الْمَال (2) . أَمَّا
بِالنِّسْبَةِ لِلْوَكِيل فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَكُونُ
الْعُهْدَةُ عَلَى الْمُوَكِّل، وَيَرْجِعُ بِالْحُقُوقِ إِلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَكِيل
الْخَاصِّ.
أَمَّا الْوَكِيل الْمُفَوِّضُ عِنْدَهُمْ فَالطَّلَبُ عَلَيْهِ.
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: كُل عَقْدٍ لاَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى
إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُوَكِّل، وَيَكْتَفِي الْوَكِيل فِيهِ
بِالإِْضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ فَحُقُوقُهُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَاقِدِ،
كَالْبِيَاعَاتِ وَالأَْشْرِيَةِ وَالإِْجَارَاتِ، فَحُقُوقُ هَذِهِ
الْعُقُودِ تَرْجِعُ لِلْوَكِيل وَهِيَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَيَكُونُ
الْوَكِيل فِي هَذِهِ
__________
(1) الحطاب 5 / 76،121، والاختيار 2 / 101، 102 وابن عابدين 5 / 113،
والبدائع 7 / 194، 195، مغني المحتاج 2 / 99، وما بعدها، ومنتهى الإرادات 2
/ 297
(2) البدائع 6 / 65، 113، 115، ومنتهى الإرادات 2 / 326، 337، وجواهر
الإكليل 2 / 118، 177، والمهذب 1 / 353، 354، 400 ط دار المعرفة بيروت.
(2/390)
الْحُقُوقِ كَالْمَالِكِ وَالْمَالِكُ
كَالأَْجْنَبِيِّ، حَتَّى لاَ يَمْلِكَ الْمُوَكِّل مُطَالَبَةَ
الْمُشْتَرِي مِنَ الْوَكِيل بِالثَّمَنِ، وَإِذَا اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ
فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيل.
وَكُل عَقْدٍ يَحْتَاجُ فِيهِ الْوَكِيل إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى
الْمُوَكِّل فَحُقُوقُهُ تَرْجِعُ إِلَى الْمُوَكِّل، كَالنِّكَاحِ
وَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالْخُلْعِ، فَحُقُوقُ هَذِهِ
الْعُقُودِ تَكُونُ لِلْمُوَكِّل وَهِيَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالْوَكِيل
فِيهَا سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ مَحْضٌ، حَتَّى إِنَّ وَكِيل الزَّوْجِ فِي
النِّكَاحِ لاَ يُطَالَبُ بِالْمَهْرِ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ الزَّوْجُ
إِلاَّ إِذَا ضَمِنَ الْمَهْرَ فَحِينَئِذٍ يُطَالَبُ بِهِ لَكِنْ بِحُكْمِ
الضَّمَانِ (1) .
54 - وَقَدْ يَقُومُ إِذْنُ الشَّارِعِ مَقَامَ إِذْنِ الْمَالِكِ
فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الْمَالِكُ، وَذَلِكَ كَمَنْ
تَوَجَّهَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَامْتَنَعَ مِنَ الْوَفَاءِ وَالْبَيْعِ،
فَإِنْ شَاءَ الْقَاضِي بَاعَ مَالَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِوَفَاءِ
دَيْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ إِلَى أَنْ يَبِيعَهُ (2) .
55 - أَمَّا التَّصَرُّفُ فِي مَال الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَذَلِكَ
كَالْفُضُولِيِّ يَبِيعُ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ
يَتَوَقَّفُ عَلَى الإِْجَازَةِ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ،
وَالإِْجَازَةُ اللاَّحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَالْوَكَالَةُ
إِذْنٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَابِلَةِ الْبَيْعُ
بَاطِلٌ (3) .
56 - وَإِذْنُ الْمَالِكِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِنَفْسِهِ
قَدْ يُفِيدُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى سَبِيل الْبَدَل
__________
(1) البدائع 6 / 33، والمهذب 1 / 364، ومنتهى الإرادات 2 / 308، والشرح
الصغير 2 / 184 ط الحلبي، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 256، 257
(2) مغني المحتاج 2 / 8، وجواهر الإكليل 2 / 3، والبدائع 4 / 177
(3) المغني 4 / 227، والدسوقي 3 / 12
(2/390)
كَمَا فِي الْقَرْضِ، أَمْ بِدُونِ عِوَضٍ
كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ.
وَقَدْ يُفِيدُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الاِنْتِفَاعَ كَالإِْجَارَةِ
وَالإِْعَارَةِ أَوْ تَمْلِيكَ الاِنْتِفَاعِ بِالْبُضْعِ كَمَا فِي عَقْدِ
النِّكَاحِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي الاِسْتِهْلاَكِ:
57 - الإِْذْنُ قَدْ يَرِدُ عَلَى اسْتِهْلاَكِ رَقَبَةِ الشَّيْءِ
وَمَنَافِعِهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّارِعِ يُفِيدُ التَّمَلُّكَ
بِالاِسْتِيلاَءِ الْحَقِيقِيِّ، وَذَلِكَ كَالإِْذْنِ بِصَيْدِ الْبَحْرِ
وَصَيْدِ الْبَرِّ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَاءُ
وَالْكَلأَُ وَالنَّارُ وَهِيَ الْمُشْتَرَكَاتُ الثَّلاَثُ الَّتِي نَصَّ
عَلَيْهَا الْحَدِيثُ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ، فِي الْمَاءِ
وَالْكَلأَِ وَالنَّارِ. (1)
أَمَّا الإِْذْنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ أَثَرُهُ.
فَقَدْ يُفِيدُ التَّمْلِيكَ عَلَى سَبِيل الْعِوَضِ كَمَا فِي قَرْضِ
الْخُبْزِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (2) .
وَقَدْ يُفِيدُ الإِْذْنُ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ كَمَا فِي
هِبَةِ الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (3) .
وَقَدْ لاَ يَكُونُ الإِْذْنُ بِالاِسْتِهْلاَكِ تَمْلِيكًا، وَإِنَّمَا
يَكُونُ طَرِيقًا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْوَلاَئِمِ
وَالْمَنَائِحِ وَالضِّيَافَاتِ (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 693، وحديث: " المسلمون شركاء. . . " رواه أحمد (5 / 364)
والبيهقي (6 / 150) ط حيدر آباد.
(2) البدائع 6 / 215، ومغني المحتاج 2 / 119، وقواعد الأحكام في مصالح
الأنام 2 / 73، 74
(3) البدائع 6 / 117
(4) الحطاب 4 / 223، ومنتهى الإرادات 3 / 89، وقليوبي 3 / 298
(2/391)
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي الْجِنَايَاتِ:
58 - الأَْصْل أَنَّ الدِّمَاءَ لاَ تَجْرِي فِيهَا الإِْبَاحَةُ، وَلاَ
تُسْتَبَاحُ بِالإِْذْنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الإِْذْنُ - إِذَا كَانَ
مُعْتَبَرًا - شُبْهَةً تُسْقِطُ الْقِصَاصَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ قَال
لِغَيْرِهِ: اقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ، فَإِنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ لِشُبْهَةِ
الإِْذْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَفِي
قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَل وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ
أَنَّهُ يُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا.
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، فَتَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ
قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَكَذَلِكَ مَنْ قَال لِغَيْرِهِ: اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَ يَدَهُ فَلاَ
ضَمَانَ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ، وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا: يُعَاقَبُ وَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ (2) ،
وَتُنْظَرُ التَّفْصِيلاَتُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ) .
59 - وَمَنْ أَمَرَ إِنْسَانًا بِقَتْل غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ بِلاَ
إِكْرَاهٍ فَفِيهِ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَاخْتُلِفَ فِي
الآْمِرِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الأَْمْرُ بِإِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ فَإِنَّ الْقِصَاصَ
عَلَى الآْمِرِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَأْمُورِ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل
زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهُ يُقْتَل لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْل،
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْمَذْهَبُ
أَنَّ الْمَأْمُورَ لاَ يُقْتَل (3) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 363 ط بولاق الثالثة، ومغني المحتاج 4 / 11، 50، ومنتهى
الإرادات 3 / 275، ومنح الجليل 4 / 346، 347، والحطاب 6 / 235، 236
(2) المراجع السابقة.
(3) الاختيار 2 / 108، ومنتهى الإرادات 3 / 274، والمهذب 2 / 178، والمواق
بهامش الحطاب 6 / 242
(2/391)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ
(ر: إِكْرَاهٌ - قَتْلٌ - جِنَايَةٌ) .
60 - وَلاَ قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَل غَيْرَهُ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ
عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الدِّفَاعَ عَنْ ذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ
لَكِنْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِمَا إِذَا كَانَ الدَّفْعُ لاَ يَتَأَتَّى
إِلاَّ بِالْقَتْل (1) .
أَثَرُ الإِْذْنِ فِي الاِنْتِفَاعِ:
61 - الاِنْتِفَاعُ إِذَا كَانَ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّارِعِ فَإِنَّهُ قَدْ
يُفِيدُ التَّمْلِيكَ بِالاِسْتِيلاَءِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا فِي تَمَلُّكِ
الْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ بِالصَّيْدِ، وَكَمَا فِي تَمَلُّكِ الأَْرْضِ
الْمَوَاتِ بِالإِْحْيَاءِ.
وَقَدْ يُفِيدُ اخْتِصَاصًا لِمَنْ سَبَقَ، كَالسَّبْقِ إِلَى مَقَاعِدِ
الْمَسَاجِدِ لِلصَّلاَةِ وَالاِعْتِكَافِ، وَالسَّبْقِ إِلَى الْمَدَارِسِ
وَالرُّبُطِ وَمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ.
وَقَدْ يُفِيدُ ثُبُوتَ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ، كَالاِنْتِفَاعِ
بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ وَالْمَسِيل الْعَامِّ، وَالاِنْتِفَاعُ بِذَلِكَ
مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ (2) .
62 - وَإِذَا كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِإِذْنٍ مِنَ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ الإِْذْنُ بِدُونِ عَقْدٍ كَإِذْنِ صَاحِبِ
الطَّرِيقِ الْخَاصِّ وَالْمَجْرَى الْخَاصِّ لِغَيْرِهِ بِالاِنْتِفَاعِ
فَإِنَّهُ لاَ يُفِيدُ تَمْلِيكًا، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
الضَّمَانُ بِسُوءِ الاِسْتِعْمَال.
63 - أَمَّا إِذَا كَانَ مَنْشَأُ الاِنْتِفَاعِ عَنْ عَقْدٍ
كَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى
أَنَّ عَقْدَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 194، وابن عابدين 5 / 362، والمغني 8 / 329، وما
بعدها والتبصرة 2 / 357
(2) مغني المحتاج 2 / 370
(2/392)
الإِْجَارَةِ يُفِيدُ مِلْكَ
الْمَنْفَعَةِ، فَيَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ
الْمَنْفَعَةَ بِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ فَيُمَلِّكَ
الْمَنْفَعَةَ لِغَيْرِهِ.
أَمَّا عَقْدُ الإِْعَارَةِ فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي إِفَادَتِهِ
مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ. فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى
الصَّحِيحِ لاَ تُفِيدُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الْمَالِكِ، وَعَلَى
ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا
يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِنَفْسِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ تُفِيدُ الإِْعَارَةُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فَيَجُوزُ
لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ غَيْرَهُ.
64 - وَيَتَرَتَّبُ الضَّمَانُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ النَّاشِئِ عَنْ مِثْل
هَذِهِ الْعُقُودِ بِمُجَاوَزَةِ الاِنْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَوْ
بِالتَّفْرِيطِ (1) . عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ، يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ) .
انْتِهَاءُ الإِْذْنِ:
65 - الإِْذْنُ إِذَا كَانَ مِنَ الشَّارِعِ فَلَيْسَ فِيهِ إِنْهَاءٌ لَهُ
وَلاَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ إِذْنَ الشَّارِعِ فِي الأَْمْوَال
الْمُبَاحَةِ يُفِيدُ تَمَلُّكَهَا مِلْكِيَّةً مُسْتَقِرَّةً
بِالاِسْتِيلاَءِ.
أَمَّا إِذْنُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ إِذْنًا
بِالاِنْتِفَاعِ، وَكَانَ مَنْشَأُ الاِنْتِفَاعِ عَقْدًا لاَزِمًا
كَالإِْجَارَةِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ
بِانْتِهَاءِ الْعَمَل وَفْقَ الإِْذْنِ الصَّادِرِ لَهُ وَمُدَّةِ قِيَامِ
الإِْذْنِ.
وَإِنْ كَانَ مَنْشَأُ الاِنْتِفَاعِ عَقْدًا جَائِزًا كَالإِْعَارَةِ
فَإِنَّ الإِْذْنَ يَنْتَهِي بِرُجُوعِ الْمُعِيرِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ
سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُؤَقَّتَةً؛ لأَِنَّهَا
إِبَاحَةٌ، وَهَذَا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 264، ومنتهى الإرادات 2 / 396، والمغني 5 / 478،
وبدائع الصنائع 6 / 214، والشرح الصغير 2 / 205 ط الحلبي.
(2/392)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَتِ
الإِْعَارَةُ مُؤَقَّتَةً وَفِي الأَْرْضِ غَرْسٌ أَوْ بِنَاءٌ فَلاَ
يَجُوزُ رُجُوعُهُ قَبْل الْوَقْتِ.
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَعَارَهُ أَرْضًا
لِلزِّرَاعَةِ فَعَلَيْهِ الإِْبْقَاءُ إِلَى الْحَصَادِ.
وَإِنْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِيَدْفِنَ فِيهَا فَلاَ يَرْجِعُ حَتَّى
يَنْدَرِسَ أَثَرُ الْمَدْفُونِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ لاَ
يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْعَارِيَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ قَبْل انْتِهَاءِ
وَقْتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَزِمَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ مُدَّةً
مُعْتَادَةً يَنْتَفِعُ بِهَا فِي مِثْلِهَا (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 270، 273، 359، والمغني 5 / 229، والبدائع 6 / 216،
والجواهر 2 / 146
(2/393)
وَإِنْ كَانَ إِذْنًا بِالتَّصَرُّفِ
كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَإِنَّ الإِْذْنَ
يَنْتَهِي بِالْعَزْل، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْذُونُ
بِذَلِكَ، وَأَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ.
وَيَنْتَهِي الإِْذْنُ كَذَلِكَ بِالْمَوْتِ، وَبِالْجُنُونِ الْمُطْبَقِ
وَبِالْحَجْرِ عَلَى الْمُوَكِّل، وَبِهَلاَكِ مَا وُكِّل فِيهِ،
وَبِتَصَرُّفِ الْمُوَكَّل بِنَفْسِهِ فِيمَا وُكِّل فِيهِ، وَبِاللَّحَاقِ
بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا.
وَمِثْل ذَلِكَ نَاظِرُ الْوَقْفِ وَالْوَصِيُّ فَإِنَّهُمَا يَنْعَزِلاَنِ
بِالرُّجُوعِ وَبِالْخِيَانَةِ وَبِالْعَجْزِ (1) .
__________
(1) البدائع 6 / 37، 78، 112، 216 و 7 / 385، وابن عابدين 3 / 396 و 5 /
108، 109، ومغني المحتاج 2 / 100، 101، 215، 231، 319، والدسوقي 3 / 396،
ومنتهى الإرادات 2 / 398، 305، 307، وجواهر الإكليل 2 / 132
(2/393)
|