فِدَاؤُهُ بِمَا يَزِيدُ عَنْ قِيمَتِهِ،
وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهُ لِلدَّائِنِ عِوَضَ دَيْنِهِ (1) .
الرَّقِيقُ الْمَأْذُونُ:
111 - يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْذَنَ لِرَقِيقِهِ فِي التَّصَرُّفِ
وَالْمُتَاجَرَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ؛
لأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ كَانَ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَجَازَ لَهُ
التَّصَرُّفُ بِإِذْنِهِ (2) .
ثُمَّ قَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الإِْذْنَ يَتَحَدَّدُ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ السَّيِّدُ، وَيَنْفَكُّ
عَنْهُ حَجْرُهُ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَيَسْتَمِرُّ
الْحَجْرُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ
دَفَعَ إِلَيْهِ مَالاً يَتَّجِرُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ
وَيَشْتَرِيَ وَيَتَّجِرَ فِيهِ، إِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي
ذِمَّتِهِ جَازَ. وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ نَوْعًا مِنَ الْمَال يَتَّجِرُ
فِيهِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الاِتِّجَارُ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ
يَجُزْ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ، وَلاَ أَنْ يُؤَجِّرَ مَال
التِّجَارَةِ كَدَوَابِّهَا، وَلاَ أَنْ يَتَوَكَّل لإِِنْسَانٍ؛
لأَِنَّ الإِْذْنَ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ
وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَصَرَّفُ الرَّقِيقُ الْمَأْذُونُ
بِالْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنْ سَيِّدِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ
مَال التِّجَارَةِ - وَلَوْ يَسِيرًا - مَا لَمْ يَعْلَمْ بِرِضَا
سَيِّدِهِ
__________
(1) المغني 4 / 247 - 249 و5 / 77، والمنهاج وشرح المحلي بحاشية
القليوبي 2 / 242، والزرقاني 5 / 302.
(2) المغني 5 / 77.
(23/68)
بِذَلِكَ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا
مِثْل قَوْل الْحَنَفِيَّةِ كَمَا يَأْتِي.
قَال الْجُمْهُورُ: وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْذْنِ بِالْقَوْل، فَلَوْ
رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَتَّجِرُ فَلَمْ يَنْهَهُ لَمْ يَصِرْ
بِذَلِكَ مَأْذُونًا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّقِيقَ الْمَأْذُونَ
يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي مَا هُوَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ.
قَالُوا: وَالإِْذْنُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ،
وَلَيْسَ تَوْكِيلاً أَوْ إِنَابَةً، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ الرَّقِيقُ
لِنَفْسِهِ بِمُقْتَضَى أَهْلِيَّتِهِ، فَلاَ يَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ
وَلاَ يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ، فَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ يَوْمًا أَوْ
شَهْرًا صَارَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا حَتَّى يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ
لأَِنَّ الإِْسْقَاطَ لاَ يَتَوَقَّتُ. وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ
عَمَّ إِذْنُهُ الأَْنْوَاعَ كُلَّهَا وَلَوْ نَهَاهُ عَنْهَا
صَرِيحًا، كَأَنْ قَال: اشْتَرِ الْبَزَّ وَلاَ تَشْتَرِ غَيْرَهُ،
فَتَصِحُّ مِنْهُ كُل تِجَارَةٍ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَيَثْبُتُ الإِْذْنُ لِلْعَبْدِ فِي
التِّجَارَةِ دَلاَلَةً، فَلَوْ رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَبِيعُ
وَيَشْتَرِي مَا أَرَادَ فَسَكَتَ السَّيِّدُ صَارَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ
مَأْذُونًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ مِنَ
الإِْذْنِ الاِسْتِخْدَامُ، كَأَنْ يَطْلُبَ مِنْ عَبْدِهِ شِرَاءَ
شَيْءٍ لِحَاجَتِهِ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِذْنًا فِي التِّجَارَةِ،
وَبَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ فَكُّ الْحَجْرِ.
قَالُوا: وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَيُوَكِّل
__________
(1) المغني4 / 249 و5 / 77، 78، وابن عابدين 5 / 99، وشرح المنهاج
بحاشية القليوبي 2 / 242 وما بعدها.
(23/69)
بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَيَرْهَنَ
وَيَرْتَهِنَ، وَيُعِيرَ الثَّوْبَ وَالدَّابَّةَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ
عَادَةِ التُّجَّارِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ قِصَاصٍ وَجَبَ عَلَى
عَبْدِهِ، وَتُقْبَل الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إِنْ
لَمْ يَحْضُرْ مَوْلاَهُ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الأَْرْضَ
إِجَارَةً أَوْ مُسَاقَاةً أَوْ مُزَارَعَةً، وَيُشَارِكَ عِنَانًا لاَ
مُفَاوَضَةً، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَيُؤَجِّرَ، وَلَهُ أَنْ
يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ وَيُقِرَّ بِنَحْوِ وَدِيعَةٍ أَوْ غَصْبٍ،
وَيُهْدِي طَعَامًا يَسِيرًا بِمَا لاَ يُعَدُّ سَرَفًا، وَأَنْ
يُضِيفَ الضِّيَافَةَ الْيَسِيرَةَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ
عَبْدَهُ وَلَوْ عَلَى مَالٍ، وَلاَ أَنْ يُقْرِضَ أَوْ يَهَبَ وَلَوْ
بِعِوَضٍ، وَلاَ يَكْفُل بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلاَ يُصَالِحَ عَنْ
قِصَاصٍ وَجَبَ عَلَيْهِ (1) . وَفِي الْهِدَايَةِ: لاَ بَأْسَ
بِقَبُول هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ
وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ بِخِلاَفِ هَدِيَّتِهِ الدَّرَاهِمَ
وَالدَّنَانِيرَ، اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ بُطْلاَنُهُ لأَِنَّهُ
تَبَرُّعٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَوَجْهُ
الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبِل هَدِيَّةَ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَانَ عَبْدًا
(2) ، وَقَبِل هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (3) .
وَأَجَابَ بَعْضُ
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين 5 / 99 - 104.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية سلمان رضي الله عنه
" أخرجه أحمد (5 / 443 - ط الميمنية) من حديث سلمان، وقال الهيثمي في
المجمع (9 / 336 - ط القدسي) : " رجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق
وقد صرح بالسماع ".
(3) حديث: " قبوله هدية بريرة ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 410 - ط
السلفية) من حديث عائشة.
(23/69)
الصَّحَابَةِ دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي
أُسَيْدٍ وَكَانَ عَبْدًا؛ وَلأَِنَّ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ
ضَرُورَةً لاَ يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهَا بُدًّا، بِخِلاَفِ نَحْوِ
الْكِسْوَةِ وَإِهْدَاءِ الدَّنَانِيرِ فَلاَ ضَرُورَةَ فِيهَا (1) .
وَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ
قَالُوا: إِنَّ السَّيِّدَ إِنْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي نَوْعٍ مِنَ
التِّجَارَةِ، كَالْبُرِّ مَثَلاً كَانَ كَوَكِيلٍ مُفَوَّضٍ فِيمَا
أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ بَاقِي الأَْنْوَاعِ لأَِنَّهُ
أَقْعَدَهُ لِلنَّاسِ وَلاَ يَدْرُونَ لأَِيِّ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ
أَقْعَدَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَسُوغُ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى
غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ لَهُ. فَإِنْ صَرَّحَ لَهُ بِمَنْعِهِ مِنْ
غَيْرِ النَّوْعِ مُنِعَ مِنْهُ أَيْضًا، ثُمَّ إِنْ أَشْهَرَ
الْمَنْعَ رَدَّ مَا أَجْرَاهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَا
أَشْهَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِرْهُ مَضَى وَلَمْ يَرُدَّ.
قَالُوا: وَكَمَا يَحْصُل الإِْذْنُ بِقَوْلِهِ: أَذِنْتُكَ "
وَيَكُونُ إِذْنًا لَهُ مُطْلَقًا، كَذَلِكَ يَحْصُل بِالإِْذْنِ
الْحُكْمِيِّ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ بِضَاعَةً وَوَضَعَهَا
بِحَانُوتٍ وَأَقْعَدَهُ فِيهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
قَالُوا: وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَضَعَ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى شَخْصٍ،
أَوْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ الْحَال إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ إِنْ لَمْ
تَكْثُرِ الْوَضِيعَةُ، وَلَهُ أَنْ يُضِيفَ الضَّيْفَ
لِلاِسْتِئْلاَفِ عَلَى التِّجَارَةِ، وَلَهُ نَحْوُ الضِّيَافَةِ
كَالْعَقِيقَةِ لِوَلَدِهِ إِنِ اتَّسَعَ الْمَال وَلَمْ يَكْرَهْ
ذَلِكَ سَيِّدُهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهِ مَالاً
مُضَارَبَةً لِيَعْمَل فِيهِ لأَِنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ
يَتَسَرَّى
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 132.
(23/70)
وَيَقْبَل الْوَدِيعَةَ وَلاَ يَقْبَل
التَّوْكِيل، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يُوهَبُ لَهُ بِبَيْعٍ
أَوْ شِرَاءٍ لاَ بِصَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا وَلاَ بِهِبَةٍ إِلاَّ هِبَةَ
الثَّوَابِ (الْهِبَةُ بِعِوَضٍ) . وَيَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ
لِلإِْفْلاَسِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ (1) .
اكْتِسَابُ الرَّقِيقِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالْتِقَاطُهُ:
112 - لِلرَّقِيقِ الاِكْتِسَابُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالاِصْطِيَادِ
وَالاِحْتِطَابِ، وَيَكُونُ مَا يُحَصِّلُهُ لِسَيِّدِهِ (2) . وَكَذَا
لَوْ وَجَدَ رِكَازًا (3) .
وَإِنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلَهُ أَخْذُهَا وَهُوَ بِغَيْرِ إِذْنِ
سَيِّدِهِ، وَالْتِقَاطُهُ صَحِيحٌ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
اللُّقَطَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ. بِدَلاَلَةِ عُمُومِ
أَحَادِيثِ اللُّقَطَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْتِقَاطِ الصَّبِيِّ
بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ؛ وَلأَِنَّ الاِلْتِقَاطَ تَخْلِيصُ مَالٍ
مِنَ الْهَلاَكِ فَجَازَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، كَإِنْقَاذِ
الْغَرِيقِ وَالْمَغْصُوبِ. وَإِذَا الْتَقَطَ كَانَتِ اللُّقَطَةُ
أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَإِنْ عَرَّفَهَا حَوْلاً صَحَّ تَعْرِيفُهُ
فَإِذَا تَمَّ الْحَوْل مَلَكَهَا سَيِّدُهُ، وَلِلسَّيِّدِ
انْتِزَاعُهَا مِنْهُ أَثْنَاءَ الْحَوْل وَيُتَمِّمُ تَعْرِيفَهَا.
وَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْعَبْدُ أَثْنَاءَ الْحَوْل أَوْ تَصَدَّقَ
بِهَا ضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا فِي رَقَبَتِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ، لاَ
يَصِحُّ
__________
(1) شرح الزرقاني 5 / 303.
(2) روضة الطالبين 5 / 393، والمغني 5 / 666، وشرح الأشباه 2 / 156.
(3) كشاف القناع 2 / 227.
(23/70)
الْتِقَاطُ الْعَبْدِ لأَِنَّ اللُّقَطَةَ
فِي الْحَوْل أَمَانَةٌ وَوِلاَيَةٌ وَبَعْدَهُ تَمَلُّكٌ، وَالْعَبْدُ
لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ وَلاَ مِنْ أَهْل الْمِلْكِ (1) .
الرَّقِيقُ وَالْجِنَايَاتُ:
الْقِصَاصُ بَيْنَ الأَْحْرَارِ وَالرَّقِيقِ:
113 - أ - إِذَا قَتَل الْحُرُّ الْمُسْلِمُ رَقِيقًا فَلاَ يُقْتَصُّ
مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَل يُعَزَّرُ، سَوَاءٌ كَانَ
الْقَاتِل سَيِّدًا لِلرَّقِيقِ أَوْ أَجْنَبِيًّا، لِمَا رَوَى عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُقَادُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَالِكٍ
(2) . وَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُقْتَل حُرٌّ بِعَبْدٍ (3) .
وَيُجْلَدُ الْحُرُّ إِذَا قَتَل عَبْدًا مِائَةً عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ
رَجُلاً قَتَل عَبْدَهُ فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنَفَاهُ عَامًا وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ أَيْ مِنَ الْعَطَاءِ (4) ". وَلِمَفْهُومِ قَوْله
تَعَالَى
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 393 - 397، والمغني 5 / 666، وكشاف القناع 4 /
225، وجواهر الإكليل1 / 218، وشرح الأشباه 2 / 156.
(2) حديث: " لا يقاد مملوك من مالك ". أخرجه الحاكم (4 / 368 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث عمر بن الخطاب وضعفه الذهبي.
(3) حديث: " لا يقتل حر بعبد ". أخرجه البيهقي (8 / 35 - ط دائرة
المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وقال البيهقي: " في هذا الإسناد
ضعف ".
(4) حديث: " أن رجلاً قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ". ذكره
ابن قدامة في المغني (7 / 659 - ط الرياض) وقال: " رواه سعيد والخلال
وقال أحمد: ليس بشيء من قبل إسحاق بن أبي فروة ".
(23/71)
: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ} (1) وَلأَِنَّ الْعَبْدَ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ فَلاَ
يُكَافِئُ الْحُرَّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَل بِالْعَبْدِ -
إِلاَّ عَبْدَ نَفْسِهِ فَلاَ يُقْتَل بِهِ، وَكَذَا عَبْدُ وَلَدِهِ -
لِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (2) وَقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (3) ، وَلِعُمُومِ
الأَْحَادِيثِ نَحْوِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ (4) . وَقَوْلِهِ
النَّفْسُ بِالنَّفْسِ (5) .
وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ النَّخَعِيَّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحُرَّ
يُقْتَل بِعَبْدِ نَفْسِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ
(6) .
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) سورة المائدة / 45.
(4) حديث: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ". أخرجه أحمد (2 / 192 - ط
الميمنية) من حديث عبد الله بن عمر، وإسناده حسن.
(5) حديث: " النفس بالنفس ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 201 - ط
السلفية) من حديث ابن مسعود.
(6) المغني 7 / 658، 659، والزرقاني 8 / 3، وجواهر الإكليل 2 / 272،
وبداية المجتهد 2 / 364، 372، وحاشية ابن عابدين 5 / 343، 344. وحديث:
" من قتل عبده قتلناه ". أخرجه الترمذي (4 / 26 - ط الحلبي) من حديث
الحسن عن سمرة، وقال ابن حجر: " الحسن مختلف في سماعه من سمرة "، كذا
في التلخيص (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(23/71)
وَأَمَّا فِي الأَْطْرَافِ فَلاَ يُقْتَصُّ
مِنَ الْحُرِّ إِذَا قَطَعَ طَرَفَ رَقِيقٍ. وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ فِي
ذَلِكَ خِلاَفًا.
وَحَيْثُ وَجَبَ الْقِصَاصُ فَالْحَقُّ لِلسَّيِّدِ، لَهُ طَلَبُهُ،
وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ.
وَحَيْثُ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، يَجِبُ التَّعْزِيرُ، كَمَا فِي
الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ (1) .
114 - ب - وَأَمَّا إِذَا قَتَل الرَّقِيقُ حُرًّا سَوَاءٌ كَانَ
الْمَقْتُول سَيِّدَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَل بِهِ
اتِّفَاقًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ
آيَاتِ الْقِصَاصِ، وَلأَِنَّهُ يُقْتَل بِالْعَبْدِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (2) فَقَتْلُهُ بِالْحُرِّ
أَوْلَى لأَِنَّ الْحُرَّ أَكْمَل مِنَ الْعَبْدِ.
وَكَذَا يُؤْخَذُ طَرَفُ الْعَبْدِ بِطَرَفِ الْحُرِّ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى
أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْعَبْدِ لِلْحُرِّ فِي الْجِرَاحِ
وَالأَْعْضَاءِ، قَال الزَّرْقَانِيُّ: لأَِنَّهُ كَجِنَايَةِ الْيَدِ
الشَّلاَّءِ عَلَى الْيَدِ الصَّحِيحَةِ. وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ
فِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ (4) .
__________
(1) المغني 7 / 658، 659، والزرقاني 8 / 3، وجواهر الإكليل 2 / 272،
وبداية المجتهد 2 / 364، 372، وحاشية ابن عابدين 5 / 343، 344.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) المغني 7 / 659، والزرقاني 8 / 2، 7.
(4) الزرقاني 8 / 14، وبداية المجتهد 2 / 372، وحاشية ابن عابدين 5 /
356، والهداية مع العناية 8 / 355.
(23/72)
115 - ج - وَكَذَلِكَ يُقْتَل الرَّقِيقُ
بِالرَّقِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، سَوَاءٌ اتَّحَدَتْ
قِيمَةُ الْقَاتِل وَقِيمَةُ الْمَقْتُول أَوِ اخْتَلَفَتَا،
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ، وَبِالنَّصِّ عَلَيْهِ
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (1) وَلأَِنَّ
تَفَاوُتَ الْقِيمَةِ فِي الرَّقِيقِ كَتَفَاوُتِ الْفَضَائِل فِي
الأَْحْرَارِ، كَالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَالذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ،
فَكَمَا أُهْدِرَ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الأَْحْرَارِ فَوَجَبَ
الْقِصَاصُ مَعَ وُجُودِهِ، فَكَذَا تَفَاوُتُ الْقِيَمِ فِي
الرَّقِيقِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِصَاصِ
أَنْ لاَ تَكُونَ قِيمَةُ الْقَاتِل أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ
الْمَقْتُول.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبِيدِ قِصَاصٌ فِي
نَفْسٍ وَلاَ جُرْحٍ لأَِنَّهُمْ أَمْوَالٌ، وَنَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ
عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَجَمَاعَةٍ.
وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي الأَْطْرَافِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - نَقَلَهُ
ابْنُ رُشْدٍ - وَقَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ
وَقَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِعُمُومِ قَوْله
تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ
بِالأُْذُنِ} الآْيَةَ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة المائدة / 45.
(23/72)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ
وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَجْرِي الْقِصَاصُ
بَيْنَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ
وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ؛ لأَِنَّ الأَْطْرَافَ
مِنَ الْعَبِيدِ مَالٌ فَلاَ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهَا؛ وَلأَِنَّ
التَّسَاوِيَ فِي الأَْطْرَافِ مُعْتَبَرٌ، فَلاَ تُؤْخَذُ
الصَّحِيحَةُ بِالشَّلاَّءِ، وَلاَ كَامِلَةُ الأَْصَابِعِ
بِنَاقِصَتِهَا، وَأَطْرَافُ الْعَبِيدِ لاَ تَتَسَاوَى.
وَحَيْثُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي طَرَفِ الْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ
لَهُ وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ (1) .
الدِّيَةُ وَالأَْرْشُ:
116 - أ - إِذَا قَتَل الْحُرُّ عَبْدًا، أَوْ عَكْسُهُ، أَوْ
قَطَعَهُ، أَوْ فَعَل ذَلِكَ عَبْدٌ بِعَبْدٍ، خَطَأً، أَوْ عَمْدًا
وَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، ثَبَتَ الْمَال، وَهُوَ فِي الْحُرِّ دِيَةُ
النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ أَوِ الْحُكُومَةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ
فِي بَابِ الدِّيَاتِ.
وَفِي الْعَبْدِ قِيمَتُهُ إِذَا قَتَل، مَهْمَا كَانَتْ، قَلِيلَةً
أَوْ كَثِيرَةً، حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَبْلُغُ دِيَةَ الْحُرِّ أَوْ
تَزِيدُ عَلَيْهَا أَضْعَافًا، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ
قَالُوا: لأَِنَّهُ مَالٌ
__________
(1) المغني 7 / 660، 761، والزرقاني 8 / 7، وبداية المجتهد 2 / 372،
نشر المكتبة التجارية الكبرى، وحاشية ابن عابدين 5 / 356.
(23/73)
مُتَقَوِّمٌ أَتْلَفَهُ - سَوَاءٌ عَمْدُهُ
وَخَطَؤُهُ - فَيَضْمَنُهُ بِكَمَال قِيمَتِهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ مَدْخَل لِلتَّغْلِيظِ فِي بَدَل الرَّقِيقِ.
اهـ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ ضَمِنَ بِالْجِنَايَةِ
يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ، لَكِنْ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ
دِيَةِ حُرٍّ أَوْ مِثْلَهَا يَنْتَقِصُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ
دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُقْطَعُ
بِهِ السَّارِقُ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ
الْعَبْدِ، إِلاَّ نِصْفَ دِينَارٍ.
وَإِنْ ضَمِنَ بِالْيَدِ، بِأَنْ غَصَبَهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَإِنَّ
الْوَاجِبَ قِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَ عَنْ دِيَةٍ أَوْ دِيَاتٍ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا بِأَنَّ فِي الْعَبْدِ الآْدَمِيَّةَ
وَالْمَالِيَّةَ، وَالآْدَمِيَّةُ أَعْلاَهُمَا، فَيَجِبُ
اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الأَْدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ
بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ فِي حَال الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِدَلِيل
ثُبُوتِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ، وَالْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ،
وَالْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنِ الدِّيَةِ فِي قَلِيل الْقِيمَةِ
بِالرَّأْيِ، وَتَنْقُصُ فِيمَا زَادَ عَنِ الدِّيَةِ لِنَقْصِ
رُتْبَةِ الْعَبْدِ عَنِ الْحُرِّ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمُقَابَلَةِ
الْمَالِيَّةِ، فَيَضْمَنُ بِكَامِل قِيمَتِهِ فِي حَالَةِ تَلَفِهِ
مَغْصُوبًا إِذِ الْغَصْبُ لاَ يَرِدُ إِلاَّ عَلَى الْمَال.
وَإِنَّمَا حَدَّدُوا النَّقْصَ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى بِدِينَارٍ
أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لأَِثَرٍ وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ. وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْل
الْكُوفَةِ
(23/73)
قَالُوا: فِي نَفْسِ الْعَبْدِ الدِّيَةُ
كَالْحُرِّ، لَكِنْ يُنْقَصُ مِنْهَا شَيْءٌ (1) .
الْعَاقِلَةُ وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ:
117 - لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ لأَِنَّهُ لاَ
عَاقِلَةَ لَهُ.
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلٌ
لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ
وَاللَّيْثِ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَتَحَمَّل قِيمَةَ الْعَبْدِ هُوَ
الْقَاتِل نَفْسُهُ إِنْ كَانَ حُرًّا وَلَيْسَ عَاقِلَتُهُ وَلَوْ
كَانَ الْقَتْل خَطَأً، لِحَدِيثِ: لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ لاَ
عَمْدًا وَلاَ صُلْحًا وَلاَ اعْتِرَافًا وَلاَ مَا جَنَى الْمَمْلُوكُ
(2) وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ الْقِيمَةُ لاَ الدِّيَةُ إِذِ الْعَبْدُ
مَالٌ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَوْل عَطَاءٍ
وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ: تَحْمِل الْعَاقِلَةُ نَفْسَ
الْعَبْدِ كَمَا تَحْمِل الْحُرَّ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ تَحْمِل
مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْعَبْدِ لأَِنَّ الأَْطْرَافَ
__________
(1) المغني 7 / 682، وكشاف القناع 6 / 21، وبداية المجتهد 2 / 378،
والزرقاني 8 / 31 و6 / 163، والدسوقي 4 / 268، وروضة الطالبين 9 / 257،
311، والهداية مع العناية وتكملة فتح القدير 8 / 369.
(2) حديث: " لا تحمل العاقلة عمدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا ولا ما جنى
المملوك ". أخرجه البيهقي (8 / 104 - ط دائرة المعارف العثمانية) من
حديث ابن عباس موقوفًا عليه، وإسناده حسن.
(23/74)
تُعَامَل كَالْمَال (1) .
118 - ب - وَأَمَّا أُرُوشُ جِرَاحِ الْعَبْدِ وَأَعْضَائِهِ فَقَدِ
اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ (هُوَ قَدِيمُ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ) وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ،
قَوَّاهَا ابْنُ قُدَامَةَ إِلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَسْتَحِقُّ عَلَى
الْجَانِي مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَلَوْ كَانَتْ
قِيمَتُهُ أَلْفًا، فَلَمَّا قَطَعَ يَدَهُ أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً
أَوْ غَيْرَهَا صَارَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانَمِائَةٍ فَإِنَّ الأَْرْشَ
يَكُونُ مِائَتَيْنِ، وَلَوْ جَبَّهُ وَخَصَاهُ فَلَمْ تَنْقُصْ
قِيمَتُهُ أَوْ زَادَتْ، فَلاَ شَيْءَ لِلسَّيِّدِ. وَاحْتَجُّوا
لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ، فَيُجْرَى فِي ضَمَانِ
الإِْتْلاَفِ فِيهِ عَلَى قَاعِدَةِ إِتْلاَفِ الأَْمْوَال الأُْخْرَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ
فِي رِوَايَةٍ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ
جِنَايَةٍ لَيْسَ لَهَا فِي الْحُرِّ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَيَكُونُ
أَرْشُهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ
كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَيْنَ جِنَايَةٍ لَهَا فِي الْحُرِّ دِيَةٌ
مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا، فَيَكُونُ أَرْشُهَا بِنِسْبَةِ ذَلِكَ مِنْ
قِيمَتِهِ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَقَطَعَ يَدَهُ فَفِيهَا
خَمْسُمِائَةٍ، أَوْ قَطَعَ أَنْفَهُ فَفِيهِ قِيمَتُهُ كَامِلَةٌ،
مَعَ بَقَاءِ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، وَلَوْ جَبَّهُ ثُمَّ
خَصَاهُ فَفِيهِ قِيمَتُهُ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَعَ
بَقَاءِ مِلْكِيَّتِهِ لِلسَّيِّدِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ
__________
(1) المغني 7 / 775، وروضة الطالبين 9 / 359، والزرقاني 8 / 44، وتكملة
فتح القدير مع الهداية 8 / 413.
(23/74)
فِي مِثْل الْحَالَةِ الأَْخِيرَةِ: لَهُ
قِيمَتُهُ كَامِلَةً لِلْجَبِّ، وَقِيمَتُهُ بَعْدَ الْجَبِّ
لِلْخِصَاءِ.
وَاحْتُجَّ لِهَذَا الْقَوْل بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَعِيدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى التَّقْدِيرِ فِي
الْحُرِّ، لأَِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِمَالٍ مِنْ كُل وَجْهٍ، بِدَلِيل
أَنَّ فِي قَتْلِهِ الْقِصَاصَ وَالْكَفَّارَةَ بِخِلاَفِ سَائِرِ
الأَْمْوَال (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ التَّقْدِيرِ بِالنِّسْبَةِ،
كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَوْل الثَّانِي، لَكِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لاَ
يُزَادُ عَنْ دِيَةِ مِثْل ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنَ الْحُرِّ، فَلَوْ
قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَفِيهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ
أَلْفَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ
عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، كَدِيَةِ الْحُرِّ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ مَهْمَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ، فَإِنَّ أَرْشَ يَدِهِ خَمْسَةُ
آلاَفٍ إِلاَّ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ لاَ يُزَادُ عَلَيْهَا.
قَالُوا: لأَِنَّ الْيَدَ مِنَ الآْدَمِيِّ نِصْفُهُ فَتُعْتَبَرُ
بِكُلِّهِ، وَيَنْقُصُ هَذَا الْمِقْدَارُ إِظْهَارًا لاِنْحِطَاطِ
رُتْبَتِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْحُرِّ. وَكُل مَا يُقَدَّرُ مِنْ دِيَةِ
الْحُرِّ فَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لأَِنَّ الْقِيمَةَ
فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ إِذْ هُوَ بَدَل الدَّمِ.
قَالُوا: وَمَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ فَقَدْ فَوَّتَ جِنْسَ
الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ شَاءَ الْوَلِيُّ دَفَعَ عَبْدَهُ إِلَى
الْجَانِي وَأَخَذَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَلاَ شَيْءَ
لَهُ مِنَ
__________
(1) المغني 8 / 60، وكشاف القناع 6 / 22، وشرح المنهاج 4 / 144، 145،
وروضة الطالبين 9 / 312.
(23/75)
النُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَقَال الصَّاحِبَانِ: بَل يَكُونُ لَهُ إِنْ أَمْسَكَهُ أَخْذُ مَا
نَقَصَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي الضَّمَانِ بَيْنَ
جِرَاحَاتِ الْعَبْدِ وَبَيْنَ قَطْعِ طَرَفٍ أَوْ عُضْوٍ، فَفِي
الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي الْحُرِّ يَضْمَنُ
بِنِسْبَتِهَا مِنْ كَامِل قِيمَتِهِ، فَفِي الْجَائِفَةِ أَوِ
الآْمَّةِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشُرِ
قِيمَتِهِ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ عُشُرُ قِيمَتِهِ وَنِصْفُ عُشُرِهَا.
وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجِرَاحِ وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ
مُقَدَّرٌ، يُقَدَّرُ نَقْصُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيُدْفَعُ كَامِلاً
مَهْمَا بَلَغَ. فَإِنْ بَرِئَ بِلاَ شَيْنٍ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ سِوَى
الأَْدَبِ فِي الْعَمْدِ.
وَكَذَا قَطْعُ الأَْعْضَاءِ فِيهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ (2) . وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَتْنِ خَلِيلٍ
وَشُرَّاحِهِ أَنَّ الضَّمَانَ فِي الأَْعْضَاءِ بِنِسْبَتِهَا مِنَ
الْقِيمَةِ (3) .
الْجِنَايَةُ عَلَى جَنِينِ الأَْمَةِ:
119 - لَوْ جَنَى عَلَى أَمَةٍ فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ
مَاتَ، وَكَانَ مَحْكُومًا بِرِقِّهِ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ عَلَى
__________
(1) الهداية وتكملة فتح القدير 8 / 370، 374.
(2) المدونة 6 / 333، والمغني لابن قدامة 8 / 60، والزرقاني 8 / 37، 35
و6 / 147.
(3) الدسوقي 4 / 271، والحطاب 6 / 261، والزرقاني 8 / 35، والفواكه
الدواني 2 / 272، والعدوي على كفاية الطالب 2 / 283.
(23/75)
مَا تَقَدَّمَ. أَمَّا إِنْ أَسْقَطَتْهُ
مَيِّتًا بَعْدَ تَخَلُّقِهِ أَوْ نَفْخِ الرُّوحِ، فَفِيهِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عُشُرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ذَكَرًا
كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْجِنَايَةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ أُنْثَى فَفِيهِ عُشُرُ قِيمَتِهِ
لَوْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَفِيهِ نِصْفُ عُشُرِ
قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّهِ (1) .
جِنَايَاتُ الرَّقِيقِ:
120 - إِنْ كَانَ الْقَاتِل رَقِيقًا فَمَا وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ مِنَ
الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَ دِيَةَ نَفْسِ حُرٍّ أَوْ طَرَفَهُ، أَوْ
قِيمَةَ عَبْدٍ أَوْ قِيمَةَ طَرَفِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجِنَايَةُ
عَمْدًا فَلَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، أَوْ كَانَتْ خَطَأً فَعُفِيَ
عَنْهَا عَلَى مَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَجِبُ فِي رَقَبَتِهِ،
وَلاَ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ وَلاَ بِذِمَّةِ سَيِّدِهِ وَهَكَذَا
جَمِيعُ الدُّيُونِ الَّتِي تَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الإِْتْلاَفَاتِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ بِالتِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ
مَأْذُونٍ. وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَالُوا: وَلَمْ تَتَعَلَّقْ هَذِهِ الدُّيُونُ بِذِمَّتِهِ لأَِنَّهُ
يُفْضِي إِلَى إِلْغَائِهَا أَوْ تَأْخِيرِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِذِمَّةِ
السَّيِّدِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجْنِ،
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 378، وبداية المجتهد 2 / 380
وفيه بعض اختلاف عما ذكره الدر عن أبي حنيفة.
(23/76)
فَتَعَيَّنَ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَةِ
الْعَبْدِ لأَِنَّ الضَّمَانَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ فَتَعَلَّقَ
بِرَقَبَتِهِ كَالْقِصَاصِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِذِمَّةِ
الْعَبْدِ.
ثُمَّ إنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ
الْجَانِي أَوْ أَقَل، فَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ
أَرْشَ الْجِنَايَةِ أَوْ يُسَلِّمَ الْعَبْدَ إِلَى وَلِيِّ
الْجِنَايَةِ لِلْبَيْعِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ دَفَعَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ
فَقَدْ تَأَدَّى الْحَقُّ، وَإِنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ فَقَدْ أَدَّى
الْمَحَل الَّذِي تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِهِ، وَحَقُّ الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِأَكْثَرَ مِنَ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ
أَدَّاهَا، فَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْخِيَارُ إِلَى
السَّيِّدِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ إِنْ أَدَّى
الأَْرْشَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الأَْرْشُ إِنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَفِي
قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: يُخَيَّرُ سَيِّدُهُ
بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ. وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ
أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ مَا لَمْ يَفْدِهِ
بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَرْغَبَ فِيهِ رَاغِبٌ فَيَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ،
فَإِذَا مَنَعَ تَسْلِيمَهُ لِلْبَيْعِ لَزِمَهُ جَمِيعُ الأَْرْشِ
لِتَفْوِيتِهِ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةَ خَطَأٍ
بِقَتْل نَفْسٍ قِيل لِمَوْلاَهُ: إِمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ بَدَلَهَا
أَوْ
__________
(1) المغني 7 / 781 و4 / 248، وكشاف القناع 6 / 34، 473، والزرقاني 8 /
5، وروضة الطالبين 9 / 362، وشرح المنهاج 4 / 158.
(23/76)
تَفْدِيَهُ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: إِذَا جَنَى
الْعَبْدُ فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ. وَلأَِنَّ
الأَْصْل فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الآْدَمِيِّ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ
أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنِ الْجَانِي تَحَرُّزًا عَنِ اسْتِئْصَالِهِ
وَالإِْجْحَافِ بِهِ، إِذْ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ حَيْثُ لَمْ
يَتَعَمَّدِ الْجِنَايَةَ، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي إِذَا
كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ، وَالسَّيِّدُ عَاقِلَةُ عَبْدِهِ؛ لأَِنَّ
الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ - وَالأَْصْل فِي الْعَاقِلَةِ
النُّصْرَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً
لِلدَّمِ عَنِ الإِْهْدَارِ.
وَهَذَا عِنْدَهُمْ بِخِلاَفِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَال
لأَِنَّ الْعَوَاقِل لاَ تَحْمِل الْمَال. وَالْوَاجِبُ الأَْصْلِيُّ
مِنَ الأَْمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ دَفْعُ الْعَبْدِ الْجَانِي إِلَى
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ
لِفَوَاتِ مَحَل الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْل إِلَى
الأَْمْرِ الثَّانِي وَهُوَ الْفِدَاءُ بِالأَْرْشِ.
قَالُوا: فَإِنْ دَفَعَهُ مَالِكُهُ مَلَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ،
وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا، وَكُلٌّ مِنَ الأَْمْرَيْنِ
يَلْزَمُ حَالاً، أَمَّا الدَّفْعُ فَلأَِنَّ التَّأْجِيل فِي
الأَْعْيَانِ بَاطِلٌ، وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلأَِنَّهُ جُعِل بَدَلاً،
فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَجِبُ حَالاً.
وَأَيُّهُمَا اخْتَارَهُ وَفَعَلَهُ فَلاَ شَيْءَ لِوَلِيِّ
الْجِنَايَةِ غَيْرُهُ.
فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ بَطَل حَقُّ
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَل الْحَقِّ، وَإِنْ مَاتَ
بَعْدَمَا اخْتَارَ الْوَلِيُّ الْفِدَاءَ لَمْ يَبْرَأْ لِتَحَوُّل
الْحَقِّ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى.
(23/77)
وَالاِخْتِيَارُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل،
وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل فَلَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ مَعَ
عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَكَذَا كُل مَا
يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، كَأَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ
أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ يَسْتَوْلِدَ الأَْمَةَ
الثَّيِّبَ، أَوْ يَطَأَ الْبِكْرَ.
وَأَمَّا إِذَا قَتَل الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَالْوَاجِبُ
عِنْدَهُمُ الْقِصَاصُ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
الْكَفَّارَةُ فِي قَتْل الرَّقِيقِ:
121 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ فِي قَتْل الرَّقِيقِ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى قِيمَتِهِ
الْوَاجِبَةِ لِسَيِّدِهِ - الْكَفَّارَةَ وَلَوْ قَتَل عَبْدَ
نَفْسِهِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَذَلِكَ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى:
{وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2)
. الآْيَةَ، وَلأَِنَّهُ مُؤْمِنٌ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَهِيَ
كَكَفَّارَةِ قَتْل الْحُرِّ سَوَاءٌ، عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ
فِي ذَلِكَ (ر: كَفَّارَة) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ كَفَّارَةٌ فِي
قَتْل الْعَبْدِ لأَِنَّهُ مَالٌ، وَيُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، فَلاَ
كَفَّارَةَ فِيهِ، كَمَا لاَ كَفَّارَةَ فِي إِتْلاَفِ سَائِرِ
الْمُمْتَلَكَاتِ. وَالتَّكْفِيرُ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ. قَال
الْمَالِكِيَّةُ: وَحُكْمُ الرَّقِيقِ فِي التَّكْفِيرِ إِذَا قَتَل
حُرًّا أَوْ عَبْدًا حُكْمُ الْحُرِّ مِنْ حَيْثُ أَصْل التَّكْفِيرِ
(3) .
__________
(1) الهداية 8 / 355 - 360 وتكملة فتح القدير.
(2) سورة النساء / 92.
(3) المغني 8 / 93، وجواهر الإكليل 2 / 272، والقليوبي وعميرة 4 / 162.
(23/77)
وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْعَبْدُ
فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
غَصْبُ الرَّقِيقِ:
122 - مَنْ غَصَبَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (ر: غَصْب) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّقِيقَ مَالٌ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ غَصْبِ
سَائِرِ الأَْمْوَال مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً
لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى بُضْعِهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ، فَيَصِحُّ
تَزْوِيجُ السَّيِّدِ لَهَا، وَلاَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَهْرَهَا لَوْ
حَبَسَهَا عَنِ النِّكَاحِ حَتَّى فَاتَ نِكَاحُهَا بِالْكِبَرِ.
وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْغَصْبِ فَهُوَ زِنًا لأَِنَّهَا لَيْسَتْ
زَوْجَتَهُ وَلاَ مِلْكَ يَمِينِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْحَدُّ
بِشُرُوطِهِ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ
مُطَاوِعَةً اتِّفَاقًا.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ مَهْرَ لَهَا، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ (1) . وَقَال
الْبُخَارِيُّ: وَلَيْسَ فِي الأَْمَةِ الثَّيِّبِ فِي قَضَاءِ
الأَْئِمَّةِ غُرْمٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْمَهْرُ وَيَكُونُ لِسَيِّدِهَا
__________
(1) حديث: " نهى عن مهر البغي ". أخرجه مسلم (3 / 1198 - ط الحلبي) من
حديث أبي مسعود الأنصاري.
(23/78)
لأَِنَّهُ حَقُّهُ، فَلاَ يَسْقُطُ
بِمُطَاوَعَتِهَا كَأَجْرِ مَنَافِعِهَا (1) .
الرَّقِيقُ وَالْحُدُودُ:
حَدُّ الزِّنَا:
123 - إِذَا زَنَى الرَّقِيقُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ جَلْدَةً ذَكَرًا
كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلاَ يُرْجَمُ، اتِّفَاقًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (2) فَيَنْصَرِفُ
التَّنْصِيفُ إِلَى الْجَلْدِ دُونَ الرَّجْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَنَّ
الْجَلْدَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ دُونَ الرَّجْمِ، وَأَنَّ
الرَّجْمَ لاَ يَتَنَصَّفُ بَل الَّذِي يَتَنَصَّفُ هُوَ الْجَلْدُ،
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الأَْمَةِ
إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنُ فَقَال إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا،
ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا،
ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ (3) وَالْعَبْدُ كَالأَْمَةِ
لِعَدَمِ الْفَرْقِ. قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ،
__________
(1) المغني 5 / 247، 248، وكشاف القناع 4 / 77، 97، والقليوبي 3 / 33،
41، وفتح القدير 7 / 390، 392، والعناية 7 / 371، والدر المختار وابن
عابدين 5 / 130، والزرقاني 6 / 151.
(2) سورة النساء / 25.
(3) حديث: " إذا زنت فاجلدوها ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 162 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1329 - ط الحلبي) .
(23/78)
مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ
يُحْصَنْ (1) .
السَّرِقَةُ:
الْمَمْلُوكُ السَّارِقُ:
124 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ
الْمَمْلُوكُ مَا فِيهِ الْحَدُّ وَتَمَّتْ شُرُوطُ الْحَدِّ وَجَبَ
قَطْعُهُ، لِعُمُومِ آيَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ
رَقِيقًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ
مِنْ مُزَيْنَةَ فَنَحَرُوهَا، فَأَمَرَ بِهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ. ثُمَّ قَال عُمَرُ: وَاَللَّهِ
إِنِّي لأََرَاكَ تُجِيعُهُمْ، وَلَكِنْ لأَُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا
يَشُقُّ عَلَيْكَ. ثُمَّ قَال لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ؟
قَال: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ. قَال: أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَةِ
دِرْهَمٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَطَعَهُ (2) .
وَإِنْ سَرَقَ الرَّقِيقُ مَال سَيِّدِهِ أَوْ مَال رَقِيقٍ آخَرَ
لِسَيِّدِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِخَبَرِ عُمَرَ: عَبْدُكُمْ سَرَقَ
مَتَاعَكُمْ؛ وَلِشُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ؛
وَلأَِنَّ الْعَبْدَ وَمَا مَلَكَتْ يَدَاهُ لِسَيِّدِهِ فَكَأَنَّهُ
لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْطَعُ الْعَبْدُ
بِسَرِقَتِهِ مِمَّنْ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ السَّيِّدُ لَمْ يُقْطَعْ،
وَذَلِكَ كَزَوْجِ
__________
(1) مقالة علي: " يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد ". أخرجها
مسلم (3 / 1330 - ط الحلبي) .
(2) المغني 8 / 267، 268، وابن عابدين 3 / 192، والزرقاني 8 / 92.
(23/79)
السَّيِّدَةِ أَوْ زَوْجَةِ السَّيِّدِ،
أَوْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ (1) .
حَدُّ الْقَذْفِ:
أ - إِيقَاعُ الْحَدِّ عَلَى الرَّقِيقِ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ
مُحْصَنَةً:
125 - إِذَا قَذَفَ الرَّقِيقُ الْمُكَلَّفُ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً
بِالزِّنَا وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ
إِجْمَاعًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ لِعُمُومِ آيَةِ الْقَذْفِ،
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ
الْحُرِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ الْجَلْدَ
فَهُوَ يَتَنَصَّفُ، فَوَجَبَ تَنْصِيفُهُ، كَحَدِّ الْجَلْدِ فِي
الزِّنَا، وَقَدْ قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ:
أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ
الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ إِذَا قَذَفَ
إِلاَّ أَرْبَعِينَ (2) .
ب - قَذْفُ الرَّقِيقِ:
126 - مَنْ قَذَفَ رَقِيقًا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ
كَانَ الْقَاذِفُ سَيِّدَ الرَّقِيقِ أَوْ غَيْرَ سَيِّدِهِ.
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 188، وروضة الطالبين 10 / 12،
وابن عابدين 3 / 202، والدسوقي 4 / 345، والزرقاني 8 / 106، 108، وكشاف
القناع 6 / 141.
(2) المغني 8 / 219، وشرح المنهاج 4 / 184، روضة الطالبين 8 / 321،
والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 167، والزرقاني 8 / 88.
(23/79)
وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مَنْ قَذَفَ أَمَةً
حَامِلاً مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنَّهَا حَامِلٌ
مِنْ زِنًا. وَدَلِيل عَدَمِ حَدِّ قَاذِفِ الرَّقِيقِ قَوْله
تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1)
فَجَعَلَتِ الآْيَةُ: الْحَدَّ لِقَاذِفِ الْمُحْصَنَةِ، وَشَرْطُ
الإِْحْصَانِ الْحُرِّيَّةُ (2) . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَى
الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَذَفَ
مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَال جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَال (3) . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَذَفَ
مَمْلُوكَهُ كَانَ لِلَّهِ فِي ظَهْرِهِ حَدٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4)
قَال ابْنُ حَجَرٍ: فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ
وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا لَذَكَرَهُ كَمَا
ذَكَرَهُ فِي الآْخِرَةِ (5) .
وَحَيْثُ انْتَفَى الْحَدُّ شُرِعَ التَّعْزِيرُ (6) ، وَلِلْعَبْدِ
إِنْ قَذَفَهُ سَيِّدُهُ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى
الْحَاكِمِ
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) المغني 8 / 216، والزرقاني 8 / 85، 86.
(3) حديث: " من قذف مملوكه وهو بريء ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 185
- ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1282 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(4) حديث: " من قذف مملوكه كان لله. . . " أورده ابن حجر في الفتح (12
/ 185 - ط السلفية) وعزاه إلى النسائي، وسكت عليه.
(5) فتح الباري 12 / 185 (ك الحدود - ب 45 قذف العبيد) .
(6) كشف القناع 6 / 104، 105، والدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 3
/ 168.
(23/80)
لِيُعَزِّرَهُ، وَالْحَقُّ فِي الْعَفْوِ
لِلْعَبْدِ لاَ لِلسَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ فَلِلسَّيِّدِ
الْمُطَالَبَةُ (1) .
حَدُّ شُرْبِ الْمُسْكِرِ:
127 - يُحَدُّ الرَّقِيقُ إِذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِالتَّفْصِيل
الَّذِي يُذْكَرُ فِي حَدِّ الْحُرِّ، إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ
نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، فَمَنْ قَال: إِنَّ الْحُرَّ يُحَدُّ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً جَعَل حَدَّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ، وَمَنْ قَال
حَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ قَال: إِنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ عِشْرُونَ
جَلْدَةً (2) .
الرَّقِيقُ وَالْوِلاَيَاتُ:
128 - الرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَاتِ، مِنْ حَيْثُ
الْجُمْلَةُ؛ لأَِنَّ الرِّقَّ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ سَبَبُهُ فِي الأَْصْل
الْكُفْرُ؛ وَلأَِنَّ الرَّقِيقَ مُوَلًّى عَلَيْهِ مَشْغُولٌ
بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ وَتَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ فَلاَ يَكُونُ وَالِيًا.
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الإِْمَامَةَ
الْعُظْمَى لاَ تَكُونُ فِي الْعَبِيدِ إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ
الاِخْتِيَارِ. قَال ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَل ذَلِكَ: أَمَّا
لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِطَرِيقِ الشَّوْكَةِ فَإِنَّ
طَاعَتَهُ تَجِبُ إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ مَا لَمْ يَأْمُرْ
بِمَعْصِيَةٍ. اهـ.
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 327، 10 / 105.
(2) بدائع الصنائع 7 / 40، رد المختار 3 / 164، والزرقاني 8 / 113،
مغني المحتاج 4 / 189، والمغني 8 / 316، وكشاف القناع 6 / 118.
(23/80)
قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا لَوِ اسْتُعْمِل
الْعَبْدُ عَلَى إِمَارَةِ بَلَدٍ مَثَلاً وَجَبَتْ طَاعَتُهُ.
وَحُمِل عَلَى ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
وَإِنِ اسْتُعْمِل عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ
زَبِيبَةٌ. (1)
وَفُسِّرَ اسْتِعْمَال الْعَبْدِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يُجْعَل
عَامِلاً فَيُؤَمَّرُ إِمَارَةً عَامَّةً عَلَى بَلَدٍ مَثَلاً، أَوْ
يُوَلَّى فِيهَا وِلاَيَةً خَاصَّةً كَإِمَامَةِ الصَّلاَةِ، أَوْ
جِبَايَةِ الْخَرَاجِ أَوْ مُبَاشَرَةِ الْحَرْبِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعَبْدُ لاَ يَلِي أَمْرًا عَامًّا، إِلاَّ
نِيَابَةً عَنِ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ فَلَهُ نَصْبُ الْقَاضِي
نِيَابَةً عَنِ السُّلْطَانِ وَلَكِنْ لاَ يَقْضِي هُوَ (3) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يُوَلَّى تَقْرِيرَ
الْفَيْءِ وَلاَ جِبَايَةَ أَمْوَالِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِهَا.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ
يَكُونَ قَاضِيًا لِنَقْصِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْعَبْدُ لاَ يَكُونُ
قَاضِيًا، وَلاَ قَاسِمًا، وَلاَ مُقَوِّمًا، وَلاَ قَائِفًا وَلاَ
مُتَرْجِمًا، وَلاَ كَاتِبَ حَاكِمٍ، وَلاَ أَمِينًا لِحَاكِمٍ،
__________
(1) حديث: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي ". أخرجه
البخاري (الفتح 13 / 121 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 13 / 122 (ك الأحكام ب4: السمع والطاعة للإمام) .
(3) شرح الأشباه 2 / 153.
(23/81)
وَلاَ وَلِيًّا فِي نِكَاحٍ أَوْ قَوَدٍ،
وَأَضَافَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلاَ مُزَكِّيًا عَلاَنِيَةً، وَلاَ
عَاشِرًا، وَأَضَافَ السُّيُوطِيُّ: وَلاَ خَارِصًا، وَلاَ يَكُونُ
عَامِلاً فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الإِْمَامُ قَوْمًا
يَأْخُذُ مِنْهُمْ قَدْرًا مُعَيَّنًا (1) .
شَهَادَةُ الرَّقِيقِ:
128 م - مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلاَ
تُقْبَل شَهَادَةُ الْعَبْدِ. قَال عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: لأَِنَّ
الْمُخَاطَبَ بِالآْيَةِ (يَعْنِي آيَةَ الدَّيْنِ) الأَْحْرَارَ،
بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2) وَإِنَّمَا يُرْتَضَى
الأَْحْرَارُ، قَال: وَأَيْضًا نُفُوذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ
نَوْعُ وِلاَيَةٍ. يَعْنِي وَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمَال
ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى قَبُول شَهَادَتِهِ لأَِنَّ عَدَمَ وِلاَيَتِهِ
هُوَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لاَ لِنَقْصٍ فِي الْعَبْدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ
عَلَى الأَْحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ،
وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْهُمَامِ عَنْ أَنَسٍ وَعَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْهُمَامِ قَال إِنَّ
عَلِيًّا
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 296، والأشباه والنظائر للسيوطي ص
193، 195، وجواهر الإكليل 2 / 221، وشرح الأشباه 2 / 153، والمغني 9 /
39، والدر المختار وابن عابدين 4 / 299، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص
21.
(2) سورة البقرة / 282.
(23/81)
كَانَ يَقُول: تُقْبَل عَلَى الْعَبِيدِ
دُونَ الأَْحْرَارِ.
وَمِمَّنْ نُقِل عَنْهُ قَبُول شَهَادَةِ الْعَبِيدِ عُرْوَةُ
وَشُرَيْحٌ وَإِيَاسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ.
قَال أَنَسٌ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.
وَوَجَّهَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الْعَبِيدَ مِنْ رِجَالِنَا
فَدَخَل فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِنْ رِجَالِكُمْ} (1) وَلأَِنَّهُ إِنْ كَانَ عَدْلاً غَيْرَ
مُتَّهَمٍ تُقْبَل رِوَايَتُهُ وَفُتْيَاهُ وَأَخْبَارُهُ
الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَل شَهَادَتُهُ كَالْحُرِّ، وَلأَِنَّ
الشَّهَادَةَ تَعْتَمِدُ الْمُرُوءَةَ، وَالْعَبِيدُ مِنْهُمْ مَنْ
لَهُ مُرُوءَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمُ الأُْمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ
وَالصَّالِحُونَ وَالأَْتْقِيَاءُ. وَلأَِنَّ مَنْ أُعْتِقَ مِنْهُمْ
قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا، وَالْحُرِّيَّةُ لاَ تُغَيِّرُ
طَبْعًا وَلاَ تُحْدِثُ عِلْمًا وَلاَ مُرُوءَةً (2) .
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْحُدُودِ فَلاَ تَجُوزُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ تَسْقُطُ
بِالشُّبُهَاتِ، وَالاِخْتِلاَفُ فِي قَبُول رِوَايَتِهِ فِي
الأَْمْوَال يُورِثُ شُبْهَةً.
وَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ فَتُقْبَل شَهَادَتُهُ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الأَْمْوَال.
قَالُوا: وَتُقْبَل شَهَادَةُ الأَْمَةِ فِيمَا تُقْبَل فِيهِ
شَهَادَةُ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) الدر وحاشية ابن عابدين 4 / 370، والمغني 9 / 195، وشرح المنهاج
بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 318، وفتح القدير 6 / 28، وجواهر الإكليل 2
/ 232.
(23/82)
الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْمَال (1) .
وَهَذَا إِنْ شَهِدَ الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ.
أَمَّا لَوْ شَهِدَ لِسَيِّدِهِ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا
لأَِنَّهُ يَتَبَسَّطُ فِي مَال سَيِّدِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ،
وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَلاَ يُقْطَعُ
بِسَرِقَتِهِ مِنْهُ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، كَالاِبْنِ مَعَ
أَبِيهِ.
وَكَذَا لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ اتِّفَاقًا كَمَا
لاَ يُقْبَل قَضَاؤُهُ لَهُ لأَِنَّ مَال الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ،
فَشَهَادَتُهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ فِي الْمَال. وَكَذَا لاَ
تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ بِنِكَاحٍ، وَلاَ لأَِمَتِهِ بِطَلاَقٍ
لأَِنَّ فِي طَلاَقِ أَمَتِهِ تَخْلِيصَهَا مِنْ زَوْجِهَا
وَإِبَاحَتَهَا لِلسَّيِّدِ، وَفِي نِكَاحِ الْعَبْدِ نَفْعٌ لَهُ (2)
.
وَبَعْضُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَةَ الْعَبْدِ اسْتَثْنَوْا
الشَّهَادَةَ عَلَى رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ
وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. فَقَالُوا: تُقْبَل شَهَادَةُ
الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ عَلَى ذَلِكَ كَالأَْحْرَارِ لأَِنَّهُ أَمْرٌ
دِينِيٌّ فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الأَْخْبَارِ، وَلِهَذَا لاَ يَخْتَصُّ
بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ (3) .
رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَأَخْبَارُهُ:
129 - رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَخْبَارُهُمَا
مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا حَتَّى فِي أُمُورِ الدِّينِ كَالْقِبْلَةِ،
__________
(1) المغني 9 / 196، وفتح الباري 5 / 267، وروضة الطالبين 11 / 234.
(2) المغني 9 / 193، والقليوبي 4 / 303.
(3) فتح الباري 5 / 257، وروضة الطالبين 2 / 345، وفتح القدير 2 / 59.
(23/82)
وَالطَّهَارَةِ، أَوِ النَّجَاسَةِ،
وَكَحِل اللَّحْمِ وَحُرْمَتِهِ إِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ وَاسِعٌ بِخِلاَفِ الشَّهَادَةِ (1) .
وَيُقْبَل قَوْل الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالإِْذْنِ،
لأَِنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلاَءِ، فَلَوْ
لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُمْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَرَجِ، حَتَّى لَقَدْ
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ: بَعَثَنِي
مَوْلاَيَ هَدِيَّةً إِلَيْكَ، وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، لأَِنَّهُ
لاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا إِذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى
غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: يُقْبَل تَعْدِيل الْعَبْدِ
الْعَارِفِ. وَنَقَل السُّيُوطِيُّ مِثْل ذَلِكَ عَنِ الْخَطِيبِ
الْبَغْدَادِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ
الْبَاقِلاَّنِيِّ (3) .
الرَّقِيقُ وَالْجِهَادُ:
130 - الْجِهَادُ لاَ يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَايِعُ
الْحُرَّ عَلَى الإِْسْلاَمِ وَالْجِهَادِ، وَيُبَايِعُ الْعَبْدَ
عَلَى الإِْسْلاَمِ دُونَ الْجِهَادِ (4) . وَلأَِنَّ الْجِهَادَ
عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 294.
(2) الهداية وفتح القدير والعناية 8 / 84، 86.
(3) تدريب الراوي ص 213، 214، المدينة المنورة ط المكتبة العلمية محمد
نمنكاني، 1379 هـ.
(4) حديث: " كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على
الإسلام دون الجهاد ". يؤخذ من حديث جابر بن عبد الله: جاء عبد فبايع
النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده
يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بعنيه، فاشتر
(23/83)
مَسَافَةٍ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ
كَالْحَجِّ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: لاَ جِهَادَ عَلَى رَقِيقٍ وَإِنْ أَمَرَهُ
سَيِّدُهُ، إِذْ لَيْسَ الْقِتَال مِنْ الاِسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ
لِلسَّيِّدِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْ سَيِّدِهِ عِنْدَ
خَوْفِهِ عَلَى رُوحِهِ إِذَا لَمْ نُوجِبِ الدَّفْعَ عَنِ الْغَيْرِ،
بَل السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ كَالأَْجْنَبِيِّ، وَلِلسَّيِّدِ
اسْتِصْحَابُهُ فِي سَفَرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ لِيَخْدُمَهُ
وَيَسُوسَ دَوَابَّهُ. اهـ (2) .
لَكِنْ إِنْ فَاجَأَ الْعَدُوُّ بَلَدًا بِنُزُولِهِ عَلَيْهَا
بَغْتَةً، فَيَلْزَمُ كُل أَحَدٍ بِهِ طَاقَةٌ عَلَى الْقِتَال
الْخُرُوجُ لِدَفْعِ الْعَدُوِّ حَتَّى الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ،
وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ الزَّوْجُ أَوِ السَّيِّدُ، وَكَذَا يَلْزَمُ
الْخُرُوجُ الصَّبِيَّ وَالْمُطِيقَ لِلْقِتَال، وَمِنْ هُنَا قَال
الْمَالِكِيَّةُ: يُسْهَمُ لِهَؤُلاَءِ مِمَّا يُغْنَمُ مِنَ
الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ الْحَال، لِكَوْنِ الْقِتَال وَاجِبًا
عَلَيْهِمْ (3) .
وَلاَ يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ، لِمَا رَوَى عُمَيْرٌ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ أَنَّهُ
قَال: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنِي، فَقُلِّدْتُ
سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا
__________
(1) المغني 8 / 347، وروضة الطالبين 10 / 214.
(2) روضة الطالبين 10 / 210.
(3) الزرقاني والبناني 3 / 1110.
(23/83)
أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ
فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ (1) الْمَتَاعِ (2) . وَقَال
ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَرْأَةُ يَحْذِيَانِ مِنَ
الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ.
وَقَال أَبُو ثَوْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ
وَالنَّخَعِيُّ: يُسْهَمُ لِلْعَبِيدِ كَالأَْحْرَارِ، لِمَا رَوَى
الأَْسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ شَهِدَ فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ
عَبِيدٌ فَضُرِبَتْ لَهُمْ سِهَامُهُمْ، وَلأَِنَّ حُرْمَةَ الْعَبْدِ
فِي الدِّينِ كَحُرْمَةِ الْحُرِّ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْقَوْل الأَْوَّل أَنَّهُ لَوِ
انْفَرَدَ الْعَبِيدُ بِالاِغْتِنَامِ قُسِمَتْ عَلَيْهِمُ
الْغَنِيمَةُ بَعْدَ تَخْمِيسِهَا (3) .
وَلَوْ قَتَل الْعَبْدُ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَهَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَلَوْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ
إِلَيْنَا مُسْلِمًا مُرَاغِمًا لَهُمْ فَهُوَ حُرٌّ إِنْ فَارَقَهُمْ
ثُمَّ أَسْلَمَ، وَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً لَمْ تُرَدَّ عَلَى
سَيِّدِهَا وَلاَ زَوْجِهَا وَتَكُونُ حُرَّةً؛ لأَِنَّهَا مَلَكَتْ
نَفْسَهَا بِقَهْرِهَا لَهُمْ عَلَى نَفْسِهَا (5) .
__________
(1) الخرثّي: أردأ الغنيمة.
(2) حديث عمير مولى أبي اللحم: " شهدت خيبر مع سادتي. . " أخرجه أبو
داود (3 / 171 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 127 - ط الحلبي)
والسياق لأبي داود، ورواية الترمذي مختصرة، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) المغني 8 / 411، وروضة الطالبين 6 / 370، 371.
(4) روضة الطالبين 6 / 374.
(5) روضة الطالبين 10 / 342.
(23/84)
حَقُّ الْعَبِيدِ فِي الْفَيْءِ:
131 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ
الْيَوْمَ خِلاَفًا فِي أَنَّ الْعَبِيدَ لاَ حَقَّ لَهُمْ فِي
الْفَيْءِ. اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ قَال: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَال نَصِيبٌ إِلاَّ
الْعَبِيدَ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ (1) .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَوَّى بَيْنَ
النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَأَدْخَل فِيهِ الْعَبِيدَ. . فَلَمَّا
وَلِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاضَل بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ
الْعَبِيدَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ
الْعَبِيدَ (2) .
وَمِنْ هُنَا قَال النَّوَوِيُّ: لاَ تُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ
أَسْمَاءُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِل، يُعْطِي
لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ
الرِّجَال الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ (3) .
نَظَرُ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدَتِهِ:
132 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْحُرَّةِ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِهَا لاَ تَخْتَلِفُ عَنْ عَوْرَتِهَا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَال الأَْجَانِبِ، وَهِيَ مَا
عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَكِنْ قَال الْحَنَفِيَّةُ:
يَدْخُل الْعَبْدُ عَلَى مَوْلاَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ (4) .
__________
(1) المغني 6 / 414.
(2) المغني 6 / 416.
(3) روضة الطالبين 6 / 362.
(4) الفتاوى الخانية 3 / 407.
(23/84)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: عَبْدُ
الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ
عَنِ الشَّافِعِيِّ قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ (1) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ
فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلاَ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ (2) } . وَحَدِيثَ: إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ
وَغُلاَمُكِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ مَوْلاَتِهِ
الرَّأْسَ وَالرَّقَبَةَ وَالذِّرَاعَ وَالسَّاقَ، وَلاَ يَكُونُ
مَحْرَمًا لَهَا فِي السَّفَرِ (4) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا
سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ (5) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ: فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ
مَنْظَرٌ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَرَى مِنْ سَيِّدَتِهِ مَا عَدَا
وَجْهَهَا، فَإِنْ كَانَ وَغْدًا (أَيْ بِخِلاَفِ ذَلِكَ) جَازَ أَنْ
يَرَى مِنْهَا مَا يَرَاهُ الْمَحْرَمُ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ
أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا (6) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 23.
(2) سورة الأحزاب / 55.
(3) حديث: " إنما هو أبوك وغلامك ". أخرجه أبو داود (4 / 359 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) من حديث أنس بن مالك، وإسناده صحيح.
(4) كشاف القناع 2 / 395، 5 / 12.
(5) حديث: " سفر المرأة مع عبدها ضيعة ". أورده الهيثمي في المجمع (3 /
214 - ط القدسي) وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه بزيع بن
عبد الرحمن، وضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات.
(6) الزرقاني والبناني بهامشه 3 / 221.
(23/85)
ذَبِيحَةُ الرَّقِيقِ وَتَضْحِيَتُهُ:
133 - يَمْلِكُ الرَّقِيقُ أَنْ يَذْبَحَ، وَذَبِيحَتُهُ حَلاَلٌ،
لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلَعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا،
فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِل النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: كُلُوهَا (1) .
قَال عُبَيْدُ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا
أَمَةٌ وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ رَوَى
عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتَهُ أَيْ مِنْ حَيْثُ هِيَ امْرَأَةٌ، وَفِي
وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ ذَبْحُ الْمَرْأَةِ الأُْضْحِيَّةَ،
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ (2) .
(ر: ذَبَائِح) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْعَبْدُ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّضْحِيَةُ إِنْ
قُلْنَا: إِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ فَإِنْ أَذِنَ
السَّيِّدُ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ قُلْنَا:
إِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ بِالتَّمْلِيكِ وَإِذْنِ السَّيِّدِ وَقَعَتِ
التَّضْحِيَةُ عَنِ الْعَبْدِ (3) . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ
مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ بِالتَّمْلِيكِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ.
__________
(1) حديث: " إن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنمًا. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 4 / 482، 9 / 632 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 4 / 482، 9 / 632، وكشاف القناع 6 / 204.
(3) روضة الطالبين 3 / 201.
(23/85)
النَّوْعُ الثَّانِي
أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمُشْتَرَكِ
134 - قَدْ يَكُونُ الرَّقِيقُ مَمْلُوكًا لأَِكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ
وَاحِدٍ. وَيَنْشَأُ الاِشْتِرَاكُ كَمَا فِي سَائِرِ الأَْمْوَال،
نَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ شَخْصَانِ فَأَكْثَرُ، أَوْ
يَرِثَاهُ أَوْ يَقْبَلاَهُ هِبَةً أَوْ وَصِيَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ،
أَوْ أَنْ يَبِيعَ السَّيِّدُ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ
أَمَتِهِ.
وَقَدْ يَشْتَرِي الشُّرَكَاءُ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ عَبْدًا
لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا أَيْضًا.
وَأَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ هِيَ أَحْكَامُ الرَّقِيقِ
غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لأَِنَّهُ قِنٌّ
مِثْلُهُ، لَكِنْ يَخْتَصُّ الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ بِأَحْكَامٍ
تَقْتَضِيهَا الشَّرِكَةُ مِنْهَا:
135 - لَيْسَ لأَِيِّ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ وَطْءُ
الأَْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ لاَ
يَحِل إِلاَّ أَنْ يَمْلِكَهَا الْوَاطِئُ مِلْكًا تَامًّا (ر:
تَسَرٍّ) لَكِنْ إِنْ وَطِئَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَيُعَزَّرُ وَلاَ
يُحَدُّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ إِجْمَاعًا، إِلاَّ مَا نُقِل عَنْ أَبِي
ثَوْرٍ، فَإِنْ لَمْ تَلِدْ مِنْهُ كَانَ لَهُمْ بِقَدْرِ
أَنْصِبَائِهِمْ فِيهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْل وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ
إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ
وَلَدَتْ مِنْهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَضْمَنُ لِشُرَكَائِهِ
قِيمَةَ أَنْصِبَائِهِمْ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ أَخْرَجَهَا عَنْ
مِلْكِهِمْ، فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا.
(23/86)
وَيَكُونُ وَلَدُهُ حُرًّا، وَاخْتُلِفَ
هَل يَلْزَمُهُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةُ نَصِيبِهِمْ مِنْهُ أَمْ لاَ.
(1)
وَأَمَّا فِي النَّظَرِ وَالْعَوْرَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ، بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ مَعَ سَيِّدَتِهِ
كَالأَْجْنَبِيِّ، وَالأَْمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ مَعَ سَيِّدِهَا
كَالْمَحْرَمِ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا (2) .
136 - وَمِنْهَا أَنَّ الإِْنْفَاقَ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ
وَاجِبٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ جَمِيعًا بِنِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي
مِلْكِيَّتِهِ، وَكَذَا فِطْرَتُهُ (3) .
137 - وَمِنْهَا الْوِلاَيَةُ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ، وَهِيَ
مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمَالِكِينَ، فَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ أَمَةً
فَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ
الآْخَرِينَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى تَزْوِيجُ نَصِيبِهِ وَحْدَهُ.
ثُمَّ إِنِ اشْتَجَرَ الْمَالِكُونَ فِي تَزْوِيجِهَا لَمْ يَكُنْ
لِلسُّلْطَانِ وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهَا؛ لأَِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ
لِمُكَلَّفٍ رَشِيدٍ بَالِغٍ حَاضِرٍ لاَ وِلاَيَةَ عَلَيْهِ لأَِحَدٍ،
وَهَذَا بِخِلاَفِ أَوْلِيَاءِ الْحُرَّةِ إِنِ اشْتَجَرُوا (4) .
وَالاِشْتِجَارُ فِي شُؤُونِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ فِي تَزْوِيجِهِ،
أَوِ الإِْذْنِ لَهُ بِتِجَارَةٍ، أَوْ عَمَلٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ فِي نَصَبٍ وَلاَ يَرْضَى مِنْهُ
الْمُشْتَرِكُونَ غَالِبًا، لاِخْتِلاَفِ أَهْوَائِهِمْ
__________
(1) المغني 9 / 352، 353، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 3 / 210.
(2) شرح المنهاج 3 / 210.
(3) كشاف القناع 2 / 250.
(4) كشاف القناع5 / 52.
(23/86)
وَإِرَادَاتِهِمْ، وَلِذَا ضَرَبَ اللَّهُ
الْمَثَل بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ فَقَال: {ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا
لِرَجُلٍ هَل يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَل
أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (1) } . وَقُرِئَ فِي السَّبْعِ
(سَالِمًا لِرَجُلٍ) .
وَالْمُهَايَأَةُ طَرِيقَةٌ لِتَقْلِيل نِزَاعِ الشُّرَكَاءِ فِي
الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا يَأْتِي.
138 - وَمِنْهَا الاِنْتِفَاعُ بِالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ
وَاسْتِخْدَامُهُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِطُرُقٍ مِنْهَا،
الْمُهَايَأَةُ عَلَى الاِسْتِخْدَامِ فِي الزَّمَانِ، بِأَنْ
يَسْتَخْدِمَهُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهِ، فَإِذَا
تَهَايَآهُ اخْتَصَّ كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ بِنَفَقَتِهِ الْعَامَّةِ
وَكَسْبِهِ الْعَامِّ فِي مُدَّتِهِ لِيَحْصُل مَقْصُودُ الْقِسْمَةِ.
أَمَّا النَّفَقَاتُ النَّادِرَةُ كَأُجْرَةِ الْحَجَّامِ وَالطَّبِيبِ
وَالأَْكْسَابِ النَّادِرَةِ كَاللُّقَطَةِ وَالْهِبَةِ وَالرِّكَازِ،
أَيْ إِذَا وَجَدَهُ الْعَبْدُ فَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ هُوَ فِي
نَوْبَتِهِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً كَالنَّفَقَةِ الْعَامَّةِ
وَالْكَسْبِ الْعَامِّ (2) .
وَكَذَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ
عِنْدَ
__________
(1) سورة الزمر / 29.
(2) روضة الطالبين 11 / 219، وشرح المنهاج 3 / 117، وكشاف القناع 6 /
374.
(23/87)
الْحَنَفِيَّةِ فِي الزَّمَانِ اتِّفَاقًا
لِلضَّرُورَةِ، وَقَالُوا: يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ، أَيْ يُعَيَّنُ
بِالْقُرْعَةِ مِنْ يَكُونُ لَهُ الْيَوْمُ الأَْوَّل مِنَ الْخِدْمَةِ
نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ بَيْنَ
اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَتَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِيهِمَا، عَلَى
أَنْ يَخْدُمَ هَذَا الشَّرِيكَ هَذَا الْعَبْدُ، وَالآْخَرَ الآْخَرُ.
وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
جَبْرًا إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ قَلَّمَا
تَتَفَاوَتُ بِخِلاَفِ الأَْعْيَانِ. قَالُوا: وَلَوْ تَهَايَآ
فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُل عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ
اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إِطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلاَفِ
شَرْطِ الْكِسْوَةِ فَإِنَّهَا لاَ يُسَامَحُ فِيهَا.
وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي اسْتِغْلاَل الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَدْ
مَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، بِخِلاَفِ التَّهَايُؤِ فِي اسْتِغْلاَل
الدَّارِ مَثَلاً، قَالُوا: لأَِنَّ الاِسْتِغْلاَل إِنَّمَا يَكُونُ
بِالاِسْتِعْمَال، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الزَّمَانِ
الثَّانِي لاَ يَكُونُ كَمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الأَْوَّل. فَلَوْ
فَعَلاَ فَزَادَتِ الْغَلَّةُ لأَِحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ
يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيل، وَلأَِنَّ
الْغَلَّةَ يُمْكِنُ بِهِ قِسْمَتُهَا فَلاَ ضَرُورَةَ إِلَى
التَّهَايُؤِ فِيهَا، بِخِلاَفِ الْخِدْمَةِ، وَأَمَّا فِي
الْعَبْدَيْنِ فِي الاِسْتِغْلاَل فَجَائِزٌ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ،
لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الإِْفْرَازِ وَالتَّمْيِيزِ، خِلاَفًا
لأَِبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَأَى أَنَّ الْمَنْعَ فِي صُورَةِ
الْعَبْدَيْنِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ،
وَلأَِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الاِسْتِغْلاَل يَكْثُرُ؛ وَلأَِنَّ
الظَّاهِرَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ وَالاِسْتِقْصَاءُ فِي
(23/87)
الاِسْتِغْلاَل (1) .
وَكَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ تَهَايُؤُ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ
وَتَهَايُؤُ الْعَبْدَيْنِ (عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ
كَيْفِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى سَبِيل الاِنْتِفَاعِ
وَالاِسْتِخْدَامِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ
وَالْعَبْدَيْنِ عَلَى سَبِيل الاِسْتِغْلاَل. وَحَيْثُ جَازَ
قَيَّدُوا بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عِنْدَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
يَوْمًا فَأَكْثَرَ إِلَى شَهْرٍ لاَ أَكْثَرَ، ثُمَّ يَكُونُ عِنْدَ
الآْخَرِ كَذَلِكَ (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ
الرَّقِيقُ الْمُبَعَّضُ
وَهُوَ الَّذِي بَعْضُهُ رَقِيقٌ وَبَعْضُهُ حُرٌّ.
وَيَنْشَأُ التَّبْعِيضُ فِي الرَّقِيقِ فِي صُوَرٍ، مِنْهَا:
139 - أ - أَنْ يُعْتِقَ مَالِكُ الرَّقِيقِ جُزْءًا مِنْهُ سَوَاءٌ
كَانَ شَائِعًا كَرُبُعِهِ، أَوْ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ
أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَا أَعْتَقَهُ يَكُونُ حُرًّا، وَمَا
لَمْ يُعْتِقْهُ يَبْقَى عَلَى الرِّقِّ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي
قِيمَةِ جُزْئِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ، كَالْمُكَاتَبِ، إِلاَّ
أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ إِلَى الرِّقِّ لَوْ عَجَزَ عَنِ الأَْدَاءِ،
وَمَا لَمْ يُؤَدِّ فَهُوَ مُبَعَّضٌ، فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ
مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ أَوْ
شَائِعًا كَرُبُعِهِ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ فَيَعْتِقُ
كُلُّهُ، قَالُوا:
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 29 - 32.
(2) الزرقاني والبناني 6 / 194.
(23/88)
لأَِنَّ زَوَال الرِّقِّ لاَ يَتَجَزَّأُ،
وَقِيَاسًا عَلَى سِرَايَةِ الْعِتْقِ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ شِرْكًا
لَهُ فِي الْعَبْدِ، كَمَا يَأْتِي (وَانْظُرْ: تَبْعِيض ف 40) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ الْمُعْتِقُ
غَيْرَ سَفِيهٍ (1) .
ب - أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَالِكَيْنِ
فَأَكْثَرَ، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، فَإِنَّ بَاقِيَهُ
يَبْقَى رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَلِشَرِيكِ
الْمُعْتِقِ إِمَّا أَنْ يُحَرِّرَ نَصِيبَهُ، أَوْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ
يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إِنْ كَانَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ
يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي تَحْصِيل قِيمَةِ بَاقِيهِ لِيَتَحَرَّرَ،
فَإِنِ امْتَنَعَ آجَرَهُ جَبْرًا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّ
الشَّرِيكَ إِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَكَانَ مُوسِرًا سَرَى الْعِتْقُ
إِلَى الْبَاقِي فَصَارَ كُل الْعَبْدِ حُرًّا، وَيَكُونُ عَلَى مَنْ
بَدَأَ بِالْعِتْقِ قِيمَةُ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ، وَالْوَلاَءُ
لَهُ دُونَهُمْ، فَإِنْ أَعْتَقَ الثَّانِيَ بَعْدَ الأَْوَّل وَقَبْل
أَخْذِ الْقِيمَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ
لِلثَّانِي عِتْقٌ، لأَِنَّ الْعَبْدَ قَدْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقِ
الأَْوَّل. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ آخَرَ: إِلَى
أَنَّهُ لاَ يَعْتِقُ بِعِتْقِ الأَْوَّل مَا لَمْ يَأْخُذِ
الْقِيمَةَ، أَمَّا قَبْل أَخْذِ الْقِيمَةِ فَبَاقِي الْعَبْدِ
مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْعِتْقِ، وَلاَ
يَنْفُذُ بِغَيْرِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 15، وشرح المنهاج 4 / 351، وروضة الطالبين 12 /
110، والزرقاني 8 / 132.
(23/88)
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيِّ:
إِنَّ الْعِتْقَ مُرَاعًى، فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ تَبَيَّنَّا
أَنَّهُ كَانَ عَتَقَ مِنْ حِينَ أَعْتَقَ الأَْوَّل نَصِيبَهُ، وَإِنْ
لَمْ يَدْفَعْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَتَقَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مُعْسِرًا فَلاَ يَسْرِي
الْعِتْقُ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ مُبَعَّضًا.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مَنْ أَعْتَقَ
شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ
قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ
حِصَصَهُمْ (1) . وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ
مِنْهُ مَا عَتَقَ (2) . (وَانْظُرْ تَبْعِيض ف 41) .
وَعَلَى مِثْل هَذَا التَّفْصِيل مَا لَوْ عَتَقَ عَلَى الْمَالِكِ
سَهْمُهُ مِنْ عَبْدٍ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَنْ مَلَكَ سَهْمًا مِنْ
ذِي مَحْرَمٍ بِاخْتِيَارِهِ، أَمَّا إِنْ مَلَكَ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِ، كَمَنْ وَرِثَ جُزْءًا مِنِ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ
عَلَيْهِ وَلاَ يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ اتِّفَاقًا، بَل يَبْقَى
مُبَعَّضًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُتْلِفُ بِهِ نَصِيبَ
شَرِيكِهِ (3) .
ج - أَنْ تَلِدَ الْمُبَعَّضَةُ وَلَدًا مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا،
فَمُقْتَضَى تَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ لأُِمِّهِ فِي الرِّقِّ
وَالْحُرِّيَّةِ أَنْ
__________
(1) حديث: " من أعتق شركًا له في عبد فكان له. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 5 / 151 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1139 - ط الحلبي) من حديث ابن
عمر.
(2) المغني 9 / 334 - 338، وابن عابدين 3 / 15، 16 والزرقاني 8 / 132،
وشرح المنهاج 4 / 352.
(3) المغني 9 / 355، وشرح المنهاج 4 / 354.
(23/89)
يَكُونَ وَلَدُهَا مُبَعَّضًا كَذَلِكَ (1)
.
د - وَلَدُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ وَطْءِ الشَّرِيكِ
الْمُعْسِرِ، فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2)
هـ - أَنْ يَضْرِبَ الإِْمَامُ الرِّقَّ عَلَى بَعْضِ الأَْسِيرِ
لِعِتْقِ بَعْضِهِ، فَيَكُونُ مُبَعَّضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ (3) .
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ صُوَرًا
أُخْرَى نَادِرَةً.
أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُبَعَّضِ:
140 - لَمَّا كَانَ الْمُبَعَّضُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ،
فَإِنَّهُ يَكُونُ شَبِيهًا بِالرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ وَجْهٍ؛
لأَِنَّ سَيِّدَهُ لاَ يَمْلِكُ كُلَّهُ بَل يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ،
وَشَبِيهًا بِالْحُرِّ مِنْ وَجْهٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدَ لأَِحَدٍ عَلَى
ذَلِكَ الْجُزْءِ الْحُرِّ مِنْهُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ أَحْكَامَ الْمُبَعَّضِ
كَأَحْكَامِ الْقِنِّ فِيمَا عَدَا وَطْءَ السَّيِّدِ أَمَتَهُ
الْمُبَعَّضَةَ فَلاَ يَجُوزُ (4) .
وَفِي تُحْفَةِ الطُّلاَّبِ لِزَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيِّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُبَعَّضَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ
كَالْقِنِّ، وَفِي بَعْضِهَا كَالْحُرِّ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ هُوَ
كَالْحُرِّ
__________
(1) الأشباه للسيوطي 199.
(2) الأشباه للسيوطي 199.
(3) الأشباه للسيوطي 200، والدر المختار 3 / 15.
(4) الزرقاني 8 / 135، 4 / 260.
(23/89)
وَكَالْعَبْدِ بِاعْتِبَارَيْنِ (1) .
وَبِاسْتِقْرَاءِ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ فِي فُرُوعِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ كَالشَّافِعِيَّةِ
وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
التَّصَرُّفُ فِيهِ:
141 - لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْجُزْءِ الْمَمْلُوكِ
بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْمُشْتَرَكِ، فَلَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ، أَوْ
يَقِفَهُ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ رَهْنَ الْمَشَاعِ أَوْ وَقْفَهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُبَاعُ الْمُبَعَّضُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ
لِسَيِّدِهِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِيَأْخُذَ قِيمَةَ بَاقِيهِ مِنْ
أُجْرَتِهِ (2) .
كَسْبُ الْمُبَعَّضِ
142 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الْمُبَعَّضَ لَوْ كَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالاِحْتِشَاشِ
وَالاِحْتِطَابِ وَالاِلْتِقَاطِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلِسَيِّدِهِ نِسْبَةُ مِلْكِهِ فِيهِ،
وَالْبَاقِي لَهُ، كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَهَذَا إِنْ
لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ
فَلِصَاحِبِ النَّوْبَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ سَيِّدِهِ، عَلَى
التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَسَائِل الْعَبْدِ
الْمُشْتَرَكِ (3) .
__________
(1) شرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 270، وابن عابدين 3 / 15.
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب 2 / 530 -
532.
(3) شرح المنهاج 3 / 117، وروضة الطالبين 11 / 219، وكشاف القناع 6 /
374.
(23/90)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْمُبَعَّضَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ كُلِّهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ
بَاقِيهِ الْمَمْلُوكِ مِنْ مَكَاسِبِهِ أَوْ يَعْتِقَ (1) .
الْحُدُودُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبَعَّضِ:
143 - لاَ يُرْجَمُ الْمُبَعَّضُ فِي الزِّنَا لِعَدَمِ تَمَامِ
إِحْصَانِهِ، وَحَدُّ الْمُبَعَّضِ كَحَدِّ الرَّقِيقِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، فَهُوَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ
الْحُرِّ فِي الزِّنَا، وَالْقَذْفِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: يُحَدُّ بِنِسْبَةِ حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ،
فَالْمُنَصَّفُ يُجْلَدُ فِي الزِّنَا خَمْسًا وَسَبْعِينَ جَلْدَةً،
وَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُ الْمُبَعَّضِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا لاَ يُحَدُّ قَاذِفُ الرَّقِيقِ، بَل يُعَزَّرُ
(2) .
وَلاَ يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مَال سَيِّدِهِ، كَمَا لاَ يُقْطَعُ
سَيِّدُهُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَال الْمُبَعَّضِ، وَلَوْ كَانَ
الْمَسْرُوقُ مِمَّا مَلَكَهُ الْمُبَعَّضُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ عَلَى
أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
جِنَايَاتُ الْمُبَعَّضِ:
144 - لَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ حُرًّا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ إِذَا
تَمَّتْ شُرُوطُهُ؛ لأَِنَّهُ يُقْتَل بِالْحُرِّ الْحُرُّ الْكَامِل
الْحُرِّيَّةِ، فَلأََنْ يُقْتَل بِهِ الْمُبَعَّضُ الَّذِي
حُرِّيَّتُهُ نَاقِصَةٌ أَوْلَى.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 15.
(2) الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 530 القاهرة، مصطفى الحلبي 1360 هـ،
والأشباه ص 198، وكشاف القناع 6 / 93.
(23/90)
وَلَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ مُبَعَّضًا
آخَرَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْتَل جُزْءُ الرِّقِّ بِجُزْءِ
الرِّقِّ، بَل يُقْتَل جَمِيعُهُ بِجَمِيعِهِ حُرِّيَّةً وَرِقًّا
شَائِعًا، فَلَوْ قُتِل بِهِ يَلْزَمُ قَتْل جُزْءِ حُرِّيَّةٍ
بِجُزْءِ رِقٍّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى
أَنَّهُ يُقْتَل بِهِ إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل عَلَى
حُرِّيَّةِ الْمَقْتُول، بِأَنْ كَانَتْ بِقَدْرِهَا أَوْ أَقَل؛
لأَِنَّ الْمَقْتُول حِينَئِذٍ مُسَاوٍ لِلْقَاتِل أَوْ يَزِيدُ عَنْهُ
حُرِّيَّةً، فَلَمْ يَفْضُل الْقَاتِل الْمَقْتُول بِشَيْءٍ، فَلاَ
يَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ.
وَلَوْ قَتَل الْحُرُّ مُبَعَّضًا لَمْ يُقْتَل بِهِ عِنْدَ مَنْ لاَ
يَقْتُل الْحُرَّ بِالْعَبْدِ - وَهُمْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ
مَعَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ - لِنَقْصِهِ بِرِقِّ بَعْضِهِ، وَكَذَا لَوْ
قَتَل الْمُبَعَّضُ قِنًّا لَمْ يُقْتَل بِهِ، وَلَوْ قَتَل الْقِنُّ
مُبَعَّضًا قُتِل بِهِ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ عَمْدًا،
فَإِنْ كَانَ تَرَكَ مَالاً يَفِي بِبَاقِي قِيمَتِهِ فَهُوَ حُرٌّ
وَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلاَ قِصَاصَ
لِلاِخْتِلاَفِ فِي أَنَّهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ أَوْ لاَ، فَالسَّبَبُ
فِي عَدَمِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ جَهْل الْمُسْتَحِقِّ، إِذْ هُوَ
دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدَ أَوِ الْقَرِيبَ (3) .
__________
(1) الأشباه ص 197.
(2) شرح المنهاج 4 / 106، وشرح الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 531.
(3) ابن عابدين 3 / 15.
(23/91)
الدِّيَاتُ
145 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الْمُبَعَّضَ إِذَا قَتَل وَوَجَبَ ضَمَانُهُ، فَإِنَّ فِيهِ مِنْ
دِيَةِ الْحُرِّ بِنِسْبَةِ حُرِّيَّتِهِ، وَمِنْ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ
كُلُّهُ رَقِيقًا بِنِسْبَةِ رِقِّهِ. فَمُبَعَّضٌ نِصْفُهُ حُرٌّ
نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَنِصْفُ قِيمَتِهِ لَوْ
كَانَ عَبْدًا، فِي مَال الْجَانِي (1) . وَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى
يَدَيْهِ فَرُبُعُ الدِّيَةِ وَرُبُعُ الْقِيمَةِ، وَكُلُّهَا فِي مَال
الْجَانِي. وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا لاَ مُقَدَّرَ لَهُ
يُقَوَّمُ كُلُّهُ رَقِيقًا سَلِيمًا بِلاَ جُرْحٍ، ثُمَّ رَقِيقًا
وَبِهِ الْجُرْحُ، وَيَضْمَنُ الْجَانِي النَّقْصَ، لَكِنْ يَكُونُ
نِصْفُ ذَلِكَ النَّقْصِ (أَيْ فِي الرَّقِيقِ الْمُنَصَّفِ) دِيَةً
(أَيْ أَرْشًا) لِجُزْئِهِ الْحُرِّ.
وَالنِّصْفُ الآْخَرُ قِيمَةً لِمَا نَقَصَ مِنْ جُزْئِهِ الرَّقِيقِ
(2) .
إِرْثُ مَال الْمُبَعَّضِ عَنْهُ:
146 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ لاَ يُورَثُ عَنْهُ مَالُهُ بَل
يَكُونُ كُل مَا تَرَكَهُ لِمَالِكِ جُزْئِهِ الْمَمْلُوكِ. وَفِي
وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَدِيمِ: يَكُونُ لِبَيْتِ
الْمَال.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْجَدِيدِ - وَهُوَ الأَْظْهَرُ
وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ
الْحُرِّ
__________
(1) القليوبي 4 / 145، والشرقاوي 2 / 532، وكشاف القناع 6 / 22.
(2) القليوبي 4 / 145.
(23/91)
وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَاَلَّذِي كَسَبَهُ
بِجُزْئِهِ الْحُرِّ مِثْل أَنْ يَكُونَ قَدْ وَرِثَ شَيْئًا عَنْ
قَرِيبٍ لَهُ مَثَلاً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَرِثُ إِلاَّ بِجُزْئِهِ
الْحُرِّ، أَوْ يَكُونَ قَدْ هَايَأَ سَيِّدَهُ فَكَسَبَ ذَلِكَ
الْمَال فِي الأَْيَّامِ الْمُخَصَّصَةِ لَهُ (أَيْ لِلْمُبَعَّضِ)
أَوْ كَانَ قَدْ قَاسَمَ سَيِّدَهُ قَبْل الْمَوْتِ وَأَخَذَ
السَّيِّدُ حَقَّهُ، فَيَكُونُ الَّذِي بَقِيَ لِجُزْئِهِ الْحُرِّ.
قَالُوا: فَيُورَثُ عَنْهُ ذَلِكَ، يَرِثُهُ قَرِيبُهُ وَزَوْجَتُهُ
وَمُعْتَقُهُ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ
الْحُرِّ، وَلاَ قَاسَمَ سَيِّدَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَمَا تَرَكَهُ مِنَ
الْمَال يَكُونُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلِسَيِّدِهِ
بِنِسْبَةِ مِلْكِهِ. وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ (1) .
إِرْثُ الْمُبَعَّضِ مِنْ غَيْرِهِ:
147 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ
كَالْقِنِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، فَلاَ يَرِثُ، كَمَا لاَ يُورَثُ،
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي
قَطَعَ بِهِ الأَْصْحَابُ: لاَ يَرِثُ الْمُبَعَّضُ مِنْ أَقَارِبِهِ
وَغَيْرِهِمْ شَيْئًا، وَلاَ يَحْجُبُ أَحَدًا مِنَ الْوَرَثَةِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 489، والزرقاني 8 / 227، 135، وشرح المنهاج 3 /
148، والروضة 6 / 30، والمغني 6 / 269، والعذب الفائض 1 / 24.
(2) بيّن صاحب العذب الفائض طريقة العمل وضرب أمثلة أخرى فليرجع إليه
من أراد التوسع.
(23/92)
وَقَال أَحْمَدُ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ
سُرَيْجٍ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ
وَابْنِ مَسْعُودٍ: يَرِثُ، وَيَحْجُبُ بِقَدْرِ جُزْئِهِ الْحُرِّ،
فَجُزْؤُهُ الْحُرُّ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الأَْحْرَارِ، وَجُزْؤُهُ
الْمَمْلُوكُ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الْعَبِيدِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال فِي الْعَبْدِ يَعْتِقُ بَعْضُهُ: يَرِثُ وَيُورَثُ
بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ (1) .
وَمَثَّل لَهُ فِي الْعَذْبِ الْفَائِضِ بِامْرَأَةٍ مَاتَتْ عَنْ
زَوْجٍ، وَأَخٍ شَقِيقٍ حُرَّيْنِ، وَابْنٍ لَهَا نِصْفُهُ حُرٌّ،
فَيَكُونُ لِلاِبْنِ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ، وَهُوَ نِصْفُ مَا
يَأْخُذُهُ لَوْ كَانَ كَامِل الْحُرِّيَّةِ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ
وَالثُّمُنُ كَذَلِكَ، وَلِلأَْخِ الرُّبُعُ، لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ
الاِبْنُ رَقِيقًا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأَْخِ النِّصْفُ
وَلاَ شَيْءَ لِلاِبْنِ، وَلَوْ كَانَ كَامِل الْحُرِّيَّةِ كَانَ
لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي لِلاِبْنِ وَهُوَ نِصْفٌ وَرُبُعٌ،
وَلاَ شَيْءَ لِلأَْخِ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ نِصْفَ مَا
يَأْخُذُهُ فِي مَجْمُوعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ وَجَابِرٌ
وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: هُوَ كَالْحُرِّ فِي
جَمِيعِ أَحْكَامِهِ فَيَرِثُ وَيَحْجُبُ كَالْحُرِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
هُوَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ حُرٌّ مَدْيُونٌ - أَيْ لأَِنَّهُ
__________
(1) حديث ابن عباس: " في العبد يعتق بعضه " أورده ابن قدامة في المغني
(6 / 270 - ط الرياض) وعزاه إلى عبد الله بن أحمد، وفيه انقطاع في
سنده.
(23/92)
يُسْتَسْعَى فِي فِكَاكِ بَاقِيهِ -
فَيَرِثُ وَيَحْجُبُ (1) .
انْقِضَاءُ الرِّقِّ:
148 - يَنْقَضِي الرِّقُّ فِي الرَّقِيقِ بِأُمُورٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يُعْتِقَهُ مَالِكُهُ، سَوَاءٌ بَادَرَ بِعِتْقِهِ
مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، أَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ
يَمِينٍ، أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ
كَانَ عِتْقُهُ عَلَى مَالٍ يَلْتَزِمُهُ الْعَبْدُ كَمَا فِي
الْكِتَابَةِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ (ر: عِتْق) .
الثَّانِي: أَنْ يَعْتِقَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ
السَّيِّدُ، أَوْ خَصَاهُ، أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا عَلَى
خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ، وَكَمَا لَوْ وَلَدَتِ الأَْمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا
ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ (ر: اسْتِيلاَد) وَكَمَا لَوِ اشْتَرَى
الرَّجُل قَرِيبَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُدَبِّرَهُ: أَيْ يُعَلِّقَ السَّيِّدُ عِتْقَ
الْعَبْدِ عَلَى مَوْتِهِ أَيْ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ
السَّيِّدُ يَكُونُ الْعَبْدُ عَتِيقًا، وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ
وَأَدَّى الْكِتَابَةَ (ر: تَدْبِير، عِتْق) .
__________
(1) شرح المنهاج 3 / 148، والروضة 6 / 30، والعذب الفائض 1 / 23، 24،
والمغني 6 / 269 وما بعدها، والزرقاني 8 / 227، 135، وابن عابدين 5 /
489، 3 / 15.
(23/93)
رَقْم
التَّعْرِيفِ:
1 - لُغَةً: الرَّقْمُ فِي الأَْصْل مَصْدَرٌ، يُقَال: رَقَمْتُ
الثَّوْبَ رَقْمًا أَيْ وَشَّيْتُهُ، فَهُوَ مَرْقُومٌ، وَرَقَمْتُ
الْكِتَابَ: كَتَبْتُهُ فَهُوَ مَرْقُومٌ.
وَالرَّقْمُ: الْخَطُّ وَالْكِتَابَةُ وَالْخَتْمُ. وَالرَّقْمُ: خَزٌّ
مُوَشًّى، وَكُل ثَوْبٍ وُشِّيَ فَهُوَ رَقْمٌ.
وَرَقَمْتُ الشَّيْءَ: أَعْلَمْتُهُ بِعَلاَمَةٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ
غَيْرِهِ كَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَلاَمَةٌ يُعْرَفُ بِهَا مِقْدَارُ مَا يَقَعُ
بِهِ الْبَيْعُ، أَوْ هُوَ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَى الثَّوْبِ (2)
. وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ يَزِيدُ فِي الرَّقْمِ (3) أَيْ مَا
يُكْتَبُ عَلَى الثِّيَابِ مِنْ أَثْمَانِهَا لِتَقَعَ الْمُرَابَحَةُ
عَلَيْهِ، أَوْ يَغْتَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمقاييس في اللغة 2 / 425.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 590، وابن عابدين 4 / 29، والمغني 4 /
207، والمجموع 9 / 323 - 324 تحقيق المطيعي، والموسوعة 7 / 70، 8 / 79.
(3) حديث: " كان يزيد في الرقم "
أورده ابن الأثير في النهاية (2 / 253 - ط الحلبي) .
(23/93)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَرْنَامَجُ:
2 - الْبَرْنَامَجُ: الْوَرَقَةُ الْجَامِعَةُ لِلْحِسَابِ، وَهُوَ
مُعَرَّبُ (برنامه) .
وَفِي الْمُغْرِبِ: هِيَ النُّسْخَةُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا عَدَدُ
الثِّيَابِ وَالأَْمْتِعَةِ وَأَنْوَاعِهَا الْمَبْعُوثِ بِهَا مِنْ
إِنْسَانٍ لآِخَرَ، فَتِلْكَ النُّسْخَةُ الَّتِي فِيهَا مِقْدَارُ
الْمَبْعُوثِ هِيَ الْبَرْنَامَجُ (1) .
وَنَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَرْنَامَجَ هُوَ
الدَّفْتَرُ الْمَكْتُوبُ فِيهِ أَوْصَافُ مَا فِي الْعَدْل مِنَ
الثِّيَابِ الْمَبِيعَةِ لِتُشْتَرَى عَلَى تِلْكَ الصَّنْعَةِ
لِلضَّرُورَةِ (2) .
ب - الأُْنْمُوذَجُ:
3 - الأُْنْمُوذَجُ: مَا يَدُل عَلَى صِفَةِ الشَّيْءِ، وَهُوَ
مُعَرَّبٌ، وَفِي لُغَةٍ: نَمُوذَجٌ، قَال الصَّغَانِيُّ:
النَّمُوذَجُ: مِثَال الشَّيْءِ الَّذِي يُعْمَل عَلَيْهِ (3) .
ج - النَّقْشُ، وَالْوَشْيُ، وَالنَّمْنَمَةُ، وَالتَّزْوِيقُ:
4 - هَذِهِ الأَْلْفَاظُ تَكَادُ تَكُونُ مُتَّفِقَةَ الْمَعْنَى
وَهِيَ تَشْتَرِكُ مَعَ (الرَّقْمِ) فِي مَعْنَى التَّجْمِيل،
وَالتَّزْيِينِ (4) .
__________
(1) تاج العروس والمغرب مادة (برنامج) .
(2) الدسوقي 3 / 24.
(3) المصباح المنير.
(4) لسان العرب المواد (زوق - نقش - نمنم - وشي) .
(23/94)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّقْمِ مِنْ
أَحْكَامٍ:
الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ:
5 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ الْعِلْمُ بِالثَّمَنِ، فَلَوْ
كَانَ الثَّمَنُ مَرْقُومًا عَلَى السِّلْعَةِ (أَيْ مَكْتُوبًا
عَلَيْهَا) ، وَتَمَّ الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ بِأَنْ قَال الْبَائِعُ
لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِرَقْمِهَا، أَيْ
بِالثَّمَنِ الَّذِي هُوَ مَرْقُومٌ عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ
الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَالِمَيْنِ بِقَدْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ
بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا جَاهِلاً وَتَمَّ
الْبَيْعُ عَلَى ذَلِكَ وَافْتَرَقَا فَسَدَ الْبَيْعُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
الْمَفْهُومُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ) وَذَلِكَ لِجَهَالَةِ
الثَّمَنِ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَاخْتَارَ
هَذِهِ الرِّوَايَةَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ
الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ مَعْرِفَةِ
الثَّمَنِ، نَظِيرُهُ مَا لَوْ قَال: بِعْتُ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُل
صَاعٍ بِدِرْهَمٍ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ
الثَّمَنِ فِي الْحَال مَجْهُولَةً، لَكِنْ قَال النَّوَوِيُّ عَمَّا
حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ: هَذَا ضَعِيفٌ شَاذٌّ.
وَإِنْ عَلِمَ الْجَاهِل بِالثَّمَنِ - قَدْرَ الرَّقْمِ - فِي
الْمَجْلِسِ (أَيْ قَبْل الاِفْتِرَاقِ) فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ
الْمَانِعَ كَانَ هُوَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَقَدْ
زَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ، وَيَصِيرُ كَتَأْخِيرِ الْقَبُول إِلَى
(23/94)
آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ
الْفُورَانِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَهُوَ مَفْهُومُ مَذْهَبِ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال الْبَعْضُ الآْخَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ؛
لأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ جَهَالَةٍ تَمَكَّنَتْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ
وَهِيَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ بِسَبَبِ الرَّقْمِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ
الْقِمَارِ لِلْخَطَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ كَذَا وَكَذَا
لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يُبَيِّنَ الْبَائِعُ قَدْرَ الرَّقْمِ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل.
لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْعِلْمِ فِي
الْمَجْلِسِ لَكِنْ بِعَقْدٍ آخَرَ هُوَ التَّعَاطِي أَوِ التَّرَاضِي.
وَعَنْ هَذَا قَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: وَإِنْ عَلِمَ
بِالرَّقْمِ فِي الْمَجْلِسِ لاَ يَنْقَلِبُ ذَلِكَ الْعَقْدُ
جَائِزًا، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ دَائِمًا عَلَى الرِّضَا
فَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدَ ابْتِدَاءٍ
بِالتَّرَاضِي (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (ثَمَن ج 15 ص 35)
الرَّقْمُ بِمَعْنَى النَّقْشِ وَالتَّصْوِيرِ:
6 - الأَْصْل فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 11 - 12، 29، وفتح القدير مع الكفاية والعناية 5 /
472 - 473 - 474، وبدائع الصنائع 5 / 158، والدسوقي 3 / 15 - 16،
والمجموع 9 / 323 - 324 تحقيق المطيعي، والمغني 4 / 207، 211، والإنصاف
4 / 310 والاختيارات الفقهية لابن تيمية ص 121.
(23/95)
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ
فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُل عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ
ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا، فَقَال: مَا
لِي وَلِلدُّنْيَا، فَأَتَاهَا عَلِيٌّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا
فَقَالَتْ: لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَال: تُرْسِلِي بِهِ
إِلَى فُلاَنٍ، أَهْل بَيْتٍ فِيهِمْ حَاجَةٌ (1) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا
لِي وَلِلدُّنْيَا، زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ: مَا لِي وَلِلرَّقْمِ (2) .
وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ
خَالِدٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا
فِيهِ صُورَةٌ قَال بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ بَعْدُ فَعُدْنَاهُ،
فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، قَال: فَقُلْتُ
لِعُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوْلاَنِيِّ رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا
زَيْدٌ عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الأَْوَّل؟ فَقَال عُبَيْدُ اللَّهِ:
أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَال: إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ (3) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة " أخرجه
البخاري (الفتح 5 / 228 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 5 / 228 - 229 وينظر 10 / 384 وما بعدها.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 14 / 85، والأبي 5 / 394 وحديث: " إن
الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة ". أخرجه مسلم (3 / 1665 - ط الحلبي)
.
(23/95)
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي
ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّصْوِيرُ وَالاِسْتِعْمَال فَيُنْظَرُ فِي
بَحْثِ تَصْوِير (12 / 92) وَمُصْطَلَحِ (نَقْش) .
رَقِيب
انْظُرْ: حِرَاسَة، رَبِيئَة
(23/96)
رُقْيَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّقْيَةُ لُغَةً: اسْمٌ مِنَ الرَّقْيِ يُقَال رَقَى الرَّاقِي
الْمَرِيضَ يَرْقِيهِ.
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الرُّقْيَةُ الْعَوْذَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا
صَاحِبُ الآْفَةِ كَالْحُمَّى وَالصَّرْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الآْفَاتِ لأَِنَّهُ يُعَاذُ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَقِيل
مَنْ رَاقٍ (1) } أَيْ مَنْ يَرْقِيهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لاَ
رَاقِيَ يَرْقِيهِ فَيَحْمِيهِ، وَرَقَيْتُهُ رُقْيَةً أَيْ
عَوَّذْتُهُ بِاَللَّهِ، وَالاِسْمُ الرُّقْيَا، وَالْمَرَّةُ
رُقْيَةٌ، وَالْجَمْعُ: رُقًى (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ لِلرُّقْيَةِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
وَالرُّقْيَةُ قَدْ تَكُونُ بِكِتَابَةِ شَيْءٍ وَتَعْلِيقِهِ، وَقَدْ
تَكُونُ بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ
وَالأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ (3) .
__________
(1) سورة القيامة / 27.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المفردات لغريب القرآن مادة: (رقى) ،
حاشية العدوي 2 / 2 - 453، الفواكه الدواني 2 / 439 - 442، حاشية ابن
عابدين 5 / 232، دليل الفالحين 3 / 370.
(3) قواعد الفقه للمجددي.
(23/96)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرُّقَى.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الرَّقْيِ مِنْ كُل دَاءٍ يُصِيبُ
الإِْنْسَانَ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ
بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا
يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لاَ تُؤَثِّرُ
بِذَاتِهَا بَل بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ لِمَا رَوَى
عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَرْقِي فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي
ذَلِكَ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ
رُقَاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ (1) .
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى فَجَاءَ آل عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا
رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ
الرُّقَى، قَال: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ. فَقَال: مَا أَرَى بَأْسًا،
مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ (2) .
وَقَال الرَّبِيعُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الرُّقَى
__________
(1) حديث عوف بن مالك: " كنا نرقي في الجاهلية ". أخرجه مسلم (4 / 1727
- ط الحلبي) .
(2) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى ". أخرجه
مسلم (4 / 1726 - 1727 - ط الحلبي) .
(23/97)
فَقَال: لاَ بَأْسَ إِنْ رُقِيَ بِكِتَابِ
اللَّهِ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَسُئِل مَالِكٌ عَنِ الرُّقَى بِالأَْسْمَاءِ الْعَجَمِيَّةِ فَقَال:
وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا كُفْرٌ؟ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مَا جُهِل
مَعْنَاهُ لاَ يَجُوزُ الرُّقْيَةُ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ
كُفْرٌ أَوْ سِحْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَال قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لاَ تَجُوزُ الرُّقْيَةُ إِلاَّ مِنَ
الْعَيْنِ وَاللَّدْغَةِ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الرُّقَى حَتَّى
وَإِنْ كَانَتْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
لأَِنَّهَا قَادِحَةٌ فِي التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ، وَاسْتَدَلُّوا
بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا
ذَكَرَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: هُمُ
الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) .
وَمِنْ هَؤُلاَءِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَةِ الرَّقْيِ إِلاَّ
بِالْمُعَوِّذَاتِ.
وَفَرَّقَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الرَّقْيِ قَبْل وُقُوعِ
الْبَلاَءِ وَبَعْدَ وُقُوعِهِ، فَقَالُوا: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ
الرَّقْيِ
__________
(1) حديث: " لا رقية إلا من عين أو حمة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10
/ 155 - ط السلفية) .
(2) حديث: " هم الذين لا يتطيرون ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 211 - ط
السلفية) من حديث ابن عباس.
(23/97)
هُوَ مَا يَكُونُ قَبْل وُقُوعِ
الْبَلاَءِ، وَالْمَأْذُونُ فِيهِ مَا كَانَ بَعْدَ وُقُوعِهِ (1) .
أَخْذُ الْجُعْل عَلَى الرَّقْيِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْجُعْل عَلَى
الرَّقْيِ عَلَى تَفْصِيلٍ (سَبَقَ فِي بَحْثِ تَعْوِيذ مِنَ
الْمَوْسُوعَةِ 13 / 34) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 10 / 156، 195، 211، دليل الفالحين 3
/ 372، القوانين الفقهية ص 453، الفواكه الدواني 2 / 442، حاشية العدوي
2 / 453، مغني المحتاج 1 / 37، المغني لابن قدامة 2 / 449، حاشية ابن
عابدين 5 / 232، والموسوعة 11 / 123 - 124 فقرة 13 و13 / 21 وما بعدها.
(23/98)
رِكَاز
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّكَازُ لُغَةً بِمَعْنَى الْمَرْكُوزِ وَهُوَ مِنَ الرَّكْزِ
أَيِ: الإِْثْبَاتِ، وَهُوَ الْمَدْفُونُ فِي الأَْرْضِ إِذَا خَفِيَ.
يُقَال: رَكَزَ الرُّمْحَ إِذَا غَرَزَ أَسْفَلَهُ فِي الأَْرْضِ،
وَشَيْءٌ رَاكِزٌ أَيْ: ثَابِتٌ.
وَالرِّكْزُ هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (2) } .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ هُوَ مَا
دَفَنَهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى كُل مَا كَانَ مَالاً عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ خَصُّوا إِطْلاَقَهُ عَلَى الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال.
وَأَمَّا الرِّكَازُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيُطْلَقُ عَلَى أَعَمَّ
مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوِ الْمَخْلُوقَ فَيَشْمَل عَلَى
هَذَا الْمَعَادِنَ وَالْكُنُوزَ (3) . عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب، والمفردات للراغب.
(2) سورة مريم / 98.
(3) ابن عابدين 2 / 43 - 44، والمجموع 6 / 38، والحطاب 2 / 339،
والمغني 3 / 18.
(23/98)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَعْدِنُ:
2 - الْمَعْدِنُ لُغَةً: هُوَ بِفَتْحِ الدَّال وَكَسْرِهَا اسْمٌ
لِلْمَحَل وَلِمَا يَخْرُجُ، مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ
يَعْدِنُ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ جَنَّةُ عَدْنٍ
لأَِنَّهَا دَارُ إِقَامَةٍ وَخُلُودٍ. وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ
لِمُسْتَقَرِّ الْجَوَاهِرِ (1) .
وَأَصْل الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الاِسْتِقْرَارِ فِيهِ، ثُمَّ
اشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الأَْجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي
رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الأَْرْضَ،
حَتَّى صَارَ الاِنْتِقَال مِنَ اللَّفْظِ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلاَ
قَرِينَةٍ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ كُل مَا خَرَجَ مِنَ الأَْرْضِ مِمَّا يُخْلَقُ
فِيهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ وَيُحْتَاجُ فِي
إِخْرَاجِهِ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ.
قَال أَحْمَدُ: الْمَعَادِنُ هِيَ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ، لَيْسَ هُوَ
شَيْءٌ دُفِنَ.
وَالْمَعَادِنُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ بِالنَّارِ كَالنَّقْدَيْنِ
(الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) ، وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
2 - جَامِدٌ لاَ يَنْطَبِعُ بِالنَّارِ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ
وَالزِّرْنِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
3 - مَا لَيْسَ بِجَامِدٍ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ
وَالزِّئْبَقِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الرِّكَازَ مُبَايِنٌ
لِلْمَعْدِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات للراغب.
(2) ابن عابدين 2 / 44.
(23/99)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ
الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ، حَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ
وَعَلَى الْكَنْزِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مَعْدِن)
ب - الْكَنْزُ:
3 - الْكَنْزُ لُغَةً: الْمَال الْمَجْمُوعُ الْمُدَّخَرُ، يُقَال:
كَنَزْتُ الْمَال كَنْزًا إِذَا جَمَعْتَهُ وَادَّخَرْتَهُ،
وَالْكَنْزُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: الْمَال الْمَدْفُونُ تَسْمِيَةً
بِالْمَصْدَرِ، وَالْجَمْعُ كُنُوزٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْكَنْزُ فِي الأَْصْل
اسْمٌ لِلْمُثْبَتِ فِي الأَْرْضِ بِفِعْل إِنْسَانٍ، وَالإِْنْسَانُ
يَشْمَل الْمُؤْمِنَ أَيْضًا لَكِنْ خَصَّهُ الشَّارِعُ بِالْكَافِرِ
لأَِنَّ كَنْزَهُ هُوَ الَّذِي يُخَمَّسُ، وَأَمَّا كَنْزُ الْمُسْلِمِ
فَلُقَطَةٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ (2) ،
وَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (كَنْز) .
وَالْكَنْزُ أَعَمُّ مِنَ الرِّكَازِ؛ لأَِنَّ الرِّكَازَ دَفِينُ
الْجَاهِلِيَّةِ فَقَطْ، وَالْكَنْزُ دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْل
الإِْسْلاَمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الأَْحْكَامِ.
ج - الدَّفِينُ:
4 - الدَّفِينُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَا أُخْفِيَ تَحْتَ أَطْبَاقِ
__________
(1) المصباح المنير مادة (كنز) .
(2) ابن عابدين 2 / 44، والفواكه الدواني 1 / 349، والمجموع 6 / 43،
والمغني 3 / 19.
(23/99)
التُّرَابِ، وَنَحْوِهِ مَدْفُونٌ (1)
وَدَفِينٌ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ فَالدَّفِينُ أَعَمُّ مِنَ الرِّكَازِ.
أَحْكَامُ الرِّكَازِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2)
يَتَنَاوَل دَفِينَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
سَوَاءٌ كَانَ مَضْرُوبًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ يَتَنَاوَل كُل
مَا كَانَ مَالاً مَدْفُونًا عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ،
كَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، وَالصُّفْرِ، وَالرُّخَامِ
وَالأَْعْمِدَةِ، وَالآْنِيَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْمِسْكِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ إِذِ
الْحَدِيثُ لاَ يَخُصُّ مَدْفُونًا دُونَ غَيْرِهِ، بَل هُوَ عَامٌّ
فِي جَمِيعِ مَا دَفَنَهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَالَفُوا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ
فَعَمَّمُوا إِطْلاَقَ الرِّكَازِ عَلَى الْمَعَادِنِ الْخِلْقِيَّةِ
أَيْضًا لَكِنْ لَيْسَ جَمِيعَهَا، بَل قَصَرُوا ذَلِكَ عَلَى كُل
مَعْدِنٍ جَامِدٍ يَنْطَبِعُ - أَيْ يَلِينُ - بِالنَّارِ كَالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
__________
(1) المصباح المنير مادة (دفن) .
(2) حديث: " وفي الركاز الخمس ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 364 - ط
السلفية) من حديث أبي هريرة.
(23/100)
وَأَلْحَقُوا بِمَا تَقَدَّمَ الْمَعَادِنَ
السَّائِلَةَ الزِّئْبَقَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
لأَِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلاَجِ مِنْ عَيْنِهِ وَطُبِعَ مَعَ
غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ، فَإِنَّ الْفِضَّةَ لاَ تَنْطَبِعُ مَا
لَمْ يُخَالِطْهَا شَيْءٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ النَّهْرِ: وَالْخِلاَفُ - أَيْ:
فِي الزِّئْبَقِ - فِي الْمُصَابِ فِي مَعْدِنِهِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ
فِي خَزَائِنِ الْكُفَّارِ فَفِيهِ الْخُمُسُ اتِّفَاقًا لأَِنَّهُ
مَالٌ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ
وَمِنَ الْكَنْزِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْ: يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ لأَِنَّ
كُلًّا مِنَ الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ مَرْكُوزٌ فِي الأَْرْضِ إِنِ
اخْتَلَفَ الرَّاكِزُ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرِّكَازَ حَقِيقَةً فِيهِمَا مُشْتَرَكٌ
اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا وَلَيْسَ خَاصًّا بِالدَّفِينِ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا إِطْلاَقَ الرِّكَازِ عَلَى
مَا وُجِدَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ
الأَْمْوَال وَالْمَعَادِنِ؛ لأَِنَّ الرِّكَازَ مَالٌ مُسْتَفَادٌ
مِنَ الأَْرْضِ فَاخْتُصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا
وَنَوْعًا (2) .
دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دَفِينَ
الْجَاهِلِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، والشرح الصغير 1 / 486، والدسوقي 1 / 489،
والمغني 3 / 21.
(2) المجموع 6 / 44 - 47، ومغني المحتاج 1 / 395 - 396.
(23/100)
رِكَازٌ، وَيُسْتَدَل عَلَى كَوْنِهِ مِنْ
دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ بِوُجُودِهِ فِي قُبُورِهِمْ أَوْ
خَزَائِنِهِمْ أَوْ قِلاَعِهِمْ. فَإِنْ وُجِدَ فِي مَوَاتٍ فَيُعْرَفُ
بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلاَمَاتُهُمْ كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ
وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلاَمَةُ كُفْرٍ وَبَعْضُهُ لاَ
عَلاَمَةَ فِيهِ فَرِكَازٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بِالْكَنْزِ
عَلاَمَةٌ يُسْتَدَل بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفِينِ
الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الإِْسْلاَمِ أَوِ اشْتَبَهَ، فَالْجُمْهُورُ
(الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى أَنَّهُ رِكَازٌ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي
الدَّفْنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ
بِرِكَازٍ بَل هُوَ لُقَطَةٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلاَ
يُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِيَقِينٍ.
وَفِي الْمَجْمُوعِ: قَال الرَّافِعِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ
مُدَارٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ أَنَّهُ مِنْ
ضَرْبِهِمْ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَرْبِهِمْ وَيَدْفِنُهُ مُسْلِمٌ
بَعْدَ أَنْ وَجَدَهُ وَأَخَذَهُ وَمَلَكَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
الرَّافِعِيُّ تَفْرِيعٌ عَلَى الأَْصَحِّ مِنْ هَذَيْنِ
الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْكَنْزَ الَّذِي لاَ عَلاَمَةَ فِيهِ يَكُونُ
لُقَطَةً. فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْل الآْخَرِ أَنَّهُ
رِكَازٌ، فَالْحُكْمُ مُدَارٌ عَلَى ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ (1)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 47، والخرشي 2 / 210، والمجموع 6 / 44، والقليوبي 2
/ 27، والمغني 3 / 19، وشرح منتهى الإرادات 1 / 399 - 400.
(23/101)
الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ:
7 - الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ: مَا قَبْل الإِْسْلاَمِ، أَيْ قَبْل
مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا
بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ جَهَالاَتِهِمْ، أَوْ مَنْ كَانَ بَعْدَ
مَبْعَثِهِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ.
وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لاَ دِينَ
لَهُ قَبْل الإِْسْلاَمِ أَوْ كَانَ لَهُ دِينٌ كَأَهْل الْكِتَابِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ: وَيُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ الدَّفِينِ
الْجَاهِلِيِّ رِكَازًا كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ
أَنْ لاَ يُعْلَمَ أَنَّ مَالِكَهُ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، فَإِنْ
عُلِمَ أَنَّهُ بَلَغَتْهُ وَعَانَدَ وَوُجِدَ فِي بِنَائِهِ أَوْ
بَلَدِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا كَنْزٌ فَلَيْسَ بِرِكَازٍ بَل فَيْءٌ،
حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ جَمَاعَةٍ وَأَقَرَّهُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ كَانَ لَهُ كِتَابٌ هَل يُقَال:
إِنَّهُ جَاهِلِيٌّ؟
قَال الدُّسُوقِيُّ: الْجَاهِلِيَّةُ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ مَا عَدَا
الإِْسْلاَمَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَمْ لاَ.
وَقَال أَبُو الْحَسَنِ: اصْطِلاَحُهُمْ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ أَهْل
الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لاَ كِتَابَ لَهُمْ. وَأَمَّا أَهْل الْكِتَابِ
قَبْل الإِْسْلاَمِ فَلاَ يُقَال لَهُمْ: جَاهِلِيَّةٌ. وَعَلَى كُل
حَالٍ دَفْنُهُمْ جَمِيعِهِمْ رِكَازٌ (1) .
هَذَا وَأَخْرَجَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرِّكَازِ دَفِينَ أَهْل
الذِّمَّةِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، 46، والدسوقي 1 / 489، والشرح الصغير 1 / 486 -
487، ومغني المحتاج 1 / 396، والمغني 3 / 18، 20.
(23/101)
فَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: إِنَّمَا
كَانَ مَال الذِّمِّيِّ كَالْمُسْلِمِ لأَِنَّهُ مُحْتَرَمٌ بِحُرْمَةِ
الإِْسْلاَمِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
اشْتِرَاطُ الدَّفْنِ فِي الرِّكَازِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُل مَا دَفَنَهُ أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتَبَرُ رِكَازًا. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي
اشْتِرَاطِ الدَّفْنِ فِي الرِّكَازِ.
فَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا وُجِدَ عَلَى
ظَهْرِ الأَْرْضِ مِنْ أَمْوَال الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتَبَرُ رِكَازًا
أَيْضًا، جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ
مِنْ مَالٍ جَاهِلِيٍّ، أَوْ بِسَاحِل الْبَحْرِ مِنْ تَصَاوِيرِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلِوَاجِدِهِ مُخَمَّسًا. قَال الصَّاوِيُّ:
وَاقْتَصَرَ عَلَى الدَّفْنِ لأَِنَّهُ الْغَالِبُ، هَذَا إِذَا
تَحَقَّقَ أَنَّهُ مَالٌ جَاهِلِيٌّ. وَفِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ:
وَيَلْحَقُ بِالدَّفْنِ مَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ أَرْضٍ.
وَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَتَى
يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ رِكَازًا؟ فَقِيل: بِدَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ،
وَقِيل: بِضَرْبِهِمْ.
قَال السُّبْكِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ
بِكَوْنِهِ مِنْ دَفْنِهِمْ فَإِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا
يُكْتَفَى بِعَلاَمَةٍ تَدُل عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ. اهـ.
وَهَذَا أَوْلَى، وَالتَّقْيِيدُ بِدَفْنِ الْجَاهِلِيِّ يَقْتَضِي
أَنَّ مَا وُجِدَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، 46، والدسوقي 1 / 489، والشرح الصغير 1 / 486 -
487، ومغني المحتاج 1 / 396، والمغني 3 / 18، 20، والفواكه الدواني 1 /
349.
(23/102)
فِي الصَّحَارَى مِنْ دَفِينِ
الْحَرْبِيِّينَ الَّذِينَ عَاصَرُوا الإِْسْلاَمَ لاَ يَكُونُ
رِكَازًا بَل فَيْئًا، وَيُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهِ رِكَازًا أَيْضًا
أَنْ يَكُونَ مَدْفُونًا، فَإِنْ وَجَدَهُ ظَاهِرًا فَإِنْ عَلِمَ
أَنَّ السَّيْل أَظْهَرَهُ فَرِكَازٌ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا
فَلُقَطَةٌ، وَإِنْ شَكَّ فَكَمَا لَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ ضَرْبُ
الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الإِْسْلاَمِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ (1) .
وَلَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ تَصْرِيحًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.
دَفِينُ أَهْل الإِْسْلاَمِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دَفِينَ أَهْل
الإِْسْلاَمِ لُقَطَةٌ.
وَيُعْرَفُ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الإِْسْلاَمِ أَوِ اسْمُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدُ خُلَفَاءِ
الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَالٍ لَهُمْ، أَوْ آيَةٌ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ
نَحْوُ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيل حُكْمِ اللُّقَطَةِ فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَة) .
قَال فِي الْمُغْنِي: وَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلاَمَةُ
الإِْسْلاَمِ، وَعَلَى بَعْضِهِ عَلاَمَةُ الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ (أَيْ:
لُقَطَةٌ) ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛
لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَارَ إِلَى مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ
زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ
عَلَى جَمِيعِهِ عَلاَمَةُ الْمُسْلِمِينَ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ
وَحْدَهُمْ بَل هُوَ قَوْل بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا كَمَا
يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ.
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 486، ومغني المحتاج 1 / 396،
وشرح منتهى الإرادات. 1 / 399
(23/102)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ
عَلِيٍّ الْقَارِيِّ: وَأَمَّا مَعَ اخْتِلاَطِ دَرَاهِمِ الْكُفَّارِ
مَعَ دَرَاهِمِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُشَخَّصِ الْمُسْتَعْمَل فِي
زَمَانِنَا، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خِلاَفٌ فِي كَوْنِهِ
إِسْلاَمِيًّا (1) .
الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الرِّكَازِ
الْخُمُسُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ إِلاَّ الْحَسَنَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُوجَدُ فِي
أَرْضِ الْحَرْبِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ، فَقَال: فِيمَا يُوجَدُ فِي
أَرْضِ الْحَرْبِ الْخُمُسُ، وَفِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ
الزَّكَاةُ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَحَل تَخْمِيسِهِ مَا لَمْ يَحْتَجْ لِنَفَقَةٍ
كَبِيرَةٍ وَإِلاَّ فَيُزَكَّى.
قَال مَالِكٌ: الأَْمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا،
وَاَلَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّ
الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ دَفْنٌ يُوجَدُ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ
مَا لَمْ يُطْلَبْ بِمَالٍ. وَأَمَّا مَا طُلِبَ بِمَالٍ كَثِيرٍ
فَلَيْسَ بِرِكَازٍ، إِنَّمَا فِيهِ الزَّكَاةُ بَعْدَ وُجُودِ شُرُوطِ
الزَّكَاةِ حَيْثُ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْعَمَل، لاَ إِنْ عَمِل
بِنَفْسِهِ أَوْ عَبِيدِهِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنِ الرِّكَازِ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " العجماء جبار، وفي الركاز الخمس ". أخرجه البخاري (الفتح 3
/ 364 - ط السلفية) .
(23/103)
وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ
فَلِوَاجِدِهِ (1) . وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَصْرِفِ الْخُمُسِ
الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ ف 22
مَا يَلْحَقُ بِمَا يُخَمَّسُ:
11 - أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالرِّكَازِ النَّدْرَةَ: وَهِيَ
قِطْعَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ
إِلَى تَصْفِيَةٍ، وَاَلَّتِي تُوجَدُ فِي الأَْرْضِ مِنْ أَصْل
خِلْقَتِهَا لاَ بِوَضْعِ وَاضِعٍ لَهَا فِي الأَْرْضِ. وَفِيهَا
الْخُمُسُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا الْخُمُسُ فِي
الرِّكَازِ (2) .
نَبْشُ الْقَبْرِ لاِسْتِخْرَاجِ الْمَال:
12 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَا يُوجَدُ فِي قَبْرِ
الْجَاهِلِيِّ رِكَازٌ. وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي قَبْرِ الْمُسْلِمِ
فَفِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْر، وَلُقَطَة) .
النِّصَابُ فِي الرِّكَازِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ) إِلَى أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ النِّصَابُ فِي الرِّكَازِ، بَل يَجِبُ الْخُمُسُ فِي
قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَال: وَبِهِ قَال أَكْثَرُ أَهْل
__________
(1) ابن عابدين 2 / 46، والفواكه الدواني 1 / 395، والمجموع 6 / 45،
والمغني 3 / 21 - 22.
(2) الدسوقي 1 / 489، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 209.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 486 - 487.
(23/103)
الْعِلْمِ، وَهُوَ أَوْلَى بِظَاهِرِ
الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - إِلَى اشْتِرَاطِ
النِّصَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ الْمَأْخُوذَ مِنَ
الرِّكَازِ زَكَاةٌ.
قَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَْصْحَابِ
عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ مِنَ الرِّكَازِ
مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَجَدَ مِائَةً أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
الْخُمُسُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بَل يَنْعَقِدُ الْحَوْل
عَلَيْهِمَا مِنْ حِينِ كَمُل النِّصَابُ، فَإِذَا تَمَّ لَزِمَهُ
رُبُعُ الْعُشْرِ كَسَائِرِ النُّقُودِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَهَذَا
تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي
الرِّكَازِ.
ثُمَّ قَال: إِذَا وَجَدَ مِنَ الرِّكَازِ دُونَ النِّصَابِ، وَلَهُ
دَيْنٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَبْلُغُ بِهِ نِصَابًا، وَجَبَ خُمُسُ
الرِّكَازِ فِي الْحَال. فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا أَوْ
مَدْفُونًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا - وَالرِّكَازُ نَاقِصٌ - لَمْ
يُخَمِّسْ حَتَّى يَعْلَمَ سَلاَمَةَ مَالِهِ، وَحِينَئِذٍ يُخَمِّسُ
الرِّكَازَ النَّاقِصَ عَنِ النِّصَابِ سَوَاءٌ أَبَقِيَ الْمَال أَمْ
تَلِفَ إِذَا عَلِمَ وُجُودَهُ يَوْمَ حُصُول الرِّكَازِ (1) .
الْحَوْل فِي الرِّكَازِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْحَوْل فِي
الرِّكَازِ؛ لأَِنَّ الْحَوْل يُعْتَبَرُ لِتَكَامُل النَّمَاءِ
وَهَذَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44 ومابعدها، والخرشي 2 / 210، والمجموع مع المهذب
6 / 33، 45 - 47، ومغني المحتاج 1 / 394 - 395، والمغني 3 / 18 - 19،
وشرح منتهى الإرادات. 1 / 400
(23/104)
لاَ يَتَوَجَّهُ فِي الرِّكَازِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَنَقَل الْمَاوَرْدِيُّ فِيهِ الإِْجْمَاعَ (1)
مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ هُوَ
كُل مَنْ وَجَدَ الرِّكَازَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ صَغِيرٍ أَوْ
كَبِيرٍ، عَاقِلٍ أَوْ مَجْنُونٍ. فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ
مَجْنُونًا فَهُوَ لَهُمَا، وَيُخْرِجُ الْخُمُسَ عَنْهُمَا
وَلِيُّهُمَا. وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ يَجِدُهُ:
الْخُمُسَ، قَالَهُ أَهْل الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ
وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَهْل الْعِرَاقِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ
وَغَيْرُهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْخُمُسُ إِلاَّ
عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ
امْرَأَةً، رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا، أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا.
وَيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَخْذِ
الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنَ
الإِْحْيَاءِ بِهَا؛ لأَِنَّ الدَّارَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ دَخِيلٌ
فِيهَا (2) .
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا أَخَذَ إِلاَّ
إِذَا عَمِل بِإِذْنِ الإِْمَامِ عَلَى شَرْطٍ فَلَهُ الْمَشْرُوطُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ عَمِل
__________
(1) المجموع مع المهذب 6 / 45، وانظر المراجع السابقة.
(2) مغني المحتاج 1 / 395.
(23/104)
رَجُلاَنِ فِي طَلَبِ الرِّكَازِ فَهُوَ
لِلْوَاجِدِ، وَإِنْ كَانَا مُسْتَأْجَرَيْنِ لِطَلَبِهِ فَهُوَ
لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِدَ نَائِبُهُ فِيهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَرْبِيّ، شَرِكَة، إِجَارَة،
خُمُس) .
مَوْضِعُ الرِّكَازِ:
أَوَّلاً: فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ:
16 - أ - أَنْ يَجِدَهُ فِي مَوَاتٍ أَوْ مَا لاَ يُعْلَمُ لَهُ
مَالِكٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِي عَهْدٍ، كَالأَْبْنِيَةِ الْقَدِيمَةِ،
وَالتُّلُول، وَجُدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقُبُورِهِمْ، فَهَذَا
فِيهِ الْخُمُسُ بِلاَ خِلاَفٍ سِوَى مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ.
وَعِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ: فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ أَوْ
عُشْرِيَّةٍ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لأَِحَدٍ
أَوْ لاَ، صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لاَ. فَيَدْخُل فِيهِ
الْمَفَاوِزُ وَأَرْضُ الْمَوَاتِ، فَإِنَّهَا إِذَا جُعِلَتْ
صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ كَانَتْ عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً (2) .
وَقَال فِي الْمُغْنِي: لَوْ وَجَدَهُ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ عَلَى
وَجْهِهَا أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ، أَوْ قَرْيَةٍ خَرَابٍ
فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَال: مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ
مَأْتِيٍّ أَوْ قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَلَكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ
وَلاَ فِي قَرْيَةٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، 47، والخرشي 2 / 210، والمغني 3 / 23، وشرح
منتهى الإرادات. 1 / 400
(2) ابن عابدين 2 / 44 - 45.
(23/105)
عَامِرَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ
الْخُمُسُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَخْرُجُ خُمُسُ الرِّكَازِ وَالْبَاقِي
لِوَاجِدِهِ حَيْثُ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ لاَ مَالِكَ لَهَا، كَمَوَاتِ
أَرْضِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ فَيَافِي الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُفْتَحْ
عَنْوَةً وَلاَ أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ
الرِّكَازُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَيَكُونُ مَا فِيهِ لِمَالِكِ
الأَْرْضِ.
وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَجِدَهُ فِي أَرْضٍ لَمْ تَبْلُغْهَا
الدَّعْوَةُ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا بَنَى كَافِرٌ بِنَاءً وَكَنَزَ فِيهِ
كَنْزًا وَبَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَعَانَدَ فَلَمْ يُسْلِمْ ثُمَّ
هَلَكَ وَبَادَ أَهْلُهُ فَوُجِدَ ذَلِكَ الْكَنْزُ كَانَ فَيْئًا لاَ
رِكَازًا، لأَِنَّ الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ أَمْوَال الْجَاهِلِيَّةِ
الْعَادِيَّةُ الَّذِينَ لاَ يُعْرَفُ هَل بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةٌ أَمْ
لاَ؟ فَأَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُمْ فَمَا لَهُمْ فَيْءٌ، فَخُمُسُهُ
لأَِهْل الْخُمُسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ (2)
فَإِنْ وُجِدَ الرِّكَازُ فِي شَارِعٍ أَوْ طَرِيقٍ مَسْلُوكٍ
فَلُقَطَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ رِكَازٌ (3) .
__________
(1) حديث: " ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة. . . " أخرجه
النسائي (5 / 44 - ط المكتبة التجارية) وإسناده حسن.
(2) الفواكه الدواني 1 / 395، والقوانين الفقهية ص 102، والمجموع 6 /
38، 41، والمغني 3 / 19، وشرح منتهى الإرادات. 1 / 400
(3) المجموع 6 / 38 - 39، وشرح منتهى الإرادات 1 / 400، والفواكه
الدواني 1 / 349.
(23/105)
ب - أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِهِ:
17 - الْمِلْكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْيَاهُ أَوِ انْتَقَل
إِلَيْهِ.
1 - أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ، فَإِذَا وَجَدَ
فِيهِ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُخَمِّسَهُ، وَزَادَ
الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الإِْحْيَاءِ الإِْرْثَ، وَزَادَ
الشَّافِعِيَّةُ إِقْطَاعَ السُّلْطَانِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَعْنُونَ بِمَالِك الأَْرْضِ أَنْ يَكُونَ
قَدْ مَلَكَهَا أَوَّل الْفَتْحِ، وَهُوَ مَنْ خَصَّهُ الإِْمَامُ
بِتَمْلِيكِ الأَْرْضِ حِينَ فَتْحِ الْبَلَدِ.
2 - أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِهِ الْمُنْتَقِل إِلَيْهِ:
18 - إِذَا انْتَقَل الْمِلْكُ عَنْ طَرِيقِ الإِْرْثِ وَوَجَدَ فِيهِ
رِكَازًا فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ.
أَمَّا لَوِ انْتَقَل إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَوَجَدَ فِيهِ
رِكَازًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْ يَكُونُ لَهُ
الرِّكَازُ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ) إِلَى
أَنَّهُ لِلْمَالِكِ الأَْوَّل أَوْ لِوَارِثِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا؛
لأَِنَّهُ كَانَتْ يَدُهُ عَلَى الدَّارِ فَكَانَتْ عَلَى مَا فِيهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: إِنَّ الْكَنْزَ
مُودَعٌ فِي الأَْرْضِ فَلَمَّا مَلَكَهَا الأَْوَّل مَلَكَ مَا
فِيهَا، وَلاَ يَخْرُجُ مَا فِيهَا عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعِهَا
كَالسَّمَكَةِ فِي جَوْفِهَا دُرَّةٌ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ
يُعْرَفِ الْمَالِكُ الأَْوَّل وَلاَ وَرَثَتُهُ فَيُوضَعُ الرِّكَازُ
فِي بَيْتِ الْمَال عَلَى الأَْوْجَهِ. وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ.
(23/106)
قَال فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: وَهُوَ
الظَّاهِرُ بَل الْمُتَعَيِّنُ. وَالْقَوْل الثَّانِي
لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لُقَطَةٌ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ
- وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ
الْبَاقِيَ بَعْدَ الْخُمُسِ لِلْمَالِكِ الأَْخِيرِ، لأَِنَّهُ مَال
كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الإِْسْلاَمِ، فَكَانَ لِمَنْ ظَهَرَ
عَلَيْهِ كَالْغَنَائِمِ؛ وَلأَِنَّ الرِّكَازَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ
الأَْرْضِ لأَِنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالظُّهُورِ
عَلَيْهِ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ.
وَقَدْ صَحَّحَ فِي الْمُغْنِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ، ثُمَّ قَال:
لأَِنَّ الرِّكَازَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ لأَِنَّهُ لَيْسَ
مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا، فَيُنَزَّل
مَنْزِلَةَ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصَّيْدِ
يَجِدُهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَيَأْخُذُهُ فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال أَبُو يُوسُفَ: الْبَاقِي لِلْوَاجِدِ
كَمَا فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَبِهِ
قَال أَبُو ثَوْرٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ
فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لِمُورِثِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ
الْبَاقُونَ، فَحُكْمُ مَنْ أَنْكَرَ فِي نَصِيبِهِ حُكْمُ الْمَالِكِ
الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ، وَحُكْمُ الْمُعْتَرِفِينَ حُكْمُ
الْمَالِكِ الْمُعْتَرِفِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 45 - 47، والخرشي 2 / 211، والصاوي على الشرح
الصغير 1 / 487، والمجموع 6 / 40 - 42، 47، والمغني 3 / 19، 20، وشرح
منتهى الإرادات. 1 / 400
(23/106)
ج - أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِ
غَيْرِهِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ
فِي دَارٍ أَوْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ.
وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ. لأَِنَّهُ قَال
فِي مَسْأَلَةِ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ فِي دَارِهِ
فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا: فَهُوَ لِلأَْجِيرِ. نَقَل ذَلِكَ
عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّال، قَال الْقَاضِي: هُوَ
الصَّحِيحُ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ لِوَاجِدِهِ، وَهُوَ
قَوْل أَبِي ثَوْرٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْكَنْزَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ، فَيَكُونُ لِمَنْ وَجَدَهُ،
لَكِنْ إِنِ ادَّعَاهُ الْمَالِكُ فَالْقَوْل قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ
يَدَّعِهِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ (1) .
ثَانِيًا: أَنْ يُوجَدُ الرِّكَازُ فِي دَارِ الصُّلْحِ:
20 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ دَفِينَ الْمُصَالَحِينَ لَهُمْ
وَلَوْ كَانَ الدَّافِنُ غَيْرَهُمْ، فَمَا وُجِدَ مِنَ الرِّكَازِ
مَدْفُونًا فِي أَرْضِ الصُّلْحِ، سَوَاءٌ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ
دَفَنُوهُ أَوْ دَفَنَهُ غَيْرُهُمْ فَهُوَ لِلَّذِينَ صَالَحُوا عَلَى
تِلْكَ الأَْرْضِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يُخَمَّسُ، فَإِنْ
وَجَدَهُ أَحَدُ الْمُصَالَحِينَ فِي دَارِهِ فَهُوَ لَهُ بِمُفْرَدِهِ
سَوَاءٌ وَجَدَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي
__________
(1) المصادر السابقة، والمغني 3 / 20 - 21.
(23/107)
مَوَاتِ دَارِ أَهْل الْعَهْدِ يَمْلِكُهُ
وَاجِدُهُ كَمَوَاتِ دَارِ الإِْسْلاَمِ (1) .
ثَالِثًا: أَنْ يُوجَدَ الرِّكَازُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرِّكَازِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ
الْحَرْبِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي
دَارِ الْحَرْبِ إِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِ
مُسْتَأْمَنٍ فَالْكُل لِلْوَاجِدِ وَإِلاَّ وَجَبَ رَدُّهُ
لِلْمَالِكِ، وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَصْلاً
فَالْكُل لِلْوَاجِدِ بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ وَغَيْرِهِ؛
لأَِنَّ مَا فِي صَحْرَائِهِمْ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى
الْخُصُوصِ فَلاَ يُعَدُّ غَدْرًا.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْرْضِ الْمَمْلُوكَةِ بَيْنَ أَنْ
يُؤْخَذَ الرِّكَازُ بِقَهْرٍ وَقِتَالٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، كَأَخْذِ
أَمْوَالِهِمْ وَنُقُودِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَكُونُ خُمُسُهُ
لأَِهْل خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِوَاجِدِهِ،
وَبَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلاَ قَهْرٍ فَهُوَ فَيْءٌ
وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْل الْفَيْءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَذُبُّوا عَنْهُ
فَهُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الإِْسْلاَمِ - بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ -
وَهُوَ رِكَازٌ.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا
إِذَا دَخَل دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ. أَمَّا إِذَا دَخَل
بِأَمَانٍ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْكَنْزِ لاَ بِقِتَالٍ وَلاَ
بِغَيْرِهِ.
__________
(1) الخرشي 2 / 211 - 212، والمجموع 6 / 47.
(23/107)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ
إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ، حُكْمُهُ حُكْمُ
مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتِ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ
يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَوَاتِ بَيْنَ مَا يُذَبُّ عَنْهُ
وَبَيْنَ مَا لاَ يُذَبُّ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِمَوْضِعِهِ
مَالِكٌ مُحْتَرَمٌ أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ (1) .
مَصْرِفُ خُمُسِ الرِّكَازِ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَال الْمُزَنِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ يُصْرَفُ مَصَارِفَ
الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ زَكَاةً.
وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ حَلاَلٌ لِلأَْغْنِيَاءِ وَلاَ يَخْتَصُّ
بِالْفُقَرَاءِ، وَهُوَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَخْتَصُّ
بِالأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ، وَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَصَحُّ مِمَّا سَيَأْتِي وَأَقْيَسُ عَلَى
مَذْهَبِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ
رَجُلاً وَجَدَ أَلْفَ دِينَارٍ مَدْفُونَةً خَارِجًا مِنَ
الْمَدِينَةِ، فَأَتَى بِهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَ
مِنْهَا الْخُمُسَ مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَدَفَعَ إِلَى الرَّجُل
بَقِيَّتَهَا، وَجَعَل عُمَرُ يَقْسِمُ الْمِائَتَيْنِ بَيْنَ مَنْ
حَضَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى أَنْ أَفْضَل مِنْهَا فَضْلَةً،
فَقَال: أَيْنَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَال
عُمَرُ:
__________
(1) ابن عابدين 2 / 47 - 48، والقوانين الفقهية ص 102، والمجموع 6 / 40
- 41، والمغني 3 / 21.
(23/108)
خُذْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ فَهِيَ لَكَ.
وَلَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ زَكَاةً لَخَصَّ بِهِ أَهْلَهَا وَلَمْ
يَرُدَّهُ عَلَى وَاجِدِهِ؛ وَلأَِنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ زَالَتْ
عَنْهُ يَدُ الْكَافِرِ، أَشْبَهَ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى
أَنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ خُمُسِ الرِّكَازِ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ (1) .
وَلِتَفْصِيل تَوْزِيعِ الْخُمُسِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خَمَس،
غَنِيمَة، فَيْء) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 43، 48، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 209، وحاشية
الصاوي على الشرح الصغير 1 / 485 - 486، والمجموع 6 / 47، ومغني
المحتاج 1 / 395، والمغني 3 / 22 - 24، وشرح منتهى الإرادات 1 / 400.
(23/108)
رُكْن
التَّعْرِيفِ:
1 - الرُّكْنُ فِي اللُّغَةِ: الْجَانِبُ الأَْقْوَى وَالأَْمْرُ
الْعَظِيمُ، وَمَا يُقْوَّى بِهِ مِنْ مَلِكٍ وَجُنْدٍ وَغَيْرِهِمَا،
وَالْعِزُّ، وَالْمَنَعَةُ.
وَالأَْرْكَانُ: الْجَوَارِحُ، وَفِي حَدِيثِ الْحِسَابِ: يُقَال
لأَِرْكَانِهِ: انْطِقِي (1) أَيْ جَوَارِحِهِ، وَأَرْكَانُ كُل شَيْءٍ
جَوَانِبُهُ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَيَقُومُ بِهَا (2) .
وَرُكْنُ الشَّيْءِ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا لاَ وُجُودَ لِذَلِكَ
الشَّيْءِ إِلاَّ بِهِ.
وَهُوَ " الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ
مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ تَقَوُّمُهَا عَلَيْهِ
(3) ".
__________
(1) حديث: " الحساب: يقال. . . " أخرجه مسلم (4 / 2280 - 2281 ط
الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) القاموس المحيط ولسان العرب مادة: (ركن)
.
(3) التعريفات 99 - ط مطبعة مصطفى
البابي الحلبي، الكليات 2 / 395 منشورات وزارة الثقافة والإرشاد
القومي، دمشق الطبعة الثانية، حاشية ابن عابدين 1 / 61 - 64، دار إحياء
التراث العربي، الكفاية على الهداية بذيل شرح فتح القدير 1 / 239 دار
إحياء التراث العربي، حاشية الجمل 1 / 328 دار إحياء التراث العربي،
شرح روض الطالب 1 / 140 المكتبة الإسلامية.
(23/109)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ