الموسوعة الفقهية الكويتية

سُلْحَفَاة

انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) فتح القدير 5 / 253 حاشية ابن عابدين 3 / 241، جواهر الإكليل 2 / 261، الشرح الصغير 2 / 177، حاشية الخرشي 3 / 130، مغني المحتاج 3 / 100، روضة الطالبين 6 / 374، المهذب 2 / 239، المغني لابن قدامة 8 / 394، كشاف القناع 3 / 72.

(25/184)


سَلْخ

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّلْخُ فِي اللُّغَةِ: نَزْعُ جِلْدِ الْحَيَوَانِ.
يُقَال: سَلَخَ الإِْهَابَ عَنِ الشَّاةِ يَسْلُخُهُ وَيَسْلَخُهُ: إِذَا كَشَطَهُ، وَنَقَل صَاحِبُ لِسَانِ الْعَرَبِ: كُل شَيْءٍ يُفْلَقُ عَنْ قِشْرٍ فَقَدِ انْسَلَخَ، وَيُقَال: سَلَخَ الْحَرُّ جِلْدَ الإِْنْسَانِ فَانْسَلَخَ، وَسَلَخَتِ الْمَرْأَةُ عَنْهَا دِرْعَهَا، وَيُقَال: انْسَلَخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْل؛ أَيْ خَرَجَ مِنْهُ خُرُوجًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ضَوْئِهِ (1) .
وَفِي التَّنْزِيل: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْل نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (2) .
وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ خَاصٌّ بِنَزْعِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ.
__________
(1) لسان العرب، والمفردات.
(2) سورة يس / 37.

(25/185)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَحْرُمُ سَلْخُ جِلْدِ الآْدَمِيِّ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ (1) .
وَهُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2) .
وَسَلْخُ جِلْدِهِ يَتَنَافَى مَعَ هَذَا التَّكْرِيمِ، وَيَحْرُمُ سَلْخُ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْذِيبِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْدَأَ الْجَزَّارُ بِسَلْخِ الْحَيَوَانِ قَبْل أَنْ تَزْهَقَ نَفْسُهُ، وَيَسْكُنَ اضْطِرَابُهُ (3) .
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: {
بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُدَيْل بْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيَّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى بِكَلِمَاتٍ، مِنْهَا: لاَ تَعْجَلُوا الأَْنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ (4) .
__________
(1) المجموع 1 / 216.
(2) سورة الإسراء / 70.
(3) المدونة 2 / 66، مواهب الجليل 3 / 222، الاختيار 5 / 12، كشاف القناع 6 / 210 - 211، الفتاوى الهندية.
(4) حديث: " لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق، وأيام منى ". . أخرجه الدارقطني (4 / 283 - ط. دار المحاسن) والبيهقي (9 / 278 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وقال البيهقي: (ضعيف ليس بشيء) .

(25/185)


الاِسْتِئْجَارُ لِسَلْخِ الدَّابَّةِ بِجِلْدِهَا
3 - لاَ يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ شَخْصٍ لِسَلْخِ دَابَّةٍ بِجِلْدِهَا (أُجْرَةً) لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَرٍ، لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيَخْرُجُ سَلِيمًا أَمْ لاَ؟ وَهَل هُوَ ثَخِينٌ أَمْ رَقِيقٌ؟ وَلأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ سَلَخَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْجِلْدُ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ، فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل؛ لِفَسَادِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ (1) .

دِيَةُ جِلْدِ الآْدَمِيِّ:
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ فِي جِلْدِ الْبَدَنِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ:
" أَمَّا جِلْدُ الْبَدَنِ، لَحْمُ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، وَالْجِرَاحَاتُ الَّتِي فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (2) .
وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُرَاجَعِ الَّتِي تَيَسَّرَ لَنَا الاِطِّلاَعُ عَلَيْهَا، مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا سُلِخَ جِلْدُ مَعْصُومِ الدَّمِ وَجَبَ عَلَى السَّالِخِ كَمَال الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِي
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 268، والإقناع للشربيني الخطيب 2 / 370، ومطالب أولي النهى 3 / 594، الشرح الصغير 5 / 18.
(2) ابن عابدين 5 / 373.

(25/186)


الْجِلْدِ جَمَالاً، وَمَنْفَعَةً ظَاهِرَةً، فَإِنْ سَلَخَ جِلْدَ مَنْ كَانَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ مَقْطُوعًا كَيَدِهِ، أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مَسْلُوخًا جِلْدُهُ، سَقَطَ الْقِسْطُ مِنَ الدِّيَةِ، فَتَجِبُ فِي الأُْولَى دِيَةُ الْجِلْدِ إِلاَّ قِسْطَ الْعُضْوِ، وَتُوَزَّعُ فِي الثَّانِيَةِ سَاحَةُ الْجَلْدِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ. فَمَا يَخُصُّ الْعُضْوَ الْمَقْطُوعَ يُحَطُّ مِنْ دِيَتِهِ، وَيَجِبُ الْبَاقِي (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (دِيَات) .

سُلْطَان

انْظُرْ: إِمَامَة كُبْرَى
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 288، أسنى المطالب 4 / 50.

(25/186)


سَلَس

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّلَسُ فِي اللُّغَةِ: السُّهُولَةُ وَاللُّيُونَةُ وَالاِنْقِيَادُ وَالاِسْتِرْسَال وَعَدَمُ الاِسْتِمْسَاكِ، قَال فِي الْمِصْبَاحِ: سَلِسَ سَلَسًا، مِنْ بَابِ تَعِبَ: سَهُل وَلاَنَ فَهُوَ سَلِسٌ، وَرَجُلٌ سَلِسٌ بِالْكَسْرِ: بَيِّنُ السَّلَسِ بِالْفَتْحِ، وَالسَّلاَسَةُ أَيْضًا: سُهُولَةُ الْخُلُقِ، وَسَلَسُ الْبَوْل: اسْتِرْسَالُهُ وَعَدَمُ اسْتِمْسَاكِهِ؛ لِحُدُوثِ مَرَضٍ بِصَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ سَلِسٌ، بِالْكَسْرِ.
وَالسَّلَسُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: اسْتِرْسَال الْخَارِجِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ مَذْيٍ أَوْ مَنِيٍّ أَوْ وَدْيٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ (1) ، وَقَدْ يُطْلَقُ السَّلَسُ عَلَى الْخَارِجِ نَفْسِهِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
__________
(1) الصحاح والمصباح مادة سلس، جواهر الإكليل 1 / 19 ط. المعرفة.

(25/187)


أ - الاِسْتِحَاضَةُ:
2 - الاِسْتِحَاضَةُ: هِيَ سَيَلاَنُ الدَّمِ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ حَيْضِهَا وَهُوَ دَمُ فَسَادٍ (1) .

ب - الْمَرَضُ:
3 - الْمَرَضُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنِ الاِعْتِدَال الْخَاصِّ (2) .

ج - النَّجَاسَةُ:
4 - النَّجَاسَةُ: إِمَّا عَيْنِيَّةٌ، وَهِيَ: مُسْتَقْذَرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ حَيْثُ لاَ مُرَخِّصَ، أَوْ حُكْمِيَّةٌ، وَهِيَ وَصْفٌ يَقُومُ بِالْمَحَل يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ حَيْثُ لاَ مُرَخِّصَ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
1 - الْوُضُوءُ وَالصَّلاَةُ مِمَّنْ بِهِ سَلَسٌ:
5 - السَّلَسُ: حَدَثٌ دَائِمٌ، صَاحِبُهُ مَعْذُورٌ، فَيُعَامَل فِي وُضُوئِهِ وَعِبَادَتِهِ مُعَامَلَةً خَاصَّةً تَخْتَلِفُ عَنْ مُعَامَلَةِ غَيْرِهِ مِنَ
__________
(1) المصباح مادة (حيض) .
(2) المصباح مادة مرض، التعريفات للجرجاني / 268 ط. الكتاب العربي.
(3) المصباح مادة نجس، وحاشية القليوبي 1 / 68 - 69 ط. الحلبي.

(25/187)


الأَْصِحَّاءِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْل، أَوِ اسْتِطْلاَقُ الْبَطْنِ، أَوِ انْفِلاَتُ الرِّيحِ، أَوْ رُعَافٌ دَائِمٌ، أَوْ جُرْحٌ لاَ يَرْقَأُ، يَتَوَضَّئُونَ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ (1)
وَيُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنْ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ، وَيُصَلُّونَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ فِي الْوَقْتِ مَا شَاءُوا مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل، وَإِنْ تَوَضَّأَ عَلَى السَّيَلاَنِ وَصَلَّى عَلَى الاِنْقِطَاعِ، وَتَمَّ الاِنْقِطَاعُ بِاسْتِيعَابِ الْوَقْتِ الثَّانِي أَعَادَ، وَكَذَا إِذَا انْقَطَعَ فِي خِلاَل الصَّلاَةِ وَتَمَّ الاِنْقِطَاعُ.
وَيَبْطُل الْوُضُوءُ عِنْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْمَفْرُوضَةِ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال زُفَرُ: يَبْطُل بِدُخُول الْوَقْتِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَبْطُل بِهِمَا.
__________
(1) حديث: " المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة ". قال الزيلعي (1 / 204 - ط. المجلس العلمي) " غريب جدا " وتعقبه ابن قطلوبغا بقوله: " قلت: علقه محمد بن الحسن في الآثار، ورواه ابن بطة من حديث حمنة بنت جحش كذا في " منية الألمعي " (ص 19 - الملحق بآخر نصب الراية) .

(25/188)


وَيَبْقَى الْوُضُوءُ مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا بِشَرْطَيْنِ: -
أَنْ يَتَوَضَّأَ لِعُذْرِهِ وَأَنْ لاَ يَطْرَأَ عَلَيْهِ حَدَثٌ آخَرُ كَخُرُوجِ رِيحٍ أَوْ سَيَلاَنِ دَمٍ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّلَسَ إِنْ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَانِ وَلاَزَمَ أَقَلَّهُ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَإِنْ لاَزَمَ النِّصْفَ - وَأَوْلَى الْجُل - أَوِ الْكُل فَلاَ يَنْقُضُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَفْعِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ مُطْلَقًا كَسَلَسِ مَذْيٍ لِطُول عُزُوبَةٍ أَوْ مَرَضٍ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ أَوْ تَفَكُّرٍ أَمْكَنَهُ رَفْعُهُ بِتَدَاوٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ تَزَوُّجٍ، وَيُغْتَفَرُ لَهُ زَمَنَ التَّدَاوِي وَالتَّزَوُّجِ، وَنُدِبَ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ إِنْ لاَزَمَ السَّلَسُ أَكْثَرَ الزَّمَنِ وَأَوْلَى نِصْفَهُ، لاَ إِنْ عَمَّهُ فَلاَ يُنْدَبُ، وَمَحَل النَّدْبِ فِي مُلاَزَمَةِ الأَْكْثَرِ إِنْ لَمْ يَشُقَّ، لاَ إِنْ شَقَّ الْوُضُوءُ بِبَرْدٍ وَنَحْوِهِ فَلاَ يُنْدَبُ، وَقَدْ تَرَدَّدَ مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْمُلاَزَمَةِ مِنْ دَوَامٍ وَكَثْرَةٍ وَمُسَاوَاةٍ وَقِلَّةٍ فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ خَاصَّةً وَهُوَ مِنَ الزَّوَال إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، أَوِ اعْتِبَارُهَا مُطْلَقًا لاَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 41 ط. المكتبة الإسلامية، الدر المختار 1 / 139، 280 - 283، فتح القدير 1 / 124 - 128، وتبيين الحقائق 1 / 64، مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي / 80.

(25/188)


بِقَيْدِ وَقْتِ الصَّلاَةِ فَيُعْتَبَرُ حَتَّى مِنَ الطُّلُوعِ إِلَى الزَّوَال، وَفِي قَوْل الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَنْقُضُ السَّلَسُ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّهُ يُنْدَبُ الْوُضُوءُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُلاَزِمْ كُل الزَّمَانِ فَلاَ يُنْدَبُ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ سِتَّةَ شُرُوطٍ يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ كَسَلَسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ وَهِيَ: الشَّدُّ، وَالْعَصْبُ، وَالْوُضُوءُ لِكُل فَرِيضَةٍ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، وَتُجْزِئُ قَبْلَهُ عَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ، وَتَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ لِكُل فَرِيضَةٍ، وَنِيَّةُ الاِسْتِبَاحَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الصَّلاَةِ فِي الأَْصَحِّ.
فَلَوْ أَخَّرَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلاَةِ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَانْتِظَارِ الْجَمَاعَةِ وَالاِجْتِهَادِ فِي قِبْلَتِهِ وَالذَّهَابِ إِلَى مَسْجِدٍ وَتَحْصِيل السُّتْرَةِ، لَمْ يَضُرَّ لأَِنَّهُ لاَ يُعَدُّ بِذَلِكَ مُقَصِّرًا، وَيَتَوَضَّأُ لِكُل فَرْضٍ وَلَوْ مَنْذُورًا كَالْمُتَيَمِّمِ؛ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ (2) وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِل فَقَطْ، وَصَلاَةُ الْجِنَازَةِ لَهَا حُكْمُ
__________
(1) الدسوقي 1 / 1116 - 1117 ط. الفكر، الخرشي 1 / 152 - 153 ط. الفكر، الزرقاني 1 / 84 - 85 ط. الفكر، جواهر الإكليل 1 / 19 - 20 ط. المعرفة.
(2) حديث: " توضئي لكل صلاة ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 332 - ط. السلفية) . من حديث عائشة.

(25/189)


النَّافِلَةِ، وَلَوْ زَال الْعُذْرُ وَقْتًا يَسَعُ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ كَانْقِطَاعِ الدَّمِ مَثَلاً وَجَبَ الْوُضُوءُ وَإِزَالَةُ مَا عَلَى الْفَرْجِ مِنَ الدَّمِ وَنَحْوِهِ.
وَمَنْ أَصَابَهُ سَلَسُ مَنِيٍّ يَلْزَمُهُ الْغُسْل لِكُل فَرْضٍ، وَلَوِ اسْتَمْسَكَ الْحَدَثُ بِالْجُلُوسِ فِي الصَّلاَةِ وَجَبَ بِلاَ إِعَادَةٍ، وَيَنْوِي الْمَعْذُورُ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ لاَ رَفْعَ الْحَدَثِ لأَِنَّهُ دَائِمُ الْحَدَثِ لاَ يَرْفَعُهُ وُضُوءُهُ وَإِنَّمَا يُبِيحُ لَهُ الْعِبَادَةَ.
وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ كَالشَّافِعِيَّةِ إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ الْوُضُوءِ لِكُل فَرْضٍ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَدَثِ الدَّائِمِ يَتَوَضَّأُ لِكُل وَقْتٍ، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْفُقَهَاءُ سِوَى الْمَالِكِيَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لِلْمَعْذُورِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِهِ كَمَا سَبَقَ، وَالْوُضُوءُ يَكُونُ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
__________
(1) المنثور 2 / 43 ط. الأولى، روضة الطالبين 1 / 137 ط. المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 1 / 111 ط. الفكر، حاشية القليوبي 1 / 101 - 102 ط. الحلبي، كشاف القناع 1 / 138، 247 ط. النصر، المغني 1 / 340 - 343 ط. الرياض.

(25/189)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ.

إِمَامَةُ مَنْ بِهِ سَلَسٌ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ مَرِيضًا بِالسَّلَسِ وَالْمَأْمُومُ كَذَلِكَ فَالصَّلاَةُ جَائِزَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ مَرِيضًا بِالسَّلَسِ وَالْمَأْمُومُ سَلِيمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَرِيضِ لِصَلاَةِ غَيْرِهِ مِنَ الأَْصِحَّاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ الْجَوَازِ لأَِنَّ أَصْحَابَ الأَْعْذَارِ يُصَلُّونَ مَعَ الْحَدَثِ حَقِيقَةً، لَكِنْ جُعِل الْحَدَثُ الْمَوْجُودُ فِي حَقِّهِمْ كَالْمَعْدُومِ، لِلْحَاجَةِ إِلَى الأَْدَاءِ، فَلاَ يَتَعَدَّاهُمْ؛ لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلأَِنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالاً مِنَ الْمَعْذُورِ وَلاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ: الْجَوَازُ لِصِحَّةِ صَلاَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ، وَلأَِنَّهُ إِذَا عُفِيَ عَنِ الأَْعْذَارِ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا عُفِيَ عَنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِمَامًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجِدُ ذَلِكَ (أَيْ سَلَسَ الْمَذْيِ) وَلاَ

(25/190)


يَنْصَرِفُ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ لِلأَْصِحَّاءِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عُذْر) .

سَلَفٌ
انْظُرْ: سَلَم، قَرْض
__________
(1) فتح القدير 1 / 318 ط. الأميرية، تبيين الحقائق 1 / 140 - 141 ط. الأميرية، الفتاوى الهندية 1 / 84 ط. المكتبة الإسلامية، جواهر الإكليل 1 / 78 ط. المعرفة، الدسوقي 1 / 330 ط. الفكر، التاج والإكليل بهامش الحطاب 2 / 104 ط. النجاح، مغني المحتاج 1 / 241 ط. الفكر، كشاف القناع 1 / 476 ط. النصر، المغني 1 / 340 - 343 ط. الرياض.

(25/190)


سَلَم

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي السَّلَمِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الإِْعْطَاءُ وَالتَّسْلِيفُ (1) يُقَال: أَسْلَمَ الثَّوْبَ لِلْخَيَّاطِ؛ أَيْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. قَال الْمُطَرِّزِيُّ: أَسْلَمَ فِي الْبُرِّ؛ أَيْ أَسْلَفَ، مِنَ السَّلَمِ، وَأَصْلُهُ: أَسْلَمَ الثَّمَنَ فِيهِ، فَحُذِفَ (2) .
وَالسَّلَمُ فِي الاِصْطِلاَحِ عِبَارَةٌ عَنْ " بَيْعِ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ بِبَدَلٍ يُعْطَى عَاجِلاً " وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ:
فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ شَرَطُوا فِي صِحَّتِهِ قَبْضَ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَتَأْجِيل
__________
(1) لسان العرب، مادة " غرر " المقالة للمغراوي ص 216، أنيس الفقهاء للقونوي ص 218، مشارق الأنوار للقاضي عياض 2 / 217.
(2) المغرب للمطرزي (تحقيق الفاخوري ومختار، حلب 1402 هـ) 1 / 412.

(25/191)


الْمُسْلَمِ فِيهِ - احْتِرَازًا مِنَ السَّلَمِ الْحَال - عَرَّفُوهُ بِمَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: " هُوَ شِرَاءُ آجِلٍ بِعَاجِلٍ " (1) . وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (123) مِنْ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ " بَيْعُ مُؤَجَّلٍ بِمُعَجَّلٍ ". وَجَاءَ فِي الإِْقْنَاعِ بِأَنَّهُ " عَقْدٌ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مَقْبُوضٍ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ " (2) .
وَالشَّافِعِيَّةُ الَّذِينَ شَرَطُوا لِصِحَّةِ السَّلَمِ قَبْضَ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ، وَأَجَازُوا كَوْنَ السَّلَمِ حَالًّا وَمُؤَجَّلاً عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ " عَقْدٌ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ بِبَدَلٍ يُعْطَى عَاجِلاً " (3)
فَلَمْ يُقَيِّدُوا الْمُسْلَمَ فِيهِ الْمَوْصُوفَ فِي الذِّمَّةِ بِكَوْنِهِ مُؤَجَّلاً، لِجَوَازِ السَّلَمِ الْحَال عِنْدَهُمْ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ الَّذِينَ مَنَعُوا السَّلَمَ الْحَال، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَأَجَازُوا تَأْجِيلَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ لِخِفَّةِ الأَْمْرِ، فَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ " بَيْعُ مَعْلُومٍ فِي الذِّمَّةِ مَحْصُورٍ بِالصِّفَةِ بِعَيْنٍ حَاضِرَةٍ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهَا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " (4) .
__________
(1) رد المحتار (بولاق سنة 1272 هـ) 4 / 203.
(2) كشاف القناع (مطبعة الحكومة بمكة 1394 هـ) 3 / 276، المطلع للبعلي ص 245
(3) فتح العزيز للرافعي 9 / 207، الروضة للنووي 4 / 3.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ط - دار الشعب بالقاهرة) ص 1186.

(25/191)


فَتَعْبِيرُ (أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهَا) يُشِيرُ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ، حَيْثُ إِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ التَّعْجِيل بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ (1) .
وَقَوْلُهُ " إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " يُبَيِّنُ وُجُوبَ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُؤَجَّلاً، احْتِرَازًا مِنَ السَّلَمِ الْحَال، وَيُسَمِّي الْفُقَهَاءُ الْمُشْتَرِيَ فِي هَذَا الْعَقْدِ " رَبَّ السَّلَمِ " أَوِ " الْمُسْلَمَ " وَالْبَائِعَ " الْمُسْلَمَ إِلَيْهِ "، وَالْمَبِيعَ " الْمُسْلَمَ فِيهِ " وَالثَّمَنَ، " رَأْسَ مَال السَّلَمِ " (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّيْنُ:
2 - وَهُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَخَّصًا، سَوَاءٌ كَانَ نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ (3) .
(ر: دَيْن) وَالدَّيْنُ أَعَمُّ مِنَ السَّلَمِ.

ب - بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الذِّمَّةِ:
3 - وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُعَيَّنَةً. وَالثَّانِي أَنْ لاَ تَكُونَ الْعَيْنُ مُعَيَّنَةً.
__________
(1) انظر إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 173.
(2) أنيس الفقهاء للقونوي ص 220.
(3) انظر م 158 من مجلة الأحكام العدلية.

(25/192)


وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ الثَّانِي وَبَيْنَ السَّلَمِ أَنَّ السَّلَمَ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَأْجِيل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَمَّا بَيْعُ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ فَقَدْ يَكُونُ حَالًّا.
وَانْظُرْ (بَيْع) .
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الذِّمَّةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّعَاقُدُ بِلَفْظِ السَّلَمِ، أَوْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ (السَّلَمِ) اشْتُرِطَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ قَبْل التَّفَرُّقِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ بِلَفْظِ (الْبَيْعِ) فَلاَ يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، وَعَلَى كَوْنِ ذَلِكَ بَيْعًا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَإِلاَّ يَصِيرُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ لأَِنَّ التَّعْيِينَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ لِصَيْرُورَةِ الْمُعَيَّنِ حَالًّا لاَ يَدْخُلُهُ أَجَلٌ أَبَدًا (1) .

ج - عَقْدُ الإِْجَارَةِ:
4 - وَهِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْلُومَةِ فِي مُقَابِل عِوَضٍ مَعْلُومٍ (2) .

د - الاِسْتِصْنَاعُ:
5 - عَقْدُ مُقَاوَلَةٍ مَعَ أَهْل الصَّنْعَةِ عَلَى أَنْ يَعْمَل شَيْئًا (3) .
__________
(1) المغني 3 / 583 والشرقاوي على التحرير 2 / 16.
(2) مجلة الأحكام العدلية م 405.
(3) م 124 من المجلة.

(25/192)


مَشْرُوعِيَّةُ السَّلَمِ:
6 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ عَقْدِ السَّلَمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أ - أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) . قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ (2) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهَا أَبَاحَتِ الدَّيْنَ، وَالسَّلَمُ نَوْعٌ مِنَ الدُّيُونِ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: " الدَّيْنُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كُل مُعَامَلَةٍ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا، وَالآْخَرُ فِي الذِّمَّةِ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا كَانَ حَاضِرًا، وَالدَّيْنَ مَا كَانَ غَائِبًا " (3) .
فَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى حِل الْمُدَايَنَاتِ بِعُمُومِهَا، وَشَمَلَتِ السَّلَمَ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) أثر ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى. . أخرجه الشافعي (2 / 171 - مسنده - ترتيب السندي - نشر دار الكتب العلمية) والحاكم (2 / 286 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 247.

(25/193)


أَفْرَادِهَا، إِذِ الْمُسْلَمُ فِيهِ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِلَى أَجَلِهِ.
ب - وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (1) .
فَدَل الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ عَلَى إِبَاحَةِ السَّلَمِ وَعَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالاَ: كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ، فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَقُلْتُ: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ زَرْعٌ؟ فَقَال: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ (2) .
ج - وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ
__________
(1) حديث: " من أسلف في تمر. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 429 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1227 - ط الحلبي) . واللفظ لمسلم.
(2) المغني لابن قدامة (مكتبة الرياض الحديثة 1401 هـ) 4 / 304. وحديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى أخرجه البخاري (الفتح 4 / 434 - ط السلفية) .

(25/193)


كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ (1) .

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ السَّلَمِ: 7 - إِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَمِنْ هُنَا كَانَ فِي إِبَاحَتِهِ رَفْعٌ لِلْحَرَجِ عَنِ النَّاسِ، فَالْمُزَارِعُ مَثَلاً قَدْ لاَ يَكُونُ عِنْدَهُ الْمَال الَّذِي يُنْفِقُهُ فِي إِصْلاَحِ أَرْضِهِ وَتَعَهُّدِ زَرْعِهِ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ، وَلاَ يَجِدُ مَنْ يُقْرِضُهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَال، وَلِذَلِكَ فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْمُعَامَلَةِ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْحُصُول عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَال، وَإِلاَّ فَاتَتْ عَلَيْهِ مَصْلَحَةُ اسْتِثْمَارِ أَرْضِهِ، وَكَانَ فِي حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ وَعَنَتٍ، فَمِنْ أَجَل ذَلِكَ أُبِيحَ السَّلَمُ. .
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي حَيْثُ قَال: " وَلأَِنَّ الْمُثَمَّنَ فِي الْبَيْعِ أَحَدُ عِوَضَيِ الْعَقْدِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ كَالثَّمَنِ، وَلأَِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ أَرْبَابَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالتِّجَارَاتِ يَحْتَاجُونَ إِلَى النَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا لِتَكْمُل، وَقَدْ تَعُوزُهُمُ النَّفَقَةُ، فَجُوِّزَ لَهُمُ السَّلَمُ لِيَرْتَفِقُوا وَيَرْتَفِقَ الْمُسْلِمُ (2) بِالاِسْتِرْخَاصِ (3) .
__________
(1) المغني 4 / 304.
(2) أي رب السلم.
(3) المغني 4 / 305.

(25/194)


مَدَى مُوَافَقَةِ السَّلَمِ لِلْقِيَاسِ:
8 - بَعْدَمَا ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ عَقْدِ السَّلَمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْمَشْرُوعِيَّةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، أَمْ أَنَّهَا جَاءَتِ اسْتِثْنَاءً عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى هَذَا الْعَقْدِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ جَائِزٌ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ (1) قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: " هُوَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ " إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ (2) ". وَقَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: " السَّلَمُ عَقْدُ غَرَرٍ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ (3) . وَفِي " مِنَحِ الْجَلِيل ": " صَرَّحَ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِأَنَّ السَّلَمَ رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَائِعِهِ (4) ".
(وَالثَّانِي) لِتَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
__________
(1) انظر الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 1 / 280، بداية المجتهد (ط - دار الكتب الحديثة بمصر) 2 / 228، بدائع الصنائع 5 / 201 (مطبعة الجمالية 1328 هـ) ، المغني 4 / 321، شرح منتهى الإرادات 2 / 218، 221، الخرشي 5 / 214.
(2) البحر الرائق 6 / 196.
(3) أسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 122.
(4) منح الجليل لعليش 3 / 2.

(25/194)


وَابْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: " السَّلَمُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ " فَقَوْلُهُمْ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا رَوَوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (1) وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ.
وَهَذَا لَمْ يُرْوَ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلاَمِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّلَمُ بَيْعُ الإِْنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ.
وَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ: إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ مَال الْغَيْرِ قَبْل أَنْ يَشْتَرِيَهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ.
وَهَذَا أَشْبَهُ. فَيَكُونُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا لاَ يَدْرِي هَل يَحْصُل أَوْ لاَ يَحْصُل. وَهَذَا فِي السَّلَمِ الْحَال إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُوَفِّيهِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ.
فَأَمَّا السَّلَمُ الْمُؤَجَّل، فَإِنَّهُ دَيْنٌ مِنَ
__________
(1) حديث: " لا تبع ما ليس عندك ". أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 430 - ط السلفية) من حديث حكيم بن حزام، وحسنه الترمذي.

(25/195)


الدُّيُونِ، وَهُوَ كَالاِبْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ. فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلاً فِي الذِّمَّةِ، وَكَوْنِ الْعِوَضِ الآْخَرِ مُؤَجَّلاً فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ فِي الذِّمَّةِ حَلاَلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ.
فَإِبَاحَةُ هَذَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ لاَ عَلَى خِلاَفِهِ " (2) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي " إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ ": " وَأَمَّا السَّلَمُ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ فَوَهَمَ دُخُولَهُ تَحْتَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ فَإِنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ، وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ مِنْهُ. .
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ بَيْعُ مَضْمُونٍ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفٍ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ غَالِبًا، وَهُوَ كَالْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ فِي الإِْجَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ.
وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعُقَلاَءَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الإِْنْسَانِ مَا لاَ يَمْلِكُهُ وَلاَ هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ إِلَيْهِ فِي مُغَلٍّ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) مجموعة فتاوى ابن تيمية 20 / 529.

(25/195)


مَقْدُورٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ. فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى وَالرِّبَا وَالْبَيْعِ " (1) .

أَرْكَانُ السَّلَمِ وَشُرُوطُ صِحَّتِهِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ السَّلَمِ ثَلاَثَةٌ:
(1) الصِّيغَةُ (وَهِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول) .
(2) وَالْعَاقِدَانِ (وَهُمَا الْمُسْلِمُ، وَالْمُسْلَمُ إِلَيْهِ) .
(3) وَالْمَحَل (وَهُوَ شَيْئَانِ: رَأْسُ الْمَال، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ اعْتَبَرُوا رُكْنَ السَّلَمِ هُوَ الصِّيغَةَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول الدَّالَّيْنِ عَلَى اتِّفَاقِ الإِْرَادَتَيْنِ وَتُوَافِقْهُمَا عَلَى إنْشَاءِ هَذَا الْعَقْدِ (2) .

الرُّكْنُ الأَْوَّل: الصِّيغَةُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الإِْيجَابِ بِلَفْظِ السَّلَمِ أَوِ السَّلَفِ، وَكُل مَا اشْتُقَّ مِنْهُمَا، كَأَسْلَفْتُكَ وَأَسْلَمْتُكَ، وَأَعْطَيْتُكَ كَذَا سَلَمًا أَوْ سَلَفًا فِي كَذَا. .؛ لأَِنَّهُمَا لَفْظَانِ بِمَعْنًى
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (مراجعة ط عبد الرؤوف سعد) 2 / 19.
(2) انظر التعريفات للشريف الجرجاني (ط - الدار التونسية 1971 م) ص 59، 67.

(25/196)


وَاحِدٍ، وَكِلاَهُمَا اسْمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ. وَكَذَا عَلَى صِحَّةِ الْقَبُول بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا بِمَا أَوْجَبَهُ الأَْوَّل، مِثْل: قَبِلْتُ وَرَضِيتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
11 - غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ انْعِقَادِ السَّلَمِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لأَِبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ السَّلَمُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ إِذَا بَيَّنَ فِيهِ إِرَادَةَ السَّلَمِ وَتَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ، كَأَنْ يَقُول رَبُّ السَّلَمِ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ خَمْسِينَ رِطْلاً زَيْتًا صِفَتُهُ كَذَا إِلَى أَجَل كَذَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ حَالَّةٍ، وَقَبِل الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ. أَوْ يَقُول الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ: بِعْتُكَ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ صِفَتُهُ كَذَا إِلَى أَجَل كَذَا، بِخَمْسِينَ دِينَارًا مُعَجَّلَةٍ فِي الْمَجْلِسِ. وَقَبِل الطَّرَفُ الآْخَرُ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: " التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِنْ عَرَفَا الْمَقْصُودَ انْعَقَدَتْ، فَأَيُّ
__________
(1) البدائع 5 / 201، شرح منتهى الإرادات 2 / 214، نهاية المحتاج وحاشية الرشيدي عليه 4 / 178، المهذب 1 / 304، منح الجليل 3 / 2.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 214، بدائع الصنائع 5 / 201، المهذب 1 / 304، روضة الطالبين 4 / 6، مواهب الجليل 4 / 538، الخرشي 5 / 223، منح الجليل 3 / 36، فتح العزيز 9 / 224، وبدائع الصنائع 5 / 201.

(25/196)


لَفْظٍ مِنَ الأَْلْفَاظِ عَرَفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ. وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَحُدَّ أَلْفَاظَ الْعُقُودِ حَدًّا، بَل ذَكَرَهَا مُطْلَقَةً. فَكَمَا تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ بِمَا يَدُل عَلَيْهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْلْسُنِ الْعَجَمِيَّةِ، فَهِيَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُل عَلَيْهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ " (1) .
(وَالثَّانِي) لِزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ صَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ لاَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَحُجَّةُ زُفَرَ " أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لاَ يَنْعَقِدَ أَصْلاً؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِجَوَازِهِ بِلَفْظِ السَّلَمِ (2) بِقَوْلِهِ: وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ (3) " فَوَجَبَ الاِقْتِصَارُ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ إجْزَاءِ سِوَاهُ.
أَمَّا حُجَّةُ أَصْحَابِ هَذَا الرَّأْيِ مِنَ
__________
(1) القياس لابن تيمية ص 24، مجموع فتاوى ابن تيمية 20 / 533، وانظر إعلام الموقعين 2 / 23 (طبعة طه عبد الرؤوف سعد) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 201.
(3) حديث: " رخص في السلم ". ذكر الزيلعي في نصب الراية (4 / 45 - ط المجلس العلمي) أنه مستنبط من حديث ابن عباس المتقدم في فقرة رقم (4) .

(25/197)


الشَّافِعِيَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ لَفْظُهُ، وَيَنْعَقِدُ بَيْعًا نَظَرًا لِلَّفْظِ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ تَعْيِينُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ لأَِنَّ السَّلَمَ غَيْرُ الْبَيْعِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِهِ (1) .
12 - وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي صِيغَةِ السَّلَمِ أَنْ تَكُونَ بَاتَّةً لاَ خِيَارَ فِيهَا لأَِيٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ عَقْدٌ لاَ يَقْبَل خِيَارَ الشَّرْطِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ تَمْلِيكُ رَأْسِ الْمَال وَإِقْبَاضُهُ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَوُجُوبُ تَحَقُّقِهِمَا مَنَافٍ لِخِيَارِ الشَّرْطِ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي " الأُْمِّ ": لاَ يَجُوزُ الْخِيَارُ فِي السَّلَفِ. لَوْ قَال رَجُلٌ لِرَجُلٍ: أَبْتَاعُ مِنْكَ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَنْقُدُكَهَا مِائَةَ صَاعٍ تَمْرًا إِلَى شَهْرٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ بَعْدَ تَفَرُّقِنَا مِنْ مَقَامِنَا الَّذِي تَبَايَعْنَا فِيهِ، أَوْ أَنْتَ بِالْخِيَارِ، أَوْ كِلاَنَا بِالْخِيَارِ، لَمْ يَجُزْ فِيهِ الْبَيْعُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَشَارَطَا الْخِيَارَ ثَلاَثًا فِي بُيُوعِ الأَْعْيَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: أَبْتَاعُ مِنْكَ مِائَةَ صَاعٍ تَمْرًا بِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ يَوْمًا، إِنْ رَضِيتُ أَعْطَيْتُكَ الدَّنَانِيرَ، وَإِنْ لَمْ أَرْضَ
__________
(1) المهذب 1 / 304، روضة الطالبين 4 / 6، فتح العزيز 9 / 224، أسنى المطالب 2 / 124.

(25/197)


فَالْبَيْعُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَفْسُوخٌ، لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ هَذَا بَيْعٌ مَوْصُوفٌ، وَالْبَيْعُ الْمَوْصُوفُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِأَنْ يَقْبِضَ صَاحِبُهُ ثَمَنَهُ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ لأَِنَّ قَبْضَهُ مَا سَلَّفَ فِيهِ قَبْضُ مِلْكٍ، وَهُوَ لَوْ قَبَّضَهُ مَال الرَّجُل عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ لَمْ يَكُنْ قَبْضَ مِلْكٍ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَمْلِكِ الْبَائِعُ مَا دُفِعَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَائِعِ فَلَمْ يُمَلِّكْهُ الْبَائِعُ مَا بَاعَهُ؛ لأَِنَّهُ عَسَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِهِ ثُمَّ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ إِلاَّ مَقْطُوعًا بِلاَ خِيَارٍ " (1) .
وَفِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: (يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاتًّا عَارِيًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا) ؛ لأَِنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الأَْصْل ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْحَال، وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ.
وَمِثْل هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأَْصْل، إِلاَّ أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْل الْقِيَاسِ، خُصُوصًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ،
__________
(1) الأم 3 / 133 (بإشراف محمد زهري النجار) .

(25/198)


وَالسَّلَمُ لَيْسَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْعَيْنِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، وَالسَّلَمُ مَبْنَاهُ عَلَى الْغَبْنِ وَوَكْسِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ، فَوُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ لاَ يَكُونُ وُرُودًا هَاهُنَا دَلاَلَةً، فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْقِيَاسِ.
وَلأَِنَّ قَبْضَهُ رَأْسَ الْمَال مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلاَ صِحَّةَ لِلْقَبْضِ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ. وَمِثْلُهُ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ (1) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا بِجَوَازِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي السَّلَمِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ، بِشَرْطِ أَلاَّ يَتِمَّ فَقْدُ رَأْسِ الْمَال، فَإِنْ فُقِدَ فَسَدَ الْعَقْدُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِتَرَدُّدِ رَأْسِ الْمَال بَيْنَ السَّلَفِيَّةِ وَالثَّمَنِيَّةِ (2) .
هَذَا هُوَ الرَّأْيُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا؛ لأَِنَّ هَذَا التَّأْخِيرَ الْيَسِيرُ فِي حُكْمِ التَّعْجِيل، فَيَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ؛ إِذِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 201، وشرح منتهى الإرادات 2 / 169.
(2) منح الجليل لعليش 3 / 5.

(25/198)


الْعَاقِدَانِ:
13 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِصُدُورِهِ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وِلاَيَةٌ إِذَا كَانَ يَعْقِدُ لِغَيْرِهِ.
أَمَّا الأَْهْلِيَّةُ الْمُشْتَرَطَةُ فَهِيَ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الَّتِي تَعْنِي صَلاَحِيَّةَ الشَّخْصِ لِصُدُورِ الأَْقْوَال مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَتَتَحَقَّقُ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةُ فِي الإِْنْسَانِ الْبَالِغِ الْعَاقِل الرَّشِيدِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ. (ر: أَهْلِيَّة) .
وَأَمَّا الْوِلاَيَةُ الْمَطْلُوبَةُ فِيمَنْ يَعْقِدُ السَّلَمَ عَنْ غَيْرِهِ فَهِيَ كَوْنُهُ مُخَوَّلاً شَرْعًا فِي ذَلِكَ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:
إِمَّا بِالنِّيَابَةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْوَكَالَةِ. وَلاَ بُدَّ فِيهَا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل أَهْلاً لإِِنْشَاءِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ (ر: وَكَالَة) .
وَإِمَّا بِالنِّيَابَةِ الإِْجْبَارِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ، وَتَكُونُ لِمَنْ يَلِي مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ وَالأَْوْصِيَاءِ، الَّذِينَ جُعِلَتْ لَهُمْ سُلْطَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى إِبْرَامِ الْعُقُودِ وَإِنْشَاءِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ لِمَصْلَحَةِ مَنْ يَلُونَهُمْ. - (ر: وِلاَيَة) .

(25/199)


وَكَذَلِكَ شَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي عَقْدِ السَّلَمِ أَلاَّ يَكُونَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ (1) وَجَعَلُوا لِسَلَمِ الْمَرِيضِ أَحْكَامًا خَاصَّةً؛ حِمَايَةً لِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ وَالْوَرَثَةِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ الضَّارَّةِ بِهَا. حَيْثُ إِنَّ السَّلَمَ مَظِنَّةُ الْمُحَابَاةِ لأَِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِهِ.
وَفَرَّقُوا فِي حُكْمِ السَّلَمِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ رَبُّ السَّلَمِ مَرِيضًا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ مَرِيضًا. تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُطَوَّلاَتِ كُتُبِهِمْ (2) .

الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ:
أ - الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْبَدَلَيْنِ مَعًا:
14 - أ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَالْمُسْلَمِ فِيهِ مَالاً مُتَقَوِّمًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُعَدُّ مَالاً مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا. (ر: مَال) .
ب - وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ أَلاَّ يَكُونَ الْبَدَلاَنِ مَالَيْنِ يَتَحَقَّقُ فِي سَلَمِ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ رِبَا
__________
(1) مرض الموت: هو المرض المخوف الذي يتصل بالموت، ولو لم يكن الموت بسببه. (ر: مرض الموت) .
(2) المبسوط للسرخسي 29 / 38، فما بعد و54 و78، والبدائع 7 / 353.

(25/199)


النَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ بِأَلاَّ يَجْمَعَ الْبَدَلَيْنِ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْل، حَيْثُ إِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مُؤَجَّلٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا جَمَعَهُ مَعَ رَأْسِ الْمَال أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْل، تَحَقَّقَ رِبَا النَّسَاءِ فِيهِ، وَكَانَ فَاسِدًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) .
(ر: رِبًا) .
ج - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ بِحَدِّ ذَاتِهَا، وَأَنَّهَا تُحَازُ بِحِيَازَةِ أُصُولِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَهِيَ الأَْعْيَانُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا. وَمِنْ ثَمَّ أَجَازُوا كَوْنَهَا رَأْسَ مَالٍ وَمُسْلَمًا فِيهِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ. وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ قَال رَبُّ السَّلَمِ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ سُكْنَى دَارِي هَذِهِ سَنَةً، أَوْ
__________
(1) القوانين الفقهية (ص273) . وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 215، الخرشي 5 / 206، بداية المجتهد 2 / 227 (ط - دار الكتب الحديثة) . كشاف القناع 3 / 278، بدائع الصنائع 5 / 214، المغني 4 / 331 وما بعدها.
(2) حديث: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) .

(25/200)


خِدْمَتِي شَهْرًا فِي كَذَا إِلَى أَجَل كَذَا، صَحَّ ذَلِكَ السَّلَمُ.
وَلَوْ قَال لَهُ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ عِشْرِينَ دِينَارًا فِي مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي ذِمَّتِكَ إِلَى أَجَل كَذَا، صَحَّ السَّلَمُ.
د - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ كَوْنُ أَيٍّ مِنْ الْبَدَلَيْنِ فِي السَّلَمِ مَنْفَعَةً؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ مَعَ أَنَّهَا مِلْكٌ لاَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً فِي مَذْهَبِهِمْ؛ إِذِ الْمَال عِنْدَهُمْ " مَا يَمِيل إِلَيْهِ طَبْعُ الإِْنْسَانِ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ (1) " وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلإِْحْرَازِ وَالاِدِّخَارِ؛ إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، وَمَا يَحْدُثُ فِيهَا غَيْرُ الَّذِي يَنْتَهِي.
عَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَصِحُّ جَعْل الْمَنَافِعِ بَدَلاً فِي عَقْدِ السَّلَمِ عِنْدَهُمْ (2) . (ر: مَنَافِع) .

ب - شُرُوطُ رَأْسِ مَال السَّلَمِ:
يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي رَأْسِ مَال السَّلَمِ شَرْطَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة (126) .
(2) فتح العزيز للرافعي 9 / 210، شرح الخرشي على خليل 5 / 203، شرح منتهى الإرادات 2 / 360، أسنى المطالب 2 / 123، نهاية المحتاج 4 / 182، 208، روضة الطالبين 4 / 27.

(25/200)


رَأْسِ الْمَال أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ بَدَلٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا، كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَرَأْسُ الْمَال إِمَّا أَنْ يُوصَفَ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ يُعَيَّنَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا عِنْدَ الْعَقْدِ، كَأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا مُشَاهَدًا، ثُمَّ يَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى عَيْنِهِ.
فَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا، فَيَجِبُ أَنْ يَنُصَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ عَلَى جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ.
عَلَى هَذَا، فَإِنْ قَبِل الطَّرَفُ الآْخَرُ، وَجَبَ تَعْيِينُ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَتَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ وَفَاءً بِالْعَقْدِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الإِْشَارَةِ إِلَى رَأْسِ مَال السَّلَمِ الْحَاضِرِ هَل هِيَ كَافِيَةٌ فِي رَفْعِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ، وَاعْتِبَارِهِ مَعْلُومًا، أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْقَدْرِ وَالصِّفَاتِ بِالإِْضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ؟ .
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ تَكْفِي الرُّؤْيَةُ إِذَا كَانَ
__________
(1) رد المحتار 4 / 206، المهذب 1 / 307، القوانين الفقهية لابن جزي (ط - تونس) ص 274، المغني (ط - مكتبة الرياض الحديثة) 4 / 330، أسنى المطالب 2 / 123، 124.

(25/201)


رَأْسُ مَال السَّلَمِ مُعَيَّنًا سَوَاءٌ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيَمِيًّا وَلاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ قَدْرِهِ أَوْ صِفَاتِهِ (1) .
وَوَجْهُ ذَلِكَ " أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَال، وَأَنَّهُ حَصَل بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى إِعْلاَمِ قَدْرِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ إِعْلاَمُ قَدْرِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلاَ فِي السَّلَمِ إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَال مِمَّا لاَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ " (2) .
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: " لاَ يَجِبُ ذِكْرُ صِفَاتِهِ وَمِقْدَارِهِ، لأَِنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ لاَ يَقْتَضِي رَدَّ الْمِثْل، فَوَجَبَ أَنْ تُغْنِيَ الْمُشَاهَدَةُ عَنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ، كَالْمَهْرِ وَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ " (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُ مِقْدَارِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ إِلاَّ بِبَيَانِهَا (4) .
قَال الشِّيرَازِيُّ: " لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَنْفَسِخَ السَّلَمُ بِانْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ
__________
(1) المغني 4 / 331، البدائع 5 / 201، أسنى المطالب 2 / 142، رد المحتار 4 / 207، نهاية المحتاج 4 / 183، مواهب الجليل 4 / 516، التاج والإكليل 4 / 516، العناية على الهداية (الميمنية 1319 هـ) 6 / 221.
(2) بدائع الصنائع 5 / 202.
(3) المهذب 1 / 307.
(4) المغني 4 / 330، شرح منتهى الإرادات 2 / 221، حاشية الرملي على أسنى المطالب 2 / 124، المهذب 1 / 307.

(25/201)


مِقْدَارُهُ وَصِفَتُهُ لَمْ يُعْرَفْ مَا يُرَدُّ " (1) .
وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: (وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ - أَيْ رَأْسِ مَال السَّلَمِ - مَعْلُومَ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلاَ يُؤْمَنُ انْفِسَاخُهُ، فَوَجَبَ مَعْرِفَةُ رَأْسِ مَالِهِ لِيَرُدَّ بَدَلَهُ، كَالْقَرْضِ. فَعَلَى هَذَا لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ بِصُبْرَةٍ مُشَاهَدَةٍ لاَ يَعْلَمَانِ قَدْرَهَا) (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ صِفَاتِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمِيًّا، حَيْثُ إِنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَكْفِي فِي رَفْعِ الْجَهَالَةِ عَنِ الأَْوْصَافِ.
أَمَّا قَدْرُهُ، فَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مِثْلِيًّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِمِقْدَارِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ قِيمِيًّا. فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا - كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالذَّرْعِيَّاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ بَيَانُ الْقَدْرِ، وَلاَ تَكْفِي الْمُشَاهَدَةُ، أَمَّا إِذَا كَانَ قِيمِيًّا فَلاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِهِ، وَتَكْفِي الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ (3) .
__________
(1) المهذب 1 / 307.
(2) كشاف القناع 3 / 291.
(3) فتح القدير والعناية 6 / 221 (مطبعة الميمنية سنة 1319 هـ) ، رد المحتار 4 / 207، (بولاق 1272 هـ) ، الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي 1 / 280، بدائع الصنائع 5 / 202.

(25/202)


(الشَّرْطُ الثَّانِي) تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ السَّلَمِ تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَهُ بَطَل الْعَقْدُ (1) .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
(أَوَّلاً) بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (2) . وَالتَّسْلِيفُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَنَا بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الإِْعْطَاءُ، فَيَكُونُ مَعْنَى كَلاَمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " فَلْيُعْطِ "؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ اسْمُ السَّلَفِ فِيهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَا أَسْلَفَهُ قَبْل أَنْ يُفَارِقَ مَنْ أَسْلَفَهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَال فَإِنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ مُسْلِفٍ شَيْئًا، بَل وَاعِدًا بِأَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 202، الأم 3 / 95 (ط - زهري النجار) ، المهذب 1 / 307، مغني المحتاج 2 / 102، فتح العزيز 9 / 209، كفاية الأخيار 1 / 142، أنيس الفقهاء ص 220، حلية الفقهاء لابن فارس ص 140، شرح منتهى الإرادات 2 / 220، المغني 4 / 328، كشاف القناع 3 / 291، فتح القدير والعناية 5 / 227، (الميمنية 1319 هـ) ، رد المحتار 4 / 208.
(2) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم. . . . ". تقدم تخريجه ف 4.

(25/202)


يُسْلِفَ. قَال الرَّمْلِيُّ: (وَلأَِنَّ السَّلَمَ مُشْتَقٌّ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال، أَيْ تَعْجِيلِهِ، وَأَسْمَاءُ الْعُقُودِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْمَعَانِي لاَ بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ تِلْكَ الْمَعَانِي فِيهَا) (1) .
(ثَانِيًا) بِأَنَّ الاِفْتِرَاقَ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ كَالِئٍ بِكَالِئٍ؛ أَيْ: نَسِيئَةٍ بِنَسِيئَةٍ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
(ثَالِثًا) بِأَنَّ فِي السَّلَمِ غَرَرًا احْتُمِل لِلْحَاجَةِ، فَجُبِرَ ذَلِكَ بِتَعْجِيل قَبْضِ الْعِوَضِ الآْخَرِ، وَهُوَ الثَّمَنُ، كَيْ لاَ يَعْظُمَ الْغَرَرُ فِي الطَّرَفَيْنِ (3) .
(رَابِعًا) بِأَنَّ الْغَايَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمَقْصُودَةَ فِي الْعُقُودِ تُرَتَّبُ آثَارُهَا عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ انْعِقَادِهَا، فَإِذَا تَأَخَّرَ الْبَدَلاَنِ كَانَ الْعَقْدُ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ لِلطَّرَفَيْنِ خِلاَفًا لِحُكْمِهِ الأَْصْلِيِّ، مُقْتَضَاهُ وَغَايَتُهُ، وَمِنْ هُنَا قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ تَأْخِيرِ رَأْسِ الْمَال فِي السَّلَمِ: فَإِنَّ ذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ لِئَلاَّ تَبْقَى ذِمَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَشْغُولَةً بِغَيْرِ فَائِدَةٍ حَصَلَتْ لاَ لَهُ وَلاَ لِلآْخَرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ
__________
(1) حاشية الرملي على أسنى المطالب 2 / 122.
(2) انظر المغني 4 / 54، نظرية العقد لابن تيمية ص 235، نيل الأوطار 5 / 255 وما بعدها، تكملة المجموع للسبكي 10 / 107، الموطأ باب جامع بيع الثمر 2 / 628، 660 (ط - عيسى الحلبي) .
(3) فتح العزيز 9 / 209.

(25/203)


الْعُقُودِ الْقَبْضُ، فَهُوَ عَقْدٌ لَمْ يَحْصُل بِهِ مَقْصُودٌ أَصْلاً، بَل هُوَ الْتِزَامٌ بِلاَ فَائِدَةٍ " (1) .
(خَامِسًا) إِنَّ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَحَسْمُ مَادَّةِ الْفَسَادِ وَالْفِتَنِ. وَإِذَا اشْتَمَلَتِ الْمُعَامَلَةُ عَلَى شَغْل الذِّمَّتَيْنِ، تَوَجَّهَتِ الْمُطَالَبَةُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْخُصُومَاتِ وَالْعَدَاوَاتِ، فَمَنَعَ الشَّرْعُ مَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِ تَعْجِيل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال (2) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ اشْتِرَاطَ قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ قَبْل التَّفَرُّقِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ؛ لأَِنَّ السَّلَمَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا بِدُونِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال، ثُمَّ يَفْسُدُ بِالاِفْتِرَاقِ قَبْل الْقَبْضِ. وَبَقَاءُ الْعَقْدِ صَحِيحًا يَعْقُبُ الْعَقْدَ وَلاَ يَتَقَدَّمُهُ، فَيَصْلُحُ الْقَبْضُ شَرْطًا لَهُ (3) .
وَقَدْ جَاءَ فِي م (387) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: " يُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ صِحَّةِ السَّلَمِ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَفَرَّقَ الْعَاقِدَانِ
__________
(1) نظرية العقد لابن تيمية ص 235.
(2) الفروق للقرافي 3 / 290.
(3) بدائع الصنائع 5 / 203، رد المحتار 4 / 208، وانظر م 555 من مرشد الحيران، البحر الرائق 6 / 177.

(25/203)


قَبْل تَسْلِيمِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ".
وَقَدْ خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ تَعْجِيل رَأْسِ مَال السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ بِشَرْطٍ وَبِغَيْرِ شَرْطٍ، اعْتِبَارًا لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: " مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ "، حَيْثُ إِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا هَذَا التَّأْخِيرَ الْيَسِيرَ مَعْفُوًّا عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ التَّعْجِيل (1) ، وَمِنْ هُنَا قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ (الإِْشْرَافِ) فِي تَعْلِيل جَوَازِ ذَلِكَ التَّأْخِيرِ الْيَسِيرِ: " فَأَشْبَهَ التَّأْخِيرَ لِلتَّشَاغُل بِالْقَبْضِ " (2) .
قَال ابْنُ رُشْدٍ فِي " الْمُقَدِّمَاتِ الْمُمَهِّدَاتِ ": (وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ فَوْقَ الثَّلاَثِ بِشَرْطٍ، فَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ، كَانَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا أَوْ عَرْضًا. فَإِنْ تَأَخَّرَ فَوْقَ الثَّلاَثِ بِغَيْرِ شَرْطٍ لَمْ يُفْسَخْ إِنْ كَانَ عَرْضًا. وَاخْتُلِفَ فِيهِ إِنْ كَانَ عَيْنًا: فَعَلَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ بَابِ
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 220، المقدمات الممهدات لابن رشد ص 516، مواهب الجليل 4 / 514 وما بعدها، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 173، ولعل ذلك مستفاد من أن مالكا في المدونة لم يجعل اليوم واليومين أجلا، كما نقل صاحب التاج والإكليل (4 / 367) عن ابن سراج.
(2) الإشراف على مسائل الخلاف 1 / 280.

(25/204)


السَّلَمِ يَفْسُدُ بِذَلِكَ وَيُفْسَخُ. وَعَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ لاَ يُفْسَخُ إِلاَّ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَوْقَ الثَّلاَثِ بِشَرْطٍ) (1) .
17 - بَقِيَ بَعْدَ هَذَا مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ، وَهِيَ: مَا لَوْ عَجَّل الْمُسْلِمُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ وَأَجَّل الْبَعْضَ الآْخَرَ، فَمَا هُوَ الْحُكْمُ؟ .
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَبْطُل السَّلَمُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، وَيَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَيَصِحُّ فِي الْبَاقِي بِقِسْطِهِ (2) . قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: " وَصَحَّ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ لِوُجُودِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال بِقَدْرِهِ، وَلاَ يَشِيعُ الْفَسَادُ لأَِنَّهُ طَارِئٌ، إِذِ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا فِي الْكُل، وَلِذَا لَوْ نَقَدَ الْكُل قَبْل الاِفْتِرَاقِ صَحَّ " (3)
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ أَنَّهُ يَبْطُل السَّلَمُ فِي الصَّفْقَةِ كُلِّهَا. عَلَّل الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ هَذَا بِأَنَّهُ " مَتَى قَبَضَ
__________
(1) المقدمات الممهدات ص 516، وانظر منح الجليل 3 / 4 و3 / 3.
(2) فتح العزيز 9 / 210، روضة الطالبين 4 / 3، مغني المحتاج 2 / 102، كشاف القناع 3 / 291، البحر الرائق 6 / 178، تأسيس النظر ص 95.
(3) البحر الرائق 6 / 178.

(25/204)


الْبَعْضَ وَأَخَّرَ الْبَعْضَ فَسَدَ؛ لأَِنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ ". أَيْ: ابْتِدَاءُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ (1) .
وَمُسْتَنَدُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الأَْصْل عِنْدَهُ فِي أَبْوَابِ الْمُعَامَلاَتِ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا وَرَدَ الْفَسْخُ عَلَى بَعْضِهِ انْفَسَخَ كُلُّهُ (2) .
18 - وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَجْعَل الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَأْسَ مَال سَلَمٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمَالِكٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ (3) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ فَذَهَبَا إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ إِنْ كَانَ حَالًّا يَجُوزُ جَعْلُهُ رَأْسَ مَال سَلَمٍ، وَحُجَّتُهُمَا عَلَى الْجَوَازِ هُوَ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ - وَهُوَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، أَيْ: الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ - عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمَجْعُول رَأْسَ مَال
__________
(1) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 163.
(2) تأسيس النظر للدبوسي ص 95 (ط - دار الفكر بيروت سنة 1399 هـ) .
(3) رد المحتار 4 / 209، تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 140، فتح العزيز 9 / 212، الشرح الكبير على المقنع 4 / 336، بدائع الصنائع 7 / 3155 (مطبعة الإمام بالقاهرة) ، نهاية المحتاج 4 / 180، شرح منتهى الإرادات 2 / 221.

(25/205)


السَّلَمِ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ مِنْ قَبِيل بَيْعِ الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُعَجَّل؛ وَلِوُجُودِ الْقَبْضِ الْحُكْمِيِّ لِرَأْسِ مَال السَّلَمِ مِنْ قِبَل الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لِكَوْنِهِ حَالًّا فِي ذِمَّتِهِ. فَكَأَنَّ الْمُسْلِمَ - إِذْ جَعَل مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مُعَجِّلاً رَأْسَ مَال السَّلَمِ - قَبَضَهُ مِنْهُ وَرَدَّهُ إِلَيْهِ، فَصَارَ دَيْنًا مُعَجَّلاً مَقْبُوضًا حُكْمًا، فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ؛ وَلأَِنَّ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ عَلَى الْمَنْعِ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمَجْعُول رَأْسَ مَال السَّلَمِ مُؤَجَّلاً فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَلاَ خِلاَفَ لأَِحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَنْعِ ذَلِكَ شَرْعًا، وَأَنَّهُ مِنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ الْمَحْظُورِ، لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إِلَى رِبَا النَّسِيئَةِ.
19 - أَمَّا إِذَا جَعَل رَبُّ السَّلَمِ مَالَهُ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَأْسُ مَال السَّلَمِ، فَهَل يَصِحُّ ذَلِكَ، وَيَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ لِلْعَقْدِ مَنَابَ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ فِي مَجْلِسِهِ، أَمْ لاَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَيَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ؟ .
لِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ: (أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ السَّابِقِ لِلْعَيْنِ الْمَجْعُولَةِ رَأْسَ مَال السَّلَمِ يَنُوبُ عَنِ
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 9.

(25/205)


الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً أَمْ مَضْمُونَةً، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ لِرَأْسِ مَال السَّلَمِ عَنِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ إِذَا كَانَتْ يَدُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ عَلَيْهِ يَدَ ضَمَانٍ لاَ يَدَ أَمَانَةٍ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الْقَبْضُ الْبَدِيل مِثْلُهُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ أَمْكَنَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً - كَيَدِ الْوَكِيل وَالْوَدِيعِ وَالشَّرِيكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّ الْقَبْضَ السَّابِقَ لاَ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِيَصِحَّ عَقْدُ السَّلَمِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْض) .

ج - شُرُوطُ الْمُسْلَمِ فِيهِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ إِذَا جُعِل الْمُسْلَمُ فِيهِ شَيْئًا
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 221، كشاف القناع 3 / 291.
(2) (مجمع الضمانات البغدادي ص 217، الفتاوى الطرطوسية ص 253، بدائع الصنائع 5 / 248.

(25/206)


مُعَيَّنًا بِذَاتِهِ (1) ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، إِذْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِبَيْعِ شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ، وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَمَحَلُّهُ ذِمَّةُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُعَيَّنًا تَعَلَّقَ حَقُّ رَبِّ السَّلَمِ بِذَاتِهِ، وَكَانَ مَحَل الاِلْتِزَامِ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ، لاَ ذِمَّةَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ تَعْيِينُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.
وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا التَّعْيِينَ يَجْعَل السَّلَمَ مِنْ عُقُودِ الْغَرَرِ؛ إِذْ يَنْشَأُ عَنْهُ غُرَرُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَنْفِيذِ الْعَقْدِ فَلاَ يُدْرَى أَيَتِمُّ هَذَا الْعَقْدُ أَمْ يَنْفَسِخُ، حَيْثُ إِنَّ مِنَ الْمُحْتَمَل أَنْ يَهْلِكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ قَبْل حُلُول وَقْتِ أَدَائِهِ، فَيَسْتَحِيل تَنْفِيذُهُ.
وَالْغَرَرُ مُفْسِدٌ لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمُقَرَّرٌ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّ الْوَفَاءَ يَكُونُ بِأَدَاءِ أَيَّةِ عَيْنٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا الأَْوْصَافُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَلاَ يَتَعَذَّرُ تَنْفِيذُ الْعَقْدِ لَوْ تَلِفَ
__________
(1) الهداية مع فتح القدير والعناية (الميمنية 1319 هـ) 6 / 219، القوانين الفقهية (ط - الدار العربية للكتاب) ص 274، مواهب الجليل 4 / 534، بداية المجتهد 2 / 230، روضة الطالبين 4 / 6، نهاية المحتاج 4 / 183.

(25/206)


الْمُسْلَمُ فِيهِ قَبْل تَسْلِيمِهِ؛ إِذْ يَسَعُهُ الاِنْتِقَال عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَمْثَالِهِ (1) .
وَقَدْ رَتَّبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَضَمُّنِ السَّلَمِ غَرَرًا إِذَا عَيَّنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ أَيْلُولَةَ الْعَقْدِ إِلَى السَّلَفِ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا. فَقَال الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْمُمَهِّدَاتِ ": " وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِي الدُّورِ وَالأَْرَضِينَ؛ لأَِنَّ السَّلَمَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِصِفَةٍ، وَلاَ بُدَّ فِي صِفَةِ الدُّورِ وَالأَْرَضِينَ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِذَا ذَكَرَ مَوْضِعَهَا تَعَيَّنَتْ، فَصَارَ السَّلَمُ فِيهَا كَمَنِ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَارَ فُلاَنٍ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَهَا لَهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ الَّذِي لاَ يَحِل وَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي بِكَمْ يَتَخَلَّصُهَا مِنْهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَهَا مِنْهُ، وَمَتَى لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَهَا مِنْهُ رَدَّ إِلَيْهِ رَأْسَ مَالِهِ، فَصَارَ مَرَّةً بَيْعًا وَمَرَّةً سَلَفًا، وَذَلِكَ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا " (2) .
كَمَا بَنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَنْعَ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُعَيَّنًا عَلَى أَسَاسِ أَنَّ السَّلَمَ إِنَّمَا جَازَ شَرْعًا عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَإِذْ عَيَّنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ، فَيُمْكِنُ عِنْدَئِذٍ بَيْعُهُ فِي الْحَال،
__________
(1) كشاف القناع 3 / 292، أسنى المطالب 2 / 124، 130.
(2) المقدمات الممهدات ص 516.

(25/207)


وَلاَ يَكُونُ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى السَّلَمِ، فَيَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الأَْصْلِيُّ وَهُوَ عَدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةِ (1) .
وَلَعَل الْمُسْتَنَدَ النَّصِّيَّ لِوُجُوبِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ، وَعَدَمُ جَوَازِ السَّلَمِ إِذَا تَعَيَّنَ مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَال جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ بَنِي فُلاَنٍ أَسْلَمُوا (لِقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ) وَإِنَّهُمْ قَدْ جَاءُوا، فَأَخَافُ أَنْ يَرْتَدُّوا. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عِنْدَهُ؟ فَقَال رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ: عِنْدِي كَذَا وَكَذَا (لِشَيْءٍ قَدْ سَمَّاهُ) أُرَاهُ قَال: ثَلاَثُمِائَةِ دِينَارٍ، بِسِعْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلاَنٍ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسِعْرِ كَذَا وَكَذَا، إِلَى أَجَل كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلاَنٍ (2) .
21 - وَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْلَمًا فِيهِ مِنَ الأَْمْوَال هُوَ الْمِثْلِيَّاتُ كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 292، شرح منتهى الإرادات 2 / 221.
(2) حديث عبد الله بن سلام: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن بني فلان أسلموا. . . . أخرجه ابن ماجه (2 / 766 - ط الحلبي) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 24 - ط دار الجنان) .

(25/207)


الْمُتَقَارِبَةِ، وَالْقِيمِيَّاتِ الَّتِي تَقْبَل الاِنْضِبَاطَ بِالْوَصْفِ (1) .
قَال الشِّيرَازِيُّ فِي (الْمُهَذَّبِ) : (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي كُل مَالٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَتُضْبَطُ صِفَاتُهُ كَالأَْثْمَانِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالأَْصْوَافِ وَالأَْشْعَارِ وَالأَْخْشَابِ وَالأَْحْجَارِ وَالطِّينِ وَالْفَخَّارِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالْبَلُّورِ وَالزُّجَاجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْوَال الَّتِي تُبَاعُ وَتُضْبَطُ بِالصِّفَاتِ) (2) .
أَمَّا مَا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَاتِهِ مِنَ الأَْمْوَال فَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمُشَاقَّةِ، وَعَدَمُهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا (3) .
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي النُّقُودِ - عَلَى أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال مِنْ غَيْرِهَا
__________
(1) البحر الرائق 6 / 169، شرح منتهى الإرادات 2 / 214، 215، أسنى المطالب 2 / 128، فتح العزيز 9 / 268، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 206، 207، كشاف القناع 3 / 276 وما بعدها، الخرشي 5 / 212 وما بعدها، الإفصاح1 / 363، بداية المجتهد 2 / 229، رد المحتار 4 / 203، المغني 4 / 318، 320.
(2) المهذب 1 / 304.
(3) أسنى المطالب 2 / 130، كشاف القناع 3 / 276، نهاية المحتاج 4 / 195، وبدائع الصنائع 5 / 208.

(25/208)


لِئَلاَّ يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى رِبَا النَّسَاءِ (1) - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " لأَِنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا، فَتَثْبُتُ سَلَمًا كَالْعُرُوضِ، وَلأَِنَّهُ لاَ رِبَا بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ التَّفَاضُل وَلاَ النَّسَاءُ (2) ، فَصَحَّ إِسْلاَمُ أَحَدِهِمَا فِي الآْخَرِ كَالْعَرَضِ فِي الْعَرَضِ " (3) .
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ (4) وَهِيَ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ، وَبِأَنَّ كُل مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسْلَمًا فِيهِ؛ وَلأَِنَّ ضَبْطَهَا بِالصِّفَةِ مُمْكِنٌ بِذِكْرِ نَوْعِ فِضَّتِهَا أَوْ ذَهَبِهَا وَسِكَّتِهَا وَوَزْنِهَا. فَانْتَفَى كُل مَانِعٍ، وَتَوَفَّرَ مَنَاطُ الْجَوَازِ (5) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ نَقْدًا؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُثَمَّنًا، وَالنُّقُودُ أَثْمَانٌ، فَلاَ تَكُونُ مُسْلَمًا فِيهَا (6) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 215، كشاف القناع 3 / 278، المقدمات الممهدات ص 519 أسنى المطالب 2 / 137، الخرشي 5 / 206، منح الجليل 3 / 11، كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليها 2 / 163.
(2) لكون رأس المال عرضا غير نقد.
(3) المغني 4 / 332.
(4) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم ". تقدم تخريجه ف6.
(5) الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي 1 / 281.
(6) رد المحتار 4 / 203، الهداية وفتح القدير والعناية 6 / 206.

(25/208)


وَقَدِ احْتَجَّ الْكَاسَانِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ " أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ " فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ، لِمَا رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ (1) ، سُمِّيَ السَّلَمُ بَيْعًا، فَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعًا، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لاَ تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً، فَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا " (2) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَعُدُّونَ الْمَذْرُوعَاتِ الْمُتَمَاثِلَةَ الآْحَادِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةَ أَوِ الْمُتَسَاوِيَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي تَقْبَل الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا فِي عَقْدِ السَّلَمِ، وَيَصِحُّ كَوْنُهَا مُسْلَمًا فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِيهَا؛ لِلْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا وَهِيَ رَفْعُ الْجَهَالَةِ بِالْمِقْدَارِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّقْدِيرِ هُوَ رَفْعُ الْجَهَالَةِ وَإِمْكَانُ
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم ". قال الزيلعي في نصب الراية (4 / 45 - ط المجلس العلمي) : " غريب بهذا اللفظ ". ثم ذكر أنه مركب من معنى حديثين، وقد تقدما في هذا البحث.
(2) بدائع الصنائع 5 / 212.

(25/209)


التَّسْلِيمِ بِلاَ نِزَاعٍ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِالْعَدِّ وَالذَّرْعِ فِيمَا يُقَدَّرُ بِالْوَحَدَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ الطُّولِيَّةِ أَوْ بِالْعَدَدِ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ بِالْوَزْنِ أَوْ بِالْحَجْمِ فِيمَا يُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ أَوِ الْكَيْل. قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: فَإِنْ قِيل: لِمَ خَصَّ فِي الْحَدِيثِ الْكَيْل وَالْوَزْنَ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِغَلَبَتِهِمَا وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَيْرِهِمَا (1) .

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْلُومًا:
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْلُومًا مُبَيَّنًا بِمَا يَرْفَعُ الْجَهَالَةَ عَنْهُ وَيَسُدُّ الأَْبْوَابَ إِلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ تَسْلِيمِهِ، لأَِنَّهُ بَدَلٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُبَادَلاَتِ الْمَالِيَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِذَاتِهِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَنُصَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ عَلَى جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ تَمْرٌ أَوْ زَيْتٌ. . وَعَلَى نَوْعِهِ إِنْ كَانَ لِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعٍ، بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الرُّزَّ مِنَ النَّوْعِ الأَْمْرِيكِيِّ أَوِ الْبِشَاوَرِيِّ وَنَحْوِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 108.

(25/209)


ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ لِلْجِنْسِ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ النَّوْعِ (1) .
كَمَا اشْتَرَطُوا بَيَانَ قَدْرِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ (2) . . وَبَيَانُ الْقَدْرِ يَتَحَقَّقُ بِكُل وَسِيلَةٍ تَرْفَعُ الْجَهَالَةَ عَنِ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ تَسْلِيمُهُ، وَتُضْبَطُ الْكَمِّيَّةُ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا بِصُورَةٍ لاَ تَدَعُ مَجَالاً لِلْمُنَازَعَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُغْنِي) : (وَيَجِبُ أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمِكْيَالٍ أَوْ أَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ) .
فَإِنْ قَدَّرَهُ بِإِنَاءٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ أَوْ صَنْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَهْلِكُ فَيَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَهَذَا غَرَرٌ لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَقْدُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: " أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي
__________
(1) البدائع 5 / 207، شرح منتهى الإرادات 2 / 216، الخرشي 5 / 213، بداية المجتهد 2 / 230، المغني 4 / 310.
(2) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم ". تقدم تخريجه ف6.
(3) (المغني 4 / 318، نهاية المحتاج 4 / 190، شرح منتهى الإرادات 2 / 218، بداية المجتهد 2 / 229.

(25/210)


الطَّعَامِ لاَ يَجُوزُ بِقَفِيزٍ لاَ يُعْلَمُ عِيَارُهُ، وَلاَ فِي ثَوْبٍ بِذَرْعِ فُلاَنٍ؛ لأَِنَّ الْمِعْيَارَ لَوْ تَلِفَ أَوْ مَاتَ فُلاَنٌ بَطَل السَّلَمُ.
وَإِنْ عَيَّنَ مِكْيَال رَجُلٍ أَوْ مِيزَانَهُ، وَكَانَا مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ جَازَ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِمَا. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفَا لَمْ يَجُزْ " (1) .
هَذَا وَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَجَّحَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) لاَ يَرَوْنَ بَأْسًا فِي اتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَحْدِيدِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِأَيَّةِ وَحْدَةٍ قِيَاسِيَّةٍ عُرْفِيَّةٍ تَضْبِطُهُ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِتَحْدِيدِهِ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِمَا يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ وَالْغَرَرَ، وَإِمْكَانُ تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ، وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِأَيَّةِ وَحْدَةٍ قِيَاسِيَّةٍ عُرْفِيَّةٍ مُنْضَبِطَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَدَّرَاهُ بِأَيِّ قَدْرٍ جَازَ " (3) ، وَيُفَارِقُ بَيْعَ الرِّبَوِيَّاتِ، فَإِنَّ التَّمَاثُل فِيهَا فِي الْمَكِيل كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا شَرْطٌ، وَلاَ يُعْلَمُ هَذَا الشَّرْطُ إِذَا قَدَّرَهَا بِغَيْرِ مِقْدَارِهَا الأَْصْلِيِّ (4) .
__________
(1) المغني 4 / 318، وبدائع الصنائع 5 / 207.
(2) اختار هذه الرواية من الحنابلة موفق الدين ابن قدامة في المغني وابن عبدوس في تذكرته وجزم بها في الوجيز والمنور ومنتخب الأزجي. (انظر كشاف القناع 3 / 285، المغني 4 / 318) .
(3) نهاية المحتاج 4 / 191، بدائع الصنائع 5 / 208، المغني 4 / 318، المهذب 1 / 306.
(4) المغني 4 / 319.

(25/210)


وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَقَالُوا: لاَ يَصِحُّ سَلَمٌ فِي مَكِيلٍ وَزْنًا، وَلاَ فِي مَوْزُونٍ كَيْلاً، " لأَِنَّهُ مَبِيعٌ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الأَْصْل، كَبَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَلأَِنَّهُ قَدَّرَهُ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الأَْصْل، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي مَذْرُوعٍ وَزْنًا " (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْعِبْرَةُ بِعُرْفِ أَهْل الْبَلَدِ الَّذِي جَرَى فِيهِ السَّلَمُ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يُضْبَطَ الْمُسْلَمُ فِيهِ بِالْوَحْدَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي تَعَارَفَ أَهْل الْبَلَدِ وَقْتَ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِهِ بِهَا؛ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي تَقْدِيرِهِ عِنْدَ الْوَفَاءِ. قَال الْخَرَشِيُّ: " يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا بِعَادَةِ بَلَدِ الْعَقْدِ، مِنْ كَيْلٍ فِيمَا يُكَال كَالْحِنْطَةِ، أَوْ وَزْنٍ كَاللَّحْمِ وَنَحْوِهِ، أَوْ عَدَدٍ كَالرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ " (2) .
وَبَيَانُ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ إِنَّمَا يَجْرِي فِي الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي تَخْضَعُ أَنْوَاعُهَا لِلْوَحَدَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَهِيَ الْوَزْنُ أَوِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 218، وانظر كشاف القناع 3 / 285.
(2) التاج والإكليل 4 / 530، الخرشي على خليل 5 / 212.

(25/211)


الْحَجْمُ أَوِ الطُّول أَوِ الْعَدُّ. . أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ آحَادُهَا وَتَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهَا بِحَيْثُ لاَ تَقْبَل التَّقْدِيرَ بِتِلْكَ الْوَحَدَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتُهَا قَابِلَةً لِلاِنْضِبَاطِ، فَعِنْدَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا بِشَرْطِ بَيَانِ صِفَاتِهَا الَّتِي تَتَفَاوَتُ فِيهَا الرَّغَبَاتُ وَيَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِتَفَاوُتِهَا اخْتِلاَفًا ظَاهِرًا. قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: " وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي السَّلَمِ يَكُونُ بِالْوَزْنِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْوَزْنُ وَبِالْكَيْل فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَيْل، وَبِالذَّرْعِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الذَّرْعُ، وَبِالْعَدَدِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ انْضَبَطَ بِالصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْجِنْسِ، مَعَ ذِكْرِ النَّوْعِ إِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، أَوْ مَعَ تَرْكِهِ إِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا " (1) .
وَلاَ يَجِبُ اسْتِقْصَاءُ كُل الصِّفَاتِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ، وَقَدْ يَنْتَهِي الْحَال فِيهَا إِلَى أَمْرٍ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. إِذْ يَبْعُدُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحِل بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كُلِّهَا، فَيَجِبُ الاِكْتِفَاءُ بِالأَْوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهَا غَالِبًا. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: " أَنْ تُبَيَّنَ أَوْصَافُ الْمُسْلَمِ فِيهِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 230.

(25/211)


الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا قِيمَتُهُ عِنْدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ اخْتِلاَفًا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً ". وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنْ صَاحِبِ الشَّامِل " وَأَنْ تُبَيَّنَ صِفَاتُهُ الْمَعْلُومَةُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ تَخْتَلِفُ بِهَا عَادَةً أَوْ تَخْتَلِفُ الأَْغْرَاضُ بِسَبَبِهَا " (1) .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُؤَجَّلاً:
23 - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمَ فِيهِ مُؤَجَّلاً فَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ الْحَال (2) ، وَحُجَّتُهُمْ فِي اشْتِرَاطِ الأَْجَل: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (3) فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالأَْجَل فِي السَّلَمِ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَيَكُونُ الأَْجَل مِنْ جُمْلَةِ
__________
(1) المغني 4 / 311، شرح الخرشي 5 / 213، مواهب الجليل 4 / 531.
(2) القوانين الفقهية ص 274، البدائع 5 / 212، المقدمات الممهدات ص 515، المغني 4 / 321، كفاية الطالب الرباني 2 / 163، البحر الرائق 6 / 174، المنتقى للباجي 4 / 297، الهادية مع فتح القدير والعناية 6 / 217، شرح منتهى الإرادات 2 / 218.
(3) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم. . . ". تقدم تخريجه ف6.

(25/212)


شُرُوطِ صِحَّةِ السَّلَمِ، فَلاَ يَصِحُّ بِدُونِهِ.
وَلأَِنَّ السَّلَمَ جُوِّزَ رُخْصَةً لِلرِّفْقِ، وَلاَ يَحْصُل الرِّفْقُ إِلاَّ بِالأَْجَل، فَإِذَا انْتَفَى الأَْجَل انْتَفَى الرِّفْقُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُسْلِفَ يَرْغَبُ فِي تَقْدِيمِ الثَّمَنِ لاِسْتِرْخَاصِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَالْمُسْلَمُ إِلَيْهِ يَرْغَبُ فِيهِ لِمَوْضِعِ النَّسِيئَةِ، وَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الأَْجَل زَال هَذَا الْمَعْنَى (1) .
قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: " وَلأَِنَّ السَّلَمَ مَعْنَاهُ السَّلَفُ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَأْسُ الْمَال وَيَتَأَخَّرَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَوَجَبَ مَنْعُ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ ذَلِكَ " (2) .
وَلأَِنَّ السَّلَمَ الْحَال يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لأَِنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُ بِالتَّسْلِيمِ، فَيَتَنَازَعَانِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ فِيهِ الْحَاجَةُ إِلَى الْفَسْخِ. وَفِيهِ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِرَبِّ السَّلَمِ؛ لأَِنَّهُ سَلَّمَ رَأْسَ الْمَال إِلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ وَصَرَفَهُ فِي حَاجَتِهِ، فَلاَ يَصِل إِلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلاَ إِلَى رَأْسِ الْمَال، فَشُرِطَ الأَْجَل حَتَّى لاَ يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ إِلاَّ بَعْدَ حُلُول الأَْجَل، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ
__________
(1) الإشراف على مسائل الخلاف 1 / 280، وانظر المغني 4 / 321.
(2) بداية المجتهد 2 / 228.

(25/212)


ظَاهِرًا، فَلاَ يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْفَسْخِ وَالإِْضْرَارِ بِرَبِّ السَّلَمِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ السَّلَمِ الْحَال كَمَا هُوَ جَائِزٌ مُؤَجَّلاً، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ حَالًّا، الْقِيَاسُ الأَْوْلَوِيُّ عَلَى السَّلَمِ الْمُؤَجَّل (2) ، قَال الشِّيرَازِيُّ: " لأَِنَّهُ إِذَا جَازَ مُؤَجَّلاً، فَلأََنْ يَجُوزَ حَالًّا، وَهُوَ عَنِ الْغَرَرِ أَبْعَدُ، أَوْلَى " (3) . وَمُرَادُهُمْ أَنَّ فِي الأَْجَل ضَرْبًا مِنَ الْغَرَرِ؛ إِذْ رُبَّمَا يَقْدِرُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَال، وَيَعْجِزُ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل. فَإِذَا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلاً، فَهُوَ حَالًّا أَحْرَى بِالْجَوَازِ؛ لأَِنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْغَرَرِ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي (الأُْمِّ) : " فَإِذَا أَجَازَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الطَّعَامِ بِصِفَةٍ إِلَى أَجَلٍ، كَانَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِصِفَةٍ حَالًّا أَجْوَزَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَيْعِ مَعْنًى إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِصِفَةٍ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِذَا ضَمِنَ مُؤَخَّرًا ضَمِنَ مُعَجَّلاً، وَكَانَ مُعَجَّلاً أَضْمَنَ مِنْهُ مُؤَخَّرًا، وَالأَْعْجَل أَخْرَجُ مِنْ مَعْنَى الْغَرَرِ، وَهُوَ مُجَامِعٌ لَهُ فِي أَنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ عَلَى بَائِعِهِ بِصِفَةٍ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 212.
(2) نهاية المحتاج 4 / 185، أسنى المطالب 2 / 124، فتح العزيز 9 / 226، روضة الطالبين 4 / 7.
(3) المهذب 1 / 304.
(4) الأم 3 / 95 (تصحيح محمد زهري النجار) .

(25/213)


أَقَل مُدَّةِ الأَْجَل فِي السَّلَمِ:
24 - مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ - عَدَا الشَّافِعِيَّةَ - اتَّفَقُوا لِصِحَّةِ السَّلَمِ عَلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُؤَجَّلاً، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الأَْجَل الأَْدْنَى الَّذِي لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ بِأَقَل مِنْهُ وَذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ تَقْدِيرَ الأَْجَل إِلَى الْعَاقِدَيْنِ حَتَّى لَوْ قَدَّرَا نِصْفَ يَوْمٍ جَازَ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: أَقَلُّهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَ بِالشَّهْرِ قَال فِي الْبَدَائِعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ (لأَِنَّ الأَْجَل إِنَّمَا شُرِطَ فِي السَّلَمِ تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الاِكْتِسَابِ فِي الْمُدَّةِ. وَالشَّهْرُ مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الاِكْتِسَابِ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّرْفِيهِ. فَأَمَّا مَا دُونَهُ فَفِي حَدِّ الْقِلَّةِ، فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْحُلُول) (1) .
ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ أَقَلَّهُ مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الأَْسْوَاقُ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 213، وانظر فتح القدير (الميمنية 1319 هـ) 6 / 219، رد المحتار 4 / 206.

(25/213)


كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنَحْوِهَا. وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ (1) .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُجَوِّزُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لاَ بَأْسَ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ الْوَاحِدِ (2) .
قَال الْبَاجِيُّ - بَعْدَ عَرْضِ هَذِهِ الأَْقْوَال - " إِذَا ثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ، فَاَلَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ إِنَّ تَغَيُّرَ الأَْسْوَاقِ فِي ذَلِكَ لاَ يَخْتَصُّ بِمُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى حَسَبِ عُرْفِ الْبِلاَدِ. وَمَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَر، إِنَّمَا قَدَّرَ عَلَى عُرْفِ بَلَدِهِ. وَتَقْدِيرُ ابْنِ الْقَاسِمِ ذَلِكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ عِشْرِينَ أَظْهَرُ، لأَِنَّ هَذَا عُرْفُ الْبِلاَدِ، وَمُقْتَضَى مَا عُلِمَ مِنْ أَسْوَاقِهَا، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ تَغَيُّرُهَا فِي مِثْل هَذِهِ الْمُدَّةِ " (3) .
ج - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مِنْ شَرْطِ الأَْجَل أَنْ
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 210، القوانين الفقهية ص 274، بداية المجتهد 2 / 228، المقدمات الممهدات ص 517.
(2) بداية المجتهد 2 / 228، المنتقى للباجي 4 / 297، وقد ذكر الباجي وابن رشد أن محل هذا الخلاف عند المالكية فيما إذا كان قضاء المسلم فيه البلد الذي عقد فيه السلم. أما إذا كان المسلم فيه يقتضى بغير بلد السلم، فإن أدنى الأجل عندهم هو مدة قطع المسافة التي بين البلدين قلت أو كثرت. وانظر شرح الخرشي 5 / 211.
(3) المنتقى للباجي 4 / 298.

(25/214)


يَكُونَ مُدَّةً لَهَا وَقْعٌ فِي الثَّمَنِ عَادَةً، كَالشَّهْرِ وَمَا قَارَبَهُ؛ لأَِنَّ الأَْجَل إِنَّمَا اعْتُبِرَ لِتَحْقِيقِ الرِّفْقِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ شُرِعَ السَّلَمُ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ بِالْمُدَّةِ الَّتِي لاَ أَثَرَ لَهَا فِي الثَّمَنِ (1) .

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الأَْجَل مَعْلُومًا:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْلُومِيَّةَ الأَْجَل الَّذِي يُوَفَّى فِيهِ الْمُسْلَمُ فِيهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّلَمِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (2) فَقَدْ أَوْجَبَ مَعْلُومِيَّةَ الأَْجَل (3) .
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ " إِنْ كَانَ الأَْجَل مَجْهُولاً فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً أَوْ مُتَقَارِبَةً؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلأَِنَّ جَهَالَةَ الأَْجَل مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ، كَجَهَالَةِ الْقَدْرِ " (4) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 218، المغني 4 / 323، كشاف القناع 3 / 285.
(2) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم. . . . ". تقدم تخريجه ف 6.
(3) الخرشي 5 / 210، المغني 4 / 321، شرح منتهى الإرادات 2 / 218، القوانين الفقهية ص 274 (ط - الدار العربية للكتاب) ، المقدمات الممهدات ص 515، نهاية المحتاج 4 / 186، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 218، روضة الطالبين 4 / 7.
(4) بدائع الصنائع 5 / 213.

(25/214)


وَيَتِمُّ الْعِلْمُ بِالأَْجَل بِتَقْدِيرِ مُدَّتِهِ بِالأَْهِلَّةِ نَحْوِ أَوَّل شَهْرِ رَجَبٍ أَوْ أَوْسَطِ مُحَرَّمٍ أَوْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ، أَوْ بِتَحْدِيدِهِ بِالشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ مِثْل أَوَّل شُبَاطَ وَآخِرُ آذَارَ أَوْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ. أَوْ بِتَحْدِيدِ وَقْتِ مَحِل الْمُسْلَمِ فِيهِ، كَأَنْ يُقَال: بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ سَنَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَيُنْظَرُ صُوَرُ مَعْلُومِيَّةِ الأَْجَل فِي مُصْطَلَحِ (أَجَل ف 71 - 80) .

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ مَحِلِّهِ:
26 - وَمُقْتَضَى هَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَاجِبُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الأَْجَل، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُهُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ حِينَذَاكَ، وَإِلاَّ كَانَ مِنَ الْغَرَرِ الْمَمْنُوعِ (2) .
__________
(1) المغني 4 / 324، نهاية المحتاج 4 / 187، روضة الطالبين 4 / 8.
(2) فتح العزيز 9 / 243، كشاف القناع 3 / 290، كفاية الطالب الرباني 2 / 162، المحلى 9 / 114، روضة الطالبين 4 / 11، شرح الخرشي 5 / 218، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 213، المنتقى للباجي 4 / 300، المهذب 1 / 305.

(25/215)


فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي ثَمَرٍ إِلَى أَجَلٍ لاَ يَعْلَمُ وُجُودَ ذَلِكَ الثَّمَرِ فِيهِ، أَوْ لاَ يُوجَدُ فِيهِ إِلاَّ نَادِرًا، كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي ثِمَارِ نَخْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ ثِمَارِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُغْنِي) : " الشَّرْطُ الْخَامِسُ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَامَّ الْوُجُودِ فِي مَحِلِّهِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ الأَْجَل، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامَّ الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِل بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ ".
فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، كَبَيْعِ الآْبِقِ، بَل أَوْلَى. فَإِنَّ السَّلَمَ احْتُمِل فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ. فَلاَ يُحْتَمَل فِيهِ غَرَرٌ آخَرُ؛ لِئَلاَّ يَكْثُرَ الْغَرَرُ فِيهِ " (1) .

27 - أَمَّا وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ السَّلَمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَعْدُومِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَفِيمَا يَنْقَطِعُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ قَبْل حُلُول الأَْجَل (2) .
__________
(1) المغني 4 / 325.
(2) فتح العزيز 9 / 245، المنتقى للباجي 4 / 300، المغني 4 / 326، شرح منتهى الإرادات 2 / 220 المقدمات الممهدات ص 513، القوانين الفقهية ص 274، بداية المجتهد 2 / 229، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1 / 279.

(25/215)


وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِي الثَّمَرِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ، فَقَال: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (1) . فَلَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَذَكَرَهُ وَلَنَهَاهُمْ عَنِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثِ؛ لأَِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الثَّمَرَ لاَ يَبْقَى طُول هَذِهِ الْمُدَّةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّسْلِيمَ قَبْل حُلُول الأَْجَل غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَلاَ يَلْزَمُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ إِذْ لاَ فَائِدَةَ لِوُجُودِهِ حِينَئِذٍ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَقَالُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ السَّلَمِ إِلاَّ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الأَْسْوَاقِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى مَحِل الأَْجَل دُونَ انْقِطَاعٍ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِأَنَّ الأَْجَل يَبْطُل بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَيَجِبُ أَخْذُ الْمُسْلَمِ
__________
(1) الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة. . . . . تقدم تخريجه ف6.
(2) الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 213، المغني 4 / 326، البحر الرائق 6 / 172، وبدائع الصنائع 5 / 211.

(25/216)


فِيهِ مِنْ تَرِكَتِهِ. فَاشْتُرِطَ لِذَلِكَ دَوَامُ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِتَدُومَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ هَذَا الشَّرْطُ، وَمَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْل أَنْ يَحِل الأَْجَل فَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. فَيَئُول ذَلِكَ إِلَى الْغَرَرِ (1) .

الشَّرْطُ السَّادِسُ: تَعْيِينُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ:
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ مَكَانِ إِيفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ عَلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ.
أ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلَمِ فِيهِ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، أَيْ: لاَ يَحْتَاجُ نَقْلُهُ إِلَى كُلْفَةِ وَسِيلَةِ نَقْلٍ وَأُجْرَةِ حَمَّالٍ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ صَاحِبَيْهِ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ مَكَانِ الإِْيفَاءِ. فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ إِيفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ
__________
(1) الدر المختار وحاشية رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 206، البحر الرائق 6 / 172، والمقدمات الممهدات ص 513.
(2) وهذا الحكم لا خلاف فيه بين الإمام والصاحبين، وفي هذه الحالة يكون للمسلم إليه أن يوفيه حيث شاء كما صحح الحصكفي في الدر المختار، وصحح ابن كمال أن الوفاء يكون في مكان العقد. (الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 207) .

(25/216)


وَاجِبٍ فِي الْحَال، فَلاَ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ مَوْضِعًا لِلتَّسْلِيمِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بَقِيَ مَجْهُولاً جَهَالَةً مُفْضِيَةً إِلَى الْمُنَازَعَةِ لاِخْتِلاَفِ الْقِيَمِ بِاخْتِلاَفِ الأَْمَاكِنِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ دَفْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَصَارَ كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِهِ، وَيُسَلِّمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ مَكَانَهُ مَوْضِعُ الاِلْتِزَامِ، فَيَتَعَيَّنُ لإِِيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ، كَمَوْضِعِ الاِسْتِقْرَاضِ وَالاِسْتِهْلاَكِ وَكَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِعَيْنِهَا (1) .
ب - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ وَلَكِنَّهُ يُفَضَّل (2) . جَاءَ فِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ لاِبْنِ جُزَيٍّ " الأَْحْسَنُ اشْتِرَاطُ مَكَانِ الدَّفْعِ. . . فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنَا فِي الْعَقْدِ مَكَانًا فَمَكَانُ الْعَقْدِ، وَإِنْ عَيَّنَاهُ تَعَيَّنَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَهُ بِغَيْرِ الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ، وَيَأْخُذُ كِرَاءَ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ، لأَِنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الأَْجَلَيْنِ " (3) .
ج - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 176، رد المحتار 4 / 207، بدائع الصنائع 5 / 213، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 221 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد 2 / 229، المنتقى للباجي 4 / 299، وذلك لزوال التخاصم بين العاقدين، وليكون دخولهما على معلوم ".
(3) القوانين الفقهية ص 275.

(25/217)


يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ بَيَانُ مَكَانِ تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إِذَا كَانَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لاَ يَصْلُحُ لِلتَّسْلِيمِ كَالصَّحْرَاءِ، أَوْ كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ. فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ بِمَكَانٍ يَصْلُحُ لِلتَّسْلِيمِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِحَمْل الْمُسْلَمِ فِيهِ مُؤْنَةٌ فَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ بِدَلاَلَةِ الْعُرْفِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُؤَجَّلاً. أَمَّا السَّلَمُ الْحَال فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُ مَكَانِ الْوَفَاءِ، وَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ (1) .
قَالُوا: وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ تَعْيِينِهِ فِي الْمُؤَجَّل إِذَا كَانَ الْمَكَانُ لاَ يَصْلُحُ لِلتَّسْلِيمِ، اخْتِلاَفُ الأَْغْرَاضِ وَتَفَاوُتُهَا فِي الأَْمْكِنَةِ، فَوَجَبَ بَيَانُهُ كَمَا هُوَ الأَْمْرُ فِي الأَْوْصَافِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ فَلأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلاَفِ الْمَكَانِ الَّذِي سَيُسَلَّمُ فِيهِ، كَالصِّفَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلاَفِهَا، بِخِلاَفِ مَا لَيْسَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ بَيَانُهُ لأَِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ ثَمَنُهُ بِاخْتِلاَفِهَا، فَلَمْ يَجِبْ بَيَانُهُ كَالصِّفَاتِ الَّتِي لاَ يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلاَفِهَا (2) .
د - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 128، روضة الطالبين 4 / 12، 13، فتح العزيز 9 / 251 وما بعدها، المهذب 1 / 307.
(2) المهذب 1 / 307، أسنى المطالب 2 / 127.

(25/217)


مَكَانِ الإِْيفَاءِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْهُ (1) فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ. وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ، كَبُيُوعِ الأَْعْيَانِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لاَ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ فِيهِ كَمَوْضِعٍ لِلْعَرَاءِ وَبَحْرٍ وَجَبَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ لِتَعَذُّرِ الْوَفَاءِ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ مَحِل التَّسْلِيمِ مَجْهُولاً، فَاشْتُرِطَ تَعْيِينُهُ بِالْقَوْل كَالأَْجَل (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى السَّلَمِ وَالْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ:
أ - انْتِقَال الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ:
29 - إِذَا قَبَضَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَال كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِكُل التَّصَرُّفَاتِ السَّائِغَةِ شَرْعًا؛ لأَِنَّهُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ.
أَمَّا الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَرَغْمَ كَوْنِهِ أَصْبَحَ دَيْنًا لِلْمُسْلِمِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، إِلاَّ أَنَّ مَلَكِيَّتَهُ لَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ قَال السُّيُوطِيُّ فِي (الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ) : " جَمِيعُ الدُّيُونِ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِهَا وَقَبْضِ الْمُقَابِل لَهَا مُسْتَقِرَّةٌ إِلاَّ دَيْنًا وَاحِدًا، هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَزِمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَإِنَّمَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) في حديثه " من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ".
(2) كشاف القناع 3 / 292، شرح منتهى الإرادات 2 / 221، وانظر المغني 4 / 333.

(25/218)


بِصَدَدِ أَنْ يَطْرَأَ انْقِطَاعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ " (1) .

ب - التَّصَرُّفُ فِي دَيْنِ السَّلَمِ قَبْل قَبْضِهِ:
30 - بِنَاءً عَلَى كَوْنِ دَيْنِ السَّلَمِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوِ الاِسْتِبْدَال عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَامْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلاَ يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ (2) . قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَلاَّ يَبِيعَ الْمُسْلِمُ دَيْنَ السَّلَمِ لاَ مِنْ صَاحِبٍ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ (3) ، هَذَا فِي الْبَيْعِ أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فَفِيهَا خِلاَفٌ.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 326.
(2) حديث: " من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ". أخرجه ابن ماجه (2 / 766 - ط الحلبي) والدارقطني (3 / 45 - ط دار المحاسن) من حديث أبي سعيد واللفظ للدارقطني. وضعف ابن حجر راويه عن أبي سعيد، ونقل عن جمع من العلماء أنهم أعلوا الحديث بالضعف والاضطراب. كذا في التلخيص الحبير (3 / 25 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) رد المحتار 4 / 166، 209، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 118، أسنى المطالب 2 / 84، الأم (ط - زهري النجار) 3 / 133، نهاية المحتاج 4 / 87، المهذب 1 / 270، فتح العزيز 8 / 432، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 500، 503، 506، المغني 4 / 334، المبدع 4 / 197، شرح منتهى الإرادات 2 / 222.

(25/218)


قَال الْحَنَفِيَّةُ: " لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ لِرَبِّ السَّلَمِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ بِنَحْوِ بَيْعٍ وَشَرِكَةٍ وَمُرَابَحَةِ تَوْلِيَةٍ، وَلَوْ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ " (1) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: " لاَ يَجُوزُ اسْتِبْدَال الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، بِأَنْ يَأْخُذَ رَبُّ السَّلَمِ مَكَانَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَهُوَ مَبِيعٌ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُول قَبْل الْقَبْضِ. . وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لِوُجُودِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ مَعَ شَرَائِطِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِهِ. . . وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لأَِنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ - أَيُّ دَيْنٍ كَانَ - جَائِزٌ " (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: " وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ الاِسْتِبْدَال عَنْهُ، وَهَل تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِهِ بِأَنْ يُحِيل الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلاَفٍ، أَوِ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُحِيل الْمُسْلِمُ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلاَفٍ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ؟ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لاَ. وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ بِهِ " (3) .
__________
(1) انظر رد المحتار 4 / 209، كشاف القناع 3 / 293.
(2) بدائع الصنائع 5 / 214.
(3) المجموع شرح المهذب 9 / 273.

(25/219)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: " لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ وَلَوْ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ. . . وَلاَ يَصِحُّ أَخْذُ غَيْرِهِ، أَيْ: الْمُسْلَمِ فِيهِ مَكَانَهُ. . . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَهُ فِي الْقِيمَةِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ. وَلاَ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ - أَيْ بِدَيْنِ السَّلَمِ - لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، فَلَمْ تَجُزْ كَالْبَيْعِ. وَلاَ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ، وَالسَّلَمُ عُرْضَةٌ لِلْفَسْخِ " (1) .
31 - وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ حَيْثُ أَجَازَا بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ بِثَمَنِ الْمِثْل أَوْ دُونَهُ لاَ أَكْثَرَ مِنْهُ حَالًّا. وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: " إِذَا أَسْلَفْتَ فِي شَيْءٍ إِلَى أَجَلٍ، فَإِنْ أَخَذْتَ مَا أَسْلَفْتَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَخُذْ عِوَضًا أَنْقَصَ مِنْهُ، وَلاَ تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ (3) .
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مِنَ الْمَدِينِ أَوِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 293.
(2) مختصر الفتاوى العصرية لابن تيمية ص 345، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 503، 504، 518، 519 تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته لابن القيم 5 / 111 وما بعدها.
(3) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته 5 / 113.

(25/219)


الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِسِعْرِ الْمِثْل أَوْ دُونَهُ هُوَ عَدَمُ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، حَيْثُ إِنَّ حَدِيثَ مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ ضَعِيفٌ لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ (1) . وَحَتَّى لَوْ ثَبَتَ فَمَعْنَى فَلاَ يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ أَيْ: لاَ يَصْرِفُهُ إِلَى سَلَمٍ آخَرَ، أَوْ لاَ يَبِعْهُ بِمُعَيَّنٍ مُؤَجَّلٍ. . وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَل النِّزَاعِ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: " فَثَبَتَ أَنَّهُ لاَ نَصَّ فِي التَّحْرِيمِ وَلاَ إِجْمَاعَ وَلاَ قِيَاسَ، وَأَنَّ النَّصَّ وَالْقِيَاسَ يَقْتَضِيَانِ الإِْبَاحَةَ (2) .
أَمَّا دَلِيلُهُمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ فَلأَِنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَنْتَقِل إِلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِزِيَادَةٍ، فَقَدْ رَبِحَ رَبُّ السَّلَمِ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ (3) .
32 - وَنَهَجَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَضِيَّةِ مَسْلَكًا
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر: " وفيه عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف. وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب ". (التلخيص الحبير 3 / 25) .
(2) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته 5 / 117.
(3) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن ". ورد ذلك من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: " لا يحل سلف ولا بيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (3 / 527 - ط الحلبي) . وقال: " حديث حسن صحيح ".

(25/220)


وَسَطًا، إِذْ أَجَازُوا بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِغَيْرِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ طَعَامًا فَقَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: " وَأَمَّا بَيْعُ السَّلَمِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ بِكُل شَيْءٍ يَجُوزُ بِهِ التَّبَايُعُ، مَا لَمْ يَكُنْ طَعَامًا؛ لأَِنَّهُ يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ " (1) .
أَمَّا الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، أَوْ بَيْعُهُ مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَقَدْ أَجَازُوهُ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ، بَيَّنَهَا الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: " يَجُوزُ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ السَّلَمَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، سَوَاءٌ حَل الأَْجَل أَمْ لاَ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُبَاعُ قَبْل قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي حَيَوَانٍ، فَأَخَذَ عَنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ دَرَاهِمَ؛ إِذْ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ قَبْل قَبْضِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يُبَاعُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبٍ مَثَلاً، فَأَخَذَ عَنْهُ طَسْتَ نُحَاسٍ؛ إِذْ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّسْتِ بِالثَّوْبِ يَدًا بِيَدٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُسْلَمَ فِيهِ رَأْسُ الْمَال. كَمَا لَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي حَيَوَانٍ، فَأَخَذَ عَنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ ثَوْبًا، فَإِنَّ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 231.

(25/220)


ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ الدَّرَاهِمَ فِي الثَّوْبِ " (1) .
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: " مَنْ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ غَيْرَ طَعَامٍ، وَلاَ أَنْ يَأْخُذَ طَعَامًا مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الأَْجَل أَوْ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ. فَإِنْ أَسْلَمَ فِي غَيْرِ طَعَامٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَهُ إِذَا قَبَّضَهُ الْجِنْسَ الآْخَرَ مَكَانَهُ.
فَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ لِمَصِيرِهِ إِلَى الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ طَعَامًا مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مَعَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ كَزَبِيبٍ أَبْيَضَ عَنْ أَسْوَدَ، إِلاَّ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ مِنَ الآْخَرِ أَوْ أَدْنَى، فَيَجُوزُ بَعْدَ الأَْجَل؛ لأَِنَّهُ مِنَ الرِّفْقِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَلاَ يَجُوزُ قَبْلَهُ؛ لأَِنَّهُ فِي الدُّونِ وُضِعَ عَلَى التَّعْجِيل، وَفِي الأَْجْوَدِ عِوَضٌ عَنِ الضَّمَانِ " وَقَال بَعْدَ ذَلِكَ: " يَجُوزُ بَيْعُ الْعِوَضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ مِنْ بَائِعِهِ بِمِثْل ثَمَنِهِ أَوْ أَقَل لاَ أَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي الأَْكْثَرِ بِسَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ بِالْمِثْل وَأَقَل وَأَكْثَرَ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ بِالتَّأْخِيرِ لِلْغَرَرِ؛ لأَِنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ الأَْوَّل نَقْدًا لَجَازَ " (2) .
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 227.
(2) القوانين الفقهية (ط - الدار العربية للكتاب بتونس) ص 274، 275.

(25/221)


ج - إِيفَاءُ الْمُسْلَمِ فِيهِ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَل أَجَل السَّلَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِيفَاءُ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ.
فَإِنْ جَاءَ بِهِ وَفْقَ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ قَبُولُهُ (1) " لأَِنَّهُ أَتَاهُ بِحَقِّهِ فِي مَحِلِّهِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ، كَالْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
فَإِنْ أَبَى قِيل لَهُ: إِمَّا أَنْ تَقْبِضَ حَقَّكَ، وَإِمَّا أَنْ تُبَرِّئَ مِنْهُ. فَإِنِ امْتَنَعَ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ لِلْمُسْلِمِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْحَاكِمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ بِوِلاَيَتِهِ (2) .
أَمَّا قَبْل حُلُول الأَْجَل، فَلاَ يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ مُطَالَبَةُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِالدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ (3) .
وَلَكِنْ إِذَا أَتَى بِهِ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْل الأَْجَل، وَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُ مِنْ قَبُولِهِ، فَهَل يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ أَمْ لاَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 29، 30.
(2) المغني 4 / 339، وانظر كشاف القناع 3 / 288 وما بعدها.
(3) روضة الطالبين 4 / 30.

(25/221)


أ - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَتَى بِهِ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْل مَحِلِّهِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ:
فَإِنْ كَانَ مِمَّا فِي قَبْضِهِ قَبْل مَحِلِّهِ ضَرَرٌ - عَلَى الْمُسْلِمِ - إِمَّا لِكَوْنِهِ مِمَّا يَتَغَيَّرُ، كَالْفَاكِهَةِ، وَالأَْطْعِمَةِ كُلِّهَا، أَوْ كَانَ قَدِيمُهُ دُونَ حَدِيثِهِ، كَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمِ الْمُسْلِمَ قَبُولُهُ؛ لأَِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي تَأْخِيرِهِ، بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى أَكْلِهِ أَوْ إِطْعَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ تَلَفَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ. وَهَذَا إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى مُؤْنَةٍ، كَالْقُطْنِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ مَخُوفًا يَخْشَى نَهْبُ مَا يَقْبِضُهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الأَْخْذُ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال كُلِّهَا؛ لأَِنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي قَبْضِهِ، وَلَمْ يَأْتِ مَحَل اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، فَجَرَى مَجْرَى نَقْصِ صِفَةٍ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ. بِأَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يَتَغَيَّرُ، كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الزَّيْتُ وَالْعَسَل، وَلاَ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ لِخَوْفٍ وَلاَ تَحَمُّل مُؤْنَةٍ، فَعَلَيْهِ قَبْضُهُ؛ لأَِنَّ غَرَضَهُ حَاصِلٌ مَعَ زِيَادَةِ تَعْجِيل الْمَنْفَعَةِ،

(25/222)


فَجَرَى مَجْرَى زِيَادَةِ الصِّفَةِ وَتَعْجِيل الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ غَرَضٌ فِي الاِمْتِنَاعِ وَكَانَ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ غَرَضٌ آخَرُ سِوَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ رَهْنٌ أَوْ كَفِيلٌ أُجْبِرَ الْمُسْلِمُ عَلَى الْقَبُول عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِلاَّ فَقَوْلاَنِ أَصَحُّهُمَا يُجْبَرُ (1) .
ب - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: " إِذَا دَفَعَ الْمُسْلَمَ فِيهِ قَبْل الأَْجَل، جَازَ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ. وَأَلْزَمَ الْمُتَأَخِّرُونَ قَبُولَهُ فِي الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ " (2) .
34 - وَلَوْ أَحْضَرَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الدَّيْنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ بَعْدَ مَحِل الأَْجَل. فَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَلْزَمُهُ قَبْضُهُ، كَمَا لَوْ أَحْضَرَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ الْمُعَيَّنَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: " اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبْضُهُ، مِثْل أَنْ يُسْلِمَ فِي قَطَائِفِ الشِّتَاءِ (4)
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 339، وانظر روضة الطالبين 4 / 30، شرح منتهى الإرادات 2 / 219.
(2) القوانين الفقهية ص 275، وانظر بداية المجتهد 2 / 232، المنتقى للباجي 4 / 304، المدونة 9 / 43.
(3) المغني 4 / 339، شرح منتهى الإرادات 2 / 219، كشاف القناع 3 / 288.
(4) جمع قطيفة: وهي دثار مخمل.

(25/222)


فَيَأْتِي بِهَا فِي الصَّيْفِ، وَقَال ابْنُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةٌ: لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ (1) .
وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ مَنْشَأَ الْخِلاَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُلْزِمْهُ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الأَْجَل رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُرُوضِ إِنَّمَا كَانَ وَقْتَ الأَْجَل لاَ غَيْرَهُ. أَمَّا مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ وَأَلْزَمَهُ بِقَبْضِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ (2) .
أَمَّا إِذَا أَتَى الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فِي مَحِلِّهِ عَلَى غَيْرِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ أَحْضَرَهُ بِجِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، وَلَكِنْ عَلَى صِفَةٍ دُونَ صِفَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ جَازَ لِلْمُسْلِمِ قَبُولُهُ، لَكِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَخْذُهُ.
وَإِنْ أَحْضَرَهُ بِجِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، وَبِصِفَةٍ أَجْوَدَ مِنَ الْمَوْصُوفِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَزِيَادَةٍ تَابِعَةٍ لَهُ، فَيَنْفَعُهُ وَلاَ يَضُرُّهُ، إِذْ لَمْ يَفُتْهُ غَرَضٌ (3) .
وَإِنْ أَتَى بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ، كَأَنْ أَسْلَمَ بِتَمْرٍ خُضَرِيٍّ، فَأَحْضَرَ الْبَرْنِيَّ، أَوْ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ، فَأَتَى بِمَرْوِيٍّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 232.
(2) بداية المجتهد 2 / 233.
(3) روضة الطالبين 4 / 29، المغني 4 / 340، شرح منتهى الإرادات 2 / 217.

(25/223)


قَال النَّوَوِيُّ: " أَصَحُّهَا: يَحْرُمُ قَبُولُهُ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ " قَال الْمَحَلِّيُّ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الاِعْتِيَاضَ عَنْهُ أَيِ الاِعْتِيَاضَ عَنْ رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ مَعَ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: " لاَ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَل مَا وَصَفْنَاهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي شَرَطَاهَا، وَقَدْ فَاتَ بَعْضُ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ النَّوْعَ صِفَةٌ، وَقَدْ فَاتَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَاتَ غَيْرُهُ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَقَال أَبُو يَعْلَى: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، لأَِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ فِي الزَّكَاةِ، فَأَشْبَهَ الزِّيَادَةَ فِي الصِّفَةِ مَعَ اتِّفَاقِ النَّوْعِ " (2) .
أَمَّا الْمِعْيَارُ الَّذِي يُحْتَكَمُ إِلَيْهِ فِي حَدِّ الصِّفَةِ الْوَاجِبِ تَوَفُّرُهُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فَقَدْ بَيَّنَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِقَوْلِهِ: " وَلَيْسَ لَهُ - أَيْ: لِلْمُسْلِمِ - إِلاَّ أَقَل مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمَ إِلَيْهِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ، فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 30، القليوبي على شرح المحلي للمنهاج 2 / 255.
(2) المغني 4 / 340، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 217.
(3) المغني 4 / 341، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 220، كشاف القناع 3 / 289.

(25/223)


35 - وَحَيْثُ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ تَسْلِيمُ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ جَاءَ بِهِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ الاِمْتِنَاعُ عَنْ تَسَلُّمِهِ فِيهِ. فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ أَدَاءَهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ قَبُولُهُ بِغَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلَوْ خَفَّ حَمْلُهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَهُ بِغَيْرِ الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ، وَيَأْخُذُ كِرَاءَ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ لأَِنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الأَْجَلَيْنِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوْ سَلَّمَ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، فَلِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَأْبَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (1) . فَإِنْ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الأَْجْرَ عَلَى نَقْل مِلْكِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، فَيَرُدُّ الأَْجْرَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ حَتَّى يُسَلَّمَ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِيهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِبُطْلاَنِ حَقِّهِ إِلاَّ
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه أبو داود (4 / 20 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده مقال، ولكن أورد له ابن حجر في التغليق (3 / 282 - ط المكتب الإسلامي) ما يقويه.

(25/224)


بِعِوَضٍ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَبَقِيَ حَقُّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ (1) .
ب - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: (إِذَا أَتَى الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فِي غَيْرِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ فَامْتَنَعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ أَخْذِهِ، فَإِنْ كَانَ لِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ، أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَخُوفًا، لَمْ يُجْبَرْ. وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي التَّعْجِيل قَبْل الْمَحِل. فَلَوْ رَضِيَ وَأَخَذَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ مُؤْنَةَ النَّقْل. قَال النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا إِجْبَارُهُ) (2) .

د - تَعَذُّرُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل:
36 - إِذَا انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، بِحَيْثُ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِيفَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِ فِي وَقْتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
أ - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ رَبُّ السَّلَمِ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إِلَى وُجُودِهِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 213، الخرشي 5 / 228، القوانين الفقهية ص 275، وانظر المدونة 9 / 42 (مطبعة السعادة 1323 هـ) ، وانظر كشاف القناع 3 / 292، شرح منتهى الإرادات 2 / 222.
(2) روضة الطالبين 4 / 31.

(25/224)


فَيُطَالَبُ بِهِ عِنْدَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ السَّلَمَ وَيَرْجِعَ بِرَأْسِ مَالِهِ إِنْ وُجِدَ، أَوْ عِوَضِهِ إِنْ عُدِمَ، لِتَعَذُّرِ رَدِّهِ. قَال صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: " لأَِنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ، وَالْعَجْزَ طَارِئٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَال، فَصَارَ كَإِبَاقِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ ".
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: " وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ثِمَارِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ شَرَطَهُ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ " (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ ضَابِطَ الاِنْقِطَاعِ بِقَوْلِهِ: " فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُسْلَمُ فِيهِ أَصْلاً، بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ يَنْشَأُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ مُسْتَأْصِلَةٌ، فَهَذَا انْقِطَاعٌ حَقِيقِيٌّ. وَلَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، لَكِنْ يَفْسُدُ بِنَقْلِهِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ عِنْدَ قَوْمٍ امْتَنَعُوا مِنْ بَيْعِهِ، فَهُوَ انْقِطَاعٌ. وَلَوْ كَانُوا يَبِيعُونَهُ بِثَمَنٍ غَالٍ، فَلَيْسَ بِانْقِطَاعٍ، بَل يَجِبُ تَحْصِيلُهُ. وَلَوْ أَمْكَنَ نَقْلُهُ، وَجَبَ إِنْ كَانَ قَرِيبًا " (2) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 220، كشاف القناع 3 / 290، القوانين الفقهية ص 275، بداية المجتهد 2 / 230، الخرشي 5 / 221، المغني 4 / 326، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 214، المهذب 1 / 309، روضة الطالبين 4 / 11.
(2) روضة الطالبين 4 / 12.

(25/225)


ب - وَقَال زُفَرُ وَأَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: يَنْفَسِخُ السَّلَمُ ضَرُورَةً، وَيَسْتَرِدُّ رَبُّ السَّلَمِ رَأْسَ الْمَال، وَلاَ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ مُعَلِّلاً رَأَى أَشْهَبَ: " وَكَأَنَّهُ رَآهُ مِنْ بَابِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ". وَقَال الشِّيرَازِيُّ مُعَلِّلاً قَوْل الشَّافِعِيِّ هَذَا: " لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ثَمَرَةُ هَذَا الْعَامِ، وَقَدْ هَلَكَتْ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ، فَهَلَكَتِ الصُّبْرَةُ ". وَهِيَ نَفْسُ حُجَّةِ زُفَرَ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ الْهُمَامِ مَبْسُوطَةً أَنَّ الْبُطْلاَنَ لِلْعَجْزِ عَنِ التَّسْلِيمِ قَبْل الْقَبْضِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كَمَا لاَ يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، لاَ يَبْقَى عِنْدَ فَوَاتِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ، ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْل الْقَبْضِ، يَبْطُل الْعَقْدُ، فَكَذَا هُنَا (1) .
ج - وَقَال سَحْنُونٌ: لَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ فَسْخُ السَّلَمِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَصْبِرَ إِلَى الْقَابِل (2) .
__________
(1) الهداية مع العناية وفتح القدير 6 / 214، القوانين الفقهية ص 275، المهذب 1 / 309، بداية المجتهد 2 / 230، روضة الطالبين 4 / 11.
(2) القوانين الفقهية ص 275، بداية المجتهد 2 / 230.

(25/225)


هـ - الإِْقَالَةُ فِي السَّلَمِ: 37 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ الإِْقَالَةِ فِي السَّلَمِ. فَإِذَا أَقَالَهُ رَبُّ السَّلَمِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الإِْقَالَةَ فِي جَمِيعِ مَا أُسْلِمَ فِيهِ جَائِزَةٌ (1) . وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (إِقَالَة) .
وَلَوِ اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ بَعْدَ الإِْقَالَةِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَبَّ السَّلَمِ عِوَضًا عَنْ رَأْسِ الْمَال مِنَ الأَْعْيَانِ أَوِ الأَْثْمَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ (2) .
وَدَلِيل أَبِي حَنِيفَةَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
__________
(1) المغني 4 / 336، 337، المهذب 1 / 309، المدونة 9 / 69 (مطبعة السعادة 1323 هـ) ، بدائع الصنائع 5 / 214، بداية المجتهد 2 / 231، شرح منتهى الإرادات 2 / 223، المنتقى 4 / 302.
(2) رد المحتار 4 / 209، (بولاق 1272 هـ) ، البدائع 5 / 203، بداية المجتهد 2 / 232، المغني 4 / 337.

(25/226)


أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلاَ يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ (1) ، وَلأَِنَّ هَذَا مَضْمُونٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِعَقْدِ السَّلَمِ، فَلَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي (2) . وَحُجَّةُ مَالِكٍ " أَنَّ هَذِهِ الإِْقَالَةَ ذَرِيعَةٌ إِلَى أَنْ يَجُوزَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يَجُوزُ " (3) .
ب - وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ (4) " لأَِنَّهُ عِوَضٌ مُسْتَقَرٌّ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ قَرْضًا. وَلأَِنَّهُ مَالٌ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ إِذَا فُسِخَ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَضْمُونٌ بَعْدَ فَسْخِهِ. وَالْخَبَرُ أَرَادَ بِهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ، فَلَمْ يَتَنَاوَل هَذَا ".
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ كَانَ قَرْضًا أَوْ ثَمَنًا فِي بُيُوعِ الأَْعْيَانِ لاَ يَجُوزُ جَعْلُهُ سَلَمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَيَجُوزُ فِيهِ مَا يَجُوزُ
__________
(1) حديث: " من أسلم في شيء، فلا يصرفه. . . . ". تقدم تخريجه ف 30.
(2) انظر المغني 4 / 337.
(3) بداية المجتهد 2 / 232.
(4) المغني 4 / 337، بداية المجتهد 2 / 232، المهذب 1 / 309.

(25/226)


فِي الْقَرْضِ وَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ إِذَا فُسِخَتْ " (1) .
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَهُ فِي شَيْءٍ آخَرَ، لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَيْنًا، نَظَرْتَ: فَإِنْ كَانَ تَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا كَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْل الْقَبْضِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا بِالآْخَرِ عَيْنًا بِعَيْنٍ. وَإِنْ لَمْ تَجْمَعْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا، كَالدَّرَاهِمِ بِالْحِنْطَةِ وَالثَّوْبِ بِالثَّوْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، كَمَا يَجُوزُ إِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ عَيْنًا بِعَيْنٍ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ. وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ فِي الذِّمَّةِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِ عِوَضِهِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ " (2) .

و تَوْثِيقُ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ:
38 - لاَ يَخْفَى أَنَّ تَوْثِيقَ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أ - إِمَّا بِتَأْكِيدِ حَقِّ رَبِّ السَّلَمِ فِي الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكِتَابَةِ أَوِ الشَّهَادَةِ، لِمَنْعِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ مِنَ الإِْنْكَارِ وَتَذْكِيرِهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ،
__________
(1) المغني 4 / 337
(2) المهذب 1 / 309.

(25/227)


وَلِلْحَيْلُولَةِ، دُونَ ادِّعَائِهِ أَقَل مِنَ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْثِيق) .
ب - وَإِمَّا بِالْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْثِيقِ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكَفَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
(1) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَرَأْيُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَالْحَكَمِ وَغَيْرِهِمْ (1) .
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: " السَّلَمُ: السَّلَفُ - وَبِذَلِكَ أَقُول - لاَ بَأْسَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالْحَمِيل، لأَِنَّهُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ جَل ثَنَاؤُهُ بِالرَّهْنِ، فَأَقَل أَمْرِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ إِبَاحَةً لَهُ، فَالسَّلَمُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ " (2) .
(2) وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَخْذُ رَهْنٍ وَلاَ كَفِيلٍ عَنِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ (3) " لأَِنَّ الرَّاهِنَ إِنْ أَخَذَ بِرَأْسِ مَال
__________
(1) القوانين الفقهية ص 328، منح الجليل 3 / 252، رد المحتار 4 / 263، 5 / 318، المغني 4 / 342، الأم 3 / 94.
(2) الأم 3 / 94.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 222، المغني 4 / 342، كشاف القناع 3 / 298.

(25/227)


السَّلَمِ الرَّهْنَ وَالضَّمِينَ، فَقَدْ أَخَذَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلاَ مَآلُهُ إِلَى الْوُجُوبِ، لأَِنَّ ذَلِكَ قَدْ مَلَكَهُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ. وَإِنْ أَخَذَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فَالرَّهْنُ إِنَّمَا يَجُوزُ بِشَيْءٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَلاَ مِنْ ذِمَّةِ الضَّامِنِ. وَلأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ هَلاَكَ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ بِعُدْوَانٍ، فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ (1) وَلأَِنَّهُ يُقِيمُ مَا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ مَقَامَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ أَخْذِ الْعِوَضِ وَالْبَدَل عَنْهُ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ " (2) .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ كَرَاهَةُ ذَلِكَ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: " إِذَا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ ضَمَانِ السَّلَمِ فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَأَيُّهُمَا قَضَاهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمَا مِنْهُ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ إِلَى الضَّامِنِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْمُسْلِمِ جَازَ وَكَانَ وَكِيلاً. وَإِنْ
__________
(1) حديث: " من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ". تقدم تخريجه ف 30.
(2) المغني 4 / 342.
(3) المغني 4 / 342، شرح منتهى الإرادات 2 / 222.

(25/228)


قَال: خُذْهُ عَنِ الَّذِي ضَمِنْتَ عَنِّي، لَمْ يَصِحَّ، وَكَانَ قَبْضًا فَاسِدًا مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ بَعْدَ الْوَفَاءِ، فَإِنْ أَوْصَلَهُ إِلَى الْمُسْلِمِ بَرِئَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ سَلَّمَ إِلَيْهِ مَا سَلَّطَهُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى ذَلِكَ " (1) .
وَأَيْضًا " إِنْ أَخَذَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، ثُمَّ تَقَايَلاَ السَّلَمَ، أَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، بَطَل الرَّهْنُ؛ لِزَوَال الدَّيْنِ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ، وَبَرِئَ الضَّامِنُ.
وَعَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ مَال السَّلَمِ فِي الْحَال، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ " (2) .

ز - الاِتِّفَاقُ عَلَى تَقْسِيطِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى نُجُومٍ:
39 - إِذَا أَسْلَمَ شَخْصٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهُ بِالتَّقْسِيطِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَجْزَاءً مَعْلُومَةً، كَسَمْنٍ يَأْخُذُ بَعْضَهُ فِي أَوَّل رَجَبٍ وَبَعْضَهُ فِي أَوَّل رَمَضَانَ وَبَعْضَهُ فِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ مَثَلاً.
__________
(1) المغني 4 / 343.
(2) المغني 4 / 342 وما بعدها.

(25/228)


فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أ - فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ. " لأَِنَّ كُل مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ إِلَى أَجَلَيْنِ وَآجَالٍ كَالأَْثْمَانِ فِي بُيُوعِ الأَْعْيَانِ " (1) .
ب - وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ثَانٍ لَهُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ ذَلِكَ " لأَِنَّ مَا يُقَابِل أَبْعَدَهُمَا أَجَلاً أَقَل مِمَّا يُقَابِل الآْخَرَ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَجُزْ " (2) .
ج - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيل حَيْثُ قَالُوا: " يَصِحُّ أَنْ يُسْلِمَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَى أَجَلَيْنِ، كَسَمْنٍ يَأْخُذُ بَعْضَهُ فِي رَجَبٍ وَبَعْضَهُ فِي رَمَضَانَ؛ لأَِنَّ كُل بَيْعٍ جَازَ إِلَى أَجَلٍ جَازَ إِلَى أَجَلَيْنِ وَآجَالٍ إِنْ بَيَّنَ قِسْطَ كُل أَجَلٍ وَثَمَنَهُ؛ لأَِنَّ الأَْجَل الأَْبْعَدَ لَهُ زِيَادَةُ وَقْعٍ عَلَى الأَْقْرَبِ، فَمَا يُقَابِلُهُ أَقَل. فَاعْتُبِرَ مَعْرِفَةُ قِسْطِهِ وَثَمَنِهِ. فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُمَا لَمْ يَصِحَّ.
وَيَصِحُّ أَنْ يُسْلِمَ فِي شَيْءٍ كَلَحْمٍ وَخُبْزٍ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 11، أسنى المطالب 2 / 126، المغني 4 / 338، الإشراف على مسائل الخلاف 1 / 280، المهذب1 / 307.
(2) المهذب 1 / 307.

(25/229)


وَعَسَلٍ يَأْخُذُهُ كُل يَوْمٍ جُزْءًا مَعْلُومًا مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ بَيَّنَ ثَمَنَ كُل قِسْطٍ أَوْ لاَ؛ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ".
" فَإِنْ قَبَضَ الْبَعْضَ مِمَّا أَسْلَمَ فِيهِ لِيَأْخُذَ مِنْهُ كُل يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَتَعَذَّرَ قَبْضُ الْبَاقِي، رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَلاَ يُجْعَل الْبَاقِي فَضْلاً عَلَى الْمَقْبُوضِ، لأَِنَّهُ مَبِيعٌ وَاحِدٌ مُتَمَاثِل الأَْجْزَاءِ، فَقِسْطُ الثَّمَنِ عَلَى أَجْزَائِهِ بِالسَّوِيَّةِ. كَمَا لَوْ اتَّحَدَ أَجَلُهُ " (1) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 286، 287، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 218، 219، المغني 4 / 338.

(25/229)


سِلْم

التَّعْرِيفُ
1 - السِّلْمُ: بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا: الصُّلْحُ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.
وَالسِّلْمُ: الْمُسَالِمُ، يُقَال: أَنَا سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَنِي.
وَالتَّسَالُمُ: التَّصَالُحُ، وَالْمُسَالَمَةُ: الْمُصَالَحَةُ.
وَيَأْتِي السِّلْمُ بِمَعْنَى الإِْسْلاَمِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (1) .
قَالُوا: الإِْسْلاَمُ: إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَإِظْهَارُ الشَّرِيعَةِ، وَالْتِزَامُ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِذَلِكَ يُحْقَنُ الدَّمُ وَيُسْتَدْفَعُ الْمَكْرُوهُ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 208.
(2) لسان العرب، المصباح المنير مادة: (سلم) النهاية لابن الأثير 2 / 394، الجامع لأحكام القرآن 3 / 23، فتح الباري 8 / 758 ط السلفية

(25/230)


وَالسِّلْمُ: فِي حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ لاَ يَبْعُدُ عَنْ حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلِذَا قَالُوا: هُوَ الصُّلْحُ، خِلاَفُ الْحَرْبِ، أَوْ هُوَ: تَرْكُ الْجِهَادِ مَعَ الْكَافِرِينَ بِشُرُوطِهِ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْهُدْنَةُ:
2 - الْمُهَادَنَةُ: الْمُسَالَمَةُ - وَتُسَمَّى: الْمُوَادَعَةَ، وَالْمُعَاهَدَةَ.
وَشَرْعًا: مُصَالَحَةُ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَال مُدَّةً مُعَيَّنَةً بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ (3) .

ب - الأَْمَانُ:
3 - الأَْمَانُ فِي اللُّغَةِ: عَدَمُ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الزَّمَنِ الآْتِي.
وَشَرْعًا: رَفْعُ اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ وَرِقِّهِ وَمَالِهِ حِينَ قِتَالِهِ أَوِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ،
__________
(1) قواعد الفقه للمجددي / 325، والمعجم الوسيط.
(2) سورة الأنفال / 61.
(3) شرح روض الطالب 4 / 324 ط. المكتبة الإسلامية، المغني 8 / 459.

(25/230)


مَعَ اسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ مُدَّةً مَا (1) .

ج - الذِّمَّةُ:
4 - الذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ وَالأَْمَانُ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْتِزَامُ تَقْرِيرِ الْكُفَّارِ فِي دِيَارِنَا وَحِمَايَتِهِمْ، وَالذَّبِّ عَنْهُمْ، بِبَذْل الْجِزْيَةِ. الْمَوْسُوعَةُ 7 121
د - الْمُعَاهَدَةُ:
5 - وَهِيَ الْمُعَاقَدَةُ وَالْمُحَالَفَةُ. وَالْمُعَاهَدُ: مَنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ.
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا صُولِحُوا عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ مُدَّةً مَا (2) .

و الْمُوَادَعَةُ:
6 - وَهِيَ الْمُصَالَحَةُ وَالْمُسَالَمَةُ عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ وَالأَْذَى، وَحَقِيقَةُ الْمُوَادَعَةِ الْمُتَارَكَةُ، أَيْ يَدَعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ فِيهِ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: السِّلْمُ بِمَعْنَى الإِْسْلاَمِ:
__________
(1) الحطاب 3 / 360 نقلا عن ابن عرفة.
(2) لسان العرب، المصباح المنير.
(3) النهاية 5 / 167.

(25/231)


7 - السِّلْمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يَكُونُ بِأَصْل الْمِلَّةِ. غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ عَقْدٍ، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ لِلْمُسْلِمِ بِأَصْل النَّشْأَةِ، أَوْ بِالدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ.
(ر: إِسْلاَم) الْمَوْسُوعَةُ 4 259 - 273.

ثَانِيًا: السِّلْمُ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ:
8 - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَقْدًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَتَنَوَّعُ إِلَى أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا كَانَ مُؤَبَّدًا، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ بِهِ: إِقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي دِيَارِ الإِْسْلاَمِ بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ، وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ انْظُرْ: (أَهْل الذِّمَّةِ - الْمَوْسُوعَةُ 7 120 - 139 - (جِزْيَة - الْمَوْسُوعَةُ 15 149، 207)
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُؤَقَّتًا. وَيَأْتِي فِي صُورَتَيْنِ:

الأُْولَى: عَقْدُ الْهُدْنَةِ:
9 - الأَْصْل فِيهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (1) .
__________
(1) سورة الأنفال / 61.

(25/231)


وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمُهَادَنَةِ مَتَى كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمِ الأَْعْلَوْنَ} (2) .
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةٌ فَلاَ يَجُوزُ بِالإِْجْمَاعِ (3) .
وَقَال صَاحِبُ رَوْضِ الطَّالِبِ: الأَْصْل فِيهَا - قَبْل الإِْجْمَاعِ - قَوْله تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (5) . وَمُهَادَنَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ (6) وَهِيَ جَائِزَةٌ لاَ وَاجِبَةٌ (7) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ وَجَمَاعَةٍ عَدِيدَةٍ وَشِدَّةٍ شَدِيدَةٍ فَلاَ صُلْحَ.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 8 / 39 - 41، المغني 8 / 459، حاشية الطحطاوي على الدر المحتار 2 / 443، جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 269، شرح روض الطالب من أسنى المطالب 4 / 224.
(2) سورة محمد / 35.
(3) حاشية الطحطاوي 2 / 443.
(4) سورة التوبة / 1.
(5) سورة الأنفال / 61.
(6) حديث: " مهادنته قريشا عام الحديبية ". أخرجه البخاري (فتح5 / 312 ط السلفية) ومسلم (3 / 1409 - 1410 - ط - الحلبي) عن غير واحد من الصحابة.
(7) روض الطالب - 4 / 224.

(25/232)


وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ لِنَفْعٍ يَجْتَلِبُونَهُ، أَوْ ضَرَرٍ يَدْفَعُونَهُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ.
وَقَدْ صَالَحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل خَيْبَرَ عَلَى شُرُوطٍ نَقَضُوهَا فَنُقِضَ صُلْحُهُمْ فِي عَهْدِ عُمَرَ، وَقَدْ صَالَحَ الضَّمْرِيَّ، وَأُكَيْدِرَ دَوْمَةَ - وَأَهْل نَجْرَانَ وَقَدْ هَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشْرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ.
وَمَا زَالَتِ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى هَذِهِ السَّبِيل (1)
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل (هُدْنَة، صُلْح، وَمُعَاهَدَة) .

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ عَقْدِ السِّلْمِ الْمُؤَقَّتِ:
عَقْدُ الأَْمَانِ
10 - وَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، قَابِلٌ لِلنَّقْضِ بِشُرُوطِهِ، وَحُكْمُهُ الْجَوَازُ مَعَ شَرْطِ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ
- وَإِنْ لَمْ يَظْهَرِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَمِنَ الْفُرُوقِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ عَقْدِ الأَْمَانِ
__________
(1) القرطبي 8 / 40.

(25/232)


وَعَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْهُدْنَةُ إِلاَّ بِعَقْدِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، أَمَّا الأَْمَانُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الإِْمَامِ وَمِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ آحَادِهِمْ وَلَوْ مِنِ امْرَأَةٍ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ أَمَانَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءً، وَلَكِنْ إِنْ وَقَعَ يَمْضِي إِنْ أَمْضَاهُ الإِْمَامُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَهُ فِي أَبْوَابِ السِّيَرِ وَالْجِهَادِ
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَمَان) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ (6 233 - 235) .

الدَّعْوَةُ إِلَى السِّلْمِ مَعَ أَهْل الْحَرْبِ:
11 - الدَّعْوَةُ إِلَى السِّلْمِ مَعَ الْكُفَّارِ وَمُوَادَعَتُهُمْ وَمُهَادَنَتُهُمْ مِنْ قِبَل إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا رَأَى أَنْ يُصَالِحَ أَهْل الْحَرْبِ أَوْ فَرِيقًا مِنْهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (1) وَوَادَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْل مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ
__________
(1) سورة الأنفال / 61.

(25/233)


الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ (1) ؛ وَلأَِنَّ الْمُوَادَعَةَ جِهَادٌ مَعْنًى إِذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ حَاصِلٌ بِهِمَا، وَلاَ يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَرْوِيَّةِ لِتَعَدِّي الْمَعْنَى إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَادَعَةُ خَيْرًا؛ لأَِنَّهَا تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ رَأَى نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعَ نَبَذَ إِلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ؛ لأَِنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمَّا تَبَدَّلَتْ كَانَ النَّبْذُ جِهَادًا، وَإِيفَاءُ الْعَهْدِ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلاَ بُدَّ مِنَ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ وَقَدْ قَال عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْعُهُودِ: وَفَاءٌ لاَ غَدْرٌ (2) وَلاَ بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا خَبَرُ النَّبْذِ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَيُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ مَلِكُهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّبْذِ مِنْ إِنْفَاذِ الْخَبَرِ إِلَى أَطْرَافِ بِلاَدِهِ؛ لأَِنَّ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الْغَدْرُ (3) .

12 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِذَلِكَ شُرُوطًا:
__________
(1) حديث: " وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة. . ". سبق تخريجه ف9.
(2) حديث: " وفاء لا غدر ". أخرجه أبو داود (3 / 190 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) والترمذي (4 / 143 - ط الحلبي) موقوفا على عمرو بن عبسه. وقال الترمذي: " حسن صحيح ".
(3) الهداية مع فتح القدير 4 / 293 - 294 ط الأميرية، الاختيار 4 / 120 - 121 ط. المعرفة - حاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 443 - 444 ط بولاق، ابن عابدين 3 / 226 ط المصرية - تبيين الحقائق 3 / 245 - 246 ط الأميرية.

(25/233)


الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ لَهَا الإِْمَامَ أَوْ نَائِبَهُ بِخِلاَفِ الأَْمَانِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَلَوْ مِنْ آحَادِ النَّاسِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ كَالْعَجْزِ عَنِ الْقِتَال مُطْلَقًا أَوْ فِي الْوَقْتِ، مَجَّانًا أَوْ بِعِوَضٍ، فَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الْمَصْلَحَةُ بِأَنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَخْلُوَ عَقْدُهَا عَنْ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ كَشَرْطِ بَقَاءِ مُسْلِمٍ أَسِيرٍ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ بَقَاءِ قَرْيَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ خَالِيَةً مِنْهُمْ وَأَنْ يَأْخُذُوا مِنَّا مَالاً إِلاَّ لِخَوْفٍ مِنْهُمْ فَيَجُوزُ كُل مَا مُنِعَ.
الرَّابِعُ، وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ خَاصَّةً: عَدَمُ تَحْدِيدِ مُدَّتِهَا بِطُولٍ أَوْ قِصَرٍ بَل يُتْرَكُ ذَلِكَ لاِجْتِهَادِ الإِْمَامِ وَبِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَلاَ يُطِيل لِمَا قَدْ يَحْدُثُ مِنْ قُوَّةِ الإِْسْلاَمِ (1) .
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ.
ثُمَّ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ أَوْ لاَ يَكُونُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَرَأَى الإِْمَامُ
__________
(1) الدسوقي 2 / 205 - 206 ط الفكر - الخرشي 3 / 150 - 151 ط بولاق، شرح الزرقاني 3 / 148 - 149 ط، الفكر، جواهر الإكليل 1 / 269 ط. دار المعرفة.

(25/234)


الْمَصْلَحَةَ فِي الْهُدْنَةِ هَادَنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَقَل، وَلاَ يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ قَطْعًا، وَلاَ سَنَةً عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى الأَْظْهَرِ.
وَإِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ جَازَتِ الزِّيَادَةُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشْرِ، لَكِنْ إِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَالْحَاجَةُ بَاقِيَةٌ، اسْتُؤْنِفَ الْعَقْدُ (1) .
13 - وَجَوَّزَ الْحَنَابِلَةُ مُهَادَنَةَ الْكُفَّارِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ وَلَوْ بِمَالٍ يَدْفَعُهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْكُفَّارِ ضَرُورَةً، مِثْل أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلاَكَ أَوِ الأَْسْرَ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ لِلأَْسِيرِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِالْمَال فَكَذَا هُنَا، وَجَازَ تَحَمُّل صَغَارٍ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَهُوَ الْقَتْل أَوِ الأَْسْرُ وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ الْمُفْضِي إِلَى كُفْرِهِمْ.
قَال الزُّهْرِيُّ: أَرْسَل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَهُوَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ يَعْنِي يَوْمَ الأَْحْزَابِ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ لَكَ ثُلُثَ ثَمَرِ الأَْنْصَارِ أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ غَطَفَانَ أَوْ تُخَذِّل بَيْنَ الأَْحْزَابِ؟ فَأَرْسَل إِلَيْهِ عُيَيْنَةُ إِنْ
__________
(1) المهذب 2 / 260 - 261 ط حلب، روضة الطالبين 10 / 334 - 336 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 4 / 237 - 238 ط حلب، الجمل على المنهج 5 / 228 - 229 ط التراث.

(25/234)


جَعَلْتَ الشَّطْرَ فَعَلْتُ (1) ، وَلَوْلاَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَمَا بَذَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ فِيهَا مَعْلُومَةً، لأَِنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيرُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَوْ فَوْقَ عَشْرِ سِنِينَ لأَِنَّهَا تَجُوزُ فِي أَقَل مِنْ عَشْرٍ فَجَازَتْ فِي أَكْثَر مِنْهَا كَمُدَّةِ الإِْجَارَةِ، وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا جَازَ عَقْدُهَا لِلْمَصْلَحَةِ فَحَيْثُ وُجِدَتْ جَازَ عَقْدُهَا تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَةِ، وَإِنْ هَادَنَهُمْ مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِمُدَّةٍ لَمْ يَصِحَّ. لأَِنَّ الإِْطْلاَقَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، أَوْ هَادَنَهُمْ مُعَلِّقًا بِمَشِيئَةٍ كَـ: مَا شِئْنَا، أَوْ: شِئْتُمْ، أَوْ: شَاءَ فُلاَنٌ، أَوْ: مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ كَالإِْجَارَةِ وَلِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ.
14 - قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا، فَقِيل: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2) لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنَ الْمَيْل إِلَى الصُّلْحِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى الصُّلْحِ. وَقِيل: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} . وَقِيل: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَالآْيَتَانِ نَزَلَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحَال.
__________
(1) حديث: " أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن. . ". أخرجه عبد الرزاق (5 / 367 - 368 ط المجلس العلمي) عن الزهري مرسلا.
(2) سورة الأنفال / 61.

(25/235)


وَقِيل: إِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} مَخْصُوصٌ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَالأُْخْرَى عَامَّةٌ. فَلاَ يَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْكُفَّارِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ إِذَا عَجَزْنَا عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
__________
(1) تفسير القرطبي 16 / 256.

(25/235)


سَمَاد
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّمَادُ مَا تُسَمَّدُ بِهِ الأَْرْضُ، مِنْ سَمَّدَ الأَْرْضَ؛ أَيْ أَصْلَحَهَا بِالسَّمَادِ.
وَتَسْمِيدُ الأَْرْضِ: أَنْ يَجْعَل فِيهَا السَّمَادَ.
وَالسَّمَادُ مَا يُطْرَحُ فِي أُصُول الزَّرْعِ وَالْخُضَرِ مِنْ تُرَابٍ وَسِرْجِينٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِيَجُودَ نَبَاتُهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ السَّمَادِ وَنَجَاسَتِهِ:
2 - الأَْسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير (مادة: سمد) ، وكشاف القناع للبهوتي 6 / 194 - ط عالم الكتب، مغني المحتاج 2 / 11.

(25/236)


الَّتِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا مِنْ غَيْرِ الطُّيُورِ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَتِهَا.
أَمَّا الأَْسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ مِمَّا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا، وَهِيَ كُل ذِي مِخْلَبٍ كَالشَّاهِينِ وَالْبَازِي، فَهِيَ نَجِسَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى طَهَارَتِهَا (1) .
أَمَّا الأَْسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُؤْكَل لَحْمُهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا إِلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ مِنَ الطُّيُورِ أَوْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ طَهَارَةَ سَمَادِ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ بِعَدَمِ أَكْلِهِ لِلنَّجَاسَاتِ، فَإِنْ أَكَل نَجِسًا فَسَمَادُهُ نَجِسٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ رَجِيعَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، سَوَاءٌ الْمَأْكُولَةُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 214، الدسوقي 1 / 151، جواهر الإكليل 1 / 9، مغني المحتاج 1 / 75، القليوبي 1 / 714، كشاف القناع 1 / 193.
(2) ابن عابدين 1 / 126، جواهر الإكليل 1 / 9، 217، القليوبي وعميرة 1 / 70، كشاف القناع 1 / 194، المغني 2 / 88.

(25/236)


لُحُومُهَا أَمْ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ مِنْ طُيُورٍ أَوْ غَيْرِهَا نَجِسٌ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى مِثْل ذَلِكَ مَا عَدَا زُفَرَ وَمُحَمَّدًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا ذَرْقَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَعَدُّوهُ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ (1) .
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ فِي الْمَسْأَلَةِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (رَوْث، عَذِرَة، زِبْل، نَجَاسَة) .

حُكْمُ التَّسْمِيدِ بِالنَّجَاسَةِ وَالأَْكْل مِنْ ثِمَارِ الأَْشْجَارِ الْمُسَمَّدَةِ بِهَا:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الطَّاهِرِ الزَّرْعَ الَّذِي سُقِيَ بِنَجَسٍ أَوْ نَبَتَ مِنْ بَذْرٍ نَجِسٍ وَظَاهِرُهُ نَجَسٌ فَيُغْسَل قَبْل أَكْلِهِ وَإِذَا سَنْبَل فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ قَطْعًا وَلاَ حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهَا، وَهَكَذَا الْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَشَبِيهُهُمَا يَكُونُ طَاهِرًا وَلاَ حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهِ. وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ رَوْثَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَمْ يُجِيزُوا التَّسْمِيدَ بِأَيٍّ مِنْهُمَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ، وَالزُّرُوعُ الْمَسْقِيَّةُ بِالنَّجَاسَاتِ لاَ تَحْرُمُ وَلاَ تُكْرَهُ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ تَحْرُمُ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 79، الاختيار 1 / 34، المغني 2 / 88.

(25/237)


الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نُكْرِي أَرَاضِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ وَلأَِنَّهُ تُتْرَكُ أَجْزَاءُ النَّبَاتِ بِالنَّجَاسَةِ، وَالاِسْتِحَالَةُ لاَ تُطَهِّرُ النَّجِسَ عِنْدَهُمْ. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِل أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلاَ يَحْرُمُ وَلاَ يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لأَِنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيل فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيل فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ لَحْمًا وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْمُل أَرْضَهُ بِالْعَرَّةِ وَيَقُول: مِكْتَل عَرَّةٍ مِكْتَل بُرَّةٍ وَالْعَرَّةُ عَذِرَةُ النَّاسِ. اهـ. (1)

ب - بَيْعُ السَّمَادِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ السَّمَادِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمَأْكُولَةِ لُحُومُهَا أَمْ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَرِهُوا بَيْعَ الْعَذِرَةِ (رَجِيعِ بَنِي آدَمَ) خَالِصَةً بِخِلاَفِ مَا خُلِطَ مِنْهَا بِالتُّرَابِ أَوِ الرَّمَادِ فَلاَ كَرَاهَةَ.
وَفَصَّل (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: بِجَوَازِ بَيْعِ الزِّبْل وَالسِّرْقِينِ وَالأَْسْمِدَةِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 217، بدائع الصنائع 5 / 144، الفتاوى الهندية 3 / 116، جواهر الإكليل 1 / 10 / 12، حاشية الجمل 2 / 86، المجموع شرح المهذب 2 / 573، المغني 8 / 594، 4 / 283، وكشاف القناع 6 / 194.

(25/237)


الطَّاهِرَةِ كَخُرْءِ الْحَمَامِ، وَخِثْيِ الْبَقَرِ وَبَعْرِ الإِْبِل وَنَحْوِهَا.
أَمَّا الأَْسْمِدَةُ النَّجِسَةُ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْل شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ (1) وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ أَوْرَدُوا فِي بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا هُوَ نَجَاسَةٌ أَصْلِيَّةٌ أَوْ لاَ يُمْكِنُ طَهَارَتُهُ كَزِبْلٍ مِنْ غَيْرِ مُبَاحٍ وَذَلِكَ لاِشْتِرَاطِهِمُ الطَّهَارَةَ فِي الْبَيْعِ، لَكِنِ الْعَمَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْل (الأَْسْمِدَةِ) غَيْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ عَذِرَةِ بَنِي آدَمَ وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الأَْسْمِدَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْمَأْكُول اللَّحْمِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ لأَِنَّهُ نَجَسٌ وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ النَّجَسِ سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالاِسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ تَطْهِيرُهُ كَسِرْجِينٍ وَأَسْمِدَةٍ وَغَيْرِهَا (2) . (ر: نَجَاسَة) .
__________
(1) حديث: " إن الله إذا حرم على قوم. . . . ". أخرجه أبو داود (3 / 758 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس وإسناده صحيح.
(2) ابن عابدين 5 / 246، 247، الدسوقي 3 / 10، كشاف القناع 3 / 156، الحطاب 4 / 260، أسنى المطالب 2 / 8، الروضة 3 / 348، المغني 4 / 283، الفتاوى الهندية 3 / 116، بدائع الصنائع 5 / 144.

(25/238)


ج - السَّمَادُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَوِ الْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهَا:
5 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُل شَرْطٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَال الزِّرَاعَةِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكُ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيدُ الأَْرْضِ بِالزِّبْل، فَشِرَاءُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَال لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَمَل فَجَرَى مَجْرَى مَا يُلَقَّحُ بِهِ، وَتَفْرِيقُ ذَلِكَ فِي الأَْرْضِ عَلَى الْعَامِل كَالتَّلْقِيحِ. فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ تَأْكِيدًا، أَمَّا إِنْ شُرِطَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ مِمَّا يَلْزَمُ الآْخَرَ كَاشْتِرَاطِ شِرَاءِ السَّمَادِ عَلَى الْعَامِل، فَقَال الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ كَالْمُضَارَبَةِ إِذَا شُرِطَ الْعَمَل فِيهَا عَلَى رَبِّ الْمَال.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَهُمْ: كُل شَرْطٍ يَنْتَفِعُ بِهِ رَبُّ الأَْرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يُفْسِدُهَا كَطَرْحِ السِّرْقِينِ (السَّمَادِ) فِي الأَْرْضِ (1) .
__________
(1) المغني 5 / 402، نهاية المحتاج 5 / 254، الاختيار 3 / 78 - ط دار المعرفة - بيروت.

(25/238)


سَمَاع
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّمَاعُ: مَصْدَرُ سَمِعَ، وَسَمِعَ لَهُ يَسْمَعُ سَمْعًا وَسِمْعًا وَسَمَاعًا، وَمِنْ مَعَانِيهِ:

أ - الإِْدْرَاكُ: يُقَال: سَمِعَ الصَّوْتَ سَمَاعًا: إِذَا أَدْرَكَهُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، فَهُوَ سَامِعٌ، وَمِنْهُ السَّمَاعُ، بِمَعْنَى اسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ وَالآْلاَتِ الْمُطْرِبَةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْغِنَاءِ ذَاتِهِ (1) .

ب - وَمِنْهَا الإِْجَابَةُ: كَمَا فِي أَدْعِيَةِ الصَّلاَةِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ: أَجَابَ مَنْ حَمِدَهُ وَتَقَبَّلَهُ مِنْهُ.

ج - وَمِنْهَا الْفَهْمُ: يُقَال: " سَمِعْتُ كَلاَمَهُ: إِذَا فَهِمْتَ مَعْنَى لَفْظِهِ ".

د - الْقَبُول: مِثْل: سَمِعَ عُذْرَهُ: إِذَا قَبِل،
__________
(1) النهاية ولسان العرب وتاج العروس والمصباح.

(25/239)


وَسَمِعَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ: قَبِلَهَا، وَسَمِعَ الدَّعْوَى: لَمْ يَرُدَّهَا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِمَاعُ:
2 - السَّمَاعُ يَكُونُ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ فِي حِينَ لاَ يَكُونُ الاِسْتِمَاعُ إِلاَّ بِقَصْدٍ، وَيَكُونُ السَّمَاعُ اسْمًا لِلْمَسْمُوعِ فَيُقَال لِلْغِنَاءِ: سَمَاعٌ (2) .

ب - الإِْنْصَاتُ:
3 - الإِْنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ وَتَرْكُ اللَّغْوِ مِنْ أَجْل السَّمَاعِ وَالاِسْتِمَاعِ (ر: اسْتِمَاع) ، وَقَدْ أَوْرَدَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلِمَتَيْنِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ - جَل ذِكْرُهُ -: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (3) وَالْمَعْنَى حَسْبَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَهْل اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ: " إِذَا قَرَأَ الإِْمَامُ فَاسْتَمِعُوا إِلَى قِرَاءَتِهِ وَلاَ تَتَكَلَّمُوا (4) " كَمَا وَرَدَتَا مَعًا فِي أَحَادِيثَ نَبَوِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَوَرَدَتَا كَذَلِكَ فِي قَوْل عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - فِيمَا رَوَاهُ مَالِكٌ - إِذَا
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 401، ولسان العرب، والمصباح المنير، وتاج العروس.
(2) الفروق للعسكري ص 70.
(3) سورة الأعراف / 204.
(4) لسان العرب.

(25/239)


قَامَ الإِْمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاسْتَمِعُوا وَأَنْصِتُوا. (1)

ج - الإِْصْغَاءُ:
4 - هُوَ أَنْ يَجْمَعَ إِلَى حُسْنِ السَّمَاعِ الاِسْتِمَاعَ مُبَالَغَةً فِي الإِْنْصَاتِ، لِمَا تَتَضَمَّنُهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ مِنْ دَلاَلَةٍ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَمِعَ قَدْ أَمَال سَمْعَهُ أَوْ أُذُنَهُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ أَوْ مَصْدَرِ الصَّوْتِ حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْ كُل شَيْءٍ يَشْغَلُهُ عَنْهُ (2) .

د - الْغِنَاءُ:
5 - الْغِنَاءُ بِالْمَدِّ - لُغَةً: صَوْتٌ مُرْتَفِعٌ مُتَوَالٍ، وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: الْغِنَاءُ - مِنَ الصَّوْتِ مَا طُرِبَ بِهِ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِهِ: كَشَّافُ الْقِنَاعِ: أَنَّهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ وَمَا يُقَارِبُهُ مِنَ الرَّجَزِ عَلَى نَحْوٍ مَخْصُوصٍ (3) .
فَالْغِنَاءُ نَوْعٌ مِنَ السَّمَاعِ.
__________
(1) أثر (إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا) . أخرجه مالك من حديث عثمان بن عفان موقوفا عليه (الموطأ 1 / 104 ط عيسى الحلبي) .
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر.
(3) الإمتاع بأحكام السماع. مخطوط بالمكتبة الوطنية بتونس ورقم 17 وجه، وانظر أيضا: فرح الأسماع برخص السماع ص 49 الدار العربية للكتاب بتونس تحقيق وتقديم: محمد الشريف الرحموني ط1 سنة 1985م. والنهاية في غريب الحديث والأثر، ولسان العرب.

(25/240)


وَالتَّغْبِيرُ: ضَرْبٌ مِنَ الْغِنَاءِ يُذَكِّرُ بِالْغَابِرَةِ وَهِيَ الآْخِرَةُ. وَالْمُغَبِّرَةُ قَوْمٌ يُغَبِّرُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِدُعَاءٍ وَتَضَرُّعٍ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذَا الاِسْمُ لِتَزْهِيدِهِمُ النَّاسَ فِي الْفَانِيَةِ وَهِيَ الدُّنْيَا وَتَرْغِيبِهِمْ فِي الْبَاقِيَةِ وَهِيَ الآْخِرَةُ، وَهُوَ مِنْ (غَبَرَ) الَّذِي يُسْتَعْمَل لِلْبَاقِي كَمَا يُسْتَعْمَل لِلْمَاضِي، وَقَدْ كَرِهَهُ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ لأَِنَّهُ يُلْهِي عَنِ الْقُرْآنِ وَاعْتَبَرَهُ مِنْ عَمَل الزَّنَادِقَةِ، وَقَال فِيهِ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهُ مِنْ أَمْثَل أَنْوَاعِ السَّمَاعِ وَمَعَ ذَلِكَ كَرِهَهُ الأَْئِمَّةُ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
1 - حُكْمُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ يَسْمَعُ الأَْذَانَ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ سَمِعَ الأَْذَانَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مَا عَدَا الْجُمُعَةَ، فَذَهَبَ
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11 / 298، 629، 36 / 200، والمقدمة لابن خلدون ص 426 وما بعدها، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، وإحياء علوم الدين 2 / 268، 269 دار المعرفة بيروت 1982م، وكتاب السماع ص 37 وما بعدها تحقيق المراغي، لجنة إحياء التراث القاهرة 1390 هـ - 1970م، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 215 - 222، دار الشروق للطباعة القاهرة سنة 1388 هـ 1968م. وفرح الأسماع برخص السماع ص 49، والمعيار 11 / 29 وما بعدها، ص 106 وما بعدها. دار الغرب الإسلامي سنة 1401 هـ 1981م.

(25/240)


بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ حُضُورِهَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ بَل هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَحُضُورُهَا فَرْضُ عَيْنٍ بِشُرُوطِهِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (صَلاَة الْجَمَاعَةِ، وَصَلاَة الْجُمُعَةِ (1))

مَا يَقُولُهُ سَامِعُ الأَْذَانِ:
7 - يُسَنُّ لِمَنْ سَمِعَ الأَْذَانَ أَنْ يَقُول مِثْلَمَا يَقُول الْمُؤَذِّنُ لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا سَمِعْتُمِ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول الْمُؤَذِّنُ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ فِي حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ،
__________
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 23 / 225، والنووي على صحيح مسلم 5 / 155، 153، وابن قدامة: المغني 2 / 4 - 5 مع الشرح الكبير، دار الفكر بيروت 7 - سنة 1404 هـ، مجموع الفتاوى 23 / 225 - 226. ونيل الأوطار 3 / 234، والأم 1 / 153، دار المعرفة بيروت ط2، 1393 هـ 1973م، والقفال الشاشي: حلية العلماء في معرفة مذاهب العلماء 2 / 155، مؤسسة الرسالة دار الأرقم عمان ط1 من 1400 هـ 1980م.
(2) حديث: " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 90 ط، السلفية) ومسلم (1 / 88 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا.

(25/241)


حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ فَقُولُوا: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ (1) .
فَإِذَا تَمَّ الأَْذَانُ يُسَنُّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَطْلُبَ الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَال حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ - حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) . وَانْظُرْ (أَذَان) .
__________
(1) حديث: " إلا في حي على الصلاة حي على الفلاح فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله ". يدل عليه ما أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا بلفظ: " إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. قال: أشهد أن لا وأخرج البخاري نحوه من حديث معاوية وقال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (فتح الباري 2 / 91 ونيل الأوطار 2 / 35 نشر دار الجيل
(2) حديث: " من قال حين يسمع النداء. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 94 ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.

(25/241)


إِسْمَاعُ الْمُصَلِّي قِرَاءَةَ نَفْسِهِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي حَالَةِ الإِْسْرَارِ قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ يُسْمِعُهَا نَفْسَهُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا، مِثْلَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي التَّكْبِيرِ لأَِنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ بِقِرَاءَةٍ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي حَالَةِ الإِْسْرَارِ أَنْ يُسْمِعَ الْمُصَلِّي قِرَاءَتَهُ نَفْسَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكْتَفِيَ فِيهَا - عِنْدَهُمْ - بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالْقُرْآنِ دُونَ أَنْ يُلْزَمَ بِإِسْمَاعِ نَفْسِهِ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: " تَحْرِيكُ لِسَانِ الْمُسِرِّ فَقَطْ يُجْزِئُهُ، وَلَوْ أَسْمَعَ أُذُنَيْهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. وَلاَ يُجْزِئُ مَا دُونَ ذَلِكَ كَالْقِرَاءَةِ بِالْقَلْبِ؛ لأَِنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ شَرْطٌ أَدْنَى فِي صِحَّةِ الْقِرَاءَةِ. قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: كَانَ مَالِكٌ لاَ يَرَى مَا قَرَأَ بِهِ الرَّجُل فِي الصَّلاَةِ فِي نَفْسِهِ مَا لَمْ يُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَهُ قِرَاءَةً، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ نُقِل عَنْ شُيُوخِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَقْرَأَ فَقَرَأَ بِقَلْبِهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَأَنَّ الْجُنُبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِقَلْبِهِ مَا لَمْ يُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَهُ (1) ".
__________
(1) زروق على رسالة ابن أبي زيد القيرواني مع شرح ابن ناجي عليها 1 / 156، 179، 183، دار الفكر سنة 1402 هـ، والتاج والإكليل لمختصر خليل 1 / 518، بهامش مواهب الجليل للحطاب. دار الفكر ط2 سنة 1398 هـ - 1980م، والمدونة الكبرى 1 / 65، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 559، دار الفكر، دمشق.

(25/242)


أَمَّا حَالَةُ الْجَهْرِ - فَإِنَّ أَدْنَى مَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُصَلِّي فِيهَا أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ وَلاَ حَدَّ لأَِعْلاَهُ خَاصَّةً إِذَا كَانَ إِمَامًا إِذْ عَلَيْهِ أَنْ يُبَالِغَ فِي رَفْعِ صَوْتِهِ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ الْمَأْمُومِينَ لأَِنَّهُمْ مُطَالَبُونَ بِالاِسْتِمَاعِ وَالإِْنْصَاتِ لَهُ دُونَ الْقِرَاءَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صَلاَة الْجَمَاعَةِ) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَدُونَ الرَّجُل فِي الْجَهْرِ إِذْ عَلَيْهَا أَنْ تُسْمِعَ نَفْسَهَا خَاصَّةً مِثْلَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي حَقِّهَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّلْبِيَةِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَعْلَى جَهْرِهَا وَأَدْنَاهُ وَاحِدًا فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهَا الْحَالَتَانِ (2) .

سَمَاعُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ،
__________
(1) الحطاب: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 525، والمواق: التاج والإكليل 1 / 525 بهامش المصدر السابق ـ زروق مع ابن ناجي على رسالة ابن أبي زيد 1 / 183، وأبو الحسن على الرسالة بحاشية العدوي 1 / 255، دار المعرفة، بيروت، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 643، أحكام القرآن للجصاص 3 / 260.
(2) المعيار 1 / 151 - 153، دار الغرب الإسلامي - بيروت، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 138 - 149، الرسالة السادسة، والحطاب: مواهب الجليل 1 / 525 - زروق على الرسالة مع ابن ناجي عليها 1 / 179 - شرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 255، 256 المغني مع الشرح الكبير 1 / 559، 560، ومواهب الجليل 1 / 518.

(25/242)


وَالأَْوْزَاعِيُّ، إِلَى وُجُوبِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ لِمَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ.
انْظُرْ: مُصْطَلَحَيْ (اسْتِمَاع، وَصَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .

السُّجُودُ لِسَمَاعِ آيِ السَّجْدَةِ:
10 - يَتَرَتَّبُ سُجُودُ التِّلاَوَةِ عَلَى اسْتِمَاعِ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ فِي حُكْمِهِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُجُود التِّلاَوَةِ) .

سَمَاعُ الدَّعْوَى:
11 - سَمَاعُ الدَّعْوَى - فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ - لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْقَاضِي أَوْ مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (1) . وَهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا السَّمَاعِ أَمْرَيْنِ مُتَتَالِيَيْنِ:
الأَْوَّل: الإِْنْصَاتُ وَالإِْصْغَاءُ إِلَيْهَا لاِسْتِيعَابِهَا وَإِدْرَاكِ خَفَايَاهَا عِنْدَ رَفْعِهَا إِلَيْهِ مِنَ
__________
(1) كصاحب الشرطة أو صاحب الحسبة أو صاحب الرد أو صاحب المدينة، كما نص على ذلك غير واحد من الفقهاء (النباهي: المرقبة العليا ص5) .

(25/243)


الْمُدَّعِي أَوْ وَكِيلِهِ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ هُنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَامِلاً شَامِلاً مُحَصِّلاً لِلْفَهْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا مُوسَى الأَْشْعَرِيَّ فِي رِسَالَةِ الْقَضَاءِ الْمَشْهُورَةِ، حِينَ قَال: " فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ إِذْ لاَ يَتَمَكَّنُ أَيُّ حَاكِمٍ مَهْمَا كَانَتْ دَرَجَتُهُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ إِلاَّ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْفَهْمِ.
النَّوْعُ الأَْوَّل: فَهْمُ الدَّعْوَى الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِفَهْمِ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ (1) .
الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَاقِعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
وَقَدْ حَرَصَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوْفِيرِ كُل مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى سَلاَمَةِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مَرْحَلَةِ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَفَهْمِهَا فَنَبَّهُوا:
أَوَّلاً: إِلَى أَنَّ سَلاَمَةَ السَّمْعِ وَالنُّطْقِ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَافَرَ فِي الْقَاضِي لاِسْتِمْرَارِ وِلاَيَتِهِ، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَثَانِيًا: إِلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ - إِذَا لَمْ يُدْرِكْ كَلاَمَ
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 / 85 - دار الجيل، بيروت.

(25/243)


أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ - أَنْ يُطَالِبَهُ بِالإِْعَادَةِ حَتَّى يَفْهَمَ عَنْهُ مَا يَقُول فَهْمًا كَافِيًا (1) .
وَأَخِيرًا أَكَّدُوا عَلَى تَجَنُّبِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْغَل السَّامِعَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ وَالاِنْتِبَاهِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَاسْتِصْفَاءِ الْفِكْرِ كَالْغَضَبِ وَالْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ وَالأَْلَمِ الْمُزْعِجِ وَمُدَافَعَةِ أَحَدِ الأَْخْبَثَيْنِ، وَشِدَّةِ النُّعَاسِ، وَالْحُزْنِ وَالْفَرَحِ وَمَا إِلَيْهَا. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ يَقْضِي الْقَاضِي أَوْ لاَ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (2) وَقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ: " إِيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ لَهُمْ عِنْدَ الْخُصُومَةِ.
الأَْمْرُ الثَّانِي: قَبُول الدَّعْوَى مِنَ الْمُدَّعِي يُقَال: سَمِعَ الْقَاضِي دَعْوَى فُلاَنٍ: إِذَا
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 87 - 88، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 282، 396 - 399 وتبصرة الحكام 1 / 25، 37 بهامش فتح العلي المالك. وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 221، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 99، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 60 وللماوردي 66.
(2) حديث: (لا يقضي القاضي أو لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان) . أخرجه الشافعي بهذا اللفظ كما في الفتح (13 / 137 ط. السلفية) وأخرجه البخاري من حديث أبي بكرة مرفوعا بلفظ (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) (فتح الباري 13 / 136 ط. السلفية) .

(25/244)


قَبِلَهَا، وَيُقَال: لَمْ يَسْمَعْهَا: إِذَا رَدَّهَا، كَمَا يُقَال: هَذِهِ دَعْوَى مَسْمُوعَةٌ؛ أَيْ: مُسْتَجْمِعَةٌ لِشُرُوطِ الْقَبُول، وَتِلْكَ دَعْوَى غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ؛ أَيْ: أَنَّهَا لَمْ تَسْتَكْمِل مَا يُطْلَبُ لِسَمَاعِهَا.
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الدَّعْوَى بِتَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ يَدْعَمُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ وَيَشْرَحُهُ.
وَاَلَّذِي يَتَعَيَّنُ ذِكْرُهُ هُنَا أَنَّ الدَّعْوَى - مَهْمَا كَانَ نَوْعُهَا (1) - لاَ يُتَّجَهُ سَمَاعُهَا وَلاَ يَتَحَتَّمُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ:
الأُْولَى: أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً مُسْتَجْمِعَةً لِشُرُوطِهَا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ مَدْعُومَةً بِبَيِّنَةٍ شَرْعِيَّةٍ تَشْهَدُ بِصِدْقِ دَعْوَى الْمُدَّعِي.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَعْوَى) .
فَسَمَاعُ الدَّعْوَى فِي الْحَالَةِ الأُْولَى يُوجِبُ لِلْمُدَّعِي طَلَبَ الْجَوَابِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ حَمْلِهِ عَلَى الْيَمِينِ إِنْ أَنْكَرَ، وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يُوجِبُ سَمَاعُهَا الْحُكْمَ لِلْمُدَّعِي بِمُقْتَضَى الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَهَا (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 86، 2 / 175، المغني مع الشرح الكبير 11 / 395، جواهر الإكليل 2 / 225، مواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 122، المغني مع الشرح الكبير 11 / 5، التبصرة 2 / 132، المصباح المنير 1 / 392، 393.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 35 / 390.

(25/244)


سَمَاعُ الشَّهَادَةِ:
12 - الشَّهَادَةُ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِمَا عَلِمَهُ الشَّاهِدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُل أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (1) . وَقَوْلِهِ - جَل ذِكْرُهُ -: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْل إِخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا عَلِمْتَ مِثْل الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلاَّ فَدَعْ (4) .
وَالْعِلْمُ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ يَحْصُل بِطَرِيقَتَيْنِ:

أ - الرُّؤْيَةُ:
وَتَكُونُ فِي الأَْفْعَال كَالْغَصْبِ وَالإِْتْلاَفِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالإِْكْرَاهِ وَنَحْوِهَا،
__________
(1) سورة الإسراء / 36.
(2) سورة الزخرف / 86.
(3) سورة يوسف / 81.
(4) حديث: " إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع ". أورده السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 291) وعزاه إلى الحاكم والبيهقي. وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (ذُكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يشهد بشهادة فقال لي يا ابن عباس: " لا تشهد إلا على ما يضيء لك كضياء هذا الشمس " وأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الشمس، والحديث صححه الحاكم وأعله ال (المستدرك 4 / 98 نشر دار الكتاب العربي) .

(25/245)


كَمَا تَكُونُ فِي الصِّفَاتِ الْمَرْئِيَّةِ مِثْل الْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ وَالْمُؤَجَّرِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ (1) .

ب - السَّمَاعُ: وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: سَمَاعُ الصَّوْتِ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي الأَْقْوَال سَوَاءٌ أَكَانَ السَّامِعُ مُبْصِرًا أَمْ غَيْرَ مُبْصِرٍ مِثْل مَا يَقَعُ بِهِ إِبْرَامُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى سَمَاعِ كَلاَمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، إِذَا عَرَفَهَا السَّامِعُ وَتَيَقَّنَ أَنَّهَا مَصْدَرُ مَا سَمِعَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة) .

الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ (التَّسَامُعُ) :
13 - وَهِيَ: الشَّهَادَةُ الَّتِي يَكُونُ طَرِيقُهَا حَاسَّةَ السَّمْعِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة) .

سَمَاعُ الْغِنَاءِ وَالْمُوسِيقَى:
14 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ سَمَاعِ الْغِنَاءِ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 2 / 2120، مواهب الجليل 6 / 145، جواهر الإكليل 2 / 233.
(2) البيان والتحصيل لابن رشد 9 / 444، 445، 10 / 57 - 89 دار الغرب الإسلامي، المغني مع الشرح الكبير 12 / 21، جواهر الإكليل 2 / 233، مواهب الجليل 6 / 154.

(25/245)


وَالْمُوسِيقَى عَلَى مَذَاهِبَ تُنْظَرُ فِي (اسْتِمَاع، غِنَاء، مَعَازِف) .

حُكْمُ سَمَاعِ صَوْتِ الْمَرْأَةِ:
15 - سَامِعُ صَوْتِ الْمَرْأَةِ إِنْ كَانَ يَتَلَذَّذُ بِهِ أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ فِتْنَةً حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُهُ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (اسْتِمَاع) .

حُكْمُ سَمَاعِ الْقُرْآنِ:
16 - اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ عِنْدَ تِلاَوَتِهِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وَلاِسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ آدَابٌ وَأَحْكَامٌ مُبَيَّنَةٌ تَفْصِيلاً فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاع، تِلاَوَة، قُرْآن) .

حُكْمُ سَمَاعِ الْحَدِيثِ:
17 - إِنَّ سَمَاعَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ وَطَلَبَ السُّنَنِ وَالآْثَارِ وَإِتْقَانَ ذَلِكَ وَضَبْطَهُ وَحِفْظَهُ وَوَعْيَهُ هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لأَِنَّ الشَّرِيعَةَ الَّتِي تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِهَا مُتَلَقَّاةٌ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَتِهِ مُبَلِّغًا مَا نَزَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ وَحْيٍ مَتْلُوٍّ مُعْجِزِ النِّظَامِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، وَوَحْيٍ مَرْوِيٍّ لَيْسَ
__________
(1) سورة الأعراف / 204.

(25/246)


بِمُعْجِزٍ وَلاَ مَتْلُوٍّ وَلَكِنَّهُ مَقْرُوءٌ مَسْمُوعٌ وَهُوَ مَا وَرَدَ عَنْهُ فِي الأَْحَادِيثِ وَالأَْخْبَارِ.
وَمُهِمَّةُ جَمْعِهِ وَتَحْصِيلِهِ قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَى كَوَاهِل الأُْمَّةِ وَخَاصَّةً أَعْلاَمَهَا وَذَوِي الْقُدْرَةِ مِنْ أَبْنَائِهَا، وَلاَ يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالسَّمَاعِ وَالتَّقْيِيدِ وَالْحِفْظِ وَالتَّدْوِينِ (1) .
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِل فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِل فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ (3) .
__________
(1) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص 6، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1 / 96، 97، دار الآفاق الجديدة بيروت ط2 سنة 1402 هـ 1983م.
(2) حديث: " نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه ". أخرجه الترمذي (5 / 33 ط، دار الكتب العلمية) وأبو داود (4 / 68، 69 - ط، عزت عبيد الدعاس) وحسنه الترمذي.
(3) حديث: " نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع ". أخرجه الترمذي (5 / 33 ط. دار الكتب العلمية) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(25/246)


وَحَثَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى اعْتِمَادِ هَذَا الطَّرِيقِ أَخْذًا وَعَطَاءً فَقَال فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -: تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ (1) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ فِي الْحَدِيثَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يُرَادُ لِلْعِلْمِ الاِسْتِمَاعُ وَالإِْنْصَاتُ وَالْحِفْظُ وَالْعَمَل وَالنَّشْرُ (2) .
وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّمْيِيزِ فِي سَمَاعِ الْحَدِيثِ، فَإِنْ فَهِمَ الْخِطَابَ وَرَدَّ الْجَوَابَ كَانَ مُمَيِّزًا صَحِيحَ السَّمَاعِ وَإِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ رَأْيُ أَغْلَبِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مُوسَى بْنُ هَارُونَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَنَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ أَهْل الصَّنْعَةِ حَدَّدُوا أَوَّل زَمَنٍ يَصِحُّ فِيهِ السَّمَاعُ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْعَمَل (3) . اعْتِمَادًا
__________
(1) حديث: " تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم ". أخرجه أبو داود (4 / 68 - ط، عزت عبيد الدعاس) وإسناده حسن (جامع الأصول في أحاديث الرسول 8 / 19، 20 ط. مطبعة الملاح) .
(2) جامع بيان العلم 1 / 118، دار الكتب العلمية، بيروت، والإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص 221.
(3) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص 62، 65 - 66، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 1 / 171، المكتبة السلفية، وتدريب الراوي في شرح تقريب المناوي 2 / 5 - 6 دار التراث ط2 سنة 1392 هـ 1972م.

(25/247)


عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَال: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي مِنْ دَلْوٍ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِنَا وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ. وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا هَذَا التَّحْدِيدَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَدْنَى مَا يَحْصُل فِيهِ ضَبْطُ مَا يَسْمَعُ وَإِلاَّ فَمَرَدُّ ذَلِكَ لِلْعَادَةِ وَحْدَهَا؛ إِذِ الأَْمْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ اسْتِعْدَادِ الأَْشْخَاصِ لِلأَْخْذِ وَالتَّلَقِّي كَمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طُرُقِ التَّحَمُّل، وَهِيَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ ضَبَطَهَا أَهْل الرِّوَايَةِ فِي ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ، أَوَّلُهَا: سَمَاعُ الْحَدِيثِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ وَهُوَ أَرْفَعُ الأَْقْسَامِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْل الْعِلْمِ، وَأَدْنَاهَا الْوِجَادَةُ.
أَمَّا السِّنُّ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ أَنْ يَبْتَدِئَ الطَّالِبُ لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ فَقِيل ثَلاَثُونَ سَنَةً وَقِيل عِشْرُونَ، وَعَلَيْهِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي سَمَاعِ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِأَخْلاَقِ أَهْلِهِ وَأَنْ يَلْتَزِمَ بِزِيِّهِمْ وَيَتَأَدَّبَ بِأَدَبِهِمْ وَأَنْ يَلْزَمَ الْوَقَارَ وَالسَّكِينَةَ وَالْمُوَاظَبَةَ فِي طَلَبِهِ وَإِخْلاَصَ النِّيَّةِ فِيهِ وَالتَّوَاضُعَ لِمَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ وَالصَّبْرَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ فِي سَبِيلِهِ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَى الاِسْتِفَادَةِ وَالإِْفَادَةِ وَيُيَسِّرُ التَّحَمُّل وَالتَّحْمِيل (1) .
__________
(1) الإلماع 45 - 63 وما بعدها، جامع الأصول 9 / 15، 38 وما بعدها، وفتح الباري 1 / 172 البرهان 1 / 644، والإلماع ص 64، فتح الباري 1 / 173، وتدريب الراوي 2 / 140 - 158.

(25/247)


سَمَاعُ اللَّغْوِ:
18 - اللَّغْوُ مِنَ الْكَلاَمِ: - مَا لاَ يُعْتَدُّ بِهِ إِمَّا لأَِنَّهُ يُورَدُ ارْتِجَالاً عَنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَدُونَ تَثَبُّتٍ وَتَفْكِيرٍ فَيَجْرِي مَجْرَى اللَّغَا الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى صَوْتِ الْعَصَافِيرِ وَنَحْوِهَا مِنَ الطُّيُورِ (1) .
وَإِمَّا لأَِنَّهُ يُورَدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّوَابِ كَمَنْ قَال لِصَاحِبِهِ: أَنْصِتْ، وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ (2) . أَوْ كَمَنْ دَعَا لأَِهْل الدُّنْيَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ (3) . وَقَدْ يُطْلَقُ اللَّغْوُ
__________
(1) المفردات في غريب القرآن ص 451، روح المعاني 27 / 139، 30 / 22، 23.
(2) حديث: " إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 414 ط. السلفية) ومسلم (2 / 583) من حديث أبي هريرة مرفوعا
(3) قال ابن العربي: لقد رأيت الزهاد بمدينة السلام والكوفة إذا بلغ الإمام إلى الدعاء لأهل الدنيا قاموا فصلوا ورأيتهم يتكلمون مع جلسائهم فيما يحتاجون إليه من أمرهم أو في علم ولا يصغون إليهم حينئذ لأنه عندهم لغو فلا يلزم استماعهم لاسيما وبعض الخطباء يكذبون حينئذ

(25/248)


عَلَى كُل كَلاَمٍ قَبِيحٍ بَاطِلٍ، كَالْخَوْضِ فِي الْمَعَاصِي، وَالسَّبِّ، وَالشَّتْمِ، وَالرَّفَثِ، وَمَا إِلَيْهَا (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (2) . أَيْ: كَنُّوا عَنِ الْقَبِيحِ وَتَعَفَّفُوا عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَقِيل: مَعْنَاهُ: إِذَا صَادَفُوا أَهْل اللَّغْوِ لَمْ يَخُوضُوا مَعَهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ أَوْ فِي سَقَطِ كَلاَمِهِمْ.
وَمَا دَامَ اللَّغْوُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لاَ يَجْلِبُ نَفْعًا وَلاَ يَدْفَعُ إِثْمًا، وَلاَ يَتَّصِل بِقَصْدٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّ سَمَاعَهُ كَالْخَوْضِ فِيهِ لاَ يَخْرُجُ حُكْمُهُ عَنِ الْحَظْرِ وَالْكَرَاهَةِ، تَبَعًا لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِالْمَفَاسِدِ، وَانْفِكَاكِهِ عَنْهَا (3) .
وَالْمُؤْمِنُونَ مُطَالَبُونَ بِالإِْعْرَاضِ عَنْهُ، وَالإِْحْجَامِ عَنْ سَمَاعِهِ، وَالْخَوْضِ فِيهِ إِطْلاَقًا لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَخْلاَقِهِمْ وَلاَ يَتَنَاسَبُ - فِي أَقَل صُوَرِهِ - مَعَ جِدِّهِمْ وَكَمَال نُفُوسِهِمْ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
__________
(1) أحكام القرآن 3 / 312، 428 - المطبعة البهية بمصر سنة 1347 هـ، روح المعاني 27 / 139، 30 / 22، 23.
(2) سورة الفرقان / 72.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 428، والمفردات في غريب القرآن ص 451، روح المعاني 19 / 51، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 126.

(25/248)


الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَاَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (1) .
وَقَال جَل ذِكْرُهُ فِي صِفَتِهِمْ: {وَاَلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (2) . وَقَال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون / 1 - 3.
(2) سورة الفرقان / 72.
(3) سورة القصص / 55.

(25/249)


سَمْت

التَّعْرِيفُ
1 - مِنْ مَعَانِي السَّمْتِ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ. وَالْمُسَامَتَةُ: الْمُوَازَاةُ وَالْمُقَابَلَةُ، يُقَال: سَامَتَ الْقِبْلَةَ مُسَامَتَةً: إِذَا اسْتَقْبَلَهَا وَاتَّجَهَ نَحْوَهَا. وَسَمَتَ سَمْتَهُ: نَحَا نَحْوَهُ، وَيُطْلَقُ السَّمْتُ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: " إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلًّا وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَبْنُ أُمِّ عَبْدٍ (1) .
وَالسَّمْتُ أَيْضًا " هَيْئَةُ أَهْل الْخَيْرِ " يُقَال: رَجُلٌ حَسَنُ السَّمْتِ، وَمَا أَحْسَنَ سَمْتَهُ؛ أَيْ: هَدْيَهُ. وَالتَّسْمِيتُ (بِالسِّينِ وَالشِّينِ) ، الدُّعَاءُ لِلْعَاطِسِ (2) .
__________
(1) قول حذيفة: " إن أشبه الناس دلاّ وسمتا ". . . . أخرجه البخاري (الفتح 10 / 509 - ط السلفية) وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
(2) لسان العرب، المصباح المنير.

(25/249)


وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الاِسْتِقْبَال، وَالْمُحَاذَاةُ: اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَمُحَاذَاتُهَا مُرَادِفَانِ لِمُسَامَتَتِهَا.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (اسْتِقْبَال) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مُسَامَتَةَ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ صَلاَةِ الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَال) .
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 417، والدسوقي 1 / 223.
(2) سورة البقرة / 144.

(25/250)


سِمْحَاق

التَّعْرِيفُ:
1 - السِّمْحَاقُ بِكَسْرِ السِّينِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ فَوْقَ عَظْمِ الرَّأْسِ تَفْصِل اللَّحْمَ عَنِ الْعَظْمِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تُطْلَقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الشَّجَّةِ الَّتِي تَصِل إِلَى تِلْكَ الْقِشْرَةِ، تَقْطَعُ اللَّحْمَ وَلاَ تَصِل إِلَى الْعَظْمِ (1) . وَيُسَمِّيهَا الْمَالِكِيَّةُ الْمِلْطَاةَ، أَمَّا السِّمْحَاقُ عِنْدَهُمْ: فَهِيَ الَّتِي كَشَطَتِ الْجِلْدَ؛ أَيْ: أَزَالَتْهُ عَنِ اللَّحْمِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْجُرُوحُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْوَجْهِ أَوِ الرَّأْسِ - أَيِ الشِّجَاجُ - تَتَنَوَّعُ حَسَبَ شِدَّتِهَا وَخِفَّتِهَا إِلَى أَنْوَاعٍ: مِنْهَا مَا لَمْ تَصِل إِلَى الْعَظْمِ كَالْحَارِصَةِ، وَالدَّامِعَةِ، وَالدَّامِيَةِ،
__________
(1) لسان العرب، والزيلعي 6 / 132، والقليوبي 4 / 112، والمطلع على أبواب المقنع ص 367.
(2) جواهر الإكليل 2 / 259.

(25/250)


وَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلاَحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، وَمِنْهَا مَا تَصِل إِلَى الْعَظْمِ كَالْمُوضِحَةِ وَالْهَاشِمَةِ وَالآْمَّةِ وَالْمُنَقِّلَةِ (1) . وَقَدْ فُصِّلَتْ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - السِّمْحَاقُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّجَاجِ الَّتِي لاَ تَجِبُ فِيهَا دِيَةٌ وَلاَ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (2) ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الشَّرْعِ، وَيَصْعُبُ ضَبْطُهَا وَتَقْدِيرُهَا، وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا، فَتَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ (3) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَهَا الْمُوصِلِيُّ: يَجِبُ فِي عَمْدِهَا الْقِصَاصُ؛ لإِِمْكَانِ ضَبْطِهَا (4) .
(ر: دِيَات، وَقِصَاص) .
__________
(1) الزيلعي 6 / 132، وجواهر الإكليل 2 / 259، والقليوبي 4 / 112، 113، والمطلع ص 367
(2) الحكومة: هي ما تدفع للمجني عليه من قبل الجاني باجتهاد القاضي أو بتقدير أهل الخبرة، وذلك فيما لا يكون فيه أرش مقدر: (ر: حكومة) .
(3) الاختيار 5 / 42، والزيلعي 6 / 132، 134، والروضة 9 / 265، والقليوبي 4 / 112، 113، والمغني 8 / 42.
(4) الاختيار 5 / 242، والقليوبي 4 / 113، والفواكه الدواني 2 / 213، وجواهر الإكليل 2 / 259.

(25/251)


سَمْع

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّمْعُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ حِسُّ الأُْذُنِ، قَال الرَّاغِبُ: السَّمْعُ قُوَّةٌ فِي الأُْذُنِ بِهَا تُدْرِكُ الأَْصْوَاتَ. وَفِي التَّنْزِيل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1) .
وَيُطْلَقُ السَّمْعُ عَلَى الأُْذُنِ، وَقَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الإِْجَابَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ (2) أَيْ: أَجَابَ حَمْدَهُ وَتَقَبَّلَهُ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى: الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ (3) (2 م) أَيْ: لاَ يُسْتَجَابُ وَلاَ يُعْتَدُّ
__________
(1) سورة ق / 37.
(2) حديث: " سمع الله لمن حمده ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 282 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) دعاء " اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع ". أخرجه الترمذي (5 / 519 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " حديث حسن صحيح ".

(25/251)


بِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ (1) .
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى " السَّمِيعُ ".
وَالاِصْطِلاَحُ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِمَاعُ:
2 - الاِسْتِمَاعُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: قَصْدُ السَّمَاعِ بُغْيَةَ فَهْمِ الْمَسْمُوعِ أَوِ الاِسْتِفَادَةِ مِنْهُ. أَمَّا السَّمْعُ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ الْقَصْدِ أَوْ بِدُونِهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الاِسْتِمَاعِ (2) .

ب - الإِْنْصَاتُ:
3 - الإِْنْصَاتُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: السُّكُوتُ لِلاِسْتِمَاعِ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - السَّمْعُ - كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ - مِنْ أَجَل النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِهَا عَمَّا حَرَّمَهُ تَعَالَى. قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ
__________
(1) لسان العرب، مفردات الراغب وتعريفات الجرجاني.
(2) المصباح، الفروق للعسكري 81، القليوبي 3 / 297.
(3) المغرب، المصباح، النظم المستعذب للركبي 1 / 81، القليوبي 1 / 280.

(25/252)


وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُل أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (1) . وَقَال: {وَقَدْ نَزَّل عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2) .
وَالسَّمْعُ مِنْ أَهَمِّ حَوَاسِّ الإِْنْسَانِ وَأَشْرَفِهَا حَتَّى مِنَ الْبَصَرِ كَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِذْ هُوَ الْمُدْرِكُ لِخِطَابِ الشَّرْعِ الَّذِي بِهِ التَّكْلِيفُ؛ وَلأَِنَّهُ يُدْرَكُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَفِي كُل الأَْحْوَال، أَمَّا الْبَصَرُ فَيَتَوَقَّفُ الإِْدْرَاكُ بِهِ عَلَى الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ (3) .
لِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَصَدَّى لأَِمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ كَالإِْمَامَةِ وَالْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا، فَلاَ يَجُوزُ تَنْصِيبُ إِمَامٍ أَصَمَّ، وَلاَ تَعْيِينُ قَاضٍ لاَ يَسْمَعُ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَة كُبْرَى وَبَابِ: الْقَضَاءِ) .
وَيَحْرُمُ سَمَاعُ الْغِيبَةِ، وَفُحْشِ الْقَوْل، وَالْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.

مَا يَجِبُ بِإِذْهَابِ السَّمْعِ بِجِنَايَةٍ:
5 - السَّمْعُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لاَ تَفُوتُ مَنْفَعَتُهَا
__________
(1) سورة الإسراء / 36.
(2) سورة النساء / 140.
(3) نهاية المحتاج 7 / 334.

(25/252)


بِالْمُبَاشَرَةِ لَهَا بِالْجِنَايَةِ، بَل تَفُوتُ تَبَعًا لِمَحَلِّهَا أَوْ لِمُجَاوِرِهَا. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا زَال السَّمْعُ بِسِرَايَةٍ مِنْ جِنَايَةٍ لاَ قِصَاصَ فِيهَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ (1) ، كَأَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ مِمَّا يَتَعَذَّرُ مِنْهُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ كَالْهَاشِمَةِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ تَكَافُؤٌ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَوْلَهُ: " إِنَّ عَوَامَّ أَهْل الْعِلْمِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي السَّمْعِ دِيَةً ". وَقَال: وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَبِهِ قَال مُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَأَهْل الشَّامِ، وَأَهْل الْعِرَاقِ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " لاَ أَعْلَمُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ خِلاَفًا لَهُمْ (2) ".
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَفِي السَّمْعِ دِيَةٌ (3) .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً رَمَى رَجُلاً بِحَجَرٍ فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ وَلِسَانُهُ وَنِكَاحُهُ، فَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَالرَّجُل
__________
(1) ابن عابدين 5 / 348، نهاية المحتاج 7 / 334، مواهب الجليل 6 / 248، المغني 8 / 9.
(2) المغني 8 / 9.
(3) حديث: " وفي السمع دية ". أورده البيهقي في سننه (8 / 85 - ط دائرة المعارف العثمانية) بلفظ: " في السمع مائة من الإبل "، وعزاه إلى أبي يحيى الساجي بإسناد ضعفه.

(25/253)


حَيٌّ؛ لأَِنَّ السَّمْعَ حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِنَفْعٍ فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ.
أَمَّا إِذَا ذَهَبَ بِجِنَايَةٍ فِيهَا الْقِصَاصُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ، فَيُقْتَصُّ مِنْهُ بِمِثْل فِعْلِهِ. فَإِنْ ذَهَبَ بِهِ فَقَدْ حَصَل الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ أُذْهِبَ بِمُعَالَجَةٍ لأَِنَّ لِلسَّمْعِ مَحِلًّا مَضْبُوطًا، وَلأَِهْل الْخِبْرَةِ طُرُقٌ فِي إِبْطَالِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَلَكِنْ قَالُوا: إِذَا لَمْ يَبْطُل بِالْقِصَاصِ فَلاَ يَبْطُل بِالْمُعَالَجَةِ بَل يَجِبُ عَلَى الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قِصَاصَ فِي إِبْطَال السَّمْعِ لِتَعَذُّرِ الاِقْتِصَاصِ فِيهِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي (الْقِصَاص) (وَالدِّيَة) (وَالْجِنَايَةُ فِي مَا دُونَ النَّفْسِ) . وَبَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْل مُصْطَلَحِ السَّمْعِ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ (اسْتِمَاع) (وَأُذُن) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 25، نهاية المحتاج 7 / 286، مواهب الجليل 6 / 248، وكشاف القناع 5 / 552، 553.
(2) بدائع الصنائع 7 / 307.

(25/253)


سَمْعِيَّات

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّمْعِيَّاتُ: هِيَ الأُْمُورُ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا السَّمْعُ، كَالنُّبُوَّةِ، أَوْ هِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى السَّمْعِ كَالْمَعَادِ وَأَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ مِنَ الإِْيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ (1) .
وَيَدْخُل فِي السَّمْعِيَّاتِ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ وَالْبَعْثُ، وَالأُْمُورُ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ كَالْحِسَابِ وَالْكُتُبِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ (2) .
__________
(1) المعجم الوسيط 1 / 452 وشرح الشريف الجرجاني على المواقف ص 217، وتفسير الفخر الرازي 2 / 27، والألوسي 1 / 114.
(2) القرطبي 1 / 163، الشريف الجرجاني على المواقف العضدية / 217 المواقف العضدية - المرصد الثاني 371 / 383، روضة الطالبين 10 / 71.

(25/254)


الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ:
2 - الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالسَّمْعِيَّاتِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْقِسْمُ الأَْوَّل: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالإِْيمَانِ بِهَا، وَأَقْسَامِهَا، وَأَدِلَّتِهَا. وَتَفْصِيلُهُ فِي مَبْحَثِ (إِيمَان (1)) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ مُنْكِرِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا، وَجَزَاءِ ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مَبْحَثِ: (رِدَّة) .

سَمَك

انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) الموسوعة الفقهية 7 / 314.

(25/254)


سُمّ
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّمُّ بِتَثْلِيثِ السِّينِ فِي اللُّغَةِ: الْمَادَّةُ الْقَاتِلَةُ، وَجَمْعُهَا سُمُومٌ وَسِمَامٌ، وَيُقَال: هَذَا شَيْءٌ مَسْمُومٌ؛ أَيْ: فِيهِ سُمٌّ، وَسَمَّ الطَّعَامَ: جَعَل فِيهِ السُّمَّ (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التِّرْيَاقُ:
2 - هُوَ بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُقَال لَهُ أَيْضًا دِرْيَاقٌ: دَوَاءُ السُّمُومِ - فَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءً، أَوْ إِنَّهَا تِرْيَاقٌ، أَوَّل الْبُكْرَةِ (2) وَيُطْلَقُ عَلَى كُل مَا يُسْتَعْمَل
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " إن في عجوة العالية شفاء ". أخرجه مسلم (3 / 1619 - ط الحلبي) من حديث عائشة.

(25/255)


لِدَفْعِ السُّمِّ فِي الأَْدْوِيَةِ وَالْمَعَاجِينِ (1) .

ب - الدَّوَاءُ:
3 - الدَّوَاءُ مِنْ دَاوَيْتُ الْعَلِيل دَوَاءً وَمُدَاوَاةً: إِذَا عَالَجْتَهُ بِالأَْشْفِيَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسُّمِّ:
تَنَاوُل السُّمِّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ تَنَاوُل مَا يَقْتُل مِنَ السُّمِّ بِلاَ حَاجَةٍ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (4) .

طَهَارَةُ السُّمِّ أَوْ نَجَاسَتُهُ:
اخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ السُّمِّ، أَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِأَنَّ السُّمَّ نَجَسٌ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْجَامِدِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ النَّبَاتَاتِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ إِلاَّ لأَِضْرَارِهَا، وَمَا كَانَ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَسَائِرِ الْهَوَامِّ ذَوَاتِ السُّمُومِ. وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الأَْشْجَارِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.
(3) سورة البقرة / 195.
(4) سورة النساء / 29.

(25/255)


وَالنَّبَاتَاتِ مِمَّا لَمْ يَحْرُمْ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُضِرًّا بِالصِّحَّةِ، وَبَيْنَ مَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ أَوْ كَانَ مِنْ نَجَسٍ، كَأَنْ يُخَالِطَهُ لُحُومُ الْحَيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ لُحُومِ الْهَوَامِّ ذَوَاتِ السَّمُومِ أَوْ كَانَ لُعَابًا لِمَا ذُكِرَ، كَسُمِّ الْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ وَسَائِرِ الْهَوَامِّ، قَالُوا: تَبْطُل الصَّلاَةُ بِلَسْعَةِ الْحَيَّةِ؛ لأَِنَّ سُمَّهَا تَظْهَرُ عَلَى مَحَل اللَّسْعَةِ. أَمَّا لُعَابُ الْعَقْرَبِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ عَلَى الأَْوْجَهِ عِنْدَهُمْ لأَِنَّ إِبْرَتَهَا تَغُوصُ فِي بَاطِنِ اللَّحْمِ وَيَمُجُّ السُّمَّ فِيهِ، وَهُوَ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ (1) . وَسَبَبُ نَجَاسَتِهِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي السُّمَيَّةِ بَل لِكَوْنِهِ فَضْلَةَ غَيْرِ مَأْكُولٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ لُعَابَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَغَيْرِهَا مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ طَاهِرٌ كَلُعَابِ كُل حَيٍّ إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِل النَّجَاسَةَ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: " نَقَل صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنِ ابْنِ هَارُونَ: أَنَّهُ قَال فِي شَرْحِ قَوْل ابْنِ الْحَاجِبِ: اللُّعَابُ وَالْمُخَاطُ مِنَ الْحَيِّ طَاهِرٌ، ثُمَّ قَال: إِنَّ الْحَشَرَاتِ إِذَا أُمِنَ مِنْ سُمِّهَا: مُبَاحَةٌ "، وَقَال الزَّرْقَانِيُّ: وَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ سُمِّهَا (2) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 309، كشاف القناع 6 / 189، ونهاية المحتاج 1 / 233 - 234، حاشية الشرقاوي على التحرير 1 / 118.
(2) مواهب الجليل 1 / 93 وما بعده.، شرح الزرقاني 1 / 24.

(25/256)


وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ لُعَابَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ نَجَسٌ عِنْدَهُمْ؛ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهَا، وَلُعَابُهَا مِنْ جِسْمِهَا كَكُل مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ.

بَيْعُ السُّمِّ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السُّمَّ الْقَاتِل إِذَا خَلاَ مِنْ نَفْعٍ يُبَاحُ أَوْ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ كَلُحُومِ الْحَيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّ جَوَازَ الاِنْتِفَاعِ فِي الْمَبِيعِ انْتِفَاعًا مَشْرُوعًا، وَطَهَارَتُهُ شَرْطَانِ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ (2) .
وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ شَرْعًا وَلَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ بَيْعِهِ سَوَاءٌ كَانَ السُّمُّ مِنَ الْحَشَائِشِ أَمْ مِنَ الْحَيَّاتِ. وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ النَّبَاتَاتِ وَالْحَشَائِشِ مِنَ السُّمِّ وَبَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الأَْفَاعِي، وَقَالُوا بِتَحْرِيمِ بَيْعِ سُمُومِ الأَْفَاعِي؛ لِخُلُوِّهَا مِنْ نَفْعٍ مُبَاحٍ، فَأَمَّا السُّمُّ مِنَ الْحَشَائِشِ وَالنَّبَاتَاتِ، فَإِنْ كَانَ لاَ
__________
(1) حاشية الطحطاوي ص: 19، بدائع الصنائع 1 / 64 - 65.
(2) كتاب الأم للشافعي 3 / 115، نهاية المحتاج 3 / 384، حاشية الجمل على المنهج 3 / 26، كشاف القناع 3 / 155، مواهب الجليل 4 / 266.

(25/256)


يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ كَانَ يَقْتُل قَلِيلُهُ غَالِبًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِعَدَمِ النَّفْعِ وَخَوْفِ الضَّرَرِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ كَالتَّدَاوِي بِهِ جَازَ بَيْعُهُ (1) .
التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْع) .

التَّدَاوِي بِالسُّمِّ:
6 - يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُول بِنَجَاسَتِهِ إِنْ غَلَبَتِ السَّلاَمَةُ مِنْ ضَرَرِهِ وَيُرْجَى نَفْعُهُ، لاِرْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَلِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمَا، بِشَرْطِ إِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ بِذَلِكَ أَوْ مَعْرِفَةِ الْمُتَدَاوِي بِهِ، وَعَدَمِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا يُحَصِّل التَّدَاوِيَ (2) .

الْقَتْل بِالسُّمِّ:
7 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا قُدِّمَ لِصَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ أَوْ مَجْنُونٍ طَعَامٌ مَسْمُومٌ فَمَاتَ مِنْهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى مُقَدِّمِ الطَّعَامِ، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السُّمَّ يَقْتُل غَالِبًا، سَوَاءٌ أَخْبَرَهُ أَنَّ الطَّعَامَ مَسْمُومٌ أَمْ لاَ.
وَإِنْ أَكْرَهَ بَالِغًا عَاقِلاً عَلَى أَكْل طَعَامٍ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) كشاف القناع 2 / 76، أسنى المطالب 4 / 159، الأم للشافعي 3 / 115، شرح الزرقاني 3 / 27، ابن عابدين 4 / 101.

(25/257)


مَسْمُومٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُكْرِهُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُكْرِهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ فَلاَ قِصَاصَ كَمَا إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى قَتَل نَفْسِهِ.
وَإِنْ أَوْجَرَهُ السُّمَّ فِي حَلْقِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا؛ لأَِنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ وَلاَ اخْتِيَارَ لَهُ حَتَّى يُقَال عَنْهُ: إِنَّهُ تَنَاوَل السُّمَّ بِاخْتِيَارِهِ، فَحَدُّ الْعَمْدِ صَادِقٌ عَلَيْهِ (1) . وَإِنْ قَدَّمَ طَعَامًا مَسْمُومًا لِبَالِغٍ عَاقِلٍ فَأَكَلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ الْحَال فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَل نَفْسَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحَال فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ. فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بَل تَجِبُ دِيَةٌ لِشِبْهِ الْعَمْدِ لِتَنَاوُلِهِ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ تَغْرِيرُهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ الْقِصَاصُ لِتَغْرِيرِهِ كَالإِْكْرَاهِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ يَقْتُل غَالِبًا، وَيُتَّخَذُ طَرِيقًا إِلَى الْقَتْل كَثِيرًا فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ (3) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 5، نهاية المحتاج 7 / 254، المغني 7 / 643، حاشية الدسوقي 4 / 244، مواهب الجليل 6 / 241
(2) نهاية المحتاج 7 / 254.
(3) المغني 7 / 643، المدونة 6 / 433، مواهب الجليل 6 / 241.

(25/257)


وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ.
وَإِنْ دَسَّ فِي طَعَامِ شَخْصٍ مُمَيِّزٍ أَوْ بَالِغٍ الْغَالِبُ أَكْلُهُ مِنْهُ فَأَكَلَهُ جَاهِلاً، فَعَلَيْهِ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَإِنْ دَسَّ السُّمَّ فِي طَعَامِ نَفْسِهِ فَأَكَل مِنْهُ آخَرُ عَادَتُهُ الدُّخُول عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ هَدَرًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ فَإِنَّمَا الدَّاخِل هُوَ الَّذِي قَتَل نَفْسَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ بِئْرًا فَدَخَل فِيهِ رَجُلٌ فَوَقَعَ فِيهِ (1) .
وَإِنْ دَاوَى جُرْحًا فِي جِسْمِهِ مِنْ جِنَايَةٍ مَضْمُونَةٍ بِسُمٍّ قَاتِلٍ، فَمَاتَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْجَارِحِ فِي النَّفْسِ وَلاَ دِيَةِ النَّفْسِ؛ إِذْ هُوَ قَاتِل نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ السُّمَّ يَقْتُل غَالِبًا أَوْ أَنَّهُ سُمٌّ، بَل يَجِبُ عَلَى الْجَارِحِ ضَمَانُ الْجُرْحِ بِالْقِصَاصِ أَوْ بِالأَْرْشِ، حَسَبَ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قِصَاصَ فِي الْقَتْل بِالسُّمِّ مُطْلَقًا، فَإِنْ قَدَّمَ إِلَى إِنْسَانٍ طَعَامًا مَسْمُومًا فَأَكَل مِنْهُ - وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ - فَمَاتَ مِنْهُ فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، فَيُعَزَّرُ بِحَبْسٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ أَوْجَرَهُ إيجَارًا أَوْ أَكْرَهَهُ
__________
(1) المصادر السابقة.

(25/258)


عَلَى تَنَاوُلِهِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي لأَِنَّ الْقَتْل حَصَل بِمَا لاَ يَجْرَحُ فَكَانَ مِنْ شِبْهِ الْعَمْدِ (1) .

سِمَنٌ

انْظُرْ: نَمَاء
__________
(1) ابن عابدين 5 / 348 - 349.

(25/258)


سَنَة
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّنَةُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ: الْحَوْل، وَجَمْعُهَا سَنَوَاتٌ وَيَجُوزُ سَنَهَاتٌ، وَإِذَا أُطْلِقَتِ السَّنَةُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فَهِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ، وَلَيْسَتِ الشَّمْسِيَّةَ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَامُ:
2 - وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ الْحَوْل، وَفَرَّقَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ بَيْنَ الْعَامِ وَبَيْنَ السَّنَةِ، قَال ابْنُ الْجَوَالِيقِيِّ: وَلاَ تُفَرِّقُ عَوَامُّ النَّاسِ بَيْنَ الْعَامِ وَالسَّنَةِ وَيَجْعَلُونَهُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ مَا أُخْبِرْتُ بِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ قَال: السَّنَةُ: مِنْ أَيِّ يَوْمٍ عَدَدْتَهُ إِلَى مِثْلِهِ، وَالْعَامُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ شِتَاءً وَصَيْفًا، وَفِي التَّهْذِيبِ أَيْضًا: الْعَامُ: حَوْلٌ يَأْتِي عَلَى شَتْوَةٍ
__________
(1) الصحاح واللسان والمصباح والمغرب مادة سنة.

(25/259)


وَصَيْفَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَالْعَامُ أَخَصُّ مِنَ السَّنَةِ، فَكُل عَامٍ سَنَةٌ وَلَيْسَ كُل سَنَةٍ عَامًا، وَإِذَا عَدَدْتَ مِنْ يَوْمٍ إِلَى مِثْلِهِ فَهُوَ سَنَةٌ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ نِصْفُ الصَّيْفِ وَنِصْفُ الشِّتَاءِ، وَالْعَامُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ صَيْفًا وَشِتَاءً. مُتَوَالِيَيْنِ (1) .

ب - الشَّهْرُ:
3 - الشَّهْرُ. مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ يُقَدَّرُ بِدَوْرَةِ الْقَمَرِ حَوْل الأَْرْضِ، وَيُسَمَّى الشَّهْرَ الْقَمَرِيَّ، أَوْ يُقَدَّرُ بِجُزْءٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَيُسَمَّى الشَّهْرَ الشَّمْسِيَّ، وَيُطْلَقُ الشَّهْرُ أَيْضًا عَلَى الْعَدَدِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الأَْيَّامِ (2) .

أَنْوَاعُ السَّنَةِ:
4 - السَّنَةُ تَتَنَوَّعُ إِلَى سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ وَهِيَ الَّتِي تَعْتَمِدُ فِي بِدَايَتِهَا وَنِهَايَتِهَا عَلَى حَرَكَةِ الشَّمْسِ، قَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: وَعَدَدُ أَيَّامِهَا ثَلاَثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، وَرُبُعُ يَوْمٍ إِلاَّ جُزْءًا مِنْ ثَلاَثِ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ يَوْمٍ، وَإِلَى سَنَةٍ قَمَرِيَّةٍ وَهِيَ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى ظُهُورِ
__________
(1) المصباح.
(2) المعجم الوسيط والقاموس المحيط.

(25/259)


الْهِلاَل وَاخْتِفَائِهِ فِي بِدَايَةِ الشَّهْرِ وَنِهَايَتِهِ، قَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: وَعَدَدُ أَيَّامِهَا كَمَا قَال صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرُهُ: ثَلاَثُ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا وَخُمُسُ يَوْمٍ وَسُدُسُهُ. فَالسَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ تَتَّفِقُ مَعَ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ فِي عَدَدِ الشُّهُورِ وَتَخْتَلِفُ مَعَهَا فِي عَدَدِ الأَْيَّامِ فَتَزِيدُ أَيَّامُهَا عَلَى أَيَّامِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ بِأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَجُزْءٍ مِنْ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الْيَوْمِ.
وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ الرُّومُ وَالسُّرْيَانُ وَالْفُرْسُ وَالْقِبْطُ فِي تَأْرِيخِهِمْ، فَهُنَاكَ السَّنَةُ الرُّومِيَّةُ، وَالسَّنَةُ السُّرْيَانِيَّةُ، وَالسَّنَةُ الْفَارِسِيَّةُ وَالسَّنَةُ الْقِبْطِيَّةُ، وَهَذِهِ السُّنُونَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً فِي عَدَدِ شُهُورِ كُل سَنَةٍ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي أَسْمَاءِ تِلْكَ الشُّهُورِ وَفِي مَوْعِدِ بَدْءِ كُل سَنَةٍ مِنْهَا وَفِي عَدَدِ أَيَّامِهَا (1) .

الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أ - الزَّكَاةُ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَوْل - أَيْ مُضِيَّ سَنَةٍ كَامِلَةٍ عَلَى مِلْكِهِ النِّصَابَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي نِصَابِ السَّائِمَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ،
__________
(1) مروج الذهب للمسعودي 1 / 349 - 354 ط. البهية، التعريفات للجرجاني / 161 ط. العربي، فتح القدير 3 / 266 ط. الأميرية، أسنى المطالب 2 / 125 ط. الميمنية.

(25/260)


وَفِي الأَْثْمَانِ، وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَفِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ؛ لِحَدِيثِ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (1) . أَمَّا الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا حَوْلٌ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) وَلأَِنَّهَا نَمَاءٌ بِنَفْسِهَا مُتَكَامِلَةٌ عِنْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا فَتُؤْخَذُ زَكَاتُهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِي النَّقْصِ لاَ فِي النَّمَاءِ، فَلاَ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ ثَانِيَةٌ؛ لِعَدَمِ إِرْصَادِهَا لِلنَّمَاءِ، وَالْمَعْدِنُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الأَْرْضِ كَالزَّرْعِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ حَوْلٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ خُمُسٍ.
فَيُؤْخَذُ زَكَاتُهُ عِنْدَ حُصُولِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الأَْثْمَانِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كُل حَوْلٍ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ النَّمَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الأَْثْمَانَ قِيَمُ الأَْمْوَال وَرَأْسُ مَال التِّجَارَةِ، وَبِهَا تَحْصُل الْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ مَال الزَّكَاةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ لَهُ الْحَوْل وَلاَ مَال لَهُ سِوَاهُ، انْعَقَدَ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ حُصُول
__________
(1) حديث: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ". أورده ابن حجر في التلخيص (2 / 156 - ط شركة الطباعة الفنية) بهذا اللفظ، وقال عن إسناده: " لا بأس به " وأخرجه أبو داود (2 / 230 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: " ليس في مال زكاة. . . ".
(2) سورة الأنعام / 141.

(25/260)


الْمِلْكِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) . وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحُ (زَكَاة)

مُدَّةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُدَّةَ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (2) . وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَة) .

ج - مُدَّةُ إِمْهَال الْعِنِّينِ:
7 - الْعِنِّينُ يَضْرِبُ لَهُ الْقَاضِي سَنَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ (كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فَقَدْ يَكُونُ تَعَذُّرُ الْجِمَاعِ لِعَارِضِ حَرَارَةٍ فَيَزُول فِي الشِّتَاءِ، أَوْ بُرُودَةٍ فَيَزُول فِي الصَّيْفِ، أَوْ يُبُوسَةٍ فَتَزُول فِي الرَّبِيعِ، أَوْ رُطُوبَةٍ فَتَزُول فِي الْخَرِيفِ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَلَمْ يَطَأْ، عَلِمْنَا أَنَّهُ عَجْزٌ خِلْقِيٌّ. (وَانْظُرْ: إِمْهَال، عُنَّة) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 13، 63، 67، حاشية الدسوقي 1 / 431، 451، 456 - 457، المجموع للنووي 5 / 361، حاشية القليوبي 2 / 19، 25، نهاية المحتاج 3 / 63، المغني 2 / 625.
(2) الاختيار 3 / 32 ط. المعرفة، جواهر الإكليل 2 / 217 ط. المعرفة، روضة الطالبين 5 / 406 - 407 ط. المكتب الإسلامي، المغني 5 / 695 ط. الرياض.

(25/261)


د - مُدَّةُ التَّغْرِيبِ فِي عُقُوبَةِ الزِّنَى:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ حَدِّ الزَّانِي إِنْ كَانَ بِكْرًا التَّغْرِيبَ لِمُدَّةِ سَنَةٍ لِمَسَافَةِ قَصْرٍ فَأَكْثَرَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ، وَلَكِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ إِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زِنًى وَتَغْرِيب) .

(25/261)


سَنَد

التَّعْرِيفُ:
1 - السَّنَدُ فِي اللُّغَةِ: مَا قَابَلَكَ مِنَ الْجَبَل وَعَلاَ عَنِ السَّفْحِ، وَالْجَمْعُ أَسْنَادٌ. وَكُل مَا يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ سَنَدٌ. وَمِنْهُ قِيل لِصَكِّ الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ: سَنَدٌ. وَقَدْ سَنَدَ إِلَى الشَّيْءِ يَسْنُدُ سُنُودًا، وَاسْتَنَدَ وَتَسَانَدَ وَأَسْنَدَ غَيْرَهُ. وَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ يُسَمَّى مَسْنَدًا وَمِسْنَدًا وَمُسْنَدًا وَجَمْعُهُ الْمَسَانِدُ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُسْتَعْمَل السَّنَدُ فِي اسْتِعْمَالَيْنِ:
الأَْوَّل: الْحُجَّةُ الْمَكْتُوبَةُ الَّتِي تُوَثَّقُ بِهَا الْحُقُوقُ. وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ فِي الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ. وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ شُرُوطٌ:
(1) أَنْ يُبَيِّنَ فِي السَّنَدِ مَا يُثْبِتُ الْحَقَّ بِأَنْ يَكُونَ مُصَدَّرًا بِذِكْرِ مَبْلَغِ الدَّيْنِ مَثَلاً بِالرَّقْمِ
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط مادة (سند) .

(25/262)


وَالْحَرْفِ، وَمُعَنْوَنًا بِاسْمِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ. وَأَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا بِخَاتَمِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مَعَ إِمْضَائِهِ.
(2) أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ التَّزْوِيرِ وَالْكَشْطِ وَالتَّغْيِيرِ وَأَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْخَطَّ هُوَ خَطُّ الْكَاتِبِ بِشَهَادَةِ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (الْمَادَّةُ 1736) : " لاَ يُعْمَل بِالْخَطِّ وَالْخَتْمِ فَقَطْ وَلَكِنْ إِذَا كَانَ سَالِمًا عَنْ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ وَالتَّصْنِيعِ يَكُونُ مَعْمُولاً بِهِ، يَعْنِي يَكُونُ مَدَارًا لِلْحُكْمِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الثُّبُوتِ بِوَجْهٍ آخَرَ (1) ". وَالسَّنَدُ إِذَا اسْتَوْفَى الشُّرُوطَ الْمَرْعِيَّةَ لاِعْتِبَارِهِ كَانَ مِنْ قَبِيل الإِْقْرَارِ بِالْكِتَابَةِ.
جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ (الْمَادَّةِ 1609) (إِذَا كَتَبَ أَحَدٌ سَنَدًا أَوِ اسْتَكْتَبَهُ وَأَعَادَهُ لأَِحَدٍ مَمْضِيًّا أَوْ مَخْتُومًا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَمَرْعِيًّا كَتَقْرِيرِهِ الشِّفَاهِيِّ لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ بِالْكِتَابَةِ إِنْ كَانَ مَرْسُومًا، يَعْنِي إِنْ كَانَ ذَلِكَ السَّنَدُ كُتِبَ مُوَافِقًا لِلرَّسْمِ وَالْعَادَةِ وَالْوَثَائِقِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْقَبْضِ الْمُسَمَّاةِ بِالْوُصُول هِيَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا (2)) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 5 / 384.
(2) شرح المجلة للأتاسي 4 / 694.

(25/262)


وَجَاءَ فِي الْمَادَّةِ (1607) : أَمْرُ أَحَدٍ بِأَنْ يَكْتُبَ إِقْرَارَهُ هُوَ إِقْرَارٌ حُكْمًا. بِنَاءً عَلَيْهِ لَوْ أَمَرَ أَحَدٌ كَاتِبًا بِقَوْلِهِ: اكْتُبْ لِي سَنَدًا يَحْتَوِي أَنِّي مَدْيُونٌ لِفُلاَنٍ بِكَذَا دَرَاهِمَ، وَوَضَعَ فِيهِ إِمْضَاءَهُ أَوْ خَتْمَهُ، يَكُونُ مِنْ قَبِيل الإِْقْرَارِ بِالْكِتَابَةِ كَالسَّنَدِ الَّذِي كَتَبَهُ بِخَطِّ يَدِهِ (1) . وَتُرَاجَعُ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّنَدِ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ: إِقْرَار (ف 40) وَإِثْبَات (ف 34) وَتَوْثِيق (ف 12) وَتَزْوِير (ف 17) .
الإِْطْلاَقُ الثَّانِي: يُطْلَقُ السَّنَدُ عَلَى سِلْسِلَةِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَتْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شُرُوطُ السَّنَدِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُول الْحَدِيثِ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْنَاد) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 4 / 689.

(25/263)