الموسوعة الفقهية الكويتية

شَرْطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّرْطُ بِسُكُونِ الرَّاءِ لُغَةً: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ، وَيُجْمَعُ عَلَى شُرُوطٍ، وَبِمَعْنَى الشَّرْطِ الشَّرِيطَةُ وَجَمْعُهَا الشَّرَائِطُ. وَالشَّرَطُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَعْنَاهُ الْعَلاَمَةُ وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْرَاطٍ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ أَيْ عَلاَمَاتُهَا (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ بِأَنَّهُ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ لاَ وُجُودُهُ، وَمَثَّل لَهُ بِالإِْحْصَانِ، فَإِنَّ تَأْثِيرَ الزِّنَا فِي الرَّجْمِ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَ الإِْسْنَوِيُّ، وَأَمَّا نَفْسُ الزِّنَا فَلاَ؛ لأَِنَّ الْبِكْرَ قَدْ تَزْنِي (3) .
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة (شرط) والتعريفات للجرجاني / 166 (ط. صبيح) .
(2) حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 20 (ط. حلب) .
(3) شرح البدخشي 2 / 108 - 109 (ط صبيح) .

(26/5)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّكْنُ:
2 - رُكْنُ الشَّيْءِ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا لاَ وُجُودَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ إِلاَّ بِهِ، وَهُوَ الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ قِيَامُهَا عَلَيْهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْطِ: هُوَ أَنَّ الشَّرْطَ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَالرُّكْنُ يَكُونُ دَاخِلاً فِيهَا فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ (1) .

ب - السَّبَبُ:
3 - السَّبَبُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ. فَالسَّبَبُ وَالشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِمَا الْعَدَمُ. وَلَكِنَّ السَّبَبَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ الْوُجُودُ، كَصَلاَةِ الظُّهْرِ سَبَبُهَا زَوَال الشَّمْسِ وَشَرْطُهَا الطَّهَارَةُ (2) .

ج - الْمَانِعُ:
4 - وَمَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ كَمَا ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي
__________
(1) التعريفات / 149 (ط. دار الكتاب العربي) ، والكليات 2 / 395 - 396 (ط. الثانية) ، وحاشية ابن عابدين 1 / 61 - 64 ط. المصرية، وحاشية الجمل 1 / 328 ط. دار إحياء التراث.
(2) أصول السرخسي 2 / 301، 304 (ط. دار الكتاب العربي) ، والفروق للقرافي (1 / 61 - 62 ف الثالث (ط المعرفة) ، وحاشية البناني على جمع الجوامع 1 / 94 (ط. الحلبي) .

(26/5)


الْفُرُوقِ: هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَكْسُ الشَّرْطِ لأَِنَّ الشَّرْطَ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ.
وَقَال ابْنُ السُّبْكِيِّ: الْمَانِعُ: هُوَ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الْمُعَرِّفُ نَقِيضَ الْحُكْمِ كَالأُْبُوَّةِ فِي الْقِصَاصِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَانِعٌ) .

تَقْسِيمَاتُ الشَّرْطِ:

يَنْقَسِمُ الشَّرْطُ إِلَى مَا يَلِي:
5 - الأَْوَّل - الشَّرْطُ الْمَحْضُ: وَهُوَ مَا يَمْتَنِعُ بِتَخَلُّفِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَتِ الْعِلَّةُ فَيَصِيرُ الْوُجُودُ مُضَافًا إِلَى الشَّرْطِ دُونَ الْوُجُوبِ، مِثَالُهُ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ وَاشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِي الْبَيْعِ.
ثُمَّ يَنْقَسِمُ الشَّرْطُ الْمَحْضُ إِلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطٌ شَرْعِيَّةٌ، وَشُرُوطٌ جَعْلِيَّةٌ.
فَالشُّرُوطُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الشَّارِعُ إِمَّا لِلْوُجُوبِ كَالْبُلُوغِ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأُْمُورِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَإِمَّا لِلصِّحَّةِ كَاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ.
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 62 (ط. المعرفة) ، جمع الجوامع مع حاشية البناني (1 / 98 ط. الحلبي) .

(26/6)


وَإِمَّا لِلاِنْعِقَادِ كَاشْتِرَاطِ الأَْهْلِيَّةِ لاِنْعِقَادِ التَّصَرُّفِ وَصَلاَحِيَّةِ الْمَحَل وَلِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ.
وَإِمَّا لِلُّزُومِ كَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْخِيَارِ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ، وَإِمَّا لِنَفَاذِ اشْتِرَاطِ الْوِلاَيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا لِنَفَاذِ التَّصَرُّفِ.
وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ أَيِّ شَرْطٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ عَدَمُ الْحُكْمِ الْمَشْرُوطِ لَهُ فَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْوُجُوبِ لَزِمَ عَدَمُ وُجُوبِ الْفِعْل عَلَى الْمُكَلَّفِ وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ عَدَمُ صِحَّةِ الْفِعْل وَهَكَذَا، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ بُطْلاَنُ التَّصَرُّفِ بِحَيْثُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيْ حُكْمٍ.
6 - وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ فَهِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْمُكَلَّفُ فِي الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَصِيَّةِ وَهُوَ نَوْعَانِ شَرْطٌ تَعْلِيقِيٌّ مِثْل إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (تَعْلِيقٌ) ، وَشَرْطٌ تَقْيِيدِيٌّ مِثْل وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي مَنْ كَانَ مِنْهُمْ طَالِبًا لِلْعِلْمِ.

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ تَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
(1) شَرْطٌ لاَ يُنَافِي الشَّرْعَ: بَل هُوَ مُكَمِّلٌ لِلشُّرُوطِ وَذَلِكَ كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ الْمُقْرِضُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلاً.

(26/6)


(2) شَرْطٌ غَيْرُ مُلاَئِمٍ لِلْمَشْرُوطِ: بَل هُوَ مَنَافٍ لِمُقْتَضَاهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ الزَّوْجُ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ أَنْ لاَ يُنْفِقَ عَلَى الزَّوْجَةِ.
(3) شَرْطٌ لاَ يُنَافِي الشَّرْعَ مَا شُرِطَ فِيهِ وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا وَلَكِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَقْتَضِيهِ فَلاَ تُعْرَفُ مُلاَءَمَتُهُ أَوْ عَدَمُ مُلاَءَمَتِهِ لِلْعَقْدِ وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ مَنْزِلاً عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ الْبَائِعُ مَثَلاً فَتْرَةً مَعْلُومَةً أَوْ يَسْكُنَهُ فُلاَنٌ الأَْجْنَبِيُّ.
وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَل خِلاَفٍ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: شَرْطٌ هُوَ فِي حُكْمِ الْعِلَل:
7 - وَهُوَ شَرْطٌ لاَ تُعَارِضُهُ عِلَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إِلَيْهَا فَيُضَافَ الْحُكْمُ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ دُونَ الْوُجُوبِ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْعِلَل، وَالْعِلَل أُصُولٌ لَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ عِلَلاً بِذَوَاتِهَا اسْتَقَامَ أَنْ تَخْلُفَهَا الشُّرُوطُ، وَمِثَالُهُ حَفْرُ الْبِئْرِ، فَعِلَّةُ السُّقُوطِ هِيَ الثِّقَل لَكِنَّ الأَْرْضَ مَانِعٌ مِنَ السُّقُوطِ فَإِزَالَةُ الْمَانِعِ بِالْحَفْرِ صَارَ شَرْطًا وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لاَ تَصْلُحُ لإِِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهَا (وَهُوَ الضَّمَانُ) لأَِنَّ الثِّقَل أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ فَلاَ يَصْلُحَانِ لإِِضَافَةِ الضَّمَانِ إِلَيْهِمَا، فَيُضَافُ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 202 - 203، وفتح الغفار 3 / 74، والتلويح على التوضيح 1 / 120.

(26/7)


إِلَى الشَّرْطِ لأَِنَّ صَاحِبَهُ مُتَعَدٍّ لأَِنَّ الضَّمَانَ فِيمَا إِذَا حَفَرَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَوْقَعَ نَفْسَهُ (1) .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شَرْطٌ لَهُ حُكْمُ الأَْسْبَابِ:
8 - وَهُوَ شَرْطٌ حَصَل بَعْدَ حُصُولِهِ فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ ذَلِكَ الْفِعْل إِلَى الشَّرْطِ كَمَا إِذَا حَل قَيْدَ صَيْدٍ حَتَّى نَفَرَ لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْحَل لَمَّا سَبَقَ النُّفُورَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ صَارَ كَالسَّبَبِ فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطُ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا (2) .

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: شَرْطٌ اسْمًا لاَ حُكْمًا:
9 - وَهُوَ مَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ إِلَى وُجُودِهِ وَلاَ يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِهِ، فَمِنْ حَيْثُ التَّوَقُّفُ عَلَيْهِ سُمِّيَ شَرْطًا، وَمِنْ حَيْثُ عَدَمُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ لاَ يَكُونُ شَرْطًا حُكْمًا.
وَيُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ فَخْرُ الإِْسْلاَمِ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّل الشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ يُضَافُ إِلَى آخِرِهِمَا الْحُكْمُ فَإِنَّ كُل حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ فَإِنَّ أَوَّلَهُمَا شَرْطٌ اسْمًا لاَ حُكْمًا؛ لأَِنَّ حُكْمَ الشَّرْطِ أَنْ يُضَافَ الْوُجُودُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ مُضَافٌ إِلَى آخِرِهِمَا
__________
(1) فتح الغفار 3 / 74 (ط. الحلبي) ، كشف الأسرار 4 / 206 - 208 (ط. دار الكتاب العربي) ، أصول السرخسي 2 / 323 - 324.
(2) فتح الغفار 3 / 74 - 75 (ط. الحلبي) ، كشف الأسرار 4 / 212 (ط. دار الكتاب العربي) .

(26/7)


فَلَمْ يَكُنِ الأَْوَّل شَرْطًا حُكْمًا بَل اسْمًا.

الْقِسْمُ الْخَامِسُ: شَرْطٌ هُوَ بِمَعْنَى الْعَلاَمَةِ الْخَالِصَةِ:
10 - وَذَلِكَ كَالإِْحْصَانِ فِي بَابِ الزِّنَا وَإِنَّمَا كَانَ الإِْحْصَانُ عَلاَمَةً لأَِنَّ حُكْمَ الشَّرْطِ أَنْ يَمْنَعَ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ إِلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَهَذَا لاَ يَكُونُ فِي الزِّنَا بِحَالٍ.
لأَِنَّ الزِّنَا إِذَا وُجِدَ لَمْ يَتَوَقَّفْ حُكْمُهُ عَلَى إِحْصَانٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ، لَكِنَّ الإِْحْصَانَ إِذَا ثَبَتَ كَانَ مُعَرِّفًا لِحُكْمِ الزِّنَا فَأَمَّا أَنْ يُوجَدَ الزِّنَا بِصُورَتِهِ فَيَتَوَقَّفَ انْعِقَادُ عِلَّةٍ عَلَى وُجُودِ الإِْحْصَانِ فَلاَ يَثْبُتُ أَنَّهُ عَلاَمَةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَلَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً لِلْوُجُودِ وَلاَ لِلْوُجُوبِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَل لَهُ حُكْمُ الْعِلَل بِحَالٍ.
وَلِذَلِكَ لاَ يَضْمَنُ شُهُودُ الإِْحْصَانِ إِذَا رَجَعُوا عَلَى حَالٍ أَيْ سَوَاءٌ رَجَعُوا وَحْدَهُمْ أَمْ رَجَعُوا مَعَ شُهُودِ الزِّنَا (1) .

مَا يَخْتَصُّ بِهِ الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ بِقِسْمَيْهِ الْمُعَلَّقِ وَالْمُقَيَّدِ:
11 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ أُمُورٌ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ أَيْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ
__________
(1) فتح الغفار 3 / 75 (ط. الحلبي) ، كشف الأسرار 4 / 219 (ط. دار الكتاب العربي) .

(26/8)


لاَ يَكُونَ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا يُرْجَى الْوُقُوفُ عَلَى وُجُودِهِ، وَأَنْ لاَ يُوجَدَ فَاصِلٌ أَجْنَبِيٌّ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ (1) . وَأَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا مُسْتَقْبَلاً بِخِلاَفِ الْمَاضِي فَإِنَّهُ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي التَّعْلِيقِ (2) . وَأَنْ لاَ يَقْصِدَ بِالتَّعْلِيقِ الْمُجَازَاةَ فَلَوْ سَبَّتْهُ بِمَا يُؤْذِيهِ فَقَال إِنْ كُنْتُ كَمَا قُلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَنَجَّزَ الطَّلاَقُ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كَمَا قَالَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ لأَِنَّ الزَّوْجَ فِي الْغَالِبِ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ إِيذَاءَهَا بِالطَّلاَقِ، وَأَنْ يُوجَدَ رَابِطٌ حَيْثُ كَانَ الْجَزَاءُ مُؤَخَّرًا وَإِلاَّ تَنَجَّزَ، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ التَّعْلِيقُ مَالِكًا لِلتَّنْجِيزِ أَيْ قَادِرًا عَلَى التَّنْجِيزِ وَهَذَا الأَْمْرُ فِيهِ خِلاَفٌ (3) .
يُنْظَرُ فِي (تَعْلِيقٌ ف 28 - 29 ج 12) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 493 ط. المصرية، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 367 (ط. الهلال) ، تبيين الحقائق 2 / 243 (ط. بولاق) ، جواهر الإكليل 1 / 243 - 244 (ط المعرفة) ، حاشية القليوبي 3 / 342 (ط. الحلبي) ، الإنصاف 9 / 104 (ط. الأولى) .
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي / 376 (ط. الحلبي) .
(3) ابن عابدين 2 / 494 (ط. المصرية) ، الأشباه والنظائر لابن نجيم / 367 (ط. الهلال) ، فتح القدير 3 / 127 (ط. بولاق) ، الدسوقي 2 / 370 (ط. الفكر) ، الخرشي 4 / 37 - 38 (ط. بولاق) .

(26/8)


مَا يَخْتَصُّ بِهِ الشَّرْطُ الْمُقَيَّدُ:

يَخْتَصُّ الشَّرْطُ الْمُقَيَّدُ بِأَمْرَيْنِ:
12 - الأَْوَّل: كَوْنُهُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى أَصْل التَّصَرُّفِ. فَقَدْ صَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ بِأَنَّ الشَّرْطَ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالأَْصْل - أَيْ أَصْل الْفِعْل - وَشَرَطَ فِيهِ أَمْرًا آخَرَ (1) .
الثَّانِي: كَوْنُهُ أَمْرًا مُسْتَقْبَلاً وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِمَّا قَالَهُ الْحَمَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى ابْنِ نُجَيْمٍ: أَنَّ الشَّرْطَ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
هَذَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ شَرْطِ التَّعْلِيقِ وَشَرْطِ التَّقْيِيدِ كَمَا ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ التَّعْلِيقَ مَا دَخَل عَلَى أَصْل الْفِعْل بِأَدَاتِهِ كَإِنْ وَإِذَا، وَالشَّرْطُ مَا جَزَمَ فِيهِ بِالأَْصْل وَشَرَطَ فِيهِ أَمْرًا آخَرَ (3) .
وَقَال الْحَمَوِيُّ: وَإِنْ شِئْتَ فَقُل فِي الْفَرْقِ إِنَّ التَّعْلِيقَ تَرْتِيبُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ عَلَى أَمْرٍ يُوجَدُ بِإِنْ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا وَالشَّرْطُ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ (4) .

مَا يُعْرَفُ بِهِ الشَّرْطُ:
13 - يُعْرَفُ الشَّرْطُ بِصِيغَتِهِ بِأَنْ دَخَل فِي
__________
(1) المنثور 1 / 370 (ط. الأولى) ، الحموي على ابن نجيم 2 / 224 (ط. العامرة) .
(2) الحموي على ابن نجيم 2 / 225 (ط. العامرة) .
(3) المنثور 1 / 370 (ط. الأولى) .
(4) الحموي على ابن نجيم 2 / 225 (ط. العامرة) .

(26/9)


الْكَلاَمِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ فَكَانَ الْفِعْل الَّذِي دَخَل عَلَيْهِ شَرْطًا، وَصِيَغُهُ كَمَا ذَكَرَ الآْمِدِيُّ فِي الإِْحْكَامِ كَثِيرَةٌ وَهِيَ إِنِ الْخَفِيفَةُ، وَإِذَا، وَمَنْ، وَمَا، وَمَهْمَا، وَحَيْثُمَا، وَأَيْنَمَا، وَإِذْ مَا، وَأُمُّ هَذِهِ الصِّيَغِ " إِنْ " الشَّرْطِيَّةُ (1) .
وَيُعْرَفُ الشَّرْطُ أَيْضًا بِدَلاَلَتِهِ أَيْ بِالْمَعْنَى بِأَنْ يَكُونَ الأَْوَّل أَيْ مِنَ الْكَلاَمِ سَبَبًا لِلثَّانِي كَقَوْلِهِ: الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ مُبْتَدَأٌ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ. وَالأَْوَّل يَسْتَلْزِمُ الثَّانِيَ أَلْبَتَّةَ دُونَ الْعَكْسِ؛ لِوُقُوعِ الْوَصْفِ - وَهُوَ وَصْفُ التَّزَوُّجِ - فِي النَّكِرَةِ فَيَعُمُّ.
وَلَوْ وَقَعَ الْوَصْفُ فِي الْمُعَيَّنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ لَمَا صَلَحَ دَلاَلَةً عَلَى الشَّرْطِ؛ لأَِنَّ الْوَصْفَ فِي الْمُعَيَّنِ لَغْوٌ فَبَقِيَ قَوْلُهُ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ طَالِقٌ فَيَلْغُو فِي الأَْجْنَبِيَّةِ، وَنَصُّ الشَّرْطِ يَجْمَعُ الْمُعَيَّنَ وَغَيْرَهُ حَتَّى لَوْ قَال إِنْ تَزَوَّجْتُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَوِ امْرَأَةً طَلُقَتْ إِذَا تَزَوَّجَ بِهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ كُتُبُ الأُْصُول (2) .

الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ:
14 - يَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ مَسْأَلَةً هَامَةً وَهِيَ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ هَل يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنِ
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 / 309 - 310 (ط. المكتب الإسلامي) .
(2) فتح الغفار 3 / 75 (ط. الحلبي) ، كشف الأسرار للبزدوي 4 / 203 - 206 (ط. دار الكتاب العربي) .

(26/9)


السَّبَبِيَّةِ أَوْ يَمْنَعُ الْحُكْمَ عَنِ الثُّبُوتِ فَقَطْ لاَ السَّبَبَ عَنِ الاِنْعِقَادِ.
وَيُنْظَرُ الْخِلاَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْلِيقٌ ف 30) .
وَلاَ يَقَعُ شَيْءٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

التَّخْصِيصُ بِالشَّرْطِ:
15 - الشَّرْطُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ وَمِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلاَمِ، مَا لَوْلاَهُ لَدَخَل فِيهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ (1) .

الاِسْتِدْلاَل بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ:
16 - تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الشَّرْطِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) .

فِيهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ:
الأَْوَّل: ثُبُوتُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ.
الثَّانِي: دَلاَلَةُ (إِنْ) عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ.
الرَّابِعُ: دَلاَلَةُ (إِنْ) عَلَيْهِ.
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 423 - 432 (ط. بولاق) .
(2) سورة الطلاق / 6.

(26/10)


فَالثَّلاَثَةُ الأُْوَل لاَ خِلاَفَ فِيهَا، وَأَمَّا الأَْمْرُ الرَّابِعُ وَهُوَ دَلاَلَةُ (إِنْ) عَلَى عَدَمِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَهُوَ مَحَل الْخِلاَفِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَالأَْمْرُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (1) يَقْتَضِي تَكَرُّرَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ تَكَرُّرِ شَرْطِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ لاَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَلاَ يَدْفَعُهُ فَفِي كَوْنِهِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ هُنَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لاَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَوْ لاَ يَقْتَضِيهِ لاَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَوْ لاَ يَقْتَضِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَيَقْتَضِيهِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ خِلاَفٌ وَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

أَثَرُ الشَّرْطِ الْجَعْلِيِّ التَّعْلِيقِيِّ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ:
17 - يَظْهَرُ أَثَرُ الشَّرْطِ الْجَعْلِيِّ التَّعْلِيقِيِّ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِثْل الإِْجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَالْقِسْمَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَالنِّكَاحِ، وَالإِْبْرَاءِ وَالْوَقْفِ، وَالْحَجْرِ وَالرَّجْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ " تَعْلِيقٌ ".
__________
(1) سورة المائدة / 6.

(26/10)


أَثَرُ الشَّرْطِ التَّقْيِيدِيِّ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ:
18 - إِذَا قُيِّدَ التَّصَرُّفُ بِشَرْطٍ فَلاَ يَخْلُو هَذَا الشَّرْطُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا أَوْ بَاطِلاً.
فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ فِي الْبَقَرَةِ كَوْنَهَا حَلُوبًا فَالْعَقْدُ جَائِزٌ لأَِنَّ الْمَشْرُوطَ صِفَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّمَنِ، وَهِيَ صِفَةٌ مَحْضَةٌ لاَ يُتَصَوَّرُ انْقِلاَبُهَا أَصْلاً وَلاَ يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ بِحَالٍ (1) . وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا كَمَا لَوِ اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا بَعْدَ شَهْرَيْنِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا.
قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَجُمْلَةُ مَا لاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَيَبْطُل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ. الْبَيْعُ وَالْقِسْمَةُ وَالإِْجَارَةُ وَالرَّجْعَةُ وَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ وَالإِْبْرَاءُ عَنِ الدَّيْنِ وَالْحَجْرُ عَنِ الْمَأْذُونِ وَعَزْل الْوَكِيل فِي رِوَايَةِ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَتَعْلِيقُ إِيجَابِ الاِعْتِكَافِ بِالشُّرُوطِ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُعَامَلَةُ وَالإِْقْرَارُ وَالْوَقْفُ فِي رِوَايَةٍ (2) .
هَذَا وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُمُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ التَّقْيِيدِيَّ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ. صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ وَبَاطِلٌ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 169 (ط. جمالية) .
(2) الفتاوى الهندية 4 / 396.

(26/11)


وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُمَا وَاحِدٌ إِلَى أَنَّهُ قِسْمَانِ: صَحِيحٌ وَبَاطِلٌ أَوْ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ.

الشَّرْطُ الصَّحِيحُ:

أ - ضَابِطُهُ:
19 - ضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ مَا يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ أَوِ اشْتِرَاطِ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُل.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُنَافِيهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً مَشْرُوعَةً لِلْعَاقِدِ أَوِ اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ يُؤَكِّدُ مُقْتَضَاهُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا أَجَازَ الشَّارِعُ اشْتِرَاطَهُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً لِلْعَاقِدِ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ:

(26/11)


ب - أَنْوَاعُهُ:
20 - النَّوْعُ الأَْوَّل: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل التَّصَرُّفِ وَقْتَ صُدُورِهِ وَهَذَا النَّوْعُ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَإِنْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِفَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ كَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْبَقَرَةِ الْمُشْتَرَاةِ حَلُوبًا (1)
النَّوْعُ الثَّانِي: اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَجَوَازُهُ أَيْضًا مَحَل اتِّفَاقٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهُ بِمَثَابَةِ تَأْكِيدٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ اشْتَرَطَ فِي الشِّرَاءِ التَّسْلِيمَ إِلَى الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَمِنْهَا أَيْضًا اشْتِرَاطُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَرَدِّ الْعِوَضِ فَإِنَّهَا أُمُورٌ لاَزِمَةٌ لاَ تُنَافِي الْعَقْدَ بَل هِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ (&#
x662 ;) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ مَا يُلاَئِمُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ.
قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فَهَذَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَكِنَّهُ يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ فَهُوَ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَإِنَّمَا هُوَ مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) بدائع الصنائع (5 / 172 ط. الجمالية) ، الدسوقي (3 / 108 ط. الفكر) ، مغني المحتاج (2 / 34 ط. حلب) ، كشاف القناع (3 / 188 ط. النصر) .
(2) البدائع (5 / 172 ط. الجمالية) ، الدسوقي (3 / 65 ط. الفكر) ، المجموع (5 / 362 ط. السلفية) ، كشاف القناع (3 / 189 ط. النصر) .

(26/12)


الْمَعْنَى مُؤَكِّدٌ إِيَّاهُ فَيُلْحَقُ بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ. وَعِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ مَا يُلاَئِمُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلاَ يُنَافِيهِ. وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ إِطْلاَقُ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ يُلاَئِمُهُ وَمُحَقِّقٌ مَصْلَحَةً لِلْعَاقِدِ وَمِثَالُهُ مَا لَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلاً وَالرَّهْنُ مَعْلُومٌ وَالْكَفِيل حَاضِرٌ جَازَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
النَّوْعُ الرَّابِعُ: اشْتِرَاطُ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِهِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: اشْتِرَاطُ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا النَّوْعَ الْحَنَفِيَّةُ سِوَى زُفَرَ، وَهُوَ مِمَّا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ لَكِنْ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ (2) .
وَمِثَالُهُ إِذَا اشْتَرَى نَعْلاً عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ أَوْ جِرَابًا عَلَى أَنْ يَخْرُزَهُ لَهُ خُفًّا فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَائِزٌ لأَِنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا بِهِ فِي الْبَيْعِ كَمَا تَعَامَلُوا بِالاِسْتِصْنَاعِ فَسَقَطَ الْقِيَاسُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ بِتَعَامُل النَّاسِ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 171 (ط. الجمالية) ، الدسوقي 3 / 65 (ط. الفكر) ، المجموع 9 / 364 (ط. السلفية) ، كشاف القناع 3 / 189 (ط. النصر) .
(2) البدائع (5 / 174 ط، الجمالية) .
(3) البدائع 5 / 172 (ط. الجمالية) .

(26/12)


النَّوْعُ السَّادِسُ: اشْتِرَاطُ الْبَائِعِ نَفْعًا مُبَاحًا مَعْلُومًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْكُنَهَا شَهْرًا (1) .

الشَّرْطُ الْفَاسِدُ أَوِ الْبَاطِل:
21 - هُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَيُبْطِلُهُ، وَثَانِيهِمَا: مَا يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا.
الضَّرْبُ الأَْوَّل: مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَيُبْطِلُهُ.

أ - ضَابِطُهُ:
22 - ضَابِطُ هَذَا الضَّرْبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ غَيْرِ يَسِيرٍ أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلاَ يُلاَئِمُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلاَ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ وَلاَ مِمَّا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ أَوْ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ لَمْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 33 ط. حلب، وكشاف القناع 3 / 190 ط. النصر، وفتح الباري 4 / 299 (ط. البهية) ، وصحيح مسلم (2 / 1143 ط. حلب) .

(26/13)


يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اشْتِرَاطُ عَقْدَيْنِ فِي عَقْدٍ أَوِ اشْتِرَاطُ شَرْطَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَقْدِ.

أَنْوَاعُهُ:
23 - لِهَذَا الضَّرْبِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ تُؤْخَذُ مِنْ ضَوَابِطِهِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ غَيْرِ يَسِيرٍ، وَهَذَا النَّوْعُ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. وَمِثَالُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا لَوِ اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَلاَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلْحَال فَكَانَ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ.
وَمَثَّل لَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِعَسْبِ فَحْلٍ يُسْتَأْجَرُ عَلَى إِعْقَاقِ الأُْنْثَى حَتَّى تَحْمِل فَلاَ يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ وَلأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى غَبْنِ صَاحِبِ الأُْنْثَى إِنْ تَعَجَّل حَمْلَهَا وَإِلَى غَبْنِ صَاحِبِ الْفَحْل إِنْ تَأَخَّرَ الْحَمْل (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُخَالِفُ الشَّرْعَ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 168 ط. الجمالية، الدسوقي 3 / 58 (ط. الفكر) .
(2) البدائع (5 / 169 ط. الجمالية) .
(3) مغني المحتاج 2 / 33 (ط. حلب) .

(26/13)


النَّوْعُ الرَّابِعُ: اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ أَوْ يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوْ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنْهُ وَمِثَالُهُ مَا لَوْ بَاعَ دَارًا بِشَرْطِ أَنْ يَسْكُنَهَا مُدَّةً بَطَل الْبَيْعُ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يَبِيعَهَا. لَمْ يَصِحَّ، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنْ لاَ تَحِل لَهُ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ لاِشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهِ (1) .
النَّوْعُ الْخَامِسُ: اشْتِرَاطُ مَا يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ مَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ إِلَى نِتَاجِ النِّتَاجِ فَهَذَا الْبَيْعُ لاَ يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ فِي الأَْجَل (2) .
النَّوْعُ السَّادِسُ: اشْتِرَاطُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ عَقْدًا آخَرَ أَوِ اشْتِرَاطُ الْبَائِعِ شَرْطًا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ الْبَيْعَ وَمِثَالُهُ كَمَا فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مَا لَوِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ سَلَفًا أَيْ سَلَمًا أَوْ قَرْضًا بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً أَوْ شَرِكَةً أَوْ صَرْفَ الثَّمَنِ أَوْ صَرْفَ غَيْرِهِ أَوْ غَيْرَ الثَّمَنِ فَاشْتِرَاطُ هَذَا الشَّرْطِ يُبْطِل الْبَيْعَ كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ لِكَوْنِهِ مِنْ قَبِيل بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَكَقَوْلِهِ بِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا أَوْ بِعْتُكَ إِنْ رَضِيَ فُلاَنٌ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ لأَِنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ نَقْل الْمِلْكِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 309 - 310 (ط. الفكر) ، المهذب 1 / 275 (ط. حلب) ، كشاف القناع (5 / 97 ط. النصر) .
(2) مغني المحتاج (2 / 20 ط. حلب) .

(26/14)


حَال التَّبَايُعِ وَالشَّرْطُ هُنَا يَمْنَعُهُ (1) .
النَّوْعُ السَّابِعُ: اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي وَلَيْسَ مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ نَحْوُ مَا إِذَا بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي قَرْضًا أَوْ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ هِبَةً أَوْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ مِنْهُ أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ أَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ قَمِيصًا أَوْ حِنْطَةً عَلَى أَنْ يَطْحَنَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَالْبَيْعُ فِي هَذَا كُلِّهِ فَاسِدٌ كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ لأَِنَّ زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الرِّبَا وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا أَوِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا فَاسِدٌ (2) .

الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضَرْبَيِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ:

24 - هُوَ مَا يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا
إِمَّا لأَِنَّ الْمُشْتَرِطَ أَسْقَطَهُ أَوْ يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا سَوَاءٌ أَسْقَطَهُ الْمُشْتَرِطُ أَوْ لَمْ يُسْقِطْهُ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ قِسْمَانِ.
25 - أَحَدُهُمَا: مَا يُحْكَمُ مَعَهُ بِصِحَّةِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 193 (ط. النصر) .
(2) البدائع 5 / 169 - 170 (ط. جمالية) ، مغني المحتاج (2 / 33 ط. حلب) ، المغني 4 / 93 - 95.

(26/14)


التَّصَرُّفِ إِذَا أَسْقَطَهُ الْمُشْتَرِطُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَقْسَامِ الشَّرْطِ الْبَاطِل. وَضَابِطُهُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ أَوْ يُخِل بِالثَّمَنِ فِيهِ أَوْ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فِي الْهِبَةِ، فَأَنْوَاعُهُ عَلَى هَذَا ثَلاَثَةٌ.
النَّوْعُ الأَْوَّل: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ كَأَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يَبِيعَ أَوْ لاَ يَهَبَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِذَا أَسْقَطَهُ الْمُشْتَرِطُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُخِل بِالثَّمَنِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى جَهَالَةٍ فِيهِ بِزِيَادَةٍ إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ نَقْصٍ إِنْ كَانَ مِنَ الْبَائِعِ كَبَيْعٍ وَشَرْطِ سَلَفٍ مِنْ أَحَدِهِمَا لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالسَّلَفِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَهَذَا الشَّرْطُ إِنْ حَذَفَهُ الْمُشْتَرِطُ صَحَّ الْعَقْدُ (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ وَمِثَالُهُ فِي الْهِبَةِ مَا لَوْ دَفَعَ إِلَى آخَرَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ سِنِينَ وَشَرَطَ الْوَاهِبُ أَنْ يُنْفِقَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَيْهِ أَيِ الْفَرَسِ فِي تِلْكَ السِّنِينَ ثُمَّ تَكُونَ الْفَرَسُ مِلْكًا لِلْمَدْفُوعِ لَهُ فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْغَرَرِ (3) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 59 - 66 (ط. الفكر) .
(2) الدسوقي 3 / 66 - 67 (ط. الفكر) .
(3) جواهر الإكليل 2 / 215 (ط. المعرفة) ، التاج والإكليل هامش مواهب الجليل (6 / 61 - 62 ط. النجاح) .

(26/15)


26 - الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُحْكَمُ مَعَهُ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ سَوَاءٌ أَسْقَطَهُ الْمُشْتَرِطُ أَوْ لَمْ يُسْقِطْهُ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَتَنَاوَل الشُّرُوطَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي تَسْقُطُ وَيَصِحُّ مَعَهَا التَّصَرُّفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشُّرُوطَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي يَصِحُّ مَعَهَا التَّصَرُّفُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي يَصِحُّ مَعَهَا التَّصَرُّفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ ضَوَابِطُ ذَلِكَ.

وَأَنْوَاعُهُ مَا يَأْتِي:
27 - النَّوْعُ الأَْوَّل: ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ وَلَمْ يَرِدْ شَرْعٌ وَلاَ عُرْفٌ بِجَوَازِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الاِسْتِحْقَاقِ.
وَمِثَالُهُ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْمُزَارِعَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعَ الآْخَرُ نَصِيبَهُ وَلاَ يَهَبَهُ فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.
لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لأَِحَدٍ فَلاَ يُوجِبُ الْفَسَادَ وَهَذَا لأَِنَّ فَسَادَ الْبَيْعِ فِي مِثْل هَذِهِ الشُّرُوطِ لِتَضَمُّنِهَا الرِّبَا وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْعَقْدِ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذَا الشَّرْطِ لأَِنَّهُ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لأَِحَدٍ إِلاَّ أَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ

(26/15)


فَالْعَقْدُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي. ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ أَوْ مِنَ الاِسْتِحْقَاقِ، فَإِذَا بَاعَ عَرْضًا أَوْ حَيَوَانًا عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ ثُمَّ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ كَانَ لَهُ رَدُّهُ وَلاَ عِبْرَةَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ أَوْ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ دُونَ الإِْخْلاَل بِمَقْصُودِهِ وَهَذَا النَّوْعُ ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا لَوِ اشْتَرَطَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودَعِ ضَمَانَهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا تَلِفَتْ فِي مَحَلٍّ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لأَِنَّ يَدَ الْمُودَعِ يَدُ أَمَانَةٍ فَلاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي الْوَدِيعَةُ مِنَ الأَْمَانَاتِ فَلاَ يَضْمَنُ إِذَا تَلِفَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيُلْغَى الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْوَدِيعَةُ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَوْ قَال: أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً فَعَلَى الْجَدِيدِ لَوْ قَال مَعَ قَوْلِهِ: أَعْمَرْتُكَهَا فَإِذَا مِتُّ عَادَتْ إِلَيَّ أَوْ إِلَى وَارِثِي فَكَذَا هِيَ هِبَةٌ وَإِعْمَارٌ صَحِيحٌ فِي الأَْصَحِّ وَبِهِ قَطَعَ الأَْكْثَرُونَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ فَيَلْغُو ذِكْرُ الشَّرْطِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَا لَوِ اشْتَرَطَ أَنْ لاَ خَسَارَةَ عَلَيْهِ أَوْ شَرَطَ أَنَّهُ
__________
(1) البدائع (5 / 170 ط. جمالية) .
(2) الدسوقي 3 / 112.

(26/16)


مَتَى نَفَقَ الْمَبِيعُ وَإِلاَّ رَدَّهُ فَهَذَا الشَّرْطُ لاَ يُبْطِل الْبَيْعَ (1) .
النَّوْعُ الرَّابِعُ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ أَوْ أَمْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ كَمَا لَوْ بَاعَ بَقَرَةً وَشَرَطَ أَنْ تُدِرَّ كُل يَوْمٍ صَاعًا فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ (2) .
__________
(1) الخرشي 4 / 328 (ط. بولاق) ، مغني المحتاج 2 / 308 (ط. حلب) ، (كشاف القناع 3 / 193 ط. النصر) .
(2) مغني المحتاج 2 / 33 - 34.

(26/16)


شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا

التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّرْعُ، وَالشَّرِيعَةُ، وَالشِّرْعَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ الَّذِي يُوصَل مِنْهُ إِلَى الْمَاءِ، يُقَال: شَرَعَتِ الإِْبِل شَرْعًا وَشُرُوعًا: إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ (1) . وَالشَّرْعُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا سَنَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الدِّينِ وَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ (2) .
" وَمَنْ قَبْلَنَا " هُمُ الأَْنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ قَبْل نَبِيِّنَا إِلَى الأُْمَمِ السَّابِقَةِ.
فَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا هُوَ: مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُل مِنَ الشَّرَائِعِ إِلَى الأُْمَمِ الَّتِي أُرْسِلُوا إِلَيْهَا قَبْل مَبْعَثِ النَّبِيِّ (3) .

وَحْدَةُ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ:
2 - الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ كُلُّهَا مِنْ مَصْدَرٍ
__________
(1) لسان العرب، تاج العروس.
(2) روح المعاني في تفسير قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة منهاجًا) إلخ الآية (48) من سورة المائدة. وحاشية الشيخ زادة على تفسير البيضاوي في تفسير الآية المذكورة.
(3) تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي شرح المنهاج 1 / 22، نهاية المحتاج 1 / 32.

(26/17)


وَاحِدٍ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهِيَ لِهَذَا مُتَّحِدَةُ الأُْصُول. فَلاَ تَخْتَلِفُ فِي أُصُول الدِّينِ، كَوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَوُجُوبِ إِخْلاَصِ الْعِبَادَةِ لَهُ. وَالإِْيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْمَلاَئِكَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُول الدِّينِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) .

اخْتِلاَفُ الشَّرَائِعِ فِي الْفُرُوعِ:
3 - الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي الأَْحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ حَسَبَ اخْتِلاَفِ الزَّمَنِ وَالْبِيئَاتِ، وَبِسَبَبِ ظُرُوفٍ وَمُلاَبَسَاتٍ خَاصَّةٍ بِأُمَّةٍ مِنَ الأُْمَمِ فَتُحَرَّمُ بَعْضُ أُمُورٍ عَلَى أُمَّةٍ لأَِسْبَابٍ خَاصَّةٍ بِهَا.
كَمَا حُرِّمَ عَلَى الْيَهُودِ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، قَال تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُل ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} (2) .
وَلَكِنْ هَل نَحْنُ مُتَعَبَّدُونَ بِفُرُوعِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الأُْمَمِ؟ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الأُْصُول
__________
(1) سورة الشورى / 13.
(2) سورة الأنعام / 146.

(26/17)


وَالْفِقْهِ فِي ذَلِكَ.
وَهَل كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ قَبْل الْمَبْعَثِ بِشَرْعِ أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ؟ مِنْهُمْ مَنْ قَال: كَانَ يَتَعَبَّدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى ذَلِكَ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الاِخْتِلاَفِ الأُْصُولِيِّ وَالْكَلاَمِيِّ فَإِنَّ مَا هُوَ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ وَإِنْ وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى إِقْرَارِهِ فَهُوَ شَرْعٌ لَنَا وَإِنْ وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى نَسْخِهِ فَلَيْسَ شَرْعًا لَنَا بِالاِتِّفَاقِ.
وَإِنْ سَكَتَ شَرْعُنَا عَنْ إِقْرَارِهِ وَنَسْخِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا، ثَابِتُ الْحُكْمِ عَلَيْنَا، إِذَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلاَ تَقْرِيرٍ، فَلاَ نَأْخُذُ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَلاَ مِنْ كُتُبِهِمْ (1) .
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} ، إِلَى قَوْلِهِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (2) .
وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الآْيَاتِ وَغَيْرَهَا تَدُل عَلَى
__________
(1) رد المحتار 1 / 62، شرح العناية على الهداية مع فتح القدير 1 / 437، الفصول في الأصول 1 / 19، تبصرة الحكام 2 / 93، مطالب أولي النهى 4 / 206.
(2) سورة الأنعام الآيات 83 - 90.
(3) سورة النحل / 123.

(26/18)


أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ شَرْعٌ لَنَا، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لاَزِمَةً لَنَا بِنَفْسِ وُرُودِهَا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ قَبْل مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا بِوُرُودِهَا عَلَى شَرِيعَتِنَا وَلَزِمَنَا أَحْكَامُهَا. بِنَاءً عَلَى هَذَا اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى آرَاءٍ فِقْهِيَّةٍ ذَهَبُوا إِلَيْهَا.
فَقَدِ اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (1) عَلَى وُجُوبِ قَتْل الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (2) . عَلَى جَوَازِ قَسْمِ الشِّرْبِ بِالأَْيَّامِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ صَالِحٍ بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْقِبْهُ بِالنَّسْخِ فَصَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً (3) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِالأَْمَارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَل سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} (4) . حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدًّا عَلَى قَوْل إِخْوَةِ يُوسُفَ {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} (5) .
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) سورة الشعراء / 155.
(3) بدائع الصنائع 6 / 188، ابن عابدين 5 / 343.
(4) سورة يوسف / 18.
(5) سورة يوسف / 17.

(26/18)


وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامًا كَثِيرَةً: مِنْهَا: لَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ وَعَلَيْهِ زُنَّارٌ فَلاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، اسْتِنَادًا إِلَى هَذِهِ الأَْمَارَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَإِنْ وَرَدَ فِي شَرْعِنَا مَا يُقَرِّرُهُ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَال لَهُ: كَيْفَ تَقْضِي؟ فَأَجَابَهُ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي (2) .
وَلَمْ يَذْكُرْ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا فَزَكَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَوَّبَهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَدَارِكِ الأَْحْكَامِ لَمَا جَازَ الْعُدُول إِلَى الاِجْتِهَادِ إِلاَّ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ (3) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ وَأَدِلَّةُ الْمُخْتَلِفِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 93 تفسير القرطبي في تفسير الآية المذكورة.
(2) حديث معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، أخرجه الترمذي (3 / 607 - ط الحلبي) وأعله جمع من العلماء بجهالة راو فيه، وأعلوه كذلك بالإرسال. كذا في التلخيص لابن حجر (4 / 182 - 183 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المستصفى 1 / 250 وما بعدها.

(26/19)


شَرْقَاءُ
.
انْظُرْ: أُضْحِيَّةٌ

شِرْكٌ
.
انْظُرْ: إِشْرَاكٌ، اشْتِرَاكٌ

(26/19)


الشَّرِكَةُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّرْكَةُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، كَنِعْمَةٍ أَوْ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، كَكَلِمَةٍ - وَيَجُوزُ مَعَ الْفَتْحِ أَيْضًا إِسْكَانُ الرَّاءِ - اسْمٌ مَصْدَرُ شَرِكَ، كَعَلِمَ: يُقَال: شَرِكَ الرَّجُل الرَّجُل فِي الْبَيْعِ وَالْمِيرَاثِ يَشْرَكُهُ شِرْكًا وَشَرِكَةً، خَلَطَ نَصِيبَهُ بِنَصِيبِهِ، أَوِ اخْتَلَطَ نَصِيبَاهُمَا. فَالشَّرِكَةُ إِذَنْ: خَلْطُ النَّصِيبَيْنِ وَاخْتِلاَطُهُمَا، وَالْعَقْدُ الَّذِي يَتِمُّ بِسَبَبِهِ خَلْطُ الْمَالَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - لِصِحَّةِ تَصَرُّفِ كُل خَلِيطٍ فِي مَال صَاحِبِهِ - يُسَمَّى شَرِكَةً تَجَوُّزًا، مِنْ إِطْلاَقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: فَالشَّرِكَةُ قِسْمَانِ: شَرِكَةُ مِلْكٍ وَشَرِكَةُ عَقْدٍ (1) .
أَمَّا شَرِكَةُ الْعَقْدِ فَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَلَيْهَا فِي قِسْمِهَا الْخَاصِّ بِهَا:
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمِلْكِ فَهِيَ أَنْ يَخْتَصَّ اثْنَانِ فَصَاعِدًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ.
__________
(1) رد المحتار 2 / 343. والمغني 5 / 3.

(26/20)


وَالَّذِي فِي حُكْمِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَدِّدُ الْمُخْتَلِطُ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ تَفْرِيقُهُ لِتَتَمَيَّزَ أَنْصِبَاؤُهُ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ وَغَيْرُهُمَا. فَالدَّارُ الْوَاحِدَةُ، أَوِ الأَْرْضُ الْوَاحِدَةُ، مَثَلاً تَثْبُتُ فِيهَا شَرِكَةُ الْمِلْكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِذَا اشْتَرَيَاهَا أَوْ وَرِثَاهَا أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِمَا بِأَيِّ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ. وَكَذَلِكَ الإِْرْدَبَّانِ مِنَ الْقَمْحِ أَوْ أَحَدُهُمَا مِنَ الْقَمْحِ وَالآْخَرُ مِنَ الشَّعِيرِ، أَوِ الْكِيسَانِ مِنَ الدَّنَانِيرِ ذَاتِ السِّكَّةِ الْوَاحِدَةِ، يُخْلَطَانِ مَعًا طَوَاعِيَةً أَوِ اضْطِرَارًا - كَإِنِ انْفَتَقَ الْكِيسَانِ الْمُتَجَاوِرَانِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ شَرِكَةِ الْمِلْكِ فِي الدُّيُونِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ فِي الذِّمَّةِ، فَلاَ يُمْلَكُ - وَتَمْلِيكُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، هُوَ فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ، إِسْقَاطٌ لاَ تَمْلِيكٌ.
وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ يُمْلَكُ، قَالُوا: بِدَلِيل أَنَّ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الدَّائِنِينَ عَنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الدَّائِنِينَ، حَتَّى لَيَتَعَذَّرُ التَّخَلُّصُ مِنْ هَذِهِ الشَّرِكَةِ إِلاَّ بِإِعْمَال الْحِيلَةِ - كَأَنْ يَهَبَ الْمَدِينُ لِقَابِضِ قَدْرِ نَصِيبِهِ مَا قَبَضَهُ، وَيُبْرِئَهُ الْقَابِضُ مِنْ حِصَّتِهِ فِي الدَّيْنِ.
أَمَّا غَيْرُ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ، فَكَحَقِّ صَاحِبَيِ الدَّارِ فِي حِفْظِ نَحْوِ الثَّوْبِ تُلْقِيهِ فِيهَا الرِّيحُ

(26/20)


فَإِنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ، إِذْ يَمْلِكُهُ كِلاَهُمَا.
وَلَيْسَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ خِلاَفًا يُذْكَرُ فِي ثُبُوتِ شَرِكَةِ الْمِلْكِ، عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بَعْضُهُمْ بِاسْمِهَا بَل يَتَعَمَّدُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنْ يَجْمَعُوهَا فِي تَعْرِيفٍ وَاحِدٍ مَعَ شَرِكَةِ الْعَقْدِ، كَمَا فَعَل بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ عَرَّفَ الشَّرِكَةَ مُطْلَقًا بِأَنَّهَا: (ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ لاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى جِهَةِ الشُّيُوعِ) . وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ عَرَّفَهَا كَذَلِكَ بِأَنَّهَا: (تَقَرُّرُ مُتَمَوَّلٍ بَيْنَ مَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ) .

تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْمِلْكِ
: أَوَّلاً: إِلَى شَرِكَةِ دَيْنٍ، وَشَرِكَةِ غَيْرِهِ.
2 - أ - فَشَرِكَةُ الدَّيْنِ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُسْتَحَقًّا لاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ: كَمِائَةِ دِينَارٍ فِي ذِمَّةِ تَاجِرٍ تَجْزِئَةً لأَِصْحَابِ (الشَّرِكَةِ) الَّتِي يُعَامِلُهَا.
ب - وَشَرِكَةُ غَيْرِ الدَّيْنِ: هِيَ الشَّرِكَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْعَيْنِ أَوِ الْحَقِّ أَوِ الْمَنْفَعَةِ: كَمَا هُوَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِلسَّيَّارَاتِ أَوِ الْمَنْسُوجَاتِ

(26/21)


أَوِ. . . الْمَأْكُولاَتِ فِي الْمَتْجَرِ الْمُشْتَرَكِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِحَقِّ شُفْعَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا بَاعَهُ ثَالِثُهُمَا، وَحَقِّ سُكْنَى الدَّارِ أَوْ زِرَاعَةِ الأَْرْضِ لِمُسْتَأْجِرِيهَا عَلَى الشُّيُوعِ وَلاَ خِلاَفَ لأَِحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّقْسِيمِ (1) .

ثَانِيًا - إِلَى اخْتِيَارِيَّةٍ، وَاضْطِرَارِيَّةٍ (جَبْرِيَّةٍ) :
3 - أ - فَالاِخْتِيَارِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِإِرَادَةِ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ: سَوَاءٌ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ أَمْ بِدُونِهِ، وَسَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ مُشْتَرَكًا مُنْذُ بِدَايَتِهِ، أَمْ طَرَأَ عَلَيْهِ اشْتِرَاكُهُمَا، أَمْ طَرَأَ الاِشْتِرَاكُ فِي الْمَال بَعْدَ الْعَقْدِ.
فَمِثَال مَا كَانَ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ مُشْتَرَكٍ مُنْذُ الْبَدْءِ، مَا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ دَابَّةً لِلْجَرِّ أَوِ الرُّكُوبِ، أَوْ بِضَاعَةً يَتَّجِرَانِ فِيهَا. وَكَالشِّرَاءِ قَبُول هِبَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوِ الْوَصِيَّةُ أَوِ التَّصَدُّقُ بِهِ.
وَمِثَال مَا كَانَ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ طَرَأَ اشْتِرَاكُهُ أَوِ اشْتِرَاكُهُ فِي الْمَال بَعْدَهُ، أَنْ يَقَعَ الشِّرَاءُ أَوْ قَبُول الْهِبَةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ مِنْ وَاحِدٍ، ثُمَّ يُشْرِكَ مَعَهُ آخَرَ، فَيَقْبَل الآْخَرُ الشَّرِكَةَ - بِعِوَضٍ أَوْ بِدُونِهِ.
وَمِثَال مَا كَانَ بِدُونِ عَقْدٍ مَا لَوْ خَلَطَ اثْنَانِ
__________
(1) رد المحتار 3 / 343، وفتح القدير 5 / 12 - 14، وتنوير الأبصار وشروحه 3 / 362 - 363، والفواكه الدواني 2 / 171، ونهاية المحتاج 5 / 14، ومطالب أولي النهى 3 / 509.

(26/21)


مَالَيْهِمَا، وَمَا لَوِ اصْطَادَ اثْنَانِ صَيْدًا بِشَرَكٍ نَصَبَاهُ، أَوْ أَحْيَيَا أَرْضًا مَوَاتًا.
ب - وَالاِضْطِرَارِيَّةُ، أَوِ الْجَبْرِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ دُونَ إِرَادَةِ أَحَدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ: كَمَا لَوِ انْفَتَقَتِ الأَْكْيَاسُ، وَاخْتَلَطَ مَا فِيهَا مِمَّا يَعْسُرُ - إِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ - فَصْل بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ لِتَتَمَيَّزَ أَنْصِبَاؤُهُ، كَبَعْضِ الْحُبُوبِ. أَمَّا إِذَا وَقَعَ الْخَلْطُ بِفِعْل أَحَدِ الشُّرَكَاءِ، دُونَ إِذْنِ بَاقِيهِمْ، فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْخَالِطَ يَمْلِكُ مَا خَلَطَهُ بِمَال نَفْسِهِ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْمِثْل لِتَعَدِّيهِ، أَيْ فَلاَ شَرِكَةَ (1) .
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ لاَ خِلاَفَ فِيهِ إِلاَّ فِي مِثْل مَسْأَلَةِ: تَمَلُّكِ شَخْصٍ: مَال غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِبْدَادِ بِخَلْطِهِ بِمَال نَفْسِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَيَّزَانِ، أَوْ يَشُقُّ وَيَعْسُرُ تَمْيِيزُهُمَا، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ وَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ لِلآْخَرِ بَدَلُهُ، وَقَال بِذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَمَعَهُ جَمَاهِيرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَال: إِنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيِّ اعْتَمَدَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، بَعْدَ أَنْ قَيَّدُوهُ فِي الأَْوْجَهِ بِامْتِنَاعِ التَّصَرُّفِ فِيمَا مَلَكَ بِالْخَلْطِ، حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهُ لِصَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ الَّذِي مَلَكَهُ
__________
(1) رد المحتار 3 / 344، والإتحاف بأشباه ابن نجيم 448.

(26/22)


كَذَلِكَ، لَوْ كَانَ مَلَكَهُ بِمُعَاوَضَةٍ رِضَائِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِذِمَّتِهِ، فَأَوْلَى إِذَا مَلَكَهُ بِدُونِ رِضَاهُ.
وَمِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ، مَنْ يُنْكِرُ هَذَا التَّمَلُّكَ الْقَسْرِيَّ، وَيَجْعَل الْمَال مُشْتَرَكًا: كَمَا هُوَ أَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ، وَأَطَال فِي الاِنْتِصَارِ لَهُ، وَعَلَيْهِ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَمَاهِيرُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ (1) .

أَحْكَامُ شَرِكَةِ الْمِلْكِ:
4 - الأَْصْل أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَجْنَبِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِنَصِيبِ الآْخَرِ. لأَِنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ لاَ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً مَا، ثُمَّ لاَ مِلْكَ لِشَرِيكٍ مَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ آخَرَ. وَالْمُسَوِّغُ لِلتَّصَرُّفِ إِنَّمَا هُوَ الْمِلْكُ أَوِ الْوِلاَيَةُ (2) وَهَذَا مَا لاَ يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الْخِلاَفِ إِلَيْهِ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا يَلِي:
5 - 1 - لَيْسَ لِشَرِيكِ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ التَّعَاقُدِيَّةِ:
__________
(1) نهاية المحتاج وحواشيها 5 / 14، 184 و 187، وبلغة السالك 2 / 165 و 213، 319، 320، وبداية المجتهد 2 / 319، ومغني المحتاج 2 / 292، والشرقاوي على التحرير 2 / 109، والمغني لابن قدامة 5 / 410، ومطالب أولي النهى 3 / 494.
(2) بدائع الصنائع 6 / 65، ورد المحتار 3 / 343.

(26/22)


كَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالإِْعَارَةِ وَغَيْرِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ هَذَا. فَإِذَا تَعَدَّى فَآجَرَ، مَثَلاً، أَوْ أَعَارَ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَكَةَ فَتَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، فَلِشَرِيكِهِ تَضْمِينُهُ حِصَّتَهُ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ (1) .

6 - 2 - لِكُل شَرِيكٍ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ لِشَرِيكِهِ، أَوْ يُخْرِجَهُ إِلَيْهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى أَيِّ نَحْوٍ، وَلَوْ بِوَصِيَّةٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لاَ يُوهَبُ دُونَ قِسْمَةٍ، مَا لَمْ يَكُنْ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا. وَسَيَأْتِي اسْتِثْنَاءُ حَالَةِ الضَّرَرِ. هَكَذَا قَرَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ. وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مَحَل وِفَاقٍ - إِلاَّ أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ سَائِغَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْل الْعِلْمِ بِإِطْلاَقٍ: كَمَا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ لاَ تَجُوزُ - بِمَعْنَى عَدَمِ إِثْبَاتِ مِلْكٍ نَاجِزٍ - فَالْهِبَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ عَلَى الإِْفْرَازِ ثُمَّ التَّسْلِيمِ (2) .

7 - 3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ لِغَيْرِ شَرِيكِهِ - فِي غَيْرِ
__________
(1) المادة 1075 من المجلة، وحواشي تحفة ابن عاصم 2 / 216، ونهاية المحتاج 5 / 2، 185، ومطالب أولي النهى 3 / 494.
(2) رد المحتار 3 / 346، وفتح القدير 7 / 123، والعناية على الهداية 7 / 121، بداية المجتهد 2 / 329، البجيرمي على المنهج 3 / 216.

(26/23)


حَالَةِ الضَّرَرِ الآْتِيَةِ - بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ حَالَةً وَاحِدَةً: هِيَ حَالَةُ اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ دُونَ شُيُوعٍ - لِبَقَاءِ كُل مَالٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ عَسُرَ تَمْيِيزُهُ، أَوْ تَعَذَّرَ: سَوَاءٌ كَانَ اخْتِلاَطًا عَفْوِيًّا، أَمْ نَتِيجَةَ خَلْطٍ مَقْصُودٍ مِنْ جَانِبِ الشُّرَكَاءِ.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَيْ حَالَةِ اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ دُونَ شُيُوعٍ: لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ لِيَصِحَّ بَيْعُهُ لِغَيْرِهِ، مَا دَامَ الْمَال شَرِكَةً بَيْنَهُمَا لَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ (1) .
وَسِرُّ التَّفْرِقَةِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ، حَيْثُ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْبَيْعِ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ عَلَى إِذْنِهِ، وَبَيْنَ غَيْرِهَا، حَيْثُ لاَ يُوجَدُ هَذَا التَّوَقُّفُ، أَنَّهُ فِي حَالَةِ شُيُوعِ الْمَال بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ - بِسَبَبِ إِرْثِهِمَا إِيَّاهُ، أَوْ وُقُوعِ شَرِكَتِهِمَا فِيهِ بِسَبَبٍ آخَرَ يَقْتَضِي هَذَا الشُّيُوعَ: كَشِرَائِهِمَا إِيَّاهُ مَعًا، أَوْ إِشْرَاكِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ فِيهِ بِحِصَّةٍ شَائِعَةٍ - يَكُونُ كُل جُزْءٍ فِي الْمَال الْمُشْتَرَكِ - مَهْمَا دَقَّ وَصَغُرَ - مُشْتَرَكًا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَبَيْعُ النَّصِيبِ الشَّائِعِ جَائِزٌ لِلشَّرِيكِ وَلِغَيْرِهِ، إِذْ لاَ مَانِعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ وَتَسَلُّمِهِ فَإِنَّ الإِْفْرَازَ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ التَّسْلِيمِ - وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ نِزَاعَ فِي صِحَّةِ
__________
(1) رد المحتار 3 / 346، 367، ومغني المحتاج 2 / 13، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 83.

(26/23)


بَيْعِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ ذَاتًا كَالدَّابَّةِ، وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعُ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَكَةَ كُلَّهَا، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، كَانَ كَالْغَاصِبِ، وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، بِالنِّسْبَةِ لِحِصَّةِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ: حَتَّى إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ كَانَ لِلَّذِي لَمْ يَبِعْ حَقُّ الرُّجُوعِ بِضَمَانِ حِصَّتِهِ عَلَى أَيِّ الشَّخْصَيْنِ شَاءَ: الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ إِذَا رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.
أَمَّا النَّصِيبُ غَيْرُ الشَّائِعِ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ، فَبَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ - إِلاَّ أَنَّهُ الْتَبَسَ بِغَيْرِهِ أَوْ تَعَسَّرَ فَصْلُهُ. وَهَذَا الاِلْتِبَاسُ أَوِ التَّعَسُّرُ لاَ يَمْنَعُ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلَى الشَّرِيكِ، إِذَا بَاعَهُ إِيَّاهُ، وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُ هَذِهِ الْقُدْرَةَ وَيُنَافِيهَا إِذَا بَاعَ النَّصِيبَ لأَِجْنَبِيٍّ عَنِ الشَّرِكَةِ، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ أَوْ تَسَلُّمُهُ، إِلاَّ مَخْلُوطًا بِنَصِيبِ هَذَا الشَّرِيكِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ (1) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: (إِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي حَيَوَانٍ مَثَلاً بِمِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ: فَلَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ وَسَلَّمَ الْجَمِيعَ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، كَانَ ضَامِنًا عَلَى
__________
(1) البهجة على التحفة 2 / 216.

(26/24)


مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ. لأَِنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْمُودَعِ فِي الأَْمَانَةِ، وَهَذَا إِذَا وَضَعَ يَدَ الأَْجْنَبِيِّ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ، وَلاَ يَلْزَمُ عَدَمُ صِحَّةِ الْبَيْعِ؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ: لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ شَرِيكُهُ حَاضِرًا، سَلِمَ الْبَيْعُ لَهُ، وَتَقَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، أَوْ غَائِبًا، رَفَعَ أَمْرَهُ إِلَى الْحَاكِمِ، وَيَأْذَنُ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَوَضْعِ مَال الْغَائِبِ تَحْتَ يَدِهِ) . (1)

حَالَةُ الضَّرَرِ:
8 - بَيْعُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ فِي الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ، أَوِ الثَّمَرِ أَوِ الزَّرْعِ، لاَ يَجُوزُ. وَيَعْنُونَ بَيْعَ الْحِصَّةِ فِي ذَلِكَ مُنْفَرِدَةً عَنِ الأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ: فَإِنَّهُ إِنْ شَرَطَ هَدْمَ الْبِنَاءِ، وَقَلْعَ الْغِرَاسِ، فَلاَ يَتَأَتَّى دُونَ هَدْمِ وَقَلْعِ حِصَّةِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ - لِمَكَانِ الشُّيُوعِ - وَذَلِكَ ضَرَرٌ لاَ يَجُوزُ. وَلأَِنَّ شَرْطَ بَقَائِهِمَا إِنَّمَا هُوَ شَرْطُ مَنْفَعَةٍ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ زَائِدَةٍ عَنْ مُقْتَضَى الْبَيْعِ، فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا فِي نَفْسِهِ، مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ أَيْضًا، لِمَكَانِ الرِّبَا، إِذْ هِيَ زِيَادَةٌ عَرِيَّةٌ عَنِ الْعِوَضِ (2) .
__________
(1) حواشي نهاية المحتاج 5 / 83، ومغني المحتاج 2 / 13، وحواشي تحفة ابن عاصم 2 / 216.
(2) الدر المختار مع ابن عابدين 3 / 345.

(26/24)


وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلثَّمَرِ أَوِ الزَّرْعِ: فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ أَوَانَ قَطْعِهِ فَبِدُونِ إِذْنِ الشَّرِيكِ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْحِصَّةِ لأَِجْنَبِيٍّ؛ لِلُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ حِينَئِذٍ، إِذْ سَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِ مَا اشْتَرَاهُ، وَلاَ سَبِيل إِلَيْهِ إِلاَّ بِقَطْعِ حِصَّةِ هَذَا الشَّرِيكِ (1) .

9 - (4) ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ فِي حُضُورِ الشَّرِيكِ، لاَ يَنْتَفِعُ شَرِيكُهُ الآْخَرُ بِالْمَال الْمُشْتَرَكِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ بِدُونِ الإِْذْنِ يَكُونُ غَصْبًا، وَيَدْخُل فِي الإِْذْنِ: الإِْذْنُ الْعُرْفِيُّ.
فَإِذَا رَكِبَ الشَّرِيكُ الدَّابَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ، أَوْ حَمَل عَلَيْهَا، بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ فَتَلِفَتْ أَوْ هَزِلَتْ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا، ضَمِنَ حِصَّةَ. شَرِيكِهِ فِي حَال التَّلَفِ، وَضَمِنَ نَقْصَ قِيمَتِهَا فِي حَالَةِ الْهُزَال.
وَإِذَا زَرَعَ الأَْرْضَ الْمُشْتَرَكَةَ، أَوْ بَنَى فِيهَا، وَشَرِيكُهُ حَاضِرٌ، دُونَ إِذْنٍ مِنْهُ، طُبِّقَتْ أَحْكَامُ الْغَصْبِ: فَتَنْقَسِمُ الأَْرْضُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَيْهِ قَلْعُ مَا وَقَعَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَضَمَانُ نَقْصِ أَرْضِهِ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ قَدْ أَدْرَكَ أَوْ كَادَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إِلاَّ ضَمَانُ نُقْصَانِ الأَْرْضِ، دُونَ قَلْعِ الزَّرْعِ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ الآْخَرِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الَّذِي زَرَعَ الأَْرْضَ الْمُشْتَرَكَةَ نِصْفَ الْبَذْرِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ
__________
(1) رد المحتار 3 / 346، ومغني المحتاج 2 / 189، والبهجة على التحفة 2 / 209، 216.

(26/25)


الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا لأَِنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ إِنْ كَانَ الزَّرْعُ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ، وَإِلاَّ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُصِرَّ عَلَى قَلْعِ الزَّرْعِ مَتَى كَانَتِ الْقِسْمَةُ مُمْكِنَةً.
وَهُنَا لِلشَّافِعِيَّةِ ضَابِطٌ حَسَنٌ: الشَّرِيكُ أَمِينٌ إِنْ لَمْ يَسْتَعْمِل الْمُشْتَرَكَ، أَوِ اسْتَعْمَلَهُ مُنَاوَبَةً - لأَِنَّهَا إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ - وَإِلاَّ: فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَعَارِيَّةٌ، أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ فَغَصْبٌ. وَمِنَ الاِسْتِعْمَال حَلْبُ الدَّابَّةِ اللَّبُونِ (1) .
10 - (5) فِي حَالَةِ غَيْبَةِ الشَّرِيكِ أَوْ مَوْتِهِ، يَكُونُ لِشَرِيكِهِ الْحَاضِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمُشْتَرَكِ انْتِفَاعًا لاَ يَضُرُّ بِهِ (2) .

11 - (6) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا احْتَاجَ الْمَال الْمُشْتَرَكُ إِلَى النَّفَقَةِ - سَوَاءٌ لِلتَّعْمِيرِ، أَمْ لِغَيْرِهِ - كَبِنَاءِ مَا تَخَرَّبَ، وَإِصْلاَحِ مَا وَهَى، وَإِطْعَامِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَكِنْ نَشِبَ النِّزَاعُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ: فَأَرَادَ بَعْضُهُمُ الإِْنْفَاقَ، وَأَبَى الآْخَرُونَ - فَفِي الْحُكْمِ تَفْصِيلٌ؛ لأَِنَّ الْمَال إِمَّا قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ أَوْ غَيْرُ قَابِلٍ:
أ - فَفِي الْقَابِل لِلْقِسْمَةِ: كَالدَّارِ
__________
(1) المراجع السابقة، والشرقاوي على التحرير 2 / 113.
(2) ملا مسكين على الكنز 2 / 208، والعناية على الهداية 8 / 380 ومغني المحتاج 2 / 189. والبجيرمي على المنهج 3 / 15، الخرشي 4 / 278، والمغني 5 / 36.

(26/25)


الْفَسِيحَةِ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُعَدَّةِ لِلاِسْتِغْلاَل وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ، لاَ إِجْبَارَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، وَلَكِنْ يُقْسَمُ الْمَال لِيَقُومَ بِإِصْلاَحِ مَالِهِ وَالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ - اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُمْتَنِعُ، عَلَى خِلاَفِ الْمَصْلَحَةِ، وَصِيًّا أَوْ نَاظِرَ وَقْفٍ (كَمَا فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ وَقْفَيْنِ مَثَلاً) فَإِنَّهُ يُجْبَرُ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.
ب - وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَال الْمُشْتَرَكُ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ، أُجْبِرَ الشَّرِيكُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّ امْتِنَاعَهُ مُفَوِّتٌ لِحَقِّ شَرِيكِهِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِهِ وَذَلِكَ كَمَا فِي نَفَقَةِ دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كَرْيِ نَهْرٍ، أَوْ مَرَمَّةِ قَنَاةٍ أَوْ بِئْرٍ، أَوْ إِصْلاَحِ آلَةِ رَيٍّ، أَوْ سَفِينَةٍ، أَوْ حَائِطٍ لاَ يَنْقَسِمُ لِضِيقِ عَرْصَتِهِ (مَوْضِعِ بِنَائِهِ) أَوْ لِحُمُولَةٍ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْحُمُولَةُ كُلُّهَا لِغَيْرِ طَالِبِ الْعِمَارَةِ إِلاَّ أَنَّ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ مَالُوا إِلَى الْقَوْل: بِأَنَّ الْجِدَارَ الْوَاسِعَ الْعَرْصَةِ مُلْحَقٌ هُنَا بِمَا لاَ يَنْقَسِمُ؛ لِتَضَرُّرِ الشَّرِيكِ فِيهِ بِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي إِصْلاَحِهِ وَتَرْمِيمِهِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ مُوَافَقَةً تَكَادُ تَكُونُ تَامَّةً، وَيَزِيدُونَ أَنَّ الشَّرِيكَ إِذَا أَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ كُلَّهَا لِمَنْ يَقُومُ بِالنَّفَقَةِ اللاَّزِمَةِ. وَلَمْ يَجْتَزِئُوا بِبَيْعِ مَا يَكْفِي لِسَدَادِ هَذِهِ النَّفَقَةِ، مَنْعًا لِضَرَرِ تَكْثِيرِ الشُّرَكَاءِ، وَلاَ بِإِجْبَارِ الشَّرِيكِ الْقَادِرِ عَلَى النَّفَقَةِ وَحْدَهُ، دُونَ لُجُوءٍ إِلَى الْبَيْعِ (كَمَا

(26/26)


لَمْ يَلْجَئُوا إِلَيْهِ فِي الْحِصَّةِ الَّتِي هِيَ وَقْفٌ، وَمَنَعُوهُ إِذَا كَانَ ثَمَّتَ مَا يُغْنِي عَنْهُ: مِنْ رِيعٍ لَهَا مُتَجَمِّعٍ، أَوْ أُجْرَةٍ مُتَاحَةٍ بِسَبَبِ وُجُودِ رَاغِبٍ فِي الاِسْتِئْجَارِ بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ مَثَلاً) مَعَ أَنَّهُ قَدْ قِيل عِنْدَهُمْ بِكُلٍّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ. أَمَّا حَيْثُ لاَ يُوجَدُ مَا يُغْنِي فِي الْحِصَّةِ الْمَوْقُوفَةِ عَنِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهَا تُبَاعُ كُلُّهَا - كَغَيْرِ الْمَوْقُوفَةِ - مَنْعًا لِكَثْرَةِ الأَْيْدِي، كَمَا اسْتَدْرَكَهُ النَّفْرَاوِيُّ عَلَى بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْوَقْفَ مَانِعًا مِنَ الْبَيْعِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرَكُ جَمِيعُهُ وَقْفًا، وَحِينَئِذٍ يَقُومُ الطَّالِبُ بِالنَّفَقَةِ اللاَّزِمَةِ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي مَا يَخُصُّ الْحِصَّةَ الأُْخْرَى مِنْ غَلَّتِهَا.
وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَرَوْنَ إِجْبَارَ الشَّرِيكِ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الإِْصْلاَحِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ مُحَقَّقٌ: وَقَدْ مَثَّلُوهُ بِإِصْلاَحِ الْعُيُونِ وَالآْبَارِ - حَتَّى لَقَدْ رَفَضُوا قَوْل مَنْ قَال مِنْهُمْ بِالإِْجْبَارِ إِذَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْعُيُونِ أَوِ الآْبَارِ زَرْعٌ، أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ. وَرَأَوْا أَنْ يَقُومَ بِالإِْصْلاَحِ الشَّرِيكُ الَّذِي يُرِيدُهُ، ثُمَّ يَحُول بَيْنَ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ وَبَيْنَ كَمِّيَّةِ الْمَاءِ الزَّائِدَةِ - الَّتِي نَتَجَتْ مِنْ عَمَلِيَّةِ الإِْصْلاَحِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَا يَخُصُّهُ مِنَ النَّفَقَاتِ، وَلَوْ ظَل كَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ.
نَعَمْ سِيَاقُ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ هُنَا فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، (لَكِنَّهُمْ نَصُّوا - فِي مَوْضِعِهِ - عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْحَيَوَانَ لاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ) : ذَلِكَ

(26/26)


أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْقَاضِي السُّلْطَةَ نَفْسَهَا إِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ مِلْكًا خَاصًّا، وَامْتَنَعَ مَالِكُهُ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ - غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّهُمْ زَادُوا إِعْطَاءَ الْمَالِكِ خِيَارَ ذَبْحِ مَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ حَتَّى إِذَا رَفَضَ هَذَا وَذَاكَ أَيْضًا نَابَ عَنْهُ الْقَاضِي (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ الْمُشْتَرَكِ إِلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، فَلِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ قَوْلاَنِ: قَوْلٌ بِإِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى التَّعْمِيرِ وَالإِْنْفَاقِ مَعَ شَرِيكِهِ؛ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَصِيَانَةً لِلأَْمْلاَكِ عَنِ التَّعْطِيل، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الصَّلاَحِ. وَقَوْلٌ بِعَدَمِ الإِْجْبَارِ لأَِنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ بِالنَّفَقَةِ أَيْضًا، وَالضَّرَرُ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ، أَوْ وُجْهَةُ نَظَرٍ، ثُمَّ كُل مَا لَيْسَتْ لَهُ رَوْحٌ. . فَلَيْسَتْ لَهُ فِي نَفْسِهِ حُرْمَةٌ يَسْتَحِقُّ الإِْنْفَاقَ مِنْ أَجْلِهَا، وَلاَ فِي تَعْطِيلِهِ إِضَاعَةُ مَالٍ مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، إِذْ لاَ يَعُدُّونَ التَّرْكَ مِنْ هَذِهِ الإِْضَاعَةِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ فِعْلٍ إِيجَابِيٍّ: كَأَنْ يَقْذِفَ الشَّخْصُ بِمَتَاعِهِ إِلَى الْبَحْرِ. وَهَذَا هُوَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 366، والخرشي 4 / 372، وبلغة السالك 2 / 173 - 174، والفواكه الدواني 2 / 108 - 109.

(26/27)


الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّهُ أَقْوَى دَلِيلاً، وَإِنْ كَانَ الْجُورِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَسْتَثْنِي النَّبَاتَ وَيُلْحِقُهُ بِالْحَيَوَانِ. وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، بِأَنَّ الأَْمْرَ يُوَكَّل إِلَى الْقَاضِي: فَإِنْ لَمْ يَرَ مِنَ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ إِلاَّ الْعِنَادَ أَجْبَرَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ (1) .

رُجُوعُ الشَّرِيكِ عَلَى شَرِيكِهِ بِمَا أَنْفَقَ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَل بِالنَّفَقَةِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا يَنْقَسِمُ، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، فَمُتَبَرِّعٌ لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِمَا أَنْفَقَ - لاَ مِثْلاً وَلاَ قِيمَةً؛ لأَِنَّ لَهُ بِالْقِسْمَةِ مَنْدُوحَةً عَنْ ذَلِكَ. إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ خَافَ تَلَفَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، أَوْ نُقْصَانَهُ، إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ لِنَقْلِهِ مِنْ مَكَانِهِ - كَمَا لَوْ تَعَطَّلَتِ الشَّاحِنَةُ بِالْمَال الْمُشْتَرَكِ فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ، كَبَادِيَةٍ مَثَلاً - فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى نَقْلِهِ، وَيَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى شَرِيكِهِ.
أَمَّا فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ: فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي " الأَْشْبَاهِ " الْقَوْل بِرُجُوعِ الْمُنْفِقِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَأَنَّهُ - إِنْ أَمْكَنَ - يُؤَجِّرُ الْعَيْنَ وَيَسْتَوْفِي مِنْ أُجْرَتِهَا مِثْل النَّفَقَةِ الَّتِي أَنْفَقَهَا - إِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْقَاضِي - أَوْ قِيمَةَ
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 347، 348 دليل الطالب 250 - 251، ومغني المحتاج 2 / 190، والمغني لابن قدامة 5 / 45، 49، 50.

(26/27)


مَا أَجْرَاهُ مِنْ أَوْجُهِ الإِْصْلاَحِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الْقَاضِي (1) .
وَالشَّرِيكُ الَّذِي يَسْتَقِل بِالإِْنْفَاقِ عَلَى الْمُشْتَرَكِ، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ وَدُونَ إِذْنٍ مِنَ الْقَاضِي، لاَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَنْفَقَ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَبَرِّعٌ، حَتَّى فِي مَوْضِعِ الإِْجْبَارِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي النَّفَقَةِ، قِيَاسًا عَلَى الَّذِي يَقْضِي دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ فِي حَالَةِ الإِْجْبَارِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ، إِذَا أَنْفَقَ الشَّرِيكُ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ عَلَى شَرِيكِهِ، بِنَاءً عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي الَّذِي يَقْضِي دُونَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ - أَعَنَى رِوَايَةَ اسْتِحْقَاقِهِ الرُّجُوعَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَمَّرَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الرَّحَى الْمُشْتَرَكَةَ بِإِذْنِ شُرَكَائِهِ أَوْ مَعَ سُكُوتِهِمُ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِحِصَصِهِمْ مِمَّا أَنْفَقَهُ فِي ذِمَمِهِمْ، وَإِنْ كَانَ إِنْفَاقُهُ مَعَ إِبَائِهِمْ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ فِي ذِمَمِهِمْ وَلَكِنْ يَسْتَوْفِي مِنَ الْغَلَّةِ ثُمَّ مَا يَفْضُل مِنَ الْغَلَّةِ فَهُوَ لَهُمْ جَمِيعًا (2) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 364 - 366 - 367.
(2) رد المحتار 3 / 367 - 368، والخرشي 4 / 273 - 274، ومغني المحتاج 2 / 210، والمغني لابن قدامة 5 / 47، 88.

(26/28)


الدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ:
13 - هُوَ كُل دَيْنٍ وَجَبَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِشَرِيكَيْنِ فَأَكْثَرَ. كَمَا لَوْ بَاعَ الشَّرِيكَانِ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ دُونَ تَحْدِيدِ ثَمَنٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا؛ أَمَّا لَوْ تَعَدَّدَتِ الصَّفْقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلدَّيْنِ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا اخْتَلَفَ السَّبَبُ، وَانْتَفَى الاِشْتِرَاكُ فِي الدَّيْنِ: وَذَلِكَ كَالدَّيْنِ الَّذِي اسْتُحِقَّ عَلَى مُشْتَرٍ وَاحِدٍ ثَمَنًا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَدَارٍ، أَوْ قِطْعَةِ أَرْضٍ يَمْلِكُهَا اثْنَانِ مَا دَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ بَاعَ نَصِيبَهُ بِعَقْدٍ مُسْتَقِلٍّ، وَإِنْ أَخَذَ عَلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ صَكًّا وَاحِدًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ. فَهَذَا دَيْنٌ غَيْرُ مُشْتَرَكٍ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ بِسَبَبَيْنِ. لاَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، بِرَغْمِ اتِّحَادِ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي وَالصَّكِّ. فَلاَ سَبِيل لأَِحَدِ الْبَائِعَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، إِذَا تَقَاضَى مِنَ الدَّيْنِ شَيْئًا.
وَمِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا كُل دَيْنٍ وَجَبَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِشَرِيكَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَهُوَ مَا كَانَ عِوَضًا عَنْ مَالَيْنِ غَيْرِ مُشْتَرَكَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ اسْتُحِقَّ عَنْهُمَا بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ: كَدَارٍ لِهَذَا وَدَارٍ لِذَاكَ، بَاعَاهُمَا مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بِثَمَنٍ إِجْمَالِيٍّ لَهُمَا، دُونَ أَنْ يُمَيَّزَ فِيهِ ثَمَنُ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، لاَ بِبَيَانِ مِقْدَارٍ - كَسِتِّمِائَةٍ لِهَذَا وَأَرْبَعُمِائَةٍ لِذَاكَ - وَلاَ بِتَحْدِيدِ صِفَةٍ، كَنُقُودٍ فِضِّيَّةٍ لِهَذَا وَذَهَبِيَّةٍ لِذَاكَ؛ لأَِنَّ مِثْل هَذَا

(26/28)


التَّمْيِيزِ يُنَافِي اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ: بِدَلِيل أَنَّ لِلْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ أَنْ يَقْبَل الْبَيْعَ فِي نَصِيبِ وَاحِدٍ، وَيَرْفُضَهُ فِي نَصِيبِ الآْخَرِ، مُعْتَذِرًا بِأَنَّ هَذَا الثَّمَنَ أَوْ ذَاكَ الْوَصْفَ لاَ يُنَاسِبُهُ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّيْنُ مُشْتَرَكًا. إِلاَّ أَنَّهُ فِي حَالَةِ التَّمْيِيزِ بِبَيَانِ تَفَاضُل الاِسْتِحْقَاقَيْنِ، إِذَا زَال التَّفَاضُل بِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ عَادَ الدَّيْنُ مُشْتَرَكًا.
وَزَادَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي اشْتِرَاطُ أَنْ لاَ يَكُونَ التَّمْيِيزُ فِي الْمِقْدَارِ أَوِ الصِّفَةِ قَائِمًا أَصْلاً، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْعَقْدِ (1) .

قَبْضُ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ كُل دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مَثَلاً، إِذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا - وَلَوْ كَانَ الْمُؤَدِّي كَفِيل الْمَدِينِ، أَوْ مُحَالاً عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مَقْبُوضٌ عَنِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا، وَلِلَّذِي لَمْ يَقْبِضْ - وَيُسَمُّونَهُ الشَّرِيكَ السَّاكِتَ - أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ، بِنِسْبَةِ حِصَّتِهِ فِي الدَّيْنِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ لِيَتَمَلَّكَهُ، وَيَرْجِعَ هُوَ بِحِصَّتِهِ فِيهِ عَلَى الْمَدِينِ رُجُوعًا مُقَيَّدًا بِعَدَمِ التَّوَى، حَتَّى
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 45، والعناية على الهداية مع فتح القدير 7 / 47.

(26/29)


إِذَا تَوِيَتْ عَلَى الْمَدِينِ، كَأَنْ مَاتَ مُفَلِّسًا، عَادَ بِهَا عَلَى الْقَابِضِ، إِذْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا كَانَ يَرْجُو سَلاَمَتَهُ، وَشَرْطُ السَّلاَمَةِ فِي مِثْلِهِ مَفْهُومٌ عُرْفًا.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ الدَّيْنُ دَيْنَ مُعَاوَضَةٍ كَأَلْفٍ هِيَ ثَمَنُ دَارٍ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، أَمْ دَيْنَ إِتْلاَفٍ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الأَْلْفُ قِيمَةَ زَرْعٍ لَهُمَا ضَمِنَهُ قَالِعُهُ أَوْ مُحْرِقُهُ، أَمْ غَيْرُهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ مِيرَاثًا وَرِثَاهُ عَنْ مُوَرِّثٍ وَاحِدٍ، أَوْ بَدَل قَرْضٍ أَقْرَضَاهُ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا أَنَّ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا عَنِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، فَذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا عَنْ حِصَّةِ الْقَابِضِ وَحْدَهُ، إِلاَّ إِذَا وَقَعَتْ قِسْمَةُ الدَّيْنِ بَيْنَ الدَّائِنَيْنِ، وَهَذَا لَمْ يَحْصُل، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُل، لِمَعْنَيَيْنِ:
15 - أَوَّلُهُمَا: أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لاَ يُمْكِنُ تَمْيِيزُ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ. وَهَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ الْقِسْمَةِ، فَلاَ تُتَصَوَّرُ فِي الدَّيْنِ إِذَنْ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْقِسْمَةَ لاَ تَخْلُو مِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لأَِنَّ كُل جُزْءٍ فَرَضْنَاهُ فِي الْمَال الْمُشْتَرَكِ، مَهْمَا صَغُرَ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ. فَلَوْ صَحَّحْنَاهَا بِالنِّسْبَةِ لِلدَّيْنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، لَكَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الشَّرِيكَيْنِ اشْتَرَى مَا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ مِنْ

(26/29)


مِلْكِ صَاحِبِهِ فِي الدَّيْنِ، بِمَا تَرَكَهُ لَهُ مِنْ مِلْكِهِ هُوَ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل بَيْعِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ (الَّذِي لَمْ يَقْبِضْ) أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَدِينِ؛ فَلأَِنَّ دَيْنَهُ فِي ذِمَّةِ هَذَا الْمَدِينِ، وَلَيْسَتْ لِهَذَا الْمَدِينِ وِلاَيَةُ دَفْعِهِ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِهَذَا الدَّفْعِ (1) .
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الْقَابِضِ ابْتِدَاءً، كَانَ عَيْنُ حَقِّهِ فِيمَا قَبَضَهُ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ: فَلَيْسَ لِلْقَابِضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَيُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِهِ - سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِثْل الدَّيْنِ أَمْ أَجْوَدَ أَمْ أَرْدَأَ؛ لأَِنَّهُ مَا دَامَ الْجِنْسُ وَاحِدًا فَاخْتِلاَفُ الْوَصْفِ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ لاَ يُنَافِي أَنَّ الْقَبْضَ عَنِ الدَّيْنِ: وَلِذَا يُجْبَرُ الدَّائِنُ عَلَى قَبُول الأَْجْوَدِ، فَإِذَا فَاتَ الْمَقْبُوضُ عِنْدَ الْقَابِضِ بِسَبَبٍ مَا كَضَيَاعٍ، أَوْ تَلَفٍ، أَوْ دَفَعَهُ لِلْغَيْرِ فِي مُعَاوَضَةٍ، أَوْ ضَمَانٍ، أَوْ تَبَرُّعٍ، فَإِنَّهُ - فِي غَيْرِ حَالَةِ تَلَفِهِ بِيَدِ الْقَابِضِ دُونَ تَعَدٍّ مِنْهُ - يَكُونُ قَدْ فَوَّتَ عَلَى شَرِيكِهِ حِصَّتَهُ فِيهِ، وَمِنْ حَقِّ هَذَا الشَّرِيكِ إِذَنْ أَنْ يُضَمِّنَهُ إِيَّاهَا. وَفِي حَالَةِ عَدَمِ التَّعَدِّي لاَ تَضْمِينَ، وَلَكِنْ يَكُونُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 65، وتبيين الحقائق 5 / 46، والفتاوى الهندية 2 / 340، ونهاية المحتاج 5 / 14، والخرشي على خليل 4 / 404، ومغني المحتاج 4 / 426، والشرح الكبير مع المغني 5 / 124.

(26/30)


الْفَوَاتُ كُلُّهُ عَلَى الْقَابِضِ، وَنَصِيبُ الشَّرِيكِ السَّاكِتِ فِي الدَّيْنِ يَظَل كَامِلاً فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
أَمَّا إِذَا رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الْقَابِضِ بَعْدَ تَوَاءِ حَقِّهِ عِنْدَ الْغَرِيمِ (الْمَدِينِ) فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مِثْل هَذَا الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ الْقَابِضِ، دَيْنًا كَسَائِرِ الدُّيُونِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْقَطَ تَعَلُّقَ حَقِّهِ بِعَيْنِ الْمَقْبُوضِ، إِذْ خَلَّى بَيْنَ الْقَابِضِ وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ، وَعَدَل إِلَى مُطَالَبَةِ الْغَرِيمِ (1) .
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ الشَّرِيكُ حِصَّتَهُ فِي الْمَقْبُوضِ مِنَ الْقَابِضِ، يَكُونُ مَا بَقِيَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ بَيْنَهُمَا - كُلٌّ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ لَهُ، وَهِيَ نَفْسُ نِسْبَةِ حَقَّيْهِمَا فِي الدَّيْنِ الأَْصْلِيِّ.
هَذَا الْحُكْمُ، أَعْنِي كَوْنَ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنَ الدَّيْنِ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا أَطْلَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: سَوَاءٌ أَجَّل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ فِي الدَّيْنِ أَمْ لَمْ يُؤَجِّل؛ لأَِنَّ هَذَا التَّأْجِيل مِنْ أَحَدِهِمَا لَغْوٌ عِنْدَهُ، إِذْ هُوَ يَتَضَمَّنُ الْقِسْمَةَ - بِدَلِيل أَنَّ الْحَال غَيْرُ الْمُؤَجَّل، وَصْفًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَحُكْمًا؛ لاِمْتِنَاعِ الْمُطَالَبَةِ بِالْمُؤَجَّل دُونَ الْحَال.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنَّ التَّأْجِيل يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ فَإِنْ أَجَّل أَحَدُهُمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 337، والأتاسي على المجلة 4 / 42، وبدائع الصنائع 6 / 65 - 66.

(26/30)


نَصِيبَهُ اسْتَقَل الْقَابِضُ بِمَا قَبَضَ خِلاَل الأَْجَل إِلَى أَنْ يَحِل؛ لأَِنَّ الأَْجَل يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ. ذَلِكَ أَنَّ هَذَا التَّأْجِيل صَحِيحٌ عِنْدَهُمَا، إِذْ هُوَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، فَيَنْفُذُ قِيَاسًا عَلَى الإِْبْرَاءِ، بَل لَيْسَ هُوَ إِلاَّ إِبْرَاءً مُؤَقَّتًا، فَيُعْتَبَرُ بِالْمُطْلَقِ. فَإِذَا حَل الأَْجَل، اعْتُبِرَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الشَّرِيكُ الآْخِرُ قَدْ قَبَضَ مِنَ الدَّيْنِ شَيْئًا رَجَعَ عَلَيْهِ هَذَا بِحِصَّتِهِ فِيهِ، إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَإِلاَّ ضَمَّنَهُ إِيَّاهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِمَنْ أَخَّرَ حِصَّتَهُ مِنَ الدَّيْنِ الْحَال أَنْ يُشَارِكَ مَنْ لَمْ يُؤَخِّرْ فِيمَا يَقْبِضُهُ مِنَ الدَّيْنِ، وَاسْتَثْنَوْا مَا إِذَا كَانَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ، وَتَلِفَ الْمَقْبُوضُ، وَلَمْ يَحِل الأَْجَل بَعْدُ (1) .
وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ تَقْرِيرِ ابْنِ رَجَبٍ فِي قَوَاعِدِهِ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَهُ خَاصَّةً، بَل مِنْهُمْ مَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِصَرِيحِ الْعِبَارَةِ، كَمَا فَعَل الْقَاضِي (2) .

مَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَبْضِ: (مَا يُعَادِل الْوَفَاءَ) :
16 - هُنَاكَ أَشْيَاءُ تُعَادِل الْوَفَاءَ بِالدَّيْنِ، كُلًّا أَوْ بَعْضًا. إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ مِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ
__________
(1) المراجع السابقة وتبيين الحقائق 5 / 47، 48، ومطالب أولي النهى 3 / 507.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 509.

(26/31)


الْقَبْضِ مِنْ دَائِنٍ بِعَيْنِهِ؛ لأَِنَّهُ اقْتِضَاءٌ لِلدَّيْنِ مَعْنًى: كَمَا لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ مَدِينِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ بِدَيْنٍ لَهُ لاَحِقٍ - كَأَنْ بَاعَ الْمَدِينُ الدَّائِنَ، أَوْ آجَرَهُ، أَوْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا، صَالَحَهُ عَنْ دَيْنِهِ بِشَيْءٍ مَا، أَوْ رَهَنَهُ بِهِ رَهْنًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ، أَوْ أَتْلَفَ لَهُ الدَّائِنُ شَيْئًا، أَوْ غَصَبَهُ إِيَّاهُ فَهَلَكَ عِنْدَهُ، أَوْ فَوَّتَ عَلَيْهِ عَيْنًا اشْتَرَاهَا مِنْهُ شِرَاءً فَاسِدًا، بِتَلَفِهَا أَوْ خُرُوجِهَا مِنْ يَدِهِ.
وَمِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ الإِْقْبَاضِ وَالْقَضَاءِ، لاَ الْقَبْضِ وَالاِقْتِضَاءِ: كَمَا لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ لَهُ سَابِقٍ، إِذِ الْقَاعِدَةُ: أَنَّ. الدَّيْنَيْنِ إِذَا الْتَقَيَا قِصَاصًا يَكُونُ الثَّانِي قَضَاءً لِلأَْوَّل؛ لأَِنَّ الأَْوَّل كَانَ وَاجِبَ الْقَضَاءِ قَبْلَهُ - كَمَا لَوْ اشْتَرَيْتَ مِنْهُ شَيْئًا وَقَبَضْتَهُ، ثُمَّ أَتْلَفَهُ عَلَيْكَ قَبْل أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ.
وَمِنْهَا مَا لاَ مُقَاصَّةَ فِيهِ أَصْلاً، بَل هُوَ بِمَثَابَةِ الإِْتْلاَفِ: كَهِبَةِ الدَّيْنِ وَالإِْبْرَاءِ مِنْهُ، أَوْ لَيْسَ بِإِتْلاَفٍ، وَلَكِنْ لاَ يُسَلَّمُ لِلْمُوفِي بِهِ مَا يَحْتَمِل الشَّرِكَةَ فِيهِ: كَمَا لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِهِ مَهْرًا لَهَا، أَوْ عَنْ ذِمَّةِ مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ بِجَعْلِهِ بَدَل صُلْحٍ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ - قَتْلاً أَوْ غَيْرَهُ، كَمَا لَوْ شَجَّ الْمَدِينُ مُوضِحَةً: لأَِنَّ الْعَقْدَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَقَعَ عَلَى نَفْسِ الدَّيْنِ - فَمُلِكَ

(26/31)


بِعَيْنِهِ، ثُمَّ سَقَطَ - لاَ عَلَى شَيْءٍ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَوِ الْجَانِي، حَتَّى تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَيَصْدُقُ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَقْبَل الشَّرِكَةَ، وَهُوَ مَا الْتَزَمَاهُ فِي ذِمَّتَيْهِمَا: وَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ بِضْعَ الْمَرْأَةِ، وَسُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الْجَانِي، كِلاَهُمَا لاَ يَقْبَل الشَّرِكَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْل ذَلِكَ فِي الإِْجَارَةِ إِذَا قُيِّدَتْ بِنَفْسِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيل الْمَال الْمُطْلَقِ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَوْفَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ شَرِيكَهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ - بِمَعْنَى أَنْ يُخَيَّرَ بَيْنَ هَذَا الرُّجُوعِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الدَّيْنِ - إِلاَّ فِيمَا هُوَ لَوِ اقْتَضَاهُ وَقَبَضَ فِي الْمَعْنَى، حَيْثُ يُسَلَّمُ لِلْقَابِضِ شَيْءٌ يَقْبَل الشَّرِكَةَ، لاَ فِيمَا هُوَ قَضَاءٌ أَوْ إِتْلاَفٌ.
إِلاَّ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي حَالَةِ الصُّلْحِ - وَقِوَامُهُ الْمُسَامَحَةُ وَالتَّغَاضِي - يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِيمَا عَدَاهُ مِمَّا يَعْتَمِدُ الْمُمَاكَسَةَ وَالتَّشَاحَّ: كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ: فَإِنَّ فِي حَالَةِ الْبَيْعِ مَثَلاً، يَكُونُ لِلشَّرِيكِ بِالنِّصْفِ أَنْ يَرْجِعَ بِالرُّبُعِ عَلَى شَرِيكِهِ الَّذِي اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَدِينِ، وَأَنْ يُلْزِمَهُ بِذَلِكَ، إِذْ لاَ غَبْنَ فِيهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، نَظَرًا
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 47.

(26/32)


إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يَدَّخِرَ وُسْعًا فِي الْحُصُول عَلَى مَا يُعَادِل أَوْ يَفُوقُ الثَّمَنَ الَّذِي يَدْفَعُهُ. وَلاَ شَأْنَ لِلشَّرِيكِ الرَّاجِعِ بِمَا اشْتَرَاهُ شَرِيكُهُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّقَاصُّ بَيْنَ هَذَا الثَّمَنِ وَمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْبَائِعِ - نَعَمْ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَجْعَلاَ هَذَا الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا فَذَلِكَ لَهُمَا، وَهِيَ صَفْقَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ: كَأَنَّ الشَّرِيكَ الرَّاجِعَ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِرُبُعِ الدَّيْنِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي.
أَمَّا فِي حَالَةِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى شَرِيكِهِ الَّذِي صَالَحَ عَنْ نَصِيبِهِ بِشَيْءٍ مَا، لَمْ يَمْلِكْ إِلْزَامَهُ بِرُبُعِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِمَّا حَصَل عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ، لِبِنَائِهِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَمَا قُلْنَا. بَل يَكُونُ لِلشَّرِيكِ الصَّالِحِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِعْطَائِهِ رُبُعَ الدَّيْنِ، وَإِعْطَائِهِ نِصْفَ الشَّيْءِ الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِ (1) .
إِذَا أَبْرَأَ أَحَدُ الدَّائِنَيْنِ مَدِينَهُمَا مِنْ بَعْضِ حِصَّتِهِ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ إِلاَّ بَاقِي حِصَّتِهِ، وَلِلآْخَرِ حِصَّتُهُ كَامِلَةً: فَإِذَا وَقَعَ لَهُمَا قَبْضُ شَيْءٍ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 66 - 68، ومجمع الأنهر 2 / 317 - 318، وتبيين الحقائق 5 / 45 - 48.

(26/32)


قِسْمَتَهُ بَيْنَهُمَا - إِذَا تَأَخَّرَتْ عَنِ الإِْبْرَاءِ - تَكُونُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ: أَيْ نِسْبَةِ مَا بَقِيَ لِلْمُبْرِئِ إِلَى تَمَامِ حِصَّةِ الآْخَرِ، أَوْ كَمَا يَقُولُونَ " تَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ السِّهَامِ ". وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الإِْبْرَاءُ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ - لِصِحَّةِ الإِْبْرَاءِ بَعْدَ الْقَبْضِ. فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ أَلْفًا مَثَلاً، لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، فَأَبْرَأَ أَحَدُهُمَا الْمَدِينَ مِنْ مِائَةٍ، فَمَا بَقِيَ لِلْمُبْرِئِ إِنَّمَا هُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَا لِصَاحِبِهِ، فَتَكُونُ قِسْمَةُ مَا يَقْبِضُهُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
أَمَّا إِذَا وَقَعَ هَذَا الإِْبْرَاءُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى التَّسَاوِي، فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ حَقَّيْهِمَا عِنْدَهَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَدِينُ عَلَى مُبْرِئِهِ بِالْمِائَةِ الَّتِي أُبْرِئَ مِنْهَا وَهَذَا مَوْضِعُ وِفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ صِحَّةَ الإِْبْرَاءِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
__________
(1) المراجع السابقة.

(26/33)


شَرِكَةُ الْعَقْدِ

:

تَعْرِيفُهَا
1 - عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ شَرِكَةَ الْعَقْدِ بِأَنَّهَا: " عَقْدٌ بَيْنَ الْمُتَشَارِكِينَ فِي الأَْصْل وَالرِّبْحِ " كَذَا نَقَلُوهُ عَنْ صَاحِبِ الْجَوْهَرَةِ.
وَقَيْدُ " الْمُتَشَارِكِينَ فِي الأَْصْل " يُخْرِجُ الْمُضَارَبَةَ؛ لأَِنَّ التَّشَارُكَ فِيهَا بَيْنَ الْعَامِل وَرَبِّ الْمَال إِنَّمَا هُوَ فِي الرِّبْحِ، دُونَ الأَْصْل، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ (1) .
وَعَرَّفَ الْحَنَابِلَةُ شَرِكَةَ الْعَقْدِ بِأَنَّهَا. " اجْتِمَاعٌ فِي تَصَرُّفٍ "، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لاَ يَشْمَل الْمُضَارَبَةَ، الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِكَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ تَعْرِيفُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: " عَقْدٌ يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ شَائِعٌ فِي شَيْءٍ لِمُتَعَدِّدٍ ".
وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: بَيْعُ مَالِكِ كُلٍّ بَعْضَهُ بِبَعْضِ كُل الآْخَرِ، مُوجِبُ صِحَّةِ تَصَرُّفِهِمَا فِي الْجَمِيعِ (2) .
وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ بِأَنْوَاعِهَا الثَّلاَثَةِ (أَمْوَالٌ وَأَعْمَالٌ وَوُجُوهٌ) جَائِزَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَنَانًا أَمْ مُفَاوَضَةً.
__________
(1) رد المحتار 2 / 301، 3 / 343.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 494، والمغني لابن قدامة 5 / 109، والشرقاوي على التحرير 2 / 109. الخرشي على خليل 4 / 254، 271، والفواكه الدواني 2 / 271، والحواشي على تحفة ابن عاصم.

(26/33)


دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الشَّرِكَةِ:
2 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ شَرِكَةِ الْعَنَانِ: بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالإِْجْمَاعِ، وَالْمَعْقُول:
أ - الْكِتَابُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} . (1)
وَالْخُلَطَاءُ هُمُ الشُّرَكَاءُ. وَلَكِنَّ هَذَا إِلَى شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَدْنَى. ثُمَّ هُوَ قَوْل دَاوُدَ لِبَيَانِ شَرِيعَتِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ اسْتِمْرَارُهَا. كَذَا قَال ابْنُ الْهُمَامِ - عَلَى خِلاَفِ قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا: فَلَعَلَّهُ تَسَاهَل فِيهِ لأَِنَّهُ عِلاَوَةٌ فِي الرَّدِّ.
ب - (السُّنَّةُ) :
1 - الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُول: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ، مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا (2) .
(2) حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ
__________
(1) سورة ص 24، انظر فتح القدير 5 / 30، نيل الأوطار 5 / 264، تلخيص الحبير 3 / 49.
(2) حديث: " إن الله يقول: (أنا ثالث الشريكين) أخرجه أبو داود 3 / 677 - تحقيق عزت عبيد دعاس، ونقل ابن حجر عن ابن القطان أنه أعله بجهالة راو فيه وعن الدارقطني أنه أعله بالإرسال، كذا في التلخيص الحبير 3 / 49 - ط شركة الطباعة الفنية.

(26/34)


الْمَخْزُومِيِّ، أَنَّهُ كَانَ شَرِيكَ النَّبِيِّ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ فِي التِّجَارَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي، لاَ يُدَارِي وَلاَ يُمَارِي. (1)
(3) حَدِيثُ أَبِي الْمِنْهَال عِنْدَ أَحْمَدَ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، كَانَا شَرِيكَيْنِ، فَاشْتَرَيَا فِضَّةً بِنَقْدٍ وَنَسِيئَةٍ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمَا أَنَّ مَا كَانَ بِنَقْدٍ فَأَجِيزُوهُ، وَمَا كَانَ بِنَسِيئَةٍ فَرُدُّوهُ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَفِي لَفْظِهِ: مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرُدُّوهُ. (2)
وَفِيهِ تَقْرِيرٌ صَرِيحٌ. وَهَذَا مِثْل وَاحِدٍ مِنْ تَقْرِيرَاتٍ كَثِيرَةٍ لاَ مِرْيَةَ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ لأَِنَّ أَكْثَرَ عَمَل الْقَوْمِ، فِي صَدْرِ الدَّعْوَةِ، كَانَ التِّجَارَةَ وَالْمُشَارَكَةَ فِيهَا، وَلِذَا يَقُول الْكَمَال: إِنَّ التَّعَامُل بِالشَّرِكَةِ مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلُمَّ جَرَّا، مُتَّصِلٌ لاَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِثْبَاتِ حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْل صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهَا (3) .
__________
(1) حديث: (مرحبًا بأخي وشريكي) . أخرجه الحاكم 2 / 61 (ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث أبي المنهال: أخرجه أحمد 4 / 371 - ط الميمنية وأصله في البخاري (الفتح 5 / 143 ط. السلفية) .
(3) فتح القدير 5 / 3.

(26/34)


ج - الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ كَانَ النَّاسُ وَمَا زَالُوا، يَتَعَامَلُونَ بِهَا فِي كُل زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَفُقَهَاءُ الأَْمْصَارِ شُهُودٌ، فَلاَ يَرْتَفِعُ صَوْتٌ بِنَكِيرٍ (1) .
د - الْمَعْقُول: فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ اسْتِثْمَارِ الْمَال وَتَنْمِيَتِهِ، تَمَسُّ إِلَيْهِ حَاجَةُ النَّاسِ، قَلَّتْ أَمْوَالُهُمْ أَوْ كَثُرَتْ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَلْمُوسٌ، حَتَّى لَقَدْ كَادَتِ الشَّرِكَاتُ التِّجَارِيَّةُ الْكُبْرَى، الَّتِي يَسْتَحِيل عَادَةً عَلَى تَاجِرٍ وَاحِدٍ تَكْوِينُهَا، أَنْ تَكُونَ طَابِعَ هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ. هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَمِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، لَيْسَ فِي تَطْبِيقِ شَرِكَةِ الْعَنَانِ شَيْءٌ يَنْبُو بِشَرْعِيَّتِهَا: فَمَا هِيَ فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ سِوَى ضَرْبٍ مِنَ الْوَكَالَةِ إِذْ حَل شَرِيكٌ وَكِيلٌ عَنْ شَرِيكِهِ. وَالْوَكَالَةُ لاَ نِزَاعَ فِي شَرْعِيَّتِهَا إِذَا انْفَرَدَتْ، فَكَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ لآِخَرَ، فَكَذَا إِذَا تَعَدَّدَتْ، فَكَانَتْ مِنْ كُل وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: أَعْنِي أَنَّهُ وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَانْتَفَى الْمَانِعُ - كَمَا يَقُولُونَ، وَإِذَا كَانَتْ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً فِي مَجْهُولٍ، فَهَذَا شَيْءٌ يُغْتَفَرُ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ؛ لأَِنَّهُ تَبَعٌ لاَ مَقْصُودٌ، وَالشَّيْءُ يُغْتَفَرُ فِيهِ تَبَعًا مَا لاَ يُغْتَفَرُ اسْتِقْلاَلاً.
وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ مِنْ شَرِكَةِ الأَْمْوَال فَلَيْسَ فِي جَوَازِهَا نَصٌّ ثَابِتٌ وَإِنَّمَا أَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَاوِضُوا،
__________
(1) بلغة السالك 2 / 165، ومغني المحتاج 2 / 211، والمغني لابن قدامة 5 / 124.

(26/35)


فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ (1) وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ يُحْتَجُّ فِي جَوَازِهَا بِالْبَرَاءَةِ الأَْصْلِيَّةِ: فَالأَْصْل الْجَوَازُ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيل الْمَنْعِ - وَلاَ دَلِيل (2) .
3 - وَمَنَعَهَا الشَّافِعِيَّةُ لِتَضَمُّنِهَا الْوَكَالَةَ فِي مَجْهُولٍ، وَالْكَفَالَةَ بِمَجْهُولٍ لِمَجْهُولٍ، وَكِلاَهُمَا بَاطِلٌ عَلَى انْفِرَادٍ، فَمَا تَضَمَّنَهُمَا مَعًا أَشَدُّ بُطْلاَنًا.
4 - وَأَمَّا شَرِكَتَا الأَْعْمَال وَالْوُجُوهِ فَتَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ خَاصَّةً.

وَيُسْتَدَل لِلْجَوَازِ بِمَا يَلِي:
أَوَّلاً - بِالْبَرَاءَةِ الأَْصْلِيَّةِ: فَالأَْصْل فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا الصِّحَّةُ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيل الْفَسَادِ، وَلاَ دَلِيل.
ثَانِيًا - أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِمَا، وَتَصْحِيحُهُمَا مُمْكِنٌ بِطَرِيقِ التَّوْكِيل الضِّمْنِيِّ مِنْ كُل شَرِيكٍ لِشَرِيكِهِ، لِيَقَعَ تَصَرُّفُ كُل وَاحِدٍ وَالرِّبْحُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ لِلْجَمِيعِ، فَلاَ مَعْنَى لِلْحُكْمِ بِبُطْلاَنِهِمَا.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 85، الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2 / 144، ونيل الأوطار 5 / 265.

(26/35)


وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ شَرِكَةَ الأَْعْمَال: وَشَرِكَةَ الْوُجُوهِ؛ بَاطِلَتَانِ لِعَدَمِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ فِيهِمَا وَلِلْغَرَرِ فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى بُطْلاَنِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لأَِنَّهَا مِنْ بَابِ الضَّمَانِ بِجُعْلٍ وَمِنْ بَابِ السَّلَفِ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا وَسَمَّوْهَا شَرِكَةَ الذِّمَمِ (1) .

تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا:
5 - تَنْقَسِمُ الشَّرِكَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
(1) - شَرِكَةُ أَمْوَالٍ.
(2) - شَرِكَةُ أَعْمَالٍ.
(3) - شَرِكَةُ وُجُوهٍ.
ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ رَأْسُ مَال الشَّرِكَةِ نُقُودًا، كَانَتْ شَرِكَةَ أَمْوَالٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَل لِلْغَيْرِ كَانَتْ شَرِكَةَ أَعْمَالٍ، (شَرِكَةَ صَنَائِعَ) ، وَتُسَمَّى أَيْضًا شَرِكَةَ أَبْدَانٍ (2) .
وَتُسَمَّى كَذَلِكَ شَرِكَةَ التَّقَبُّل: لأَِنَّ التَّقَبُّل قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِأَيِّ عَمَلٍ لِلْغَيْرِ سِوَى التَّقَبُّل نَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَحْصُل بِهِ هَذِهِ الشَّرِكَةُ؛ لأَِنَّهُ مُلْزِمٌ لِشَرِيكِهِ الْقَادِرِ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 7، 24، 28، 30، ومغني المحتاج 2 / 212، والخرشي 4 / 371، وبدائع الصنائع 6 / 58.
(2) لعل ابن عابدين يستبعد عد العمل العقلي بدنيا، فلذا تراه يقول في تعليل التسمية: لأن العمل يكون منهما (أي: الشريكين) غالبًا بأبدانهما: رد المحتار 3 / 359 وبدائع الصنائع 6 / 63.

(26/36)


فَهُمَا شَرِيكَانِ بِالتَّقَبُّل.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَا تَقُومُ الشَّرِكَةُ عَلَيْهِ مَا لِلشَّرِيكَيْنِ أَوْ لِلشُّرَكَاءِ مِنْ وَجَاهَةٍ عِنْدَ النَّاسِ وَمَنْزِلَةٍ تَصْلُحُ لِلاِسْتِغْلاَل، فَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ وُجُوهٍ. وَلِعَدَمِ رَأْسِ الْمَال فِيهَا، وَغَلَبَةِ وُقُوعِهَا بَيْنَ الْمُعْدِمِينَ - تُسَمَّى: شَرِكَةَ الْمَفَالِيسِ.
هَذَا عَلَى الإِْجْمَال. أَمَّا التَّفْصِيل:
6 - فَشَرِكَةُ الأَْمْوَال: عَقْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ، عَلَى أَنْ يَتَّجِرُوا فِي رَأْسِ مَالٍ لَهُمْ، وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ. سَوَاءٌ عُلِمَ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَال عِنْدَ الْعَقْدِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُ يُعْلَمُ عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَسَوَاءٌ شَرَطُوا أَنْ يُشْرَكُوا جَمِيعًا فِي كُل شِرَاءٍ وَبَيْعٍ، أَمْ شَرَطُوا أَنْ يَنْفَرِدَ كُل وَاحِدٍ بِصَفَقَاتِهِ، أَمْ أَطْلَقُوا. وَلَيْسَ حَتْمًا أَنْ يَقَعَ الْعَقْدُ بِلَفْظِ التِّجَارَةِ، بَل يَكْفِي مَعْنَاهَا: كَأَنْ يَقُول الشَّرِيكَانِ: اشْتَرَكْنَا فِي مَالِنَا هَذَا، عَلَى أَنْ نَشْتَرِيَ وَنَبِيعَ، وَنَقْسِمَ الرِّبْحَ مُنَاصَفَةً.
7 - وَأَمَّا شَرِكَةُ الأَْعْمَال: فَهِيَ: أَنْ يَتَعَاقَدَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلُوا نَوْعًا مُعَيَّنًا (1) مِنَ الْعَمَل أَوْ أَكْثَرَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَكِنَّهُ عَامٌّ، وَأَنْ
__________
(1) أي: معينًا نوعًا ومحلاً: كخياطة الثياب، وتنجيد الأثاث، وتعليم الكتابة والحساب، وتحفيظ القرآن، وما إلى ذلك مما تنشأ له المدارس وغيرها، رد المحتار 3 / 358، والهندية 2 / 331.

(26/36)


تَكُونَ الأُْجْرَةُ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَذَلِكَ كَالْخِيَاطَةِ، وَالصِّبَاغَةِ، وَالْبِنَاءِ، وَتَرْكِيبِ الأَْدَوَاتِ الصِّحِّيَّةِ أَوْ كُل مَا يُتَقَبَّل، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّعَاقُدِ قَبْل التَّقَبُّل فَلَوْ تَقَبَّل ثَلاَثَةُ أَشْخَاصٍ عَمَلاً، دُونَ تَعَاقُدٍ سَابِقٍ عَلَى الشَّرِكَةِ، لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ: وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْعَمَل، فَإِنْ قَامَ بِالْعَمَل كُلِّهِ أَحَدُهُمْ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ - قَضَاءً - سِوَى ثُلُثِ الأُْجْرَةِ.
وَلاَ بُدَّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّقَبُّل حَقًّا لِكُل شَرِيكٍ وَإِنْ وَقَعَ الاِتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَهُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ، وَيَعْمَل الآْخَرُ. وَلِذَا يَقُول السَّرَخْسِيُّ فِي الْمُحِيطِ: " لَوْ قَال صَاحِبُ الدُّكَّانِ أَنَا أَتَقَبَّل، وَلاَ تَتَقَبَّل أَنْتَ، وَأَطْرَحُ عَلَيْكَ تَعْمَل بِالنِّصْفِ، لاَ يَجُوزُ " وَمِنْ هُنَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الشَّرْطُ عَدَمُ نَفْيِ التَّقَبُّل عَنْ أَحَدِهِمَا، لاَ التَّنْصِيصُ عَلَى تَقَبُّل كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلاَ عَلَى عَمَلِهِمَا؛ لأَِنَّهُ إِذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّل أَحَدُهُمَا وَيَعْمَل الآْخَرُ، بِلاَ نَفْيٍ، كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا التَّقَبُّل وَالْعَمَل، لِتَضَمُّنِ الشَّرِكَةِ الْوَكَالَةَ. هَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَمِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ لِلْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا الاِشْتِرَاكَ فِي تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ (1) .
__________
(1) فتح القدير، وتبعه ابن عابدين، وفي البدائع خلافه فتح القدير 5 / 28 - 33، ورد المحتار 3 / 358، 361، وبدائع الصنائع 6 / 64، والفتاوى الهندية 3 / 231، 334، والمغني لابن قدامة 5 / 113، ومطالب أولي النهى 5 / 545، 546.

(26/37)


وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرِكَةَ الأَْبْدَانِ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: شَرِكَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِبَعْضِ الأَْعْمَال، دُونَ بَعْضٍ، كَنِجَارَةٍ، أَوْ حِدَادَةٍ، اتَّفَقَ الْعَمَلاَنِ أَمِ اخْتَلَفَا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: شَرِكَةٌ مُطْلَقَةٌ، لَمْ تُقَيَّدْ بِذَلِكَ: كَأَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الاِشْتِرَاكِ فِي أُجْرَةِ مَا يَعْمَلاَنِهِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ (1) .
8 - وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ: فَهِيَ أَنْ يَتَعَاقَدَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ، بِدُونِ ذِكْرِ رَأْسِ مَالٍ، عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا نَسِيئَةً وَيَبِيعَا نَقْدًا، وَيَقْتَسِمَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا لِلثَّمَنِ (2) .
وَكَذَلِكَ هِيَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَابْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ جَعَلاَ الرِّبْحَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَلَكِنَّ جَمَاهِيرَهُمْ جَعَلُوا الرِّبْحَ فِيهَا عَلَى مَا تَشَارَطَ الشَّرِيكَانِ، كَشَرِكَةِ الْعَنَانِ: لأَِنَّ فِيهَا مِثْلَهَا عَمَلاً وَغَيْرَهُ، سِيَّمَا مَعَ مُلاَحَظَةِ تَفَاوُتِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَهَارَةِ التِّجَارِيَّةِ، وَالْوَجَاهَةِ عِنْدَ النَّاسِ. بَل نَظَرَ ابْنُ قُدَامَةَ إِلَى مَآل أَمْرِهَا، فَأَنْكَرَ خُلُوَّهَا مِنَ الْمَال.
__________
(1) الخانية مع الهندية 3 / 624، الخرشي على خليل 4 / 267.
(2) فتح القدير 5 / 30.

(26/37)


9 - وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ: فَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهَا وَأَحْكَامُهَا فِي بَحْثِهَا الْخَاصِّ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (انْظُرْ: مُضَارَبَةٌ) .

تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتِ
10 - وَالْمُرَادُ التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتُ فِي أُمُورٍ خَمْسَةٍ:
(1) رَأْسُ مَال الشَّرِكَةِ: الشَّامِل لِكُل مَالٍ لِلشَّرِيكَيْنِ صَالِحٌ لِلشَّرِكَةِ (نُقُودٌ) .
(2) كُل تَصَرُّفٍ تِجَارِيٍّ فِي رَأْسِ مَال الشَّرِكَةِ.
(3) الرِّبْحُ. (4) كَفَالَةُ مَا يَلْزَمُ كُلًّا مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ.
(5) أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ (1) .
وَتَنْقَسِمُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى قِسْمَيْنِ: (1) شَرِكَةُ مُفَاوَضَةٍ. (2) شَرِكَةُ عَنَانٍ.
(27) - وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ: الَّتِي يَتَوَافَرُ فِيهَا تَسَاوِي الشُّرَكَاءِ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ
__________
(1) وظاهر في صياغة هذه الأمور الخمسة ملاحظة شركة الأموال. ولا يخفى ما يلزم من التحوير بالنسبة لسائر الشركات: ففي شركة الأعمال، يقوم التقبل مقام رأس المال، وتعهد العمل مقام التصرف فيه، وكفالة ما يلزم بسبب الشركة مقام كفالة دين التجارة. وفي شركة الوجوه،

(26/38)


الْخَمْسَةِ (1) ، مِنْ ابْتِدَاءِ الشَّرِكَةِ إِلَى انْتِهَائِهَا؛ لأَِنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ، فَأُعْطِيَ دَوَامُهَا حُكْمَ ابْتِدَائِهَا، وَشُرِطَتْ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ أَيْضًا (2) .
وَسَيَأْتِي فِي الشَّرَائِطِ شَرْحُ هَذِهِ الأُْمُورِ الْخَمْسَةِ فِي بَيَانٍ وَافٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَشَرِكَةُ الْعَنَانِ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا) هِيَ الَّتِي لاَ يُوجَدُ فِيهَا هَذَا التَّسَاوِي: بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ أَصْلاً، أَوْ وُجِدَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَزَال بَعْدَهُ: كَأَنْ كَانَ الْمَالاَنِ مُتَسَاوِيَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ ارْتَفَعَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا قَبْل الشِّرَاءِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَنْقَلِبُ عَنَانًا بِمُجَرَّدِ [هَذَا الاِرْتِفَاعِ] (3) ،
__________
(1) ومن أجل التساوي في هذه الأمور سميت هذه الشركة مفاوضة؛ إذ المفاوضة في السلفة هي المساواة - كما في محيط المحيط. ومن مادتها جاء قول الأفوه الأودي: (لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم) أي: متساوين لا سادة لهم يفصلون خصوماتهم، ويأخذون للضعيف من القوي.
(2) فتح القدير 5 / 6.
(3) فتح القدير 5 / 6. والعنان من عن إذا عرض: تقول عن لي هذا الرأي، أي: عرض لي، فلم تتساو حالات قبل العروض وبعده - وكذلك المشارك شركة عنان، عن له في بعض - أو كل - ما يشترط تساويه في شركة المفاوضة، فاختل تساويه. وقد زعم الكسائي والأصمعي أنه مأخوذ من عنان الفرس؛ لأن الفا فتح القدير 5 / 20.

(26/38)


وَهَل تَبْطُل الْكَفَالَةُ؟ . . الظَّاهِرُ نَعَمْ؛ لأَِنَّهَا كَفَالَةٌ لِمَجْهُولٍ، فَلاَ تَصِحُّ إِلاَّ ضِمْنًا، وَالْعَنَانُ لاَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ، فَتَكُونُ فِيهَا مَقْصُودَةً وَهِيَ مَقْصُودَةٌ لاَ تَصِحُّ لِمَجْهُولٍ، لَكِنَّ الَّذِي فِي الْخَانِيَّةِ هُوَ الصِّحَّةُ، وَلَعَل وَجْهَهُ أَنَّهَا فِي الشَّرِكَةِ تَبَعٌ عَلَى كُل حَالٍ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَا (1) .
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ الْمُسَاوَاةَ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ الْخَمْسَةِ لِصِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ. بَل كُل مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ طَبِيعَتَيْ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَشَرِكَةِ الْعَنَانِ، أَنَّ كُلًّا مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ يُطْلِقُ التَّصَرُّفَ لِشَرِيكِهِ وَلاَ يُحْوِجُهُ إِلَى مُرَاجَعَتِهِ وَأَخْذِ مُوَافَقَتِهِ فِي كُل تَصَرُّفٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِلشَّرِكَةِ، بِخِلاَفِ الْعَنَانِ، فَإِنَّهَا لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ (2) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلِلْمُفَاوَضَةِ عِنْدَهُمْ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الشَّرِكَاتُ الأَْرْبَعُ مُجْتَمِعَةً: الْعَنَانُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَالأَْبْدَانُ، وَالْوُجُوهُ: فَإِذَا فَوَّضَ كُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ الْمُضَارَبَةَ وَتَصَرُّفَاتِ سَائِرِ هَذِهِ الشَّرِكَاتِ صَحَّتِ الشَّرِكَةُ؛ لأَِنَّهَا مَجْمُوعُ شَرِكَاتٍ
__________
(1) فتح القدير 5 / 20، رد المحتار 3 / 35.
(2) الخرشي على خليل 4 / 258 - 265، بلغة السالك 2 / 171، الفواكه الدواني 2 / 174.

(26/39)


صَحِيحَةٍ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَالْخَسَارَةُ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ.
ثَانِيهُمَا: أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فِي كُل مَا يَثْبُتُ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا. وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا لَكِنْ بِشَرِيطَةِ أَنْ لاَ يُدْخِلاَ فِيهِ كَسْبًا نَادِرًا وَلاَ غَرَامَةً - وَإِلاَّ اخْتُصَّ كُل شَرِيكٍ بِمَا يَسْتَفِيدُهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ أَوْ عَمَلِهِ، وَبِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ضَمَانَاتٍ فَكُل نَفْسٍ {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . (1)
مِثَال الْكَسْبِ النَّادِرِ. اللُّقَطَةُ وَالرِّكَازُ وَالْمِيرَاثُ.
وَمِثَال الْغَرَامَاتِ: مَا يَلْزَمُ بِكَفَالَةٍ، أَوْ غَصْبٍ، أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ تَلَفِ عَارِيَّةً (2) .
وَهَذَا النَّوْعُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْحَنَابِلَةُ تَسَاوِيَ الْمَالَيْنِ، وَلاَ تَسَاوِيَ الشَّرِيكَيْنِ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.

تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ
الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ
11 - يَقْسِمُ الْحَنَفِيَّةُ الشَّرِكَةَ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى:
(1) مُطْلَقَةٌ.
(2) مُقَيَّدَةٌ.
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) الشرح الكبير 5 / 198، مطالب أولي النهى 3 / 553، الإنصاف 5 / 464 - 465.

(26/39)


فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ تُقَيَّدْ بِشَرْطٍ جَعْلِيٍّ أَمْلَتْهُ إِرَادَةُ شَرِيكٍ أَوْ أَكْثَرَ: بِأَنْ تُقَيَّدَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَتَاجِرِ دُونَ شَيْءٍ، وَلاَ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَلاَ مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلاَ بِبَعْضِ الأَْشْخَاصِ دُونَ بَعْضٍ إِلَخْ. . كَأَنِ اشْتَرَكَ الشَّرِيكَانِ فِي كُل أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَأَطْلَقَا فَلَمْ يَتَعَرَّضَا لأَِكْثَرَ مِنْ هَذَا الإِْطْلاَقِ بِشِقَّيْهِ: الزَّمَانِيِّ وَغَيْرِهِ يَكُونُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ. أَمَّا فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْطْلاَقِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْهِدَايَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ (1) . وَالإِْطْلاَقُ الزَّمَانِيُّ احْتِمَالٌ مِنَ احْتِمَالاَتِهَا، وَلَيْسَ بِحَتْمٍ.
وَالْمُقَيَّدَةُ: هِيَ الَّتِي قُيِّدَتْ بِذَلِكَ: كَالَّتِي تُقَيَّدُ بِبَعْضِ الأَْشْيَاءِ أَوِ الأَْزْمَانِ أَوِ الأَْمْكِنَةِ، كَأَنْ تُقَيَّدَ بِالْحُبُوبِ أَوِ الْمَنْسُوجَاتِ أَوِ السَّيَّارَاتِ أَوِ الْبِقَالاَتِ، أَوْ تُقَيَّدَ بِمَوْسِمِ قُطْنِ هَذَا الْعَامِ، أَوْ بِبِلاَدِ هَذِهِ الْمُحَافَظَةِ. وَالتَّقْيِيدُ بِبَعْضِ الْمَتَاجِرِ دُونَ بَعْضٍ، لاَ يَتَأَتَّى فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، أَمَّا التَّقْيِيدُ بِبَعْضِ الأَْوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَيَكُونُ فِيهَا وَفِي الْعَنَانِ.
وَتَنَوُّعُ الشَّرِكَةِ إِلَى مُطْلَقَةٍ وَمُقَيَّدَةٍ، بِمَا فِيهَا الْمُقَيَّدَةُ بِالزَّمَانِ، يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَذَاهِبِ
__________
(1) رد المحتار 3 / 351.

(26/40)


الْفِقْهِيَّةِ، وَمِمَّا يَنُصُّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْيِيدُ تَصَرُّفِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَإِطْلاَقُ تَصَرُّفِ الآْخَرِ. إِلاَّ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْل الْفِقْهِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يُعَيَّنَ لِكُل شَرِيكٍ نِطَاقُ تَصَرُّفِهِ، وَيَحْتَمِل كَلاَمُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِبْطَال الشَّرِكَةِ بِالتَّأْقِيتِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا صِحَّةُ الشَّرِكَةِ مَعَ عَدَمِ لُزُومِ الأَْجَل (1) .

شَرِكَةُ الْجَبْرِ:
12 - هَذَا نَوْعٌ انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِإِثْبَاتِهِ، وَتَمَسَّكُوا فِيهِ بِقَضَاءِ عُمَرَ. وَحَدَّهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا: " اسْتِحْقَاقُ شَخْصٍ الدُّخُول مَعَ مُشْتَرِي سِلْعَةٍ لِنَفْسِهِ مِنْ سُوقِهَا الْمُعَدِّ لَهَا، عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ " وَسَيَتَّضِحُ بِاسْتِعْرَاضِ شَرَائِطِهَا: فَقَدْ ذَكَرُوا لَهَا سَبْعَ شَرَائِطَ:

ثَلاَثَةً خَاصَّةً بِالسِّلْعَةِ وَهِيَ:
(1) أَنْ تُشْتَرَى بِسُوقِهَا الْمُعَدِّ لِبَيْعِهَا - لاَ بِدَارٍ اتِّفَاقًا، وَلاَ بِزُقَاقٍ، نَافِذٍ أَوْ غَيْرِ نَافِذٍ، عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
(2) أَنْ يَكُونَ شِرَاؤُهَا لِلتِّجَارَةِ، وَيُصَدَّقُ الْمُشْتَرِي فِي نَفْيِ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ - إِلاَّ أَنْ تُكَذِّبَهُ قَرَائِنُ الأَْحْوَال: كَكَثْرَةِ مَا يَدَّعِي شِرَاءَهُ لِلْقِنْيَةِ أَوِ الْعُرْسِ مَثَلاً.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 213، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 210.

(26/40)


(3) أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالشِّرَاءِ فِي نَفْسِ بَلَدِ الشِّرَاءِ، لاَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَلَوْ جِدُّ قَرِيبٍ (1) .

وَثَلاَثَةً خَاصَّةً بِالشَّرِيكِ الْمُقْحَمِ:
(1) أَنْ يَحْضُرَ الشِّرَاءَ.
(2) أَنْ لاَ يُزَايِدَ عَلَى الْمُشْتَرِي.
(3) أَنْ يَكُونَ مِنْ تُجَّارِ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ.
وَاعْتَمَدُوا أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تُجَّارِ هَذَا السُّوقِ.
وَشَرِيطَةً وَاحِدَةً فِي الشَّارِيَ: أَنْ لاَ يُبَيِّنَ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ التُّجَّارِ أَنَّهُ يُرِيدُ الاِسْتِئْثَارَ بِالسِّلْعَةِ، وَلاَ يَقْبَل الشَّرِكَةَ فِيهَا، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُزَايِدَ فَلْيَفْعَل.
فَإِذَا تَوَافَرَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ جَمِيعُهَا ثَبَتَ حَقُّ الإِْجْبَارِ عَلَى الشَّرِكَةِ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ التُّجَّارِ، مَهْمَا طَال الأَْمَدُ - مَا دَامَتِ السِّلْعَةُ الْمُشْتَرَاةُ بَاقِيَةً. وَيُسْجَنُ الشَّارِي حَتَّى يَقْبَل الشَّرِكَةَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا. وَهُنَاكَ احْتِمَالٌ آخَرُ بِسُقُوطِ هَذَا الْحَقِّ بِمُضِيِّ سَنَةٍ كَالشُّفْعَةِ.
أَمَّا الشَّارِي، فَلَيْسَ لَهُ مَعَ تَوَافُرِ الشَّرَائِطِ إِجْبَارُ مَنْ حَضَرَ مِنَ التُّجَّارِ عَلَى مُشَارَكَتِهِ فِي السِّلْعَةِ لِسَبَبٍ مَا - كَتَحَقُّقِ الْخَسَارَةِ أَوْ تَوَقُّعِهَا - إِلاَّ إِذَا قَالُوا لَهُ أَثْنَاءَ السَّوْمِ:
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 174، الخرشي على خليل 4 / 266، 367.

(26/41)


أَشْرِكْنَا، فَأَجَابَ: بِنَعَمْ أَوْ سَكَتَ.
وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ تَنْزِيل قَوْل التُّجَّارِ: أَشْرِكْنَا - مَعَ إِجَابَةٍ بِنَعَمْ - مَنْزِلَةَ حُضُورِهِمُ الشِّرَاءَ: فَلاَ يَضِيرُ إِذَنِ انْصِرَافُهُمْ قَبْل إِتْمَامِ الصَّفْقَةِ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا خَرَجَ بِالصَّمْتِ عَنْ " لاَ وَنَعَمْ " إِلاَّ أَنَّ مِنْ حَقِّهِمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُحَلِّفُوهُ: مَا اشْتَرَى عَلَيْهِمْ (1) .

صِيغَةُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ:
13 - تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول: مِثَال ذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فِي الأَْمْوَال: أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ: شَارَكْتُكَ فِي أَلْفِ دِينَارٍ مُنَاصَفَةً، عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ بِهَا وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَنَا مُنَاصَفَةً كَذَلِكَ: وَيُطْلِقُ، أَوْ يُقَيِّدُ الاِتِّجَارَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ - كَتِجَارَةِ الْمَنْسُوجَاتِ الصُّوفِيَّةِ، أَوِ الْمَنْسُوجَاتِ مُطْلَقًا، فَيَقْبَل الآْخَرُ.
وَمِثَالُهُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي الأَْمْوَال: أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ - وَهُمَا حُرَّانِ بَالِغَانِ مُسْلِمَانِ أَوْ ذِمِّيَّانِ - شَارَكْتُكَ فِي كُل نُقُودِي وَنَقْدِكَ (وَنَقُودُ هَذَا تُسَاوِي نُقُودَ ذَاكَ) عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ بِهَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ، وَكُل وَاحِدٍ مِنَّا كَفِيلٌ عَنِ الآْخَرِ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ، فَيَقْبَل الآْخَرُ.
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 266، 267، الفواكه الدواني 2 / 174، بلغة السالك 2 / 172.

(26/41)


14 - وَتَقُومُ دَلاَلَةُ الْفِعْل مَقَامَ دَلاَلَةِ اللَّفْظِ (1) . فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا مَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ مِنْ نَقْدٍ، وَقَال لآِخَرَ: أَخْرِجْ مِثْل هَذَا وَاشْتَرِ، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى التَّسَاوِي أَوْ لَكَ فِيهِ الثُّلُثَانِ وَلِيَ الثُّلُثُ، فَلَمْ يَتَكَلَّمِ الآْخَرُ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ وَأَعْطَى وَفَعَل كَمَا أَشَارَ صَاحِبُهُ - فَهَذِهِ شَرِكَةُ عَنَانٍ صَحِيحَةٌ. وَمِثْل ذَلِكَ يَجِيءُ أَيْضًا فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ: كَأَنْ يُخْرِجَ هَذَا كُل مَا يَمْلِكُ مِنَ النُّقُودِ، وَيَقُول لِصَاحِبِهِ الَّذِي لاَ يَمْلِكُ مِنَ النُّقُودِ إِلاَّ مِثْل هَذَا الْقَدْرِ: أَخْرِجْ مِثْل هَذَا، عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ بِمَجْمُوعِ الْمَالَيْنِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا عَلَى سَوَاءٍ، وَكُل وَاحِدٍ مِنَّا كَفِيلٌ عَنِ الآْخَرِ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ، فَلاَ يَتَكَلَّمُ صَاحِبُهُ هَذَا، وَإِنَّمَا يَفْعَل مِثْل مَا أَشَارَ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
15 - وَالاِكْتِفَاءُ بِدَلاَلَةِ الْفِعْل، هُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. إِذْ هُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ فِي الصِّيغَةِ هُنَا إِلاَّ مَا يَدُل عَلَى الإِْذْنِ عُرْفًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيل الأَْلْفَاظِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا - كَالْكِتَابَةِ وَإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 7، رد المحتار 3 / 348، الخرشي على خليل 4 / 255، الفواكه الدواني 2 / 172، مطالب أولي النهى 3 / 501، وهذا من آثار عدم التقيد بالألفاظ، والتعديل على المعنى، كما سلف (ر: ف / 22) .

(26/42)


وَلِذَا يَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال أَحَدُ اثْنَيْنِ لِلآْخَرِ: شَارِكْنِي، فَرَضِيَ بِالسُّكُوتِ، كَفَى، وَأَنَّهُ يَكْفِي خَلْطُ الْمَالَيْنِ، أَوِ الشُّرُوعُ فِي أَعْمَال التِّجَارَةِ لِلشَّرِكَةِ. كَمَا يَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَتَكَلَّمَا فِي الشَّرِكَةِ، ثُمَّ يُحْضِرَا الْمَال عَنْ قُرْبٍ، وَيَشْرَعَا فِي الْعَمَل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تُغْنِي دَلاَلَةُ الْفِعْل عَنِ اللَّفْظِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، لأَِنَّ الأَْصْل حِفْظُ الأَْمْوَال عَلَى أَرْبَابِهَا، فَلاَ يَنْتَقِل عَنْهُ إِلاَّ بِدَلاَلَةٍ لَهَا فَضْل قُوَّةٍ - حَتَّى لَقَدْ ضَعَّفَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهًا عِنْدَهُمْ بِانْعِقَادِ الشَّرِكَةِ بِلَفْظِ: اشْتَرَكْنَا - لِدَلاَلَتِهِ عُرْفًا عَلَى الإِْذْنِ فِي التَّصَرُّفِ، وَرَأَوْا أَنْ لاَ كِفَايَةَ فِيهِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِالإِْذْنِ فِي التَّصَرُّفِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ - لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ شَرِكَةٍ مَاضِيَةٍ، أَوْ عَنْ شَرِكَةِ مِلْكٍ قَائِمَةٍ لاَ تَصَرُّفَ فِيهَا. وَهُمْ يُصَحِّحُونَ انْعِقَادَهَا شَرِكَةَ عَنَانٍ بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، إِذَا اقْتَرَنَ بِنِيَّةِ الْعَنَانِ، وَإِلاَّ فَلَغْوٌ، إِذْ لاَ مُفَاوَضَةَ عِنْدَهُمْ: وَغَايَةُ مَا يَصْلُحُ لَهُ لَفْظُهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةَ عَنَانٍ - بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ (1) .
وَمِثَال شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي التَّقَبُّل: أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ وَكِلاَهُمَا مِنْ أَهْل الْكَفَالَةِ - شَارَكْتُكَ فِي تَقَبُّل جَمِيعِ الأَْعْمَال، أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 212، 213.

(26/42)


فِي هَذِهِ الْحِرْفَةِ (خِيَاطَةً، أَوْ نِجَارَةً، أَوْ حِدَادَةً، مَثَلاً) (1) عَلَى أَنْ يَتَقَبَّل كُلٌّ مِنَّا الأَْعْمَال، وَأَنْ أَكُونَ أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءً فِي ضَمَانِ الْعَمَل وَفِي الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ، وَفِي أَنَّ كُلًّا كَفِيلٌ عَنِ الآْخَرِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ، فَيَقْبَل الآْخَرُ. فَإِذَا وَقَعَ التَّعَاقُدُ مَعَ اخْتِلاَل قَيْدٍ مِمَّا وَرَدَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ، فَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَنَانٍ - إِلاَّ أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْل الْوَكَالَةِ كَمَا لاَ يَخْفَى (2) .
16 - وَمِثَال شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي الْوُجُوهِ: أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ - وَكِلاَهُمَا مِنْ أَهْل الْكَفَالَةِ - شَارَكْتُكَ عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ أَنَا وَأَنْتَ بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً وَالْبَيْعِ نَقْدًا، مَعَ التَّسَاوِي فِي كُل شَيْءٍ نَشْتَرِيهِ وَفِي ثَمَنِهِ وَرِبْحِهِ، وَكَفَالَةِ كُل مَا يَلْزَمُ الآْخَرَ مِنْ دُيُونِ التِّجَارَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، فَيَقْبَل الآْخَرُ.
وَإِذَا اخْتَل شَيْءٌ مِمَّا وَرَدَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنْ قُيُودٍ، فَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَنَانٍ - إِلاَّ أَنَّهُ لاَ بُدَّ
__________
(1) هذا الأخير يؤخذ من قول الكاساني - دون فصل بين مفاوضة عنان - (وأما شركة الأعمال فهي أن يشتركا على عمل من الخياطة أو القصارة أو غيرهما) (بدائع الصنائع 6 / 57) وإن كان القياس على المفاوضة في غيرها يقتضي التعميم في جميع الصنائع والأعمال، أو بالحري الإطلاق، بحيث لا يكون على أحد الشريكين حجر ما في تقبل أي عمل صالح لتقبل. وهذا هو الذي جروا عليه في المجلة (م 1359) .
(2) رد المحتار 3 / 359، بدائع الصنائع 6 / 57، 63، 65.

(26/43)


فِيهَا عَلَى كُل حَالٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْل الْوَكَالَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا الثَّمَنَ، كَمَا سَيَجِيءُ فِي الشَّرَائِطِ بَيَانُهُ.
وَإِنْ قَال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فَاوَضْتُكَ فَقَبِل كَفَى؛ لأَِنَّ لَفْظَهَا عَلَمٌ عَلَى تَمَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَمْرِ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا ذَكَرَاهُ تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا إِقَامَةً لِلَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى (1) .

شُرُوطُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ:
الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ:
17 - وَهِيَ تِلْكَ الَّتِي لاَ تَخُصُّ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ الرَّئِيسِيَّةِ الثَّلاَثَةِ (شَرِكَةِ الأَْمْوَال، وَشَرِكَةِ الأَْعْمَال، وَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ) .
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا:

النَّوْعُ الأَْوَّل: فِي كُلٍّ مِنْ شَرِكَتَيِ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعَنَانِ.

أَوَّلاً - قَابِلِيَّةُ الْوَكَالَةِ:
18 - وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِأَمْرَيْنِ:
(1) قَابِلِيَّةُ التَّصَرُّفِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ لِلْوَكَالَةِ، لِيَتَحَقَّقَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ الاِشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ؛ لأَِنَّ سَبِيل ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلاً عَنْ صَاحِبِهِ فِي نِصْفِ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ، وَأَصِيلاً فِي
__________
(1) رد المحتار 3 / 359، بدائع الصنائع 6 / 57، 63، 65.

(26/43)


نِصْفِهِ الآْخَرِ - وَإِلاَّ فَالأَْصِيل فِي الْكُل يَخْتَصُّ بِكُل رِبْحِهِ، وَالْمُتَصَرِّفُ عَنِ الْغَيْرِ لاَ يَتَصَرَّفُ إِلاَّ بِوِلاَيَةٍ أَوْ وَكَالَةٍ، وَالْفَرْضُ أَنْ لاَ وِلاَيَةَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْوَكَالَةُ (1) . فَالاِحْتِشَاشُ وَالاِحْتِطَابُ وَالاِصْطِيَادُ وَالتَّكَدِّي، أَعْمَالٌ لاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهَا، لِعَدَمِ قَبُولِهَا الْوَكَالَةَ، إِذِ الْمِلْكُ فِيهَا يَقَعُ لِمَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ - وَهُوَ الآْخِذُ: شَأْنَ الْمُبَاحَاتِ كُلِّهَا، فَقَدْ جَعَل الشَّارِعُ سَبَبَ الْمِلْكِ فِيهَا هُوَ سَبْقَ الْيَدِ (2) .
(2) أَهْلِيَّةُ كُل شَرِيكٍ لِلتَّوْكِيل وَالتَّوَكُّل؛ لأَِنَّهُ وَكِيلٌ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ، أَصِيلٌ فِي الآْخَرِ، فَلاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ مِنَ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِي التِّجَارَةِ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي لاَ يَعْقِل (3) .
19 - وَهَذَا الشَّرْطُ بِشِقَّيْهِ مَوْضِعُ وِفَاقٍ (4) . لأَِنَّ الْجَمِيعَ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ. وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ يَقَعُ فِي طَرِيقِ التَّطْبِيقِ: فَمَثَلاً:
أ - الْمُبَاحَاتُ: لاَ يَرَاهَا الْحَنَفِيَّةُ مِمَّا يَقْبَل الْوَكَالَةَ، بَيْنَمَا هِيَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِمَّا يَقْبَلُهَا. وَلِذَا مَثَّل الْمَالِكِيَّةُ لِشَرِكَةِ الأَْبْدَانِ بِشَرِكَةِ الصَّيَّادِينَ فِي الصَّيْدِ، وَالْحَفَّارِينَ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْمَعَادِنِ - كَشَرِكَاتِ النَّفْطِ الْقَائِمَةِ الآْنَ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 30.
(2) فتح القدير 5 / 5، وتمامه في بدائع الصنائع 6 / 63.
(3) بدائع الصنائع 6 / 58.
(4) المغني لابن قدامة 5 / 109.

(26/44)


وَأَبْرَزَ الْحَنَابِلَةُ الشَّرِكَةَ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ، حَتَّى جَعَلُوهَا نَوْعًا مُتَمَيِّزًا مِنْ شَرِكَةِ الأَْعْمَال (1) .
ب - شَرِكَةُ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ: وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَحْجُورِ الشَّرِكَةَ فِي مَال مَحْجُورِهِ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُضَارِبَ بِهَذَا الْمَال، مَعَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَذْهَبُ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهِ، فَأَوْلَى أَنْ تَجُوزَ الشَّرِكَةُ حَيْثُ يَكُونُ رِبْحُهُ كُلُّهُ مُوَفَّرًا عَلَيْهِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل تَقْرِيرُهُمْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَوَرِثَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي الشَّرِكَةِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ - وَمِنْ شَرِيطَتِهَا أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ الْمُتَصَرِّفُ أَمِينًا: فَلَوْ تَبَيَّنَ عَدَمُ هَذِهِ الأَْمَانَةِ، وَضَاعَ الْمَال، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ، لِتَقْصِيرِهِ بِعَدَمِ الْبَحْثِ (2) .
ثُمَّ لاَ يَخْفَى أَنَّ اعْتِبَارَ الأَْهْلِيَّتَيْنِ: أَهْلِيَّةِ التَّوْكِيل، وَأَهْلِيَّةِ التَّوَكُّل، إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَل لِكِلاَ الشَّرِيكَيْنِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لأَِحَدِهِمَا فَحَسْبُ - وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ - فَالشَّرِيطَةُ هِيَ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 225، 269، الفواكه الدواني 2 / 171، 172، ومطالب أولي النهى 3 / 545، دليل الطالب 127.
(2) مغني المحتاج 2 / 213، نهاية المحتاج وحواشيها 5 / 5، المغني لابن قدامة 5 / 134.

(26/44)


أَهْلِيَّةُ الآْذِنِ لِلتَّوْكِيل، وَأَهْلِيَّةُ الْمَأْذُونِ لِلتَّوَكُّل: وَلِذَا يَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الآْذِنُ أَعْمَى، وَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ أَنْ يُوَكِّل فِي خَلْطِ الْمَالَيْنِ، أَمَّا الْمَأْذُونُ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا (1) .

ثَانِيًا - أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا بِالنِّسْبَةِ:
20 - أَيْ أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُل شَرِيكٍ مِنَ الرِّبْحِ مُحَدَّدَةً بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهُ مَعْلُومِ النِّسْبَةِ إِلَى جُمْلَتِهِ: كَنِصْفِهِ. فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلشَّرِيكِ حِصَّةٌ فِي الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ مِقْدَارٍ، كَانَ عَقْدًا فَاسِدًا، لأَِنَّ الرِّبْحَ هُوَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ فَتَفْسُدُ بِجَهَالَتِهِ، كَالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا عُلِمَ مِقْدَارُ حِصَّةِ الشَّرِيكِ فِي الرِّبْحِ، وَلَكِنْ جُهِلَتْ نِسْبَتُهَا إِلَى جُمْلَتِهِ: كَمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل؛ لأَِنَّ هَذَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ - أَعْنِي الاِشْتِرَاكَ فِي الرِّبْحِ، فَقَدْ لاَ يَحْصُل مِنْهُ إِلاَّ مَا جُعِل لأَِحَدِ الشُّرَكَاءِ، فَيَقَعُ مِلْكًا خَاصًّا لِوَاحِدٍ، لاَ شَرِكَةَ فِيهِ لِسِوَاهُ. بَل قَالُوا إِنَّ هَذَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ لأَِنَّ الْمَشْرُوطَ إِذَا كَانَ هُوَ كُل الْمُتَحَصِّل مِنَ الرِّبْحِ، تَحَوَّلَتِ الشَّرِكَةُ إِلَى قَرْضٍ مِمَّنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ إِبْضَاعٍ مِنَ الآْخَرِ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 213.

(26/45)


فَإِذَا جُعِل لِلشَّرِيكِ أَجْرٌ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ مِنْ خَارِجِ مَال الشَّرِكَةِ: كَخَمْسِينَ أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ كُل شَهْرٍ، فَقَدْ نَقَلُوا فِي الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْمُحِيطِ أَنَّ الشَّرِكَةَ صَحِيحَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ (1) .
21 - وَهَذَا الشَّرْطُ مَوْضِعُ وِفَاقٍ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لاَ شَرِكَةَ مَعَ اشْتِرَاطِ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الرِّبْحِ - كَمِائَةٍ - لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَوَاءٌ اقْتَصَرَ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لأَِحَدِهِمَا، أَمْ جُعِل زِيَادَةً عَلَى النِّسْبَةِ الْمَشْرُوطَةِ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ، أَمِ انْتَقَصَ مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ فِي الأَْحْوَال كُلِّهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ، وَهُوَ خِلاَفُ مَوْضُوعِ الشَّرِكَةِ، أَوْ - كَمَا عَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ - قَاطِعٌ لَهَا.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل، مَا لَوْ شُرِطَ لأَِحَدِهِمَا رِبْحُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُبْهَمَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الشَّرِكَةِ - كَهَذَا الثَّوْبِ أَوْ أَحَدِ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ - أَوْ رِبْحُ سَفْرَةٍ كَذَلِكَ - كَهَذِهِ السَّفْرَةِ إِلَى بَارِيسَ، أَوْ هِيَ أَوِ الَّتِي تَلِيهَا إِلَى لَنْدَنَ - أَوْ رِبْحُ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا، أَنْ يَقُول أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلآْخَرِ: لَكَ رِبْحُ النِّصْفِ؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَسْتَأْثِرَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 59، 81، فتح القدير 5 / 25، الفتاوى الهندية 2 / 350، رد المحتار 3 / 354.

(26/45)


وَاحِدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّبْحِ، زَاعِمًا أَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ فِي النِّصْفِ الآْخَرِ. خِلاَفًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ رِبْحَ النِّصْفِ هُوَ نِصْفُ الرِّبْحِ (1)
النَّوْعُ الثَّانِي: فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ خَاصَّةً:
فَتَنْعَقِدُ عَنَانًا إِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْهُ:
أَوَّلاً: أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ:
22 - وَهَذَا شَرْطُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيل عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، كَالاِقْتِرَاضِ إِذْ كُل مَا يَلْزَمُ أَحَدَهُمَا مِنْ هَذَا الْقَبِيل يَلْزَمُ الآْخَرَ.
فَمَنْ لَمْ تَتَوَافَرْ فِيهِ شُرُوطُ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ - مِنْ بُلُوغٍ وَعَقْلٍ - لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ: وَلَوْ فَعَلَهَا الصَّغِيرُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ ذَاتِيٌّ، إِذْ هُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعَاتِ وَلأَِنَّ الْكَفَالَةَ الْمَقْصُودَةَ هُنَا هِيَ كَفَالَةُ كُل شَرِيكٍ جَمِيعَ مَا يَلْزَمُ الآْخَرَ مِنَ الدُّيُونِ الآْنِفَةِ الذِّكْرِ. وَمِنْ هُنَا يَمْنَعُ مُحَمَّدٌ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ مِنَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ - كَالْمُرْتَدِّ - لأَِنَّ كَفَالَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي حُدُودِ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ، وَالْكَفَالَةُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ.
وَأَمَّا الَّذِينَ وَافَقُوا الْحَنَفِيَّةَ فِي أَصْل الْقَوْل
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 124، 148، 149، مطالب أولي النهى 3 / 500.

(26/46)


بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، وَخَالَفُوهُمْ فِي التَّفْصِيل - وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فَلَمْ يَبْنُوهَا عَلَى الْكَفَالَةِ، وَاكْتَفَوْا بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْوَكَالَةِ: فَلَيْسَ عَلَى الشَّرِيكِ فِيهَا عِنْدَهُمْ ضَمَانُ غَرَامَاتٍ لَزِمَتْ شَرِيكَهُ دُونَ أَنْ يَأْذَنَ هُوَ فِي أَسْبَابِهَا (1) .
23 - ثَانِيًا - يَشْتَرِطُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ التَّسَاوِيَ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ: فَتَصِحُّ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْكَبِيرَيْنِ، اللَّذَيْنِ يَعْتَنِقَانِ دِينًا وَاحِدًا - كَمُسْلِمَيْنِ وَنَصْرَانِيَّيْنِ - أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الدِّينِ الْوَاحِدِ - كَذِمِّيَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالآْخَرُ مَجُوسِيًّا، إِذِ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ (2) .
وَلاَ تَصِحُّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ، وَلَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، وَلاَ بَيْنَ بَالِغٍ وَصَبِيٍّ، وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، لاِخْتِلاَل هَذِهِ الشَّرِيطَةِ - إِذِ الْمَمْلُوكُ وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِمَا، بِخِلاَفِ الْحُرِّ الْبَالِغِ، وَالْكَافِرُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَيَبِيعَهَا، وَلاَ كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، 61، رد المحتار 3 / 348، 349، الخرشي على خليل 4 / 261، الشرح الكبير مع المغني 5 / 198.
(2) هذا هو تعليل صاحب فتح القدير. وتعليل صاحب العناية يوهم خلافه، إذ يقول: لتحقق التساوي في كونهما ذميين (العناية على الهداية مع فتح القدير 5 / 7) .

(26/46)


أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَكْتَفِي بِالتَّسَاوِي فِي أَهْلِيَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَلاَ يَعْتَدُّ بِتَفَاوُتِ الأَْهْلِيَّةِ فِيمَا عَدَاهُمَا، وَلِذَا فَهُوَ يُصَحِّحُ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ - قِيَاسًا عَلَى الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِرَغْمِ التَّفَاوُتِ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، بَعْدَ التَّسَاوِي فِي أَهْلِيَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَلاَ يَرَى أَبُو يُوسُفَ فَرْقًا، إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الْكَرَاهَةُ، فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الْكَافِرَ لاَ يَهْتَدِي إِلَى وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَإِنِ اهْتَدَى فَإِنَّهُ لاَ يَتَحَرَّزُ مِنْ غَيْرِهَا كَالرِّبَا وَمَا إِلَيْهِ، فَيَتَوَرَّطُ الْمُسْلِمُ بِمُشَارَكَتِهِ فِي كُل مَا لاَ يَحِل (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ الشَّرِكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَنَفَوْا الْكَرَاهَةَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَصَرَّفَ الْكَافِرُ إِلاَّ بِحُضُورِ شَرِيكِهِ الْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّ ارْتِكَابَهُ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ لِلشَّرِكَةِ يُؤْمَنُ حِينَئِذٍ. ثُمَّ مَا لاَ يَحْضُرُهُ مِنْهَا شَرِيكُهُ الْمُسْلِمُ، وَتَبَيَّنَ وُقُوعُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ مِنَ الْوُجْهَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ - كَعُقُودِ الرِّبَا، وَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ - فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ - مَعَ فَسَادِهِ - يَكُونُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الْكَافِرِ. وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فَالأَْصْل فِيهِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 7، 8، رد المحتار 3 / 348.

(26/47)


الْحِل. وَاحْتَجُّوا لِلْجَوَازِ بِأَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَامَل أَهْل خَيْبَرَ - وَهُمْ يَهُودٌ - بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهَذِهِ شَرِكَةٌ، وَابْتَاعَ طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ، وَمَاتَ وَهِيَ مَرْهُونَةٌ (1) - وَهَذِهِ مُعَامَلَةٌ. وَلاَ يَبْدُو فِي كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ عَنْ هَذَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا شَكَّ الشَّرِيكُ الْمُسْلِمُ فِي عَمَل شَرِيكِهِ الْكَافِرِ بِالرِّبَا اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ، وَإِذَا شَكَّ فِي عَمَلِهِ بِالْخَمْرِ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالْجَمِيعِ (2) .

ثَالِثًا - أَنْ لاَ يُشْتَرَطَ الْعَمَل عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ:
24 - فَلَوْ شُرِطَ الْعَمَل عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) . لأَِنَّ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا يُنَافِي طَبِيعَةَ الْمُفَاوَضَةِ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يُمْكِنُ الاِشْتِرَاكُ فِيهِ مِنْ أُصُول التَّصَرُّفَاتِ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ شَيْءٌ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، إِذْ شَرَطُوا - فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال مُطْلَقًا - أَنْ يَكُونَ
__________
(1) حديث: (أنه عامل أهل خيبر) ، أخرجه البخاري (الفتح 5 / 13 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1186 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، وحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة) أخرجه البخاري (الفتح 6 / 99 - ط السلفية) .
(2) المغني لابن قدامة 5 / 110، مطالب أولي النهى 3 / 245، الفواكه الدواني 2 / 172، بدائع الصنائع 6 / 61، رد المحتار 3 / 348.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 350.

(26/47)


الْعَمَل بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ، أَيْ عَمَل كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِقَدْرِ مَالِهِ: إِنْ كَانَ لَهُ النِّصْفُ فِي رَأْسِ الْمَال فَعَلَيْهِ النِّصْفُ فِي الْعَمَل، أَوِ الثُّلُثَانِ فَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ، وَهَكَذَا بِحَيْثُ إِذَا شَرَطَ خِلاَفَ ذَلِكَ: كَأَنْ جُعِل ثُلُثَا الْعَمَل أَوْ ثُلُثُهُ عَلَى الشَّرِيكِ بِالنِّصْفِ، كَانَتِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً، وَالرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ: وَيَرْجِعُ كُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الآْخَرِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ عِنْدَهُ مِنْ أُجْرَةٍ. أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَل تَبَرُّعًا مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دُونَ أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً عَلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ، إِذْ ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ وَإِحْسَانٌ.

شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الأَْمْوَال مُطْلَقًا:
أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ أَمْ شَرِكَةَ عَنَانٍ:
25 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا، لاَ دَيْنًا: لأَِنَّ التِّجَارَةَ الَّتِي بِهَا يَحْصُل مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ، لاَ تَكُونُ بِالدَّيْنِ. فَجَعْلُهُ رَأْسَ مَال الشَّرِكَةِ مَنَافٍ لِمَقْصُودِهَا (1) .
26 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَال مِنَ الأَْثْمَانِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، رد المحتار 3 / 351، والمغني 5 / 127.

(26/48)


سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ النَّقْدَيْنِ، أَعْنِي الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْمَضْرُوبَيْنِ، أَمِ الْفُلُوسِ النَّافِقَةِ أَمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرِ الْمَضْرُوبَيْنِ (1) . إِذَا جَرَى بِهَا التَّعَامُل وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْفِقْهُ الْحَنَفِيُّ.
وَالْعُرُوضُ كُلُّهَا - وَهِيَ مَا عَدَا النَّقْدَيْنِ مِنَ الأَْعْيَانِ - لاَ تَصْلُحُ رَأْسَ مَال شَرِكَةٍ وَلاَ حِصَّةَ فِيهِ لِشَرِيكٍ (2) . وَلَوْ كَانَتْ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ عَدَدِيًّا مُتَقَارِبًا، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَعَهُ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَجَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْعُرُوضِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: الْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ.
وَالثَّانِي: سَائِرُ الْعُرُوضِ.
وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: فَرَّقُوا بَيْنَ الْمِثْلِيِّ، وَالْمُتَقَوَّمِ: فَمَنَعُوا انْعِقَادَ الشَّرِكَةِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِإِطْلاَقٍ، وَأَجَازُوهَا فِي النَّوْعِ الأَْوَّل، بَعْدَ الْخَلْطِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، ذَهَابًا إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَيْسَ مِنَ الْعُرُوضِ الْمَحْضَةِ، وَإِنَّمَا
__________
(1) ويسميان لغة باسم التبر، ما لم يذابا على النار (أي: قبل تخليصهما من تراب المعدن) وإلا فهما النقرة، كما في المغرب، والذي في المصباح قصر النقرة على الفضة التي أذيبت وخلصت.
(2) رد المحتار 3 / 350، بدائع الصنائع 6 / 59، 361، فتح القدير 5 / 15، 16، الفتاوى الهندية 2 / 306، الفروع 2 / 417.

(26/48)


هُوَ عَرْضٌ مِنْ وَجْهٍ - لأَِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ - لأَِنَّهُ يَصِحُّ الشِّرَاءُ بِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، شَأْنَ الأَْثْمَانِ: فَنَاسَبَ أَنْ يُعْمَل فِيهِ بِكِلاَ الشَّبَهَيْنِ، كُلٌّ فِي حَالٍ - فَأُعْمِل الشَّبَهُ بِالْعُرُوضِ قَبْل الْخَلْطِ، وَمُنِعَ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ فِيهِ حِينَئِذٍ، وَالشَّبَهُ بِالأَْثْمَانِ بَعْدَهُ، فَصُحِّحَتْ إِذْ ذَاكَ الشَّرِكَةُ فِيهِ؛ لأَِنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ تَتَحَقَّقُ بِالْخَلْطِ، فَيُعْتَضَدُ بِهَا جَانِبُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا قُصِرَ التَّصْحِيحُ عَلَى حَالَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ؛ لأَِنَّ الْخَلْطَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ - كَخَلْطِ الْقَمْحِ بِالشَّعِيرِ، وَالزَّيْتِ بِالسَّمْنِ - يُخْرِجُ الْمِثْلِيَّ عَنْ مِثْلِيَّتِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الأَْصْل وَالرِّبْحِ وَالْمُنَازَعَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إِلَى تَقْوِيمِهِ إِذْ ذَاكَ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ وَالتَّقْوِيمُ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُقَوِّمِينَ، بِخِلاَفِ الْمِثْلِيِّ فَإِنَّهُ يَحْصُل مِثْلُهُ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال مِنَ النَّقْدِ الْمَضْرُوبِ. بِأَيَّةِ سِكَّةٍ، وَيُصَرِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنْ لاَ تَسَامُحَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْغِشِّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي حُدُودِ الْقَدْرِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لاَ غِنَى لِصِنَاعَةِ النَّقْدِ عَنْهُ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُمْ إِذَا
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 6، المغني لابن قدامة 5 / 126، مطالب أولي النهى 3 / 497.

(26/49)


أَخْرَجَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً.
كَمَا تَصِحُّ إِذَا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا ذَهَبًا وَفِضَّةً وَأَخْرَجَ الثَّانِي مِثْل ذَلِكَ. وَتَصِحُّ أَيْضًا عِنْدَهُمْ بِعَيْنٍ مِنْ جَانِبٍ وَعَرْضٍ مِنَ الآْخَرِ، أَوْ بِعَرْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي الْجِنْسِ أَوِ اخْتَلَفَا. وَلاَ تَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِذَهَبٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَفِضَّةٍ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، وَلَوْ عَجَّل كُلٌّ مِنْهُمَا مَا أَخْرَجَهُ لِصَاحِبِهِ، وَذَلِكَ لاِجْتِمَاعِ شَرِكَةٍ وَصَرْفٍ، وَلاَ تَصِحُّ بِطَعَامَيْنِ وَإِنِ اتَّفَقَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ (1) .
وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى تَصْحِيحِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ مُطْلَقًا، وَيَعْتَمِدُ فِي الْقِسْمَةِ قِيمَتَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ. وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، اعْتَمَدَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ، إِذْ لَيْسَ فِي تَصْحِيحِهَا بِالْعُرُوضِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ إِخْلاَلٌ بِمَقْصُودِ الشَّرِكَةِ - فَلَيْسَ مَقْصُودُهَا إِلاَّ جَوَازَ تَصَرُّفِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالَيْنِ، ثُمَّ اقْتِسَامَ الرِّبْحِ، وَهَذَا كَمَا يَكُونُ بِالأَْثْمَانِ، يَكُونُ بِغَيْرِهَا. وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ عِنْدَ تَقْدِيرِ نِصَابِ زَكَاتِهَا (2) .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال حَاضِرًا:
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 458 - 461، الخرشي على خليل 4 / 256، البهجة شرح التحفة 2 / 212.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 125.

(26/49)


27 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال حَاضِرًا، قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْحُضُورُ عِنْدَ الشِّرَاءِ لاَ عِنْدَ الْعَقْدِ لأَِنَّ هَذَا كَافٍ فِي حُصُول الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الاِتِّجَارُ ابْتِغَاءَ الرِّبْحِ: وَلِذَا فَالَّذِي يَدْفَعُ أَلْفًا إِلَى آخَرَ، عَلَى أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهَا مِثْلَهَا، وَيَتَّجِرَ وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، يَكُونُ قَدْ عَاقَدَهُ عَقْدَ شَرِكَةٍ صَحِيحَةٍ، إِذَا فَعَل الآْخَرُ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ هَذَا الآْخَرُ لاَ يَسْتَطِيعُ إِشْرَاكَهُ فِي الْخَسَارَةِ إِلاَّ إِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ فَعَل مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
هَكَذَا قَرَّرَهُ الْكَاسَانِيُّ، وَالْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ، وَجَارَاهُمَا ابْنُ عَابِدِينَ وَعِبَارَةُ الْهِنْدِيَّةِ، عَنِ الْخَانِيَّةِ وَخِزَانَةِ الْمُفْتِينَ، أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَال حَاضِرًا عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَ الشِّرَاءِ. فَلاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِمَالٍ غَائِبٍ فِي الْحَالَيْنِ: عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الشِّرَاءِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ حُضُورَ الْمَالَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ قِيَاسًا لِذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ حُضُورَ الْمَالَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ هُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ مَعْنَى الشَّرِكَةِ، إِذْ يُتِيحُ الشُّرُوعَ فِي تَصْرِيفِ أَعْمَالِهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَلاَ يَتَرَاخَى بِمَقْصُودِهَا، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِذَا عُقِدَتِ الشَّرِكَةُ بِمَالٍ غَائِبٍ أَوْ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، وَأُحْضِرَ الْمَال وَشَرَعَ الشَّرِيكَانِ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، فتح القدير 5 / 14، 22، رد المحتار 3 / 351، الفتاوى الهندية 2 / 306.

(26/50)


التَّصَرُّفِ فِيهِ تَصَرُّفَ الشُّرَكَاءِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ بِهَذَا التَّصَرُّفِ نَفْسِهِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَسَّرَ الْخَرَشِيُّ كَلاَمَ خَلِيلٍ بِمَا يُفِيدُ اشْتِرَاطَ حُضُورِ رَأْسِ الْمَال، أَوْ مَا هُوَ بِمَثَابَةِ حُضُورِهِ - إِلاَّ أَنَّهُ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى رَأْسِ مَالٍ هُوَ نَقْدٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ إِذَا غَابَ نَقْدُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ لاَ تَصِحُّ، إِلاَّ إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الاِتِّفَاقُ عَلَى الْبَدْءِ فِي أَعْمَال التِّجَارَةِ قَبْل حُضُورِهِ. فَإِذَا كَانَتْ غَيْبَتُهُ بَعِيدَةً، أَوْ قَرِيبَةً وَاتَّفَقَ عَلَى الشُّرُوعِ فِي التِّجَارَةِ قَبْل حُضُورِهِ، أَوْ غَابَ النَّقْدَانِ كِلاَهُمَا (نَقْدَا الشَّرِيكَيْنِ) وَلَوْ غَيْبَةً قَرِيبَةً، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ حِينَئِذٍ لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّ الْبُعْدَ بِمَسِيرَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّهُ بِمَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَقَرَّ بِهِ الْخَرَشِيُّ. وَلَكِنَّ الْخَرَشِيَّ أَشَارَ إِلَى تَفْسِيرٍ آخَرَ، يَجْعَل هَذَا الشَّرْطَ شَرْطَ لُزُومٍ، لاَ شَرْطَ صِحَّةٍ (1) .

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْخَلْطُ
28 - لاَ يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَلاَ الْحَنَابِلَةُ فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال خَلْطَ الْمَالَيْنِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِشَرْطِ صِحَّةٍ أَصْلاً، بَل وَلاَ بِشَرْطِ لُزُومٍ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 127، مطالب أولي النهى 3 / 497، 499، 501، الخرشي 4 / 58.

(26/50)


وَمَعَهُ أَكْثَرُهُمْ؛ لأَِنَّ الشَّرِكَةَ تَلْزَمُ عِنْدَهُمْ - خِلاَفًا لاِبْنِ رُشْدٍ - بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، أَيْ بِمُجَرَّدِ تَمَامِ الصِّيغَةِ، وَلَوْ بِلَفْظِ: " اشْتَرَكْنَا " أَوْ مَا يَدُل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيَّةَ دَلاَلَةٍ: قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً. وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ ضَمَانِ الْمَال عَلَى الشَّرِيكَيْنِ: فَمَا تَلِفَ قَبْلَهُ، إِنَّمَا يَتْلَفُ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ. وَالشَّرِكَةُ مَاضِيَةٌ فِي الْبَاقِي - فَمَا اشْتُرِيَ بِهِ فَلِلشَّرِكَةِ وَفْقَ شُرُوطِ عَقْدِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَال الْبَاقِي هُوَ الَّذِي اشْتَرَاهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَلَفِ مَال شَرِيكِهِ، وَلَمْ يُرِدْ شَرِيكُهُ مُشَارَكَتَهُ، أَوِ ادَّعَى هُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ - فَإِنَّهُ يَكُونُ لِشَارِيهِ خَاصَّةً، عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخَلْطِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خَاصٌّ بِالْمِثْلِيَّاتِ أَمَّا الْعُرُوضُ الْقِيَمِيَّةُ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ ضَمَانُهَا عَلَى خَلْطِهَا، كَمَا أَنَّ الْخَلْطَ، لَيْسَ حَتْمًا أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا بِحَيْثُ لاَ يَتَمَيَّزُ الْمَالاَنِ - فِيمَا قَرَّرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الأَْكْثَرُونَ، بَل يَكْفِي الْخَلْطُ الْحُكْمِيُّ: بِأَنْ يُجْعَل الْمَالاَنِ فِي حَوْزِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي حَوْزِ الشَّرِيكَيْنِ مَعًا - كَأَنْ يُوضَعَ الْمَالاَنِ مُنْفَصِلَيْنِ فِي دُكَّانٍ وَبِيَدِ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِفْتَاحٌ لَهُ أَوْ يُوضَعَ كُل مَالٍ فِي حَافِظَةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَتُسَلَّمَ الْحَافِظَتَانِ إِلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ إِلَى صَرَّافِ مَحَلِّهِمَا أَوْ أَيِّ أَمِينٍ يَخْتَارَانِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا لَمْ يُخْلَطِ الْمَالاَنِ فَلاَ

(26/51)


شَرِكَةَ. وَكَذَلِكَ إِذَا خُلِطَا وَبَقِيَا مُتَمَيِّزَيْنِ - لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسِ كَنُقُودِ بَلَدَيْنِ بِسِكَّتَيْنِ أَوْ نُقُودٍ ذَهَبِيَّةٍ وَفِضِّيَّةٍ، أَوِ الْوَصْفِ كَنُقُودٍ قَدِيمَةٍ وَجَدِيدَةٍ لأَِنَّ بَقَاءَ التَّمَايُزِ يَجْعَل الْخَلْطَ كَلاَ خَلْطَ. وَإِذَنْ يَكُونُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْ وَالشَّرِيكَيْنِ رِبْحُ مَالِهِ وَوَضِيعَتُهُ، أَيْ خَسَارَتُهُ، وَإِذَا هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قَبْل الْخَلْطِ هَلَكَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ فَحَسْبُ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الآْخَرِ بِشَيْءٍ، وَهُمْ لاَ يَعْتَدُّونَ بِالْخَلْطِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَسَامَحُ إِذَا وَقَعَ الْخَلْطُ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْل انْفِضَاضِ مَجْلِسِهِ: فَيَحْتَاجُ الشَّرِيكَانِ إِلَى تَجْدِيدِ الإِْذْنِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْخَلْطِ الْمُتَرَاخِي وَمِنَ الْبَيِّنِ بِنَفْسِهِ أَنَّ الْمَال يَرِثُهُ اثْنَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهِ أَوْ يُوهَبُ لَهُمَا، يَكُونُ بِطَبِيعَتِهِ مَخْلُوطًا أَبْلَغَ خَلْطٍ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْعُرُوضِ الْقِيَمِيَّةِ (1) .

شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي الأَْمْوَال:
وَهِيَ شُرُوطٌ إِذَا اخْتَلَّتْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ عَنَانًا
29 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الْمُسَاوَاةَ فِي رَأْسِ الْمَال وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَلاَ بُدَّ مِنْ قِيَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، بلغة السالك 2 / 168، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 213، بداية المجتهد 2 / 253، الخرشي على خليل 4 / 257، نهاية المحتاج 6 / 5، مغني المحتاج 2 / 213.

(26/51)


الْمُسَاوَاةِ مَا دَامَتِ الشَّرِكَةُ فِي رَأْسِ الْمَال قَائِمَةً كَأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ هَذَا، وَأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ ذَاكَ؛ لأَِنَّ الشَّرِكَةَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ، فَصَارَتْ كَالْمُتَجَدِّدَةِ كُل سَاعَةٍ، وَالْتَحَقَ اسْتِمْرَارُهَا بِابْتِدَائِهَا فِي اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بِمُقْتَضَى اسْمِهَا (مُفَاوَضَةٌ) فَإِذَا اتَّفَقَ، بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَلَى التَّسَاوِي، أَنْ مَلَكَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، بِإِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَوِ صَدَقَةً، مَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ - وَهُوَ الأَْثْمَانُ - وَقَبَضَهُ، فَإِنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَبْطُل، وَتَنْقَلِبُ عَنَانًا لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ. أَمَّا إِذَا مَلَكَ مَا لاَ تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْعُرُوضِ، عَقَارِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا، وَكَالدُّيُونِ فَإِنَّ هَذَا لاَ يُنَافِي الْمُسَاوَاةَ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ مَالٍ لِلشَّرِكَةِ، فَلاَ يُنَافِي اسْتِمْرَارَ الْمُفَاوَضَةِ إِلاَّ إِذَا قَبَضَ الدُّيُونَ أَثْمَانًا فَحِينَئِذٍ تَحْصُل الْمُنَافَاةُ وَتَبْطُل الْمُفَاوَضَةُ. وَتَتَحَوَّل عَنَانًا (1) .
وَلاَ يُخِل بِهَذِهِ الْمُسَاوَاةِ - فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - اخْتِلاَفُ النَّوْعِ: كَنُقُودٍ ذَهَبِيَّةٍ لِهَذَا وَفِضِّيَّةٍ لِذَاكَ، إِذَا اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ، فَإِذَا زَادَتْ قِيمَةُ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا خَرَجَتِ الشَّرِكَةُ عَنِ الْمُفَاوَضَةِ إِلَى الْعَنَانِ - إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ قَدْ طَرَأَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْحِصَّتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا. لأَِنَّ الشَّرِكَةَ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 78، رد المحتار 3 / 350.

(26/52)


الْحَالَةِ الأُْولَى: قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال إِلَى مَا اشْتُرِيَ بِهِ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِي رَأْسِ الْمَال شَرِكَةٌ وَتَفَاوُتٌ، وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ الْحِصَّةُ الْبَاقِيَةُ كَأَنَّهَا بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّ نِصْفَ ثَمَنِ مَا اشْتُرِيَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى صَاحِبِهَا، وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ الشِّرَاءُ بِالْحِصَّتَيْنِ جَمِيعًا، فَاقْتَضَى الاِسْتِحْسَانُ، تَفَادِيًا لِلْحَرَجِ، إِلْحَاقَهَا بِالْحَالَةِ الأُْولَى: وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ فَسَادَ الْمُفَاوَضَةِ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ (1) أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لاَ يَشْتَرِطُونَ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي رَأْسِ الْمَال لِصِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ (2) .

الشَّرْطُ الثَّانِي: شُمُول رَأْسِ الْمَال لِكُل مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ مَال الشَّرِيكَيْنِ:
30 - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الأَْثْمَانَ وَحْدَهَا هِيَ الصَّالِحَةُ لِذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِذَا كَانَتْ عَيْنًا لاَ دَيْنًا، حَاضِرَةً لاَ غَائِبَةً - سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَثْمَانًا بِأَصْل الْخِلْقَةِ أَمْ بِجَرَيَانِ التَّعَامُل.
فَإِذَا كَانَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ آثَرَ بَقَاءَهُ خَارِجَ رَأْسِ الْمَال - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ، كَأَنْ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَ غَيْرِهِ - فَالشَّرِكَةُ عَنَانٌ، لاَ مُفَاوَضَةَ لِعَدَمِ صِدْقِ اسْمِهَا إِذْ ذَاكَ.
أَمَّا مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ، فَلاَ يَضِيرُ
__________
(1) ر: ف / 27.
(2) فتح القدير 5 / 6، بدائع الصنائع 6 / 61.

(26/52)


الْمُفَاوَضَةَ أَنْ يَخْتَصَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْهُ بِمَا شَاءَ لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل الشَّرِكَةَ، فَأَشْبَهَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِزَوْجَةٍ أَوْ أَوْلاَدٍ، فَلْيَحْتَفِظْ لِنَفْسِهِ بِمَا أَحَبَّ مِنَ الْعُرُوضِ (بِالْمَعْنَى الشَّامِل لِلْمِثْلِيِّ - عَلَى مَا فِيهِ مِنْ نِزَاعِ مُحَمَّدٍ - وَالْعَقَارِ) ، أَوِ الدُّيُونِ أَوِ النُّقُودِ الْغَائِبَةِ - مَا دَامَتْ كَذَلِكَ. فَإِذَا قَبَضَ الدَّيْنَ نُقُودًا، أَوْ حَضَرَتِ النُّقُودُ الْغَائِبَةُ - تَحَوَّلَتِ الْمُفَاوَضَةُ إِلَى عَنَانٍ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ اشْتِرَاطِ اسْتِمْرَارِ الْمُسَاوَاةِ (1) .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: إِطْلاَقُ التَّصَرُّفِ لِكُل شَرِيكٍ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ:
31 - وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَيَتَّجِرُ كُل شَرِيكٍ فِي أَيِّ نَوْعٍ أَرَادَ، قَل أَوْ كَثُرَ، سَهُل أَوْ عَسُرَ، رَخُصَ أَوْ غَلاَ. حَتَّى لَوْ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ تَشَارَطَا عَلَى أَنْ يَتَقَيَّدَا هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِبَعْضِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ - كَأَنْ لاَ يَتَّجِرَا فِي الْحَاصِلاَتِ الزِّرَاعِيَّةِ، أَوِ الآْلاَتِ الْمِيكَانِيكِيَّةِ، أَوْ أَنْ يَتَّجِرَ أَحَدُهُمَا فِي هَذِهِ دُونَ تِلْكَ، وَالآْخَرُ بِالْعَكْسِ - لَمْ تَكُنِ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً، بَل عَنَانًا؛ لأَِنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَقْتَضِي تَفْوِيضَ الرَّأْيِ فِي كُل مَا يَصْلُحُ لِلاِتِّجَارِ فِيهِ، وَعَدَمَ التَّقْيِيدِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 61، فتح القدير والعناية على الهداية 5 / 6، رد المحتار 3 / 348.

(26/53)


وَشَرْطُ إِطْلاَقِ التَّصَرُّفِ لِكِلاَ الشَّرِيكَيْنِ غَيْرُ مُقَرَّرٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُنَوِّعُونَ الْمُفَاوَضَةَ إِلَى عَامَّةٍ لَمْ تُقَيَّدْ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَتَاجِرِ دُونَ نَوْعٍ، وَخَاصَّةٍ - بِخِلاَفِهَا. كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَئُول كَلاَمُهُمْ إِلَى مِثْل هَذَا، لأَِنَّهُمْ - وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ مِنْهَا نَوْعًا شَامِلاً لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ - فَإِنَّهُمْ يُقَرِّرُونَ نَوْعًا آخَرَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَيِّدَ فِيهِ الشُّرَكَاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقُيُودٍ بِعَيْنِهَا (1) .

شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الأَْعْمَال:
32 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهَا عَمَلاً: لأَِنَّ الْعَمَل هُوَ رَأْسُ الْمَال فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال - فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَمَلٌ، لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ. وَلَكِنْ يَكْفِي لِتَحَقُّقِ هَذَا الْعَمَل أَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَى التَّقَبُّل: سَوَاءٌ أَجَعَلاَ التَّقَبُّل لِكِلَيْهِمَا أَمْ لأَِحَدِهِمَا عَمَلِيًّا، وَإِنْ كَانَ لِلآْخَرِ أَيْضًا نَظَرِيًّا أَيْ مِنْ حَقِّهِ (بِمُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ) أَنْ يَتَقَبَّل الأَْعْمَال الْمُتَّفَقَ عَلَى تَقَبُّل نَوْعِهَا - إِذْ كُل شَرِيكٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَكِيلٌ عَنْ شَرِيكِهِ فِي هَذَا التَّقَبُّل، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَمَل الْمُتَقَبَّل - لَكِنَّهُ، لأَِمْرٍ مَا، تَرَكَ التَّقَبُّل لِشَرِيكِهِ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 5، 6، الفتاوى الهندية 2 / 308، ومن قبلهم ابن نجيم، ومن بعدهم ابن عابدين رد المحتار 3 / 351، الخرشي على خليل 4 / 259، مطالب أولي النهى 3 / 553.

(26/53)


أَجْدَى عَلَى الشَّرِكَةِ وَالشَّرِيكَيْنِ. حَتَّى لَوْ أَنَّهُ شَاءَ بَعْدَ هَذَا التَّرْكِ، أَنْ يُمَارِسَ حَقَّهُ فِي التَّقَبُّل، لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ، فَإِذَا تَقَبَّل الْعَمَل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بَعْدَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ وَقَامَ بِهِ وَحْدَهُ - كَأَنْ تَقَبَّل الثَّوْبَ لِلْخِيَاطَةِ، وَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ - فَالأَْجْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ مُنَاصَفَةً، إِنْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً، وَعَلَى مَا اتَّفَقَا إِنْ كَانَتْ عَنَانًا. ذَلِكَ أَنَّ التَّقَبُّل وَقَعَ عَنْهُمَا - إِذْ شَطْرُهُ عَنِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ - وَصَارَ الْعَمَل مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا بَعْدَ التَّقَبُّل: فَانْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِهِ إِعَانَةُ مُتَبَرِّعٍ بِهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانَ مِنْهُ عَلَى شَرِيكِهِ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي خَلَتْ مِنْ عَمَل أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ: شَرِكَةُ قِصَارَةٍ (2) يَتَّفِقُ فِيهَا الشَّرِيكَانِ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدُهُمَا آلَةَ الْقِصَارَةِ، وَيَقُومَ الآْخَرُ بِالْعَمَل كُلِّهِ: تَقَبُّلاً وَإِنْجَازًا - وَلاَ شَأْنَ لِلأَْوَّل بَعْدُ، إِلاَّ فِي اقْتِسَامِ الرِّبْحِ. وَلِفَسَادِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ، تَكُونُ الأُْجْرَةُ لِلْعَامِل؛ لأَِنَّهَا اسْتُحِقَّتْ بِعَمَلِهِ، وَعَلَيْهِ لِصَاحِبِ الآْلَةِ أُجْرَةُ مِثْل آلَتِهِ.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ
__________
(1) رد المحتار 3 / 358، الفتاوى الهندية 2 / 329.
(2) هي المعروفة الآن بالمنجلة: فقد جاء في المصباح: قصرت الثوب قصرًا بيضته، والقصارة - بالكسر - الصناعة، والفاعل قصار.

(26/54)


مَعَ تَصْرِيحِهِمْ - كَالْحَنَابِلَةِ - بِصِحَّةِ شَرِكَةِ الْقِصَارَةِ - وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الصِّنَاعَاتِ - عَلَى أَنْ يَعْمَل الشَّرِيكَانِ بِآلَةِ أَحَدِهِمَا، فِي بَيْتِ الآْخَرِ - وَتَكُونَ الأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْعَمَل، لاَ عَنْ آلَتِهِ وَمَكَانِهِ: وَكُل مَا فِي الأَْمْرِ، أَنَّ أَحَدَهُمَا أَعَانَ مُتَبَرِّعًا بِنِصْفِ الآْلَةِ، وَأَعَانَ الآْخَرُ بِنِصْفِ الْمَكَانِ، نَعَمْ إِنْ فَسَدَتِ الشَّرِكَةُ قُسِمَ مَا حَصَل لَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَجْرِ عَمَلِهِمَا، وَأَجْرِ الدَّارِ وَالآْلَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا قَدَّمَهُ كُل شَرِيكٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ (1) .
33 - وَكَوْنُ الشَّرِيكِ فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال، يَسْتَحِقُّ حِصَّتَهُ فِي الرِّبْحِ، وَلَوْ لَمْ يَعْمَل، هُوَ مَبْدَأٌ مُقَرَّرٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ - كَابْنِ قُدَامَةَ - مَنْ يُبْدِي احْتِمَال أَنْ يُحْرَمَ مِنْ حِصَّتِهِ فِي الرِّبْحِ مَنْ يَتْرُكُ الْعَمَل بِلاَ عُذْرٍ، لإِِخْلاَلِهِ بِمَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَمِمَّا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ - وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِأَنَّ فِيهِ فَسْخًا لِلشَّرِكَةِ - أَنَّ الشَّرِيكَ يَخْتَصُّ بِمَا يَتَقَبَّلُهُ مِنْ أَعْمَال الشَّرِكَةِ - بَعْدَ طُول مَرَضِ شَرِيكِهِ، أَوْ طُول غَيْبَتِهِ - ضَمَانًا، وَعَمَلاً، وَأُجْرَةَ عَمَلٍ. بِخِلاَفِ مَا تَقَبَّلَهُ فِي حُضُورِهِ صَحِيحًا أَوْ بَعْدَ غَيْبَتِهِ أَوْ مَرَضِهِ لِفَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ (2) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 358، بدائع الصنائع 6 / 64، مطالب أولي النهى 3 / 550.
(2) فتح القدير 5 / 33، رد المحتار 3 / 361، المغني لابن قدامة 5 / 115.

(26/54)


34 - أَمَّا الآْلَةُ، فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَعْتَبِرُونَهَا مُتَمِّمَةً لِلْعَمَل. فَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِحِصَّةِ الشَّرِيكِ فِي الْعَمَل: بِحَيْثُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ تَقْدِيمَ ثُلُثَيِ الآْلَةِ عَلَى حِينِ أَنَّ حِصَّتَهُ فِي الْعَمَل هِيَ الثُّلُثُ أَوِ النِّصْفُ، دُونَ أَنْ يَحْسِبَ حِسَابَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ - فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الشَّرِكَةَ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الرِّبْحِ وَالْعَمَل نَظَرًا إِلَى تَكْمِلَةِ الاِعْتِبَارِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ التَّجَاوُزُ عَنْ فَرْقٍ يَسِيرٍ يَتَبَرَّعُ بِهِ فِي الْعَقْدِ، أَمَّا التَّبَرُّعُ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَلاَ حَدَّ لَهُ. فَكَيْفَ إِذَا قَدَّمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ آلَةَ الْعَمَل كُلَّهَا مَجَّانًا فِي الْعَقْدِ؟ عَلَى أَنَّ غَيْرَ سَحْنُونٍ وَصَحْبِهِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - لاَ يَكْتَفُونَ بِهَذَا. بَل يَشْتَرِطُونَ أَنْ تَكُونَ الآْلَةُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ شَرِكَةَ مِلْكٍ: إِمَّا مِلْكَ عَيْنٍ، أَوْ مِلْكَ مَنْفَعَةٍ، أَوْ مِلْكَ عَيْنٍ مِنْ جَانِبٍ وَمِلْكَ مَنْفَعَةٍ مِنَ الآْخَرِ - كَمَا إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لأَِحَدِهِمَا وَلَكِنَّهُ أَجَّرَ لِشَرِيكِهِ حِصَّةً مِنْهَا تُسَاوِي حِصَّتَهُ فِي الْعَمَل، أَوْ كَانَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا آلَةٌ هِيَ مِلْكٌ لَهُ خَاصٌّ، إِلاَّ أَنَّهُمَا تَكَارَيَا بَعْضَ هَذِهِ بِبَعْضِ تِلْكَ فِي حُدُودِ النِّسْبَةِ الْمَطْلُوبَةِ. بَل إِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لَيُحَتِّمُ أَنْ يَكُونَا فِي ضَمَانِ الآْلَةِ سَوَاءً: فَلاَ يَسُوغُ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ رَقَبَةٍ لأَِحَدِهِمَا، وَمِلْكِ مَنْفَعَةٍ لِلآْخَرِ.
وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ عَلَى الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ

(26/55)


فِي حَالَةِ اشْتِرَاطِ الْعَمَل عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ. لَكِنِ اخْتَارَ ابْنُ قُدَامَةَ الصِّحَّةَ، وَقَال: إِنَّهُ قِيَاسُ نَصِّ أَحْمَدَ وَالأَْوْزَاعِيِّ فِيمَنْ دَفَعَ دَابَّتَهُ إِلَى آخَرَ لِيَعْمَل عَلَيْهَا وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا. وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ (1) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يُطْلِقُونَ الْقَوْل بِالْفَسَادِ: سَوَاءٌ اشْتُرِطَ الْعَمَل عَلَى الْجَمِيعِ أَمْ عَلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ؛ لأَِنَّ هَذِهِ أَمْوَالٌ مُتَمَايِزَةٌ فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ تَجْمَعَهَا شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ. فَتُطَبَّقُ أَحْكَامُ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ (2) .
35 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَل الْمُشْتَرَكُ فِيهِ يُمْكِنُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الإِْجَارَةِ: كَالنِّسَاجَةِ وَالصِّبَاغَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَكَالصِّيَاغَةِ وَالْحِدَادَةِ وَالنِّجَارَةِ، وَكَتَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ أَوِ الْحِسَابِ أَوِ الطِّبِّ أَوِ الْهَنْدَسَةِ أَوِ الْعُلُومِ الأَْدَبِيَّةِ - وَكَذَلِكَ، عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ اسْتِحْسَانًا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ - وَإِنْ كَانَ الأَْصْل فِيهَا عَدَمُ صِحَّةِ الإِْجَارَةِ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْقُرَبِ.
أَمَّا مَا لاَ يُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الإِْجَارَةِ، فَلاَ تَصِحُّ فِيهِ شَرِكَةُ الأَْعْمَال. وَهَذَا يَنْتَظِمُ جَمِيعَ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: كَالنِّيَاحَةِ عَلَى الْمَوْتَى،
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 268، 270 - 271، بلغة السالك 2 / 172، مطالب أولي النهى 3 / 550، المغني 5 / 17.
(2) بداية المجتهد 2 / 226، مغني المحتاج 2 / 216.

(26/55)


وَالأَْغَانِي الْخَلِيعَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالأَْنْغَامِ الْمُخِلَّةِ بِصِحَّةِ الأَْدَاءِ - كَمَا يَنْتَظِمُ جَمِيعَ الْقُرَبِ - عَدَا مَا اسْتَثْنَاهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِلضَّرُورَةِ، لِئَلاَّ تَضِيعَ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ، أَوْ تَتَعَطَّل الشَّعَائِرُ الدِّينِيَّةُ: كَالإِْمَامَةِ وَالأَْذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ (1) . فَلاَ يَصِحُّ التَّعَاقُدُ عَلَى إِنْشَاءِ شَرِكَةِ وُعَّاظٍ تَعِظُ النَّاسَ وَتُذَكِّرُهُمْ بِالأُْجْرَةِ، وَكَذَلِكَ لاَ تَصِحُّ شَرِكَةُ الشُّهُودِ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الشَّرْعِ إِنْ كَانَتْ زُورًا، وَمِنَ الْقُرُبَاتِ أَوِ الْفَرَائِضِ إِنْ كَانَتْ حَقًّا - سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ التَّحَمُّل وَالأَْدَاءُ، عَلَى مَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مَوْضِعِهِ (2) .

شَرْطٌ خَاصٌّ بِشَرِكَةِ الْوُجُوهِ:
36 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا الثَّمَنَ: وَضَمَانُهُمَا الثَّمَنَ إِنَّمَا هُوَ بِنِسْبَةِ حِصَصِهِمَا فِيمَا يَشْتَرِيَانِهِ مَعًا، أَوْ كُلٌّ عَلَى انْفِرَادٍ. وَمِقْدَارُ هَذِهِ الْحِصَصِ يَتْبَعُ الشَّرْطَ الَّذِي وَقَعَ التَّشَارُطُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ. فَمِنَ الْجَائِزِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَتَعَاقَدَا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُل مَا يَشْتَرِيَانِهِ أَوْ يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمَا بَيْنَهُمَا
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 369، رد المحتار 3 / 358، 359.
(2) مجمع الأنهر 2 / 177، 178، الفواكه الدواني 2 / 172، حواشي التحفة لابن عاصم 2 / 215، الفروع 2 / 729.

(26/56)


مُنَاصَفَةً، أَوْ عَلَى التَّفَاوُتِ الْمَعْلُومِ أَيَّمَا كَانَ - كَأَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَل، وَلِلآْخَرِ الثُّلُثَانِ أَوِ الثَّلاَثَةُ الأَْرْبَاعُ إِلَخْ. وَإِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ لاَ تَكُونُ إِلاَّ عَلَى التَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ هُنَا أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّسَاوِي فِي حِصَصِ الْمُشْتَرِي وَثَمَنِهِ أَيْضًا.
فَإِذَا شُرِطَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الرِّبْحِ أَكْثَرُ أَوْ أَقَل مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الضَّمَانِ فَهُوَ شَرْطٌ بَاطِلٌ لاَ أَثَرَ لَهُ، وَيَظَل الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُوجَدُ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ سَبَبٌ لاِسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ سِوَى الضَّمَانِ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ. ذَلِكَ أَنَّ الرِّبْحَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمَال أَوِ الْعَمَل أَوِ الضَّمَانِ، كَمَا سَيَجِيءُ فِي الأَْحْكَامِ، وَلاَ مَال هُنَا وَلاَ عَمَل، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَإِذَنْ تَكُونُ قِسْمَتُهُ بِحَسَبِهِ. لِئَلاَّ يَلْزَمَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الرِّبْحَ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الشَّرِيكَيْنِ شَرِكَةَ وُجُوهٍ يَتَّجِرَانِ، وَالتِّجَارَةُ عَمَلٌ يَتَفَاوَتُ كَيْفًا، كَمَا يَتَفَاوَتُ كَمًّا، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْقَائِمِينَ بِهِ نَشَاطًا وَخِبْرَةً - فَالْعَدَالَةُ أَنْ تُتْرَكَ الْحُرِّيَّةُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ لِيُقَدِّرَا كُل حَالَةٍ بِحَسَبِهَا: حَتَّى إِذَا اقْتَضَتِ التَّفَاوُتَ فِي الرِّبْحِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا مِنْ حَرَجٍ

(26/56)


فِي التَّشَارُطِ عَلَيْهِ وَفْقَ مَا يَرَيَانِ. نَظِيرُهُ، لِنَفْسِ هَذَا الْمُدْرَكِ، شَرِكَاتُ الْعَنَانِ الأُْخْرَى، وَالْمُضَارَبَةِ، إِذْ يَكْفِي فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ، عَلَى التَّسَاوِي أَوِ التَّفَاوُتِ - بَالِغًا مَا بَلَغَ هَذَا التَّفَاوُتُ (1) .

أَحْكَامُ الشَّرِكَةِ وَالآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا:
أَوَّلاً - أَحْكَامٌ عَامَّةٌ
أ - الاِشْتِرَاكُ فِي الأَْصْل وَالْغَلَّةِ:
37 - حُكْمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ صَيْرُورَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَمَا يُسْتَفَادُ بِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا (أَيِ الْعَاقِدَيْنِ) (2) .

ب - عَدَمُ لُزُومِ الْعَقْدِ:
38 - وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ. فَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَسْتَقِل بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ، رَضِيَ الآْخَرُ أَمْ أَبَى، حَضَرَ أَمْ غَابَ، كَانَ نُقُودًا أَمْ عُرُوضًا.
لَكِنَّ الْفَسْخَ لاَ يَنْفَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ مِنْ حِينِ عِلْمِ الآْخَرِ بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ عَزْلِهِ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ آثَرَهُ الْفَاسِخُ بِاخْتِيَارِهِ، فَلاَ يُسَلَّطُ عَلَى الإِْضْرَارِ بِغَيْرِهِ.
__________
(1) الفروع 2 / 731، والمغني لابن قدامة 5 / 123، 141.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 302.

(26/57)


أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا عِلْمَ الشَّرِيكِ بِالْفَسْخِ، كَمَا فِي عَزْل الْوَكِيل (1) .
نَعَمْ شَرَطَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَيَّدَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَمَعَهُمَا ابْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ وَحَفِيدُهُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (2) - أَنْ يَكُونَ الْمَال نَاضًّا لاَ عُرُوضًا، وَإِلاَّ فَالشَّرِكَةُ بَاقِيَةٌ، وَالْفَسْخُ لاَغٍ. إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْبَعْضَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُلْغُونَ الْفَسْخَ، وَإِنَّمَا يُوقِفُونَهُ إِلَى النُّضُوضِ: فَيَظَل لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَهُمُ التَّصَرُّفُ فِي مَال الشَّرِكَةِ مِنْ أَجْل نُضُوضِهِ - حَتَّى يَتِمَّ، وَلَيْسَ لَهُمَا أَيْ تَصَرُّفٍ آخَرَ، كَالرَّهْنِ أَوِ الْحَوَالَةِ أَوِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ النَّقْدِ الَّذِي يَنِضُّ بِهِ الْمَال (3) .
وَيُعَدُّ مِنْ قَبِيل الْفَسْخِ، أَنْ يَقُول الشَّرِيكُ لِشَرِيكِهِ: لاَ أَعْمَل مَعَكَ فِي الشَّرِكَةِ. فَإِذَا تَصَرَّفَ الآْخَرُ فِي مَال الشَّرِكَةِ بَعْدَ هَذَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ فِي هَذَا الْمَال عِنْدَ الْفَسْخِ: مِثْلاً فِي الْمِثْلِيِّ، وَقِيمَةً فِي الْمُتَقَوِّمِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 215، مطالب أولي النهى 3 / 502.
(2) بلغة السالك 2 / 168، بداية المجتهد 2 / 255، الفروع 2 / 727.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 33، الفروع 2 / 727، بدائع الصنائع، فتح القدير 5 / 34، رد المحتار 3 / 362.
(4) فتح القدير 5 / 34، مجمع الأنهر 2 / 439.

(26/57)


39 - وَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ النَّضُوضِ، إِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَ الْمَال عُرُوضًا عِنْدَمَا انْتَهَتِ الشَّرِكَةُ، فَإِنَّ لِلشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَفْعَلاَ مَا يَرَيَانِهِ: مِنْ قِسْمَتِهِ، أَوْ بَيْعِهِ وَقِسْمَةِ ثَمَنِهِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ، وَآثَرَ الآْخَرُ الْبَيْعَ، أُجِيبَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهَا تُحَقِّقُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَسْتَحِقُّهُ أَصْلاً وَرِبْحًا، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَكَلُّفِ مَزِيدٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ. وَمِنْ هُنَا يُفَارِقُ الشَّرِيكُ الْمُضَارِبَ، إِذِ الْمُضَارِبُ إِنَّمَا يَظْهَرُ حَقُّهُ بِالْبَيْعِ. فَإِذَا طَلَبَهُ أُجِيبَ إِلَيْهِ. هَكَذَا قَرَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ - عَدَا ابْنَ رُشْدٍ وَحَفِيدَهُ وَمَنْ تَابَعَهُمَا - فَعِنْدَهُمْ أَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ عَقْدٌ لاَزِمٌ.
وَيَسْتَمِرُّ هَذَا اللُّزُومُ إِلَى أَنْ يَنِضَّ الْمَال، أَوْ يَتِمَّ الْعَمَل الَّذِي تُقُبِّل، وَقَدِ اسْتَظْهَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْقَوْل عِنْدَهُمْ أَيْضًا بِلُزُومِ شَرِكَةِ الأَْعْمَال بَعْدَ التَّقَبُّل (2) .

ج - يَدُ الشَّرِيكِ يَدُ أَمَانَةٍ:
40 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ يَدَ الشَّرِيكِ يَدُ أَمَانَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَال الشَّرِكَةِ، أَيًّا كَانَ نَوْعُهَا.
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 133، 134.
(2) فتح القدير 5 / 27، مجمع الأنهر 2 / 580 بلغة السالك 2 / 165، الفواكه الدواني 2 / 182، الخرشي على خليل 4 / 255، 267، مطالب أولي النهى 3 / 547.

(26/58)


لأَِنَّهُ كَالْوَدِيعَةِ مَالٌ مَقْبُوضٌ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، لاَ لِيَسْتَوْفِيَ بَدَلَهُ، وَلاَ يَسْتَوْثِقَ بِهِ (1) .
وَالْقَاعِدَةُ فِي الأَْمَانَاتِ أَنَّهَا لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ، وَإِذَنْ فَمَا لَمْ يَتَعَدَّ الشَّرِيكُ أَوْ يُقَصِّرْ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ، وَلَوْ ضَاعَ مَال الشَّرِكَةِ أَوْ تَلِفَ. وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ، وَضَيَاعِ الْمَال أَوْ تَلَفِهِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، وَدَعْوَى دَفْعِهِ إِلَى شَرِيكِهِ (2) .
41 - وَمِنَ النَّتَائِجِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَمَانَةِ الشَّرِيكِ، وَقَبُول قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ، وَالذَّاهِبِ وَالْمُتَبَقِّي، أَنَّهُ - كَسَائِرِ الأُْمَنَاءِ، مِثْل الْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ - لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَدِّمَ حِسَابًا مُفَصَّلاً. فَحَسْبُهُ أَنْ يَقُول عَلَى الإِْجْمَال: لَمْ يَبْقَ عِنْدِي مِنْ رَأْسِ مَال الشَّرِكَةِ إِلاَّ كَذَا، أَوْ تَجَشَّمْتُ مِنَ الْخَسَارَةِ كَذَا، أَوْ لَمْ أُصِبْ مِنَ الرِّبْحِ إِلاَّ كَذَا. فَإِنْ قُبِل مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلاَّ حَلَفَ، وَلاَ مَزِيدَ.
هَكَذَا أَفْتَى قَارِئُ الْهِدَايَةِ، وَأَطْلَقَ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 64، الخرشي على خليل 4 / 262، مطالب أولي النهى 3 / 503، أشباه السيوطي 283، قواعد ابن رجب 67، رد المحتار 4 / 505، بلغة السالك 2 / 169، 170، دليل الطالب 143، الفروع 2 / 727، نهاية المحتاج 5 / 12، مغني المحتاج 2 / 216، البجيرمي على المنهج 3 / 297.
(2) رد المحتار 3 / 356، 357، الإتحاف بأشباه ابن نجيم 338.

(26/58)


الْفَتْوَى وَلَكِنَّهُمْ قَيَّدُوهَا مِنَ النَّاحِيَةِ الْقَضَائِيَّةِ - بِمَا إِذَا كَانَ الأَْمِينُ مَعْرُوفًا بِالأَْمَانَةِ فِي وَاقِعِ الأَْمْرِ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يُطَالَبُ بِالتَّفْصِيل وَيُهَدِّدُهُ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَفْعَل. بَيْدَ أَنَّهُ إِنْ أَصَرَّ عَلَى الإِْجْمَال فَلاَ سَبِيل عَلَيْهِ وَرَاءَ يَمِينِهِ (1) .
وَهَكَذَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، إِذْ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَ إِذَا ادُّعِيَتْ عَلَيْهِ خِيَانَةٌ فَالأَْصْل عَدَمُهَا (2) .
وَمِنَ التَّعَدِّي: مُخَالَفَةُ نَهْيِ شَرِيكِهِ: فَإِنَّ كُل مَا لِلشَّرِيكِ فِعْلُهُ مِنْ كَيْفِيَّاتِ التَّصَرُّفِ إِذَا نَهَاهُ عَنْهُ شَرِيكُهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ - فَإِذَا خَالَفَهُ ضَمِنَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ: كَمَا لَوْ قَال لَهُ: لاَ تَرْكَبِ الْبَحْرَ بِمَال التِّجَارَةِ، فَرَكِبَ، أَوْ لاَ تَبِعْ إِلاَّ نَقْدًا، فَبَاعَ نَسِيئَةً (3) .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ: إِذْ يَقُولُونَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ فَبَاعَهُ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلاً؛ لأَِنَّهُ وَقَعَ بِلاَ إِذْنٍ - إِلاَّ إِذَا جَرَيْنَا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفٌ، فَيَكُونُ مَوْقُوفًا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ - مِنْهُمُ الصِّحَّةَ مَعَ الضَّمَانِ - إِلاَّ أَنَّهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ، بِخِلاَفِهِ فِي قَوْل الْبُطْلاَنِ،
__________
(1) رد المحتار 3 / 357، 438، الإتحاف بأشباه ابن نجيم 337، رد المحتار 3 / 357.
(2) المهذب 1 / 345، بداية المجتهد 2 / 280، المغني والشرح الكبير 5 / 129.
(3) وانظر استدراك ابن عابدين عليه في المسألة الأولى، دون جدوى (رد المحتار 3 / 357) .

(26/59)


فَإِنَّهُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ هُوَ ضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى كُل حَالٍ - لأَِنَّهُ لَمْ يَفُتْ مِنَ الْمَال سِوَاهَا (1) .
وَمِنَ التَّعَدِّي أَنْ يَحْمِل نَصِيبَ شَرِيكِهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِنْ مَاتَ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ حَال نَصِيبِ شَرِيكِهِ: هَل اسْتَوْفَاهُ شَرِيكُهُ، أَوْ ضَاعَ، أَوْ تَلِفَ بِتَعَدٍّ، أَوْ بِدُونِهِ، أَمْ لاَ؟ وَهَل هُوَ عَيْنٌ عِنْدَهُ أَمْ عِنْدَ غَيْرِهِ أَمْ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ؟ فَإِنَّهُ إِذَنْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فِي مَال تَرِكَتِهِ - إِلاَّ إِذَا عَرَفَهُ الْوَارِثُ، وَبَرْهَنَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ إِيَّاهُ، وَبَيَّنَ بِمَا يَنْفِي ضَمَانَهُ. وَهَذَا هُوَ مُفَادُ قَوْل ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ: " وَمَعْنَى مَوْتِهِ مُجَهِّلاً، أَنْ لاَ يُبَيِّنَ حَال الأَْمَانَةِ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ لاَ يَعْلَمُهَا ". (2)
وَقَدْ عَبَّرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَنِ التَّجْهِيل الْمَذْكُورِ بِتَرْكِ الإِْيصَاءِ. لَكِنَّهُمْ فِيهِ أَشَدُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذْ لاَ يُعْفِي الشَّرِيكَ مِنَ الضَّمَانِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُوصِيَ إِلَى وَارِثِهِ بِمَا لَدَيْهِ لِشَرِيكِهِ، بَل لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ إِلَى الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِلَى أَمِينٍ مَعَ الإِْشْهَادِ عَلَيْهَا (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَكَالْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ الضَّمَانَ بِمُضِيِّ عَشْرِ سِنِينَ، وَيَقُولُونَ يُحْمَل
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 150، 151.
(2) الإتحاف بأشباه ابن نجيم 415.
(3) البجيرمي على المنهج 3 / 293، الفروع 2 / 787.

(26/59)


عَلَى أَنَّهُ رَدَّ الْمَال، إِذَا كَانَ أَخَذَهُ بِدُونِ بَيِّنَةِ تَوْثِيقٍ (1)

د - اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ:
42 - لاَ يُسْتَحَقُّ الرِّبْحُ إِلاَّ بِالْمَال أَوِ الْعَمَل أَوِ الضَّمَانِ؛ فَهُوَ يُسْتَحَقُّ بِالْمَال، لأَِنَّهُ نَمَاؤُهُ فَيَكُونُ لِمَالِكِهِ. وَمِنْ هُنَا اسْتَحَقَّهُ رَبُّ الْمَال فِي رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ. وَهُوَ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَل حِينَ يَكُونُ الْعَمَل: سَبَبَهُ: كَنَصِيبِ الْمُضَارِبِ فِي رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ، اعْتِبَارًا بِالإِْجَارَةِ.
وَيُسْتَحَقُّ بِالضَّمَانِ كَمَا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ. لِقَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ أَوِ الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ (2) أَيْ مَنْ ضَمِنَ شَيْئًا فَلَهُ غَلَّتُهُ. وَلِذَا سَاغَ لِلشَّخْصِ أَنْ يَتَقَبَّل الْعَمَل مِنَ الأَْعْمَال كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ - وَيَتَعَهَّدَ بِإِنْجَازِهِ لِقَاءَ أَجْرٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ يَتَّفِقَ مَعَ آخَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذَا الْعَمَل بِأَجْرٍ أَقَل مِنَ الأَْجْرِ الأَْوَّل، وَيَرْبَحَ هُوَ فَرْقَ مَا بَيْنَهُمَا حَلاَلاً طَيِّبًا - لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ ضَمِنَ الْعَمَل، دُونَ أَنْ يَقُومَ بِهِ: وَعَسَى أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَالٌ أَصْلاً.
فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذِهِ الأَْسْبَابِ الثَّلاَثَةِ، الَّتِي لاَ يُسْتَحَقُّ الرِّبْحُ إِلاَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، لَمْ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 329، بلغة السالك 2 / 203.
(2) حديث: (الخراج بالضمان) أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3 / 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(26/60)


يَكُنْ ثَمَّ سَبِيلٌ إِلَيْهِ. وَلِذَا لاَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ: تَصَرَّفْ فِي مَالِكِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِي، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَنَا - فَإِنَّ هَذَا عَبَثٌ مِنَ الْعَبَثِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْل الْفِقْهِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَال دُونَ مُزَاحِمٍ (1) .
43 - وَفِي شَرِكَتَيِ الأَْمْوَال (الْمُفَاوَضَةِ وَالْعَنَانِ) مَالٌ وَعَمَلٌ عَادَةً. وَالرِّبْحُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ دَائِمًا عَلَى التَّسَاوِي كَمَا عَلِمْنَاهُ. أَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ: فَالرِّبْحُ بِحَسَبِ الْمَالَيْنِ، إِذَا رَأَى الشَّرِيكَانِ إِغْفَال النَّظَرِ إِلَى الْعَمَل، وَلَهُمَا أَنْ يَجْعَلاَ لِشَرْطِ الْعَمَل قِسْطًا مِنَ الرِّبْحِ يَسْتَأْثِرُ بِهِ - زَائِدًا عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ فِي الرِّبْحِ بِمُقْتَضَى حِصَّتِهِ فِي رَأْسِ الْمَال - مَنْ شُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَل فِي الشَّرِكَةِ: لِئَلاَّ يَكُونَ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِلاَ مَالٍ وَلاَ عَمَلٍ وَلاَ ضَمَانٍ: سَوَاءٌ أَشَرَطَ عَلَى شَرِيكِهِ أَنْ يَعْمَل أَيْضًا أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ عَمِل هُوَ بِمُقْتَضَى الشَّرْطِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الْمَنَاطَ هُوَ اشْتِرَاطُ الْعَمَل، لاَ وُجُودُهُ.
وَمِنْ هُنَا كَانَ سَائِغًا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 62، فتح القدير 5 / 31، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 214، نهاية المحتاج 6 / 8، رد المحتار 3 / 352، بلغة السالك 2 / 70، الفواكه الدواني 2 / 173، مغني المحتاج 2 / 215، الشرقاوي على التحرير 2 / 112، الباجوري على ابن قاسم 1 / 400، المغني لابن قدامة 5 / 140.

(26/60)


يَتَسَاوَى الْمَالاَنِ وَيَتَفَاضَل الشَّرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ، وَأَنْ يَتَفَاضَل الْمَالاَنِ وَيَتَسَاوَى الرِّبْحَانِ - عَلَى نَحْوِ مَا وَضَعْنَا لاَ بِإِطْلاَقٍ، وَلاَ حِينَ لاَ يُتَعَرَّضُ لِشَرْطِ الْعَمَل: وَإِلاَّ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَالرِّبْحُ بِحَسَبِ الْمَالَيْنِ. أَمَّا الْخَسَارَةُ فَهِيَ أَبَدًا بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ لأَِنَّهَا جُزْءٌ ذَاهِبٌ مِنَ الْمَال، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ.
وَقَال صَاحِبُ النَّهْرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: " اعْلَمْ أَنَّهُمَا إِذَا شَرَطَا الْعَمَل عَلَيْهِمَا: إِنْ تَسَاوَيَا مَالاً وَتَفَاوَتَا رِبْحًا، جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلاَثَةِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، وَإِنْ عَمِل أَحَدُهُمَا فَقَطْ. وَإِنْ شَرَطَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا: فَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا جَازَ، وَيَكُونُ مَال الَّذِي لاَ عَمَل لَهُ بِضَاعَةٌ عِنْدَ الْعَامِل، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، وَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ لِلْعَامِل - أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ - جَازَ أَيْضًا عَلَى الشَّرْطِ. وَيَكُونُ مَال الدَّافِعِ عِنْدَ الْعَامِل مُضَارَبَةً، وَلَوْ شَرَطَا الرِّبْحَ لِلدَّافِعِ - أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ - لاَ يَصِحُّ الشَّرْطُ، وَيَكُونُ مَال الدَّافِعِ عِنْدَ الْعَامِل بِضَاعَةً: لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحُ مَالِهِ - وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا أَبَدًا (&#
x661 ;) .
44 - وَقَاعِدَةُ الرِّبْحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ - كَالْخَسَارَةِ - لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ -
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 62، رد المحتار 3 / 352.

(26/61)


فَلَوْ وَقَعَ التَّشَارُطُ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ كَانَ الْعَقْدُ نَفْسُهُ بَاطِلاً (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَالرِّبْحُ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ خِلاَفُهُ، فَيُعْمَل بِمُقْتَضَى الشَّرْطِ (2) . وَتَفَرَّدَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ بِمُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ تَمَامَ الْمُوَافَقَةِ: فَالرِّبْحُ عِنْدَهُمْ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ إِلاَّ أَنْ تُشْتَرَطَ الزِّيَادَةُ لِعَامِلٍ فَيَصِحُّ الشَّرْطُ حِينَئِذٍ (3) .
وَيُضِيفُ الْمَالِكِيَّةُ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل أَيْضًا بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ. وَإِلاَّ فَسَدَتِ الشَّرِكَةُ: كَمَا لَوْ كَانَتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا فِي رَأْسِ الْمَال مِائَةً، وَحِصَّةُ الآْخَرِ مِائَتَيْنِ، وَتَعَاقَدَا عَلَى التَّسَاوِي فِي الْعَمَل. فَإِنْ وَضَعَا هَذِهِ الشَّرِكَةَ مَوْضِعَ التَّنْفِيذِ، اسْتَحَقَّ الشَّرِيكُ بِالثُّلُثِ الرُّجُوعَ عَلَى الآْخَرِ بِسُدُسِ عَمَلِهِ، أَيْ بِأُجْرَةِ مِثْل ذَلِكَ. نَعَمْ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَمَل، أَوْ بِالْعَمَل كُلِّهِ (4) .
أَمَّا فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، فَهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْعَمَل فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 70، الفواكه الدواني 2 / 173 - مغني المحتاج 2 / 215.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 140.
(3) ومعلوم أن هذا عندهم في غير شركة المفاوضة، رد المحتار 3 / 352، مطالب أولي النهى 3 / 499.
(4) الخرشي على خليل 4 / 261، والفواكه الدواني 2 / 173.

(26/61)


مِنْ وَاحِدٍ: عَلَى مَعْنَى أَنْ يَأْذَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلآْخَرِ فِي التَّصَرُّفِ، دُونَ الْعَكْسِ - فَيَتَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ فِي جَمِيعِ مَال الشَّرِكَةِ، وَلاَ يَتَصَرَّفَ الآْذِنُ إِلاَّ فِي مَال نَفْسِهِ - إِنْ شَاءَ - وَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَدَمَ التَّصَرُّفِ فِي مَال نَفْسِهِ، بَل إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَيُبْطِل الْعَقْدَ نَفْسَهُ - لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَجْرِ عَلَى الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ. أَمَّا أَنْ يَتَعَهَّدَ هُوَ بِأَنْ لاَ يَعْمَل وَيَشْرِطَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَالْحَنَابِلَةُ يُصَحِّحُونَ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل مَقْصُورًا عَلَى أَحَدِهِمَا: ثُمَّ إِنْ جُعِلَتْ لَهُ لِقَاءَ عَمَلِهِ زِيَادَةٌ فِي الرِّبْحِ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ بِحِصَّتِهِ فِي الْمَال، فَإِنَّهَا تَكُونُ شَرِكَةَ عَنَانٍ وَمُضَارَبَةٍ، وَإِنْ جُعِل الرِّبْحُ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ، دُونَ زِيَادَةٍ، لَمْ تَكُنْ شَرِكَةً، بَل تَكُونُ إِبْضَاعًا، وَإِنْ جُعِلَتِ الزِّيَادَةُ لِغَيْرِ الْعَامِل، بَطَل الشَّرْطُ فِي الأَْصَحِّ - أَيْ وَكَانَتْ إِبْضَاعًا أَيْضًا، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلاَمِهِمْ إِلاَّ أَنَّ فِي كَلاَمِ ابْنِ قُدَامَةَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ تَقْتَضِي الاِشْتِرَاكَ فِي الْعَمَل (1) .

أَحْكَامٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعَنَانِ:
45 - أَوَّلاً: صِحَّتُهُمَا مَعَ اخْتِلاَفِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال وَوَصْفِهِ:
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 213، الفروع 2 / 725، مطالب أولي النهى 3 / 499.

(26/62)


وَمَتَى اتَّفَقَ فِي تَقْدِيرِ بَعْضِ أَهْل الْخِبْرَةِ تَسَاوِي الْمَالَيْنِ، فَهَذَا كَافٍ لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِيطَةُ الْمَطْلُوبَةُ.
وَلاَ يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَلاَ فِي الْعَنَانِ اتِّحَادَ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال وَلاَ وَصْفِهِ. فَتَصِحَّانِ مَعَ اخْتِلاَفِ جِنْسِ الْمَالَيْنِ - سَوَاءٌ قَدَّرَا عَلَى التَّسَاوِي أَمْ عَلَى التَّفَاوُتِ، مَهْمَا تَكُنْ دَرَجَةُ هَذَا التَّفَاوُتِ، أَمْ لَمْ يُقَدِّرَا عِنْدَ الْعَقْدِ (1) (وَتَصِحُّ) بِخِلاَفِ الْجِنْسِ: كَدَنَانِيرَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَدَرَاهِمَ مِنَ الآْخَرِ، وَبِخِلاَفِ الْوَصْفِ: كَبِيضٍ وَسُودٍ - وَإِنْ تَفَاوَتَتْ قِيمَتُهَا (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ - دُونَ الْوَصْفِ، فِي النُّقُودِ خَاصَّةً، وَهَذَا عِنْدَ جَمَاهِيرِهِمْ خِلاَفًا لأَِشْهَبَ وَسَحْنُونٍ.
46 - ثَانِيًا: صِحَّتُهُمَا مَعَ عَدَمِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ:
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
47 - ثَالِثًا: صِحَّتُهُمَا مَعَ عَدَمِ تَسْلِيمِ الْمَالَيْنِ:
لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ أَوِ الْعَنَانِ، أَنْ يُخَلِّيَ كُل شَرِيكٍ بَيْنَ مَالِهِ وَشَرِيكِهِ، بِخِلاَفِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 61، فتح القدير 5 / 6.
(2) رد المحتار 3 / 351، 352.

(26/62)


الْمُضَارَبَةِ - إِذْ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَال إِلَى الْمُضَارِبِ كَمَا سَيَجِيءُ.
48 - رَابِعًا: لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا وَنَسِيئَةً.
لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ مُسَاوَمَةً وَمُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً وَمُوَاضَعَةً، وَكَيْفَ رَأَى الْمَصْلَحَةَ لأَِنَّ هَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ وَيَقْبِضَهُمَا وَيُخَاصِمَ بِالدَّيْنِ وَيُطَالِبَ بِهِ وَيُحِيلَهُ وَيَحْتَال وَيَرُدَّ بِالْعَيْبِ فِيمَا وَلِيَهُ هُوَ، وَفِيمَا وَلِيَ صَاحِبُهُ، وَأَمَّا الْبَيْعُ نَسِيئَةً فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ نَسِيئَةً لِجَرَيَانِ عَادَةِ التُّجَّارِ بِهَذَا وَذَاكَ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَلَيْسَ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَحْكِيمِ هَذِهِ الْعَادَةِ. ذَلِكَ أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْعَقْدُ مِنَ الإِْذْنِ فِي التَّصَرُّفِ، وَقَعَ مُطْلَقًا، كَمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ. وَلَوْ تَشَارَطَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَلَى أَنْ يَبِيعَا نَقْدًا لاَ نَسِيئَةً، أَوْ نَسِيئَةً لاَ نَقْدًا، أَوْ - فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ - أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا نَقْدًا وَالآْخَرُ نَسِيئَةً، كَانَا عَلَى شَرْطِهِمَا. بَل لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى مِثْل هَذِهِ الْقُيُودِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَجَبَ الاِلْتِزَامُ بِذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ نَهَى أَحَدُهُمَا شَرِيكَهُ - فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ - أَنْ يَبِيعَ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الأَْنْحَاءِ بِعَيْنِهِ - كَأَنْ نَهَاهُ أَنْ يَبِيعَ نَسِيئَةً، أَوْ عَنْ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا، لاَمْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَل مَا نُهِيَ

(26/63)


عَنْهُ - حَتَّى لَوْ أَنَّهُ خَالَفَ، لَكَانَ ضَامِنًا حِصَّةَ شَرِيكِهِ. وَلِذَا أَفْتَى ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الَّذِي يَبِيعُ نَسِيئَةً بَعْدَ مَا نَهَاهُ شَرِيكُهُ، بِأَنَّ بَيْعَهُ هَذَا نَافِذٌ فِي حِصَّةِ نَفْسِهِ، مَوْقُوفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ: بِحَيْثُ يَبْطُل إِنْ لَمْ يُجِزْ. أَيْ ثُمَّ يَكُونُ فِي الْفَوَاتِ الضَّمَانُ (1) .
وَعَلَى وِزَانِ الْبَيْعِ نَقْدًا وَنَسِيئَةً، يُقَال فِي الشِّرَاءِ نَقْدًا وَنَسِيئَةً، فَإِنَّهُمَا لاَ يَخْتَلِفَانِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى: إِذْ إِنَّهُ فِي الْمُفَاوَضَةِ يَكُونُ الشِّرَاءُ دَائِمًا لِلشَّرِكَةِ - فِيمَا عَدَا الْحَاجَاتِ الْخَاصَّةَ لِكِلاَ الشَّرِيكَيْنِ.
أَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ، فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ دَائِمًا، كَمَا سَيَجِيءُ. نَعَمْ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَحَدُ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ طَعَامًا نَسِيئَةً - أَيْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ - فَإِنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ عَلَيْهِمَا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ فَعَل ذَلِكَ أَحَدُ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ - إِذْ يَكُونُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُ لَوْ بَاعَ أَحَدُ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ طَعَامَهُ بِعَقْدِ سَلَمٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَقْدًا جَائِزًا عَلَى شَرِيكِهِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - كَالْحَنَفِيَّةِ، فِي أَنَّ
__________
(1) رد المحتار 3 / 354، 355، 357، بدائع الصنائع 6 / 68 - 71، والمغني 5 / 129، وبلغة السالك 2 / 168، فتح القدير 5 / 26، الفتاوى الهندية 3 / 323.

(26/63)


لِكُل شَرِيكٍ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ نَقْدًا وَنَسِيئَةً - إِلاَّ أَنَّهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُفَاوَضَةٍ وَعَنَانٍ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ نَسِيئَةً؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، وَتَعْرِيضِ أَمْوَال الشَّرِكَةِ لِلضَّيَاعِ - مَا لَمْ يَأْذَنْ سَائِرُ الشُّرَكَاءِ (2) وَأَقْوَى الاِحْتِمَالَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذَا وَقَعَ الإِْذْنُ فِي مُطْلَقِ نَسِيئَةٍ أَوْ بِصِيغَةِ عُمُومٍ: كَبِعْ كَيْفَ شِئْتَ - أَنْ يُحْمَل عَلَى الأَْجَل الْمُتَعَارَفِ، لاَ غَيْرِهِ كَعَشْرِ سِنِينَ (3) .
49 - خَامِسًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُوَكِّل فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ: كَاسْتِئْجَارِ أَجِيرٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ عَرَبَةٍ أَوْ صَانِعٍ أَوْ بَيْطَارٍ - لِشَيْءٍ مِنْ تِجَارَتِهِمَا، وَكَالإِْنْفَاقِ فِي مَصَالِحِ الشَّرِكَةِ.
عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ الآْخَرِ أَنْ يَعْزِل الْوَكِيل الَّذِي وَكَّلَهُ شَرِيكُهُ، مَتَى مَا شَاءَ، شَأْنَ وَكِيل الْوَكِيل (4) .
__________
(1) حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 209، بلغة السالك 2 / 169، المغني لابن قدامة 5 / 150.
(2) مغني المحتاج 2 / 214، 215، نهاية المحتاج 5 / 8، 9.
(3) حواشي نهاية المحتاج 5 / 9.
(4) بدائع الصنائع 6 / 69، فتح القدير 5 / 26، رد المحتار 3 / 355، المغني لابن قدامة 5 / 129، 132، الإنصاف 5 / 417، الخرشي على خليل 4 / 259.

(26/64)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ حَقُّ التَّوْكِيل بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا ارْتَضَى تَصَرُّفَهُ هُوَ. وَقَاعِدَتُهُمْ: " أَنَّ مَنْ لاَ يَعْمَل إِلاَّ بِإِذْنٍ لاَ يُوَكِّل إِلاَّ بِإِذْنٍ ".
50 - سَادِسًا: لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَل لِلشَّرِكَةِ: سَوَاءٌ فِي إِصْلاَحِ مَالِهَا - كَعِلاَجِ دَوَابِّهَا، وَتَرْكِيبِ آلاَتِهَا - أَمْ فِي حِرَاسَتِهِ وَحِفْظِهِ، أَمْ فِي الاِتِّجَارِ بِهِ، أَمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَمْضِي ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لأَِنَّ عَادَةَ التُّجَّارِ قَدْ جَرَتْ بِالاِسْتِئْجَارِ - فِي كُل مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى تِجَارَاتِهِمْ (1) .
51 - سَابِعًا: الشَّرِيكُ الَّذِي يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِمَنْ تَكُونُ أُجْرَتُهُ؟ تَكُونُ أُجْرَتُهُ لِلشَّرِكَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَّرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ بِهِ خَاصَّةً. وَكَالْخَدْمَةِ فِي الْعَنَانِ مَا هُوَ بِمَعْنَاهَا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، فَهَذَا هُوَ صَرِيحُ مَا نَقَلُوهُ عَنِ التتارخانية - إِذْ تَقُول: " وَلَوْ أَجَّرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ نَفْسَهُ، لِحِفْظِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، 70، مغني المحتاج 2 / 214.

(26/64)


شَيْءٍ، أَوْ خِيَاطَةِ ثَوْبٍ، أَوْ عَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال، فَالأَْجْرُ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ كُل كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ أَحَدُهُمَا، فَالأَْجْرُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ. فَالأَْجْرُ لَهُ خَاصَّةً (1) ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَدَائِعِ، وَقَدْ عَلَّل الْكَاسَانِيُّ اسْتِثْنَاءَ الْخِدْمَةِ بِأَنَّ: الشَّرِيكَ فِيهَا إِنَّمَا يَمْلِكُ التَّقَبُّل عَلَى نَفْسِهِ، دُونَ شَرِيكِهِ، بِخِلاَفِهِ فِيمَا عَدَاهَا - فَإِذَا الْتَزَمَ بِالْخِدْمَةِ وَقَامَ بِهَا، فَقَدْ وَفَّى بِمَا لَزِمَهُ خَاصَّةً، فَتَكُونُ الأُْجْرَةُ كَذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً، وَإِذَا تَقَبَّل عَمَلاً مَا غَيْرَ الْخِدْمَةِ، وَالْتَزَمَ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا التَّقَبُّل وَالاِلْتِزَامَ يَكُونُ عَلَى كِلاَ الشَّرِيكَيْنِ؛ لأَِنَّهُ يَقْبَل الشَّرِكَةَ - فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْعَمَل الْمُلْتَزَمِ، وَقَعَ الْعَمَل عَنْهُمَا: وَكَانَ الَّذِي عَمِل مُتَبَرِّعًا بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ فِيهِ، فَتَكُونُ الأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا ". (2)
وَلَيْسَ لِشَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ وَلاَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ، أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَال تِجَارَتِهِمَا، ثُمَّ يَخْتَصَّ بِأُجْرَتِهِ - إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ إِذْنًا صَرِيحًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يُغَيِّرَ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، دُونَ صَرِيحِ الرِّضَا مِنْ شَرِيكِهِ - كَمَا قَرَّرَهُ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ وَغَيْرُهُ.
وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الشَّرِيكَ يَخْتَصُّ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ خَارِجَ الشَّرِكَةِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 310.
(2) بدائع الصنائع 6 / 75.

(26/65)


وَلَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهَا - كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالاً يُضَارِبُ بِهِ فِي نَفْسِ نَوْعِ تِجَارَةِ الشَّرِكَةِ (الْمَنْسُوجَاتُ مَثَلاً) غَايَةُ مَا هُنَاكَ، أَنَّهُ إِذَا شُغِل بِذَلِكَ عَنِ الْعَمَل فِي الشَّرِكَةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ - حَتَّى يَكُونَ هَذَا الإِْذْنُ بِمَثَابَةِ التَّبَرُّعِ لَهُ بِعَمَلِهِ ذَاكَ. وَإِلاَّ كَانَ لِهَذَا الشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ مِثْل مَا عَمِل عَنْهُ (1) .
52 - ثَامِنًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَدْفَعَ مَال الشَّرِكَةِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ مُضَارَبَةً؛ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ أَضْعَفُ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَالأَْقْوَى يَسْتَتْبِعُ الأَْضْعَفَ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ أَضْعَفَ. لأَِنَّ الْخَسَارَةَ فِيهَا يَخْتَصُّ بِهَا رَبُّ الْمَال، وَهِيَ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنَ الرِّبْحِ، أَمَّا فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ فَالرِّبْحُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ بِقَدْرِ مَالَيْهِمَا، ثُمَّ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ الاِشْتِرَاكُ فِي الأَْصْل وَالرِّبْحِ، وَمُقْتَضَى الْمُضَارَبَةِ الاِشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ دُونَ الأَْصْل (2) .
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 260، بلغة السالك 2 / 169، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 214، المغني لابن قدامة 5 / 133.
(2) بدائع الصنائع 6 / 69، العناية على الهداية مع فتح القدير 5 / 25، بلغة السالك 2 / 168، الإنصاف 5 / 414.

(26/65)


إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَزِيدُونَ لِجَوَازِ الْمُضَارَبَةِ قَيْدَ اتِّسَاعِ الْمَال. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ لاَ يُجِيزُونَ لِلشَّرِيكِ التَّوْكِيل وَالاِسْتِئْجَارَ لِلتِّجَارَةِ بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ إِلَى مَنْعِهِ مِنْ دَفْعِ مَال الشَّرِكَةِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ مُضَارَبَةً.
53 - تَاسِعًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُودِعَ مَال الشَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ فِي عُهْدَةِ حَارِسٍ يَسْتَأْجِرُهُ لِحِفْظِهِ، فَلأََنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ بِدُونِ أَجْرٍ أَجْدَرُ وَأَوْلَى. عَلَى أَنَّ الإِْيدَاعَ مِنْ مَصَالِحِ التِّجَارَةِ، إِذْ تُتَّقَى بِهِ السَّرِقَاتُ، وَأَخْطَارُ الطَّرِيقِ وَغَيْرِ الطَّرِيقِ (1) .
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَرَوْنَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يُودِعَ - إِلاَّ إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ بِهِ، إِذِ الْمَال قَدْ يَضِيعُ بِالإِْيدَاعِ. حَتَّى لَوْ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَضَاعَ الْمَال ضَمِنَهُ (2) .
54 - عَاشِرًا: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُسَافِرَ بِمَال الشَّرِكَةِ دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ إِذَا أَمِنَ الطَّرِيقَ لأَِنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّ الشَّرِكَةَ أُطْلِقَتْ، وَلَمْ تُقَيَّدْ بِمَكَانٍ. فَالإِْذْنُ بِالتَّصَرُّفِ الصَّادِرُ فِي ضِمْنِهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 68، 69، فتح القدير 5 / 25، رد المحتار 3 / 355.
(2) بلغة السالك 2 / 168، المغني لابن قدامة 5 / 132.

(26/66)


لِكُل شَرِيكٍ هُوَ عَلَى هَذَا الإِْطْلاَقِ، إِذْ لاَ يَخْرُجُ الْمُطْلَقُ عَنْ إِطْلاَقِهِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلاَ دَلِيل، وَيَسْتَوِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ قَرِيبَ الشُّقَّةِ أَوْ بَعِيدَهَا، وَأَنْ يَكُونَ الْمَال خَفِيفَ الْمَحْمَل أَوْ ثَقِيلَهُ - عَلَى خِلاَفٍ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يُسَافِرَ بِمَال الشَّرِكَةِ إِلاَّ بِإِذْنٍ صَرِيحٍ أَوْ عُرْفِيٍّ أَوْ ضَرُورَةٍ. وَمِنَ الإِْذْنِ الْعُرْفِيِّ، مَا لَوْ عُقِدَتِ الشَّرِكَةُ عَلَى ظَهْرِ سَفِينَةٍ، ثُمَّ اسْتَمَرَّتِ الرِّحْلَةُ إِلَى الْمَقْصِدِ. وَمِنَ الضَّرُورَةِ، جَلاَءُ أَهْل الْبَلَدِ عَنْهُ لِكَارِثَةٍ، أَوْ فِرَارًا مِنْ زَحْفِ الْعَدُوِّ الْقَاهِرِ. فَإِذَا خَالَفَ الشَّرِيكُ، فَسَافَرَ سَفَرًا غَيْرَ مَسْمُوحٍ بِهِ، كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ حِصَّةِ شَرِيكِهِ، لَوْ ضَاعَ الْمَال - لَكِنَّهُ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مَضَى بَيْعُهُ: دُونَ أَيِّ تَنَافٍ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ ثُبُوتِ ضَمَانِهِ (2) . وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ. أَمَّا شَرِيكُ الْمُفَاوَضَةِ فَلَيْسَ مُقَيَّدًا إِلاَّ بِرِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ (3) .
55 - حَادِيَ عَشَرَ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُقَايِل فِيمَا بِيعَ مِنْ مَال
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 71، مطالب أولي النهى 3 / 504.
(2) مغني المحتاج 2 / 215.
(3) الفواكه الدواني 2 / 174.

(26/66)


الشَّرِكَةِ: سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ الْبَائِعَ أَمْ شَرِيكَهُ. لأَِنَّ الإِْقَالَةَ شِرَاءٌ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ يَمْلِكُ شِرَاءَ مَا بَاعَهُ، أَوْ بَاعَهُ شَرِيكُهُ (1) .
وَهَذَا أَيْضًا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَلَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الإِْقَالَةَ فَسْخٌ: عَلَى أَحَدِ احْتِمَالَيْنِ - اعْتِبَارًا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. إِلاَّ أَنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِالْمَصْلَحَةِ - كَمَا لَوْ خِيفَ عَجْزُ الْمُشْتَرِي عَنِ الْوَفَاءِ بِالثَّمَنِ، أَوْ تَبَيَّنَ وُقُوعُ غَبْنٍ عَلَى الشَّرِكَةِ (2) .
56 - ثَانِيَ عَشَرَ: لَيْسَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إِتْلاَفُ مَال الشَّرِكَةِ أَوِ التَّبَرُّعُ بِهِ: لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ التَّوَصُّل إِلَى الرِّبْحِ. فَمَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ إِذْنٌ صَرِيحٌ مِنَ الشَّرِيكِ الآْخَرِ، لاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَهَبَ، أَوْ يُقْرِضَ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ، قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا (3) . إِذِ الْهِبَةُ مَحْضُ تَبَرُّعٍ، وَالإِْقْرَاضُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً؛ لأَِنَّهُ إِعْطَاءُ الْمَال دُونَ تَنَجُّزِ عِوَضٍ فِي الْحَال. فَإِذَا فَعَل، فَلاَ جَوَازَ لِفِعْلِهِ عَلَى شَرِيكِهِ إِلاَّ بِإِذْنٍ صَرِيحٍ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ فِي حِصَّةِ نَفْسِهِ لاَ غَيْرُ.
57 - إِلاَّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ أَدْخَلُوا بَعْضَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ عَلَى امْتِنَاعِ الْهِبَةِ: إِذْ أَجَازُوهَا فِي اللَّحْمِ وَالْخُبْزِ وَالْفَاكِهَةِ، وَمَا يَجْرِي هَذَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 71.
(2) الخرشي على خليل 4 / 259، مطالب أولي النهى 3 / 503.
(3) رد المحتار 3 / 356.

(26/67)


الْمَجْرَى مِمَّا يَتَهَادَاهُ النَّاسُ، وَيَتَسَامَحُونَ فِيهِ. جَاءَ فِي الْهِنْدِيَّةِ: " لَهُ أَنْ يُهْدِيَ مِنْ مَال الْمُفَاوَضَةِ، وَيَتَّخِذَ دَعْوَةً مِنْهُ. وَلَمْ يُقَدَّرْ بِشَيْءٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْمُتَعَارَفِ: وَهُوَ مَا لاَ يَعُدُّهُ التُّجَّارُ سَرَفًا (1) ".
كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَمِدُوا طَرِيقَةَ أَبِي يُوسُفَ فِي عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ هِبَةِ الشَّرِيكِ الَّذِي تَوَلَّى الْبَيْعَ، لِثَمَنِ مَا بَاعَ. أَوْ إِبْرَائِهِ مِنْهُ، وَبَيْنَ هِبَةِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ أَوْ إِبْرَائِهِ. وَرَأَوْا خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى الْبَيْعَ، لَوْ وَهَبَ الْمُشْتَرِيَ ثَمَنَ مَا بَاعَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ، نَفَذَ عَلَى شَرِيكِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِحِصَّتِهِ، كَوَكِيل الْبَيْعِ إِذَا فَعَل ذَلِكَ حَيْثُ يَنْفُذُ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ مُوَكِّلُهُ (2) .
58 - وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا. إِلاَّ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ الإِْبْرَاءَ الْمَسْمُوحَ بِهِ بِكَوْنِهِ حَطًّا مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ، وَيُطْلِقُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَسْتَوِي أَنْ يَقَعَ مِنْ مُتَوَلِّي الْعَقْدِ أَوْ مِنَ الشَّرِيكِ الآْخَرِ. كَمَا أَنَّهُمْ يَضْبِطُونَ التَّبَرُّعَاتِ الْمَسْمُوحَ بِهَا لِلشَّرِيكِ عَلَى الْعُمُومِ بِمَا يُقِرُّهُ الْعُرْفُ وَفْقَ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْمَرْكَزِ الْمَالِيِّ لِلشَّرِكَةِ. وَهَذَا مَبْدَأٌ عَامٌّ يَنْتَظِمُ الْهَدَايَا،
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 312.
(2) فتح القدير 5 / 27، رد المحتار 3 / 355، 356.

(26/67)


وَالْمَآدِبَ، وَالْعَوَارِيَّ إِذَا اسْتَأْلَفَ النَّاسَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي التَّعَامُل مَعَ الشَّرِكَةِ. وَلِلْحَنَابِلَةِ نَحْوٌ مِنْهُ. إِلاَّ أَنَّهُمْ أَقَل تَوَسُّعًا فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَكْثَرُ تَقَيُّدًا بِمُرَاعَاةِ فَائِدَةِ الشَّرِكَةِ (1) .
59 - ثَالِثَ عَشَرَ: لَيْسَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَال الآْخَرِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ: لأَِنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَالزَّكَاةُ لَيْسَتْ مِنْهَا. ثُمَّ إِنَّهَا بِدُونِ إِذْنِ رَبِّ الْمَال لاَ تَقَعُ الْمَوْقِعَ، لِعَدَمِ صِحَّتِهَا بِدُونِ نِيَّةٍ، فَتُلْتَحَقُ بِالتَّبَرُّعَاتِ، وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِمَال شَرِيكِهِ. فَإِذَا أَذِنَ لَهُ شَرِيكُهُ فَذَاكَ (2) .
60 - رَابِعَ عَشَرَ: لَيْسَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَخْلِطَ مَال الشَّرِكَةِ بِمَالٍ لَهُ خَاصٍّ دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ: لأَِنَّ الْخَلْطَ يَسْتَتْبِعُ إِيجَابَ حُقُوقٍ، وَقُيُودًا عَلَى حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ. فَلاَ يُسَلَّطُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَيْهِ، لِئَلاَّ يَتَجَاوَزَ حُدُودَ مَا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْمَال نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
61 - تَنْبِيهٌ: الإِْذْنُ الْعَامُّ مِنَ الشَّرِيكِ - كَقَوْلِهِ لِشَرِيكِهِ: تَصَرَّفْ كَمَا تَرَى - يُغْنِي غَنَاءَ الإِْذْنِ الْخَاصِّ فِي كُل مَا هُوَ مِنْ قَبِيل مَا يَقَعُ فِي التِّجَارَةِ كَالرَّهْنِ وَالاِرْتِهَانِ وَالسَّفَرِ، وَالْخَلْطِ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 259، 260، بلغة السالك 2 / 168، 169، مطالب أولي النهى 3 / 595.
(2) رد المحتار 3 / 362.
(3) البدائع 6 / 69، ومطالب أولي النهى 3 / 506، 508.

(26/68)


بِالْمَال الْخَاصِّ، وَشَرِكَةِ الْمَال مَعَ أَجْنَبِيٍّ. فَمَنْ مَنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالإِْذْنِ، كَفَى فِيهِ عِنْدَهُ الإِْذْنُ الْعَامُّ.
وَلَكِنَّ هَذَا الإِْذْنَ الْعَامَّ لاَ غَنَاءَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْهِبَةِ، وَالْقَرْضِ، وَكُل مَا يُعَدُّ إِتْلاَفًا لِلْمَال، أَوْ تَمْلِيكًا لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. بَل لاَ بُدَّ مِنَ الإِْذْنِ الصَّرِيحِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، لِيَنْفُذَ عَلَى الشَّرِكَةِ. صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1)

أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ:
62 - تَتَلَخَّصُ هَذِهِ الأَْحْكَامُ فِي أَنَّ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ شَخْصٌ وَاحِدٌ حُكْمًا فِي أَحْكَامِ التِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا - وَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ حَقِيقَةً (2) وَالسِّرُّ فِي هَذَا، أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً وَكَفَالَةً، إِذْ كُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِيهَا وَكِيلٌ عَنِ الآْخَرِ فِيمَا يَجِبُ لَهُ، وَكَفِيلٌ عَنْهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ (3) . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الأَْصْل الْعَامِّ، فُرُوعٌ وَنَتَائِجُ شَتَّى:
63 - أَوَّلاً: كُل مَا اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ لِلشَّرِكَةِ إِلاَّ حَوَائِجَهُ وَحَوَائِجَ أَهْلِهِ الأَْسَاسِيَّةَ: أَمَّا أَنَّ كُل مَا اشْتَرَاهُ فَهُوَ لِلشَّرِكَةِ، فَذَلِكَ أَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي كُل مَا يَصِحُّ
__________
(1) رد المحتار 3 / 356، ونهاية المحتاج 5 / 10، مطالب أولي النهى 3 / 508، المغني لابن قدامة 5 / 132.
(2) بدائع الصنائع 6 / 73.
(3) رد المحتار 3 / 347.

(26/68)


الاِشْتِرَاكُ فِيهِ، وَتَدْخُلُهُ عُقُودُ التِّجَارَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ الإِْجَارَةُ؛ لأَِنَّهَا شِرَاءُ مَنْفَعَةٍ: فَمَا اسْتَأْجَرَهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ لِلشَّرِكَةِ أَيْضًا. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْحَوَائِجِ الأَْسَاسِيَّةِ؛ فَلأَِنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ بِاسْتِثْنَائِهَا. إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ تَبِعَةٌ تَقَعُ عَلَى عَاتِقِ كُل شَرِيكٍ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، دُونَ أَنْ يَتَحَمَّل مَعَهُ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ غُرْمًا، وَالْمَشْرُوطُ عُرْفًا، كَالْمَشْرُوطِ بِصَرِيحِ الْعِبَارَةِ. فَيَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَوَائِجِ الأَْسَاسِيَّةِ مُشْتَرِيهَا - وَإِنْ كَانَتْ، عِنْدَ غَضِّ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ الْقَرِينَةِ، مِمَّا يَنْتَظِمُهُ عَقْدُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، إِذْ هِيَ مِنْ نَوْعِ مَا يُتَّجَرُ فِيهِ، وَيَقْبَل الشَّرِكَةَ. وَمِنَ الْحَاجَاتِ الأَْسَاسِيَّةِ - وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلشَّرِكَةِ، إِذْ شِرَاءُ الْمَنَافِعِ مِمَّا يَقْبَلُهَا - بَيْتٌ يُسْتَأْجَرُ لِلسُّكْنَى، وَعَرَبَةٌ أَوْ سَفِينَةٌ أَوْ طَائِرَةٌ أَوْ دَابَّةٌ تُسْتَأْجَرُ لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمْل مِنْ أَجْل الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ: كَالْحَجِّ، وَقَضَاءِ وَقْتِ الإِْجَازَاتِ بَعِيدًا عَنِ الْعَمَل، وَحَمْل الأَْمْتِعَةِ الْخَاصَّةِ. وَفَرْقٌ آخَرُ فَإِنَّ الْحَاجَاتِ الأَْسَاسِيَّةَ يَتَحَمَّل مُشْتَرِيهَا ثَمَنَهَا كُلَّهُ، لِمَكَانِ اخْتِصَاصِهِ بِهَا - وَلِذَا، لَوْ أَدَّى ثَمَنَهَا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ كَانَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 9، رد المحتار 3 / 348، 349، بدائع الصنائع 6 / 73، 74.

(26/69)


لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ فِي هَذَا الثَّمَنِ.
64 - وَيَرَى مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ الْخَاصَّةَ بِهِ شَخْصِيًّا - مِنْ أَجْل طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَلِبَاسِهِ، وَتَنَقُّلاَتِهِ - تُلْغَى مُطْلَقًا، وَلاَ تَدْخُل فِي الْحِسَابِ إِذَا أَنْفَقَهَا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ. سَوَاءٌ تَسَاوَتْ حِصَّتَا الشَّرِيكَيْنِ، وَنَفَقَاتُهُمَا، وَسِعْرُ بَلَدَيْهِمَا - إِنِ اخْتَلَفَا - أَمْ لاَ. ثُمَّ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهَا نَفَقَاتٌ يَسِيرَةٌ عَادَةً، أَوْ دَاخِلَةٌ فِي التِّجَارَةِ (1) .
أَمَّا نَفَقَةُ أُسْرَةِ الشَّرِيكِ فَيُشْتَرَطُ لإِِلْغَاءِ حِسَابِهَا أَنْ تَتَقَارَبَ الأُْسْرَتَانِ عَدَدَ أَفْرَادٍ، وَمُسْتَوًى اجْتِمَاعِيًّا، وَإِلاَّ دَخَلَتْ فِي الْحِسَابِ: فَأَيُّهُمَا أَخَذَ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ فَوْقَ نِسْبَةِ حِصَّتِهِ، رَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِحِصَّتِهِ فِيمَا أَنْفَقَ (2) وَالشَّرِيكُ الْمُفَاوِضُ مُصَدَّقٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ. فِيمَا يَلِيقُ، مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسْوَةِ، دُونَ سَائِرِ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ (3) .

إِقْرَارُ الشَّرِيكِ بِدَيْنٍ عَلَى شَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ
65 - ثَانِيًا: مَا لَزِمَ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمُفَاوَضَةِ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ، أَوْ مَا يَجْرِي
__________
(1) الخرشي على خليل وحواشيه 4 / 264.
(2) الخرشي على خليل 4 / 264، بلغة السالك 2 / 170، 171.
(3) بلغة السالك 2 / 171.

(26/69)


مَجْرَاهَا. يَلْزَمُ الآْخَرَ، وَيَكْفِي إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ لُزُومُهُ لِلْمُقِرِّ بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، ثُمَّ لُزُومُهُ لِشَرِيكِهِ بِمُقْتَضَى كَفَالَتِهِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
66 - وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالإِْقْرَارِ بِالدَّيْنِ أَثْنَاءَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ. أَمَّا فِي الإِْقْرَارِ بِعَيْنٍ - كَوَدِيعَةٍ وَرَهْنٍ - أَوْ بِدَيْنٍ لَكِنْ بَعْدَ انْتِهَاءِ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْمُقِرَّ حِصَّتُهُ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ الدَّيْنِ: ثُمَّ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مُجَرَّدُ شَاهِدٍ. وَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ هَذَا الشَّاهِدِ، وَيَسْتَحِقُّ حِصَّةَ الشَّرِيكِ أَيْضًا (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ، قَوْلٌ بِقَبُول إِقْرَارِ الشَّرِيكِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى الشَّرِكَةِ، مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَهُ فَيَجِيءُ بِالأَْوْلَى فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ (3) .
67 - ثَالِثًا: حُقُوقُ الْعَقْدِ الَّذِي يَتَوَلاَّهُ أَحَدُهُمَا فِي مَال الشَّرِكَةِ، مُسْتَوِيَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا. بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْمُفَاوَضَةِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 72، والفتاوى الهندية 2 / 309، ورد المحتار 3 / 349، مجمع الأنهر 2 / 188.
(2) الخرشي على خليل 4 / 263.
(3) الفروع 2 / 726
(4) الخرشي على خليل 4 / 261، 262.

(26/70)


مِثَال ذَلِكَ: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ (1) ، وَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، وَقَبْضُهُمَا وَإِقْبَاضُهُمَا: سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمَا أَمْ عَلَيْهِمَا. فَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا لِلشَّرِكَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يُمَارِسَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ، لِقِيَامِ سَبَبِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، بَل لِشَرِيكِهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الشِّرَاءِ (2) .
وَالَّذِي يَشْتَرِي سِلْعَةً مِنْ سِلَعِ الشَّرِكَةِ ثُمَّ يَجِدُ بِهَا عَيْبًا، يَكُونُ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى أَيِّ الشَّرِيكَيْنِ شَاءَ، وَإِذَا اسْتَحَقَّتْ عِنْدَهُ لآِخَرَ - كَأَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ أَوْ مَسْرُوقَةٌ - كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِثَمَنِهَا، الَّذِي دَفَعَهُ، أَيَّهُمَا شَاءَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ عَقْدَ الْبَيْعِ، أَوْ تَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ. كَمَا أَنَّ لَهُ عِنْدَ بِدَايَةِ الصَّفْقَةِ أَنْ يُطَالِبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا بِتَسْلِيمِ السِّلْعَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي بَاعَهَا. وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَيَقُومَ بِالتَّسْلِيمِ الْمَطْلُوبِ، أَوْ يَقْبِضَهُ أَحَدُهُمَا وَيُسَلِّمَ الآْخَرُ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَمَّا لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ أَشْيَائِهِ الْخَاصَّةِ وَآجَرَهُ، فَحُقُوقُ الْعَقْدِ خَاصَّةٌ بِهِ. فَلَيْسَ لِلَّذِي
__________
(1) حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 209، مطالب أولي النهى 3 / 553، بلغة السالك 2 / 168.
(2) فتح القدير 5 / 26.

(26/70)


يَشْتَرِي مِنْهُ مَثَلاً أَنْ يُطَالِبَ شَرِيكَهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَلاَ لِهَذَا الشَّرِيكِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ (1) .
68 - رَابِعًا: تَصَرُّفُ الْمُفَاوِضِ نَافِذٌ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ فِي كُل مَا يَعُودُ عَلَى مَال الشَّرِكَةِ نَفْعُهُ: سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَعْمَال التِّجَارَةِ وَمُلْحَقَاتِهَا أَمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْحُكْمُ مَوْضِعُ وِفَاقٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْمُفَاوَضَةِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ كُل تَصَرُّفٍ يُجَافِي الْمَصْلَحَةَ يَقُومُ بِهِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، بِلاَ إِذْنٍ سَابِقٍ مِنْ شَرِيكِهِ، يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى الشَّرِكَةِ، عَلَى إِجَازَتِهِ اللاَّحِقَةِ. فَإِنْ لَمْ يُجِزْ، نَفَذَ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ وَحْدَهُ، وَضَمِنَ حَقَّ شَرِيكِهِ. فَلَوْ أَنَّهُ مَثَلاً وَلَّى بِأَصْل الثَّمَنِ شَخْصًا أَجْنَبِيًّا صَفْقَةً عَقَدَهَا هُوَ أَوْ شَرِيكُهُ يُقَدَّرُ رِبْحُهَا بِخَمْسِينَ فِي الْمِائَةِ: فَإِنَّ شَرِيكَهُ إِنْ لَمْ يُجِزْهُ، يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ بِالْمِائَةِ - إِنْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ بِالنِّصْفِ - لأَِنَّ الْمُحَابَاةَ كَالتَّبَرُّعِ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ إِلَى هَذِهِ الْمُحَابَاةِ تَأَلُّفَ عَمِيلٍ ذِي خَطَرٍ لِمُصْلِحَةِ الشَّرِكَةِ (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 310.
(2) بدائع الصنائع 6 / 72، 73، رد المحتار 3 / 356، والفواكه الدواني 2 / 174، والخرشي على خليل وحواشيه 4 / 259.

(26/71)


69 - خَامِسًا: بَيْعُ الْمُفَاوِضِ مِمَّنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ صَحِيحٌ نَافِذٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْ عَلَى الشَّرِكَةِ. وَلاَ تَأْثِيرَ هُنَا لِتُهْمَةِ الْمُحَابَاةِ؛ لأَِنَّ الْمُتَفَاوِضِينَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ. بِخِلاَفِ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ، فَإِنَّ غَايَتَهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنِ الآْخَرِ - وَمَوَاضِعُ التُّهْمَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْوَكَالاَتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلاَّ إِذَا قِيل لِلْوَكِيل: عَامِل مَنْ شِئْتَ، فَيَصِحُّ التَّعَامُل بِمِثْل الْقِيمَةِ. وَيَكْتَفِي الصَّاحِبَانِ بِإِيجَابِ مِثْل الْقِيمَةِ لِتَصْحِيحِ التَّعَامُل الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ، بِكُل حَالٍ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ يَنْفُذُ بِلاَ إِذْنِ شَرِيكِهِ إِذَا كَانَ فِي حُدُودِ مَصْلَحَةِ الشَّرِكَةِ فَلاَ بَأْسَ لَدَيْهِمْ إِذَنْ بِالْبَيْعِ فِي مَوْضِعِ تُهْمَةِ الْمُحَابَاةِ. مَا دَامَتِ الْمُحَابَاةُ لَمْ تَثْبُتْ فِعْلاً (2) .

مُشَارَكَةُ الْمُفَاوِضِ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ
70 - لِلْمُفَاوِضِ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عَنَانٍ: وَيَنْفُذَ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ، أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ. لأَِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ دُونَ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، فَلاَ مَحْذُورَ فِي أَنْ تَصِحَّ فِي ضِمْنِهَا، وَتَقَعُ تَبَعًا لَهَا - كَمَا صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ تَبَعًا لِلشَّرِكَةِ مُطْلَقًا: بِأَنْ يُضَارِبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ثَالِثًا
__________
(1) رد المحتار 3 / 356، مجمع الأنهر 2 / 225، الأتاسي على المجلة 4 / 297.
(2) الفواكه الدواني 2 / 174.

(26/71)


بِمَال الشَّرِكَةِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ.
وَمُقْتَضَى تَعْلِيلِهِ هَذَا أَنْ لاَ تَصِحَّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ تَبَعًا لِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ: أَيْ أَلاَّ يَصِحَّ لأَِحَدِ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ - بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ - أَنْ يُفَاوِضَ ثَالِثًا؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ (1) . وَاعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ - إِلاَّ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا عَدَمَ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ مِنَ الْمُفَاوِضِ بِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَنَانًا، وَمَا يَخُصُّ الَّذِي أَحْدَثَهَا - وَلَوْ مَعَ مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ - مِنْ رِبْحِهَا، يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ الأَْوَّل (2) .
وَلَمْ يَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُفَاوِضَ الْمُفَاوِضُ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَلَمْ يَجْعَل لِلْمُفَاوِضِ أَنْ يُفَاوِضَ، وَلاَ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عَنَانٍ؛ لأَِنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا تَغْيِيرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الَّذِي تَمَّتْ بِهِ الشَّرِكَةُ الأُْولَى - إِذْ يُوجِبُ لِلشَّرِيكِ الْجَدِيدِ حَقًّا فِي مَال الشَّرِكَةِ لَمْ يَكُنْ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بِدُونِ تَرَاضِي الشُّرَكَاءِ (3) .
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ وِفَاقُ أَبِي حَنِيفَةَ (4) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا لِلْمُفَاوِضِ أَنْ يُفَاوِضَ، أَوْ يَعْقِدَ أَيَّةَ شَرِكَةٍ أُخْرَى - فِي
__________
(1) فتح القدير 5 / 26، بدائع الصنائع 6 / 74.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 313، رد المحتار 3 / 356.
(3) بدائع الصنائع 6 / 74، فتح القدير 5 / 27.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 506.

(26/72)


بَعْضِ مَال الشَّرِكَةِ، لاَ فِي جَمِيعِهِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَعْضُ عَلَى التَّعْيِينِ لاَ عَلَى الشُّيُوعِ: كَمَا لَوْ أَفْرَدَ مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ، وَجَاءَ الأَْجْنَبِيُّ بِمِائَةِ دِينَارٍ مِثْلِهَا، وَجَعَلاَ يَتَّجِرَانِ فِي الْمِائَتَيْنِ جَمِيعًا، وَلاَ شَأْنَ لِهَذَا الأَْجْنَبِيِّ بِسَائِرِ مَال الشَّرِكَةِ الأُْولَى (1) .

أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الْعَنَانِ:
71 - أَوَّلاً - لَيْسَ كُل مَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَكُونُ لِلشَّرِكَةِ: لأَِنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي لَيْسَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ مَال الشَّرِكَةِ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا شَيْئًا مَا بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ. بَل يَكُونُ مَا يَشْتَرِيهِ حِينَئِذٍ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ خَارِجَ الشَّرِكَةِ. وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّرِكَةِ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الاِسْتِدَانَةِ، وَاسْتِدَانَةُ شَرِيكِ الْعَنَانِ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَجَاوُزِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَال الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ (2) .
كَذَلِكَ الشَّرِيكُ الَّذِي كُل مَا بِيَدِهِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ عُرُوضٌ (غَيْرُ نَقْدٍ) أَوْ مَعَهَا نَاضٌّ لاَ يَفِي بِالثَّمَنِ، لاَ تَمْضِي لِلشَّرِكَةِ صَفْقَتُهُ الْمُشْتَرَاةُ بِالنَّقْدِ (أَعْنِي الأَْثْمَانَ) وَأَيْضًا الشَّرِيكُ الَّذِي يَشْتَرِي لِلشَّرِكَةِ نَوْعًا آخَرَ غَيْرَ النَّوْعِ الَّذِي انْحَصَرَتْ فِيهِ تِجَارَةُ الشَّرِكَةِ
__________
(1) الخرشي على خليل وحواشيه 4 / 259.
(2) بدائع الصنائع 6 / 68، 72، رد المحتار 3 / 355.

(26/72)


بِمُقْتَضَى عَقْدِهَا - لاَ يَكُونُ لِلشَّرِكَةِ شَيْءٌ مِمَّا اشْتَرَاهُ: كَالَّذِي يَشْتَرِي أُرْزًا، وَتِجَارَةُ الشَّرِكَةِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْقُطْنِ، أَوْ بِالْعَكْسِ (1) .
وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ شَرِيكُ الْعَنَانِ (2) بِلاَ إِذْنٍ خَاصٍّ مِنْ شَرِيكِهِ لاَ يَكُونُ لِلشَّرِكَةِ إِلاَّ بِثَلاَثِ شَرَائِطَ (3) :
(1) أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ مَا يَكْفِي لِسَدَادِ ثَمَنِ مَا اشْتَرَاهُ.
(2) أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي بِيَدِهِ نَاضًّا، لاَ عُرُوضًا، إِذَا اشْتَرَى بِنُقُودٍ.
(3) أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ جِنْسِ تِجَارَةِ الشَّرِكَةِ. وَيُؤْخَذُ مِمَّا أَسْلَفْنَا شَرِيطَةٌ رَابِعَةٌ.
(4) أَنْ لاَ يَكُونَ شَرِيكُهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ صَرَاحَةً فِي الاِخْتِصَاصِ بِالسِّلْعَةِ.
فَإِذَا تَوَافَرَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الأَْرْبَعُ، وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلشَّرِكَةِ، وَلَوِ ادَّعَى الشَّرِيكُ أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، أَوْ حَتَّى أَشْهَدَ بِذَلِكَ عِنْدَ شِرَائِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 68، رد المحتار 3 / 353، 362.
(2) في بعض ما نقلوه في الهندية - وهم لا يبالون بحكاية المتناقضات - دون تنبيه - مخالفة لهذا التخصيص، لا يعول عليها 2 / 311، ففي الخانية التصريح بافتراق المفاوضة والعنان هنا، رد المحتار 3 / 355.
(3) الظاهر أن الذي لا يكون للشركة، هو ما زاد عما بيده من ناض مال الشركة، أما الباقي فلها، وقد استظهر ابن عابدين مثله في المضاربة، رد المحتار 4 / 507.

(26/73)


الْوَكَالَةِ دُونَ عِلْمِ شَرِيكِهِ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
72 - وَلاَ تُوجَدُ مِثْل هَذِهِ الشَّرَائِطِ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، عَدَا قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ، هُنَا وَفِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، يَرْفُضُ ادِّعَاءَ الشَّرِيكِ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ - وَلَكِنَّهُمُ اعْتَمَدُوا فِيهِمَا تَصْدِيقَهُ بِيَمِينِهِ (2) وَهُوَ فِي الْعَنَانِ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ (3) وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ أَمِينٌ يَدَّعِي مُمْكِنًا لاَ يُعْلَمُ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَوْلاَ إِمْكَانُ تَصْرِيحِهِ بِنِيَّتِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَالإِْشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ، لَصُدِّقَ بِلاَ يَمِينٍ، بَل عِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ - وَلَوْ رَابِحًا، وَفِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِلشَّرِكَةِ - وَلَوْ خَاسِرًا. إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ عِنْدَهُمْ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِلشَّرِكَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ حِصَّتَهُ وَحْدَهَا بِعَيْبٍ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، فَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ. نَعَمْ إِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِلشَّرِكَةِ، كَانَ لَهُ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَرَدُّ حِصَّتِهِ وَحْدَهَا؛ لأَِنَّهُ - بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا - أَصِيلٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى حِصَّةِ شَرِيكِهِ وَكِيلٌ، فَكَانَ عَقْدُهُ الْوَاحِدُ بِمَثَابَةِ عَقْدَيْنِ (4) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) رد المحتار 3 / 353.
(2) الفروع 2 / 729.
(3) مغني المحتاج 2 / 216.
(4) البجيرمي على المنهج 3 / 46، مغني المحتاج 2 / 216.

(26/73)


فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ الشَّرِيكَ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فِي الشَّرِكَاتِ عَدَا شَرِكَةِ الْجَبْرِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَإِنَّمَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ - وَقَصَرُوهُ فِيهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِالشَّرِيكِ وَأَهْلِهِ: مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ، دُونَ سَائِرِ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ (1) .
73 - ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي يَلْزَمُ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لاَ يُؤْخَذُ بِهِ الآْخَرُ: لأَِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ تَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ لاَ غَيْرُ، إِلاَّ إِذَا صُرِّحَ فِيهَا بِالتَّضَامُنِ - كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْخَانِيَّةِ، وَإِنْ اسْتَظْهَرَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ بُطْلاَنَ الْكَفَالَةِ حِينَئِذٍ؛ لأَِنَّهَا كَفَالَةٌ لِمَجْهُولٍ، وَالْكَفَالَةُ الصَّرِيحَةُ لاَ تَصِحُّ لَهُ (2) .
74 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ قَبُول إِقْرَارِ شَرِيكِ الْعَنَانِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ عَلَى الشَّرِكَةِ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ لاَ غَيْرُ، وَالإِْقْرَارُ لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ - وَإِنَّمَا يُقْبَل عَلَى نَفْسِهِ فِي حِصَّتِهِ هُوَ وَحْدَهُ (3) . هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَال بِيَدِهِ أَوْ لاَ - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، كَثَمَنِ شَيْءٍ اشْتُرِيَ لِلشَّرِكَةِ، وَكَأُجْرَةِ دَلاَّلٍ وَحَمَّالٍ وَمُخَزِّنٍ وَحَارِسٍ، لأَِنَّهُ إِذْنٌ كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَوْ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 171.
(2) فتح القدير 5 / 209، رد المحتار 3 / 351، 356، 363.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 131، مطالب أولي النهى 3 / 50.

(26/74)


إِقْبَاضِ الثَّمَنِ. وَهَذَا التَّفْصِيل - لَيْسَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ رُبَّمَا لِلإِْجَابَةِ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ - فِي ذَهَابِهِ إِلَى قَبُول إِقْرَارِ الشَّرِيكِ عَلَى الشَّرِكَةِ مُطْلَقًا - إِذْ يَقُول: " إِنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلاَ يُسَلِّمَ الثَّمَنَ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِالثَّمَنِ لَضَاعَتْ أَمْوَال النَّاسِ، وَامْتَنَعُوا مِنْ مُعَامَلَتِهِ " وَحَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ، وَقَال إِنَّهُ الصَّوَابُ (1) .
75 - ثَالِثًا - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ الَّذِي يَتَوَلاَّهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، قَاصِرَةٌ عَلَيْهِ: لأَِنَّهُ مَا دَامَ الْفَرْضُ أَنْ لاَ كَفَالَةَ، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْعَاقِدِ. فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ أَوْ آجَرَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الثَّمَنَ أَوِ الأُْجْرَةَ، وَيُطَالِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَيُخَاصِمُ عِنْدَ الْخِلاَفِ: فَتُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ يُقِيمُهَا. وَتُطْلَبُ مِنْهُ الْيَمِينُ أَوْ يَطْلُبُهَا. أَمَّا شَرِيكُهُ فَهُوَ وَالأَْجْنَبِيُّ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْحُقُوقِ: لَيْسَ لَهُ وَلاَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَكَذَلِكَ فِي حَالَةِ مَا إِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا لِلشَّرِكَةِ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ: فَإِنَّهُ، دُونَ شَرِيكِهِ، هُوَ الَّذِي تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ أَوِ الأُْجْرَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُطَالِبُ
__________
(1) الشرح الكبير 5 / 124، الإنصاف 5 / 421.

(26/74)


بِالتَّسْلِيمِ وَيَتَوَلَّى الْقَبْضَ، وَتَقَعُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ لَهُ وَعَلَيْهِ. ثُمَّ إِذَا دَفَعَ مِنْ مَال نَفْسِهِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ فِيمَا دَفَعَ؛ لأَِنَّهُ وَكِيل هَذَا الشَّرِيكِ فِيمَا يَخُصُّهُ مِنَ الصَّفْقَةِ.
وَهَكَذَا عِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَعِنْدَ الرُّجُوعِ بِالاِسْتِحْقَاقِ: إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّذِي تَوَلَّى الْعَقْدَ أَوْ عَلَيْهِ. وَلاَ شَأْنَ لِلشَّرِيكِ الآْخَرِ فِيهِ (1) .
76 - وَالرَّهْنُ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ، وَالاِرْتِهَانُ بِهِ، مِنْ تَوَابِعِ حُقُوقِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ بِمَثَابَةِ الإِْقْبَاضِ، وَالاِرْتِهَانَ بِمَثَابَةِ الْقَبْضِ. فَبِدُونِ إِذْنِ الْعَاقِدِ - كَالْمُشْتَرِي فِي حَالَةِ الرَّهْنِ، وَالْبَائِعِ فِي حَالَةِ الاِرْتِهَانِ - لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَرْهَنَ أَوْ يَرْتَهِنَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ شَارَكَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَوْجَبَ الدَّيْنَ. ذَلِكَ لأَِنَّ فِي الرَّهْنِ تَوْفِيَةَ دَيْنِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ مِنْ مَالِهِ - إِذْ فَرْضُ الْكَلاَمِ فِي رَهْنِ عَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الشَّرِكَةِ - وَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ مَال ذَلِكَ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَفِي الاِرْتِهَانِ اسْتِيفَاءُ حِصَّةِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ بِمُقْتَضَى عَقْدِهِ هُوَ - اسْتِقْلاَلاً أَوْ مُشَارَكَةً - وَذَلِكَ لاَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ بِدُونِ إِذْنِهِ أَيْضًا (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنْ لَيْسَ لأَِحَدِ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِفِعْل شَيْءٍ فِي الشَّرِكَةِ إِلاَّ
__________
(1) فتح القدير 5 / 22، رد المحتار 3 / 353.
(2) بدائع الصنائع 6 / 70.

(26/75)


بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَمَعْرِفَتِهِ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: " وَلَهُ (أَيْ: لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ) أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ، وَيَقْبِضَهُمَا، وَيُخَاصِمَ فِي الدَّيْنِ، وَيُطَالِبَ بِهِ، وَيُحِيل وَيَحْتَال، وَيَرُدَّ بِالْعَيْبِ: فِيمَا وَلِيَهُ هُوَ، وَفِيمَا وَلِيَ صَاحِبُهُ. . لأَِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لاَ تَخُصُّ الْعَاقِدَ ". (2)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ انْفِرَادِ أَحَدِ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ (3) .
77 - مَا يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ شَرِيكِ الْعَنَانِ عَلَى شَرِيكِهِ:
رَابِعًا - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نَفَاذَ تَصَرُّفِ شَرِيكِ الْعَنَانِ عَلَى شَرِيكِهِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ: فَإِذَا غَصَبَ شَرِيكُ الْعَنَانِ شَيْئًا أَوْ أَتْلَفَهُ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِضَمَانِهِ، وَلاَ يَشْرَكُهُ فِيهِ شَرِيكُهُ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِلشَّرِكَةِ - شِرَاءً صَحِيحًا - وَهُوَ يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي شِرَائِهِ بِمُقْتَضَى عَقْدِهَا، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى شَرِيكِهِ: وَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى هَذَا الشَّرِيكِ بِحِصَّتِهِ فِي الثَّمَنِ لَوْ أَدَّاهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ. بَل لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ فَاسِدًا، فَتَلِفَ عِنْدَهُ مَا اشْتَرَاهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَحَمَّل ضَمَانَهُ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 265.
(2) المغني 5 / 129، 130.
(3) مغني المحتاج 2 / 215، نهاية المحتاج 5 / 10.

(26/75)


وَحْدَهُ، بَل يَشْرَكُهُ فِيهِ شَرِيكُهُ، عَلَى النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي رَأْسِ مَال تِجَارَتِهِمَا.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي، لِنَفَاذِ تَصَرُّفِ شَرِيكِ الْعَنَانِ عَلَى شَرِيكِهِ بِعَوْدِ نَفْعِهِ عَلَى مَال الشَّرِكَةِ، كَشَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ: أَنَّ الْعَارِيَّةَ يَسْتَعِيرُهَا أَحَدُ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ الْخَاصَّةِ - كَحَمْل طَعَامِ أَهْلِهِ - تَكُونُ خَاصَّةً بِهِ (1) . فَيَضْمَنُ شَرِيكُهُ لَوِ اسْتَعْمَلَهَا. بِخِلاَفِ مَا لَوِ اسْتَعَارَهَا مِنْ أَجْل الشَّرِكَةِ - كَحَمْل سِلْعَةٍ مِنْ سِلَعِهَا - فَإِنَّهَا تَكُونُ عَارِيَّةً مُشْتَرَكَةً، كَمَا لَوْ كَانَا اسْتَعَارَاهَا مَعًا: حَتَّى لَوْ حَمَل عَلَيْهَا الآْخَرُ مِثْل تِلْكَ السِّلْعَةِ فَتَلِفَتْ، فَلاَ ضَمَانَ (2) .

78 - بَيْعُ شَرِيكِ الْعَنَانِ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل:
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَ لاَ يَبِيعُ وَلاَ يَشْتَرِي بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ. فَإِنْ فَعَل صَحَّ الْعَقْدُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَلِلْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعِ الْخِيَارُ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ قَدِ اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، وَيَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً،
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 326، وبدائع الصنائع 6 / 74، رد المحتار 3 / 356.
(2) الخرشي على خليل 4 / 260، بلغة السالك 2 / 165، المهذب 1 / 353، ومطالب أولي النهى 3 / 502، والمغني لابن قدامة 5 / 130.

(26/76)


لاَ لِلشَّرِكَةِ (1) . وَقَالُوا لَيْسَ لِلشَّرِيكِ الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْل إِذَا كَانَ ثَمَّ رَاغِبٌ بِأَكْثَرَ - حَتَّى إِنَّهُ لَوْ بَاعَ فِعْلاً، ثُمَّ ظَهَرَ هَذَا الرَّاغِبُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَإِلاَّ انْفَسَخَ تِلْقَائِيًّا (2) .

79 - مُشَارَكَةُ شَرِيكِ الْعَنَانِ لِغَيْرِ شَرِيكِهِ:
لَيْسَ لأَِحَدِ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ أَنْ يُشَارِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ: لاَ مُفَاوَضَةً وَلاَ عَنَانًا. لأَِنَّ الشَّيْءَ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ. لَكِنَّهُ إِذَا كَانَ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يُشَارِكَ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّل: فَإِذَا شَارَكَ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ، وَلَكِنْ لاَ يَلْزَمُ مِنْ بُطْلاَنِ الشَّرِكَةِ بُطْلاَنُ الْوَكَالَةِ الَّتِي فِي ضِمْنِهَا، إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنْ بُطْلاَنِ الأَْخَصِّ بُطْلاَنُ الأَْعَمِّ. هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
80 - وَكَلاَمُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَامٌّ فِي مَنْعِ دَفْعِ شَيْءٍ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ لِيَعْمَل فِيهِ، دُونَ إِذْنِ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ - وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خِدْمَةً لِلشَّرِكَةِ وَلَوْ بِلاَ مُقَابِلٍ: وَهُوَ الإِْبْضَاعُ؛ لأَِنَّ الرِّضَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ إِنَّمَا وَقَعَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 215.
(2) نهاية المحتاج 6 / 8.
(3) كذا قالوا: ويلوح في تعليله: أنه أصيل في نصف ما صار بيده من ماله ومال الشركة، وكيل في نصفه الآخر، وعبارات الكتب لا تكاد تختلف، وينقصها الوضوح. وانظر بدائع الصنائع 6 / 69، والفتاوى الهندية 2 / 322.

(26/76)


قَاصِرًا عَلَى يَدِ الشَّرِيكِ وَتَصَرُّفِهِ هُوَ، دُونَ تَصَرُّفِ أَحَدٍ سِوَاهُ (1) . فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ وَيُحِل غَيْرَهُ مَحَلَّهُ.

أَحْكَامُ شَرِكَتَيِ الأَْعْمَال وَالْوُجُوهِ:
81 - هَاتَانِ الشَّرِكَتَانِ لاَ تَخْرُجَانِ عَنْ أَنْ تَكُونَا مُفَاوَضَةً أَوْ عَنَانًا. فَتُطَبَّقُ فِيهِمَا أَحْكَامُ الْمُفَاوَضَةِ فِي الأَْمْوَال - إِنْ كَانَتَا مِنْ قَبِيل الْمُفَاوَضَةِ، وَأَحْكَامُ الْعَنَانِ فِي الأَْمْوَال - إِنْ كَانَتَا مِنْ قَبِيل الْعَنَانِ. وَإِذَا أُطْلِقَتْ أَيَّتُهُمَا فَهِيَ عَنَانٌ، كَمَا هُوَ الأَْصْل دَائِمًا (2) .
إِلاَّ أَنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ فِي الأَْعْمَال تَأْخُذُ دَائِمًا حُكْمَ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: تَقَبُّل أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مُلْزِمٌ لَهُمَا عَلَى التَّضَامُنِ كَمَا لَوْ كَانَا شَخْصًا وَاحِدًا - وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ أَحَدًا مِنْهُمَا أَنْ يَعْمَل بِنَفْسِهِ، مَا لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ صَاحِبُ الْعَمَل. فَبِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ يَسْتَوِي أَنْ يَعْمَلَهُ هُوَ، أَوْ يَعْمَلَهُ شَرِيكُهُ، أَوْ غَيْرُهُمَا - كَأَنْ يَسْتَأْجِرَا، هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا، مَنْ يَقُومُ بِهِ. إِذِ الْمَشْرُوطُ مُطْلَقُ الْعَمَل (3) أَمَّا مَعَ هَذَا الشَّرْطِ مِنْ صَاحِبِ الْعَمَل فَيُتْبَعُ الشَّرْطُ، لَكِنْ تَظَل الْمَسْأَلَةُ كَمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ إِلْزَامُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 9، المغني لابن قدامة 5 / 132، مطالب أولي النهى 3 / 506.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 329.
(3) فتح القدير 5 / 28.

(26/77)


التَّضَامُنِ: فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لاَ يُعْفِي مَنْ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، بِحُكْمِ الضَّمَانِ. نَعَمْ هُوَ يُفِيدُ تَقْيِيدَ حَقِّ مُطَالَبَتِهِ - مَا دَامَ لَيْسَ هُوَ الْمُتَقَبِّل - بِمُدَّةِ اسْتِمْرَارِ الشَّرِكَةِ، وَأَمَّا إِذَا خَلاَ التَّقَبُّل مِنْ هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَسْتَمِرُّ بَعْدَ انْحِلاَل الشَّرِكَةِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الأَْصْل أَنَّ:
(1) لِصَاحِبِ الْعَمَل أَنْ يُطَالِبَ بِهِ كَامِلاً أَيَّ الشَّرِيكَيْنِ شَاءَ.
(2) لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَ الْعَمَل بِالأُْجْرَةِ كَامِلَةً.
(3) تَبْرَأُ ذِمَّةُ صَاحِبِ الْعَمَل مِنَ الأُْجْرَةِ بِدَفْعِهَا إِلَى أَيِّ الشَّرِيكَيْنِ شَاءَ. وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا تَلِفَ، أَوْ تَعَيَّبَ، مِمَّا يَعْمَل فِيهِ الشَّرِيكَانِ، بِسَبَبِ أَحَدِهِمَا - فَضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا. وَلِصَاحِبِ الْعَمَل أَنْ يُطَالِبَ بِهَذَا الضَّمَانِ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الضَّمَانَ الْمُشْتَرَكَ مُقَيَّدٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 330، وبدائع الصنائع 6 / 76، رد المحتار 3 / 359، والخرشي على خليل 4 / 269، 270، بلغة السالك 2 / 173، مطالب أولي النهى، 3 / 547.
(2) بدائع الصنائع 6 / 76، الفتاوى الهندية 2 / 329، المغني لابن قدامة 5 / 114، مطالب أولي النهى 3 / 547، الخرشي على خليل 4 / 269، 270، بلغة السالك 2 / 173.

(26/77)


بِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطِ الْمُتَسَبِّبِ فِيهِ، وَإِلاَّ اقْتَصَرَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ (1) .
82 - أَمَّا فِيمَا عَدَا هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَعَنَانُ شَرِكَةِ الأَْعْمَال كَعَنَانِ غَيْرِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِذَا يَنُصُّونَ عَلَى اخْتِلاَفِ حُكْمِ الإِْقْرَارِ فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال بِاخْتِلاَفِ نَوْعَيْهَا مِنْ مُفَاوَضَةٍ وَعَنَانٍ. ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ شَرِيكُ الأَْعْمَال بِدَيْنٍ مَا مِنْ ثَمَنِ شَيْءٍ مُسْتَهْلَكٍ - كَصَابُونٍ أَوْ أَيِّ مُنَظِّفٍ آخَرَ أَوْ غَيْرِ مُنَظِّفٍ - أَوْ مِنْ أَجْرِ عُمَّالٍ أَوْ أُجْرَةِ دُكَّانٍ عَنْ مُدَّةٍ مَضَتْ، وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى شَرِيكِهِ إِذَا كَانَتْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، وَلاَ يُصَدَّقُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ إِذَا كَانَتْ شَرِكَةَ عَنَانٍ. ذَلِكَ أَنَّ الْمُقِرَّ يَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ، ثُمَّ لاَ يُؤْخَذُ شَرِيكُهُ بِهَذَا الإِْقْرَارِ إِلاَّ إِذَا كَانَ كَفِيلاً لَهُ: وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْمُفَاوَضَةِ، وَلاَ كَفَالَةَ فِي الْعَنَانِ، إِذَا أُطْلِقَتْ عَنِ التَّقْيِيدِ بِهَا. أَمَّا الإِْقْرَارُ بِالدَّيْنِ قَبْل اسْتِهْلاَكِ الْمَبِيعِ أَوْ قَبْل انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ، فَمَاضٍ عَلَى الشَّرِكَةِ بِإِطْلاَقٍ لاَ فَرْقَ بَيْنَ عَنَانٍ وَمُفَاوَضَةٍ.
كَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ شَيْئًا مِمَّا يَعْمَلاَنِ فِيهِ، كَثَوْبٍ، فَأَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَ الآْخَرُ - لاَ يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ عَلَى صَاحِبِهِ إِلاَّ فِي الْمُفَاوَضَةِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ الَّذِي تَرَكَ هُنَا الْقِيَاسَ إِلَى الاِسْتِحْسَانِ وَقَال: إِنَّ إِقْرَارَهُ مَاضٍ عَلَى
__________
(1) المغني 5 / 114.

(26/78)


الشَّرِكَةِ فِي الْعَنَانِ أَيْضًا، إِلْحَاقًا لَهَا بِالْمُفَاوَضَةِ فِي مَحَل الْعَمَل، كَمَا أُلْحِقَتْ بِهَا فِي التَّضَامُنِ وَالأُْجْرَةِ (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: فِي شَرِيكَيِ الأَْعْمَال: إِنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ (2) . فَمُقْتَضَى هَذَا الأَْصْل الْعَامِّ قَبُول أَقَارِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَنَفَاذُهَا عَلَيْهِمَا بِإِطْلاَقٍ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ عَنَانٍ وَمُفَاوَضَةٍ، وَلاَ بَيْنَ دَيْنٍ وَعَيْنٍ، وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَإِنَّمَا يُمْضُونَ عَلَيْهِمَا إِقْرَارَ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ؛ لأَِنَّ الْيَدَ لَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لاِنْتِفَاءِ الْيَدِ (3) .

قِسْمَةُ الْكَسْبِ بَيْنَ شَرِيكَيِ الْعَمَل وَتَحَمُّلُهُمَا الْخَسَارَةَ:
83 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ كَسْبَ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَا شَرَطَا فِي عَنَانِ شَرِكَةِ الأَْعْمَال، دُونَ نَظَرٍ إِلَى اتِّسَاقِ الشَّرْطِ أَوْ عَدَمِ اتِّسَاقِهِ مَعَ شَرْطِ الْعَمَل عَلَى كِلاَ الشَّرِيكَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيل ذَلِكَ، وَتَوْجِيهُ مُخَالَفَتِهِ لِقِسْمَةِ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ.
وَهَذَا أَصْلٌ مُطَّرِدٌ سَوَاءٌ عَمِل الشَّرِيكَانِ أَمْ
__________
(1) أي: مطالبة صاحب العمل بها، وبراءة ذمته بدفعها إلى أي الشريكين شاء، بدائع الصنائع 6 / 76، 77، رد المحتار 3 / 389.
(2) بلغة السالك 2 / 173.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 114، مطالب أولي النهى 3 / 547.

(26/78)


أَحَدُهُمَا، وَسَوَاءٌ كَانَ امْتِنَاعُ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْعَمَل لِعُذْرٍ - كَسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ - أَمْ لِغَيْرِهِ، كَكَسَلٍ وَتَعَالٍ؛ لأَِنَّ الْعَامِل مُعِينٌ لِلآْخَرِ، وَالشَّرْطُ مُطْلَقُ الْعَمَل. وَلِذَا لاَ مَانِعَ مِنَ الاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ، أَوْ حَتَّى الاِسْتِعَانَةِ الْمَجَّانِيَّةِ (1) . فَإِذَا لَمْ يَتَعَرَّضَا لِشَرْطِ الْعَمَل بِنِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهُوَ عَلَى نِسْبَةِ الرِّبْحِ الَّتِي تَشَارَطَاهَا؛ لأَِنَّ هَذَا هُوَ الأَْصْل، فَلاَ يُعْدَل عَنْهُ إِلاَّ بِنَصٍّ صَرِيحٍ: أَمَّا الْخَسَارَةُ (الْوَضْعِيَّةُ) فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال، فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ بِقَدْرِ ضَمَانِ الْعَمَل: أَيْ بِقَدْرِ مَا شُرِطَ عَلَى كِلاَ الشَّرِيكَيْنِ مِنَ الْعَمَل، كَمَا أَنَّ الْخَسَارَةَ فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال دَائِمًا بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ، إِذِ الْعَمَل هُنَا كَالْمَال هُنَاكَ. وَلِذَا لَوْ تَشَارَطَا عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِهِمَا ثُلُثَا الْعَمَل وَعَلَى الآْخَرِ الثُّلُثُ فَحَسْبُ، وَالْخَسَارَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَسَارَةِ، وَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى النِّسْبَةِ الَّتِي تَشَارَطَاهَا فِي الْعَمَل نَفْسِهِ (2) .
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ حَالَةَ الإِْطْلاَقِ تُحْمَل عَلَى التَّسَاوِي فِي الْعَمَل وَالأُْجْرَةِ: كَالْجِعَالَةِ، إِذْ لاَ مُرَجِّحَ (3) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 359.
(2) بدائع الصنائع 6 / 77.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 548، والمغني 5 / 111 وما بعدها، والإنصاف 5 / 61.

(26/79)


أَمَّا جَمَاهِيرُ الْمَالِكِيَّةِ، فَيَتَحَتَّمُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَ شَرِيكَيِ الأَْعْمَال بِقَدْرِ عَمَلَيْهِمَا، وَلاَ يُتَجَاوَزُ إِلاَّ عَنْ فَرْقٍ يَسِيرٍ. هَذَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ - أَمَّا بَعْدَهُ، فَلاَ حَرَجَ عَلَى مُتَبَرِّعٍ إِنْ تَبَرَّعَ، وَلَوْ بِالْعَمَل كُلِّهِ. فَإِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى تَفَاوُتِ النِّسْبَةِ بَيْنَ الْعَمَلَيْنِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَ الرِّبْحَيْنِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَقْدًا فَاسِدًا - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيَرْجِعُ كِلاَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا عَمِل عَنْهُ (1) . لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقْرِنُونَ هَذَا التَّشَدُّدَ بِالتَّسَامُحِ فِي رِبْحِ مَا يَعْمَلُهُ الشَّرِيكُ، فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ عَمَل الشَّرِكَةِ - إِذْ يَجْعَلُونَهُ لَهُ خَاصَّةً، كَمَا فَعَلُوا فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال (2) .
84 - تَنْبِيهٌ: لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ شَرِكَةِ الأَْعْمَال اتِّحَادُ نَوْعِ الْعَمَل وَلاَ مَكَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ - فِي رِوَايَةِ تَصْحِيحِهِ شَرِكَةَ التَّقَبُّل. لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ وَهُوَ تَحْصِيل الرِّبْحِ، يَتَأَتَّى مَعَ اتِّحَادِ نَوْعِ الْعَمَل وَمَعَ اخْتِلاَفِهِ كَمَا يَتَأَتَّى مَعَ وَحْدَةِ الْمَكَانِ وَمَعَ تَعَدُّدِهِ (3) .
85 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ، مِنَ الْحَنَابِلَةِ، يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ نَوْعِ الْعَمَل وَإِنْ
__________
(1) حواشي التحفة 2 / 215، بلغة السالك 2 / 172.
(2) حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 216.
(3) العناية على الهداية مع فتح القدير 5 / 28، بدائع الصنائع 6 / 65، رد المحتار 3 / 358، والإنصاف 5 / 460.

(26/79)


كَانَ الْمَالِكِيَّةُ يُنَزِّلُونَ تَلاَزُمَ الْعَمَلَيْنِ وَتَوَقُّفَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ، مَنْزِلَةَ اتِّحَادِهِمَا: كَإِعْدَادِ الْخُيُوطِ وَنَسْجِهَا، وَسَبْكِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَصِيَاغَتِهِمَا. بَل مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ تَسَاوِيَ الشَّرِيكَيْنِ فِي دَرَجَةِ إِجَادَةِ الصَّنْعَةِ أَوِ الْعَمَل. وَالسِّرُّ فِي هَذَا التَّشَدُّدِ كُلِّهِ، هُوَ الْفِرَارُ مِنْ أَنْ يَأْكُل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ثَمَرَةَ كَدِّ الآْخَرِ وَنِتَاجَ عَمَلِهِ. وَقَدْ أَلْزَمَهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ لَوْ قَال أَحَدُهُمَا: أَنَا أَتَقَبَّل وَأَنْتَ تَعْمَل، صَحَّتِ الشَّرِكَةُ، مَعَ اخْتِلاَفِ الْعَمَلَيْنِ (1) .
86 - أَمَّا اتِّحَادُ الْمَكَانِ فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ. وَلَكِنَّ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ اعْتَمَدُوا خِلاَفَهُ، وَأَوَّلُوا مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ رَوَاجُ الْعَمَل فِي الْمَكَانَيْنِ لَيْسَ وَاحِدًا - حَذَرًا مِنْ أَنْ يَأْكُل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ كَسْبَ الآْخَرِ، أَوْ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْعَمَل فِي أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ مُسْتَقِلًّا عَنْهُ فِي الآْخَرِ: بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ لاَ يَتَعَاوَنَانِ فِيمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَكَانِ عَمَلِهِ، أَوْ كَمَا يَقُولُونَ: " إِذَا لَمْ تُجْل يَدُ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ بِيَدِ الآْخَرِ " وَنَصُّوا عَلَى إِهْدَارِ النَّظَرِ إِلَى الصَّنْعَةِ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ التِّجَارَةَ (2) .
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 267، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 215، بلغة السالك 2 / 172، والمغني لابن قدامة 5 / 113.
(2) الخرشي على خليل 4 / 268، الفواكه الدواني 2 / 172.

(26/80)


الشَّرِكَةُ الْفَاسِدَةُ:
87 - الشَّرِكَةُ الْفَاسِدَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ تَتَوَافَرْ فِيهَا إِحْدَى شَرَائِطِ الصِّحَّةِ - كَأَهْلِيَّةِ التَّوْكِيل وَالتَّوَكُّل، وَقَابِلِيَّةِ الْمَحَل لِلْوَكَالَةِ، وَكَوْنِ الرِّبْحِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ. فَمِنْ ذَلِكَ:
88 - أَوَّلاً: الشَّرِكَةُ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ الْعَامَّةِ: كَالشَّرِكَةِ فِي الاِحْتِطَابِ، وَالاِحْتِشَاشِ، وَالاِصْطِيَادِ، وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ، وَاجْتِنَاءِ الثِّمَارِ الْجَبَلِيَّةِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِي بَطْنِ الأَْرْضِ الْمُبَاحَةِ مِنْ نَفْطٍ، أَوْ مَعْدِنٍ خِلْقِيٍّ كَالذَّهَبِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ أَوْ كَنْزٍ جَاهِلِيٍّ، وَصُنْعِ لَبِنٍ أَوْ آجُرٍّ مِنْ طِينٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، فَهَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَالْمَحَل هُنَا غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوَكَالَةِ: فَإِنَّ الَّذِي تَسْبِقُ يَدُهُ إِلَى الْمُبَاحِ يَمْلِكُهُ، مَهْمَا يَكُنْ قَصْدُهُ، فَلاَ يُمْكِنُ تَوْكِيلُهُ فِي أَخْذِهِ لِغَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الطِّينُ - وَمِثْلُهُ سَهْلَةُ الزُّجَاجِ (2)
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 268، الفواكه الدواني 2 / 172. (1) وبقية شرائط الصحة تقدم بيانها هي: 1 - أن يكون رأس مال شركة الأموال عينًا، لا دينًا، 2 - أن يكون رأس المال في شركة الأموال من الأثمان، 3 - أن يكون حاضرًا عند العقد أو عند الشراء، 4 - أن يكون محلها في شركة الأعمال عملاً
(2) طمي يحمله الماء معه، ويدخل في صناعة الزجاج، وعبارة محيط المحيط: تراب كالرمل يجيء به الماء.

(26/80)


مَمْلُوكًا، فَاشْتَرَكَ اثْنَانِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَاهُ، وَيَطْبُخَاهُ وَيَبِيعَاهُ - فَهَذِهِ شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ.
89 - وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ صَحَّحُوا الشَّرِكَةَ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ بِإِطْلاَقٍ (1) .
90 - ثَانِيًا: يَقَعُ كَثِيرًا أَنْ تَكُونَ دَابَّةٌ أَوْ عَرَبَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَيُسَلِّمَهَا أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ، عَلَى أَنْ يُؤَجِّرَهَا وَيَعْمَل عَلَيْهَا، وَيَكُونَ لَهُ ثُلُثَا الرِّبْحِ، وَلِلَّذِي لاَ يَعْمَل الثُّلُثُ فَحَسْبُ. وَهِيَ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ رَأْسَ مَالِهَا مَنْفَعَةٌ، وَالْمَنْفَعَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْعُرُوضِ (2) . فَيَكُونُ الدَّخْل بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ مِلْكِهِمَا، وَلِلَّذِي كَانَ يَعْمَل أُجْرَةُ مِثْل عَمَلِهِ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ يُشْبِهُ الْعَمَل فِي الْمُشْتَرَكِ حَتَّى نَقُول: لاَ أَجْرَ لَهُ لأَِنَّ الْعَمَل فِيمَا يُحْمَل وَهُوَ لِغَيْرِهِمَا.
91 - وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ شَبِيهَةٌ بِمَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ أَوِ الْعَرَبَةِ تَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَدْفَعُهَا إِلَى آخَرَ لِيَعْمَل عَلَيْهَا، وَالأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ
__________
(1) فتح القدير 5 / 31، 32، رد المحتار 3 / 360، والخرشي على خليل 4 / 267، 269، مطالب أولي النهى 3 / 545، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 210، 215.
(2) رد المحتار 3 / 361.

(26/81)


وَالأَْوْزَاعِيُّ عَلَى صِحَّتِهَا، اعْتِبَارًا بِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ عِنْدَهُمَا. وَهَكَذَا كُل عَيْنٍ تَنْمِي بِالْعَمَل فِيهَا يَصِحُّ دَفْعُهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْل الْعِلْمِ فَاسِدٌ؛ لِشِدَّةِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ: فَمَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى فَسَادِ هَذَا كُلِّهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ، ابْنُ عَقِيلٍ، دُونَ تَرَدُّدٍ، وَالْقَاضِي فِي بَعْضِ احْتِمَالاَتِهِ (1) . وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لَهُمْ بِحَدِيثِ النَّهْيِ " عَنْ قَفِيزِ (2) الطَّحَّانِ " يَعْنِي: طَحْنَ كَمِّيَّةٍ مِنَ الْحَبِّ بِشَيْءٍ مِنْ طَحِينِهَا (3) وَإِذَنْ فَمِثْل ذَلِكَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ، لاَ مَحْمَل لَهُ سِوَى ذَلِكَ: فَيَكُونُ الرِّبْحُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ أَوِ الْعَرَبَةِ لِصَاحِبِهِمَا؛ لأَِنَّ الْعِوَضَ إِنَّمَا اسْتُحِقَّ بِالْحَمْل الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ لِلْعَامِل إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَقَدْ كَانَ أَقْرَبُ مَا يَخْطِرُ بِالْبَال لِتَصْحِيحِهِ إِلْحَاقَهُ
__________
(1) لا يخفى ما هو اليوم ذائع شائع من النزاع في مجيء شيء من تشريعات الإسلام على خلاف القياس، وانظر كلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم مبسوطًا في هذا الموضوع في (إعلام الموقعين) . على أن المعدول عن سنن القياس هو الذي لا يعقل معناه، فكل ما عقل معناه، ولم يقم
(2) القفيز: مكيال - وهو ثمانية مكاكيك (والمكوك ثلاث كيلجات) . ولكن ليس المراد بالقفيز هنا معناه المطابقي هذا، بل كيل معين يجعل للطحان، كرطل. انظر المصباح المنير.
(3) الحديث: أخرجه الدارقطني 70 / 47 ط. دار المحاسن من حديث أبي سعيد الخدري وإسناده صحيح تلخيص الحبير 3 / 60.

(26/81)


بِالْمُضَارَبَةِ - وَلَكِنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَكُونُ فِي الْعُرُوضِ ثُمَّ هِيَ تِجَارَةٌ، وَالْعَمَل هُنَا لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ.
92 - رَابِعًا: وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ أَيْضًا فِي شَرِكَاتِ الْبَهَائِمِ، أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ بَقَرَةٌ، فَيَدْفَعَهَا إِلَى آخَرَ لِيَتَعَهَّدَهَا بِالْعَلَفِ وَالرِّعَايَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْكَسْبُ الْحَاصِل بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةٍ مَا كَنِصْفَيْنِ. وَهَذِهِ أَيْضًا شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ: لاَ تَدْخُل فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال، إِذْ لَيْسَ فِيهَا أَثْمَانٌ يُتَّجَرُ بِهَا، وَلاَ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّل، أَوِ الْوُجُوهِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَالْكَسْبُ الْحَاصِل إِنَّمَا هُوَ نَمَاءُ مِلْكِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ - وَهُوَ صَاحِبُ الْبَقَرِ. - فَيَكُونُ لَهُ، وَلَيْسَ لِلآْخَرِ إِلاَّ قِيمَةُ عَلَفِهِ وَأُجْرَةُ مِثْل عَمَلِهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ دُودُ الْقَزِّ، يَدْفَعُهُ مَالِكُهُ إِلَى شَخْصٍ آخَرَ، لِيَتَعَهَّدَهُ عَلَفًا وَخِدْمَةً، وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الدَّجَاجَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْضُهَا نِصْفَيْنِ - مَثَلاً - قَالُوا: وَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ الأَْصْل أَوْ ثُلُثَهُ مَثَلاً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، مَهْمَا قَل، فَمَا حَصَل مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
93 - وَقَدْ عَرَفْنَا نَصَّ أَحْمَدَ وَالأَْوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَضِيَّتُهُ تَصْحِيحُ هَذِهِ الشَّرِكَاتِ كُلِّهَا - شَأْنَ كُل عَيْنٍ تَنْمِي بِالْعَمَل فِيهَا. كَمَا عَرَفْنَا أَنَّ جَمَاهِيرَ أَهْل الْعِلْمِ لاَ يُوَافِقُونَهُمَا -

(26/82)


حَتَّى قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: عَلَى الْقَادِرِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ بَالِغِ الضَّرَرِ (1)
94 - بَيْدَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ ذَكَرُوا هُنَا فَرْعًا يُشْبِهُ الاِتِّجَاهَ الْحَنْبَلِيَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُصَحِّحُونَ الشَّرِكَةَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يَأْتِي أَحَدُهُمَا بِطَائِرٍ ذَكَرٍ، وَيَأْتِي الآْخَرُ بِطَائِرٍ أُنْثَى - كِلاَهُمَا مِنْ نَوْعِ الطُّيُورِ الَّتِي يُشْرَكُ ذُكُورُهَا وَإِنَاثُهَا فِي الْحَضَانَةِ، كَالْحَمَامِ - وَيُزَوِّجَانِ هَذِهِ لِهَذَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ فِرَاخُهُمَا بَيْنَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نَفَقَةُ طَائِرِهِ - إِلاَّ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِهَا الآْخَرُ - وَضَمَانُهُ إِذَا هَلَكَ. وَالْعِلَّةُ - كَمَا يُشْعِرُ سِيَاقُهُمْ - أَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ تَنْمِي مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ التِّجَارَةِ، فَتُنَزَّل مَنْزِلَةَ مَا يَنْمِي بِالتِّجَارَةِ (2) .

أَحْكَامُ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ:
95 - أَوَّلاً: أَنَّهَا لاَ تُفِيدُ الشَّرِيكَ مَا تُفِيدُهُ الشَّرِكَةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ هَكَذَا قَرَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ.
وَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِكَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَيْسَتْ عَقْدًا مُسْتَقِلًّا، بَل وَكَالَةٌ كَسَائِرِ الْوَكَالاَتِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُ الشَّرِيكَيْنِ فِي
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 226، الشرقاوي على التحرير 2 / 113، المغني لابن قدامة 5 / 116، 119، مطالب أولي النهى 3 / 543، رد المحتار 3 / 361، الفتاوى الهندية 2 / 335، مغني المحتاج 2 / 216.
(2) الخرشي على خليل 4 / 265، بلغة السالك 2 / 171.

(26/82)


الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ؛ لِبَقَاءِ الإِْذْنِ، وَمِثْلُهُ لِلْحَنَابِلَةِ (1) .

96 - ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ فِي الشَّرِكَةِ الَّتِي لَهَا مَالٌ يَكُونُ دَخْلُهَا لِلْعَامِل وَحْدَهُ. فَفِي الشَّرِكَةِ لِتَحْصِيل شَيْءٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ الْعَامَّةِ - إِذَا أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَعْمَل الآْخَرُ شَيْئًا لإِِعَانَتِهِ، فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ؛ لأَِنَّهُ الَّذِي بَاشَرَ سَبَبَ الْمِلْكِ، وَلاَ شَيْءَ لِشَرِيكِهِ. وَإِذَا أَخَذَاهُ مَعًا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لأَِنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْمِلْكِ، فَإِذَا بَاعَاهُ - وَقَدْ عُلِمَتْ نِسْبَةُ مَا حَصَل لِكُلٍّ مِنْهُمَا، بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِي الْقِيَمِيِّ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَمِعْيَارِ الْمِثْل فِي الْمِثْلِيِّ كَكَيْل الْمَاءِ وَوَزْنِ الْمَعْدِنِ - فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ، وَإِنْ جُهِلَتِ النِّسْبَةُ، فَدَعْوَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصَدَّقَةٌ فِي حُدُودِ النِّصْفِ؛ لأَِنَّهَا إِذَنْ لاَ تُخَالِفُ الظَّاهِرَ - إِذْ هُمَا حَصَّلاَهُ مَعًا، وَكَانَ بِأَيْدِيهِمَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ. أَمَّا دَعْوَى أَحَدِهِمَا فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، فَلاَ تُقْبَل إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ؛ لأَِنَّهَا خِلاَفُ الظَّاهِرِ.
وَإِذَا أَخَذَ الشَّيْءَ الْمُبَاحَ أَحَدُهُمَا، وَأَعَانَهُ الآْخَرُ بِمَا لاَ يُعْتَبَرُ أَخْذًا - عَمَلاً كَانَ أَمْ غَيْرَهُ - كَأَنْ قَلَعَهُ، وَجَمَعَهُ الآْخَرُ، أَوْ قَلَعَهُ وَجَمَعَهُ وَرَبَطَهُ هُوَ، وَحَمَلَهُ الآْخَرُ، أَوِ اسْتَقَى الْمَاءَ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 77، مغني المحتاج 2 / 216، قواعد ابن رجب ص 65.

(26/83)


وَقَدَّمَ الآْخَرُ الْمَزَادَةَ أَوِ الْفِنْطَاسَ أَوِ الْبَغْل أَوِ الْعَرَبَةَ لِحَمْلِهِ - فَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَخَذَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلَّذِي أَعَانَ، بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ أَوْ مِثْل آلَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لأَِنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ (1) .
97 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يُوَافِقُونَ فِي حَالَةِ انْفِرَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِالْعَمَل. أَمَّا فِي حَالَةِ وُقُوعِ الْعَمَل مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ ثَلاَثِ حَالاَتٍ (2) .
(1) تَمَايُزُ الْعَمَلَيْنِ. فَيَكُونُ لِكُلٍّ كَسْبُهُ.
(2) اخْتِلاَطُ الْعَمَلَيْنِ، لَكِنْ بِحَيْثُ لاَ تَلْتَبِسُ نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا إِلَى الآْخَرِ. فَالْكَسْبُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
(3) اخْتِلاَطُ الْعَمَلَيْنِ، بِحَيْثُ تَلْتَبِسُ نِسْبَتُهُمَا. وَهُنَا يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ، وَيُبْدُونَ احْتِمَالَيْنِ:
الاِحْتِمَال الأَْوَّل: التَّسَاوِي فِي الْكَسْبِ؛ لأَِنَّهُ الأَْصْل. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ.
الاِحْتِمَال الثَّانِي: تَرْكُهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا.
وَهُنَاكَ مَوْضِعُ خِلاَفٍ آخَرُ: فَإِنَّ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يُحَصِّلُهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى انْفِرَادٍ - فِي حَالَةِ الشَّرِكَةِ لِتَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ - تَكُونُ بَيْنَهُ
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 32، رد المحتار 3 / 360، 361.
(2) مع ملاحظة حالة رابعة يضيفها المالكية بشركة الوجوه الفاسدة دائمًا عندهم.

(26/83)


وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، مَا دَامَ الْفَرْضُ أَنَّهُ قَدْ حَصَّلَهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ: وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرِّبْحَ فِي حَالَةِ عَمَل الشَّرِيكَيْنِ، يُقْسَمُ بِالتَّسَاوِي، إِذِ الْفَرْضُ أَنَّ سَبَبَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ الْعَمَل، مُشْتَرَكٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ كُل شَرِيكٍ عَلَى شَرِيكِهِ بِأُجْرَةِ مَا عَمِل لَهُ: أَيْ بِنِصْفِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ الثُّنَائِيَّةِ، وَثُلُثَيْ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ الثُّلاَثِيَّةِ، وَثَلاَثَةِ أَرْبَاعِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ. إِلاَّ أَنَّ الشَّرِيفَ أَبَا جَعْفَرٍ، مِنْهُمْ، يَذْهَبُ فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الشَّرِكَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ فِي قِسْمَةِ الرِّبْحِ: فَإِنْ شَرَطَا شَيْئًا فَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَصِحُّ عَلَى الْجَهَالَةِ، فَيَثْبُتُ الْمُسَمَّى فِي فَاسِدِهِ كَالنِّكَاحِ (2) .

98 - وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ، هِيَ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، مِنْ قَبِيل الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لاَ مَال فِيهَا، وَلَهَا عِنْدَهُمْ ثَلاَثُ صُوَرٍ:
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 270، المهذب 1 / 353، نهاية المحتاج 5 / 3، مغني المحتاج 2 / 212، البجيرمي على المنهج 3 / 40، الشرقاوي على التحرير 2 / 11.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 129، ومطالب أولي النهى 3 / 511.

(26/84)


الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَتَّفِقَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا عَلَى أَنَّ كُل مَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ يَكُونُ الآْخَرُ شَرِيكًا لَهُ فِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا.
وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ يُمَيِّزُ هَذِهِ الصُّورَةَ بِاسْمِ شَرِكَةِ الذِّمَمِ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ (2) وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَا يَشْتَرِيَانِهِ مَعًا، يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ، حَسَبَ شُرُوطِ الْعَقْدِ.
وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: بَل - بِرَغْمِ الْفَسَادِ - يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَا يَشْتَرِيَانِهِ مَعًا أَوْ يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمَا - عَلَى مَا شَرَطَاهُ (3) .
وَيُلاَحَظُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، عَلَى هَذَا التَّصْوِيرِ، إِنَّمَا يَبْنِي عَلَى خُلُوِّ الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَوْكِيل كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ الآْخَرَ فِي الشِّرَاءِ لَهُ. فَلَوْ وُجِدَ هَذَا التَّوْكِيل، فَقَدْ نَصَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ جِدًّا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَكُونُ شَرِكَةَ عَنَانٍ صَحِيحَةً بِشَرْطِ بَيَانِ النِّسْبَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا - إِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُ الْمَالَيْنِ: وَإِذَنْ فَمَا يَخُصُّ الشَّرِيكَ الَّذِي
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 172، الخرشي على خليل 4 / 271.
(2) مغني المحتاج 2 / 212.
(3) حواشي التحفة 2 / 211، بلغة السالك 2 / 169.

(26/84)


لَمْ يَتَوَل الشِّرَاءَ مِنَ الثَّمَنِ، يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا التَّوْكِيل - أَوِ الإِْذْنُ - بِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَهُمَا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَيُؤَدِّي إِلَى شَرِكَةِ مِلْكٍ لاَ خَفَاءَ بِهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَيَاهُ مَعًا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا، قَال الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَلاَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ كُل شَرِيكٍ إِلاَّ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، مَا لَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ الضَّمَانَ عَنْ شَرِيكِهِ، وَالَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي مِثْلِهِ تَنْزِيل الْوَكِيل مَنْزِلَةَ الضَّامِنِ (2) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَ وَجِيهٌ وَخَامِلٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَجِيهُ وَيَبِيعَ الْخَامِل. وَفِيهَا يَكُونُ مَا يَشْتَرِيهِ الْوَجِيهُ لَهُ خَاصَّةً. وَالْخَامِل لَيْسَ إِلاَّ عَامِل جِعَالَةٍ فَاسِدَةٍ لِجَهَالَةِ الْعِوَضِ، فَيَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ مِثْل عَمَلِهِ عَلَى الْوَجِيهِ - كَمَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَلَمْ يَخْتَلِفِ الْحُكْمُ الَّذِي أَعْطَوْهُ لِهَذِهِ الصُّورَةِ عَنِ الَّذِي أَعْطَوْهُ لِلصُّورَةِ الأُْولَى - إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَى رُجُوعِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الآْخَرِ بِمَا عَمِل عَنْهُ. وَقَدْ نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، وَمَال إِلَى تَصْحِيحِ الشَّرِكَةِ.
__________
(1) البجيرمي على المنهج 3 / 40، وما بعدها.
(2) بلغة السالك 2 / 169، مغني المحتاج 2 / 231.
(3) نهاية المحتاج 5 / 3.

(26/85)


الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْمَل الْوَجِيهُ لِلْخَامِل فِي مَالِهِ، دُونَ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَال إِلَيْهِ، أَوْ تَقْتَصِرَ مُهِمَّةُ الْوَجِيهِ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مَال الْخَامِل، وَلَوْ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِ،
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ بِشِقَّيْهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، إِمَّا لِكَوْنِ رَأْسِ الْمَال لَيْسَ نَقْدًا، وَإِمَّا لِعَدَمِ تَسْلِيمِهِ لِلْمُضَارِبِ.
فَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لاَ غَيْرُ (1) وَلَمْ يَعْرِضِ الْمَالِكِيَّةُ لِلشِّقِّ الأَْوَّل مِنَ التَّصْوِيرِ، وَهُمْ فِي الشِّقِّ الثَّانِي مُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لِلْعَامِل أُجْرَةُ مِثْلِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا جُعْلاً وَزَادُوا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ، لِمَكَانِ الْغِشِّ، إِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً - وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الأَْقَل مِنْ ثَمَنِهَا، وَقِيمَتِهَا (2) .

99 - ثَالِثًا: حَيْثُ الْمَال مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَفَسَدَتِ الشَّرِكَةُ لأَِيِّ سَبَبٍ فَالدَّخْل لَهُ وَلِلآْخَرِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الدَّخْل نَمَاءُ الْمِلْكِ، كَمَا قَالُوهُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ: إِذْ يَتْبَعُ الزَّرْعُ الْبَذْرَ.
فَلَوْ عَهِدَ شَخْصٌ يَمْلِكُ بُيُوتًا أَوْ عَرَبَاتٍ أَوْ دَوَابَّ إِلَى آخَرَ لِيَقُومَ عَلَى تَأْجِيرِهَا، وَتَكُونَ الأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا - فَلَيْسَ لِهَذَا الآْخَرِ إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَالدَّخْل كُلُّهُ لِلْمَالِكِ. كَمَا أَنَّهُ لَوِ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 4، 42، مغني المحتاج 2 / 212.
(2) حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 211، الخرشي على خليل 4 / 271.

(26/85)


احْتَاجَ شَخْصٌ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ بِضَاعَتَهُ فِي السُّوقِ إِلَى عَرَبَةٍ أَوْ دَابَّةٍ تَنْقُلُهَا، فَلَمْ يَقْبَل صَاحِبُ الْعَرَبَةِ أَوِ الدَّابَّةِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَكُونُ لَغْوًا، وَالشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبِضَاعَةِ؛ لأَِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَوِ الْعَرَبَةِ إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهَا، لاِسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ (1) .
100 - وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ لِلْمَال (2) . وَلِذَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَنَّ ثَلاَثَةً اشْتَرَكُوا، أَحَدُهُمْ بِمَالِهِ، وَالثَّانِي بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ بِهَذَا الْمَال، وَالثَّالِثُ بِبَيْعِ هَذِهِ السِّلْعَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ يَكُونُ الرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْمَال، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيْهِ سِوَى أُجْرَةِ مِثْل عَمَلِهِ (3) .

101 - رَابِعًا: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَال مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَالدَّخْل بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي رِبْحِ شَرِكَةِ أَمْوَالٍ حِصَّةً مَجْهُولَةً. وَكَمَا لَوْ كَانَ لأَِحَدِ اثْنَيْنِ شَاحِنَةٌ وَلِلآْخَرِ سَيَّارَةُ رُكُوبٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُؤَجِّرَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ وَمَا يَخُصُّ
__________
(1) فتح القدير 5 / 33، رد المحتار 3 / 361.
(2) حواشي الخرشي على خليل 4 / 284.
(3) الشرقاوي على التحرير 2 / 113.

(26/86)


الآْخَرَ، وَمَا حَصَل مِنَ الدَّخْل بَيْنَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ، أَوْ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ - فَإِنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ، إِذْ خُلاَصَتُهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَال لِلآْخَرِ: بِعْ مَنَافِعَ هَذَا الشَّيْءِ الَّذِي تَمْلِكُهُ، وَمَنَافِعَ هَذَا الَّذِي أَمْلِكُهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ هَذِهِ وَتِلْكَ قِسْمَةً بَيْنَنَا بِنِسْبَةِ كَذَا - وَلَيْسَ هَذَا إِلاَّ تَحْصِيل الرِّبْحِ مِنْ مَال الْغَيْرِ، دُونَ عَمَلٍ وَلاَ ضَمَانٍ، وَالرِّبْحُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ ضَمَانٍ: لَكِنْ إِذَا وُضِعَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ الْفَاسِدَةُ مَوْضِعَ التَّنْفِيذِ فَإِنْ أَجَّرَا السَّيَّارَتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَجْرُ مِلْكِهِ وَإِنْ أَجَّرَا السَّيَّارَتَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ، فَهِيَ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ، وَالأُْجْرَةُ الْمُتَحَصِّلَةُ إِنَّمَا تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثْل أُجْرَةِ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا - كَمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ (1) . لاَ عَلَى مَا تَشَارَطَا؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ لَغْوٌ، لاَ اعْتِدَادَ بِهِ (2) .
102 - وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي أَخَذَهُ هَذَا الْقِسْمُ (حَيْثُ الْمَال مِنَ الشَّرِيكَيْنِ) كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ أَهْل الْعِلْمِ. فَقَدْ أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 33، مغني المحتاج 2 / 216.
(2) بدائع الصنائع 6 / 77، الخرشي 4 / 271، المغني 5 / 115.

(26/86)


وَقَالُوا: يَرْجِعُ كُل شَرِيكٍ عَلَى شَرِيكِهِ الآْخَرِ بِأُجْرَةِ مِثْل مَا عَمِل لَهُ - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَاقِفُونَ أَبَدًا مَعَ أَصْلِهِمُ الَّذِي أَصَّلُوهُ فِي الْمُزَارَعَةِ - كَمَا أَسْلَفْنَاهُ وَجَرَوْا عَلَى سُنَنِهِ كُلَّمَا كَانَ لَهُ مَجَالٌ: وَلِذَا نَجِدُهُمْ يَقُولُونَ - فِيمَا لَوِ اشْتَرَكَ ثَلاَثَةٌ: أَحَدُهُمْ بِدَارِهِ، وَالثَّانِي بِدَابَّتِهِ، وَالثَّالِثُ بِرَحَاهُ، عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى عَمَل الطَّحْنِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، وَلْيَكُنْ صَاحِبَ الدَّابَّةِ - أَنَّ الْغَلَّةَ كُلَّهَا تَكُونُ لِلَّذِي انْفَرَدَ بِالْعَمَل، وَعَلَيْهِ لِلآْخَرَيْنِ أُجْرَةُ مِثْل مَا قَدَّمُوا (1) . وَهُوَ مَسْلَكٌ لاَ يَكَادُ يَسْلُكُهُ سِوَاهُمْ. وَمِثَال ذَلِكَ مَسْأَلَةُ الشَّاحِنَةِ وَسَيَّارَةِ الرُّكُوبِ، إِذَا انْفَرَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالْعَمَل.
ثُمَّ قَدْ يَقَعُ الْخِلاَفُ أَيْضًا مِنَ الآْخَرَيْنِ فِي طَرِيقِ التَّطْبِيقِ: فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّتَيْنِ، عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ لَوْ تَقَبَّلاَ عَمَل شَيْءٍ مَعْلُومٍ إِلَى مَكَانٍ مَعْلُومٍ فِي ذِمَّتِهِمَا، ثُمَّ حَمَلاَ عَلَى الدَّابَّتَيْنِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ شَرِكَةً صَحِيحَةً، وَالأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ (&#
x662 ;) مَعَ أَنَّ أُصُول الْحَنَابِلَةَ لاَ تُسَاعِدُهُ، إِذْ لاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ لِلصِّحَّةِ مِنْ عَقْدِ تَقَبُّلٍ عَامٍّ بَيْنَ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 271، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 211.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 115.

(26/87)


الشَّرِيكَيْنِ سَابِقٍ عَلَى هَذَا التَّقَبُّل الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ (1) عَلَى أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ عَادَ فَأَبْدَى احْتِمَال تَصْحِيحِ الشَّرِكَةِ عَلَى شَرْطِهَا - حَتَّى فِي حَالَةِ مَا إِذَا أَجَّرَ الشَّرِيكَانِ الدَّابَّتَيْنِ إِجَارَةَ عَيْنٍ قِيَاسًا عَلَى صِحَّةِ الشَّرِكَةِ عِنْدَهُمْ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ (2) .

مُلْحَقٌ:
103 - فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ، كَيْفَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ بِثَمَنِ مَا بَاعَهُ مِنْ أَحَدِ شَرِيكَيْهَا - إِذَا غَابَ أَحَدُهُمَا وَحَضَرَ الآْخَرُ؟
يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الأَْحْوَال ثَلاَثَةٌ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ فَسَادَ الشَّرِكَةِ: فَلاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الشَّرِيكِ الْحَاضِرِ إِلاَّ بِحِصَّتِهِ فِي الثَّمَنِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِالشَّرِكَةِ، وَلاَ يَعْلَمُ بِفَسَادِهَا: وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الشَّرِيكِ الْحَاضِرِ، بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لاَ يَعْلَمُ بِالشَّرِكَةِ نَفْسِهَا: وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ كَانَ الشَّرِيكُ الْحَاضِرُ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ، طَالَبَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَاقَدْ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِغَيْرِهِ فِي النِّصْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى
__________
(1) فتح القدير 5 / 33، رد المحتار 3 / 361.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 116.

(26/87)


مِنْهُ، فَإِنَّمَا يُطَالِبُهُ بِحِصَّةٍ فِي الثَّمَنِ لاَ غَيْرُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ إِلاَّ مُقَابِل هَذِهِ الْحِصَّةِ مِنَ السِّلْعَةِ.
هَكَذَا حَكَوْهُ عَنِ اللَّخْمِيِّ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْخَرَشِيُّ خِلاَفُهُ، فَانْظُرْهُ إِنْ شِئْتَ.

أَسْبَابُ انْتِهَاءِ الشَّرِكَةِ:
الأَْسْبَابُ الْعَامَّةُ:
أَسْبَابُ الاِنْتِهَاءِ الْعَامَّةِ هِيَ الَّتِي لاَ تَخُصُّ شَرِكَةً دُونَ شَرِكَةٍ، بَل تَجِيءُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِكَاتِ وَهِيَ:
104 - أَوَّلاً - فَسْخُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَقَدْ سَلَفَ الْكَلاَمُ عَلَى هَذَا، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ.
105 - ثَانِيًا: نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَ أَحَدِهِمَا الشَّرِكَةَ بِمَثَابَةِ فَسْخِهَا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وَقَعَ، لاَمْتَنَعَ عَلَى الشَّرِيكِ الآْخَرِ، بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ نَفْسِهِ التَّصَرُّفُ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ. فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهَا كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، كَالْغَاصِبِ وَلَهُ رِبْحُهَا وَعَلَيْهِ خَسَارَتُهَا، لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا - وَإِنْ كَانَ لاَ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ (1) . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ - خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى الْبُطْلاَنِ بِالإِْنْكَارِ فِي الْوَكَالَةِ، إِذَا كَانَ الإِْنْكَارُ مُتَعَمَّدًا
__________
(1) فتح القدير 5 / 34، رد المحتار 357، 362.

(26/88)


وَلاَ يَرْمِي بِهِ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ - كَصِيَانَةِ مَال الْوَكَالَةِ مِنْ أَنْ تَنَالَهُ يَدُ ظَالِمٍ غَاشِمٍ - وَالشَّرِكَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ إِلاَّ وَكَالَةً (1) .
106 - ثَالِثًا: جُنُونُ أَحَدِهِمَا جُنُونًا مُطْبِقًا (2) . وَهُوَ لاَ يَصِيرُ مُطْبِقًا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَسْتَمِرَّ شَهْرًا أَوْ سَنَةً كَامِلَةً - عَلَى خِلاَفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) . فَلاَ تَنْتَهِي الشَّرِكَةُ إِلاَّ إِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ.
وَإِنَّمَا تَبْطُل الشَّرِكَةُ؛ لأَِنَّهَا تَعْتَمِدُ الْوَكَالَةَ وَلاَ تَنْفَكُّ عَنْهَا، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُل بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ، لِسَلْبِهِ الأَْهْلِيَّةَ.
وَيَعُودُ هُنَا فِي تَصَرُّفِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ فِي حِصَّةِ الْمَجْنُونِ مَا سَلَفَ فِي الإِْنْكَارِ (4) وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْمُبْطِل أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ دُونَ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ (5) .
107 - رَابِعًا: مَوْتُ أَحَدِهِمَا: لأَِنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِلْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ الضِّمْنِيَّةُ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّةِ الشَّرِكَةِ لاَ تَنْفَكُّ عَنْهَا ابْتِدَاءً وَلاَ بَقَاءً،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 214، 233، ومطالب أولي النهى 3 / 458.
(2) بكسر الباء، والعامة تفتحها، وله وجه في القياس، لكنه غير منقول. كذا في المصباح.
(3) الأول لأبي يوسف، والثاني لمحمد: والترجيح مختلف، فانظره مع تعليلاته في البدائع 6 / 38، ومجمع الأنهر 2 / 237.
(4) بدائع الصنائع 6 / 78، رد المحتار 3 / 362.
(5) مغني المحتاج 2 / 215، المغني لابن قدامة 5 / 133.

(26/88)


ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إِلَى ثُبُوتِ وَاسْتِمْرَارِ وِلاَيَةِ التَّصَرُّفِ لِكِلاَ الشَّرِيكَيْنِ عَنِ الآْخَرِ، مُنْذُ قِيَامِ الشَّرِكَةِ إِلَى انْتِهَائِهَا. إِلاَّ أَنَّ بُطْلاَنَ الشَّرِكَةِ فِي الأَْمْوَال بِالْمَوْتِ، لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الشَّرِيكِ بِهِ؛ لأَِنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لاَ يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ، إِذْ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ يَنْتَقِل شَرْعًا مِلْكُ مَال الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَلاَ يُمْكِنُ إِيقَافُ مَا نَفَّذَهُ الشَّرْعُ (1) .
وَإِنَّمَا تَبْطُل الشَّرِكَةُ بِالْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى شَرِيكٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِكَةِ بِالضَّرُورَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَرِيكٍ، فَإِنَّ شَرِكَةَ الْبَاقِينَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ بَاقِيَةٌ (2) .
وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْمُبْطِل أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
108 - وَيُقَرِّرُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلْوَارِثِ الرَّشِيدِ الْخِيَارَ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَاسْتِئْنَافِ الشَّرِكَةِ، وَأَنَّ عَلَى وَلِيِّ الْوَارِثِ غَيْرِ الرَّشِيدِ، أَوْ وَلِيِّ الشَّرِيكِ الَّذِي انْتَهَتِ الشَّرِكَةُ بِجُنُونِهِ، أَنْ يَخْتَارَ مِنْ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ أَصْلَحَهُمَا لِمَحْجُورِهِ. نَعَمْ إِنْ كَانَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنٌ، أَوْ فِيهَا وَصِيَّةٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، تَوَقَّفَ جَوَازُ
__________
(1) فتح القدير 5 / 34.
(2) رد المحتار 3 / 361.
(3) مغني المحتاج 2 / 215، المغني لابن قدامة 5 / 133

(26/89)


اسْتِئْنَافِ الشَّرِكَةِ عَلَى قَضَائِهِمَا - وَلَوْ مِنْ خَارِجِ التَّرِكَةِ، لأَِنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالتَّرِكَةِ تَعَلُّقَ الرَّهْنِ، وَالْمَرْهُونُ لاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ.
وَالْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنُ بِمَثَابَةِ الْوَارِثِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيُعْتَبَرُ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ التَّعَدُّدِ. وَفِي اسْتِئْنَافِ الشَّرِكَةِ يَكْتَفِي الشَّافِعِيَّةُ بِصِيغَةِ التَّقْرِيرِ - وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ عِبَارَاتِهِمْ مَا يُفِيدُ قَصْرَ هَذَا الاِكْتِفَاءِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ مَال الشَّرِكَةِ عُرُوضًا (1) .
109 - خَامِسًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِلِحَاقِ أَحَدِهِمَا بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا تَنْتَهِي بِهِ الشَّرِكَةُ لأَِنَّهُ بِهَذَا يَصِيرُ مِنْ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ، وَالْقَضَاءُ بِهِ عِنْدَهُمْ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ. بَل يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ بِالْقَضَاءِ الْمَذْكُورِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ الْحُكْمِيَّ كَانَ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ (2) فَإِذَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ عَادَ الشَّرِيكُ مُسْلِمًا، فَلاَ جَدْوَى بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِكَةِ: فَقَدْ بَطَلَتْ وَقُضِيَ الأَْمْرُ.
أَمَّا الرِّدَّةُ بِدُونِ هَذَا الْقَضَاءِ - سَوَاءٌ اقْتَرَنَتْ بِاللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لاَ - فَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِيقَافُ الشَّرِكَةِ: حَتَّى إِذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إِلَى
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 215، نهاية المحتاج 5 / 10، المغني لابن قدامة 5 / 134.
(2) بدائع الصنائع 6 / 112، رد المحتار 3 / 309.

(26/89)


الإِْسْلاَمِ عَادَتْ سِيرَتَهَا الأُْولَى، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل، تَبَيَّنَ بُطْلاَنُهَا مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ (1) .
110 - سَادِسًا: مُخَالَفَةُ شُرُوطِ الْعَقْدِ: كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الشَّرِيكُ حُدُودَ الْمَكَانِ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ (2) إِلاَّ أَنَّ الْبُطْلاَنَ يَكُونُ بِمِقْدَارِ الْمُخَالَفَةِ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، فَمِثَال الْمُخَالَفَةِ الْكُلِّيَّةِ مَا لَوْ نَهَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الآْخَرَ عَنِ الْخُرُوجِ بِالْبِضَاعَةِ، فَخَرَجَ بِهَا. وَمِثَال الْمُخَالَفَةِ الْجُزْئِيَّةِ: أَنْ يَبِيعَ نَسِيئَةً وَلاَ يُجِيزَهُ شَرِيكُهُ، فَيَبْطُل الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ، وَيَنْفُذَ فِي حِصَّةِ الْبَائِعِ - وَفِي هَذِهِ الْحِصَّةِ تَبْطُل الشَّرِكَةُ حِينَئِذٍ.
111 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُرَتِّبُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ شُرُوطِ الْعَقْدِ، بَل وَطَبِيعَتِهِ، إِلاَّ إِعْطَاءَ الشَّرِيكِ الآْخَرِ حَقَّ رَدِّ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمُخَالَفَةُ، وَتَضْمِينَ الْمُخَالِفِ - إِنْ ضَاعَ الْمَال بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ. فَقَدْ نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا إِذَا اسْتَبَدَّ بِالتَّصَرُّفِ شَرِيكُ الْعَنَانِ؛ لأَِنَّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِبْدَادِ شَرِيكٍ بِالتَّصَرُّفِ لِلشَّرِكَةِ، دُونَ مُرَاجَعَةِ شَرِيكِهِ (3) وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ تَصَرُّفِ الشَّافِعِيَّةِ (4) بِإِزَاءِ بَيْعِ الشَّرِيكِ نَسِيئَةً دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، بِاعْتِبَارِهِ عِنْدَهُمْ لاَ يَسْتَمِدُّ حَقَّ الْبَيْعِ نَسِيئَةً
__________
(1) فتح القدير 5 / 34، رد المحتار 3 / 361، 362.
(2) رد المحتار 3 / 357.
(3) بلغة السالك 2 / 171.
(4) وموقفهم من الإجازة مشهور.

(26/90)


مِنْ طَبِيعَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ (1) .
112 - سَابِعًا: ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنَ الْمُبْطِلاَتِ. طُرُوَّ الْحَجْرِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِسَفَهٍ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَجْرَ لِلْفَلَسِ إِلاَّ أَنَّهُ مُبْطِلٌ جُزْئِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَلَسِ: بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ مِنَ الْمُفَلِّسِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ أَيُّ تَصَرُّفٍ سَلَبَهُ الْحَجْرُ إِيَّاهُ. وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الذِّمَّةِ يَنْفُذَانِ مِنَ الْمُفَلِّسِ. أَمَّا السَّفِيهُ، فَلاَ يَصِحُّ لَهُ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ إِلاَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا بَاعَ الْمُفَلِّسُ أَوْ شَرِيكُهُ شَيْئًا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ نَفَذَ فِي نَصِيبِ غَيْرِ الْمُفَلِّسِ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُفَلِّسُ لِلشَّرِكَةِ فِي ذِمَّتِهِ نَفَذَ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ (2) .

الأَْسْبَابُ الْخَاصَّةُ:
113 - أَوَّلاً: هَلاَكُ الْمَال فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: وَصُورَتُهُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَالاَنِ، أَعْنِي مَال كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ: سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الشِّرَاءِ بِمَال الشَّرِكَةِ أَمْ بَعْدَهُ، أَوْ يَهْلِكَ مَال أَحَدِهِمَا قَبْل الشِّرَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ. وَالشِّقُّ الثَّانِي مِنَ التَّرْدِيدِ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَال هَذَا الأَْحَدِ مُتَمَيِّزًا مِنْ مَال الآْخَرِ؛ لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، أَوْ لِعَدَمِ الاِخْتِلاَطِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالاَنِ مِنْ جِنْسٍ
__________
(1) نهاية المحتاج وحواشيها 5 / 9.
(2) الرشيد على نهاية المحتاج 5 / 10، والمغني لابن قدامة 5 / 123.

(26/90)


وَاحِدٍ وَقَدْ خُلِطَا، فَإِنَّ مَا يَهْلِكُ مِنْهُمَا يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ كِلَيْهِمَا - إِذْ لاَ يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الَّذِي هَلَكَ هُوَ مَال هَذَا دُونَ ذَاكَ، وَمَا بَقِيَ فَعَلَى الشَّرِكَةِ. وَالسِّرُّ فِي بُطْلاَنِ الشَّرِكَةِ بِهَلاَكِ الْمَال، أَنَّهُ عِنْدَمَا يَهْلِكُ مَال الشَّرِكَةِ كُلُّهُ يَكُونُ قَدْ هَلَكَ مَحَل الْعَقْدِ الْمُتَعَيَّنُ لَهُ، وَالْعَقْدُ يَبْطُل بِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، كَالْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ. وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ الْهَالِكُ هُنَا مَحَلًّا لِلْعَقْدِ. لأَِنَّ الأَْثْمَانَ - وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لِئَلاَّ تَخْرُجَ عَنْ طَبِيعَةِ الثَّمَنِيَّةِ، وَتَصِيرَ سِلْعَةً مَقْصُودَةً بِذَاتِهَا - فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي غَيْرِهَا، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ - مِنْ كُل عَقْدٍ لاَ يَكُونُ بِإِزَائِهَا فِيهِ عِوَضٌ. وَهَذِهِ هِيَ طَبِيعَةُ الشَّرِكَةِ (1) .
فَإِذَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بِهَلاَكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْل الشِّرَاءِ، فَالْمَال الآْخَرُ خَالِصٌ لِصَاحِبِهِ، وَمَا يَشْتَرِيهِ بِهِ بَعْدُ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً لاَ سَبِيل لِمَنْ هَلَكَ مَالُهُ عَلَيْهِ، لاَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرِكَةِ، لِمَا عُلِمَ مِنْ بُطْلاَنِهَا، وَلاَ مِنْ طَرِيقِ الْوَكَالَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي ضِمْنِهَا؛ لأَِنَّ بُطْلاَنَ الشَّرِكَةِ يَسْتَتْبِعُ بُطْلاَنَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِلَفْظِ الْوَكَالَةِ (2) فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا يَشْتَرِيهِ صَاحِبُ الْمَال الْبَاقِي مُشْتَرَكًا بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ؛ لأَِنَّ الْوَكَالَةَ الصَّرِيحَةَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 78، وفتح القدير 5 / 354.
(2) كما لو قالا: اتفقنا على أن ما اشتراه كل منا يكون مشتركًا بيننا. رد المحتار 3 / 354.

(26/91)


لاَ تَبْطُل بِبُطْلاَنِ الشَّرِكَةِ (1) . وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةٍ مِنَ الثَّمَنِ. لَكِنَّهَا إِذَنْ شَرِكَةُ مِلْكٍ، إِذْ لاَ عَقْدَ شَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا.
114 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَلاَكَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ عَلَى الشَّرِكَةِ بِإِطْلاَقٍ، وَالْبَاقِي بِلاَ هَلاَكٍ لِلشَّرِكَةِ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِاشْتِرَاكِ الْمَالَيْنِ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَيَقُولُونَ إِنَّ الْمَال يُقْسَمُ بِكَلِمَةٍ، كَمَا فِي الْخَرْصِ، فَلاَ غَرْوَ أَنْ يُشْتَرَكَ فِيهِ بِكَلِمَةٍ، كَمَا فِي الشَّرِكَةِ. فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِكَةُ بِالْمَال مُنَاصَفَةً، اقْتَضَى مُجَرَّدُ عَقْدِهَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي نِصْفِ مَال صَاحِبِهِ (2) وَتَوَسَّطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّ هَلاَكَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْل خَلْطِهِمَا، وَلَوْ خَلْطًا حُكْمِيًّا، يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً، لاَ مِنْ ضَمَانِ الشَّرِكَةِ - وَمَعَ ذَلِكَ تَبْقَى الشَّرِكَةُ: بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يُشْتَرَى بِالْمَال الْبَاقِي لَهَا، وَعَلَى الشَّرِيكِ الَّذِي تَلِفَ مَالُهُ حِصَّتُهُ فِي الثَّمَنِ - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بَعْدَ عِلْمِ الْمُشْتَرِي بِهَلاَكِ الْمَال الآْخَرِ وَلَمْ يُرِدْهُ لِلشَّرِكَةِ الشَّرِيكُ الَّذِي هَلَكَ مَالُهُ، أَوْ أَرَادَهُ وَلَكِنِ ادَّعَى الآْخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ:
__________
(1) فتح القدير 5 / 23، بدائع الصنائع 6 / 78، رد المحتار 3 / 353 - 354.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 128.

(26/91)


فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَال الْبَاقِي وَحْدَهُ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَلَمْ أَرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَلاَمًا صَرِيحًا. وَلَكِنَّ مُقْتَضَى جَعْلِهِمُ الْخَلْطَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ بُطْلاَنُ الشَّرِكَةِ، بِهَلاَكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ فِيمَا عَدَاهُ أَوْ هَلاَكُ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا (2) .
115 - ثَانِيًا: فَوَاتُ التَّسَاوِي فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ: سَوَاءٌ كَانَ الْفَائِتُ هُوَ التَّسَاوِي فِي رَأْسِ الْمَال، أَمْ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُفَاوَضَةُ بِهَذَا أَوْ ذَاكَ، انْقَلَبَتْ عَنَانًا، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعَنَانِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
ثَالِثًا: انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ فِي الشَّرِكَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّأْقِيتَ صَحِيحٌ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ عَدَا الطَّحَاوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) بلغة السالك 2 / 168.
(2) نهاية المحتاج وحواشيها 5 / 10، مغني المحتاج 5 / 215.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 311.

(26/92)


شُرُوعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّرُوعُ مَصْدَرُ شَرَعَ. يُقَال: شَرَعْتُ فِي الأَْمْرِ أَشْرَعُ شُرُوعًا، أَخَذْتُ فِيهِ، وَشَرَعْتَ فِي الْمَاءِ شُرُوعًا شَرِبْتَ بِكَفَّيْكَ أَوْ دَخَلْتَ فِيهِ، وَشَرَعْتَ الْمَال (أَيِ الإِْبِل) أَشْرَعُهُ: أَوْرَدْتُهُ الشَّرِيعَةَ، وَشَرَعَ الْبَابُ إِلَى الطَّابَقِ شُرُوعًا: اتَّصَل بِهِ، وَطَرِيقٌ شَارِعٌ يَسْلُكُهُ النَّاسُ عَامَّةً، وَأَشْرَعْتُ الْجَنَاحَ إِلَى الطَّرِيقِ: وَضَعْتُهُ.
وَمِنْهُ: شَرَعَ اللَّهُ الدِّينَ، أَيْ سَنَّهُ وَبَيَّنَهُ، وَمِنْهُ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالأَْحْكَامِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشُّرُوعِ:
الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعِبَادَاتِ يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْل مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ حَقِيقَةً
__________
(1) لسان العرب، والمشوف المعلم 1 / 423، 424، والمصباح والمنير، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط.

(26/92)


أَوْ حُكْمًا بِحَسَبِ كُل عِبَادَةٍ، فَعَلَى سَبِيل الْمِثَال يَكُونُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلاَةِ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ مَقْرُونَةً بِالنِّيَّةِ، وَالصَّوْمُ يَكُونُ الشُّرُوعُ فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَالإِْمْسَاكِ (1) .
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ: عِبَادَةٌ - نِيَّةٌ - صَلاَةٌ - صَوْمٌ - حَجٌّ - جِهَادٌ - ذِكْرٌ) .

الشُّرُوعُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
3 - يَتَحَقَّقُ الشُّرُوعُ فِي الْمُعَامَلاَتِ: بِالْقَوْل، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَنُوبُ عَنْهُ مِنَ: الْمُعَاطَاةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا، أَوِ الْكِتَابَةِ، أَوِ الإِْشَارَةِ.
وَلاَ تُعَدُّ النِّيَّةُ هُنَا شُرُوعًا فِي الْبَيْعِ، أَوِ النِّكَاحِ، أَوِ الإِْجَارَةِ، أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوِ الْوَصِيَّةِ، أَوِ الْعَارِيَّةِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمُعَامَلاَتِ؛ لأَِنَّنَا لاَ نَعْلَمُ الْقَصْدَ الْمَنْوِيَّ. فَهَذِهِ الْمُعَامَلاَتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَإِيجَابُ الْمُوجِبِ بِقَوْلِهِ: " بِعْتُكَ كَذَا وَكَذَا " شُرُوعٌ فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا قَبِل الْبَائِعُ هَذَا الإِْيجَابَ تَمَّ الْبَيْعُ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 19، 199، والهداية شرع بداية المبتدي - للمرغيناني 1 / 30، والكافي لابن عبد البر 1 / 164، 199، 334، والأشباه والنظائر - للسيوطي ص 43، والأم - للإمام الشافعي 1 / 86، وروضة الطالبين للنووي 1 / 224، وشرح التحرير - للأنصاري 1 / 182، 183، والمغني 1 / 110، 264.
(2) الهداية 3 / 16، 17، والمقدمات الزكية ص 250، 251.

(26/93)


الشُّرُوعُ فِي الْجِنَايَاتِ:
4 - يَتَحَقَّقُ الشُّرُوعُ فِي الْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ: بِالْفِعْل لاَ بِالْقَوْل، وَلاَ بِالنِّيَّةِ.

مَا يَجِبُ إِتْمَامُهُ بِالشُّرُوعِ:
4 م مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى الْمُكَلَّفِ، إِذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ بِاتِّفَاقٍ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهُ أَوِ الاِنْصِرَافُ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ إِتْمَامِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالَةُ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ إِتْمَامِهِ، كَأَنْ يُنْتَقَضَ وُضُوءُ الْمُصَلِّي، أَوْ يُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ تَحِيضَ الْمَرْأَةُ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعُوقُ الْمُكَلَّفَ عَنِ الإِْتْمَامِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِئْنَافٌ - حَيْضٌ - صَلاَةٌ) .
وَمِثْل الصَّلاَةِ كُل مَفْرُوضٍ مِنْ: صِيَامٍ أَوْ زَكَاةٍ، أَوْ حَجٍّ، إِذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ يَجْلِبُ عَلَيْهِ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا، كَالْكَفَّارَةِ لِمَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ بِدُونِ عُذْرٍ، وَلُزُومِ الْهَدْيِ لِمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ عُمْرَتَهُ، وَإِعَادَتُهُمَا فِي الْعَامِ الْقَابِل أَمْرٌ لاَزِمٌ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: أَمَّا الشَّارِعُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، إِذَا أَرَادَ قَطْعَهُ فَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ قَطْعِهِ بُطْلاَنُ مَا مَضَى مِنَ الْفِعْل حَرُمَ كَصَلاَةِ

(26/93)


الْجِنَازَةِ، وَإِلاَّ فَإِنْ لَمْ تَفُتْ بِقَطْعِهِ الْمَصْلَحَةُ الْمَقْصُودَةُ لِلشَّارِعِ، بَل حَصَلَتْ بِتَمَامِهَا، كَمَا إِذَا شَرَعَ فِي إِنْقَاذِ غَرِيقٍ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ لإِِنْقَاذِهِ جَازَ قَطْعًا.
نَعَمْ ذَكَرُوا فِي اللَّقِيطِ أَنَّ مَنِ الْتَقَطَ لَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ حَصَل الْمَقْصُودُ، لَكِنْ لاَ عَلَى التَّمَامِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّ لَهُ الْقَطْعَ أَيْضًا، كَالْمُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ يَنْفَرِدُ، وَإِنْ قُلْنَا الْجَمَاعَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَالشَّارِعُ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ قَطْعَهُ لَهُ لاَ يَجِبُ بِهِ بُطْلاَنُ مَا عَرَفَهُ أَوَّلاً؛ لأَِنَّ بَعْضَهُ لاَ يَرْتَبِطُ بِبَعْضٍ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، فَالصُّوَرُ ثَلاَثَةٌ:
قَطْعٌ يُبْطِل الْمَاضِيَ فَيَبْطُل قَطْعًا، وَقَطْعٌ لاَ يُبْطِلُهُ وَلاَ يُفَوِّتُ الشَّاهِدَ فَيَجُوزُ قَطْعًا، وَقَطْعٌ لاَ يُبْطِل أَصْل الْمَقْصُودِ، وَلَكِنْ يُبْطِل أَمْرًا مَقْصُودًا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَفِيهِ خِلاَفٌ.
قَال الْفَتُوحِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَيَجِبُ إِتْمَامُهُ عَلَى الأَْظْهَرِ وَيُؤْخَذُ لُزُومُهُ بِالشُّرُوعِ مِنْ مَسْأَلَةِ حِفْظِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ تَرْكُ الْحِفْظِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِي وَجْهٍ يُكْرَهُ (1) .
__________
(1) جامع الأسرار - للبخاري ص 102، والمجموع للنووي 6 / 394، الفوائد في اختصار المقاصد - للعز بن عبد السلام ص 105، شرح الكوكب المنير - لابن النجار 1 / 378، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 243.

(26/94)


5 - أَمَّا مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ مِنَ السُّنَنِ فَإِنْ كَانَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً وَشَرَعَ فِيهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْتْمَامُ بِاتِّفَاقٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) . وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَإِتْمَامُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مَحَل خِلاَفٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَفْلٍ لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) فَمَا أَدَّاهُ وَجَبَ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ عَنِ الإِْبْطَال؛ لأَِنَّ الْعَمَل صَارَ حَقًّا لِلَّهِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى حِفْظِهِ إِلاَّ بِالْتِزَامِ الْبَاقِي، فَوَجَبَ الإِْتْمَامُ ضَرُورَةً.
فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِدُونِ عُذْرٍ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ الإِْثْمُ، وَالْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ لِعُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ. فَأَصْبَحَتِ النَّافِلَةُ عِنْدَهُمْ وَاجِبًا بَعْدَ الشُّرُوعِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّفْل بِعُذْرٍ، فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي النَّفْل لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا لَمْ يُتِمَّهُ؛ لأَِنَّ النَّفَل لَمَّا شُرِعَ غَيْرَ لاَزِمٍ قَبْل الشُّرُوعِ، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الشُّرُوعِ؛ لأَِنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْعِ لاَ تَتَغَيَّرُ
__________
(1) سورة البقرة / 196.
(2) سورة محمد / 33.

(26/94)


بِالشُّرُوعِ وَلَوْ أَتَمَّهُ صَارَ مُؤَدِّيًا لِلنَّفْل، لاَ مُسْقِطًا لِلْوُجُوبِ. أَمَّا لَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ نَفْلٍ فَنَذَرَ إِتْمَامَهُ، لَزِمَهُ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي النَّفْل يُسْتَحَبُّ لَهُ الْبَقَاءُ فِيهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (1) .

6 - أَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: إِذَا شَرَعَ الْمُكَلَّفُ فِيهَا، فَيُكْرَهُ قَطْعُهَا لِمُكَالَمَةِ النَّاسِ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثِرَ كَلاَمَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: " أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ (2) .
وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَإِنَّهُمَا إِذَا شَرَعَتَا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، نَاسِيَةً إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا حَائِضٌ، وَالأُْخْرَى أَنَّهَا نُفَسَاءُ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الاِسْتِمْرَارُ فِي الْقِرَاءَةِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ.
أَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ، وَمَنْ بِهِ عُذْرٌ، كَسَلَسِ الْبَوْل وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُهُمَا
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 394، والهداية لمرغيناني 1 / 128، والمغني لابن قدامة 3 / 151 - 153، والمحصول للرازي 1 / 2 / 357 - 358، وأصول السرخسي 1 / 115، وشرح الجلال المحلي على منهاج الطالبين 4 / 291، 294، ومرآة الأصول للأزميري 2 / 393.
(2) أثر ابن عمر: أنه كان إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه. أخرجه البخاري (الفتح 8 / 189 - ط السلفية) .

(26/95)


لِلصَّلاَةِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا شَرَعَ فِي قِرَاءَةٍ مُتَوَضِّئًا، فَلاَ يَقْطَعُ نَدْبًا، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ السُّورَةِ أَوِ الْحِزْبِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ الْمُكَلَّفُ الَّذِي لاَ يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، ثُمَّ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ لِضَرُورَةٍ طَرَأَتْ عَلَيْهِ - كَخُرُوجِ رِيحٍ، أَوْ حَصْرِ بَوْلٍ، فَلَهُ عَدَمُ إِتْمَامِ مَا قَرَأَ وَيَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ يَقِفُ، وَإِذَا تَرَكَهُ لاَ لِضَرُورَةٍ، فَلاَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْوَقْفَ، بِانْتِهَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَقْرَأُ، فَلَوْ كَانَ يَقْرَأُ فِي قِصَّةِ مُوسَى، أَوْ هُودٍ أَوْ أَهْل الْكَهْفِ، فَلْيُتِمَّهَا نَدْبًا حَتَّى لاَ يَكُونُ كَلاَمُهُ مَبْتُورًا، وَحَتَّى تَكْتَمِل فِي رَأْسِهِ الْمَوْعِظَةُ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ فِي غَيْرِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ - كَوِرْدٍ مِنَ الأَْوْرَادِ، أَوْ مَا يُسَمَّى بِالذِّكْرِ الْجَمَاعِيِّ أَوِ الْفَرْدِيِّ - فَلاَ يُطَالَبُ بِإِتْمَامِهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِهِ.

7 - وَأَمَّا الْمُبَاحُ: إِذَا شَرَعَ فِيهِ الْمُكَلَّفُ فَإِتْمَامُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَيَّرَ الْمُكَلَّفَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ.

الشُّرُوعُ فِي الْعُقُودِ:

أَوَّلاً: عَقْدُ الْبَيْعِ:
8 - الْبَيْعُ إِيجَابٌ وَقَبُولٌ، فَإِنْ حَصَل الإِْيجَابُ كَانَ شُرُوعًا فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ وَافَقَهُ

(26/95)


الْقَبُول كَانَ إِتْمَامًا لِلْبَيْعِ. فَإِنْ رَجَعَ الْمُوجِبُ فِي إِيجَابِهِ، قَبْل صُدُورِ الْقَبُول، يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الشُّرُوعِ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ صَدَرَ الْقَبُول قَبْل عَوْدِ الْمُوجِبِ تَمَّ الْبَيْعُ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِيجَابٌ) (وَبَيْعٌ)

ثَانِيًا: الْهِبَةُ:
9 - يَكُونُ الشُّرُوعُ فِي الْهِبَةِ بِلَفْظِ: وَهَبْتُ، وَأَعْطَيْتُ، وَنَحَلْتُ، وَلاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلاَ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ (2) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (هِبَةٌ) .

ثَالِثًا: الْوَقْفُ:
10 - الشُّرُوعُ فِي الْوَقْفِ يَكُونُ بِلَفْظِ: وَقَفْتُ، وَحَبَسْتُ، فَمَنْ أَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْهُمَا، كَانَ شَارِعًا فِي الْوَقْفِ، وَلَزِمَهُ لِعَدَمِ احْتِمَال غَيْرِهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِهِ، وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَلْزَمَ، أَوْ يَحْكُمَ بِلُزُومِهِ حَاكِمٌ.
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ، فَقَالاَ بِلُزُومِهِ، وَأَنَّهُ يَنْقُل الْمِلْكَ، وَلاَ يَقِفُ لُزُومُهُ عَلَى الْقَبْضِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَإِخْرَاجِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 2 - 6، المغني لابن قدامة 3 / 560 - 566.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 378، والمغني لابن قدامة 5 / 649، مغني المحتاج 2 / 396.

(26/96)


الْوَقْفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَقْفٌ) .

رَابِعًا: الْوَصِيَّةُ:
11 - الشُّرُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ بِالْقَوْل أَوِ الْكِتَابَةِ، كَأَنْ يُوصِيَ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَتَتِمَّ وَيَلْزَمَ بِقَبُول الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنَ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَصِيَّةٌ) .

خَامِسًا: الْعَارِيَّةُ:
12 - يَكُونُ الشُّرُوعُ فِيهَا كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْمُنْضَبِطَةِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول
، فَيَكُونُ الإِْيجَابُ بِقَوْلِهِ: أَعَرْتُكَ كَذَا شُرُوعًا فِي الإِْعَارَةِ، وَيَكُونُ الْقَبُول فِيهَا إِتْمَامًا لِعَقْدِ الْعَارِيَّةُ، فَبِهِ يَتِمُّ الْعَقْدُ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ الرُّجُوعُ قَبْل صُدُورِ الْقَبُول، وَقَبْل الْقَبْضِ أَيْضًا بِرَفْضِ أَخْذِهَا، وَلَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ لأَِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (ر: إِعَارَةٌ) .

الشُّرُوعُ بِدُونِ إِذْنٍ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ:
13 - الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ، إِذْ إِنَّ فَرْضِيَّتَهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لاَ يَقْتَضِي إِذْنًا مِنْ أَحَدٍ.
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 273، والمغني 5 / 597، 598، 649. ومغني المحتاج 2 / 382، 376.
(2) المغني 6 / 1 - 2، 68 - 69، ومغني المحتاج مع المنهاج 3 / 39، 71 - 72.

(26/96)


أَمَّا الْعِبَادَاتُ غَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْمُعَامَلاَتُ، فَقَدْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ الإِْذْنَ فِيهَا لِحَقِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ، كَحَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَحَقِّ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ.
فَأَعْطَى لِلزَّوْجِ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ زَوْجَتُهُ فِي فِعْل بَعْضِ النَّوَافِل مِنَ الْعِبَادَاتِ فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهَا، وَلَمْ تُطِعْهُ، كَانَ لَهُ مَنْعُهَا، فَإِذَا شَرَعَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْحَجِّ تَطَوُّعًا، بِدُونِ إِذْنِ زَوْجِهَا، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ.
وَكَذَا إِذَا شَرَعَتْ فِي صِيَامِ نَفْلٍ بِدُونِ إِذْنِهِ، لَهُ أَنْ يُفَطِّرَهَا، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: لاَ يَحِل لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) .

شُرُوقٌ

انْظُرْ: طُلُوعٌ

شِطْرَنْجٌ

انْظُرْ: لَعِبٌ
__________
(1) حديث: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 295 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 711 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(26/97)


شَعَائِرُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّعَائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ: وَهِيَ الْعَلاَمَةُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الإِْشْعَارِ الَّذِي هُوَ الإِْعْلاَمُ، وَمِنْهُ شِعَارُ الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يَسِمُ الْعَسَاكِرُ عَلاَمَةً يَنْصِبُونَهَا لِيَعْرِفَ الرَّجُل رُفْقَتَهُ (1) .
وَإِذَا أُضِيفَتْ شَعَائِرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ: " أَعْلاَمُ دِينِهِ الَّتِي شَرَعَهَا، اللَّهُ فَكُل شَيْءٍ كَانَ عَلَمًا مِنْ أَعْلاَمِ طَاعَتِهِ فَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (2) ".
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ فِي (شَعَائِرِ اللَّهِ) لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
فَكُل مَا كَانَ مِنْ أَعْلاَمِ دِينِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، فَالصَّلاَةُ، وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَمَنَاسِكُهُ وَمَوَاقِيتُهُ، وَإِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ فِي مَجَامِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَمِنْ أَعْلاَمِ طَاعَتِهِ. وَالأَْذَانُ وَإِقَامَةُ الْمَسَاجِدِ وَالدِّفَاعُ عَنْ بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ مِنْ
__________
(1) لسان العرب
(2) تفسير الفخر الرازي في تفسير آية: " إن الصفا والمروة من شعائر الله "، التعريفات للجرجاني، تفسير البيضاوي في تفسير الآية المذكورة.

(26/97)


شَعَائِرِ اللَّهِ (1) . قَال تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (2) . وَالآْيَةُ بَعْدَ الأَْمْرِ بِالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ آيَةٍ مِنَ السُّورَةِ وَبَعْدَ ذِكْرِ الصَّبْرِ وَالْقَتْل فِي سَبِيل اللَّهِ - وَهُوَ الْجِهَادُ لإِِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ - تُفِيدُ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ جُمْلَةِ شَعَائِرِ اللَّهِ، أَيْ أَعْلاَمِ دِينِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (3) .
وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (4) ، أَيْ مَعَالِمِ دِينِ اللَّهِ، وَطَاعَتِهِ. وَتَعْظِيمُهَا: أَدَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا.
وَقِيل: الْمُرَادُ مِنْهَا الْعِبَادَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَعْمَال النُّسُكِ، وَمَوَاضِعِهَا، وَزَمَنِهَا. وَقِيل: الْمُرَادُ مِنْهَا الْهَدْيُ خَاصَّةً. وَتَعْظِيمُهَا: اسْتِسْمَانُهَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالإِْشْعَارُ عَلَيْهَا: جَعْل عَلاَمَةٍ عَلَى سَنَامِهَا؛ بِأَنْ يُعَلِّمَ بِالْمُدْيَةِ لِيُعْرَفَ أَنَّهَا هَدْيٌ فَيَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا
__________
(1) تفسير ابن حبان، وتفسير البيضاوي، وتفسير الفخر الرازي في تفسير آيتي (إن الصفا والمروة) (ومن يعظم شعائر الله) .
(2) سورة البقرة / 158.
(3) سورة الحج / 36.
(4) سورة الحج / 32.

(26/98)


عَلَى إِحْرَامِ صَاحِبِهَا وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهَا هَدْيًا لِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهَا (1) .
قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِقَامَةُ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ، وَإِظْهَارُهَا، فَرْضًا كَانَتِ الشَّعِيرَةُ أَمْ غَيْرَ فَرْضٍ.
وَعَلَى هَذَا إِنِ اتَّفَقَ أَهْل مَحَلَّةٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ قُوتِلُوا، فَرْضًا كَانَتِ الشَّعِيرَةُ أَوْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، كَالْجَمَاعَةِ فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالأَْذَانِ لَهَا. وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ (3) .
لأَِنَّ تَرْكَ شَعَائِرِ اللَّهِ يَدُل عَلَى التَّهَاوُنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ.
هَذَا وَمِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ كَالإِْحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَمِنًى وَذَبْحِ الْهَدْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) سورة المائدة / 2.
(3) أسنى المطالب 4 / 174، روضة الطالبين 10 / 217، بدائع الصنائع 1 / 232 و 7 / 98، كشاف القناع 1 / 232، نهاية المحتاج 2 / 36 - 37.

(26/98)


أَعْمَال الْحَجِّ الظَّاهِرَةِ، وَمِنَ الشَّعَائِرِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ: الأَْذَانُ، وَالإِْقَامَةُ، وَصَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَالْجِهَادُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَتُنْظَرُ أَحْكَامُ كُلٍّ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحِهِ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.

(26/99)


شِعَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّعَارُ مِنَ الثِّيَابِ هُوَ مَا وَلِيَ جَسَدَ الإِْنْسَانِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الثِّيَابِ. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُمَاسَّتِهِ الشَّعْرَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الأَْنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ (1) . يَصِفُهُمْ بِالْمَوَدَّةِ وَالْقُرْبِ.
وَالشِّعَارُ أَيْضًا مَا يُشْعِرُ الإِْنْسَانُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْحَرْبِ، وَشِعَارُ الْعَسَاكِرِ، أَنْ يَسِمُوا لَهَا عَلاَمَةً يَنْصِبُونَهَا لِيَعْرِفَ الرَّجُل بِهَا رُفْقَتَهُ، وَالشِّعَارُ أَيْضًا عَلاَمَةُ الْقَوْمِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يُنَادَوْنَ بِهِ لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ شِعَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِتْ أَمِتْ (2) .
وَأَشْعَرَ الْقَوْمُ: نَادَوْا بِشِعَارِهِمْ. وَالشِّعَارُ
__________
(1) حديث: الأنصار شعار والناس دثار. أخرجه البخاري (الفتح 8 / 47 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 739 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن زيد.
(2) حديث: " كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم: أمت أمت ": أخرجه الحاكم (2 / 107 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث سلمة بن الأكوع وصححه ووافقه الذهبي.

(26/99)


الْعَلاَمَةُ قَال الأَْصْمَعِيُّ: وَلاَ أَرَى مَشَاعِرَ الْحَجِّ إِلاَّ مِنْ هَذَا لأَِنَّهَا عَلاَمَاتٌ لَهُ (1) .
وَالشِّعَارُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْعَلاَمَةُ الظَّاهِرَةُ الْمُمَيِّزَةُ. وَالشِّعَارُ مِنَ الثِّيَابِ هُوَ مَا يَلِي شَعْرَ الْجَسَدِ وَيَكُونُ تَحْتَ الدِّثَارِ. فَالدِّثَارُ لاَ يُلاَقِي الْجَسَدَ وَالشِّعَارُ بِخِلاَفِهِ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - التَّشَبُّهُ بِشِعَارِ الْكُفَّارِ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّشَبُّهَ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي يُمَيِّزُهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ كَالزُّنَّارِ وَنَحْوِهِ، وَالَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ يَتَمَيَّزُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، يُحْكَمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ ظَاهِرًا إِنْ فَعَلَهُ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، وَكَانَ فِعْلُهُ عَلَى سَبِيل الْمَيْل إِلَى الْكُفَّارِ، أَيْ: فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْفِعْل لِضَرُورَةِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ أَوِ الْخَدِيعَةِ فِي الْحَرْبِ أَوِ الإِْكْرَاهِ مِنَ الْعَدُوِّ. فَلَوْ عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَبِسَهُ لاَ لاِعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، والتهذيب للأزهري.
(2) الإقناع للخطيب الشربيني 1 / 140، كشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 128، فتح القدير 5 / 302، ابن عابدين 5 / 226 - 227.

(26/100)


مِنْهُمْ (1) . وَلأَِنَّ اللِّبَاسَ الْخَاصَّ بِالْكُفَّارِ عَلاَمَةُ الْكُفْرِ، وَالاِسْتِدْلاَل بِالْعَلاَمَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْل (2) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل (ر: تَشَبُّهٌ، ف 4 وَأَلْبِسَةٌ) .

ب - لِبَاسُ مَا يَكُونُ شِعَارًا لِلشُّهْرَةِ:
3 - وَهُوَ اللِّبَاسُ الْمُخَالِفُ لِلْعَادَةِ عِنْدَ أَهْل الْبَلْدَةِ بِحَيْثُ يَشْتَهِرُ لاَبِسُهُ عِنْدَ النَّاسِ وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ. وَهَذَا مَكْرُوهٌ شَرْعًا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَال، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا، أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا (3) . وَلِكَوْنِهِ سَبَبًا إِلَى حَمْل النَّاسِ عَلَى الْغِيبَةِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَلْبِسَةٌ. ف 16، 6 136) .

ج - اسْتِعْمَال آلَةٍ مِنْ شِعَارِ شَرَبَةِ الْخَمْرِ:
4 - اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِي الْمَعَازِفِ،
__________
(1) حديث: " من تشبه بقوم فهو منهم. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 314 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وجوده ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 236 - ط العبيكان) .
(2) الفتاوى الهندية 2 / 276، جواهر الإكليل 2 / 278، تحفة المحتاج 9 / 92.
(3) حديث: " من لبس ثوب شهرة في الدنيا. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1193 - ط الحلبي) وهو حديث حسن.
(4) المدخل لابن الحاج 1 / 137، كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 278 - 285 - ط النصر الحديثة.

(26/100)


وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَال آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرَبَةِ كَطُنْبُورٍ وَعُودٍ، وَجَدَكٍ وَصَنْجٍ وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الأَْوْتَارِ وَالْمَزَامِيرِ؛ لأَِنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ مِنْهَا تَدْعُو إِلَى فَسَادٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ لاَ سِيَّمَا مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِهَا؛ وَلأَِنَّهَا شِعَارُ الْفَسَقَةِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ حَرَامٌ، وَخَرَجَ مَنْ سَمِعَهَا بِغَيْرِ قَصْدٍ (1) . وَ (ر: سَمَاعٌ. مَلاَهِي) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 382، جواهر الإكليل 2 / 238 / 11، 2 / 233، نهاية المحتاج 8 / 281، المغني 9 / 175 - 176.

(26/101)


شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّعْرُ لُغَةً: نَبْتَةُ الْجِسْمِ مِمَّا لَيْسَ بِصُوفٍ وَلاَ وَبَرٍ لِلإِْنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ الشَّعْرُ زَوَائِدُ خَيْطِيَّةٌ تَظْهَرُ عَلَى جِلْدِ الإِْنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الثَّدْيِيَّاتِ وَيُقَابِلُهُ الرِّيشُ فِي الطُّيُورِ وَالْخَرَاشِيفُ فِي الزَّوَاحِفِ، وَالْقُشُورُ فِي الأَْسْمَاكِ، وَجَمْعُهُ أَشْعَارٌ وَشُعُورٌ. وَيُقَال: رَجُلٌ أَشْعَرُ وَشَعِرٌ وَشَعْرَانِيٌّ إِذَا كَانَ كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ (1)
. وَالصُّوفُ مَا يَكُونُ لِلضَّأْنِ وَمَا أَشْبَهَهُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَالصُّوفُ لِلضَّأْنِ، كَالشَّعْرِ لِلْمَعْزِ، وَالْوَبَرِ لِلإِْبِل (2) .
وَالْوَبَرُ مَا يَنْبُتُ عَلَى جُلُودِ الإِْبِل وَالأَْرَانِبِ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ أَوْبَارٌ، وَيُقَال جَمَلٌ وَبِرٌ وَأَوْبَرُ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْوَبَرِ، وَالنَّاقَةُ وَبِرَةٌ وَوَبْرَاءُ (3) .
وَالرِّيشُ مَا يَكُونُ عَلَى أَجْسَامِ الطُّيُورِ
__________
(1) لسان العرب والقاموس والمصباح المنير والمعجم الوسيط مادة (شعر) .
(2) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (صوف) .
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة (وبر) .

(26/101)


وَأَجْنِحَتِهَا. وَقَدْ يَخُصُّ الْجُنَاحَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِهِ. وَالْفَرْوُ: جُلُودُ بَعْضِ الْحَيَوَانِ كَالدِّبَبَةِ وَالثَّعَالِبِ تُدْبَغُ وَيُتَّخَذُ مِنْهَا مَلاَبِسُ لِلدِّفْءِ وَلِلزِّينَةِ وَجَمْعُهُ فِرَاءٌ.

حُكْمُ شَعْرِ الإِْنْسَانِ:
2 - شَعْرُ الإِْنْسَانِ طَاهِرٌ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّعْرُ مُتَّصِلاً أَمْ مُنْفَصِلاً، وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَتِهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَل أَبَا طَلْحَةَ شَعْرَهُ فَقَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِشَعْرِ الآْدَمِيِّ بَيْعًا وَاسْتِعْمَالاً؛ لأَِنَّ الآْدَمِيَّ مُكَرَّمٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2) .
فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُهَانًا مُبْتَذَلاً (3) .

شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ إِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً حَال الْحَيَاةِ.
وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْل بِطَهَارَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ لأَِنَّهُ طَاهِرٌ حَال الْحَيَاةِ، وَهَذَا إِذَا جُزَّ جَزًّا وَلَمْ
__________
(1) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره ". أخرجه مسلم (2 / 948 - ط الحلبي) ، من حديث أنس بن مالك.
(2) سورة الإسراء / 70.
(3) البناية 6 / 407، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 2 / 330، حاشية الدسوقي 1 / 49، ونهاية المحتاج 1 / 228، 229، كشاف القناع 1 / 56 - 57.

(26/102)


يُنْتَفْ. فَإِنْ نُتِفَ فَإِنَّ أُصُولَهُ نَجِسَةٌ، وَأَعْلاَهُ طَاهِرٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) .
وَالآْيَةُ سِيقَتْ لِلاِمْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ.
وَبِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ حِينَ مَرَّ بِهَا: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا (2) . - وَفِي لَفْظٍ - إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُهَا وَرُخِّصَ لَكُمْ فِي مَسْكِهَا (3) أَيْ جِلْدِهَا.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْمَيْتَةِ حَال الْحَيَاةِ الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ النَّجَاسَةَ فِيمَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ، وَالشُّعُورُ لاَ تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ.
فَلاَ يَحُلُّهَا الْمَوْتُ، وَإِذَا لَمْ يَحُلَّهَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ الْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ الْمَعْهُودِ لِعَدَمِ الْمُزِيل.
فَالأَْصْل فِي طَهَارَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ أَنَّ مَا لاَ تَحُلُّهُ
__________
(1) سورة النحل / 80.
(2) حديث: " إنما حرم أكلها ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 413 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 276 - ط. الحلبي) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " إنما حرم عليكم لحمها ورخص لكم في مسكها ". أخرجه الدارقطني (1 / 44 - ط دار المحاسن) وصححه.

(26/102)


الْحَيَاةُ - لأَِنَّهُ لاَ يُحِسُّ وَلاَ يَتَأَلَّمُ - لاَ تَلْحَقُهُ النَّجَاسَةُ بِالْمَوْتِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ إِلاَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ وَدُبِغَ، وَكَذَلِكَ الشَّعْرُ الْمُنْفَصِل مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول وَهُوَ حَيٌّ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) . وَهُوَ عَامٌّ فِي الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ. وَالْمَيْتَةُ اسْمٌ لِمَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ بِدُونِ تَذْكِيَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهَذِهِ الآْيَةُ خَاصَّةٌ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَعَامَّةٌ فِي الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ رَاجِحَةٌ فِي دَلاَلَتِهَا عَلَى الآْيَةِ الأُْولَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (3) . لأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَرَدَ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالآْيَةُ الأُْولَى وَرَدَتْ لِلاِمْتِنَانِ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ كُل حَيَوَانٍ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ يَنْجُسُ شَعْرُهُ وَصُوفُهُ (4) .

شَعْرُ الْمَيْتِ:
أَوَّلاً: شَعْرُ رَأْسِ الرَّجُل الْمَيْتِ
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 84، 85، كشاف القناع 1 / 56 - 57، حاشية الدسوقي 1 / 49.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) سورة النحل / 80.
(4) المجموع 1 / 230 - 231، 236 - 237، مغني المحتاج 1 / 78.

(26/103)


حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَيْتِ وَلاَ تَسْرِيحِهِ، لأَِنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ يَكُونُ لِلزِّينَةِ أَوْ لِلنُّسُكِ وَالْمَيْتُ لاَ نُسُكَ عَلَيْهِ وَلاَ يُزَيَّنُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا مَرَّتْ بِقَوْمٍ يُسَرِّحُونَ شَعْرَ مَيْتٍ فَنَهَتْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَتْ: عَلاَمَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ. أَيْ: لاَ تُسَرِّحُوا رَأْسَهُ بِالْمُشْطِ؛ لأَِنَّهُ يَقْطَعُ الشَّعْرَ وَيَنْتِفُهُ، وَعَبَّرَتْ بِتَنُصُّونَ وَهُوَ الأَْخْذُ بِالنَّاصِيَةِ، أَيْ مِنْهَا، تَنْفِيرًا عَنْهُ وَيَدُل لِعَدَمِ الْجَوَازِ الْقِيَاسُ عَلَى الْخِتَانِ حَيْثُ يُخْتَنُ الْحَيُّ وَلاَ يُخْتَنُ الْمَيِّتُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَيْتِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمُ الْجَوَازَ بِمَا إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمَيِّتِ حَلْقُهُ أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يُعْتَادُ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ ذَا جَمَّةٍ فَلاَ يُحْلَقُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الشَّعْرَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ، وَأَجْزَاؤُهُ مُحْتَرَمَةٌ؛ فَلاَ تُنْتَهَكُ بِهَذَا، وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فِي هَذَا شَيْءٌ فَكُرِهَ فِعْلُهُ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ آخَرَانِ: الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، وَفِي اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (شَارِبٌ، وَلِحْيَةٌ) .

(26/103)


ثَانِيًا: شَعْرُ رَأْسِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ:
5 - اتَّفَقَ. جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ ثَلاَثَ ضَفَائِرَ، قَرْنَيْهَا وَنَاصِيَتَهَا، وَيُسْدَل خَلْفَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُجْعَل عَلَى صَدْرِهَا وَيُجْعَل ضَفِيرَتَيْنِ فَوْقَ الْقَمِيصِ تَحْتَ اللِّفَافَةِ؛ لأَِنَّهُ فِي حَال حَيَاتِهَا يُجْعَل وَرَاءَ ظَهْرِهَا لِلزِّينَةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ رُبَّمَا انْتَشَرَ الْكَفَنُ؛ فَيُجْعَل عَلَى صَدْرِهَا.
وَدَلِيل اسْتِحْبَابِ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ مَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُنَّ أَلْقَيْنَهَا خَلْفَهَا (1) .
وَالأَْصْل أَنْ لاَ يُفْعَل فِي الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ مُحَقَّقٍ، فَالظَّاهِرُ إِطْلاَعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فَعَلَتْ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) حديث أم عطية: " أنهن جعلن رأس بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 132، 134 ط. السلفية) .
(2) حديث: " اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 125 - ط السلفية) ، وأخرجه مسلم بلفظ: " اغسلنها وترًا: ثلاثًا أو خمسًا ".

(26/104)


ثَالِثًا: شَعْرُ سَائِرِ الْبَدَنِ مِنَ الْمَيِّتِ كَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الإِْبْطِ وَالْعَانَةِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ إِلَى كَرَاهَةِ حَلْقِ غَيْرِ مَا يَحْرُمُ حَلْقُهُ حَال الْحَيَاةِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ آخَرَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ،
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ. وَدَلِيل الْكَرَاهَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَرَاهَةِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ إِذَا أُزِيلَتْ أَنَّهَا تُصَرُّ وَتُضَمُّ مَعَ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ وَيُدْفَنُ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ آخَرَ: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لاَ تُدْفَنَ مَعَهُ بَل تُوَارَى فِي الأَْرْضِ فِي غَيْرِ الْقَبْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وَكَذَا تَحْرِيمُ حَلْقِ شَعْرِ الْعَانَةِ مِنَ الْمَيِّتِ لِمَا فِيهِ مِنْ لَمْسِ الْعَوْرَةِ وَرُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى نَظَرِهَا، وَالنَّظَرُ مُحَرَّمٌ فَلاَ يُرْتَكَبُ مِنْ أَجْل مَنْدُوبٍ، وَيُسَنُّ أَخْذُ شَعْرِ الإِْبِطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ (1) .

مَسْحُ الشَّعْرِ فِي الْوُضُوءِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَحْدَهُ مِنْ مَنَابِتِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 75، الاختيار 1 / 93، حاشية الدسوقي 1 / 410 - 411، 422 - 423، الزرقاني على خليل 2 / 88، المجموع 5 / 178 - 184، كشاف القناع 2 / 96 - 97.

(26/104)


الشَّعْرِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمُقَدَّمِ إِلَى نَقْرَةِ الْقَفَا مَعَ مَسْحِ شَعْرِ صُدْغَيْهِ فَمَا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاشِئِ مِنَ الْوَجْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُمْسَحَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ وَلَوْ قَل فَلاَ يَتَقَدَّرُ وُجُوبُهُ بِشَيْءٍ بَل يَكْفِي فِيهِ مَا يُمْكِنُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْمَسْحِ هُوَ مَسْحُ مِقْدَارِ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبُعُ الرَّأْسِ (1) لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ وَبَيَانُ الأَْدِلَّةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .

نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الشَّعْرِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لاَ يُنْقَضُ بِلَمْسِ الشَّعْرِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْصَدُ ذَلِكَ لِلشَّهْوَةِ غَالِبًا، وَإِنَّمَا تَحْصُل اللَّذَّةُ وَتَثُورُ الشَّهْوَةُ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ لِلإِْحْسَاسِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ لَمْسِ الشَّعْرِ وَالسِّنِّ وَالظُّفُرِ
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُقَابِل الأَْصَحِّ: يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّجُل بِلَمْسِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ لأَِنَّ
__________
(1) المجموع 1 / 398 - 400، مغني المحتاج 1 / 35، الشرح الصغير 1 / 109، كشاف القناع 1 / 98، فتح القدير 1 / 16.
(2) حديث المغيرة بن شعبة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته ". أخرجه مسلم (1 / 230 - ط الحلبي) .

(26/105)


الشَّعْرَ لَهُ حُكْمُ الْبَدَنِ فِي الْحِل بِالنِّكَاحِ وَوُجُوبِ غَسْلِهِ بِالْجَنَابَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْتَقَضُ بِلَمْسِ الشَّعْرِ لِمَنْ يَلْتَذُّ بِهِ إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِذَا كَانَ اللَّمْسُ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ أَوْ كَثِيفٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَقْصِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الشَّعْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ النَّقْضِ بِالْمَسِّ مُطْلَقًا مَا لَمْ يُنْزِل (1) .

غَسْل شَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الْجِنَابَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ شَعْرِ الرَّأْسِ بِالْمَاءِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مُسْتَرْسِلاً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ (2) وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِل بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ (3) قَال عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي، وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ.
__________
(1) المجموع 2 / 27، كشاف القناع 1 / 129، فتح القدير 1 / 48، 49، الشرح الصغير 1 / 143.
(2) حديث: " إن تحت كل شعرة جنابة ". أخرجه أبو داود (1 / 172 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة ثم أعله بضعف أحد رواته.
(3) حديث: " من ترك موضع شعرة ". أخرجه أبو داود (1 / 173 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ولمح ابن حجر في التلخيص (1 / 142 - ط شركة الطباعة الفنية) إلى أن الصواب وقفه على علي بن أبي طالب.

(26/105)


وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَقْضِ ضَفَائِرِ الْمَرْأَةِ فِي الْغُسْل:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ نَقْضُ الضُّفُرِ إِنْ كَانَ الْمَاءُ يَصِل إِلَى أُصُول شَعْرِهَا مِنْ غَيْرِ نَقْضٍ، فَإِنْ لَمْ يَصِل إِلاَّ بِالنَّقْضِ لَزِمَهَا نَقْضُهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ غُسْل الْجَنَابَةِ وَغُسْل الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضُفُرَ رَأْسِي؛ أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضِ وَلِلْجَنَابَةِ؟ قَال: لاَ. إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ (1) . وَهُوَ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ - بِثَلاَثَةِ أَلْفَاظٍ: إِفْرَادِ ذِكْرِ الْجَنَابَةِ وَإِفْرَادِ ذِكْرِ الْحَيْضِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَحَمَل الْجُمْهُورُ هَذِهِ الأَْحَادِيثَ عَلَى وُصُول الْمَاءِ إِلَى أُصُول الشَّعْرِ بِدَلِيل مَا ثَبَتَ مِنْ وُجُوبِ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى أُصُول الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ جَمْعًا بَيْنَ الأَْدِلَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ نَقْضِ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا فِي غُسْل الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَلاَ يَجِبُ فِي
__________
(1) حديث: " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ". أخرجه مسلم (1 / 259 - 260 - ط. الحلبي) .

(26/106)


غُسْل الْجَنَابَةِ إِذَا رَوَتْ أُصُول شَعْرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَشْدُودًا بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ تَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَوْ إِلَى بَاطِنِ الشَّعْرِ، وَالنَّقْضُ مُطْلَقًا مُسْتَحَبٌّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا: إِذَا كُنْتِ حَائِضًا خُذِي مَاءَكِ وَسِدْرَكِ وَامْتَشِطِي (1) . وَلاَ يَكُونُ الْمَشْطُ إِلاَّ فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ. وَلِلْبُخَارِيِّ: انْفُضِي شَعْرَكِ وَامْتَشِطِي (2) .
وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: انْفُضِي شَعْرَكِ وَاغْتَسِلِي (3)
لأَِنَّ الأَْصْل وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِتَحَقُّقِ وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ وَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْل الْجَنَابَةِ لأَِنَّهُ يَكْثُرُ فَيَشُقُّ نَقْضُ الشَّعْرِ (4) .
__________
(1) حديث: " إذا كنت حائضًا خذي ماءك وسدرك وامتشطي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 417 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 870 - ط الحلبي) بمعناه دون ذكر السدر.
(2) حديث: " انفضي شعرك وامتشطي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 418 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(3) حديث: " انفضي شعرك واغتسلي ". أخرجه ابن ماجه (1 / 210 - ط الحلبي) وقال البوصيري: " هذا إسناد رجاله ثقات، كذا في مصباح الزجاجة " (1 / 141 - ط دار الجنان) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 103، فتح القدير 1 / 52، المجموع 2 / 184، الشرح الصغير 1 / 169، كشاف القناع 1 / 154.

(26/106)


حَلْقُ شَعْرِ الْمَوْلُودِ:
10 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اسْتِحْبَابِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ السَّابِعِ، وَالتَّصَدُّقِ بِزِنَةِ شَعْرِهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِضَّةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ تَحَرَّى وَتَصَدَّقَ بِهِ. وَيَكُونُ الْحَلْقُ بَعْدَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ.
كَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِفَاطِمَةَ لَمَّا وَلَدَتِ الْحَسَنَ: احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالأَْوْفَاضِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الْمَوْلُودِ مُبَاحٌ، لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلاَ وَاجِبٍ، وَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ الْعَقِيقَةَ مُبَاحَةٌ، لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَال: لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ. مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَنْسُكْ عَنْهُ. عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَيْنِ مُكَافَأَتَاهُ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةً (2) وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الْعَقِيقَةِ سُنَّةً لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْعَقَّ بِالْمَشِيئَةِ وَهَذَا أَمَارَةُ الإِْبَاحَةِ.
__________
(1) حديث: " احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة. . . " أخرجه أحمد (6 / 390، 292 - ط الميمنية) من حديث أبي رافع بإسنادين يقوي أحدها الآخر. والأوفاض: الضعفاء من الناس الفقراء الذين لا دفاع بهم (المعجم الوسيط) .
(2) حديث: " لا يحب الله العقوق ". أخرجه النسائي (7 / 163 - ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (4 / 238 - ط دائرة المعارف العثمانية) واللفظ للنسائي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(26/107)


وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لأَِنَّهَا نُسِخَتْ بِالأُْضْحِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْعَقِيقَةَ كَانَتْ مِنَ الْفَضَائِل فَعَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ فَنُسِخَتْ بِالأُْضْحِيَّةِ، فَمَتَى نُسِخَ الْفَضْل لاَ يَبْقَى إِلاَّ الْكَرَاهَةُ (1) .

النَّظَرُ إِلَى شَعْرِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى شَعْرِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ لَهَا إِبْدَاؤُهُ لِلأَْجَانِبِ عَنْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَوْل بِعَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلاً (2) .

بَيْعُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ:
12 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: نُهِيَ أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعِمَ وَلاَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ وَلاَ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 362، بدائع الصنائع 5 / 69، المغني 8 / 646، 647، جواهر الإكليل 1 / 224، القليوبي 4 / 256.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 238، فتح القدير 1 / 182، البناية 9 / 247، مطالب أولي النهى 5 / 18، الروضة 7 / 26، حاشية الدسوقي 1 / 214.
(3) حديث: " نهي أن تباع ثمرة حتى تطعم ". أخرجه الدارقطني (3 / 14 - ط دار المحاسن) والبيهقي (5 / 340 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال البيهقي: تفرد برفعه عمر بن فروخ، وليس بالقوي، ورواه غيره موقوفًا. وكذا صوب الدارقطني وقفه على ابن عباس.

(26/107)


وَلأَِنَّ الصُّوفَ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَأَعْضَائِهِ، وَلأَِنَّ الصُّوفَ عَلَى الظَّهْرِ قَبْل الْجَزِّ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الْحَيَوَانِ لِقِيَامِهِ بِهِ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ. وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الشَّاةِ فَلاَ يُفْرَدُ بِالْبَيْعِ؛ وَلأَِنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَل سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ بِالْجَزَزِ تَحَرِّيًا، وَبِالْوَزْنِ مَعَ رُؤْيَةِ الْغَنَمِ عَلَى أَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ الْجَزُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ (1) .

السَّلَمُ فِي الصُّوفِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ سَلَمًا بِالْوَزْنِ لاَ بِالْجَزَزِ وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الْجَزَزِ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ -
وَيَجِبُ بَيَانُ نَوْعِ الصُّوفِ وَأَصْلِهِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى لأَِنَّ صُوفَ الإِْنَاثِ أَنْعَمُ، وَيَذْكُرُ لَوْنَهُ وَوَقْتَهُ هَل هُوَ خَرِيفِيٌّ أَوْ رَبِيعِيٌّ، وَطُولَهُ وَقِصَرَهُ وَوَزْنَهُ وَلاَ يَقْبَل إِلاَّ مُنَقًّى مِنَ الشَّعْرِ وَنَحْوِهِ، كَالشَّوْكِ وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ غَسْلِهِ (2) .
__________
(1) البناية 6 / 408، فتح القدير 6 / 50،51، كشف الحقائق 2 / 18، حاشية الدسوقي 3 / 215، روضة الطالبين 3 / 373، كشاف القناع 3 / 166.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 185، حاشية الدسوقي 3 / 215، نهاية المحتاج 4 / 206، كشاف القناع 3 / 295.

(26/108)


وَصْل الشَّعْرِ:
14 - يَحْرُمُ وَصْل شَعْرِ الْمَرْأَةِ بِشَعْرٍ نَجِسٍ أَوْ بِشَعْرِ آدَمِيٍّ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُزَوَّجَةُ وَغَيْرُهَا وَسَوَاءٌ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ (1) .
وَاللَّعْنَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَدُل عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَعِلَّةُ التَّحْرِيمِ مَا فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ بِتَغَيُّرِ خَلْقِ اللَّهِ.
وَالْوَاصِلَةُ الَّتِي تَصِل شَعْرَهَا بِشَعْرٍ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَالَّتِي يُوصَل شَعْرُهَا بِشَعْرٍ آخَرَ زُورًا، وَالْمُسْتَوْصِلَةُ الَّتِي يُوصَل لَهَا ذَلِكَ بِطَلَبِهَا. لِحُرْمَةِ الاِنْتِفَاعِ بِشَعْرِ الآْدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ، وَالأَْصْل أَنْ يُدْفَنَ شَعْرُهُ إِذَا انْفَصَل. أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَصْل بِغَيْرِ شَعْرِ الآْدَمِيِّ وَهُوَ طَاهِرٌ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ إِلَى حُرْمَةِ الْوَصْل إِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي يُكْرَهُ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: إِنْ وَصَلَتْ بِإِذْنِهِ جَازَ وَإِلاَّ حَرُمَ.
__________
(1) حديث: " لعن الله الواصلة والمستوصلة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 374 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.

(26/108)


الثَّانِي: يَحْرُمُ مُطْلَقًا. الثَّالِثُ: لاَ يَحْرُمُ وَلاَ يُكْرَهُ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُرَخَّصُ لِلْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ شَعْرِ الآْدَمِيِّ تَتَّخِذُهُ لِتَزِيدَ قُرُونَهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَيْسَتِ الْوَاصِلَةُ بِالَّتِي تَعْنُونَ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ تَعْرَى الْمَرْأَةُ عَنِ الشَّعْرِ فَتَصِل قَرْنًا مِنْ قُرُونِهَا بِصُوفٍ أَسْوَدَ وَإِنَّمَا الْوَاصِلَةُ الَّتِي تَكُونُ بَغِيًّا فِي شَبِيبَتِهَا فَإِذَا أَسَنَّتْ وَصَلَتْهَا بِالْقِيَادَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِيقِ فِي التَّحْرِيمِ بَيْنَ الْوَصْل بِالشَّعْرِ وَبِغَيْرِهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ تَحْرِيمَ وَصْل الشَّعْرِ بِشَعْرٍ سَوَاءٌ كَانَ شَعْرَ آدَمِيٍّ أَوْ شَعْرَ غَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ. قَالُوا وَلاَ بَأْسَ بِمَا تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا أَيْ مِنْ غَيْرِ الشَّعْرِ لِلْحَاجَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تَصِل الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا الشَّعْرَ وَلاَ الْقَرَامِل وَلاَ الصُّوفَ (1) .

عَقْصُ الشَّعْرِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ عَقْصِ الشَّعْرِ فِي الصَّلاَةِ. وَالْعَقْصُ هُوَ شَدُّ ضَفِيرَةِ الشَّعْرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 239، قوانين الأحكام الشرعية ص 482 ط. دار العلم للملايين، روضة الطالبين 1 / 276، مطالب أولي النهى 1 / 90، كشاف القناع 1 / 81.

(26/109)


حَوْل الرَّأْسِ كَمَا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ أَوْ يُجْمَعُ الشَّعْرُ فَيُعْقَدُ فِي مُؤَخَّرَةِ الرَّأْسِ.
وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. فَلَوْ صَلَّى كَذَلِكَ فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ، حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وُجُوبَ الإِْعَادَةِ فِيهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
وَدَلِيل الْكَرَاهَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَامَ وَجَعَل يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَل إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَال: مَالَكَ وَرَأْسِي؟ فَقَال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّمَا مَثَل هَذَا مَثَل الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ (1) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ذَاكَ كِفْل الشَّيْطَانِ (2) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ. . وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ (3) .
وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، أَنَّ الشَّعْرَ يَسْجُدُ مَعَ الْمُصَلِّي وَلِهَذَا مَثَّلَهُ فِي الْحَدِيثِ بِالَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ شَامِلٌ لِكُل مَنْ صَلَّى كَذَلِكَ، سَوَاءٌ تَعَمَّدَهُ لِلصَّلاَةِ أَمْ كَانَ
__________
(1) حديث: " إنما مثل هذا مثل الذي يصلي ". أخرجه مسلم (1 / 355 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " ذاك كفل الشيطان ". أخرجه الترمذي (2 / 224 - ط الحلبي) من حديث أبي رافع، وقال: " حديث حسن ".
(3) حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 297 - ط السلفية) ومسلم (1 / 354 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.

(26/109)


كَذَلِكَ قَبْل الصَّلاَةِ وَفَعَلَهَا لِمَعْنًى آخَرَ وَصَلَّى عَلَى حَالِهِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَيَدُل لَهُ إِطْلاَقُ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَنْقُول عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَال مَالِكٌ: النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ فَعَل ذَلِكَ لِلصَّلاَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ بَقِيَّةُ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّعْرِ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الآْتِيَةِ: (إِحْرَامٌ، وَتَرْجِيلٌ، وَتَنَمُّصٌ، وَإِحْدَادٌ، وَاخْتِضَابٌ، وَتَسْوِيدٌ، حَلْقٌ، وَدِيَاتٌ) .

الْعِنَايَةُ بِشَعْرِ الإِْنْسَانِ الْحَيِّ:
16 - يُسْتَحَبُّ تَرْجِيل الشَّعْرِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ (2) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّرْجِيل فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ (3) . وَيُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي التَّرْجِيل، وَيُسَنُّ الإِْغْبَابُ فِيهِ، وَالإِْكْثَارُ مِنْهُ مَكْرُوهٌ. كَمَا يُسْتَحَبُّ دَهْنُ الشَّعْرِ غِبًّا وَهُوَ أَنْ يُدْهَنَ ثُمَّ يُتْرَكَ حَتَّى يَجِفَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 216، والمجموع 4 / 98، الزرقاني على خليل 1 / 180، كشاف القناع 1 / 372.
(2) حديث: " من كان له شعر فليكرمه ". أخرجه أبو داود (4 / 395 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (1 / 368 - ط السلفية) .
(3) حديث عائشة: كان يصغي إلَيَّ رأسه. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 273 - ط السلفية) .

(26/)


الدُّهْنُ ثُمَّ يُدْهَنَ ثَانِيًا، وَقِيل يُدْهَنُ يَوْمًا وَيَوْمًا لاَ. وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ: (إِدْهَانٌ، وَامْتِشَاطٌ، وَتَرْجِيلٌ) .

حُكْمُ شَعْرِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ:
17 - شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَأْكُول اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ، وَفِي كُل حَالَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِهِ أَوْ مُنْفَصِلاً عَنْهُ.
18 - أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ الْمُتَّصِل بِهِ إِذَا أُخِذَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَمِثْلُهُ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) وَالآْيَةُ سِيقَتْ لِلاِمْتِنَانِ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْمُتَّصِل وَالْمُنْفَصِل وَيَأْتِي الْخِلاَفُ فِي شُمُولِهَا بِشَعْرِ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ.
وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ إِذَا جُزَّ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الْمَلاَبِسِ وَالْمَفَارِشِ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَعْرِ الْمُذَكَّيَاتِ كِفَايَةٌ لِحَاجَةِ النَّاسِ.
أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ الْمُنْفَصِل عَنْهُ فِي الْحَيَاةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَتِهِ إِذَا جُزَّ
__________
(1) سورة النحل / 80.

(26/)


جَزًّا. أَمَّا إِذَا نُتِفَ فَأُصُولُهُ الَّتِي فِيهَا الدُّسُومَةُ نَجِسَةٌ، وَالأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ. فَهُوَ مَيِّتٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ فَهُوَ طَاهِرٌ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُجَزَّ جَزًّا بِخِلاَفِ مَا نُتِفَ نَتْفًا فَإِنَّ أُصُولَهُ تَكُونُ نَجِسَةً.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى طَهَارَتِهِ إِذَا جُزَّ وَاسْتَدَلُّوا بِالآْيَةِ وَالإِْجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ الْقِيَاسُ نَجَاسَتَهُ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْحَيَاةِ وَلَكِنْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى طَهَارَتِهَا.
أَمَّا إِذَا انْفَصَل شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ فِي حَيَاتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ نُتِفَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَزِّ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، وَالْجَزُّ فِي الشَّعْرِ كَالذَّبْحِ، فِي الْحَيَوَانِ وَلَوْ ذُبِحَ الْحَيَوَانُ لَمْ يَنْجُسْ، فَكَذَلِكَ إِذَا جُزَّ شَعْرُهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ نَجِسٌ سَوَاءٌ انْفَصَل بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَتْفٍ لأَِنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ.
وَدَلِيل هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. حَدِيثُ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَجُبُّونَ أَسْنِمَةَ الإِْبِل وَيَقْطَعُونَ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ، فَقَال: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ (1) .
__________
(1) حديث: ما قطع من البهيمة وهي حية. . . . ". أخرجه الترمذي (4 / 72 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ".

(26/111)


غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اسْتَثْنَوْا الشَّعْرَ لِلإِْجْمَاعِ عَلَى طَهَارَتِهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ وَلِذَا اسْتَثْنَوْا الشَّعْرَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ شَعْرَ كُل حَيَوَانٍ كَبَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ مَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ، وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ نَجِسٌ، لاَ فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْحَيَاةِ وَحَالَةِ الْمَوْتِ.
فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَفِي أُخْرَى طَاهِرٌ.
19 - أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ الْمُتَّصِل بِهِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْخِنْزِيرَ وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِنْزِيرَ وَالْكَلْبَ لأَِنَّ عَيْنَهُمَا نَجِسَةٌ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ كُل حَيٍّ طَاهِرٌ.
أَمَّا شَعْرُ الْمُنْفَصِل عَنْهُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ هُوَ طَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ، إِلاَّ مَا لاَ تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَالشَّعْرِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَهُمْ إِذَا جُزَّ، لاَ إِذَا نُتِفَ. (يُنْظَرُ فِي تَفْصِيل أَحْكَامِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ مُصْطَلَحُ: خِنْزِيرٌ ف 7) .

(26/111)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ لأَِنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، فَمَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ نَجِسٌ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ شَعْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا طَاهِرٌ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 138، 139 بدائع الصنائع 1 / 63، المجموع 1 / 240، 241، 242، حاشية الدسوقي 1 / 49 و53، الشرح الصغير 1 / 42، 44، 49، 50، المغني 1 / 81، الإنصاف 1 / 93.
(2) الفروع 1 / 235، ترجيل الشعر: تسريحه أو تسويته وتزيينه.

(26/112)


شِعْرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّعْرُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ، يُقَال: شَعَرَ بِهِ كَنَصَرَ وَكَرُمَ شَعْرًا وَشَعَرًا إِذَا عَلِمَ بِهِ وَفَطِنَ لَهُ وَعَقَلَهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي: أَيْ لَيْتَ عِلْمِي. وَفِي الْحَدِيثِ: لَيْتَ شِعْرِي مَا صَنَعَ فُلاَنٌ (1) أَيْ لَيْتَ عِلْمِي حَاضِرٌ أَوْ مُحِيطٌ بِمَا صَنَعَ " وَأَشْعَرَهُ الأَْمْرَ وَأَشْعَرَهُ بِهِ: أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، وَفِي التَّنْزِيل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (2) أَيْ: وَمَا يُدْرِيكُمْ. وَغَلَبَ الشِّعْرُ عَلَى مَنْظُومِ الْقَوْل لِشَرَفِهِ بِالْوَزْنِ وَالْقَافِيَةِ، وَحَدُّهُ: مَا تَرَكَّبَ تَرَكُّبًا مُتَعَاضِدًا وَكَانَ مُقَفًّى مَوْزُونًا مَقْصُودًا بِهِ ذَلِكَ (3) .
وَالشِّعْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْكَلاَمُ الْمُقَفَّى الْمَوْزُونُ عَلَى سَبِيل الْقَصْدِ (4) .
__________
(1) حديث: " ليت شعري ما صنع فلان " أورده ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (2 / 481 - ط الحلبي) .
(2) سورة الأنعام الآية / 109.
(3) لسان العرب، القاموس المحيط، المصباح المنير، المفردات في غريب القرآن، التعريفات، الكليات 3 / 77، تهذيب الأسماء واللغات 1 / 162 من القسم الثاني.
(4) قواعد الفقه للبركتي.

(26/112)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
(1) النَّثْرُ:
2 - النَّثْرُ هُوَ: الْكَلاَمُ الْمُتَفَرِّقُ مِنْ غَيْرِ قَافِيَةٍ أَوْ وَزْنٍ، مِنْ نَثَرَ الشَّيْءَ إِذَا رَمَاهُ مُتَفَرِّقًا (1) . وَهُوَ قَسِيمُ الشِّعْرِ

(2) السَّجْعُ:
3 - السَّجْعُ هُوَ: تَوَاطُؤُ الْفَاصِلَتَيْنِ مِنَ النَّثْرِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فِي الآْخِرِ، يُقَال: سَجَعَ الرَّجُل كَلاَمَهُ: إِذَا جَعَل لِكَلاَمِهِ فَوَاصِل كَقَوَافِي الشِّعْرِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْزُونًا (2) .

(3) الرَّجَزُ:
4 - الرَّجَزُ ضَرْبٌ مِنَ الشِّعْرِ عِنْدَ الأَْكْثَرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَقَارُبِ أَجْزَائِهِ وَقِلَّةِ حُرُوفِهِ. وَاضْطِرَابِ اللِّسَانِ بِهِ. وَقِيل: إِنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَنْصَافُ أَبْيَاتٍ أَوْ أَثْلاَثٌ؛ وَلأَِنَّهُ يُقَال لِقَائِلِهِ رَاجِزٌ لاَ شَاعِرٌ

. (4) الْحُدَاءُ:
5 - الْحُدَاءُ - بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَتَخْفِيفِ الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ، يُمَدُّ وَيُقْصَرُ - هُوَ سَوْقُ الإِْبِل بِضَرْبٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْغِنَاءِ. وَالْحُدَاءُ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالرَّجَزِ، وَقَدْ
__________
(1) لسان العرب، القاموس المحيط، فتح الباري 9 / 90.
(2) التعريفات 156، المصباح المنير، القاموس المحيط، فتح الباري 9 / 90.

(26/113)


يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنَ الشِّعْرِ (1)
. (5) الْغِنَاءُ:
6 - الْغِنَاءُ: التَّطْرِيبُ وَالتَّرَنُّمُ بِالْكَلاَمِ الْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِ، يَكُونُ مَصْحُوبًا بِالْمُوسِيقَى وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَعَلُّمِ الشِّعْرِ وَإِنْشَائِهِ وَإِنْشَادِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:

أَوَّلاً: إِنْشَاءُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ وَاسْتِمَاعُهُ:
7 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْسَ فِي إِبَاحَةِ الشِّعْرِ خِلاَفٌ، وَقَدْ قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالاِسْتِشْهَادِ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَتَعَرُّفِ مَعَانِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلاَمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُسْتَدَل بِهِ أَيْضًا عَلَى النَّسَبِ وَالتَّارِيخِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ، يُقَال: الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ (3) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الشِّعْرُ نَوْعٌ مِنَ الْكَلاَمِ، قَال الشَّافِعِيُّ: حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلاَمِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ: يَعْنِي أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ يُكْرَهُ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمُتَضَمَّنَاتِهِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير، القاموس المحيط، فتح الباري 10 / 538.
(2) المعجم الوسيط.
(3) المغني 9 / 177.
(4) أحكام القرآن3 / 462.

(26/113)


وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ كَافَّةً: الشِّعْرُ مُبَاحٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فُحْشٌ وَنَحْوُهُ، وَهُوَ كَلاَمٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَقَدْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْرَ وَاسْتَنْشَدَهُ، وَأَمَرَ بِهِ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْشَدَهُ أَصْحَابُهُ بِحَضْرَتِهِ فِي الأَْسْفَارِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْشَدَهُ الْخُلَفَاءُ وَأَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ وَفُضَلاَءُ السَّلَفِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى إِطْلاَقِهِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا الْمَذْمُومَ مِنْهُ وَهُوَ الْفُحْشُ وَنَحْوُهُ (1) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِي يَتَحَصَّل مِنْ كَلاَمِ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّ الشِّعْرِ الْجَائِزِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُكْثَرْ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَخَلاَ عَنْ هَجْوٍ وَعَنِ الإِْغْرَاقِ فِي الْمَدْحِ وَالْكَذِبِ الْمَحْضِ وَالْغَزَل الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ جَائِزًا. وَنَقَل ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الإِْجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَاسْتَدَل بِأَحَادِيثَ وَبِمَا أُنْشِدَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اسْتَنْشَدَهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ مُجَلَّدًا فِي أَسْمَاءِ مَنْ نُقِل عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مِنْ شِعْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الأَْدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُول: الشِّعْرُ مِنْهُ حَسَنٌ وَمِنْهُ قَبِيحٌ، خُذِ الْحَسَنَ وَدَعِ الْقَبِيحَ،
__________
(1) صحيح مسلم لشرح النووي 15 / 14.

(26/114)


وَلَقَدْ رَوَيْتُ مِنْ شِعْرِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَشْعَارًا مِنْهَا الْقَصِيدَةُ فِيهَا أَرْبَعُونَ بَيْتًا، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الأَْدَبِ الْمُفْرَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلاَمِ، حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلاَمِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلاَمِ (1) .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَال: رَدَفْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَال: هَل مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَال: هِيهِ فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَال: هِيهِ ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَال: هِيهِ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حِفْظِ الأَْشْعَارِ وَالاِعْتِنَاءِ بِهَا إِذَا تَضَمَّنَتِ الْحِكَمَ وَالْمَعَانِيَ الْمُسْتَحْسَنَةَ شَرْعًا وَطَبْعًا. وَإِنَّمَا اسْتَكْثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ لأَِنَّهُ كَانَ حَكِيمًا، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ (3) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 539، وحديث عبد الله بن عمرو: " الشعر بمنزلة الكلام " أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص299 - ط السلفية) وضعف إسناده ابن حجر في الفتح (10 / 539 - ط السلفية) ولكن ذكر له شواهد تقويه.
(2) حديث عمرو بن الشريد: " ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه مسلم (4 / 1767 - ط الحلبي) ، وفي رواية: " فلقد كاد يسلم في شعره ".
(3) تفسير القرطبي 13 / 145 - 146، صحيح مسلم لشرح النووي 15 / 11. وقوله: أراد أمية ابن الصلت أن يسلم هو تتمة الحديث السابق.

(26/114)


وَلَمَّا أَرَادَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَدْحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: هَاتِ، لاَ يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ (1) .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشِي وَهُوَ يَقُول:

خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ

الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيل الْهَامَ عَنْ مُقِيلِهِ

وَيُذْهِل الْخَلِيل عَنْ خَلِيلِهِ

فَقَال عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَل عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْل (2)
. وَرَوَى أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) تفسير القرطبي 13 / 146. وحديث: " هات، لا يفضض الله فاك ". أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (4 / 253 - ط. وزارة الأوقاف العراقية) ، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 217 - 218 - ط القدسي) وقال: " فيه من لم أعرفهم ".
(2) حديث: " خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل ". أخرجه الترمذي (5 / 139 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".

(26/115)


أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً (1) .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لاَ وَجْهَ لِقَوْل مَنْ حَرَّمَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا أَوْ قَال بِكَرَاهَتِهِ.
8 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: فَقَدْ يَكُونُ فَرْضًا كَمَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشِّهَابِ الْخَفَاجِيِّ قَال: مَعْرِفَةُ شِعْرِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُخَضْرَمِينَ (وَهُمْ مَنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالإِْسْلاَمَ) وَالإِْسْلاَمِيِّينَ رِوَايَةً وَدِرَايَةً فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ فُقَهَاءِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ بِهِ تَثْبُتُ قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا الأَْحْكَامُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا الْحَلاَل مِنَ الْحَرَامِ، وَكَلاَمُهُمْ وَإِنْ جَازَ فِيهِ الْخَطَأُ فِي الْمَعَانِي فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الْخَطَأُ فِي الأَْلْفَاظِ وَتَرْكِيبِ الْمَبَانِي (2) .
9 - وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَذَلِكَ إِذَا تَضَمَّنَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَمْدَهُ أَوِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، أَوْ ذِكْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الصَّلاَةَ عَلَيْهِ أَوْ مَدْحَهُ أَوِ الذَّبَّ عَنْهُ، أَوْ ذِكْرَ أَصْحَابِهِ أَوْ مَدْحَهُمْ، أَوْ ذِكْرَ الْمُتَّقِينَ وَصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، أَوْ كَانَ فِي الْوَعْظِ وَالْحِكَمِ أَوِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْمَعَاصِي أَوِ الْحَثِّ عَلَى الطَّاعَاتِ وَمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (3) .
__________
(1) حديث: " إن من الشعر حكمة ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 537 - ط السلفية) .
(2) رد المحتار 1 / 32.
(3) تفسير القرطبي 13 / 146، فتح الباري 10 / 547، رد المحتار 1 / 443، نهاية المحتاج 8 / 283، أسنى المطالب 4 / 346.

(26/115)


10 - وَقَدْ يَكُونُ الشِّعْرُ حَرَامًا إِذَا كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا لاَ يَحِل كَوَصْفِ الْخَمْرِ الْمُهَيِّجِ لَهَا، أَوْ هِجَاءِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ وَالْكَذِبِ فِي الشِّعْرِ، بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، أَوِ التَّشْبِيبِ بِمُعَيَّنٍ مِنْ أَمْرَدَ أَوِ امْرَأَةٍ غَيْرِ حَلِيلَةٍ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُقَال عَلَى الْمَلاَهِي (1) .
11 - وَقَدْ يَكُونُ الشِّعْرُ مَكْرُوهًا. . وَلِلْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِنَ الشِّعْرِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الشَّخْصُ وَجَعَلَهُ صِنَاعَةً لَهُ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ وَشَغَلَهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الشِّعْرِ فِي وَصْفِ الْخُدُودِ وَالْقُدُودِ وَالشُّعُورِ، وَكَذَلِكَ تُكْرَهُ قِرَاءَةُ مَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْفِسْقِ وَالْخَمْرِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الإِْكْثَارُ مِنَ الشِّعْرِ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ لِقِلَّةِ سَلاَمَةِ فَاعِلِهِ مِنَ التَّجَاوُزِ فِي الْكَلاَمِ لأَِنَّ غَالِبَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُبَالَغَاتٍ، رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِل عَنْ إِنْشَادِ الشِّعْرِ فَقَال: لاَ تُكْثِرَنَّ مِنْهُ فَمِنْ عَيْبِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ
__________
(1) رد المحتار 1 / 32 - 33 - 433، الفواكه الدواني 2 / 408، نهاية المحتاج 8 / 283، أسنى المطالب 4 / 346، المغني 9 / 178.
(2) رد المحتار 1 / 32 - 33 - 443.

(26/116)


الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (1) . قَال: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ أَنِ اجْمَعِ الشُّعَرَاءَ قِبَلَكَ، وَسَلْهُمْ عَنِ الشِّعْرِ، وَهَل بَقِيَ مَعَهُمْ مَعْرِفَةٌ، وَأَحْضِرْ لَبِيدًا ذَلِكَ، فَجَمَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّا لَنَعْرِفُهُ وَنَقُولُهُ، وَسَأَل لَبِيدًا فَقَال: مَا قُلْتُ بَيْتَ شِعْرٍ مُنْذُ سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يَقُول (2) : {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (3) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنَ الْمَذْمُومِ فِي الشِّعْرِ التَّكَلُّمُ مِنَ الْبَاطِل بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ وَتَحْسِينِ الْقَوْل (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّبَ مِنْ حَلِيلَتِهِ بِمَا حَقُّهُ الإِْخْفَاءُ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَتَأَذَّ بِإِظْهَارِهِ وَإِلاَّ حَرُمَ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ مِنَ الشِّعْرِ الْهِجَاءُ وَالشِّعْرُ الرَّقِيقُ الَّذِي يُشَبِّبُ بِالنِّسَاءِ (6) .
12 - وَقَدْ يَكُونُ الشِّعْرُ مُبَاحًا وَهُوَ الأَْصْل فِي الشِّعْرِ. وَنُصُوصُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ مُتَقَارِبَةٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْيَسِيرُ مِنَ الشِّعْرِ لاَ بَأْسَ
__________
(1) سورة يس / 69.
(2) الفواكه الدواني 2 / 458، تفسير القرطبي 15 / 54.
(3) سورة البقرة / 1، 2.
(4) أحكام القرآن 3 / 465.
(5) نهاية المحتاج 8 / 283، الجمل 5 / 382.
(6) الفروع 6 / 575.

(26/116)


بِهِ إِذَا قُصِدَ بِهِ إِظْهَارُ النِّكَاتِ وَالتَّشَابِيهِ الْفَائِقَةِ وَالْمَعَانِي الرَّائِقَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الشِّعْرِ فِي ذِكْرِ الأَْطْلاَل وَالأَْزْمَانِ وَالأُْمَمِ فَمُبَاحٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ إِنْشَادُ الشِّعْرِ وَإِنْشَاؤُهُ مَا لَمْ يُكْثِرْ مِنْهُ فَيُكْرَهُ، إِلاَّ فِي الأَْشْعَارِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الاِسْتِدْلاَل (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ إِنْشَاءُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ وَاسْتِمَاعُهُ - مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مَا يَمْنَعُهُ أَوْ يَقْتَضِيهِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ شُعَرَاءُ يُصْغِي إِلَيْهِمْ كَحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْشَدَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ ابْنِ أَبِي الصَّلْتِ مِائَةَ بَيْتٍ، أَيْ لأَِنَّ أَكْثَرَ شِعْرِهِ حِكَمٌ وَأَمْثَالٌ وَتَذْكِيرٌ بِالْبَعْثِ وَلِهَذَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَادَ أَنْ يُسْلِمَ (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً (4) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْسَ فِي إِبَاحَةِ الشِّعْرِ خِلاَفٌ، وَقَدْ قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَيْهِ (5) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 32 - 443.
(2) الفواكه الدواني 2 / 458.
(3) حديث: " كاد أن يسلم " تقدم تخريجه ف 7.
(4) نهاية المحتاج 8 / 283، أسنى المطالب 4 / 346 وحديث: " إن من الشعر حكمة " تقدم تخريجه ف / 7.
(5) المغني 9 / 177.

(26/117)


ثَانِيًا: تَعَلُّمُ الشِّعْرِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الشِّعْرِ مُبَاحٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُخْفٌ أَوْ حَثٌّ عَلَى شَرٍّ أَوْ مَا يَدْعُو إِلَى حَظْرِهِ.
وَتَعَلُّمُ بَعْضِ الشِّعْرِ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشِّهَابِ الْخَفَاجِيِّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ نِزَاعَ فِي جَوَازِ تَعَلُّمِ الأَْشْعَارِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُونَ لِلاِسْتِدْلاَل بِهَا. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِئْجَارٌ لِتَعْلِيمِ نَحْوِ شِعْرٍ مُبَاحٍ وَيَجُوزُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهِ (2) .

ثَالِثًا: مَنْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشِّعْرِ:
14 - كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ وَأَبْلَغَ الْبُلَغَاءِ، وَقَدْ أُوتِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجِبَ عَنْهُ الشِّعْرُ لِمَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدِ ادَّخَرَهُ لَهُ مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ دَلاَلَةً عَلَى صِدْقِهِ، كَمَا سَلَبَ عَنْهُ الْكِتَابَةَ وَأَبْقَاهُ عَلَى حُكْمِ الأُْمِّيَّةِ تَحْقِيقًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ وَتَأْكِيدًا، وَلِئَلاَّ تَدْخُل الشُّبْهَةُ عَلَى مَنْ أُرْسِل إِلَيْهِ فَيَظُنَّ أَنَّهُ قَوِيَ عَلَى الْقُرْآنِ بِمَا فِي طَبْعِهِ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الشِّعْرِ (3) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 32، الفواكه الدواني 2 / 458، أسنى المطالب 4 / 182، مطالب أولي النهى 3 / 643.
(2) الفواكه الدواني 2 / 458، ومطالب أولي النهى 3 / 643.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 21، تفسير القرطبي 15 / 55.

(26/117)


قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (1) .
15 - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَمَثُّل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ وَإِنْشَادِهِ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِمَا رَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّل بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَتَمَثَّل بِشِعْرِ ابْنِ أَبِي رَوَاحَةَ وَيَتَمَثَّل وَيَقُول

وَيَأْتِيكَ بِالأَْخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

(2) . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ

أَلاَ كُل شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِل

(3) .
وَإِصَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزْنَ الشِّعْرِ لاَ يُوجِبُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الشِّعْرَ، وَكَذَلِكَ مَا يَأْتِي مِنْ نَثْرِ كَلاَمِهِ مِمَّا يَدْخُل فِي وَزْنٍ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل أَنْتِ إِلاَّ أُصْبُعٌ دَمِيَتْ
__________
(1) سورة يس / 69.
(2) حديث: " كان يتمثل بشعر ابن رواحة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 139 - ط الحلبي) وفي إسناده مقال، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 128 - ط القدسي) وعزاه إلى البزار والطبراني من حديث ابن عباس وقال: " رجالهما رجال الصحيح ".
(3) فتح الباري 10 / 537 - 541، وحديث: " أصدق كلمة قالها شاعر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 537 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1768 - ط الحلبي) .

(26/118)


وَفِي سَبِيل اللَّهِ مَا لَقِيتِ (1) وَقَوْل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ (2)
فَقَدْ يَأْتِي مِثْل ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (3) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (4) وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (5) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا شِعْرًا وَلاَ فِي مَعْنَاهُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَلاَ شَاعِرًا؛ لأَِنَّ إِصَابَةَ الْقَافِيَتَيْنِ مِنَ الرَّجَزِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ، لاَ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِل عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَلاَ يُسَمَّى شَاعِرًا، كَمَا أَنَّ مَنْ خَاطَ خَيْطًا لاَ يَكُونُ خَيَّاطًا، قَال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى {مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} (6) وَمَا عَلَّمْنَاهُ أَنْ يُشْعِرَ، أَيْ مَا جَعَلْنَاهُ شَاعِرًا، وَهَذَا لاَ
__________
(1) حديث: " هل أنت إلا إصبع دميت. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 537 - ط السلفية) من حديث جندب بن عبد الله.
(2) حديث: " أنا النبي لا كذب. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 28 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1400 - ط الحلبي) .
(3) سورة آل عمران / 92.
(4) سورة الصف / 13.
(5) سورة سبأ / 13.
(6) سورة يس / 69.

(26/118)


يَمْنَعُ أَنْ يُنْشِدَ شَيْئًا مِنَ الشِّعْرِ (1) .

رَابِعًا: إِنْشَادُ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَضْمُونِ الشِّعْرِ، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا جَازَ إِنْشَادُهُ فِي الْمَسْجِدِ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مَعَانِي الآْثَارِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُنْشَدَ الأَْشْعَارُ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ يُبَاعَ فِيهِ السِّلَعُ، وَأَنْ يُتَحَلَّقَ فِيهِ قَبْل الصَّلاَةِ (3) ثُمَّ وَفَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ لِحَسَّانٍ مِنْبَرًا يُنْشِدُ عَلَيْهِ الشِّعْرَ (4) بِحَمْل الأَْوَّل عَلَى مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَهْجُوهُ بِهِ، أَوْ عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرُ مَنْ فِيهِ مُتَشَاغِلاً بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ فِيهِ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ كَالسُّوقِ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَلِيًّا عَنْ خَصْفِ النَّعْل فِيهِ (5) . مَعَ أَنَّهُ لَوِ
__________
(1) تفسير القرطبي 15 / 52 - 54.
(2) تفسير القرطبي 12 / 270 - 271، إعلام الساجد بأحكام المساجد 323.
(3) حديث: " نهى أن تنشد الأشعار في المسجد. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 139 - ط الحلبي) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 / 358 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) من حديث عبد الله بن عمرو واللفظ للترمذي وقال: " حديث حسن ".
(4) حديث: " وضع لحسان منبرًا ينشد عليه الشعر ". أخرجه أبو داود (5 / 280 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 138 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(5) حديث خصف علي للنعل، أخرجه الطحاوي (4 / 359 - ط. مطبعة الأنوار المحمدية) .

(26/119)


اجْتَمَعَ النَّاسُ لِخَصْفِ النِّعَال فِيهِ كُرِهَ، فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَإِنْشَادُ الشِّعْرِ وَالتَّحَلُّقُ قَبْل الصَّلاَةِ فَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ كُرِهَ وَمَا لاَ فَلاَ. وَهَذَا نَظَرَ مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ (1) .
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلاَّ يُنْشَدَ فِي الْمَسْجِدِ شِعْرٌ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ لِلإِْسْلاَمِ وَلاَ حَثٌّ عَلَى مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ حَرُمَ.
وَنُقِل عَنِ الصَّيْمَرِيِّ قَوْلُهُ: كَرِهَ قَوْمٌ إِنْشَادَ الشِّعْرِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِمَكْرُوهٍ، وَقَدْ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُنْشِدُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْشَدَهُ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَصِيدَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، لَكِنْ لاَ يُكْثِرُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الشِّعْرِ الْمُبَاحِ أَوِ الْمُرَغِّبِ فِي الآْخِرَةِ أَوِ الْمُتَعَلِّقِ بِمَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرِ بَعْضِ مَنَاقِبِهِ وَمَآثِرِهِ لاَ مُطْلَقِ الشِّعْرِ، وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: لَعَل الْحَدِيثَ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِيهِ هَجْوٌ أَوْ مَدْحٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُدِحَ وَأُنْشِدَ مَدْحُهُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، وَقَال ابْنُ بَطَّالٍ: لَعَلَّهُ كَانَ فِيمَا يَتَشَاغَل النَّاسُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ
__________
(1) رد المحتار 1 / 444، وتفسير القرطبي 12 / 271.

(26/119)


كُل مَنْ فِي الْمَسْجِدِ يَغْلِبُ عَلَيْهِ.
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: يُبَاحُ فِي الْمَسْجِدِ إِنْشَادُ شِعْرٍ مُبَاحٍ (1) لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَأَصْحَابُهُ يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ (2) .

خَامِسًا: إِنْشَادُ الْمُحْرِمِ الشِّعْرَ:
17 - يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ إِنْشَادُ الشِّعْرِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْحَلاَل إِنْشَادُهُ، فَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ إِنْشَادُ الشِّعْرِ الَّذِي فِيهِ وَصْفُ الْمَرْأَةِ بِمَا لاَ فُحْشَ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ أَنْشَدَ مِثْل ذَلِكَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ قَال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِالإِْبِل وَيَقُول:

وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمْيًا

. . . إِلَخْ، فَقُلْتُ: أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ قَال: إِنَّمَا الرَّفَثُ مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ (3) .

سَادِسًا: كِتَابَةُ الْبَسْمَلَةِ قَبْل الشِّعْرِ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ ذِكْرُ " بِسْمِ
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد 322 - 323، ومطالب أولي النهى 2 / 258.
(2) حديث جابر بن سمرة: " شهدت رسول الله أكثر من مائة مرة. . . ". أخرجه أحمد (5 / 91 - ط الحلبي) ، وأخرجه كذلك الترمذي (5 / 140 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) رد المحتار 1 / 32، فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2 / 319.

(26/120)


اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فِي ابْتِدَاءِ جَمِيعِ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال غَيْرِ الْمَحْظُورَةِ، وَفِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِل، عَمَلاً بِقَوْل النَّبِيِّ: كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ (1) أَيْ: نَاقِصٌ غَيْرُ تَامٍّ، فَيَكُونُ قَلِيل الْبَرَكَةِ. وَنَقَل ابْنُ الْحَكَمَ - كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ - أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لاَ تُكْتَبُ أَمَامَ الشِّعْرِ وَلاَ مَعَهُ، وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ، قَال الْقَاضِي: لأَِنَّهُ يَشُوبُهُ الْكَذِبُ وَالْهَجْوُ غَالِبًا (2) .

سَابِعًا: جَعْل تَعْلِيمِ الشِّعْرِ صَدَاقًا:
19 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ جَعْل تَعْلِيمِ الشِّعْرِ لِلْمَرْأَةِ صَدَاقًا لَهَا إِذَا كَانَ مِمَّا يَحِل تَعَلُّمُهُ، وَفِيهِ كُلْفَةٌ بِحَيْثُ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَيْهِ، وَقَدْ سُئِل الْمُزَنِيُّ عَنْ صِحَّةِ جَعْل الصَّدَاقِ شِعْرًا فَقَال: يَجُوزُ إِنْ كَانَ مِثْل قَوْل الْقَائِل وَهُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ الأَْنْصَارِيُّ:

يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ

وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ مَا أَرَادَا

يَقُول الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَزَادِي

وَتَقْوَى اللَّهِ أَعْظَمُ مَا اسْتَفَادَا (3)
__________
(1) حديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم. . . ". أخرجه السبكي في الطبقات الكبرى (1 / 6 - نشر دار المعرفة) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده اضطراب.
(2) كشاف القناع 1 / 336.
(3) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 288.

(26/120)


ثَامِنًا: الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ كُتُبِ الشِّعْرِ:
20 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَكَذَا الشِّعْرُ الَّذِي يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَمَا لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ لاَ قَطْعَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ الْجِلْدُ وَالْقِرْطَاسُ نِصَابًا (1) وَلِلتَّفْصِيل (ر: سَرِقَةٌ) .

تَاسِعًا: الْحَدُّ بِمَا جَاءَ فِي الشِّعْرِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا اعْتَرَفَ الشَّاعِرُ فِي شِعْرِهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا، هَل يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِهَذَا الاِعْتِرَافِ.
وَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الشَّاعِرَ قَدْ يُبَالِغُ فِي شِعْرِهِ حَتَّى تَصِل بِهِ الْمُبَالَغَةُ إِلَى الْكَذِبِ وَادِّعَاءِ مَا لَمْ يَحْدُثْ وَنِسْبَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ، رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ وَتَحْسِينِ الْقَوْل، رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُل وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} (2) قَال: أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ فِيهِ، وَعَقَّبَ ابْنُ كَثِيرٍ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَبَجَّحُونَ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 121.
(2) سورة الشعراء / 224 - 226.

(26/121)


بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمْ وَلاَ عَنْهُمْ، فَيَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ شِعْرًا لِلنُّعْمَانِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ يَعْتَرِفُ فِيهِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ قَال: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُومِنِينَ مَا شَرِبْتُهَا قَطُّ، وَمَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِمَّا قُلْتُ، وَمَا ذَاكَ الشِّعْرُ إِلاَّ فَضْلَةً مِنَ الْقَوْل، وَشَيْءٌ طَفَحَ عَلَى لِسَانِي، فَقَال عُمَرُ: أَظُنُّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لاَ تَعْمَل لِي عَمَلاً أَبَدًا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَدَّهُ عَلَى الشَّرَابِ وَقَدْ ضَمَّنَهُ شِعْرَهُ؛ لأَِنَّ الشُّعَرَاءَ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَلَكِنْ ذَمَّهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلاَمَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَزَلَهُ بِهِ (1) .

عَاشِرًا: التَّكَسُّبُ بِالشِّعْرِ:
22 - ذَهَبَ بَعْضُهُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّكَسُّبَ بِالشِّعْرِ مِنَ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ وَمِنَ السُّحْتِ الْحَرَامِ؛ لأَِنَّ مَا يُدْفَعُ إِلَى الشَّاعِرِ إِنَّمَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ عَادَةً لِقَطْعِ لِسَانِهِ، وَالشَّاعِرُ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ لِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا الشَّيْطَانَ (2) . قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَال عُلَمَاؤُنَا:
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 353 - 354، تفسير ابن العربي 3 / 465، تفسير القرطبي 13 / 149.
(2) حديث: " خذوا الشيطان ". أخرجه مسلم (4 / 1769 - 1770 - ط الحلبي) .

(26/121)


وَإِنَّمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مَعَ هَذَا الشَّاعِرِ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ، فَلَعَلَّهُ كَانَ مِمَّنْ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ اتَّخَذَ الشِّعْرَ طَرِيقًا لِلتَّكَسُّبِ، فَيُفْرِطُ فِي الْمَدْحِ إِذَا أُعْطِيَ، وَفِي الْهَجْوِ وَالذَّمِّ إِذَا مُنِعَ، فَيُؤْذِي النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ، فَكُل مَا يَكْتَسِبُهُ بِالشِّعْرِ حَرَامٌ، وَكُل مَا يَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَلاَ يَحِل الإِْصْغَاءُ إِلَيْهِ، بَل يَجِبُ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مِنْ لِسَانِهِ قَطْعًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُدَارِيَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ، وَيُدَافِعَهُ بِمَا أَمْكَنَ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا ابْتِدَاءً؛ لأَِنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ أَعْطَاهُ بِنِيَّةِ وِقَايَةِ الْعِرْضِ، فَمَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةً (1) .
وَذَكَرَ الْحَصْكَفِيُّ الْحَنَفِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِي الشُّعَرَاءَ وَلِمَنْ يَخَافُ لِسَانَهُ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ مَا وَرَدَ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلاً قَال: أَتَى شَاعِرٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا بِلاَل، اقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا (2) .
__________
(1) رد المحتار 5 / 272، تفسير القرطبي 13 / 150.
(2) رد المحتار 5 / 272 وحديث: " يا بلال اقطع لسانه. . . . ". أخرجه الخطابي في الغريب (2 / 170 - ط مركز البحث العلمي - مكة المكرمة) والبيهقي في سننه (10 / 241 - ط دائرة المعارف العثمانية) ولإرساله قال البيهقي: " هذا منقطع ".

(26/122)


وَقَال عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا أَمِيرَ الْمُومِنِينَ، إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مُدِحَ وَأَعْطَى وَفِيهِ أُسْوَةٌ لِكُل مُسْلِمٍ، قَال: وَمَنْ مَدَحَهُ؟ قَال: عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فَكَسَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ (1) . أَمَّا الشَّاعِرُ الَّذِي يُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَلاَ يُعْطَى مُدَارَاةً لَهُ وَقَطْعًا لِلِسَانِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ حَلاَلٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ بُرْدَتَهُ إِلَى كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا امْتَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ (2) .
وَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفَدَ عَلَيْهِ الشُّعَرَاءُ كَمَا كَانُوا يَفِدُونَ عَلَى الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لاَ يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُول، حَتَّى قَدِمَ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ، فَتَعَرَّضَ لَهُ جَرِيرٌ وَطَلَبَ شَفَاعَتَهُ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُمْ، فَلَمْ يَأْذَنْ إِلاَّ لِجَرِيرٍ، فَلَمَّا مَثَل بَيْنَ يَدَيْهِ قَال لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَقُل إِلاَّ حَقًّا، فَمَدَحَهُ بِأَبْيَاتٍ، فَقَال عُمَرُ: يَا جَرِيرُ، لَقَدْ وُلِّيتَ هَذَا الأَْمْرَ وَمَا
__________
(1) تفسير ابن العربي 3 / 466. وحديث عدي بن أرطاة. . . . أخرجه ابن قدامة في " إثبات صفة العلو " (ص 69 - ط الدار السلفية) وضعفه الذهبي في " العلو للعلي الغفار " (ص 42 - ط المكتبة السلفية) .
(2) رد المحتار 5 / 272. وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع بردته إلى كعب بن زهير. . . . أورده ابن حجر في الإصابة (3 / 295 - ط مطبعة السعادة) إلى ابن قانع.

(26/122)


أَمْلِكُ إِلاَّ ثَلاَثَمِائَةٍ، فَمِائَةٌ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَمِائَةٌ أَخَذَتْهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ، يَا غُلاَمُ: أَعْطِهِ الْمِائَةَ الثَّالِثَةَ، فَقَال: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهَا لأََحَبُّ مَالٍ كَسَبْتُهُ إِلَيَّ (1) .

حَادِيَ عَشَرَ: شَهَادَةُ الشَّاعِرِ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى قَبُول شَهَادَةِ الشَّاعِرِ الَّذِي لاَ يَرْتَكِبُ بِشِعْرِهِ مُحَرَّمًا أَوْ مَا يُخِل بِالْمُرُوءَةِ، فَإِنِ ارْتَكَبَ ذَلِكَ فَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِ بِهِ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ كَثُرَ إِنْشَادُهُ وَإِنْشَاؤُهُ حِينَ تَنْزِل بِهِ مُهِمَّاتُهُ وَيَجْعَلُهُ مَكْسَبَةً لَهُ تَنْقُضُ مُرُوءَتُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ إِذَا كَانَ لاَ يَرْتَكِبُ بِشِعْرِهِ مُحَرَّمًا، وَإِلاَّ امْتَنَعَتْ شَهَادَتُهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ إِذَا هَجَا مَعْصُومَ الدَّمِ - مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا - بِمَا يَفْسُقُ بِهِ، بِخِلاَفِ الْحَرْبِيِّ فَلاَ يَحْرُمُ هِجَاؤُهُ، وَلاَ تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ بِهِجَائِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهِجَاءِ الْكُفَّارِ (3) .
وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ جَوَازُ هَجْوِ الْكَافِرِ.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 465 - 468.
(2) رد المحتار 1 / 433، والفواكه الدواني 2 / 458.
(3) حديث: " أمر حسان بن ثابت بهجاء الكفار ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 546 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1933 - ط الحلبي) من حديث البراء بن عازب.

(26/123)


الْمُعَيَّنِ، وَعَلَيْهِ فَيُفَارِقُ عَدَمَ جَوَازِ لَعْنِهِ بِأَنَّ اللَّعْنَ الإِْبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَلاَعِنُهُ لاَ يَتَحَقَّقُ بَعْدَهُ مِنْهُ فَقَدْ يُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرٍ.
وَقَالُوا: تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ كَذَلِكَ إِذَا شَبَّبَ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِأَنْ ذَكَرَ صِفَاتِهَا مِنْ نَحْوِ حُسْنٍ وَطُولٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيذَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا هَتَكَ السِّتْرَ وَوَصَفَ أَعْضَاءَهَا الْبَاطِنَةَ بِمَا حَقُّهُ الإِْخْفَاءُ وَلَوْ كَانَ مِنْ حَلِيلَتِهِ، وَمِثْل الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الأَْمْرَدُ إِذَا صَرَّحَ بِعِشْقِهِ، فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الشَّاعِرُ مَنْ يُشَبِّبُ بِهِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لأَِنَّ التَّشْبِيبَ صَنْعَةٌ، وَغَرَضُ الشَّاعِرِ تَحْسِينُ صَنْعَتِهِ لاَ تَحْقِيقُ الْمَذْكُورِ فِيهِ، فَلَيْسَ ذِكْرُ شَخْصٍ مَجْهُولٍ تَعْيِينًا، لَكِنَّ بَعْضَ الشُّعَرَاءِ قَدْ يَنْصِبُونَ قَرَائِنَ تَدُل عَلَى تَعْيِينِ الْمُشَبَّبِ بِهِ، وَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ التَّشْبِيبُ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ فِي حُكْمِ التَّشْبِيبِ بِمُعَيَّنٍ.
وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ أَكْثَرَ الْكَذِبَ فِي شِعْرِهِ، وَجَاوَزَ فِي ذَلِكَ الْحَدَّ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الشَّاعِرُ مَتَى كَانَ يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَمْدَحُ بِالْكَذِبِ أَوْ يَقْذِفُ مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمَةً فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تُرَدُّ، وَسَوَاءٌ قَذَفَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 283، الجمل 5 / 382، أسنى المطالب 4 / 346، فتح الباري 10 / 546.
(2) المغني 9 / 178.

(26/123)


شَعِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّعِيرُ جِنْسٌ مِنَ الْحُبُوبِ مَعْرُوفٌ وَاحِدَتُهُ شَعِيرَةٌ، وَهُوَ نَبَاتٌ عُشْبِيٌّ حَبِّيٌّ دُونَ الْبُرِّ فِي الْغِذَاءِ (1) .

الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالشَّعِيرِ:
وَرَدَتْ أَحْكَامُ الشَّعِيرِ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا:

الزَّكَاةُ:
2 - فَالشَّعِيرُ مِنَ الْحُبُوبِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتِ النِّصَابَ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (2) . الآْيَةَ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَْرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والبدائع 2 / 72.
(2) سورة البقرة / 267.
(3) حديث: " لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة. . . " أخرجه الحاكم (1 / 401 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي موسى ومعاذ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(26/124)


وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُضَمُّ الشَّعِيرُ إِلَى غَيْرِهِ كَالْقَمْحِ وَالسُّلْتِ لأَِنَّهَا أَجْنَاسٌ ثَلاَثَةٌ مُخْتَلِفَةٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّعِيرَ يُضَمُّ إِلَى السُّلْتِ، فَهُمَا عِنْدَهُمْ صِنْفَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلاَ يُضَمُّ إِلَى الْقَمْحِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّعِيرَ وَالسُّلْتَ وَالْقَمْحَ أَصْنَافٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ لِتَكْمِيل النِّصَابِ (2) .
وَلاَ تَرِدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ لاَ يَشْتَرِطُ النِّصَابَ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، بَل تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ (3) . رَاجِعِ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ " زَكَاةٌ ف 102 ".
__________
(1) حديث: " فيما سقت السماء والعيون. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 347 - ط السلفية) من حديث ابن عمر.
(2) جواهر الإكليل 1 / 124، القوانين الفقهية ص 110، المغني لابن قدامة 2 / 690، مغني المحتاج 1 / 281، البدائع 2 / 60.
(3) الاختيار 1 / 113، والزيلعي 1 / 291.

(26/124)


زَكَاةُ الْفِطْرِ:
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّعِيرَ مِنَ الْحُبُوبِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تُؤَدَّى مِنْهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ وَأَنَّ الْمُجْزِئَ مِنْهُ هُوَ صَاعٌ (1) لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَرَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْل خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ (2) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نُعْطِيهَا - أَيْ زَكَاةَ الْفِطْرِ - فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ (3) . الْحَدِيثَ.
رَاجِعِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .

فِي الْبَيْعِ:
4 - لاَ يَدْخُل فِي مُطْلَقِ بَيْعِ الأَْرْضِ مَا هُوَ
__________
(1) سبل السلام 2 / 137، البدائع 2 / 72، والقوانين الفقهية ص 77، مغني المحتاج 1 / 405، المغني لابن قدامة 3 / 57.
(2) حديث: " فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 367 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 677 - ط الحلبي) .
(3) حديث أبي سعيد: " كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 372 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 678 - ط الحلبي) .

(26/125)


مَزْرُوعٌ فِيهَا مِنَ الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَسَائِرِ الزُّرُوعِ وَكُل مَا يُؤْخَذُ بِقَلْعٍ أَوْ قَطْعٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلدَّوَامِ فَأَشْبَهَ مَنْقُولاَتِ الدَّارِ (1) .
التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ) .

فِي الرِّبَا:
5 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّعِيرَ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يَحْرُمُ بَيْعُهَا بِمِثْلِهَا إِلاَّ بِشَرْطِ الْحُلُول وَالْمُمَاثَلَةِ وَالتَّقَابُضِ قَبْل التَّفَرُّقِ.
وَإِذَا بِيعَتْ بِجِنْسٍ آخَرَ كَالتَّمْرِ مَثَلاً جَازَ التَّفَاضُل، وَاشْتُرِطَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (2) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ،
__________
(1) مغني المحتاج (2 / 81) ، جواهر الإكليل (2 / 59) ، المغني لابن قدامة (4 / 84) .
(2) حديث: " الذهب بالذهب مثلاً بمثل. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 532 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت، وقال: " حسن صحيح ".

(26/125)


وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 22، المغني لابن قدامة 4 / 4، البدائع 5 / 195، جواهر الإكليل 2 / 17. وحديث: " الذهب بالذهب. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.

(26/126)


شِغَارٌ

التَّعْرِيفُ
1 - الشِّغَارُ بِكَسْرِ الشِّينِ لُغَةً: نِكَاحٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل آخَرَ امْرَأَةً عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ امْرَأَةً أُخْرَى بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَصَدَاقُ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعُ الأُْخْرَى. وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الْقَرَائِبَ فَقَال: لاَ يَكُونُ الشِّغَارُ إِلاَّ أَنْ تُنْكِحَهُ وَلِيَّتَكَ عَلَى أَنْ يُنْكِحَكَ وَلِيَّتَهُ.
وَسُمِّيَ شِغَارًا إِمَّا تَشْبِيهًا بِرَفْعِ الْكَلْبِ رِجْلَهُ لِيَبُول فِي الْقُبْحِ، قَال الأَْصْمَعِيُّ: الشِّغَارُ الرَّفْعُ فَكَأَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَفَعَ رِجْلَهُ لِلآْخَرِ عَمَّا يُرِيدُ. وَإِمَّا لِخُلُوِّهِ عَنِ الْمَهْرِ لِقَوْلِهِمْ: شَغَرَ الْبَلَدُ إِذَا خَلاَ. وَشَاغَرَ الرَّجُل الرَّجُل أَيْ زَوَّجَ كُل وَاحِدٍ صَاحِبَهُ حَرِيمَتَهُ، عَلَى أَنَّ بُضْعَ كُل وَاحِدَةٍ صَدَاقُ الأُْخْرَى وَلاَ مَهْرَ سِوَى ذَلِكَ، وَكَانَ سَائِغًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ (1) .
وَالشِّغَارُ فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنَّ مَهْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعُ الأُْخْرَى.
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير والمعجم الوسيط.

(26/126)


وَهَذَا تَعْرِيفُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ وَلِيَّتَهُ، سَوَاءٌ جَعَلاَ مَهْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعَ الأُْخْرَى أَوْ سَكَتَ عَنِ الْمَهْرِ أَوْ شَرَطَا نَفْيَهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: صَرِيحُ الشِّغَارِ أَنْ يَقُول زَوَّجْتُكَ مُوَلِّيَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي مُوَلِّيَتَكَ وَلاَ يَذْكُرَانِ مَهْرًا. وَأَمَّا إِنْ قَال: زَوَّجْتُكَ مُوَلِّيَتِي بِكَذَا مَهْرًا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي وَلِيَّتَكَ بِكَذَا فَهُوَ وَجْهُ الشِّغَارِ؛ لأَِنَّهُ شِغَارٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَمَّى لِكُل وَاحِدَةٍ مَهْرًا فَلَيْسَ بِشِغَارٍ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَرَطَ تَزَوُّجَ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى فَهُوَ شِغَارٌ (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الشِّغَارِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ وَلِكَوْنِهِمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ الشَّرْعِيِّ وَبَعْضِ مَسَائِلِهِ التَّفْصِيلِيَّةِ، نَذْكُرُ تَفْصِيل الْحُكْمِ فِي كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ - هُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل الرَّجُل حَرِيمَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ " الآْخَرُ حَرِيمَتَهُ - ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ أَوْ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا لِلأُْخْرَى
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 641، والبدائع 2 / 278، ومغني المحتاج 3 / 143، وجواهر الإكليل 1 / 311.

(26/127)


لاَ مَهْرَ سِوَى ذَلِكَ -
وَهَذَا النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ صَحِيحٌ لأَِنَّهُ مُؤَبَّدٌ أُدْخِل فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا لِلأُْخْرَى - وَالنِّكَاحُ لاَ يُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ، كَمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَتَكُونُ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةً لأَِنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا بَل يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْل كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ.
وَالنَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ لَيْسَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرٌ (1) مَحْمُولٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الشِّغَارِ أَنْ يُجْعَل بُضْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَدَاقًا لِلأُْخْرَى مَعَ الْقَبُول مِنَ الآْخَرِ فَإِنْ لَمْ يَقُل ذَلِكَ وَلاَ مَعْنَاهُ، بَل قَال: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ، فَقَبِل الآْخَرُ أَوْ قَال: عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ بِنْتِي صَدَاقًا لِبِنْتِكَ فَلَمْ يَقْبَل الآْخَرُ بَل زَوَّجَهُ بِنْتَهُ وَلَمْ يَجْعَلْهَا صَدَاقًا، لَمْ يَكُنْ شِغَارًا وَإِنَّمَا نِكَاحًا صَحِيحًا بِاتِّفَاقٍ (2) .
__________
(1) حديث: " نهى أن تنكح المرأة بالمرأة " أورده بهذا اللفظ الكاساني في البدائع (2 / 278 - ط الحلبي) ، ولم يعزه إلى أي مصدر، وسيأتي بلفظ مشهور ويأتي تخريجه.
(2) البدائع 2 / 278، حاشية ابن عابدين 2 / 332، 292، والمغني 6 / 641.

(26/127)


3 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ صَرِيحَ الشِّغَارِ هُوَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلرَّجُل: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ أَوْ أُخْتَكَ أَوْ أَمَتَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي أَوْ أُخْتِي مَعَ جَعْل تَزْوِيجِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَهْرًا لِلأُْخْرَى. فَهَذَا النِّكَاحُ فَاسِدٌ يُفْسَخُ قَبْل الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ أَبَدًا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْدَ الْبِنَاءِ صَدَاقُ الْمِثْل.
وَإِنْ سَمَّى لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرًا دُونَ الأُْخْرَى كَأَنْ يَقُول: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ مَثَلاً عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ أَيْضًا، وَيُفْسَخُ نِكَاحُ مَنْ لَمْ يُسَمَّ لَهَا صَدَاقٌ قَبْل الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ أَبَدًا، وَلَهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ صَدَاقُ مِثْلِهَا. أَمَّا الْمُسَمَّى لَهَا الصَّدَاقُ فَيُفْسَخُ نِكَاحُهَا قَبْل الْبِنَاءِ وَيَمْضِي بَعْدَ الْبِنَاءِ بِالأَْكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى وَصَدَاقِ الْمِثْل، وَيُسَمَّى هَذَا النِّكَاحُ بِمَرْكَبِ الشِّغَارِ عِنْدَهُمْ. وَإِنْ سَمَّى لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرًا كَأَنْ يَقُول: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ وَنَحْوَهَا بِمِائَةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ مَثَلاً عَلَى شَرْطِ أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي أَوْ أَمَتِي بِمِائَةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ فَهَذَا النِّكَاحُ فَاسِدٌ كَذَلِكَ يُفْسَخُ قَبْل الْبِنَاءِ وَيَمْضِي بَعْدَ الْبِنَاءِ بِالأَْكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى وَصَدَاقِ الْمِثْل، وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ وَجْهَ الشِّغَارِ (1) .
4 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ -
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 311، مواهب الجليل 3 / 512.

(26/128)


وَهُوَ قَوْل الرَّجُل لِلرَّجُل زَوَّجْتُكَ بِنْتِي أَوْ نَحْوَهَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ أَوْ نَحْوَهَا وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقُ الأُْخْرَى، فَيَقْبَل الآْخَرُ ذَلِكَ كَأَنْ يَقُول: تَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ وَزَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى مَا ذَكَرْتُ - بَاطِلٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ ابْنَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ (1) وَلِمَعْنَى الاِشْتِرَاكِ فِي الْبُضْعِ حَيْثُ جَعَلَهُ مَوْرِدَ النِّكَاحِ وَصَدَاقًا لأُِخْرَى فَأَشْبَهَ تَزْوِيجَ وَاحِدَةٍ مِنِ اثْنَيْنِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: عِلَّةُ الْبُطْلاَنِ، التَّعْلِيقُ وَالتَّوَقُّفُ الْمَوْجُودُ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَقِيل لِخُلُوِّهِ مِنَ الْمَهْرِ. فَإِنْ لَمْ يُجْعَل الْبُضْعُ صَدَاقًا بِأَنْ سَكَتَ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ فَالأَْصَحُّ الصِّحَّةُ لِعَدَمِ التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ شَرْطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ وَذَلِكَ لاَ يُفْسِدُ النِّكَاحَ وَيَجِبُ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْل.
فَعَلَى هَذَا لَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ وَبُضْعُ ابْنَتِكَ صَدَاقٌ لاِبْنَتِي صَحَّ النِّكَاحُ الأَْوَّل وَبَطَل النِّكَاحُ الثَّانِي.
__________
(1) حديث ابن عمر: نهى عن الشغار: أخرجه البخاري (الفتح 9 / 162 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1034 - ط الحلبي) .

(26/128)


وَلَوْ قَال: وَبُضْعُ ابْنَتِي صَدَاقٌ لاِبْنَتِكَ بَطَل الأَْوَّل وَصَحَّ الثَّانِي.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ - لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَالتَّوَقُّفِ.
وَلَوْ سَمَّيَا مَالاً مَعَ جَعْل الْبُضْعِ صَدَاقًا كَأَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي بِأَلْفٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ مَثَلاً عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ بِأَلْفٍ كَذَلِكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقٌ لِلأُْخْرَى، أَوْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَيَكُونَ بُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَأَلْفُ دِرْهَمٍ صَدَاقًا لِلأُْخْرَى، فَالأَْصَحُّ بُطْلاَنُ هَذَا النِّكَاحِ لِوُجُودِ التَّشْرِيكِ فِيهِ.
وَكَذَا إِذَا سَمَّيَا لإِِحْدَاهُمَا مَهْرًا دُونَ الأُْخْرَى كَأَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقٌ لِلأُْخْرَى فَالأَْصَحُّ بُطْلاَنُهُ أَيْضًا لِوُجُودِ مَعْنَى التَّشْرِيكِ فِيهِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ - يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَى تَفْسِيرِ صُورَةِ الشِّغَارِ وَلأَِنَّهُ لَمْ يَخْل عَنِ الْمَهْرِ.
وَمِنْ صُوَرِ الشِّغَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ ابْنِي ابْنَتَكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقُ الأُْخْرَى.

(26/129)


وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ زَيْدٌ مَثَلاً ابْنَتَهُ وَصَدَاقُ الْبِنْتِ بُضْعُ الْمُطَلَّقَةِ فَزَوَّجَهُ عَلَى ذَلِكَ، صَحَّ التَّزْوِيجُ بِمَهْرِ الْمِثْل؛ لِفَسَادِ الْمُسَمَّى وَوَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ (1) .
5 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشِّغَارَ - وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ شَخْصٌ وَلِيَّتَهُ لِشَخْصٍ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ وَلِيَّتَهُ - نِكَاحٌ فَاسِدٌ، لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشِّغَارِ (2) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ جَلَبَ وَلاَ جَنَبَ وَلاَ شِغَارَ فِي الإِْسْلاَمِ (3) . وَلأَِنَّهُ جَعَل كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ سَلَفًا فِي الآْخَرِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْنِي ثَوْبَكَ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ ثَوْبِي.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُول: عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الأُْخْرَى، أَوْ لَمْ يَقُل ذَلِكَ بِأَنْ سَكَتَا عَنْهُ أَوْ شَرَطَا نَفْيَهُ، وَكَذَا لَوْ جَعَلاَ بُضْعَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَدَرَاهِمَ مَعْلُومَةً مَهْرًا لِلأُْخْرَى.
قَالُوا: وَلَيْسَ فَسَادُ نِكَاحِ الشِّغَارِ مِنْ قِبَل التَّسْمِيَةِ الْفَاسِدَةِ، بَل مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَقَفَهُ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 142، روضة الطالبين 7 / 41 - 40.
(2) حديث: " نهى عن الشغار " تقدم تخريجه ف 4.
(3) حديث: " لا جلب ولا جنب ولا. . . " أخرجه النسائي (6 / 111 - ط المكتبة التجارية) من حديث عمران بن حصين، وفي إسناده مقال. ولكن أورد له ابن حجر شواهد تقويه (تلخيص الحبير) (2 / 161، 162 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(26/129)


شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ لأَِنَّهُ شَرَطَ تَمْلِيكَ الْبُضْعِ لِغَيْرِ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ جَعَل تَزْوِيجَهُ إِيَّاهَا مَهْرًا لِلأُْخْرَى فَكَأَنَّهُ مَلَّكَهُ إِيَّاهَا بِشَرْطِ انْتِزَاعِهَا مِنْهُ.
فَإِنْ سَمَّيَا لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرًا كَأَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ وَمَهْرُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ قَال: وَمَهْرُ ابْنَتِي مِائَةٌ وَمَهْرُ ابْنَتِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ صَحَّ النِّكَاحُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا هُوَ مَنْصُوصُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل فِي هَذَا الْعَقْدِ تَشْرِيكٌ وَإِنَّمَا حَصَل فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَبَطَل الشَّرْطُ وَصَحَّ النِّكَاحُ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: هَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَلأَِنَّهُ شَرَطَ نِكَاحَ إِحْدَاهُمَا لِنِكَاحِ الأُْخْرَى فَلَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ سَمَّيَا الْمَهْرَ لإِِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى صَحَّ نِكَاحُ مَنْ سُمِّيَ لَهَا؛ لأَِنَّ فِي نِكَاحِهَا تَسْمِيَةً وَشَرْطًا. فَصَحَّتِ التَّسْمِيَةُ وَبَطَل الشَّرْطُ دُونَ الأُْخْرَى الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ خَلاَ مِنْ صَدَاقٍ سِوَى نِكَاحِ الأُْخْرَى.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ بِفَسَادِ النِّكَاحَيْنِ لأَِنَّهُ فَسَدَ فِي إِحْدَاهُمَا فَيَفْسُدُ فِي الأُْخْرَى (1) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 641، وكشاف القناع 5 / 92.

(26/130)


رَاجِعِ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ، مَهْرٌ، صَدَاقٌ) .

شَغْل الذِّمَّةِ

انْظُرْ اشْتِغَال الذِّمَّةِ، ذِمَّةٌ

(26/130)


شَفَاعَةٌ

التَّعْرِيفُ
1 - الشَّفَاعَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ شَفَعَ إِلَى فُلاَنٍ فِي الأَْمْرِ شَفْعًا، وَشَفَاعَةً طَالَبَهُ بِوَسِيلَةٍ، أَوْ ذِمَامٍ (1) . أَوْ هِيَ التَّوَسُّطُ بِالْقَوْل فِي وُصُول شَخْصٍ إِلَى مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ أَوْ إِلَى خَلاَصٍ مِنْ مَضَرَّةٍ كَذَلِكَ (2) . أَوْ هِيَ سُؤَال التَّجَاوُزِ عَنِ الذُّنُوبِ مِنَ الَّذِي وَقَعَ الْجِنَايَةُ فِي حَقِّهِ (3) . وَاسْتُشْفِعَ بِفُلاَنٍ إِلَيَّ طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُشَفَّعَ فَشَفَّعْتُهُ أَيْ قَبِلْتُ شَفَاعَتَهُ (4) .
2 - وَالشَّفَاعَةُ إِنْ كَانَتْ إِلَى اللَّهِ فَهِيَ الدُّعَاءُ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ، فَفِي الأَْثَرِ: مَنْ دَعَا لأَِخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَال الْمَلَكُ الْمُوَكَّل بِهِ: وَلَكَ بِمِثْلٍ (5) . وَإِنْ كَانَتْ إِلَى النَّاسِ فَهِيَ كَلاَمُ الشَّفِيعِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الفتوحات الإلهية في تفسير آية: (من يشفع شفاعة حسنة) (الآية 85 من سورة النساء) .
(3) التعريفات للجرجاني.
(4) القاموس.
(5) حديث: " من دعا لأخيه بظهر الغيب. . . " أخرجه مسلم (4 / 2094 - ط الحلبي) من حديث أبي الدرداء.

(26/131)


فِي حَاجَةٍ يَطْلُبُهَا لِغَيْرِهِ إِلَى مَنْ يَسْتَطِيعُ قَضَاءَهَا كَالْمَلِكِ مَثَلاً (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْغَاثَةُ:
3 - وَهُوَ مِنْ أَغَاثَ الْمَكْرُوبَ إِغَاثَةً وَمَغُوثَةً: أَيْ فَرَّجَ عَنْهُ وَنَصَرَهُ فِي حَالَةِ الشِّدَّةِ (2) . فَكُلٌّ مِنَ الشَّفَاعَةِ وَالإِْغَاثَةِ مَعُونَةٌ لِلطَّالِبِ

ب - التَّوَسُّل:
4 - وَهُوَ التَّقَرُّبُ يُقَال: تَوَسَّلْتُ إِلَى اللَّهِ بِالْعَمَل وَتَوَسَّل بِفُلاَنٍ إِلَى كَذَا (3) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّفَاعَةِ:
الشَّفَاعَةُ قِسْمَانِ: شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ، وَشَفَاعَةٌ سَيِّئَةٌ.
الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ:
5 - أ - الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ: وَهِيَ: أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ لإِِزَالَةِ ضَرَرٍ أَوْ رَفْعِ مَظْلَمَةٍ عَنْ مَظْلُومٍ، أَوْ جَرِّ مَنْفَعَةٍ إِلَى مُسْتَحِقٍّ لَيْسَ فِي جَرِّهَا ضَرَرٌ وَلاَ ضِرَارٌ، فَهَذِهِ مَرْغُوبٌ فِيهَا مَأْمُورٌ بِهَا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (4) . وَلِلشَّفِيعِ نَصِيبٌ فِي
__________
(1) لسان العرب، الفتوحات الإلهية.
(2) متن اللغة.
(3) المصباح المنير.
(4) سورة المائدة / 2.

(26/131)


أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا قَال اللَّهُ تَعَالَى (1) : {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} (2) وَيَنْدَرِجُ فِيهَا دُعَاءُ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ عَنْ ظَهْرِ الْغَيْبِ.

الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ:
5 - ب - الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ هِيَ: أَنْ يَشْفَعَ فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ بَعْدَ بُلُوغِهِ السُّلْطَانَ أَوْ هَضْمِ حَقٍّ أَوْ إِعْطَائِهِ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لأَِنَّهُ تَعَاوُنٌ عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ. قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3) وَلِلشَّفِيعِ فِي هَذَا كِفْلٌ مِنَ الإِْثْمِ. قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا. . .} (4) الآْيَةَ. وَالضَّابِطُ الْعَامُّ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هِيَ: مَا كَانَتْ فِيمَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّرْعُ، وَالسَّيِّئَةَ فِيمَا كَرِهَهُ وَحَرَّمَهُ (5) .

وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ فِي الآْخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا:
أَوَّلاً - الشَّفَاعَةُ فِي الآْخِرَةِ:
6 - أَجْمَعَ أَهْل السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ عَلَى وُقُوعِ الشَّفَاعَةِ فِي الآْخِرَةِ وَوُجُوبِ الإِْيمَانِ بِهَا. لِصَرِيحِ قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ
__________
(1) تفسير فخر الرازي في تفسير آية (من يشفع شفاعة حسنة) الفتوحات الإلهية.
(2) سورة النساء رقم 85.
(3) سورة المائدة / 2.
(4) سورة النساء / 85.
(5) المصادر السابقة.

(26/132)


الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (1) وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} (2) وَقَدْ جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ الَّتِي بَلَغَتْ بِمَجْمُوعِهَا حَدَّ التَّوَاتُرِ بِصِحَّةِ الشَّفَاعَةِ فِي الآْخِرَةِ لِمُذْنِبِي الْمُسْلِمِينَ، فَيَشْفَعُ لَهُ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ الرَّحْمَنُ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ (3) .
جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فَيَقُول اللَّهُ عَزَّ وَجَل: شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ. . إِلَخْ. (4)
7 - قَال الْعُلَمَاءُ: الشَّفَاعَةُ فِي الآْخِرَةِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:
أَوَّلُهَا: مُخْتَصَّةٌ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ: الإِْرَاحَةُ مِنْ هَوْل الْمَوْقِفِ، وَتَعْجِيل الْحِسَابِ، وَهِيَ: الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى.
ثَانِيهَا: فِي إِدْخَال قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهَذِهِ أَيْضًا خَاصَّةٌ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَالِثُهَا: الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ فَيَشْفَعُ فِيهِمْ نَبِيُّنَا، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) سورة طه / 109.
(2) سورة الأنبياء / 28.
(3) شرح النووي لصحيح مسلم 3 / 35.
(4) حديث الشفاعة: " فيقول الله: شفعت الملائكة " أخرجه مسلم (1 / 170 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.

(26/132)


رَابِعُهَا: فِيمَنْ دَخَل النَّارَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ: فَقَدْ جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَلاَئِكَةِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
خَامِسُهَا. فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لأَِهْلِهَا (1) .
8 - وَيَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَسْأَل اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ شَفَاعَةَ الْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: " قَدْ عُرِفَ بِالنَّقْل الْمُسْتَفِيضِ سُؤَال السَّلَفِ الصَّالِحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَتُهُمْ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى مَنْ قَال: إِنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَسْأَل الإِْنْسَانُ اللَّهَ تَعَالَى: أَنْ يَرْزُقَهُ شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ لِلْمُذْنِبِينَ؛ لأَِنَّ الشَّفَاعَةَ قَدْ تَكُونُ لِتَخْفِيفِ الْحِسَابِ، وَزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ. ثُمَّ كُل عَاقِلٍ: مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَفْوِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِعَمَلِهِ مُشْفِقٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ. وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِل أَلاَ يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالرَّحْمَةِ لأَِنَّهَا لأَِصْحَابِ الذُّنُوبِ (2) ".
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 113، أسنى المطالب 3 / 104، الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 320، شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 35.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 36.

(26/133)


ثَانِيًا - الشَّفَاعَةُ فِي الدُّنْيَا:
أ - الشَّفَاعَةُ فِي الْحَدِّ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَى الْحَاكِمِ (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأُِسَامَةَ لَمَّا كَلَّمَهُ فِي شَأْنِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ . ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَال: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ (3) وَلأَِنَّ الْحَدَّ إِذَا بَلَغَ الْحَاكِمَ وَثَبَتَ عِنْدَهُ وَجَبَ إِقَامَتُهُ وَالسَّعْيُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَمْرٌ بِالْمُنْكَرِ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ. الْحَنَفِيَّةِ جَوَازَ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى الْحَاكِمِ وَقَبْل الثُّبُوتِ عِنْدَهُ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 140، حاشية الجمل 5 / 162 - 165، أسنى المطالب 4 / 131، شرح الزرقاني 8 / 92، المدونة 6 / 271، مطالب أولي النهى 6 / 159.
(2) حديث: " أتشفع في حد من حدود الله " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 513 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1315 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله " أخرجه أبو داود (4 / 23 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عمر وإسناده صحيح.

(26/133)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَكَذَلِكَ لاَ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ إِذَا بَلَغَ الْحَدُّ الشُّرَطَ وَالْحَرَسَ لأَِنَّ الشُّرَطَ وَالْحَرَسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ (1) .
أَمَّا قَبْل بُلُوغِهِ إِلَى مَنْ ذُكِرَ فَتَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ مُرَّ عَلَيْهِ بِسَارِقٍ فَتَشَفَّعَ لَهُ، قَالُوا: أَتَشْفَعُ لِسَارِقٍ؟ قَال: نَعَمْ، مَا لَمْ يُؤْتَ بِهِ إِلَى الإِْمَامِ، فَإِذَا أُتِيَ بِهِ إِلَى الإِْمَامِ فَلاَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ إِنْ عَفَا عَنْهُ (2) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَشْفُوعُ فِيهِ مِنَ الأَْشْرَارِ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوجِبُ الْحَدَّ، فَلاَ يَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ (3) .

ب - الشَّفَاعَةُ فِي التَّعَازِيرِ:
10 - أَمَّا التَّعَازِيرُ: فَيَجُوزُ فِيهَا الشَّفَاعَةُ بَلَغَتِ الْحَاكِمَ أَمْ لاَ، بَل يُسْتَحَبُّ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ لَهُ صَاحِبَ شَرٍّ (4) .
__________
(1) المدونة 6 / 271.
(2) أثر أن الزبير مر عليه بسارق أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 465 - ط الدار السلفية - بمبي) وحسنه ابن حجر في الفتح (12 / 87 - ط السلفية) ، وورد عنده كذلك عن علي بن أبي طالب وحسنه ابن حجر كذلك.
(3) المصادر السابقة والقوانين الفقهية 349، 354، ومواهب الجليل 6 / 320، والشرح الصغير 4 / 489.
(4) المصادر السابقة، زرقاني 8 / 92.

(26/134)


ج - الشَّفَاعَةُ إِلَى وُلاَةِ الأُْمُورِ:
11 - الشَّفَاعَةُ إِلَى وُلاَةِ الأُْمُورِ إِنْ كَانَتْ فِي حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ (1) .
لِقَوْلِهِ تَعَالَى. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} (2) . . . الآْيَةَ. وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَل عَلَى جُلَسَائِهِ فَقَال: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا (3) وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَبَّ.

أَخْذُ الْهَدِيَّةِ عَلَى الشَّفَاعَةِ:
12 - إِنْ أَهْدَى الْمَشْفُوعُ لَهُ هَدِيَّةً لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَنَحْوِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْوِلاَيَةِ فَإِنْ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ لِطَلَبِ مَحْظُورٍ، أَوْ إِسْقَاطِ حَقٍّ أَوْ مَعُونَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، أَوْ تَقْدِيمِهِ فِي وِلاَيَةٍ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْهُ، فَقَبُولُهَا حَرَامٌ بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ: لِرَفْعِ مَظْلَمَةٍ عَنِ الْمَشْفُوعِ لَهُ أَوْ إِيصَال حَقٍّ لَهُ أَوْ تَوْلِيَتِهِ وِلاَيَةً يَسْتَحِقُّهَا، فَإِنْ شَرَطَ الْهَدِيَّةَ عَلَى الْمَشْفُوعِ لَهُ فَقَبُولُهَا حَرَامٌ أَيْضًا. وَإِنْ قَال الْمَشْفُوعُ لَهُ: هَذِهِ الْهَدِيَّةُ جَزَاءُ شَفَاعَتِكَ فَقَبُولُهَا حَرَامٌ كَذَلِكَ. أَمَّا إِنْ لَمْ يَشْرِطِ الشَّافِعُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُهْدِي أَنَّهَا جَزَاءٌ فَإِنْ كَانَ يُهْدَى لَهُ
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 165، الإقناع للخطيب 2 / 183.
(2) سورة النساء / 85.
(3) حديث: " كان إذا أتاه طالب حاجة " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 299 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2026 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.

(26/134)


قَبْل الشَّفَاعَةِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُكْرَهُ لَهُ الْقَبُول، وَإِلاَّ كُرِهَ إِلاَّ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَافَأَهُ عَلَيْهَا لَمْ يُكْرَهْ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لِلشَّافِعِ أَخْذُ هَدِيَّةٍ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، لأَِنَّهَا كَالأُْجْرَةِ، وَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَيَحْرُمُ أَخْذُ شَيْءٍ فِي مُقَابِلِهَا. أَمَّا الْبَاذِل فَلَهُ أَنْ يَبْذُل فِي ذَلِكَ مَا يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى حَقِّهِ. وَهُوَ الْمَنْقُول عَنِ السَّلَفِ وَالأَْئِمَّةِ (2) .

الاِسْتِشْفَاعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَهْل الصَّلاَحِ:
13 - الاِسْتِشْفَاعُ بِالأَْعْمَال الصَّالِحَةِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَهْل الصَّلاَحِ هُوَ مِنَ التَّوَسُّل، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي (تَوَسُّلٌ) .
__________
(1) حاشية الرملي على روضة الطالب 4 / 300.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 481، كشاف القناع 6 / 317.

(26/135)


شَفْرُ الْعَيْنِ

انْظُرْ: قِصَاصٌ، دِيَاتٌ، حُكُومَةُ عَدْلٍ

شَفْرُ الْفَرْجِ

انْظُرْ: قِصَاصٌ، دِيَاتٌ، حُكُومَةُ عَدْلٍ

شَفْعٌ

انْظُرْ: نَوَافِل، تَطَوُّعٌ

(26/135)