الموسوعة الفقهية الكويتية

غُرَّة
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْغُرَّةِ - بِالضَّمِّ - فِي اللُّغَةِ: بَيَاضٌ فِي الْجَبْهَةِ فَوْقَ الدِّرْهَمِ، وَفِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ: أَنْتُمِ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ (1) يُرِيدُ بَيَاضَ وُجُوهِهِمْ بِنُورِ الْوُضُوءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالأَْغَرُّ مِنَ الْخَيْل هُوَ: الَّذِي غُرَّتُهُ أَكْبَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ، وَالْغُرَّةُ: الْعَبْدُ وَالأَْمَةُ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تُطْلَقُ عَلَى مَا فَوْقَ الْوَاجِبِ مِنَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَا يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَهُوَ أَمَةٌ أَوْ عَبْدٌ مُمَيِّزٌ سَلِيمٌ مِنْ عَيْبِ مَبِيعٍ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدِّيَةُ:
2 - الدِّيَةُ اسْمٌ لِضَمَانٍ مُقَدَّرٍ يَجِبُ
__________
(1) حديث: " أنتم الغر المحجلون يوم القيامة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 216) من حديث أبي هريرة.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، وحاشية القليوبي 1 / 55.
(3) جواهر الإكليل 1 / 303 وحاشية القليوبي وبهامشه شرح المنهاج 4 / 160، والمطلع على أبواب المقنع ص364.

(31/169)


بِالْجِنَايَةِ عَلَى الآْدَمِيِّ أَوْ طَرَفٍ مِنْهُ. (1) وَعَلَى ذَلِكَ فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْغُرَّةِ.

ب - الأَْرْشُ:
3 - الأَْرْشُ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْمَال الْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَالْغُرَّةُ مَا تَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ (2) .

ج - حُكُومَةُ الْعَدْل:
4 - حُكُومَةُ الْعَدْل تُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي يُقَدِّرُهُ عَدْلٌ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ مِنَ الشَّرْعِ. فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنِ الْغُرَّةِ فِي أَنَّ الْغُرَّةَ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا، وَحُكُومَةُ الْعَدْل غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، بَل تُقَدَّرُ مِنْ قِبَل أَهْل الْخِبْرَةِ أَوِ الْحَاكِمِ (3) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - إِطَالَةُ الْغُرَّةِ فِي الْوُضُوءِ:
5 - الْمُرَادُ بِإِطَالَةِ الْغُرَّةِ فِي الْوُضُوءِ: غَسْل فَوْقَ الْوَاجِبِ مِنَ الْوَجْهِ (4) أَيْ
__________
(1) تكملة فتح القدير 9 / 204.
(2) التعريفات للجرجاني، والاختيار 5 / 35.
(3) الزيلعي 6 / 133، وتكملة فتح القدير 9 / 214.
(4) القليوبي وبهامشه شرح المنهاج 1 / 55.

(31/170)


الزِّيَادَةُ عَلَى الْحَدِّ الْمَحْدُودِ، (1) وَبِذَلِكَ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (2)
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ ذَكَرُوهَا فِي آدَابِ الْوُضُوءِ، قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَمِنَ الآْدَابِ إِطَالَةُ غُرَّتِهِ وَتَحْجِيلِهِ. (3)
وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُنِّيَّتِهَا بِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيل غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَل (4) وَإِطَالَةُ التَّحْجِيل غُسْلٌ فَوْقَ الْوَاجِبِ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. (5)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدِ اعْتَبَرُوا الزِّيَادَةَ فِي غَسْل الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ فِي الْوُضُوءِ. (6)
وَلاَ يُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ، بَل تُكْرَهُ عِنْدَهُمْ، وَاعْتَبَرُوهَا مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ. (7)
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي (وُضُوء) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 88 نقلاً عن البحر.
(2) ابن عابدين 1 / 88، وحاشية القليوبي 1 / 55، والمغني لابن قدامة 1 / 104، 105.
(3) ابن عابدين وبهامشه الدر المختار 1 / 88.
(4) حديث: " إن أمتي يأتون يوم القيامة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 216) من حديث أبي هريرة.
(5) شرح المحلي على المنهاج بهامش القليوبي 1 / 55.
(6) المغني لابن قدامة 1 / 104، 105.
(7) جواهر الإكليل 1 / 17.

(31/170)


ثَانِيًا - الْغُرَّةُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْغُرَّةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ إِذَا سَقَطَ وَانْفَصَل عَنْ أُمِّهِ مَيِّتًا، وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. (1)
وَيُشْتَرَطُ فِي الْجِنَايَةِ لِوُجُوبِ الْغُرَّةِ: أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا انْفِصَال الْجَنِينِ عَنْ أُمِّهِ مَيِّتًا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ نَتِيجَةَ فِعْلٍ أَمْ قَوْلٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً. (2)
وَلاَ يَخْتَلِفُ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ مِنَ الْحَامِل نَفْسِهَا أَوْ زَوْجِهَا أَوْ غَيْرِهِمَا، فَفِي كُل هَذِهِ الْحَالاَتِ تَجِبُ الْغُرَّةُ.
وَالْغُرَّةُ تَكُونُ عَبْدًا أَوْ وَلِيدَةً يَبْلُغُ مِقْدَارُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ. (3)
__________
(1) حديث: " إن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 247) ومسلم (3 / 1309) من حديث أبي هريرة.
(2) ابن عابدين 5 / 377، وبداية المجتهد 2 / 407، وأسنى المطالب 4 / 89 والمغني مع الشرح الكبير 9 / 557، ومنتهى الإرادات 2 / 431.
(3) المراجع السابقة.

(31/171)


7 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُرَّةِ فِي حَال انْفِصَال الْجَنِينِ مَيِّتًا عَنِ الأُْمِّ الْمَيِّتَةِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْغُرَّةِ أَنْ يَنْفَصِل الْجَنِينُ عَنْ أُمِّهِ مَيِّتًا وَهِيَ حَيَّةٌ، فَإِنْ خَرَجَ جَنِينٌ مَيِّتٌ بَعْدَ مَوْتِ الأُْمِّ فَلاَ غُرَّةَ فِيهِ؛ لأَِنَّ مَوْتَ الأُْمِّ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ ظَاهِرًا، وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ انْفِصَال أَكْثَرِ الْجَنِينِ كَانْفِصَال الْكُل. (1)
وَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ، فَتَثْبُتُ الْغُرَّةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ انْفِصَال الْجَنِينِ مَيِّتًا حَدَثَ حَال حَيَاةِ الأُْمِّ أَمْ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ لأَِنَّهُ جَنِينٌ تَلِفَ بِجِنَايَةٍ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي حَيَاتِهَا. (2) وَهَذَا إِذَا أُلْقِيَ الْجَنِينُ مَيِّتًا نَتِيجَةً لِلْجِنَايَةِ.
أَمَّا إِذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، ثُمَّ مَاتَ نَتِيجَةً لِلْجِنَايَةِ، كَأَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مُبَاشَرَةً، أَوْ دَامَ أَلَمُهُ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ قَتْل إِنْسَانٍ حَيٍّ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 378، ومواهب الجليل للحطاب وبهامشه المواق 6 / 257.
(2) أسنى المطالب وبهامشه حاشية الرملي 4 / 89، وحاشية القليوبي بشرح المنهاج 4 / 161، 162، والمغني لابن قدامة 7 / 801، 802.
(3) الاختيار 5 / 44، والدسوقي 4 / 269، ومغني المحتاج 4 / 104، والمغني لابن قدامة 7 / 806.

(31/171)


وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (دِيَات ف 33)

تَعَدُّدُ الْغُرَّةِ بِتَعَدُّدِ الأَْجِنَّةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَامِل إِذَا أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا فَفِي كُل وَاحِدٍ غُرَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ وُجُوبِهَا؛ لأَِنَّ الْغُرَّةَ ضَمَانُ آدَمِيٍّ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الأَْجِنَّةِ، كَالدِّيَاتِ (1) .

مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْغُرَّةُ:
9 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْغُرَّةَ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي فِي سَنَةٍ؛ لأَِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْجَنِينِ لاَ عَمْدَ فِيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى أُمِّهِ عَمْدًا أَمْ خَطَأً أَمْ شِبْهَ عَمْدٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْجَانِي فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، إِلاَّ أَنْ تَبْلُغَ ثُلُثَ دِيَتِهِ فَأَكْثَرُ فِي الْخَطَأِ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَجُوسِيٌّ حُرَّةً حُبْلَى فَأَلْقَتْ جَنِينًا، فَإِنَّ الْغُرَّةَ الْوَاجِبَةَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الْجَانِي.
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر ابن عابدين 5 / 377، والزيلعي 6 / 140، ومواهب الجليل 6 / 257، وحاشية الجمل 5 / 100.

(31/172)


وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: الْغُرَّةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِذَا مَاتَ الْجَنِينُ مَعَ أُمِّهِ وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ قَتْل الأُْمِّ عَمْدًا أَوْ مَاتَ الْجَنِينُ وَحْدَهُ فَالْغُرَّةُ فِي مَال الْجَانِي نَفْسِهِ، وَلاَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. (1)
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجْهَاض ف 15) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 377، والدسوقي 4 / 268، وأسنى المطالب 4 / 94، والمغني لابن قدامة 7 / 806.

(31/172)


غَرْس
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَرْسُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ غَرَسَ يَغْرِسُ، يُقَال: غَرَسَ الشَّجَرَ غَرْسًا إِذَا أَثْبَتَهُ فِي الأَْرْضِ، كَأَغْرِسُهُ، وَالْغِرَاسُ مَا يُغْرَسُ مِنَ الشَّجَرِ، وَوَقْتُ الْغَرْسِ، وَيُطْلَقُ الْغَرْسُ عَلَى نَفْسِ الشَّجَرَةِ وَالْفَسِيلَةِ أَوِ الْقَضِيبِ الَّذِي يُغْرَسُ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى الْغَرْسِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الزَّرْعُ:
2 - الزَّرْعُ طَرْحُ الْبَذْرِ، وَيُطْلَقُ الزَّرْعُ عَلَى الْمَزْرُوعِ أَيْضًا، أَيْ مَا اسْتُنِبْتَ بِالْبَذْرِ، تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُل مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ
__________
(1) متن اللغة، والمعجم الوسيط، ولسان العرب، والمصباح المنير.

(31/173)


وَأَنْفُسُهُمْ} (1) . وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يُسَمَّى زَرْعًا إِلاَّ وَهُوَ غَضٌّ طَرِيٌّ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرْسِ:
أَوَّلاً: فَضْل الْغَرْسِ:
3 - وَرَدَ فِي فَضْل الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ. (3) وَمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَجْرَ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ مَا دَامَ الزَّرْعُ وَالْغَرْسُ مَأْكُولاً مِنْهُ وَلَوْ مَاتَ زَارِعُهُ وَغَارِسُهُ، وَلَوِ انْتَقَل مِلْكُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الأَْجْرَ يَحْصُل لِلْغَارِسِ وَلَوْ كَانَ مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ. (4)
ثَانِيًا: عَقْدُ الْمُغَارَسَةِ:
4 - الْمُغَارَسَةُ عَقْدٌ عَلَى غَرْسِ شَجَرٍ فِي
__________
(1) سورة السجدة / 27.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والقاموس المحيط.
(3) حديث: " ما من مسلم يغرس غرسًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 3) ومسلم (3 / 1189) .
(4) فتح الباري 5 / 4.

(31/173)


أَرْضٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ، وَتُسَمَّى أَيْضًا: الْمُنَاصَبَةُ. (1) وَجَعَلَهَا الْحَنَابِلَةُ قِسْمًا مِنَ الْمُسَاقَاةِ، حَيْثُ قَالُوا: الْمُسَاقَاةُ دَفْعُ أَرْضٍ وَشَجَرٍ لَهُ ثَمَرٌ مَأْكُولٌ لِمَنْ يَغْرِسُهُ، وَهِيَ الْمُنَاصَبَةُ، أَوْ شَجَرٌ مَغْرُوسٌ مَعْلُومٌ لِمَنْ يَعْمَل عَلَيْهِ. (2)
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْمُغَارَسَةِ فِي الأَْشْجَارِ عَلَى سَبِيل الإِْجَارَةِ، كَأَنْ يَقُول لَهُ: اغْرِسْ لِي هَذِهِ الأَْرْضَ نَخْلاً أَوْ عِنَبًا أَوْ زَيْتُونًا وَلَكَ كَذَا، وَتَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الإِْجَارَةِ (3) .
أَمَّا الْمُغَارَسَةُ عَلَى سَبِيل الشَّرِكَةِ، بِأَنْ تُعْطَى الأَْرْضُ لِلْعَامِل لِغَرْسِ الأَْشْجَارِ، وَتَكُونَ الأَْرْضُ وَالأَْشْجَارُ بَيْنَهُمَا، أَوِ الأَْشْجَارُ وَحْدَهَا بَيْنَهُمَا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
فَأَمَّا الْمُغَارَسَةُ عَلَى سَبِيل الشَّرِكَةِ فِي الأَْشْجَارِ وَحْدَهَا فَهِيَ كَمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ أَرْضًا مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا غِرَاسًا عَلَى أَنَّ مَا تَحْصَّل مِنَ الأَْغْرَاسِ وَالثِّمَارِ بَيْنَهُمَا جَازَ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 183، وجواهر الإكليل 2 / 182.
(2) كشاف القناع 3 / 532.
(3) ابن عابدين 5 / 183 - 185، وجواهر الإكليل 2 / 182 - 183، وحاشية القليوبي 2 / 63، وكشاف القناع 3 / 532 - 535، والمغني لابن قدامة 5 / 392.
(4) ابن عابدين 5 / 183.

(31/174)


وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِجَوَازِ دَفْعِ أَرْضٍ وَشَجَرٍ لَهُ ثَمَرٌ مَأْكُولٌ لِمَنْ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَل عَلَيْهِ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرَتِهِ أَوْ مِنْهُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُغَارَسَةُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ فِي أَحَدِهِمَا، أَيِ الأَْرْضِ أَوِ الشَّجَرِ. (2)
كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ الْمُنَاصَبَةِ، بِأَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ أَرْضًا لِيَغْرِسَهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَالشَّجَرَةُ بَيْنَهُمَا. (3)
وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّال: أَنَّ الْحَاصِل فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلْعَامِل، وَلِمَالِكِ الأَْرْضِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا عَلَيْهِ. (4)
وَأَمَّا الْمُغَارَسَةُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الأَْرْضِ وَالأَْشْجَارِ مَعًا فَلاَ تَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَذَلِكَ لاِشْتِرَاطِ الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ قَبْل الشَّرِكَةِ، لأَِنَّهُ نَظِيرُ مَنِ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا يَصْبُغُ ثَوْبَهُ بِصَبْغِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمَصْبُوغِ لِلصَّبَّاغِ، فَكَانَ كَقَفِيزِ الطَّحَّانِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ. (5)
__________
(1) كشاف القناع 3 / 532.
(2) جواهر الإكليل 2 / 183.
(3) مغني المحتاج 2 / 324.
(4) مغني المحتاج 2 / 324.
(5) حاشية ابن عابدين وبهامشه الدر المختار 5 / 183، 184، وكشاف القناع 3 / 35.

(31/174)


وَإِذَا فَسَدَتِ الْمُغَارَسَةُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، فَالثَّمَرُ وَالْغَرْسُ لِرَبِّ الأَْرْضِ تَبَعًا لأَِرْضِهِ؛ لأَِنَّهَا هِيَ الأَْصْل وَلِلآْخَرِ قِيمَةُ غَرْسِهِ يَوْمَ الْغَرْسِ، وَأَجْرُ مِثْل عَمَلِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ الْمُغَارَسَةُ بِشَرِكَةِ جُزْءٍ مَعْلُومٍ فِي الأَْرْضِ وَالشَّجَرِ (2) .
وَلِتَفْصِيل أَحْكَامِ الْمُغَارَسَةِ وَنَوْعِيَّةِ الْغِرَاسِ وَسَائِرِ شُرُوطِهَا، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مُسَاقَاة) .

ثَالِثًا: الْغَرْسُ فِي الأَْرْضِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ:
أ - الْغَرْسُ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ:
5 - مَنْ غَصَبَ أَرْضًا، فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى، كُلِّفَ بِقَلْعِ الْغَرْسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ (3) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال إِنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
(1) الدر المختار 5 / 183، 184.
(2) جواهر الإكليل 2 / 182، 183.
(3) حديث:: " " ليس لعرق ظالم حق " ". أخرجه الترمذي (3 / 653) من حديث سعيد بن زيد، وأشار إلى إعلاله بالإرسال، وخرجه ابن حجر في الفتح (5 / 19) ذاكرًا أحاديث غيره من الصحابة، وقال:: في أسانيدها مقال، ولكن يتقوى بعضها ببعض.

(31/175)


غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلاً فِي أَرْضِ الآْخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الأَْرْضِ بِأَرْضِهِ، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْل أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا قَال عُرْوَةُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُهَا بِالْفُؤُوسِ، وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عُمٌّ (1) .؛ وَلأَِنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الأَْرْضِ بَاقٍ، فَإِنَّ الأَْرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً، فَيُؤْمَرُ الشَّاغِل بِتَفْرِيغِهَا، كَمَا إِذَا شَغَل ظَرْفَ غَيْرِهِ بِطَعَامِهِ، وَتَكْلِيفِ الْغَاصِبِ بِقَلْعِ الأَْشْجَارِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِذَا أَرَادَ مَالِكُ الأَْرْضِ ذَلِكَ (2) .
وَهَل لِمَالِكِ الأَْرْضِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْغَاصِبِ قِيمَةَ الْغَرْسِ فَيَتَمَلَّكُهُ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ: إِنِ اتَّفَقَا - أَيْ مَالِكُ الأَْرْضِ وَمَالِكُ الْغِرَاسِ - عَلَى ذَلِكَ جَازَ، لأَِنَّ الْحَقَّ لاَ يَعْدُوهُمَا (3) . وَكَذَلِكَ إِنْ وَهَبَ الْغَاصِبُ الْغِرَاسَ لِمَالِكِ الأَْرْضِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْلِفَةِ قَلْعِهِ. فَقَبِلَهُ الْمَالِكُ (4) .
أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ تَنْقُصُ
__________
(1) حديث عروة بن الزبير:: " " إن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . " ". أخرجه أبو داود (3 / 455) ، وفي إسناده انقطاع. والعم:: الطوال.
(2) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 269، 270، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 6 / 150 وما بعدها، وروضة الطالبين 5 / 46، ومغني المحتاج 2 / 290، 291، وكشاف القناع 4 / 81.
(3) كشاف القناع 4 / 83.
(4) كشاف القناع 4 / 83.

(31/175)


بِقَلْعِ ذَلِكَ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ قِيمَةَ الْغَرْسِ مَقْلُوعًا، وَيَكُونَ الْغَرْسُ لَهُ؛ لأَِنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهُمَا، وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، فَتَقُومُ الأَْرْضُ بِدُونِ شَجَرٍ، ثُمَّ بِالشَّجَرِ مُسْتَحَقُّ الْقَلْعِ، فَيَضْمَنُ فَضْل مَا بَيْنَهُمَا (1) .
وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ، مِنْ أَنَّ مَالِكَ الأَْرْضِ لَهُ الْخِيَارُ: بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الأَْرْضَ مَعَ الْغَرْسِ مُقَابِل دَفْعِ قِيمَةِ نَقْضِهِ، وَبَيْنَ إِلْزَامِ الْغَاصِبِ قَلْعَهُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَيِّدُوا أَخْذَ الْغَرْسِ مُقَابِل الْقِيمَةِ بِمَا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ الْغَرْسِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمَالِكُ تَمَلُّكَ الْغِرَاسِ بِالْقِيمَةِ، أَوْ إِبْقَاءَهَا بِأُجْرَةٍ، لَمْ يَلْزَمْ إِجَابَتُهُ فِي الأَْصَحِّ (3) .
وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَالِكُ الأَْرْضِ الْغِرَاسَ مِنَ الْغَاصِبِ مَجَّانًا أَوْ بِالْقِيمَةِ، وَأَبَى مَالِكُهُ، أَيِ الْغَاصِبِ، لَمْ يَكُنْ لِمَالِكِ الأَْرْضِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ عَيْنُ مَال الْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ وَضَعَ فِيهَا أَثَاثًا أَوْ نَحْوَهُ (4) .
وَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْغَاصِبَ
__________
(1) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 270.
(2) الزرقاني على خليل 6 / 150.
(3) مغني المحتاج 2 / 291.
(4) كشاف القناع 4 / 83.

(31/176)


إِذَا كُلِّفَ بِقَلْعِ الْغِرَاسِ فَإِنَّ تَكْلِفَةَ الْقَلْعِ وَتَسْوِيَةَ الأَْرْضِ كَمَا كَانَتْ عَلَى نَفَقَةِ الْغَاصِبِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (غَصْب) .

ب - الْغَرْسُ فِي الأَْرْضِ الْمُسْتَعَارَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِعَارَةِ الأَْرْضِ لِلْغَرْسِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ مُطْلَقًا بِدُونِ ذِكْرِ مُدَّةٍ، وَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا مَا يَشَاءُ مِنَ الْغِرَاسِ فِي دَاخِل الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ أَوِ الْمُعْتَادَةِ إِذَا كَانَتِ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ أَوِ الْمُعْتَادَةِ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا، وَإِذَا فَعَل ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ غَرَسَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّ مَنْ أَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ فَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مُتَشَابِهَانِ فِي قَصْدِ الدَّوَامِ وَالإِْضْرَارِ بِالأَْرْضِ (3) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ لاَ يَغْرِسَ
__________
(1) الزرقاني 6 / 150 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 291، وكشاف القناع 4 / 82.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 504، والاختيار 3 / 57، وجواهر الإكليل 2 / 147، ومغني المحتاج 2 / 269 - 271، وكشاف القناع 4 / 66.
(3) الاختيار للموصلي 3 / 57، وجواهر الإكليل 2 / 146، ومغني المحتاج 2 / 269، وكشاف القناع 4 / 66.

(31/176)


مُسْتَعِيرًا لِبِنَاءٍ، وَلاَ يَبْنِيَ مُسْتَعِيرًا لِغِرَاسٍ؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ وَالْغِرَاسَ يَخْتَلِفَانِ فِي الضَّرَرِ، فَإِنَّ ضَرَرَ الْبِنَاءِ فِي ظَاهِرِ الأَْرْضِ أَكْثَرُ مِنْ بَاطِنِهَا، وَالْغِرَاسُ بِالْعَكْسِ؛ لاِنْتِشَارِ عُرُوقِهِ (1) .

ج - الْغَرْسُ فِي الأَْرْضِ الْمَرْهُونَةِ:
7 ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَغْرِسَ فِي الأَْرْضِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً؛ لأَِنَّ تَعْطِيل مَنْفَعَتِهَا إِلَى حُلُول الدَّيْنِ تَضْيِيعٌ لِلْمَال، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ، بِخِلاَفِ الْحَال.
فَإِذَا غَرَسَ الرَّاهِنُ فِي الأَْرْضِ الْمَرْهُونَةِ تَدْخُل الْغِرَاسُ فِي الرَّهْنِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا رَهَنَ أَرْضًا، وَأَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي غِرَاسِهَا بَعْدَ شَهْرٍ، فَالأَْرْضُ قَبْل الشَّهْرِ أَمَانَةٌ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَبَعْدَهُ عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ بِحُكْمِ الْعَارِيَّةِ (3) .
كَمَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ غَرْسُهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ.
وَلِتَفْصِيل أَحْكَامِ الرَّهْنِ، وَهَل هُوَ أَمَانَةٌ، أَوْ مَضْمُونٌ؟ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ:
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 269.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 337، وكشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 335.
(3) أسنى المطالب 2 / 171، ومغني المحتاج 2 / 131 و132 و137.

(31/177)


(ضَمَان ف 62)

د - الْغَرْسُ فِي الأَْرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا:
8 - إِذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَشْفُوعِ بِنَاءً أَوْ غِرَاسًا قَبْل قِيَامِ الشَّفِيعِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ طَالَبَ الشَّفِيعُ بِشُفْعَتِهِ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ الْمُشْتَرِي وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ، وَإِنْ شَاءَ كَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ بِقَلْعِهِ؛ لأَِنَّهُ غَرْسٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، فَيُنْقَضُ، كَالرَّاهِنِ إِذَا بَنَى أَوْ غَرَسَ فِي الرَّهْنِ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ لِلشَّفِيعِ الْخِيَارَ بَيْنَ أَخْذِ الْمَشْفُوعِ مَعَ الْغِرَاسِ مُقَابِل دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ، وَبَيْنَ الْقَلْعِ، لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا: إِنْ أَحَبَّ الشَّفِيعُ قَلْعَ الْغِرَاسِ يَضْمَنُ نَقْصَهُ مِنَ الْقِيمَةِ بِالْقَلْعِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الأَْرْضِ مَغْرُوسَةً وَبَيْنَ قِيمَتِهَا خَالِيَةً (2) .
وَقَال مَالِكٌ: لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ أَنْ يُعْطِيَ
__________
(1) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 322، 323.
(2) كشاف القناع 4 / 157.

(31/177)


الْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا بَنَى وَمَا غَرَسَ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ بَنَى أَوْ غَرَسَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَشْفُوعِ وَلَمْ يَعْلَمِ الشَّفِيعُ بِهِمَا، ثُمَّ عَلِمَ، قَلَعَ ذَلِكَ مَجَّانًا؛ لِعُدْوَانِ الْمُشْتَرِي (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شُفْعَة ف 48) .

رَابِعًا: غَرْسُ الشَّجَرِ فِي الْمَسْجِدِ وَالأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ.
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ غَرْسِ الأَْشْجَارِ فِي الْمَسْجِدِ وَالأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً غَرَسَ شَجَرَةً فِي الْمَسْجِدِ فَهِيَ لِلْمِسْجَدَةِ أَوْ فِي أَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ عَلَى رِبَاطٍ مَثَلاً فَهِيَ لِلْوَقْفِ إِنْ قَال لِلْقَيِّمِ: تَعَاهَدْهَا، وَلَوْ لَمْ يَقُل فَهِيَ لَهُ يَرْفَعُهَا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلاَيَةُ، وَلاَ يَكُونُ غَارِسًا لِلْوَقْفِ. وَقَيَّدَ الْحَصْكَفِيُّ هَذَا الْجَوَازَ بِأَنْ يَكُونَ الْغَرْسُ لِنَفْعِ الْمَسْجِدِ، كَتَقْلِيل نَزٍّ، وَهُوَ مَا يَتَحَلَّبُ مِنَ الأَْرْضِ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ لِنَفْعِ النَّاسِ بِظِلِّهِ، وَلاَ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَلاَ يُفَرِّقُ الصُّفُوفَ،
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 264.
(2) مغني المحتاج 2 / 304.

(31/178)


لاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لِنَفْعِ نَفْسِهِ بِوَرَقَةِ أَوْ ثَمَرِةِ، أَوْ يُفَرِّقُ الصُّفُوفَ، أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ تَقَعُ بِهِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْبِيعَةِ وَالْمَسْجِدِ، يُكْرَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ مُحْبِسٌ أَوْ أَجْنَبِيٌّ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّ مَا غَرَسَهُ وَقْفٌ كَانَ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ وَقْفًا، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يُبَيِّنْ قَبْل مَوْتِهِ بِأَنَّهُ وَقْفٌ، أَمَّا إِذَا بَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ، كَانَ لَهُ أَوْ لِوَارِثِهِ، فَيُؤْمَرُ بِنَقْضِهِ، أَوْ يَأْخُذُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا بَعْدَ إِسْقَاطِ كُلْفَةٍ لَمْ يَتَوَلَّهَا (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لاَ تُغْرَسَ الأَْشْجَارُ فِي الْمَسْجِدِ (3) وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَال: يُكْرَهُ غَرْسُ الشَّجَرِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ غَرَسَ قَطَعَهُ الإِْمَامُ (4) .
وَفَصَّل الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَال: يُكْرَهُ غَرْسُ الشَّجَرِ وَالنَّخْل وَحَفْرُ الآْبَارِ فِي الْمَسَاجِدِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْجِيرِ مَوْضِعِ الصَّلاَةِ، وَالضِّيقِ وَجَلْبِ النَّجَاسَاتِ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 444، وفتح القدير مع الهداية 5 / 449.
(2) الشرح الصغير ومعه بلغة السالك لأقرب المسالك 4 / 136، 137.
(3) روضة الطالبين 5 / 362.
(4) الروضة 1 / 297.

(31/178)


أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْغَرْسِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَال أَحْمَدُ: إِنْ كَانَتْ غُرِسَتِ النَّخْلَةُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَسْجِدًا فَهَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلاَ أُحِبُّ الأَْكْل مِنْهَا، وَلَوْ قَلَعَهَا الإِْمَامُ لَجَازَ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ لَمْ يُبْنَ لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ وَلأَِنَّ الشَّجَرَةَ تُؤْذِي الْمَسْجِدَ، وَتَمْنَعُ الْمُصَلِّينَ مِنَ الصَّلاَةِ فِي مَوْضِعِهَا، وَيَسْقُطُ وَرَقُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَثَمَرُهَا، وَتَسْقُطُ عَلَيْهَا الْعَصَافِيرُ وَالطُّيُورُ فَتَبُول فِي الْمَسْجِدِ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الصِّبْيَانُ فِي الْمَسْجِدِ لأَِجْلِهَا وَرَمَوْهَا بِالْحِجَارَةِ لِيَسْقُطَ ثَمَرُهَا (1) .

خَامِسًا: الْغَرْسُ فِي الأَْرْضِ الْمَوَاتِ:
10 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ غَرْسَ الشَّجَرَةِ فِي الأَْرْضِ الْمَوَاتِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ إِحْيَائِهَا (2) .
وَتَفْصِيل مَسَائِل إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فِي مُصْطَلَحِهِ (ف 24) .
__________
(1) إعلام الساجد / 341، 343، والمغني لابن قدامة 5 / 634، 635.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 386، جواهر الإكليل 5 / 203، والتاج والإكليل على هامش الحطاب 6 / 12، ومغني المحتاج 2 / 366.

(31/179)


غَرْغَرَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَرْغَرَةُ وَالتَّغَرْغُرُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يُرَدِّدَ الشَّخْصُ الْمَاءَ فِي الْحَلْقِ وَلاَ يَسِيغُهُ، وَالْغَرُورُ: مَا يُتَغَرْغَرُ بِهِ مِنَ الأَْدْوِيَةِ، وَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ: تَرَدَّدَ فِيهِمَا الدَّمْعُ، وَأَيْضًا الْغَرْغَرَةُ: تَرَدُّدُ الرُّوحِ فِي الْحَلْقِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: لاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ غَرْغَرَةٍ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَضْمَضَةُ:
2 - الْمَضْمَضَةُ: تَحْرِيكُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ ثُمَّ مَجُّهُ. أَمَّا الْغَرْغَرَةُ فَهِيَ تَحْرِيكُ الْمَاءِ وَإِدَارَتُهُ مَعَ وُصُولِهِ إِلَى أَعْمَاقِ الْفَمِ، فَهِيَ كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمَضْمَضَةِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(2) ابن عابدين 1 / 79، 571، والحطاب 1 / 246، والزرقاني 2 / 84، ونهاية المحتاج 1 / 172، والآداب الشرعية 1 / 129، والمغني 1 / 104.
(3) لسان العرب، وابن عابدين 1 / 78، والدسوقي 1 / 97، والحطاب 1 / 245 - 246، والمغني 1 / 104.

(31/179)


ب - الاِحْتِضَارُ:
3 - الاِحْتِضَارُ: الإِْشْرَافُ عَلَى الْمَوْتِ بِظُهُورِ عَلاَمَاتِهِ أَمَّا الْغَرْغَرَةُ فَهِيَ تَرَدُّدُ الرُّوحِ فِي الْحَلْقِ.
اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (احْتِضَار ف 1 - 2)

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْغَرْغَرَةَ فِي سُنَنِ الْوُضُوءِ وَفِي التَّوْبَةِ.

أ - فِي الْوُضُوءِ:
4 - مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْغَرْغَرَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَضْمَضَةِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ (1) .

ب - أَثَرُ الْغَرْغَرَةِ فِي قَبُول التَّوْبَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْكَافِرِ - أَيْ إِسْلاَمَهُ - مَقْبُولَةٌ إِذَا كَانَتْ قَبْل الْغَرْغَرَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 79، والحطاب 1 / 246، ونهاية المحتاج 1 / 172، والمغني 1 / 104.

(31/180)


وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ لاَ تُقْبَل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَوْبَة ف 10)

(31/180)


غَرَقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَرَقُ فِي اللُّغَةِ: الرُّسُوبُ فِي الْمَاءِ، يُقَال: رَجُلٌ غَرِقٌ وَغَرِيقٌ، وَقِيل: الْغَرِقُ: الرَّاسِبُ فِي الْمَاءِ، وَالْغَرِيقُ: الْمَيِّتُ فِيهِ.
وَقَال أَبُو عَدْنَانَ: الْغَرِقُ الَّذِي غَلَبَهُ الْمَاءُ وَلَمَّا يَغْرَقْ، فَإِذَا غَرِقَ فَهُوَ الْغَرِيقُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْغَرَقِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْغَمْرُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْغَمْرِ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ، قَال ابْنُ سِيدَهْ وَغَيْرُهُ: يُقَال مَاءٌ غَمْرٌ: كَثِيرٌ مُغْرِقٌ (2) ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: التَّغْطِيَةُ، يُقَال غَمَرَهُ الْمَاءُ غَمْرًا: إِذَا غَطَّاهُ. وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْغَمْرَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْغَرَقِ.
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.

(31/181)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرَقِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْغَرَقِ أَحْكَامٌ، مِنْهَا:

أ - اعْتِبَارُ الْغَرَقِ مِنْ أَسْبَابِ الشَّهَادَةِ:
3 - الْغَرَقُ مِنْ أَسْبَابِ الشَّهَادَةِ، فَمَنْ مَاتَ غَرَقًا نَال مَنَازِل الشُّهَدَاءِ فِي الآْخِرَةِ، إِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ، جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيل اللَّهِ. (1)
وَالْغَرِيقُ مِنْ شُهَدَاءِ الآْخِرَةِ؛ لأَِنَّهُ يَنَال مَنَازِل الشُّهَدَاءِ فِي الآْخِرَةِ، وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ فِي الدُّنْيَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّهِيدِ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي قِتَال الْكُفَّارِ، فَيُغَسَّل الْغَرِيقُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ الشَّهِيدِ فِي سَبِيل اللَّهِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شَهِيد ف 3، 4)

ب - قِتَال الأَْعْدَاءِ بِإِغْرَاقِهِمْ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي قِتَال الأَْعْدَاءِ إِغْرَاقُهُمْ بِالْمَاءِ، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الظَّفَرِ بِهِمْ بِلاَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ بِدُونِ إِرْسَال الْمَاءِ عَلَيْهِمْ لإِِغْرَاقِهِمْ، فَإِنْ
__________
(1) حديث:: " " الشهداء خمسة. . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 42) ومسلم (3 / 1521) من حديث أبي هريرة.
(2) المحليي مع القليوبي 1 / 339، نهاية المحتاج 2 / 496 - 497، رد المحتار 1 / 611.

(31/181)


تَمَكَّنُوا مِنَ الظَّفَرِ فَلاَ يَجُوزُ إِغْرَاقُهُمْ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِهْلاَكَ أَطْفَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَمَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جِهَاد ف 32)

ج - الْقَتْل بِالإِْغْرَاقِ:
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مِنَ الْقَتْل الْعَمْدِ مَا إِذَا أَلْقَى الْجَانِي شَخْصًا فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ لِمِثْلِهِ لاَ يَخْلُصُ مِنْهُ عَادَةً كَلُجَّةٍ وَقْتَ هَيَجَانِهَا، وَكَانَ لاَ يَخْلُصُ بِسِبَاحَةٍ لِعَجْزِهِ عَنْهَا، أَوْ لاَ يُحْسِنُهَا، أَوْ كَانَ مَكْتُوفًا، أَوْ زَمِنًا فَغَرِقَ فَهُوَ عَمْدٌ، وَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا كَانَ يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ وَمَنَعَ مِنْهَا عَارِضٌ بَعْدَ إِلْقَائِهِ كَرِيحٍ وَمَوْجٍ فَشِبْهُ عَمْدٍ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ إِلْقَاؤُهُ وَقْتَ هَيَجَانِ الْبَحْرِ؛ لأَِنَّهُ مُهْلِكٌ غَالِبًا لاَ يُمْكِنُهُ الْخَلاَصُ مِنْهُ، وَأَمَّا إِذَا أَلْقَى مُمَيِّزًا قَادِرًا عَلَى الْحَرَكَةِ فِي مَاءٍ جَارٍ أَوْ رَاكِدٍ لاَ يُعَدُّ مُغْرِقًا عُرْفًا بِقَصْدِ الإِْغْرَاقِ، فَمَكَثَ فِيهِ مُضْطَجِعًا، فَمَاتَ غَرَقًا فَلاَ ضَمَانَ وَلاَ كَفَّارَةَ؛ لأَِنَّهُ الْمُهْلِكُ لِنَفْسِهِ (2) .
__________
(1) القليوبي 4 / 218، نهاية المحتاج 8 / 64، حاشية الدسوقي 2 / 77، ابن عابدين 3 / 223.
(2) نهاية المحتاج 7 / 243 ط المكتبة الإسلامية، مغني المحتاج 4 / 8، المغني لابن قدامة 7 / 641، بدائع الصنائع 7 / 234، الدسوقي 4 / 243.

(31/182)


غَرْقَى

التَّعْرِيفُ
1 - الْغَرْقَى فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ غَرِيقٍ وَغَرِقٍ، وَهُوَ الرَّاسِبُ فِي الْمَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيل الْغَرِقُ: الرَّاسِبُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ، فَإِنْ مَاتَ فَهُوَ غَرِيقٌ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ غَرِيقٍ بِالْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ حُكِيَا عَنِ الْخَلِيل، فَهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْغَرِيقِ بِمَعْنَى الرَّاسِبِ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَمُتْ وَيَحْتَاجُ إِلَى الإِْنْقَاذِ، جَاءَ فِي الاِخْتِيَارِ: مَنْ رَأَى أَعْمَى كَادَ أَنْ يَتَرَدَّى فِي الْبِئْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْقَاذُهُ وَصَارَ هَذَا كَإِنْجَاءِ الْغَرِيقِ (2) ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الرُّسُوبِ فِي الْمَاءِ وَالْمَوْتِ فِعْلاً، وَذَلِكَ فِي كَلاَمِهِمْ عَنْ مِيرَاثِ الْغَرْقَى (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) الاختيار 4 / 175.
(3) المبسوط 330 / 27.

(31/182)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْغَرْقَى:
أ - قَطْعُ الصَّلاَةِ لإِِنْقَاذِ غَرِيقٍ:
2 - إِغَاثَةُ الْغَرِيقِ وَالْعَمَل عَلَى إِنْجَائِهِ مِنَ الْغَرَقِ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مَتَى اسْتَطَاعَ ذَلِكَ، يَقُول الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ قَطْعُ الصَّلاَةِ لإِِغَاثَةِ غَرِيقٍ إِذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلاَةُ فَرْضًا أَمْ نَفْلاً، وَسَوَاءٌ اسْتَغَاثَ الْغَرِيقُ بِالْمُصَلِّي أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا فِي اسْتِغَاثَتِهِ، حَتَّى وَلَوْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِالْقَضَاءِ بِخِلاَفِ الْغَرِيقِ (1) .

ب - حُكْمُ تَرْكِ إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ إِنْقَاذَ الْغَرِيقِ مَعْصُومِ الدَّمِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَرْكِهِ إِنْقَاذَهُ هَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَوْ شَيْءٌ عَلَيْهِ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - عَدَا أَبِي الْخَطَّابِ - عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْ إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ إِذَا مَاتَ غَرَقًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ، وَلَمْ يُحْدِثْ فِيهِ فِعْلاً مُهْلِكًا، لَكِنَّهُ يَأْثَمُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 440، وكشاف القناع 1 / 380، وحاشية الدسوقي 1 / 289، ومغني المحتاج 1 / 98.

(31/183)


وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَضْمَنُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْهَلاَكِ مَعَ إِمْكَانِهِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إِنْ تَرَكَ التَّخْلِيصَ عَمْدًا، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ إِنْ تَرَكَهُ مُتَأَوِّلاً (1) .
أَمَّا الْجِنَايَةُ بِالتَّغْرِيقِ فَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (غَرَق ف 5)

ج - اعْتِبَارُ الْغَرْقَى مِنَ الشُّهَدَاءِ:
4 - يَعْتَبِرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْغَرْقَى مِنَ الشُّهَدَاءِ لِلأَْثَرِ الصَّحِيحِ: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيل اللَّهِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ (شَهِيد ف 4، وَغَرَق ف 3) .

د - إِرْثُ الْغَرْقَى:
5 - الْغَرْقَى إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلاً فَلاَ يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يَحْصُل مِيرَاثُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوَرَثَتِهِ الأَْحْيَاءِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
__________
(1) الاختيار 4 / 175، حاشية ابن عابدين 5 / 349، وحاشية الدسوقي 2 / 111، وكشاف القناع 6 / 15، والمغني 7 / 834.
(2) حديث:: " " الشهداء خمسة. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 42) ومسلم (3 / 1521) من حديث أبي هريرة.

(31/183)


غُرْمٌ

اُنْظُرْ: غَرَامَات.

غُرَمَاءُ

اُنْظُرْ: إِفْلاَس.

(31/184)


غُرُوب
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغُرُوبُ لُغَةً: الْبُعْدُ، يُقَال: غَرَبَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ غَرْبًا وَغُرُوبًا: أَيْ بَعُدَتْ وَتَوَارَتْ فِي مَغِيبِهَا.
وَغَرُبَ الشَّخْصُ - بِالضَّمِّ غَرَابَةً: بَعُدَ عَنْ وَطَنِهِ فَهُوَ غَرِيبٌ، وَأَغْرَبَ الرَّجُل: أَيْ أَتَى الْغَرْبَ، وَغَرَّبَ الْقَوْمُ: أَيْ ذَهَبُوا نَاحِيَةَ الْمَغْرِبِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الشُّرُوقُ:
2 - الشُّرُوقُ لُغَةً: طُلُوعُ الشَّمْسِ، يُقَال: شَرَقَتِ الشَّمْسُ شُرُوقًا مِنْ بَابِ قَعَدَ: أَيْ طَلَعَتْ وَأَضَاءَتْ عَلَى الأَْرْضِ، وَأَشْرَقَتِ الأَْرْضُ: أَنَارَتْ بِإِشْرَاقِ الشَّمْسِ.
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، غريب القرآن للأصفهاني، ومغني المحتاج 1 / 122.

(31/184)


وَأَشْرَقَ: أَيْ دَخَل فِي وَقْتِ الشُّرُوقِ.
وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ لُحُومَ الأَْضَاحِيِّ تُشْرِقُ فِيهَا: أَيْ تُقَدَّدُ فِي الشَّرَقَةِ، وَهِيَ الشَّمْسُ.
وَالشَّرْقُ وَالْمَشْرِقُ: جِهَةُ الشُّرُوقِ.
وَالْمَشْرِقُ مُصَلَّى الْعِيدِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقِيَامِ الصَّلاَةِ فِيهِ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ (1) .
وَالشُّرُوقُ ضِدُّ الْغُرُوبِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغُرُوبِ مِنْ أَحْكَامٍ:
تَتَعَلَّقُ بِالْغُرُوبِ جُمْلَةٌ مِنَ الأَْحْكَامِ مِنْهَا:

أ - فِي الصَّلاَةِ
3 - يَخْرُجُ وَقْتُ الْعَصْرِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيَبْدَأُ بِغُرُوبِهَا وَقْتُ الْمَغْرِبِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا، سَوَاءٌ أَخَّرَهَا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ (2) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط، غريب القرآن للأصفهاني.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 241، جواهر الإكليل 1 / 32 المجموع للنووي 3 / 25 - 28، مغني المحتاج 1 / 122، المغني لابن قدامة 1 / 377 - 380.

(31/185)


فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ، ف 9) .

ب - غُرُوبُ الشَّفَقِ:
4 - غُرُوبُ الشَّفَقِ عَلاَمَةٌ عَلَى خُرُوجِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَدُخُول وَقْتِ الْعِشَاءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالشَّفَقِ أَهُوَ الْبَيَاضُ أَمِ الْحُمْرَةُ؟
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 11، 12) .

ج - كَرَاهَةُ الصَّلاَةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ:
5 - مِنَ الأَْوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاَةُ: بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا حَتَّى يَتَكَامَل غُرُوبُهَا وَيَخْتَفِيَ قُرْصُهَا، لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ
__________
(1) حديث:: " " من أدرك ركعة من الصبح. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 56) ، ومسلم (1 / 424) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.

(31/185)


الشَّمْسُ (1) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الصَّلاَةِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 23)

د - فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ.
فَقَال الْجُمْهُورُ تَجِبُ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَال آخَرُونَ: تَجِبُ بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْعِيدِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 8) .

هـ - فِي الصِّيَامِ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ صَوْمِهِ حَتَّى تَغْرُبَ
__________
(1) حديث:: " " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 58) ، ومسلم (1 / 567) .
(2) حديث:: " " ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس. . . " ". أخرجه مسلم (1 / 570) من حديث عمرو بن عبسة.

(31/186)


الشَّمْسُ وَيَتَأَكَّدَ مِنْ غُرُوبِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} . (1)
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يَنْقَضِي وَيَتِمُّ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَقْبَل اللَّيْل مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ (2) . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمِ اللَّيْل أَقْبَل مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ قَال الرَّاوِي: وَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَل الْمَشْرِقِ.
(3) قَال النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَال أَصْحَابُنَا: وَيَجِبُ إِمْسَاكُ
جُزْءٍ مِنَ اللَّيْل بَعْدَ الْغُرُوبِ؛ لِيَتَحَقَّقَ بِهِ اسْتِكْمَال النَّهَارِ.
وَعَلَيْهِ فَإِذَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ لِلْفَرْضِ وَهُوَ يَظُنُّ غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَبَانَ خِلاَفُهُ لَزِمَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِيهِ قَال: " كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ فَصَعِدَ الْمُؤَذِّنُ لِيُؤَذِّنَ فَقَال: أَيُّهَا النَّاسُ هَذِهِ الشَّمْسُ لَمْ تَغْرُبْ، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ كَانَ أَفْطَرَ فَلْيَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) حديث:: " " إذا أقبل الليل من هاهنا. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 196) ومسلم (2 / 772) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ لمسلم.
(3) حديث:: " " إذا رأيتم الليل أقبل من هاهنا. . . " ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 198) ومسلم (2 / 773) من حديث عبد الله بن أبي أوفى.

(31/186)


وَفِي رِوَايَةٍ فَقَال عُمَرُ: لاَ نُبَالِي وَاللَّهِ يَوْمًا نَقْضِي مَكَانَهُ.
وَلأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ النَّهَارِ فَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ.
وَقَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَبَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: صَوْمُهُ صَحِيحٌ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ (1) . لِحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمْسَاك ف 5) .
__________
(1) البدائع 2 / 90 جواهر الإكليل 1 / 150، المجموع للنووي 6 / 304، المغني لابن قدامة 3 / 86.
(2) حديث:: " " إن الله تجاوز عن أمتي. . " ". أخرجه ابن ماجهة (1 / 659) من حديث أبي ذر، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 353) ، وخرج مطولاً السخاوي في المقاصد الحسنة (ص229 - 230) وقال:: مجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلاً.

(31/187)


غُرُور

التَّعْرِيفُ:
1 - الْغُرُورُ - بِالضَّمِّ - فِي اللُّغَةِ الْبَاطِل، قَال الْكَفَوِيُّ: الْغُرُورُ: هُوَ تَزْيِينُ الْخَطَأِ بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ صَوَابٌ.
وَالْغَرُورُ - بِالْفَتْحِ - كُل مَا يَغُرُّ الإِْنْسَانَ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ وَشَهْوَةٍ وَشَيْطَانٍ، وَفُسِّرَ بِالشَّيْطَانِ، إِذْ هُوَ أَخْبَثُ الْغَارِّينَ، وَبِالدُّنْيَا لِمَا قِيل: الدُّنْيَا تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال ابْنُ عَرَفَةَ: الْغُرُورُ مَا رَأَيْتَ لَهُ ظَاهِرًا تُحِبُّهُ، وَفِيهِ بَاطِنٌ مَكْرُوهٌ أَوْ مَجْهُولٌ، وَالشَّيْطَانُ غَرُورٌ؛ لأَِنَّهُ يَحْمِل عَلَى مُحَابِّ النَّفْسِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا يَسُوءُ، قَال: وَمِنْ هَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ ظَاهِرُ بَيْعٍ يَغُرُّ وَبَاطِنٌ مَجْهُولٌ (2) .
وَالْغُرُورُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ سُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَيَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ عَنْ شُبْهَةٍ وَخُدْعَةٍ مِنَ
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني، والقاموس المحيط، ولسان العرب، والكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 296.
(2) القرطبي 4 / 302.

(31/187)


الشَّيْطَانِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَدْعُ:
2 - الْخَدْعُ هُوَ أَنْ يَسْتُرَ عَنْ إِنْسَانٍ وَجْهَ الصَّوَابِ فَيُوقِعَهُ فِي مَكْرُوهٍ، وَأَمَّا الْغُرُورُ فَهُوَ إِيهَامٌ يَحْمِل الإِْنْسَانَ عَلَى فِعْل مَا يَضُرُّهُ، مِثْل أَنْ يَرَى السَّرَابَ فَيَحْسِبَهُ مَاءً فَيُضَيِّعَ مَاءَهُ فَيَهْلَكَ عَطَشًا، وَتَضْيِيعُ الْمَاءِ فِعْلٌ أَدَّاهُ إِلَيْهِ غُرُورُ السَّرَابِ إِيَّاهُ. وَالْغُرُورُ قَدْ يُسَمَّى خَدْعًا، وَالْخَدْعُ يُسَمَّى غُرُورًا عَلَى التَّوَسُّعِ (2) .

ب - الْكِبْرُ:
3 - الْكِبْرُ اسْمٌ مِنَ التَّكَبُّرِ، وَهُوَ اسْتِعْظَامُ النَّفْسِ وَاحْتِقَارُ الْغَيْرِ، وَسَبَبُهُ عُلُوُّ الْيَدِ وَالتَّمْيِيزُ بِالْمَنْصِبِ وَالنَّسَبِ، أَوِ الْفَضْل (3) .
وَقَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْكِبْرُ هُوَ ظَنُّ الإِْنْسَانِ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَالتَّكَبُّرُ إِظْهَارٌ لِذَلِكَ، وَهَذِهِ صِفَةٌ لاَ يَسْتَحِقُّهَا إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنِ ادَّعَاهَا
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 368 ط الحلبي.
(2) الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ص214 نشر دار الكتب العلمية.
(3) المصباح المنير، والمنهج المسلوك في سياسة الملوك ص419.

(31/188)


مِنَ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ فِيهَا كَاذِبٌ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكِبْرِ وَالْغُرُورِ هُوَ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ وَالْمَغْرُورَ كِلاَهُمَا جَاهِلٌ؛ لأَِنَّ الْكِبْرَ يَتَوَلَّدُ مِنَ الإِْعْجَابِ، وَالإِْعْجَابُ مِنَ الْجَهْل بِحَقِيقَةِ الْمَحَاسِنِ، وَالْجَهْل رَأْسُ الاِنْسِلاَخِ مِنَ الإِْنْسَانِيَّةِ (2) .

ج - الْعُجْبُ:
4 - الْعُجْبُ هُوَ اسْتِعْظَامُ النِّعْمَةِ وَالرُّكُونُ إِلَيْهَا مَعَ نِسْيَانِ إِضَافَتِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ (3) .
قَال الرَّاغِبُ: الْعُجْبُ هُوَ ظَنُّ الإِْنْسَانِ فِي نَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ مَنْزِلَةٍ هُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا، وَأَصْل الإِْعْجَابِ مِنْ حُبِّ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ (4) ، وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ (5) وَمَنْ عَمِيَ وَصَمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رُؤْيَةُ عُيُوبِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ أَنَّهُمَا مِنَ الأَْوْصَافِ الرَّدِيئَةِ.
__________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص299 - 300.
(2) انظر الذريعة إلى مكارم الشريعة ص300، وإحياء علوم الدين 3 / 368.
(3) إحياء علوم الدين 3 / 360.
(4) الذريعة إلى مكارم الشريعة ص306، 307.
(5) حديث:: " " حبك الشيء يعمي ويصم " ". أخرجه أبو داود (5 / 345) من حديث أبي الدرداء، وضعف إسناده العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (3 / 31) .

(31/188)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْغُرُورُ مَذْمُومٌ شَرْعًا، وَرَدَ بِذَمِّهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، (2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِل لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ. (3)
أَقْسَامُ الْغُرُورِ:

الْغُرُورُ بِفَهْمٍ فَاسِدٍ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ:
6 - مِنَ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَغْتَرُّ بِفَهْمٍ فَاسِدٍ فَهِمَهُ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَيَتَّكِل عَلَيْهِ، كَاتِّكَال بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (4) . وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْجَهْل فَإِنَّ الشِّرْكَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الآْيَةِ، وَإِنَّهُ رَأْسُ الذُّنُوبِ وَأَسَاسُهَا، وَلاَ خِلاَفَ أَنَّ هَذِهِ الآْيَةَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ، فَإِنَّهُ يَغْفِرُ ذَنْبَ كُل تَائِبٍ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ، وَلَوْ كَانَتِ الآْيَةُ فِي حَقِّ غَيْرِ التَّائِبِينَ
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 368.
(2) سورة لقمان / 33.
(3) حديث:: " " الكيس من دان نفسه. . . " ". أخرجه الترمذي (4 / 638) والحاكم (1 / 57) من حديث شداد بن أوس، وذكر الذهبي تضعيف أحد رواته.
(4) سورة الزمر / 53.

(31/189)


لَبَطَلَتْ نُصُوصُ الْوَعِيدِ كُلِّهَا (1) ، وَكَاتِّكَال بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ (2) ، يَعْنِي مَا كَانَ فِي ظَنِّهِ فَإِنِّي فَاعِلُهُ بِهِ وَلاَ رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الإِْحْسَانِ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ الْمُصِرُّ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالظُّلْمِ وَالْمُخَالَفَاتِ فَإِنَّ وَحْشَةَ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمَ وَالْحَرَامَ تَمْنَعُهُ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ، قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَحْسَنَ الْعَمَل، وَإِنَّ الْفَاجِرَ أَسَاءَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَسَاءَ الْعَمَل (3) .
7 - مِنَ الْعُصَاةِ مَنْ يَغْتَرُّ بِعَفْوِ اللَّهِ وَكَرْمِهِ فَيَقُول: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ، وَإِنَّمَا نَتَّكِل عَلَى عَفْوِهِ (4) ، فَقَدِ اعْتَمَدَ هَؤُلاَءِ الْمَغْرُورُونَ عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَكَرَمِهِ فَضَيَّعُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَنَسُوا أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ لاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْعَفْوِ مَعَ الإِْصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ فَهُوَ كَالْمُعَانَدَةِ قَال مَعْرُوفٌ: رَجَاؤُكَ لِرَحْمَةِ
__________
(1) الداء والدواء ص26.
(2) حديث:: " " أنا عند ظن عبدي بي. . . " ". أخرجه أحمد (3 / 491) والحاكم (4 / 240) من حديث واثلة بن الأسقع وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الداء والدواء ص 28 - 29.
(4) مختصر منهاج القاصدين ص247.

(31/189)


مَنْ لاَ تُطِيعُهُ مِنَ الْخِذْلاَنِ وَالْحُمْقِ.
وَقَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْكَ فِي الدُّنْيَا بِسَرِقَةِ ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ لاَ تَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ فِي الآْخِرَةِ عَلَى نَحْوِ هَذَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ سَعَةِ رَحْمَتِهِ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَقَدْ قَضَى بِتَخْلِيدِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ يَضُرُّهُ كُفْرُهُمْ (2) .

الْغُرُورُ بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرَبِ:
8 - يَغْتَرُّ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ بِالاِعْتِمَادِ عَلَى مِثْل صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ، حَتَّى يَقُول بَعْضُهُمْ: صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْعَامِ كُلَّهَا وَيَبْقَى صَوْمُ عَرَفَةَ زِيَادَةٌ فِي الأَْجْرِ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ أَعْظَمُ وَأَجَل مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَهِيَ إِنَّمَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا إِذَا اُجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ، فَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ لاَ يَقْوَيَانِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ إِلاَّ مَعَ انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إِلَيْهَا، فَيَقْوَى
__________
(1) الداء والدواء ص33.
(2) مختصر منهاج القاصدين ص247.

(31/190)


مَجْمُوعُ الأَْمْرَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ (1) .
وَمِنَ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ طَاعَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعَاصِيهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلاَ يَتَفَقَّدُ ذُنُوبَهُ، وَإِذَا عَمِل طَاعَةً حَفِظَهَا وَاعْتَدَّ بِهَا، كَاَلَّذِي يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَغْتَابُ الْمُسْلِمِينَ وَيُمَزِّقُ أَعْرَاضَهُمْ، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لاَ يَرْضَاهُ اللَّهُ طُول نَهَارِهِ، فَهَذَا أَبَدًا يَتَأَمَّل فِي فَضَائِل التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّهْلِيلاَتِ وَلاَ يَلْتَفِتُ إِلَى مَا وَرَدَ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُغْتَابِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَالنَّمَّامِينَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَذَلِكَ مَحْضُ غُرُورٍ (2) .

الْغُرُورُ بِصَلاَحِ الآْبَاءِ وَالأَْسْلاَفِ:
9 - مِنَ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَغْتَرُّ بِآبَائِهِ وَأَسْلاَفِهِ، وَأَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَكَانًا وَصَلاَحًا، فَلاَ يَدَعُوهُ أَنْ يُخَلِّصُوهُ (3) .
قَال الْغَزَالِيُّ: يَنْسَى الْمَغْرُورُ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ وَلَدَهُ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَلَمْ يَرْضَ الْوَلَدُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَال رَبِّ إِنَّ
__________
(1) الداء والدواء ص27 - 28.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 376، ومختصر منهاج القاصدين ص248.
(3) الداء والدواء ص25، ومختصر منهاج القاصدين ص248.

(31/190)


ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَال يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . (1)

الْغُرُورُ بِتَتَابُعِ النِّعَمِ:
10 - رُبَّمَا اتَّكَل بَعْضُ الْمُغْتَرِّينَ عَلَى مَا يَرَى مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِ فِي الآْخِرَةِ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ (2) .
قَال الْغَزَالِيُّ: وَالْمَغْرُورُ إِذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا ظَنَّ أَنَّهَا كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِذَا صُرِفَتْ عَنْهُ ظَنَّ أَنَّهَا هَوَانٌ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، إِذْ قَال: {فَأَمَّا الإِْنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُول رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُول رَبِّي أَهَانَنِ} (3) فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ: {كَلًّا} ، أَيْ لَيْسَ كَمَا قَال، إِنَّمَا هُوَ ابْتِلاَءٌ، قَال الْحَسَنُ: كَذَّبَهُمَا جَمِيعًا بِقَوْلِهِ: {كَلًّا} يَقُول: هَذَا لَيْسَ بِإِكْرَامِي وَلاَ هَذَا بِهَوَانِي، وَلَكِنَّ الْكَرِيمَ مَنْ أَكْرَمْتُهُ بِطَاعَتِي غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، وَالْمُهَانُ مَنْ أَهَنْتُهُ بِمَعْصِيَتِي غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا (4) .
__________
(1) سورة هود / 45، 46.
(2) الداء والدواء ص44.
(3) سورة الفجر / 16.
(4) إحياء علوم الدين 3 / 372.

(31/191)


وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ، وَلاَ يُعْطِي الدِّينَ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ (1) .

أَصْنَافُ الْمَغْرُورِينَ:
11 - يَقَعُ الاِغْتِرَارُ فِي الأَْغْلَبِ فِي حَقِّ أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: الْعُلَمَاءُ، وَالْعُبَّادُ، وَالْمُتَصَوِّفَةُ، وَالأَْغْنِيَاءُ (2) .

أَوَّلاً: غُرُورُ أَهْل الْعِلْمِ:
12 - الْمَغْرُورُونَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ فِرَقٌ: مِنْهُمْ فِرْقَةٌ أَحْكَمُوا الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ وَتَعَمَّقُوا فِيهَا وَاشْتَغَلُوا بِهَا، وَأَهْمَلُوا تَفَقُّدَ الْجَوَارِحِ وَحِفْظَهَا مِنَ الْمَعَاصِي وَإِلْزَامَهَا الطَّاعَاتِ، وَاغْتَرُّوا بِعِلْمِهِمْ. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِمَكَانٍ، وَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا مِنَ الْعِلْمِ مَبْلَغًا لاَ يُعَذِّبُ اللَّهُ مِثْلَهُمْ، بَل يَقْبَل فِي الْخَلْقِ شَفَاعَتَهُمْ، وَهُمْ مَغْرُورُونَ، فَإِنَّهُمْ لَوْ نَظَرُوا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ عَلِمُوا أَنَّ عِلْمَ الْعَامِلَةِ لاَ يُرَادُ بِهِ إِلاَّ الْعَمَل وَلَوْلاَ الْعَمَل لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
__________
(1) حديث: " إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا. . . ". أخرجه أحمد في المسند (1 / 387) من حديث ابن مسعود، وأورده الهيثمي في المجمع (1 / 53) وقال: رواه أحمد، وإسناده بعضهم مستور، وأكثرهم ثقات.
(2) مختصر منهاج القاصدين ص 248.

(31/191)


زَكَّاهَا} (1) وَلَمْ يَقُل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَعَلَّمَ كَيْفَ يُزَكِّيهَا (2) .

ثَانِيًا: الْمَغْرُورُونَ مِنْ أَرْبَابِ التَّعَبُّدِ وَالْعَمَل:
13 - الْمَغْرُورُونَ مِنْ أَرْبَابِ التَّعَبُّدِ وَالْعَمَل فِرَقٌ كَثِيرَةٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ غُرُورُهُ فِي الصَّلاَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ غُرُورُهُ فِي تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ غُرُورُهُ فِي الْحَجِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ غُرُورُهُ فِي الزُّهْدِ، وَكَذَلِكَ كُل مَشْغُولٍ بِمَنْهَجٍ مِنْ مَنَاهِجِ الْعَمَل فَلَيْسَ خَالِيًا عَنْ غُرُورٍ إِلاَّ الأَْكْيَاسُ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ (3) .
وَمَا مِنْ عَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال وَعِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِلاَّ وَفِيهَا آفَاتٌ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَدَاخِل آفَاتِهَا وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا فَهُوَ مَغْرُورٌ (4) .

ثَالِثًا: غُرُورُ الْمُتَصَوِّفَةِ:
14 - الْمَغْرُورُونَ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ فِرَقٌ، قَال الْغَزَالِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنْوَاعَ غُرُورِ الْمُتَصَوِّفَةِ: أَنْوَاعُ الْغُرُورِ فِي طَرِيقِ
__________
(1) سورة الشمس / 9.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 376 - 377، ومختصر منهاج القاصدين ص / 248، 249.
(3) إحياء علوم الدين 3 / 389.
(4) إحياء علوم الدين 3 / 391.

(31/192)


السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ تُحْصَى وَلاَ تُسْتَقْصَى إِلاَّ بَعْدَ شَرْحِ جَمِيعِ عُلُومِ الْمُكَاشَفَةِ، إِذِ السَّالِكُ لِهَذَا الطَّرِيقِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَاَلَّذِي لَمْ يَسْلُكْهُ لاَ يَنْتَفِعُ بِسَمَاعِهِ، بَل رُبَّمَا يَسْتَضِرُّ بِهِ، إِذْ يُورِثُهُ ذَلِكَ دَهْشَةً مِنْ حَيْثُ يَسْمَعُ مَا لاَ يَفْهَمُ، وَلَكِنْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْغُرُورِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، بَل رُبَّمَا يُصَدِّقُ بِأَنَّ الأَْمْرَ أَعْظَمُ مِمَّا يَظُنُّهُ وَمِمَّا يَتَخَيَّلُهُ بِذِهْنِهِ الْمُخْتَصِرِ وَخَيَالِهِ الْقَاصِرِ وَجَدَلِهِ الْمُزَخْرَفِ (1) .

رَابِعًا - غُرُورُ أَرْبَابِ الأَْمْوَال
15 - الْمَغْرُورُونَ مِنْ أَرْبَابِ الأَْمْوَال فِرَقٌ: فَفِرْقَةٌ مِنْهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ، وَيَكْتُبُونَ أَسْمَاءَهُمْ عَلَيْهَا لِيُخَلَّدَ ذِكْرُهُمْ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ أَثَرُهُمْ، وَلَوْ كُلِّفَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُنْفِقَ دِينَارًا وَلاَ يُكْتَبُ اسْمُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُنْفِقَ عَلَيْهِ لَشَقَّ عَلَيْهِ، وَلَوْلاَ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهَ النَّاسِ لاَ وَجْهَ اللَّهِ، لَمَا شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَتَبَ اسْمَهُ أَمْ لَمْ يَكْتُبْهُ (2) .
__________
(1) الإحياء 3 / 395.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 396، ومختصر منهاج القاصدين ص258.

(31/192)


وَفِرْقَةٌ أُخْرَى يَحْفَظُونَ الأَْمْوَال وَيُمْسِكُونَهَا بُخْلاً، ثُمَّ يَشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةِ الْمَال، كَصِيَامِ النَّهَارِ وَقِيَامِ اللَّيْل وَخَتْمِ الْقُرْآنِ، وَهُمْ مَغْرُورُونَ؛ لأَِنَّ الْبُخْل مُهْلِكٌ، وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى قَمْعِهِ بِإِخْرَاجِ الْمَال، فَقَدِ اشْتَغَلُوا عَنْهُ بِفَضَائِل لاَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ (1) .

التَّخَلُّصُ مِنَ الْغُرُورِ:
16 - يُسْتَعَانُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْغُرُورِ بِثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ:

أ - الْعَقْل:
وَهُوَ النُّورُ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ الإِْنْسَانُ حَقَائِقَ الأَْشْيَاءِ.

ب - الْمَعْرِفَةُ:
وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرِفَةِ أَنْ يَعْرِفَ الإِْنْسَانُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَيَعْرِفَ رَبَّهُ وَيَعْرِفَ الدُّنْيَا وَيَعْرِفَ الآْخِرَةَ، فَيَعْرِفَ نَفْسَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالذُّل، وَبِكَوْنِهِ غَرِيبًا فِي هَذَا الْعَالَمِ وَأَجْنَبِيًّا مِنْ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُوَافِقُ لَهُ طَبْعًا هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ فَقَطْ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْرِفَ هَذَا مَا لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ وَلَمْ يَعْرِفْ رَبَّهُ، فَإِذَا حَصَلَتْ
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 397، ومختصر منهاج القاصدين ص259.

(31/193)


هَذِهِ الْمَعَارِفُ ثَارَ مِنْ قَلْبِهِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ حُبُّ اللَّهِ وَبِمَعْرِفَةِ الآْخِرَةِ شِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَبِمَعْرِفَةِ الدُّنْيَا الرَّغْبَةُ عَنْهَا، وَيَصِيرُ أَهَمُّ أُمُورِهِ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَنْفَعُهُ فِي الآْخِرَةِ، وَإِذَا غَلَبَتْ هَذِهِ الإِْرَادَةُ عَلَى قَلْبِهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي الأُْمُورِ كُلِّهَا، وَانْدَفَعَ عَنْهُ كُل الْغُرُورِ (1) .

ج - الْعِلْمُ:
وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَلْبِ الإِْنْسَانِ لِمَعْرِفَتِهِ بِهِ وَبِنَفْسِهِ احْتَاجَ إِلَى الْعِلْمِ بِمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْهُ، فَإِذَا أَحَاطَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ أَمْكَنَهُ الْحَذَرُ مِنَ الْغُرُورِ (2) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 399، ومختصر منهاج القاصدين ص260.
(2) المراجع السابقة.

(31/193)


غَرِيمٌ

اُنْظُرْ: إِفْلاَس، قِسْمَة

غَزْلٌ

اُنْظُرْ: تَشْبِيب

غَزْوٌ

اُنْظُرْ: جِهَاد

غُسَالَةٌ

اُنْظُرْ: مِيَاه

(31/194)


غُسْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغُسْل لُغَةً: مَصْدَرُ غَسَلَهُ يَغْسِلُهُ وَيُضَمُّ، أَوْ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالضَّمِّ اسْمٌ.
وَالْغِسْل بِالْكَسْرِ: مَا يُغْسَل بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خَطْمِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَأْتِي الْغُسْل بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ، يُقَال: غَسَل اللَّهُ حَوْبَتَكَ أَيْ خَطِيئَتَكَ (1) .
وَالْغُسْل فِي الاِصْطِلاَحِ: اسْتِعْمَال مَاءٍ طَهُورٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِشُرُوطٍ وَأَرْكَانٍ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّهَارَةُ:
2 - الطَّهَارَةُ لُغَةً: النَّظَافَةُ وَالنَّزَاهَةُ عَنِ الأَْنْجَاسِ وَالأَْدْنَاسِ (3) .
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَزَوَال النَّجَسِ (4) .
فَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغُسْل.
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) كشاف القناع 1 / 139.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير.
(4) كشاف القناع 1 / 24.

(31/194)


ب - الْوُضُوءُ:
3 - الْوَضُوءُ - بِالْفَتْحِ - فِي اللُّغَةِ الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَصْدَرُ مِنْ تَوَضَّأْتُ لِلصَّلاَةِ.
وَالْوُضُوءُ - بِالضَّمِّ - الْفِعْل (1) .
وَاصْطِلاَحًا هُوَ: اسْتِعْمَال مَاءٍ طَهُورٍ فِي الأَْعْضَاءِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْغُسْل مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (3) وقَوْله تَعَالَى {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (4) أَيِ اغْتَسَلْنَ (5) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَْرْبَعِ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل (6) .
وَالْغُسْل قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَغُسْل الْجَنَابَةِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) كشاف القناع 1 / 82.
(3) سورة المائدة / 6.
(4) سورة البقرة / 222.
(5) فتح الباري 1 / 359 ط السلفية، وكشاف القناع 1 / 139.
(6) حديث: " إذا جلس بين شعبها الأربع. . . ". أخرجه مسلم (1 / 272) من حديث عائشة.

(31/195)


وَالْحَائِضِ، وَقَدْ يَكُونُ سُنَّةً كَغُسْل الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ (1) .
وَيُفْرِدُ الْفُقَهَاءُ لِلأَْغْسَال الْمَسْنُونَةِ فَصْلاً خَاصًّا، وَسَتَأْتِي فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

مُوجِبَاتُ الْغُسْل:
أَسْبَابُ وُجُوبِ الْغُسْل هِيَ:

الأَْوَّل - خُرُوجُ الْمَنِيِّ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْل، بَل نَقَل النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقِظَةِ (2) ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ (3) ، وَمَعْنَاهُ - كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ - يَجِبُ الْغُسْل بِالْمَاءِ مِنْ إِنْزَال الْمَاءِ الدَّافِقِ وَهُوَ الْمَنِيُّ، وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المجموع للنووي 2 / 130، 201 ط المكتبة السلفية، والمغني لابن قدامة 1 / 199، 2 / 345، 370 ط مكتبة الرياض.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 107، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 136، والمجموع للنووي 2 / 138 - 139، وكشاف القناع 1 / 139، والمغني 1 / 199.
(3) حديث: " إنما الماء من الماء ". أخرجه مسلم (1 / 269) من حديث أبي سعيد.

(31/195)


عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُل؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِل، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَهَل يَكُونُ هَذَا؟ فَقَال نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ ، إِنَّ مَاءَ الرَّجُل غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلاَ أَوْ سَبَقَ يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ "، وَفِي لَفْظٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَل عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لإِِيجَابِ الْغُسْل بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ كَوْنَهُ عَنْ شَهْوَةٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوِ انْفَصَل - أَيِ الْمَنِيُّ - بِضَرْبٍ أَوْ حَمْلٍ ثَقِيلٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَلاَ غُسْل عِنْدَنَا.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَإِنْ خَرَجَ بِلاَ لَذَّةٍ بَل سَلَسًا أَوْ بِضَرْبَةٍ أَوْ طَرْبَةٍ أَوْ لَدْغَةِ عَقْرَبٍ فَلاَ غُسْل.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ
__________
(1) حديث أم سليم: " إنها سألت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها. . . ". أخرجه مسلم (1 / 250) بلفظيه.

(31/196)


بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ الْغُسْل، كَنُزُولِهِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَأَحَسَّ بِمَبَادِئِ اللَّذَّةِ وَاسْتَدَامَ حَتَّى أَنْزَل، وَكَحَكَّةٍ لِجَرَبٍ بِذَكَرِهِ، أَوْ هَزَّ دَابَّةً لَهُ، فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُحِسَّ بِمَبَادِئِ اللَّذَّةِ فَيَسْتَدِيمَ فِيهَا حَتَّى يُمْنِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل، أَمَّا لَوْ كَانَ الْجَرَبُ بِغَيْرِ ذَكَرِهِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ وُجُوبِ الْغُسْل.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ الشَّهْوَةَ، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْغُسْل بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مُطْلَقًا (1) .
وَشَرَطَ أَبُو يُوسُفَ الدَّفْقَ أَيْضًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَثَرُ الْخِلاَفِ يَظْهَرُ فِيمَا لَوْ احْتَلَمَ أَوْ نَظَرَ بِشَهْوَةٍ، فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ حَتَّى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَأَنْزَل، وَجَبَ الْغُسْل عِنْدَهُمَا لاَ عِنْدَهُ، قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَبِقَوْل أَبِي يُوسُفَ يُفْتَى فِي ضَيْفٍ خَافَ رِيبَةً أَوِ اسْتَحْيَا، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْل أَبِي يُوسُفَ قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ، وَإِنَّهُ الأَْحْوَطُ فَيَنْبَغِي الإِْفْتَاءُ بِقَوْلِهِ فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ فَقَطْ (2) .
كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لإِِيجَابِ الْغُسْل خُرُوجَ الْمَنِيِّ مِنَ الْعُضْوِ - ذَكَرِ الرَّجُل وَفَرْجِ الْمَرْأَةِ الدَّاخِل
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 108، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 127 - 128، والمجموع للنووي 2 / 139، وكشاف القناع 1 / 139.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار1 / 108.

(31/196)


قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ قَبَّل امْرَأَةً فَأَحَسَّ بِانْتِقَال الْمَنِيِّ وَنُزُولِهِ، فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فِي الْحَال شَيْءٌ، وَلاَ عَلِمَ خُرُوجَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَال الْعُلَمَاءُ كَافَّةً (1) ، وَدَلِيلُهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ وَلأَِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَسَّ بِالْحَدَثِ كَالْقَرْقَرَةِ وَالرِّيحِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ لاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ، فَكَذَا هُنَا (2) .
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ الْخُرُوجَ، بَل أَوْجَبُوا الْغُسْل بِالإِْحْسَاسِ بِالاِنْتِقَال، فَلَوْ أَحَسَّ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِانْتِقَال الْمَنِيِّ فَحَبَسَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ، وَجَبَ الْغُسْل كَخُرُوجِهِ؛ لأَِنَّ الْجَنَابَةَ أَصْلُهَا الْبُعْدُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (3) أَيِ الْبَعِيدِ، وَمَعَ الاِنْتِقَال قَدْ بَاعَدَ الْمَاءُ مَحَلَّهُ، فَصَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْجُنُبِ، وَإِنَاطَةً لِلْحُكْمِ بِالشَّهْوَةِ، وَتَعْلِيقًا لَهُ عَلَى الْمَظِنَّةِ، إِذْ بَعْدَ انْتِقَالِهِ يَبْعُدُ عَدَمُ خُرُوجِهِ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ يَرْجِعُ (4) .

وَهُنَاكَ مَسَائِل تَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْهَا:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 107، وحاشية الدسوقي 1 / 126 - 127، والمجموع 2 / 140.
(2) المجموع للنووي 2 / 140.
(3) سورة النساء / 36.
(4) كشاف القناع 1 / 141.

(31/197)


أ - رُؤْيَةُ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرِ الاِحْتِلاَمِ:
6 - لَوِ اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ وَوَجَدَ الْمَنِيَّ، وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلاَمًا فَعَلَيْهِ الْغُسْل، وَمَنْ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ مَنِيًّا فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَجِدُ الْبَلَل وَلاَ يَذْكُرُ احْتِلاَمًا؟ قَال: يَغْتَسِل، وَعَنِ الرَّجُل يَرَى أَنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ بَلَلاً؟ قَال: لاَ غُسْل عَلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِلاَم ف 6 - 9) .

ب - خُرُوجُ الْمَنِيِّ بَعْدَ الْغُسْل:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِيجَابِ الْغُسْل فِي حَالَةِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ بَعْدَ الاِغْتِسَال.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اغْتَسَل ثُمَّ خَرَجَ الْمَنِيُّ، فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَوِ الْبَوْل أَوِ الْمَشْيِ الْكَثِيرِ فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلاَ شَهْوَةٍ قَبْل النَّوْمِ أَوِ الْبَوْل أَوِ الْمَشْيِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْغُسْل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ اللَّذَّةُ نَاشِئَةً عَنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، بَل بِمُلاَعَبَةٍ، فَيَجِبُ إِعَادَةُ الْغُسْل عِنْدَ خُرُوجِ الْمَنِيِّ وَلَوْ
__________
(1) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم " سئل عن الرجل يجد البلل. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 190) ثم ذكر تضعيف أحد رواته.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 108، وفتح القدير 1 / 43.

(31/197)


اغْتَسَل قَبْل خُرُوجِهِ؛ لأَِنَّ غُسْلَهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَإِنْ كَانَتِ اللَّذَّةُ نَاشِئَةً عَنْ جِمَاعٍ، بِأَنْ غَيَّبَ الْحَشَفَةَ وَلَمْ يُنْزِل، ثُمَّ اغْتَسَل ثُمَّ أَمْنَى، فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْجَنَابَةَ لاَ يَتَكَرَّرُ غُسْلُهَا، وَلَكِنْ يَتَوَضَّأُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَمْنَى وَاغْتَسَل ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ مَنِيٌّ عَلَى الْقُرْبِ بَعْدَ غُسْلِهِ لَزِمَهُ الْغُسْل ثَانِيًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَبُول بَعْدَ الْمَنِيِّ أَوْ بَعْدَ بَوْلِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ (2) ، وَلَمْ يُفَرِّقْ؛ وَلأَِنَّهُ نَوْعُ حَدَثٍ فَنَقَضَ مُطْلَقًا، كَالْبَوْل وَالْجِمَاعِ وَسَائِرِ الأَْحْدَاثِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ بَعْدَ الْغُسْل فَلاَ يَجِبُ الْغُسْل ثَانِيًا، لِمَا رَوَى سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِل عَنِ الْجُنُبِ يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ بَعْدَ الْغُسْل؟ قَال: يَتَوَضَّأُ، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وَلأَِنَّهُ مَنِيٌّ وَاحِدٌ فَأَوْجَبَ غُسْلاً وَاحِدًا كَمَا لَوْ خَرَجَ دَفْقَةً وَاحِدَةً؛ وَلأَِنَّهُ خَارِجٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَشْبَهَ الْخَارِجَ لِبَرْدٍ، وَبِهِ عَلَّل أَحْمَدُ، قَال لأَِنَّ الشَّهْوَةَ مَاضِيَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ حَدَثٌ أَرْجُو أَنْ يُجْزِيَهُ الْوُضُوءُ (4) .
__________
(1) الخرشي على مختصر خليل 1 / 163، وحاشية الدسوقي 1 / 127.
(2) حديث: " إنما الماء من الماء ". تقدم تخريجه ف5.
(3) المجموع شرح المهذب للنووي 2 / 139 - 140.
(4) كشاف القناع 1 / 142.

(31/198)


ج - خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِهِ الْمُعْتَادِ:
8 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ انْكَسَرَ صُلْبُ الرَّجُل فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ، وَلَمْ يُنْزِل مِنْ الذَّكَرِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ حُكْمَهُ كَالنَّجَاسَةِ الْمُعْتَادَةِ.
قَال الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ ثَقْبٍ فِي الذَّكَرِ غَيْرِ الإِْحْلِيل، أَوْ مِنْ ثَقْبٍ فِي الأُْنْثَيَيْنِ أَوِ الصُّلْبِ، فَحَيْثُ نَقَضْنَا الْوُضُوءَ بِالْخَارِجِ مِنْهُ أَوْجَبْنَا الْغُسْل، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِوُجُوبِ الْغُسْل بِخُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ الذَّكَرِ، قَال النَّوَوِيُّ وَالصَّوَابُ تَفْصِيل الْمُتَوَلِّي (1) .
وَصَرَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ جُرْحٍ فِي الْخُصْيَةِ، بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ مَقَرِّهِ بِشَهْوَةٍ، فَالظَّاهِرُ افْتِرَاضُ الْغُسْل (2) .

الثَّانِي - الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ:
9 - الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْل بِالاِتِّفَاقِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَْرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ لَمْ
__________
(1) المجموع شرح المهذب للنووي 2 / 140، وكشاف القناع 1 / 139.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 107.

(31/198)


يُنْزِل (1) ، وَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَْرْبَعِ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل (2) ، وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ يَحْصُل بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرَجِ، ذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الرَّجُل هُوَ الْجِلْدُ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الْخِتَانِ، وَخِتَانَ الْمَرْأَةِ جِلْدَةٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ فَوْقَ الْفَرَجِ فَيُقْطَعُ مِنْهَا فِي الْخِتَانِ، فَإِذَا غَابَتِ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرَجِ حَاذَى خِتَانُهُ خِتَانَهَا، وَإِذَا تَحَاذَيَا فَقَدِ الْتَقَيَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ الْتِصَاقَهُمَا وَضَمَّ أَحَدِهِمَا إِلَى الآْخَرِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَضَعَ مَوْضِعَ خِتَانِهِ عَلَى مَوْضِعِ خِتَانِهَا وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي مَدْخَل الذَّكَرِ لَمْ يَجِبِ الْغُسْل، وَقَال الدَّرْدِيرُ: الْحَشَفَةُ رَأْسُ الذَّكَرِ (3) .
وَلاَ بُدَّ لإِِيجَابِ الْغُسْل مِنْ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ بِكَمَالِهَا فِي الْفَرْجِ، فَإِنْ غَيَّبَ بَعْضَهَا فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ تُخْلَقْ لَهُ حَشَفَةٌ فَيُعْتَبَرُ قَدْرُهَا، قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا قُطِعَ بَعْضُ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا جلس بين شعبها الأربع. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 395) ومسلم (1 / 271) ، والرواية الأخرى لمسلم.
(2) حديث عائشة: " إذا جلس بين شعبها الأربع. . . ". تقدم تخريجه ف4.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 108، وحاشية الدسوقي 1 / 128، والمجموع شرح المهذب للنووي 2 / 130، 132، وكشاف القناع 1 / 142.

(31/199)


الذَّكَرِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الأَْحْكَامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَهَا فَقَطْ تَعَلَّقَتِ الأَْحْكَامُ بِتَغْيِيبِهِ كُلِّهِ دُونَ بَعْضِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَشَفَةِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِبَعْضِهِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ إِلاَّ بِتَغْيِيبِ جَمِيعِ الْبَاقِي، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ الشَّاشِيُّ وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، ثَانِيهِمَا: تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِقَدْرِ الْحَشَفَةِ مِنْهُ، وَرَجَّحَهُ الأَْكْثَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ عَنْ الأَْشْبَاهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَشَفَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ (1) .

10 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْفَرْجِ الَّذِي يَجِبُ الْغُسْل بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِيهِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي مُطْلَقِ الْفَرْجِ، سَوَاءٌ كَانَ لإِِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ، قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ شَرَطُوا إِطَاقَةَ ذِي الْفَرْجِ سَوَاءٌ كَانَ آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ فَلاَ غُسْل عَلَى ذِي الْحَشَفَةِ الْمُغَيِّبِ مَا لَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 109، وحاشية الدسوقي 1 / 129، والمجموع 2 / 133، وكشاف القناع 1 / 142.

(31/199)


يُنْزِل (1) .
وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا فَرْجَ الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ، وَالصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ، وَالْعَذْرَاءِ إِنْ لَمْ يُزِل عُذْرَتَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُل إِنْزَالٌ، وَذَلِكَ لِقُصُورِ الشَّهْوَةِ فِي الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ وَالصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ الَّتِي أُقِيمَتْ مَقَامَ الإِْنْزَال فِي وُجُوبِ الْغُسْل عِنْدَ الإِْيلاَجِ، وَعَلاَمَةُ الصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ: أَنْ تَصِيرَ مُفْضَاةً بِالْوَطْءِ (2) .

11 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ فِي وُجُوبِ الْغُسْل.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ - الْعَقْل وَالْبُلُوغِ - فِي وُجُوبِ الْغُسْل، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَلَّفًا فَعَلَيْهِ الْغُسْل فَقَطْ دُونَ الآْخَرِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُغَيِّبُ إِنْ كَانَ بَالِغًا وَجَبَ الْغُسْل عَلَيْهِ، وَكَذَا عَلَى الْمُغَيَّبِ فِيهِ إِنْ كَانَ بَالِغًا، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَى الْمُغَيِّبِ دُونَ الْمُغَيَّبِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُغَيِّبُ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلاَ عَلَى مَنْ غَيَّبَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَمْ لاَ مَا لَمْ يُنْزِل بِذَلِكَ الْمُغَيَّبُ فِيهِ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْل لِلإِْنْزَال.
__________
(1) حاشية الدسوقي1 / 139، والمجموع 2 / 132، وكشاف القناع 1 / 142، 143.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 109 - 112.

(31/200)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الصَّبِيُّ إِذَا أَوْلَجَ فِي امْرَأَةٍ أَوْ دُبُرِ رَجُلٍ، أَوْ أَوْلَجَ رَجُلٌ فِي دُبُرِهِ، يَجِبُ الْغُسْل عَلَى الْمَرْأَةِ وَالرَّجُل، وَكَذَا إِذَا اسْتَدْخَلَتِ امْرَأَةٌ ذَكَرَ صَبِيٍّ فَعَلَيْهَا الْغُسْل، وَيَصِيرُ الصَّبِيُّ فِي كُل هَذِهِ الصُّوَرِ جُنُبًا، وَكَذَا الصَّبِيَّةُ إِذَا أَوْلَجَ فِيهَا رَجُلٌ أَوْ صَبِيٌّ، وَكَذَا لَوْ أَوْلَجَ صَبِيٌّ فِي صَبِيٍّ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُهُ، وَإِذَا صَارَ جُنُبًا لاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ مَا لَمْ يَغْتَسِل، وَلاَ يُقَال: يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل، كَمَا لاَ يُقَال: يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، بَل يُقَال: صَارَ مُحْدِثًا، وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْغُسْل إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ التَّكْلِيفَ لِوُجُوبِ الْغُسْل، فَيَجِبُ الْغُسْل عَلَى الْمُجَامِعِ غَيْرِ الْبَالِغِ - إِنْ كَانَ يُجَامِعُ مِثْلَهُ كَابْنَةِ تِسْعٍ وَابْنِ عَشْرٍ - فَاعِلاً كَانَ أَوْ مَفْعُولاً بِهِ إِذَا أَرَادَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغُسْل، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَلَيْسَ مَعْنَى وُجُوبِ الْغُسْل فِي حَقِّ الصَّغِيرِ التَّأْثِيمَ بِتَرْكِهِ، بَل مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ أَوِ الطَّوَافِ أَوْ إِبَاحَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ، كَمَا نَصُّوا عَلَى وُجُوبِ الْغُسْل عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مُوجِبَ الطَّهَارَةِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَصْدُ كَسَبْقِ

(31/200)


الْحَدَثِ (1) .

وَهُنَاكَ مَسَائِل تَتَعَلَّقُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ - الإِْيلاَجُ بِحَائِلٍ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْل مِنَ الإِْيلاَجِ بِحَائِلٍ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْغُسْل عَلَى مَنْ أَوْلَجَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا مَلْفُوفَةً بِخِرْقَةٍ كَثِيفَةٍ تَمْنَعُ اللَّذَّةَ، فَإِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ رَقِيقَةً بِحَيْثُ يَجِدُ مَعَهَا اللَّذَّةَ وَحَرَارَةَ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل فِي الْخِرْقَةِ الْكَثِيفَةِ؛ لأَِنَّهُ يُسَمَّى مُولِجًا، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، أَوْ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل (2) قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَالأَْحْوَطُ الْوُجُوبُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لِلْقَوْل بِالْوُجُوبِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 109، وحاشية الدسوقي 1 / 128 - 129، والمجموع شرح المهذب 2 / 132، وكشاف القناع 1 / 143.
(2) حديث: " إذا التقى الختانان. . . ". أخرجه الشافعي في المسند (1 / 38 - ترتيبه) من حديث عائشة، وأصله في الصحيحين كما تقدم في الحديث (ف9) .

(31/201)


وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْغُسْل عَلَى مَنْ أَوْلَجَ بِحَائِلٍ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنُصُّوا عَلَى كَوْنِ الْحَائِل رَقِيقًا أَوْ كَثِيفًا (1) .

ب - الإِْيلاَجُ فِي فَرْجٍ غَيْرِ أَصْلِيٍّ:
13 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْل بِالإِْيلاَجِ فِي الْفَرْجِ: أَنْ يَكُونَ الْفَرْجُ أَصْلِيًّا، احْتِرَازًا مِنْ فَرْجِ الْخُنْثَى الْمُشْكِل، وَصَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لاَ غُسْل عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِل بِإِيلاَجِهِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً وَهَذَا الذَّكَرُ مِنْهُ زَائِدٌ، فَيَكُونُ كَالإِْصْبَعِ الزَّائِدِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ غُسْل عَلَى مَنْ جَامَعَهُ فِي قُبُلِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً، فَفَرْجُهُ كَالْجُرْحِ، فَلاَ يَجِبُ بِالإِْيلاَجِ فِيهِ غُسْلٌ بِمُجَرَّدِهِ، أَمَّا لَوْ جَامَعَهُ رَجُلٌ فِي دُبُرِهِ وَجَبَ الْغُسْل عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الإِْشْكَال فِي الدُّبُرِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 111، وحاشية الدسوقي 1 / 129، والمجموع 1 / 134، وشرح روض الطالب 1 / 64، وكشاف القناع 1 / 143، ومطالب أولي النهى 1 / 166، والإنصاف 1 / 232.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 109، ومواهب الجليل 1 / 309، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 1 / 307، وشرح روض الطالب 1 / 65، والمجموع 2 / 50 - 52، وكشاف القناع 1 / 143، 144.

(31/201)


ج - وَطْءُ الْجِنِّ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْل مِنْ وَطْءِ الْجِنِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْغُسْل مِنْ إِتْيَانِ الْجِنِّ لِلْمَرْأَةِ، وَإِتْيَانِ الرَّجُل لِلْجِنِّيَّةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ إِنْزَالٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَتْ: مَعِي جِنِّيٌّ يَأْتِينِي مِرَارًا وَأَجِدُ مَا أَجِدُ إِذَا جَامَعَنِي زَوْجِي لاَ غُسْل عَلَيْهَا لاِنْعِدَامِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الإِْيلاَجُ أَوْ الاِحْتِلاَمُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَا إِذَا ظَهَرَ لَهَا فِي صُورَةِ الآْدَمِيِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل، وَكَذَا إِذَا ظَهَرَ لِلرَّجُل جِنِّيَّةٌ فِي صُورَةٍ آدَمِيَّةٍ فَوَطِئَهَا، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ الصُّورِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِكَمَال السَّبَبِيَّةِ.
وَقَال السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ وَطِئَ الْجِنِّيُّ الإِْنْسِيَّةَ فَهَل يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْل؟ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ غُسْل عَلَيْهَا؛ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الإِْيلاَجِ وَالإِْنْزَال فَهُوَ كَالْمَنَامِ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ، قَال السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِنَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْل عَلَى الْمَرْأَةِ لَوْ قَالَتْ: بِي جِنِّيٌّ يُجَامِعُنِي

(31/202)


كَالرَّجُل، وَكَذَا الرَّجُل لَوْ قَال: بِي جِنِّيَّةٌ أُجَامِعُهَا كَالْمَرْأَةِ (1) .

د - إِيلاَجُ ذَكَرِ غَيْرِ الآْدَمِيِّ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْل مِنْ إِيلاَجِ ذَكَرِ غَيْرِ الآْدَمِيِّ (2) .
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْل مِنْ إِيلاَجِ ذَكَرِ غَيْرِ الآْدَمِيِّ كَالْبَهِيمَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ غُسْل مِنْ إِيلاَجِ ذَكَرِ غَيْرِ الآْدَمِيِّ.

هـ - وَطْءُ الْمَيِّتِ:
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْل عَلَى الْمُولِجِ فِي فَرْجِ الْمَيِّتِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، وَلاَ يُعَادُ غُسْل الْمَيِّتِ الْمُغَيَّبِ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُعَادُ غُسْل الْمَيِّتَةِ الْمَوْطُوءَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ غُسْل فِي وَطْءِ الْمَيِّتَةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 109، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 128، الأشباه والنظائر للسيوطي 258، كشاف القناع 1 / 144.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 112، وحاشية الدسوقي 1 / 128، وشرح روض الطالب 1 / 65، وكشاف القناع 1 / 143.

(31/202)


وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْل عَلَى الْمَرْأَةِ فِيمَا لَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْغُسْل عَلَى الْمَرْأَةِ لَوْ أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا مَا لَمْ تُنْزِل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْل عَلَيْهَا (1) .

و وُصُول الْمَنِيِّ إِلَى الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ إِيلاَجٍ:
17 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ غُسْل عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا وَصَل الْمَنِيُّ إِلَى فَرْجِهَا مَا لَمْ تُنْزِل؛ لِفَقْدِ الإِْيلاَجِ وَالإِْنْزَال.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْهُ وَجَبَ الْغُسْل لأَِنَّهُ دَلِيل الإِْنْزَال، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي إِعَادَةِ مَا صَلَّتْ بَعْدَ وُصُول الْمَنِيِّ إِلَى فَرْجِهَا إِلَى أَنِ اغْتَسَلَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ، قَال صَاحِبُ الْقُنْيَةِ: وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْل عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ انْفِصَال مَنِيِّهَا إِلَى رَحِمِهَا وَهُوَ خِلاَفُ الأَْصَحِّ الَّذِي هُوَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 112، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 129، والمجموع شرح المهذب 2 / 133، وشرح روض الطالب 1 / 65، وكشاف القناع 1 / 143، والإنصاف 1 / 233 - 235.

(31/203)


ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حَمَلَتِ اغْتَسَلَتْ وَأَعَادَتِ الصَّلاَةَ مِنْ يَوْمِ وُصُولِهِ، لأَِنَّ حَمْلَهَا مِنْهُ بَعْدَ انْفِصَال مَنِيِّهَا مِنْ مَحَلِّهِ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ، قَال الدُّسُوقِيُّ: هَذَا الْفَرْعُ مَشْهُورٌ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ (1) .

وَهُنَاكَ مَسَائِل ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
1 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْغُسْل فِي السِّحَاقِ - إِتْيَانُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ - إِذَا لَمْ يَحْصُل إِنْزَالٌ (2) .
2 - قَال صَاحِبُ الْقُنْيَةُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ فِي وُجُوبِ الْغُسْل بِإِدْخَال الأُْصْبُعِ فِي الْقُبُل أَوْ الدُّبُرِ خِلاَفًا، وَالأَْوْلَى أَنْ يُوجَبَ إِذَا كَانَ فِي الْقُبُل إِذَا قَصَدَ الاِسْتِمْتَاعَ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ؛ لأَِنَّ الشَّهْوَةَ فِيهِنَّ غَالِبَةٌ، فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ الإِْنْزَال، دُونَ الدُّبُرِ لِعَدَمِهَا، وَمِثْل هَذَا مَا يُصْنَعُ مِنْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ عَلَى صُورَةِ الذَّكَرِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُنْقَضُ وُضُوءُ الْمَرْأَةِ بِمَسِّهَا لِفَرْجِهَا وَلَوْ أَلْطَفَتْ، أَيْ أَدْخَلَتْ
__________
(1) غنية المتملي في شرح منية المصلي 45 - 46، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 129 - 130، وكشاف القناع 1 / 142.
(2) مواهب الجليل 1 / 308، والمجموع 2 / 134، وكشاف القناع 1 / 143.
(3) غنية المتملي 1 / 46، وحاشية ابن عابدين 1 / 112.

(31/203)


أُصْبُعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَصَابِعِهَا فِي فَرْجِهَا (1) .

الثَّالِثُ - الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْل، وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ.
وَدَلِيل وُجُوبِ الْغُسْل فِي الْحَيْضِ قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُل هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (2) أَيْ إِذَا اغْتَسَلْنَ، فَمَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا قَبْل غُسْلِهَا، فَدَل عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْهَا، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي (3) .
وَدَلِيل وُجُوبِهِ فِي النِّفَاسِ الإِْجْمَاعُ - حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْمرغينَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ - وَلأَِنَّهُ حَيْضٌ مُجْتَمِعٌ؛ وَلأَِنَّهُ يُحَرِّمُ الصَّوْمَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 146.
(2) سورة البقرة / 222.
(3) حديث: " إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 409) ومسلم (1 / 262) واللفظ لمسلم.

(31/204)


وَالْوَطْءَ وَيُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلاَةِ، فَأَوْجَبَ الْغُسْل كَالْحَيْضِ.
19 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوجِبِ لِلْغُسْل، هَل هُوَ وُجُودُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَوِ انْقِطَاعُهُ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُسْل وُجُودُ الْحَيْضِ لاَ انْقِطَاعُهُ، وَالاِنْقِطَاعُ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْغُسْل.
وَمِثْل الْمَالِكِيَّةِ الْحَنَابِلَةُ، قَال الْبُهُوتِيُّ: يَجِبُ بِالْخُرُوجِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْخُرُوجِ إِنَاطَةً لِلْحُكْمِ بِسَبَبِهِ، وَالاِنْقِطَاعُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، وَكَلاَمُ الْخِرَقِيِّ يَدُل عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالاِنْقِطَاعِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الأَْحَادِيثِ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْحَيْضُ مُوجِبٌ بِشَرْطِ انْقِطَاعِهِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: سَبَبُ وُجُوبِ الْغُسْل إِرَادَةُ فِعْل مَا لاَ يَحِل إِلاَّ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَوْ عِنْدَ وُجُوبِ مَا لاَ يَصِحُّ مَعَهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ.
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الشَّافِعِيَّةِ، فَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ مُوجِبَهُ الاِنْقِطَاعُ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: الْخُرُوجُ مُوجِبٌ وَالاِنْقِطَاعُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَيُعْتَبَرُ مَعَ خُرُوجِ كُلٍّ مِنْهُمَا - الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ - وَانْقِطَاعِهِ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلاَةِ أَوْ نَحْوِهَا كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ وَالتَّحْقِيقِ، وَقَال

(31/204)


إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخِلاَفِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ، وَقَال النَّوَوِيُّ: فَائِدَتُهُ أَنَّ الْحَائِضَ إِذَا أَجْنَبَتْ، وَقُلْنَا: لاَ يَجِبُ غُسْل الْحَيْضِ إِلاَّ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَقُلْنَا بِالْقَوْل الضَّعِيفِ إِنَّ الْحَائِضَ لاَ تُمْنَعُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَلَهَا أَنْ تَغْتَسِل عَنِ الْجَنَابَةِ لاِسْتِبَاحَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَحْرِ فَائِدَةً أُخْرَى، قَال: لَوِ اسْتُشْهِدَتِ الْحَائِضُ فِي قِتَال الْكُفَّارِ قَبْل انْقِطَاعِ حَيْضِهَا، فَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ بِالاِنْقِطَاعِ لَمْ تُغْسَل. وَإِنْ قُلْنَا بِالْخُرُوجِ فَهَل تُغْسَل؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي غُسْل الْجُنُبِ الشَّهِيدِ.
وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَيْضًا الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي شَرْحِهِ عَلَى الإِْقْنَاعِ.
وَذَكَرَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ فَائِدَةً ثَالِثَةً، وَهِيَ فِيمَا إِذَا قَال لِزَوْجَتِهِ: إِنْ وَجَبَ عَلَيْكِ غُسْلٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ (1) .

الرَّابِعُ - الْمَوْتُ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْل، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 111، وفتح القدير 1 / 44، وحاشية الدسوقي 1 / 130، والمجموع شرح المهذب 1 / 148 - 149، والقليوبي وعميرة 1 / 62، ومغني المحتاج 1 / 69، وكشاف القناع 1 / 146.

(31/205)


حِينَ تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ: اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى سُنِّيَّةِ غُسْل الْمَيِّتِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وُجُوبُ غُسْل الْمَيِّتِ هُوَ قَوْل عَبْدِ الْوَهَّابِ وَابْنِ مُحْرِزٍ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَشَهَرَهُ ابْنُ رَاشِدٍ وَابْنُ فَرْحُونَ، وَأَمَّا سُنِّيَّتُهُ فَحَكَاهَا ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَابْنُ يُونُسَ وَابْنُ الْجَلاَّبِ وَشَهَرَهُ ابْنُ بَزِيزَةَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 2)

الْخَامِسُ - إِسْلاَمُ الْكَافِرِ:
21 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ إِسْلاَمَ الْكَافِرِ مُوجِبٌ لِلْغُسْل، فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِل، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى حَائِطِ بَنِي فُلاَنٍ فَمُرُوهُ أَنْ يَغْتَسِل (3) وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " اغسلنها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 132) ومسلم (2 / 646) من حديث أم عطية.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 112، وحاشية الدسوقي 1 / 407، وكشاف القناع 1 / 145، ومغني المحتاج 1 / 68.
(3) حديث: " أن ثمامة بن أثال أسلم. . . ". أخرجه أحمد (2 / 304) وصححه ابن خزيمة (1 / 125) .

(31/205)


أَنْ يَغْتَسِل بِمَاءٍ وَسِدْرٍ (1) ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ جَنَابَةٍ، فَأُقِيمَتِ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ كَالنَّوْمِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، فَيَجِبُ الْغُسْل عَلَى الْمُرْتَدِّ أَيْضًا إِذَا أَسْلَمَ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّةِ الْغُسْل قَبْل النُّطْقِ بِالشَّهَادَةِ إِذَا أَجْمَعَ بِقَلْبِهِ عَلَى الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ إِسْلاَمَهُ بِقَلْبِهِ إِسْلاَمٌ حَقِيقِيٌّ مَتَى عَزَمَ عَلَى النُّطْقِ مِنْ غَيْرِ إِبَاءٍ، لأَِنَّ النُّطْقَ لَيْسَ رُكْنًا مِنَ الإِْيمَانِ وَلاَ شَرْطَ صِحَّةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالُوا: لَوْ نَوَى بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ أَوِ الطَّهَارَةَ أَوِ الإِْسْلاَمَ كَفَاهُ؛ لأَِنَّ نِيَّتَهُ الطُّهْرُ مِنْ كُل مَا كَانَ فِي حَال كُفْرِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَسَوَاءٌ وُجِدَ مِنْهُ فِي كُفْرِهِ مَا يُوجِبُ الْغُسْل مِنْ نَحْوِ جِمَاعٍ أَوْ إِنْزَالٍ أَوْ لاَ، وَسَوَاءٌ اغْتَسَل قَبْل إِسْلاَمِهِ أَوْ لاَ، فَيَكْفِيهِ غُسْل الإِْسْلاَمِ، سَوَاءٌ نَوَى الْكُل أَوْ نَوَى غُسْل الإِْسْلاَمِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ أَلاَّ يَرْتَفِعَ غَيْرُهُ. لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَفْصِل. وَلَوِ اخْتَلَفَ الْحَال لَوَجَبَ الاِسْتِفْصَال، وَوَقْتُ وُجُوبِ الْغُسْل إِذَا أَسْلَمَ، أَيْ بَعْدَ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ (3) .
__________
(1) " حديث قيس بن عاصم أنه أسلم. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 503) وقال: حديث حسن.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 130 - 131.
(3) كشاف القناع 1 / 145.

(31/206)


22 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْل لِلْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ غَيْرُ جُنُبٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِل. وَلاَ يَجِبُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَلَمْ يَأْمُرْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُسْل.
وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَهُوَ جُنُبٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْل، قَال النَّوَوِيُّ: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ. وَقَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: الأَْصَحُّ وُجُوبُ الْغُسْل عَلَيْهِ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْجَنَابَةِ السَّابِقَةِ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا إِلاَّ بِهِ، وَقِيل: لاَ يَجِبُ لأَِنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ، وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ جَنَابَةٌ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَاضَتِ الْكَافِرَةُ فَطَهُرَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَلاَ غُسْل عَلَيْهَا، وَلَوْ أَسْلَمَتْ حَائِضًا ثُمَّ طَهُرَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْل، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُنُبِ أَنَّ صِفَةَ الْجَنَابَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ فَكَأَنَّهُ أَجْنَبَ بَعْدَهُ، وَالاِنْقِطَاعُ فِي الْحَيْضِ هُوَ السَّبَبُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدَهُ. قَال قَاضِي خَانْ: وَالأَْحْوَطُ وُجُوبُ الْغُسْل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِيمَا لَوِ اغْتَسَل حَال كُفْرِهِ هَل يَجِبُ إِعَادَتُهُ؟ أَحَدُهُمَا: لاَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ لأَِنَّهُ غُسْلٌ صَحِيحٌ، بِدَلِيل

(31/206)


أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ إِبَاحَةُ الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ فَلَمْ تَجِبْ إِعَادَتُهُ كَغُسْل الْمُسْلِمَةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الأَْصَحُّ - تَجِبُ إِعَادَتُهُ لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ، قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْكَافِرِ الْمُغْتَسِل فِي الْكُفْرِ، وَالْكَافِرَةِ الْمُغْتَسِلَةِ لِحِلِّهَا لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ، فَالأَْصَحُّ فِي الْجَمِيعِ وُجُوبُ الإِْعَادَةِ (1) .

فَرَائِضُ الْغُسْل:

الأُْولَى - النِّيَّةُ:
23 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ فَرْضٌ فِي الْغُسْل، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) وَيَكْفِي فِيهَا نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ أَوِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْغُسْل سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ (3) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 44، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 113، والمجموع شرح المهذب 2 / 152 - 153.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ومسلم (3 / 1515) من حديث عمر بن الخطاب، ولفظ مسلم: " إنما الأعمال بالنية ".
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 105، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 56، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 133، ومغني المحتاج 1 / 72، وكشاف القناع 1 / 152، 154.

(31/207)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة)

الثَّانِيَةُ - تَعْمِيمُ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَعْمِيمَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ مِنْ فُرُوضِ الْغُسْل لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَل مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَل يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ يُدْخِل أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّل بِهَا أُصُول شَعْرِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ (1) وَعَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تَوَضَّأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَل فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الأَْذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ (2) وَلِمَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: تَذَاكَرْنَا غُسْل الْجَنَابَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَنَا
__________
(1) حديث عائشة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 360) .
(2) حديث ميمونة " توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري (1 / 361) .

(31/207)


فَآخُذُ مِلْءَ كَفَّيَّ ثَلاَثًا فَأَصُبُّ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أُفِيضُهُ بَعْدُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِي (1) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةً، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: إِفَاضَةُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَاجِبٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى كُل ظَاهِرِ الْجَسَدِ وَمِنْهُ مَا تَحْتَ الشَّعْرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى الْبَشَرَةِ خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا، يَجِبُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِهِ وَجَمِيعِ الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَقَدْ نَبَّهَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَوَاضِعَ قَدْ لاَ يَصِل إِلَيْهَا الْمَاءُ كَعُمْقِ السُّرَّةِ، وَتَحْتِ ذَقَنِهِ، وَتَحْتِ جَنَاحَيْهِ، وَمَا بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ، وَمَا تَحْتَ رُكْبَتَيْهِ، وَأَسَافِل رِجْلَيْهِ. وَيُخَلِّل أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَيُخَلِّل شَعْرَ لِحْيَتِهِ وَشَعْرَ الْحَاجِبَيْنِ وَالْهُدْبَ وَالشَّارِبَ وَالإِْبِطَ وَالْعَانَةَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ غَسْل كُل مَا يُمْكِنُ بِلاَ حَرَجٍ، كَأُذُنٍ وَسُرَّةٍ وَشَارِبٍ وَحَاجِبٍ وَإِنْ كَثُفَ، وَلِحْيَةٍ وَشَعْرِ رَأْسٍ وَلَوْ مُتَلَبِّدًا،
__________
(1) حديث جبير بن مطعم: " تذاكرنا غسل الجنابة. . . ". أخرجه أحمد (4 / 81) وأصله في البخاري (فتح الباري 1 / 367) ومسلم (1 / 258) .
(2) حديث: " إن تحت كل شعرة جنابة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 172) من حديث أبي هريرة، ثم ذكر تضعيف أحد رواته.

(31/208)


وَفَرْجٍ خَارِجٍ. وَأَمَّا الْفَرْجُ الدَّاخِل فَلاَ يُغْسَل لأَِنَّهُ بَاطِنٌ، وَلاَ تُدْخِل أُصْبُعَهَا فِي قُبُلِهَا. وَلاَ يَجِبُ غَسْل مَا فِيهِ حَرَجٌ كَعَيْنٍ وَثَقْبٍ انْضَمَّ بَعْدَ نَزْعِ الْقُرْطِ وَصَارَ بِحَالٍ إِنْ أُمِرَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ يَدْخُلْهُ، وَإِنْ غُفِل لاَ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِمْرَارِهِ، وَلاَ يَتَكَلَّفُ لِغَيْرِ الإِْمْرَارِ مِنْ إِدْخَال عُودٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ (1) . وَهُنَاكَ مَسَائِل تَتَعَلَّقُ بِتَعْمِيمِ الْبَشَرَةِ وَالشَّعْرِ بِالْمَاءِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ - الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْل، قَال الْحَنَابِلَةُ: الْفَمُ وَالأَْنْفُ مِنَ الْوَجْهِ لِدُخُولِهِمَا فِي حَدِّهِ، فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى فَلاَ يَسْقُطُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ مِنَ الْوُضُوءِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ (2) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 103، وفتح القدير 1 / 38، وحاشية الدسوقي 1 / 126، 132، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 185، 190، 191، ومغني المحتاج 1 / 73، والمجموع 2 / 180 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 152، 154.
(2) حديث عائشة: " المضمضة والاستنشاق من الوضوء. . . ". أخرجه الدارقطني (1 / 86) وصوب إرساله.

(31/208)


بِالْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ (1) . وَلأَِنَّ الْفَمَ وَالأَْنْفَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، بِدَلِيل أَنَّ الصَّائِمَ لاَ يُفْطِرُ بِوُصُول شَيْءٍ إِلَيْهِمَا، وَيُفْطِرُ بِعَوْدِ الْقَيْءِ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْل، لأَِنَّ الْفَمَ وَالأَْنْفَ لَيْسَا مِنْ ظَاهِرِ الْجَسَدِ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُمَا، وَاعْتَبَرُوا غَسْلَهُمَا مِنْ سُنَنِ الْغُسْل (2) .

ب - نَقْضُ الضَّفَائِرِ:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ فِي الْغُسْل إِذَا كَانَ الْمَاءُ يَصِل إِلَى أُصُولِهَا، وَالأَْصْل فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْل الْجَنَابَةِ؟ قَال: لاَ، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمضمضة والاستنشاق ". أخرجه البيهقي (1 / 52) ونقل عن الدارقطني أنه أعله.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 102، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 126، ومغني المحتاج 1 / 73، وكشاف القناع 1 / 96 - 154.

(31/209)


فَتَطْهُرِينَ (1) فَإِذَا لَمْ يَصِل الْمَاءُ إِلَى أُصُول الضَّفَائِرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَقْضُهَا فِي الْجُمْلَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَإِذَا لَمْ يَبْتَل أَصْلُهَا، بِأَنْ كَانَ مُتَلَبِّدًا أَوْ غَزِيرًا أَوْ مَضْفُورًا ضَفْرًا شَدِيدًا لاَ يَنْفُذُ فِيهِ الْمَاءُ يَجِبُ نَقْضُهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ مَا لَمْ يَشْتَدَّ بِنَفْسِهِ أَوْ ضُفِّرَ بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ، سَوَاءٌ اشْتَدَّ الضَّفْرُ أَمْ لاَ. وَالْمُرَادُ بِهَا مَا زَادَ عَلَى الاِثْنَيْنِ فِي الضَّفِيرَةِ، وَكَذَا مَا ضُفِرَ بِخَيْطٍ أَوْ خَيْطَيْنِ مَعَ الاِشْتِدَادِ، وَصَرَّحُوا بِوُجُوبِ ضَغْثِ مَضْفُورِ الشَّعْرِ - أَيْ جَمْعِهِ وَضَمِّهِ وَتَحْرِيكِهِ - لِيُدَاخِلَهُ الْمَاءُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَإِنْ كَانَتْ عَرُوسًا تُزَيِّنُ شَعْرَهَا، وَفِي الْبُنَانِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْعَرُوسَ الَّتِي تُزَيِّنُ شَعْرَهَا لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْل رَأْسِهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِتْلاَفِ الْمَال، وَيَكْفِيهَا الْمَسْحُ عَلَيْهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ إِنْ لَمْ يَصِل الْمَاءُ إِلَى بَاطِنِهَا إِلاَّ بِالنَّقْضِ، بِخِلاَفِ مَا تَعَقَّدَ بِنَفْسِهِ فَلاَ يَجِبُ نَقْضُهُ وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنْ كَانَ بِفِعْلٍ عُفِيَ عَنْ قَلِيلِهِ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَثَلاً شَيْءٌ وَلَوْ
__________
(1) حديث أم سلمة: " قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي. . . ". أخرجه مسلم (1 / 259 - 260) ، وفي رواية: " فأنقضه للحيض والجنابة ".

(31/209)


وَاحِدَةٌ بِلاَ غُسْلٍ، ثُمَّ أَزَالَهَا بِقَصٍّ أَوْ نَتْفٍ مَثَلاً لَمْ يَكْفِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ غَسْل مَوْضِعِهَا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَزَالَهُ بَعْدَ غَسْلِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِل بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ (1) قَال عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ شَعْرَ رَأْسِي.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل كَالْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَكْفِي لِلرَّجُل بَل ضَفِيرَتِهِ، فَيَنْقُضُهَا وُجُوبًا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَلِلاِحْتِيَاطِ وَلإِِمْكَانِ حَلْقِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ يَجِبُ؛ نَظَرًا إِلَى الْعَادَةِ.
وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الْجُمْهُورَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ نَقْضِ الشَّعْرِ الْمَضْفُورِ فِي غُسْل الْجَنَابَةِ إِذَا رُوَتْ أُصُولُهُ، وَخَالَفُوهُمْ فِي غُسْل الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِ النَّقْضِ، وَدَلِيل ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا: انْقُضِي شَعْرَكَ وَامْتَشِطِي (2) ، وَلاَ
__________
(1) حديث: " من ترك موضع شعرة من جنابة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 173) ، وذكره ابن حجر في التلخيص (1 / 142) وقال: قيل: إن الصواب وقفه.
(2) حديث: " انقضي شعرك وامتشطي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 417) ومسلم (2 / 870) .

(31/210)


يَكُونُ الْمَشْطُ إِلاَّ فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ؛ وَلأَِنَّ الأَْصْل وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِتَحَقُّقِ وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ. فَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْل الْجَنَابَةِ؛ لأَِنَّهُ يَكْثُرُ، فَشَقَّ ذَلِكَ فِيهِ، وَالْحَيْضُ بِخِلاَفِهِ، فَبَقِيَ عَلَى الأَْصْل فِي الْوُجُوبِ، وَالنِّفَاسُ فِي مَعْنَى الْحَيْضِ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لأَِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ؟ فَقَال: لاَ، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ وَهِيَ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ (1) .

الثَّالِثَةُ - الْمُوَالاَةُ:
27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوَالاَةِ هَل هِيَ مِنْ فَرَائِضِ الْغُسْل أَوْ مِنْ سُنَنِهِ؟
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 103، 104، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 134، والقليوبي 1 / 66، ومغني المحتاج 1 / 73، والمجموع شرح المهذب 2 / 186، وكشاف القناع 1 / 154، والمغني 1 / 226 - 227.

(31/210)


فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الْمُوَالاَةِ فِي غَسْل جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا فَاتَتِ الْمُوَالاَةُ قَبْل إِتْمَامِ الْغُسْل، بِأَنْ جَفَّ مَا غَسَلَهُ مِنْ بَدَنِهِ بِزَمَنٍ مُعْتَدِلٍ وَأَرَادَ أَنْ يُتِمَّ غُسْلَهُ - جَدَّدَ لإِِتْمَامِهِ نِيَّةً وُجُوبًا، لاِنْقِطَاعِ النِّيَّةِ بِفَوَاتِ الْمُوَالاَةِ، فَيَقَعُ غَسْل مَا بَقِيَ بِدُونِ نِيَّةٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ مِنْ فَرَائِضِ الْغُسْل (1) .

الرَّابِعَةُ - الدَّلْكُ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَلْكَ الأَْعْضَاءِ فِي الْغُسْل سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ (2) وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِزِيَادَةٍ. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُِمِّ سَلَمَةَ إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 103 - 105، وحاشية الدسوقي 1 / 133، والخرشي على خليل 1 / 167 - 168، والمجموع شرح المهذب 1 / 453، 2 / 184، وكشاف القناع 1 / 153.
(2) حديث: " فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك ". أخرجه أبو داود (1 / 236) والترمذي (2 / 212) ، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(31/211)


فَتَطْهُرِينَ (1) . وَلأَِنَّهُ غُسْلٌ فَلاَ يَجِبُ إِمْرَارُ الْيَدِ فِيهِ. كَغُسْل الإِْنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الدَّلْكَ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ الْغُسْل، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْغُسْل هُوَ إِمْرَارُ الْيَدِ. وَلاَ يُقَال لِوَاقِفٍ فِي الْمَطَرِ اغْتَسَل، وَقَال الْمُزَنِيُّ: وَلأَِنَّ التَّيَمُّمَ يُشْتَرَطُ فِيهِ إِمْرَارُ الْيَدِ فَكَذَا هُنَا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ لاَ لإِِيصَال الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ، فَيُعِيدُ تَارِكُهُ أَبَدًا، وَلَوْ تَحَقَّقَ وُصُول الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ لِطُول مُكْثِهِ مَثَلاً فِي الْمَاءِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ وَاجِبٌ لإِِيصَال الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ، وَاخْتَارَهُ عَلِيٌّ الأُْجْهُورِيُّ لِقُوَّةِ مُدْرَكِهِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ الدَّلْكِ لِلْمَاءِ، بَل يُجْزِئُ وَلَوْ بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ وَانْفِصَالِهِ مَا لَمْ يَجِفَّ الْجَسَدُ، فَلاَ يُجْزِئُ الدَّلْكُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لأَِنَّهُ صَارَ مَسْحًا لاَ غُسْلاً، وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ الدَّلْكِ بِالْخِرْقَةِ، يُمْسِكُ طَرَفَهَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالطَّرَفَ الآْخَرَ بِالْيُسْرَى وَيُدَلِّكُ بِوَسَطِهَا، فَإِنَّهُ يَكْفِي ذَلِكَ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ
__________
(1) حديث أم سلمة تقدم تخريجه ف 26.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 103 - 105، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 134، والمجموع شرح المهذب 2 / 185، ومطالب أولي النهى 1 / 179، وكشاف القناع 1 / 153.

(31/211)


عَلَى الدَّلْكِ بِالْيَدِ. وَكَذَا لَوْ لَفَّ الْخِرْقَةَ عَلَى يَدِهِ أَوْ أَدْخَل يَدَهُ فِي كِيسٍ فَدَلَّكَ بِهِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الدَّلْكُ بِالْيَدِ سَقَطَ عَنْهُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّلْكُ بِالْخِرْقَةِ وَلاَ الاِسْتِنَابَةُ (1) .

سُنَنُ الْغُسْل:

أ - التَّسْمِيَةُ:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْغُسْل، وَعَدَّهَا الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ، لِعُمُومِ حَدِيثِ: كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ (2)
قَال النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لاَ تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ لِلْجُنُبِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لأَِنَّ التَّسْمِيَةَ ذِكْرٌ، وَلاَ يَكُونُ قُرْآنًا إِلاَّ بِالْقَصْدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وُضُوءَ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 135.
(2) حديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع ". أخرجه السبكي في طبقات الشافعية (1 / 6) من حديث أبي هريرة، وذكر الخطيب في تاريخ بغداد (5 / 77) تضعيف أحد رواته.

(31/212)


لِمَنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ (1) قِيَاسًا لإِِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ عَلَى الأُْخْرَى.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَسْنُونَةٌ فِي طَهَارَةِ الأَْحْدَاثِ كُلِّهَا، وَعَنْهُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِيهَا كُلِّهَا: الْغُسْل وَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ.
وَقَال الْخَلاَّل: الَّذِي اسْتَقَرَّتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ.
وَلَفْظُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِاسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الإِْسْلاَمِ، وَقِيل: الأَْفْضَل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: صِفَةُ التَّسْمِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا زَادَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ جَازَ، وَلاَ يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْآنُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: صِفَتُهَا بِسْمِ اللَّهِ، وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، فَلَوْ قَال: بِسْمِ الرَّحْمَنِ، أَوِ الْقُدُّوسِ، أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ، لَكِنْ قَال الْبُهُوتِيُّ: الظَّاهِرُ إِجْزَاؤُهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ مِمَّنْ يُحْسِنُهَا - كَمَا فِي التَّذْكِيَةِ - إِذْ لاَ فَرْقَ.
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَبْتَدِئَ
__________
(1) حديث: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ". أخرجه ابن ماجه (1 / 140) من حديث أبي هريرة، وذكره ابن حجر في التلخيص (1 / 72) وأشار إلى انقطاع في سنده، وخرج شواهد له ثم قال: الظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً.

(31/212)


النِّيَّةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ، وَمُصَاحِبَةً لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَقْتُهَا عِنْدَ أَوَّل الْوَاجِبَاتِ وُجُوبًا، وَأَوَّل الْمَسْنُونَاتِ اسْتِحْبَابًا (1) .

ب - غُسْل الْكَفَّيْنِ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْغُسْل غُسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلاَثًا ابْتِدَاءً قَبْل إِدْخَالِهِمَا فِي الإِْنَاءِ. لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً لِلْغُسْل، فَغَسَل يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا (2) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ غَيْرَ جَارٍ وَكَانَ يَسِيرًا وَأَمْكَنَ الإِْفْرَاغُ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ تَتَوَقَّفُ سُنِّيَّةُ غُسْلِهِمَا عَلَى الأَْوَّلِيَّةِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 105، والطحطاوي على مراقي الفلاح 37 - 56، وحاشية الدسوقي 1 / 137، وحاشية العدوي على الخرشي 1 / 171، والمجموع شرح المهذب 2 / 181، ومغني المحتاج 1 / 73، وكشاف القناع 1 / 90 - 91 - 152 - 154، والمغني 1 / 102.
(2) حديث ميمونة: " وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء يغتسل به. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 368) ومسلم (1 / 254) واللفظ للبخاري.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 106، والطحطاوي على مراقي الفلاح 56، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 135، والمجموع شرح المهذب 2 / 180، وكشاف القناع 1 / 152.

(31/213)


ج - إِزَالَةُ الأَْذَى:
31 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَكْمَل الْغُسْل إِزَالَةُ الْقَذِرِ طَاهِرًا كَانَ كَالْمَنِيِّ، أَوْ نَجَسًا كَوَدْيٍ اسْتِظْهَارًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ بَعْدَ غَسْل الْيَدَيْنِ الْبَدْءُ بِإِزَالَةِ الْخَبَثِ عَنْ جَسَدِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِفَرْجٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي صِفَةِ غُسْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَل مَذَاكِيرَهُ (1) ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: السُّنَّةُ نَفْسُ الْبُدَاءَةِ بِغُسْل النَّجَاسَةِ. وَأَمَّا نَفْسُ غُسْلِهَا فَلاَ بُدَّ مِنْهُ وَلَوْ قَلِيلَةً.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ غُسْل الْفَرْجِ مَعَ الْبُدَاءَةِ بِغُسْل الْيَدَيْنِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُفِيضَ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَيْهِ فَيَغْسِلَهُ بِالْيُسْرَى، ثُمَّ يُنَقِّيَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ خَبَثٌ اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يُنْدَبُ الْبَدْءُ بِإِزَالَةِ الأَْذَى أَيِ النَّجَاسَةِ فِي الْغُسْل (2) .
__________
(1) حديث ميمونة في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 368) ومسلم (1 / 254) واللفظ للبخاري.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 106، وحاشية الدسوقي 1 / 136، والمجموع 2 / 183، ومغني المحتاج 1 / 73، وكشاف القناع 1 / 152 - 154، والمغني 1 / 221، والإنصاف 1 / 254.

(31/213)


د - الْوُضُوءُ:
32 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْغُسْل الْوُضُوءُ كَامِلاً، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَل مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَل يَدَيْهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ (1) ". وَعَدَّهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل غُسْل الرِّجْلَيْنِ، هَل يَغْسِلُهُمَا فِي وُضُوئِهِ أَوْ فِي آخِرِ غُسْلِهِ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ. وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُؤَخِّرُ غَسْل قَدَمَيْهِ إِلَى آخِرِ الْغُسْل، بَل يُكْمِل الْوُضُوءَ بِغَسْل الرِّجْلَيْنِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ كَانَ وَاقِفًا فِي مَحَلٍّ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَاءُ الْغُسْل، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ إِنَّهُ يُؤَخِّرُ غُسْل قَدَمَيْهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلاَقِ الأَْكْثَرِ، وَإِطْلاَقِ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، قَال النَّوَوِيُّ عَنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيَّةِ: وَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ إِنَّمَا هُمَا
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 360) ومسلم (1 / 254) .

(31/214)


فِي الأَْفْضَل، وَإِلاَّ فَكَيْفَ فَعَل حَصَل الْوُضُوءُ، وَقَدْ ثَبَتَ الأَْمْرَانِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ إِنْ كَانَ فِي مَكَانٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَيُؤَخِّرُ غُسْل قَدَمَيْهِ. وَإِلاَّ غَسَلَهُمَا فِي الْوُضُوءِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ. صَحَّحَهُ فِي الْمُجْتَبَى، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمَبْسُوطِ وَالْكَافِي.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ بِأَنَّ غُسْل رِجْلَيْهِ مَعَ الْوُضُوءِ وَتَأْخِيرَ غُسْلِهِمَا حَتَّى يَغْتَسِل سَوَاءٌ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ إِلَى نَدْبِ تَأْخِيرِ غُسْل الرِّجْلَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِ الْغُسْل؛ لأَِنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِتَأْخِيرِ غُسْلِهِمَا فِي الأَْحَادِيثِ كَحَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الأَْحَادِيثِ الإِْطْلاَقُ، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّدِ (1) .

هـ - الْبَدْءُ بِالْيَمِينِ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْبَدْءِ بِالْيَمِينِ عِنْدَ غُسْل الْجَسَدِ، وَهُوَ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الْغُسْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 106، وحاشية الدسوقي 1 / 136، والمجموع 2 / 182، وكشاف القناع 1 / 152، والإنصاف 1 / 252، والمغني 1 / 217.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 107، والطحطاوي على مراقي الفلاح 57، وحاشية الدسوقي 1 / 137، والمجموع 2 / 184، وكشاف القناع 1 / 152، والمغني 1 / 217.

(31/214)


لِحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي طَهُورِهِ (1) وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَل مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلاَبِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، ثُمَّ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَْيْمَنِ ثُمَّ الأَْيْسَرِ (2) .

و الْبَدْءُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ:
34 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ غُسْل الْجَسَدِ الْبَدْءُ بِأَعْلاَهُ.
وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ عَدُّوهُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ (3) .

ز - تَثْلِيثُ الْغُسْل:
35 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَثْلِيثَ غُسْل الأَْعْضَاءِ فِي الْغُسْل سُنَّةٌ، لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ حَفَنَاتٍ (4) ، وَفِي
__________
(1) حديث: " كان يعجبه التيمن في طهوره ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 269) ومسلم (1 / 226) .
(2) حديث عائشة: " كان إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 369) ومسلم (1 / 255) .
(3) المجموع شرح المهذب 2 / 184، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 137.
(4) حديث ميمونة: " ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات. . . ". أخرجه مسلم (1 / 254) .

(31/215)


حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِل أَصَابِعَهُ فِي أُصُول الشَّعْرِ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ حَفَنَاتٍ (1) ، وَأَمَّا بَاقِي أَعْضَاءِ الْجَسَدِ فَقِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا كَفَى فِي التَّثْلِيثِ أَنْ يُمِرَّ عَلَيْهِ ثَلاَثًا جِرْيَاتٍ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا انْغَمَسَ فِيهِ ثَلاَثًا، بِأَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ وَيَنْقُل قَدَمَيْهِ، أَوْ يَنْتَقِل فِيهِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى آخَرَ ثَلاَثًا، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى انْفِصَال جُمْلَتِهِ وَلاَ رَأْسِهِ، فَإِنَّ حَرَكَتَهُ تَحْتَ الْمَاءِ كَجَرْيِ الْمَاءِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَدْبِ تَثْلِيثِ غُسْل الرَّأْسِ فَقَطْ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الأَْعْضَاءِ فَاعْتَمَدَ الدَّرْدِيرُ كَرَاهَةَ غُسْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَاعْتَمَدَ الْبُنَانِيُّ تَكْرَارَ غُسْل الأَْعْضَاءِ (2) .

36 - وَهُنَاكَ سُنَنٌ أُخْرَى مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمَاءِ الْمُغْتَسَل بِهِ صَاعًا لِحَدِيثِ سَفِينَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُغَسِّلُهُ الصَّاعُ مِنَ الْمَاءِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَيُوَضِّئُهُ
__________
(1) حديث عائشة: " ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 253) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 107، وحاشية الدسوقي 1 / 137، والبناني على شرح الزرقاني 1 / 103، ومغني المحتاج 1 / 74، والمجموع 2 / 184، وكشاف القناع 1 / 152.

(31/215)


الْمُدُّ (1) . وَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالصَّاعِ الْعِرَاقِيِّ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَقَدَّرَهُ صَاحِبَاهُ بِالصَّاعِ الْحِجَازِيِّ وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: نَقَل غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ، وَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكْفِي فِي الْغُسْل صَاعٌ وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ لِحَدِيثِ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِل بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ (2) " لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لاَزِمٍ، بَل هُوَ بَيَانُ أَدْنَى الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَسْبَغَ بِدُونِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ زَادَ عَلَيْهِ. لأَِنَّ طِبَاعَ النَّاسِ وَأَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: الْمَدَارُ عَلَى الإِْحْكَامِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْجْسَامِ.
وَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ لاَ يَنْقُصَ مَاءُ الْغُسْل عَنْ صَاعٍ، قَالُوا: وَلاَ حَدَّ لَهُ فَلَوْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ وَأَسْبَغَ
__________
(1) حديث سفينة: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغسله الصاع. . . ". أخرجه مسلم (1 / 258) .
(2) حديث: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بالصاع. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 304) ومسلم (1 / 258) من حديث أنس بن مالك، واللفظ للبخاري.

(31/216)


كَفَى (1) .

37 - وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ سُنَنَ الْغُسْل كَسُنَنِ الْوُضُوءِ سِوَى التَّرْتِيبِ وَالدُّعَاءِ، وَآدَابَهُ كَآدَابِ الْوُضُوءِ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَبْتَدِئَ فِي حَال صَبِّ الْمَاءِ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ عَلَى مَيَامِنِهِ، ثُمَّ عَلَى مَيَاسِرِهِ كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُسَنُّ السِّوَاكُ أَيْضًا فِي الْغُسْل.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ مُطْلَقًا، أَمَّا كَلاَمُ النَّاسِ فَلِكَرَاهَتِهِ حَال الْكَشْفِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلأَِنَّهُ فِي مَصَبِّ الْمُسْتَعْمَل وَمَحَل الأَْقْذَارِ وَالأَْوْحَال.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ آدَابِ الْغُسْل: أَنْ يَغْتَسِل بِمَكَانٍ لاَ يَرَاهُ فِيهِ أَحَدٌ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ لِعَوْرَتِهِ؛ لاِحْتِمَال ظُهُورِهَا فِي حَال الْغُسْل أَوْ لُبْسِ الثِّيَابِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَل أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ (2) .
وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ سُبْحَةً بَعْدَ الْغُسْل كَالْوُضُوءِ لأَِنَّهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 107، وحاشية الدسوقي 1 / 137، ومغني المحتاج 1 / 74، ومطالب أولي النهى 1 / 183.
(2) حديث: " إن الله حيي ستير يحب. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 302) من حديث يعلى بن أمية.

(31/216)


يَشْمَلُهُ (1) .

38 - وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ مَسْحُ صِمَاخِ (ثَقْبِ) الأُْذُنَيْنِ فِي الْغُسْل، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْمِل الْمَاءَ فِي يَدَيْهِ وَإِمَالَةِ رَأْسِهِ حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ وَلاَ يَصُبُّ الْمَاءَ فِي أُذُنَيْهِ صَبًّا؛ لأَِنَّهُ يُورِثُ الضَّرَرَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: السُّنَّةُ هُنَا مَسْحُ الثَّقْبِ الَّذِي هُوَ الصِّمَاخُ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ غُسْلُهُ (2) .
39 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنَ السُّنَنِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ إِلَى آخِرِ الْغُسْل، وَأَنْ لاَ يَغْتَسِل فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَلَوْ كَثُرَ، وَأَنْ يَكُونَ اغْتِسَالُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ بَعْدَ بَوْلٍ لِئَلاَّ يَخْرُجَ بَعْدَهُ مَنِيٌّ.
وَيُسَنُّ أَنْ يَقُول بَعْدَ فَرَاغِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَيَتْرُكَ الاِسْتِعَانَةَ وَالتَّنْشِيفَ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَلِّل أُصُول شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِمَاءٍ قَبْل إِفَاضَتِهِ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 105، والطحطاوي على مراقي الفلاح 57.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 136 - 137، وحاشية العدوي على الرسالة 1 / 185.
(3) المجموع شرح المهذب 2 / 184، ومغني المحتاج 1 / 74 - 75.
(4) المغني لابن قدامة 1 / 217.

(31/217)


مَكْرُوهَاتُ الْغُسْل:
40 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ مَكْرُوهَاتِ الْغُسْل الإِْسْرَافُ فِي الْمَاءِ.
وَمِنَ الْمَكْرُوهَاتِ ضَرْبُ الْوَجْهِ بِالْمَاءِ، وَالتَّكَلُّمُ بِكَلاَمِ النَّاسِ، وَالاِسْتِعَانَةُ بِالْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَرَجَّحَ الطَّحْطَاوِيُّ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالاِسْتِعَانَةِ، وَتَنْكِيسِ الْفِعْل، وَتَكْرَارِ الْغُسْل بَعْدَ الإِْسْبَاغِ، وَالْغُسْل فِي الْخَلاَءِ وَفِي مَوَاضِعِ الأَْقْذَارِ، وَتَرْكِ الْوُضُوءِ أَوِ الْمَضْمَضَةِ أَوِ الاِسْتِنْشَاقِ وَالاِغْتِسَال دَاخِل مَاءٍ كَثِيرٍ كَالْبَحْرِ خَشْيَةَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْمَوْجُ فَيُغْرِقَهُ (1) .

صِفَةُ الْغُسْل:
41 - لِلْغُسْل صِفَتَانِ: صِفَةُ إِجْزَاءٍ وَصِفَةُ كَمَالٍ.
فَصِفَةُ الإِْجْزَاءِ تَحْصُل بِالنِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُهَا، وَتَعْمِيمِ جَمِيعِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ (2) .
وَصِفَةُ الْكَمَال تَحْصُل بِذَلِكَ وَبِمُرَاعَاةِ وَاجِبَاتِ الْغُسْل وَسُنَنِهِ وَآدَابِهِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا.
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 44 - 45 - 57، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 185، والبجيرمي على الخطيب 1 / 215 - 218، والمجموع 2 / 190، ومطالب أولي النهى 1 / 184.
(2) انظر: حاشية ابن عابدين 1 / 106، والشرح الكبير للدردير مع الدسوقي 1 / 137، ومغني المحتاج 1 / 72 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 152 وما بعدها.

(31/217)


غِشٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغِشُّ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ النُّصْحِ، يُقَال: غَشَّ صَاحِبَهُ: إِذَا زَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَظْهَرَ لَهُ غَيْرَ مَا أَضْمَرَ، وَلَبَنٌ مَغْشُوشٌ: أَيْ مَخْلُوطٌ بِالْمَاءِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّدْلِيسُ:
2 - التَّدْلِيسُ: الْخَدِيعَةُ وَهُوَ مَصْدَرُ دَلَّسَ، وَالدُّلْسَةُ: الظُّلْمَةُ، وَالتَّدْلِيسُ فِي الْبَيْعِ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي، يُقَال: دَلَّسَ الْبَائِعُ تَدْلِيسًا: كَتَمَ عَيْبَ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَأَخْفَاهُ، وَمِنْهُ التَّدْلِيسُ فِي الإِْسْنَادِ (2) .
فَالتَّدْلِيسُ مِنْ أَنْوَاعِ الْغِشِّ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) المصباح المنير ولسان العرب، والتعريفات للجرجاني، وتدريب الراوي ص139 وما بعدها.

(31/218)


ب - التَّغْرِيرُ:
3 - التَّغْرِيرُ هُوَ: الْخَطَرُ وَالْخُدْعَةُ، وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ، وَقَال الْجُرْجَانِيُّ: الْغَرَرُ: مَا يَكُونُ مَجْهُول الْعَاقِبَةِ لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لاَ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّغْرِيرُ تَوْصِيفُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صِفَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ (2) . وَبَيْعُ الْغَرَرِ هُوَ الْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ خَطَرُ انْفِسَاخِهِ بِهَلاَكِ الْمَبِيعِ (3) .
وَالتَّغْرِيرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْغِشِّ.

ج - الْخِلاَبَةُ:
4 - الْخِلاَبَةُ بِالْكَسْرِ: الْمُخَادَعَةُ، وَقِيل: الْخَدِيعَةُ بِاللِّسَانِ (4) ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِرَجُلٍ كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ (5) . وَالْخِلاَبَةُ نَوْعٌ مِنَ الْغِشِّ.
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط ومتن اللغة والتعريفات.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (164) .
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(4) لسان العرب.
(5) حديث: " إذا بايعت فقل: لا خلابة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 337) من حديث ابن عمر.

(31/218)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغِشَّ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَوْل أَمْ بِالْفِعْل، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّمَنِ أَمْ بِالْكَذِبِ وَالْخَدِيعَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمُعَامَلاَتِ أَمْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ (1) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْغِشِّ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَل يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَال: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَال: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنِّي. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2) .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَمْثَالَهُ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى الظَّاهِرِ، فَالْغِشُّ لاَ يُخْرِجُ الْغَاشَّ عَنِ الإِْسْلاَمِ، قَال الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَى سِيرَتِنَا وَمَذْهَبِنَا (3) .
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 192.
(2) حديث: " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني ". أخرجه مسلم (1 / 99) ، وكذا الحديث الآخر: " من غشنا فليس منا ".
(3) تحفة الأحوذي 4 / 544.

(31/219)


وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، حَدِيثٌ قَال: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ: لَيْسَ عَلَى مِثْل هُدَانَا وَطَرِيقَتِنَا، إِلاَّ أَنَّ الْغِشَّ لاَ يُخْرِجُ الْغَاشَّ مِنَ الإِْيمَانِ، فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى هُدَاهُمْ وَسَبِيلِهِمْ؛ لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْتِزَامِ مَا يَلْزَمُهُ فِي شَرِيعَةِ الإِْسْلاَمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ. . فَلاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً مِنَ السِّلَعِ أَوْ دَارًا أَوْ عَقَارًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ شَيْئًا مِنَ الأَْشْيَاءِ - وَهُوَ يَعْلَمُ فِيهِ عَيْبًا قَل أَوْ كَثُرَ - حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمُبْتَاعِهِ، وَيَقِفَهُ عَلَيْهِ وَقْفًا يَكُونُ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ وَكَتَمَهُ الْعَيْبَ وَغَشَّهُ بِذَلِكَ لَمْ يَزَل فِي مَقْتِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ (1) . ثُمَّ قَال: وَقَدْ يُحْتَمَل أَنْ يُحْمَل قَوْلُهُ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ؛ لأَِنَّ مَنِ اسْتَحَل التَّدْلِيسَ بِالْعُيُوبِ وَالْغِشَّ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، فَهُوَ كَافِرٌ حَلاَل الدَّمِ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل (2) .
وَلاَ تَخْتَلِفُ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ النُّصْحَ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاجِبٌ (3) .
__________
(1) المقدمات الممهدات 2 / 569.
(2) المرجع السابق.
(3) رد المحتار وبهامشه الدر المختار 4 / 98، والمقدمات الممهدات 2 / 569 والزواجر 1 / 193.

(31/219)


وَقَدْ بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ ضَابِطَ النُّصْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: أَنْ لاَ يُثْنِيَ عَلَى السِّلْعَةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وَأَنْ لاَ يَكْتُمَ مِنْ عُيُوبِهَا وَخَفَايَا صِفَاتِهَا شَيْئًا أَصْلاً، وَأَنْ لاَ يَكْتُمَ فِي وَزْنِهَا وَمِقْدَارِهَا شَيْئًا، وَأَنْ لاَ يَكْتُمَ مِنْ سِعْرِهَا مَا لَوْ عَرَفَهُ الْمُعَامِل لاَمْتَنَعَ عَنْهُ، ثُمَّ قَال: فَإِنْ أَخْفَاهُ كَانَ ظَالِمًا غَاشًّا، وَالْغِشُّ حَرَامٌ، وَكَانَ تَارِكًا لِلنُّصْحِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالنُّصْحُ وَاجِبٌ (1) .
وَقَدْ رَجَّحَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْقَوْل بِأَنَّ الْغِشَّ كَبِيرَةٌ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَفْسُقُ فَاعِلُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ عَلَّل ابْنُ عَابِدِينَ هَذَا التَّرْجِيحَ بِقَوْلِهِ: لأَِنَّ الْغِشَّ مِنْ أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل (2) .

الْغِشُّ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
6 - يَحْصُل الْغِشُّ كَثِيرًا فِي الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمُعَاوَضَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صُوَرًا لِلْغِشِّ الْوَاقِعِ فِي زَمَانِهِمْ بَيْنَ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ (3) .
وَلِلْغِشِّ صُوَرٌ مُخْتَلِفَةٌ كَالْغِشِّ بِالتَّدْلِيسِ وَالْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 779.
(2) رد المحتار 4 / 98.
(3) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 193، 194.

(31/220)


لِلْغِشِّ آثَارًا مُتَنَوِّعَةً كَالْغَبْنِ وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.

أَوَّلاً - الْغِشُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ:
7 - يَقَعُ الْغِشُّ فِي الْمُعَامَلاَتِ كَثِيرًا بِصُورَةِ التَّدْلِيسِ الْقَوْلِيِّ، كَالْكَذِبِ فِي سِعْرِ الْمَبِيعِ، أَوِ الْفِعْلِيِّ كَكِتْمَانِ عُيُوبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ بِصُورَةِ التَّصْرِيَةِ كَأَنْ يَتْرُكَ الْبَائِعُ حَلْبَ النَّاقَةِ أَوْ غَيْرِهَا مُدَّةً قَبْل بَيْعِهَا لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِيَ كَثْرَةَ اللَّبَنِ، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ يُخْدَعُ الْمُشْتَرِي، فَيُبْرِمُ الْعَقْدَ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ إِذَا عَلِمَ الْحَقِيقَةَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّدْلِيسَ عَيْبٌ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الثَّمَنُ لأَِجْلِهِ فِي الْمُعَامَلاَتِ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَعْلَمَ الْمُدَلَّسُ عَلَيْهِ الْعَيْبَ قَبْل الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَهُ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْعَيْبُ ظَاهِرًا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدْلِيس ف 7 وَمَا بَعْدَهَا)
وَفِي الْغِشِّ بِصُورَةِ التَّصْرِيَةِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَصْرِيَةَ الْحَيَوَانِ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: لاَ تُصَرُّوا الإِْبِل وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ
__________
(1) رد المحتار 4 / 71، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 328، وروضة الطالبين 3 / 469، والمغني لابن قدامة 4 / 157.

(31/220)


فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ (1) .
وَلاَ يَعْتَبِرُ أَبُو حَنِيفَةَ التَّصْرِيَةَ عَيْبًا مُثْبِتًا لِلْخِيَارِ بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُصَرَّاةً فَوَجَدَهَا أَقَل لَبَنًا مِنْ أَمْثَالِهَا لَمْ يَمْلِكْ رَدَّهَا، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِهَا (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْرِيَة ف 3 وَمَا بَعْدَهَا)

ثَانِيًا - الْغِشُّ الْمُسَبِّبُ لِلْغَبْنِ:
8 - الْغِشُّ يُؤَثِّرُ كَثِيرًا فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ بِصُورَةِ الْغَبْنِ، فَيَحْصُل النَّقْصُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ بَدَل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ - وَهُوَ مَا يُحْتَمَل غَالِبًا، أَوْ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ - لاَ يَثْبُتُ خِيَارًا لِلْمَغْبُونِ (3) .
أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْعَقْدِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ
__________
(1) حديث: " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 361) ومسلم (3 / 1155) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(2) رد المحتار 4 / 96، الزرقاني 5 / 134، وأسنى المطالب 2 / 161، والمغني لابن قدامة 4 / 149.
(3) تبيين الحقائق 4 / 272، وانظر في ضابط الغبن اليسير والفاحش البدائع 6 / 30، ومواهب الجليل 4 / 472، ومغني المحتاج 2 / 224، والمغني لابن قدامة 3 / 584.

(31/221)


لِلْمَغْبُونِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (غَرَر) (وَغَبْن) (وَخِيَارُ الْغَبْنِ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا)

التَّعَامُل بِالنَّقْدِ الْمَغْشُوشِ:
9 - أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِنْفَاقَ الْمَغْشُوشِ مِنَ النُّقُودِ إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ وَظَهَرَ غِشُّهُ، وَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيل التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ جَائِزٌ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِيهَا غَالِبًا وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةً، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ حَسَبَ تَعَامُل النَّاسِ لَهَا كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ فِيهَا غَالِبَةً أَوْ مُتَسَاوِيَةً مَعَ الْغِشِّ، إِلاَّ أَنَّهَا هُنَا إِذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا جَازَ التَّعَامُل بِهَا وَزْنًا لاَ عَدَدًا؛ لأَِنَّ الْفِضَّةَ وَزْنِيَّةٌ فِي الأَْصْل وَالْغَالِبُ لَهُ حُكْمُ الْكُل، أَمَّا فِي صُوَرِ التَّسَاوِي فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ عِنْدَ تَعَارُضِ جِهَتَيِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادُ أَحْوَطُ، كَمَا عَلَّلَهُ الْكَاسَانِيُّ (2) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنْ الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ الْعَامَّةَ إِذَا اصْطَلَحَتْ عَلَى سِكَّةٍ
__________
(1) الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 159، ومواهب الجليل 4 / 470، وروضة الطالبين 3 / 470، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 140.
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5 / 197، 198.

(31/221)


وَإِنْ كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَلاَ تُقْطَعُ (أَيْ لاَ تُمْنَعُ مِنَ التَّدَاوُل) لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِتْلاَفِ رُءُوسِ أَمْوَال النَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْفَتْوَى عَلَى قَطْعِ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ الَّتِي يُزَادُ فِي غِشِّهَا حَتَّى صَارَتْ نُحَاسًا. وَكَذَا الذَّهَبُ الْمُحَلاَّةُ لِعَدَمِ ضَبْطِهَا فِي الْغِشِّ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ ضَرْبُ الْمَغْشُوشِ لِخَبَرِ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2) وَلِئَلاَّ يَغُشَّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا. فَإِنْ عَلِمَ مِعْيَارَهَا صَحَّتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا مُعَيَّنَةً وَفِي الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا الصِّحَّةُ مُطْلَقًا كَبَيْعِ الْغَالِيَةِ وَالْمَعْجُونَاتِ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا وَهِيَ رَائِجَةٌ، وَلِحَاجَةِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا،
وَالثَّانِي: لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا كَاللَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِالْمَاءِ، وَالثَّالِثُ: وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ مَغْلُوبًا صَحَّ التَّعَامُل بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَالِبًا لَمْ يَصِحَّ، وَالرَّابِعُ: يَصِحُّ التَّعَامُل بِهَا فِي الْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ (3) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ النُّقُودِ رِوَايَتَانِ: أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: نَقَل صَالِحٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي دِرْهَمٍ يُقَال لَهَا الْمُسَيِّبِيَّةُ عَامَّتُهَا نُحَاسٌ إِلاَّ شَيْئًا
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 342.
(2) حديث: " من غشنا فليس منا ". سبق تخريجه ف / 5.
(3) مغني المحتاج 1 / 390.

(31/222)


فِيهَا فِضَّةٌ، فَقَال: إِذَا كَانَ شَيْئًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ - مِثْل الْفُلُوسِ - وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا فَأَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِهَا بَأْسٌ.
وَالثَّانِيَةُ: التَّحْرِيمُ: نَقَل حَنْبَلٌ فِي دَرَاهِمَ مَخْلُوطَةٍ يُشْتَرَى بِهَا وَيُبَاعُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا أَحَدٌ، كُل مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْغِشِّ فَالشِّرَاءُ بِهِ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوْلَى أَنْ يُحْمَل كَلاَمُ أَحْمَدَ فِي الْجَوَازِ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا ظَهَرَ غِشُّهُ وَاصْطُلِحَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِهِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ اشْتِمَالِهِ عَلَى جِنْسَيْنِ لاَ غَرَرَ فِيهِمَا، فَلاَ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَا مُتَمَيِّزَيْنِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (فُلُوس) .

صَرْفُ الْمَغْشُوشِ بِجِنْسِهِ أَوْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا غَلَبَ ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ حُكْمُهُ حُكْمُ النُّقُودِ الْخَالِصَةِ. فَلاَ يَجُوزُ صَرْفُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَلاَ بِالْخَالِصَةِ إِلاَّ مُتَسَاوِيًا وَزْنًا مَعَ التَّقَابُضِ.
وَمَا غَلَبَ غِشُّهُ عَلَى الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعُرُوضِ، يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالْخَالِصِ إِنْ كَانَ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي
__________
(1) المغني 4 / 57، 58 ط الرياض.

(31/222)


الْمَغْشُوشِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ مُتَسَاوِي الْغِشِّ وَالْفِضَّةِ، فَيُصْرَفُ فِضَّةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى غِشِّ الآْخَرِ وَبِالْعَكْسِ (1) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَيْعُ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ بِمِثْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَسَاوَ غِشُّهُمَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِهِمْ جَوَازُ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِصِنْفِهِ الْخَالِصِ أَيْضًا إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْغِشُّ الْمُخَالِطُ فِي الْمَوْزُونِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا، قَلِيلاً كَانَ أَمْ كَثِيرًا، فَلاَ تُبَاعُ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ بِمَغْشُوشَةٍ، وَلاَ فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ، وَمِثْلُهُ الذَّهَبُ (3) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ بَيْعَ الأَْثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِمَا مُتَسَاوِيًا وَمَعْلُومَ الْمِقْدَارِ. وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ مُتَفَاوِتًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الأَْثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِأَثْمَانٍ خَالِصَةٍ مِنْ جِنْسِهَا (4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَرْف ف 41 - 44)
__________
(1) رد المحتار 4 / 240، 241، وبدائع الصنائع 5 / 220.
(2) جواهر الإكليل 2 / 16.
(3) تكملة المجموع للسبكي 10 / 398، 409، والمهذب 1 / 281.
(4) كشاف القناع 3 / 261، 262، والمغني 4 / 48 وما بعدها.

(31/223)


الْغِشُّ فِي الْمِكْيَال وَالْمِيزَانِ:
11 - لَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ فِيهِمَا، وَنَهَى عَنِ الْغِشِّ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: (أَوْفُوا الْكَيْل وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَْرْضِ مُفْسِدِينَ) (1) ، وَتَوَعَّدَ الْمُطَفِّفِينَ بِالْوَيْل وَهَدَّدَهُمْ بِعَذَابٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (2) .
وَذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَبَائِرِ وَقَال: وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَأَكْل الْمَال بِالْبَاطِل (3) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي وَظَائِفِ الْمُحْتَسِبِ أَنَّ مِمَّا هُوَ عُمْدَةٌ نَظَرُهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيل وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ، وَأَنْ يَطْبَعَ عَلَيْهَا طَابَعُهُ، وَلَهُ الأَْدَبُ عَلَيْهِ وَالْمُعَاقَبَةُ فِيهِ، فَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابَعِهِ كَانَ الزُّورُ فِيهِ كَالْمُبَهْرَجِ عَلَى
__________
(1) سورة الشعراء / 181 - 183.
(2) سورة المطففين / 1 - 5.
(3) الكبائر للذهبي ص162.

(31/223)


طَابَعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بِغِشٍّ كَانَ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي الْغِشِّ، وَهُوَ أَغْلَظُ الْمُنْكَرَيْنِ، وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالإِْنْكَارِ لِحَقِّ السَّلْطَنَةِ خَاصَّةً (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطْفِيف ف 3، 4) (وَحِسْبَة ف 34) .

الْغِشُّ فِي الْمُرَابَحَةِ:
12 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مُرَابَحَةً فَقَال: هُوَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ بِعْتُكَ بِهَا وَبِرِبْحِ عَشَرَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ تِسْعُونَ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا زَادَ عَلَى رَأْسِ الْمَال وَهُوَ عَشَرَةٌ وَحَظُّهَا مِنَ الرِّبْحِ - وَهُوَ دِرْهَمٌ - فَيَبْقَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ (2) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَاهُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَبَاعَهُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص221 - 224، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 299، ومعالم القرية في أحكام الحسبة ص86، والحسبة في الإسلام لابن تيميه ص13.
(2) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 260، ومغني المحتاج 2 / 79.

(31/224)


بِرِبْحِ خَمْسَةٍ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْبَائِعَ اشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةٍ فَإِنَّهُ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ مِنَ الأَْصْل وَهُوَ الْخُمُسُ - أَيْ دِرْهَمَانِ وَمَا قَابَلَهُ مِنَ الرِّبْحِ - وَهُوَ دِرْهَمٌ، فَيَأْخُذُ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا (1) .
وَقَدْ عَلَّل الشَّافِعِيَّةُ حَطَّ الزِّيَادَةِ وَرِبْحَهَا بِقَوْلِهِمْ: لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ بِاعْتِمَادِ الثَّمَنِ الأَْوَّل فَتُحَطُّ الزِّيَادَةُ عَنْهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَحُطُّ شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ قَدْ سَمَّى عِوَضًا وَعَقَدَ بِهِ.
وَبِنَاءً عَلَى الْحَطِّ فَهَل لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ؟ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَلاَ لِلْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا أَمْ تَالِفًا، أَمَّا الْمُشْتَرِي فَلأَِنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِالأَْكْثَرِ فَبِالأَْقَل مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلِتَدْلِيسِهِ (2) .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ (3) .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ بِرَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ. وَبَيْنَ تَرْكِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ الْخِيَانَةَ فِي هَذَا الثَّمَنِ أَيْضًا (4) .
__________
(1) حاشية رد المحتار 4 / 155، 156.
(2) مغني المحتاج 2 / 79.
(3) المغني مع الشرح الكبير 4 / 260.
(4) المغني مع الشرح الكبير 4 / 260.

(31/224)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَذَبَ الْبَائِعُ فِي إِخْبَارِهِ، كَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ وَقَدْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَرْبَعِينَ - سَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأً - لَزِمَ الْبَيْعُ الْمُشْتَرِيَ إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ الْمَكْذُوبَ. وَإِلاَّ خُيِّرَ بَيْنَ التَّمَاسُكِ وَالرَّدِّ، وَإِذَا غَشَّ بِأَنِ اشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةٍ مَثَلاً وَيُرَقِّمُ عَلَيْهَا عَشْرَةً، ثُمَّ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَمَاسَكَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي نَقَدَهُ - وَهُوَ الثَّمَانِيَةُ وَرِبْحُهَا - أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ بِثَمَنِهِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْبَائِعِ فِي مُرَابَحَةٍ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِكُل ثَمَنِهِ أَوْ رَدَّهُ لِفَوَاتِ الرِّضَا (2) .
وَلِلْغِشِّ فِي الْمُرَابَحَةِ صُوَرٌ وَأَحْكَامٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (مُرَابَحَة)

الْغِشُّ فِي التَّوْلِيَةِ:
13 - إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي التَّوْلِيَةِ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً، ثُمَّ بَاعَهُ تَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ فِي رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِذَا هَلَكَ أَوْ
__________
(1) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 4 / 168، 169.
(2) رد المحتار 4 / 155.

(31/225)


اسْتُهْلِكَ فَلاَ خِيَارَ لَهُ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ حَالاً مَعَ تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ مُؤَجَّلاً بِالأَْجَل الَّذِي اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ إِلَيْهِ، وَلاَ خِيَارَ لَهُ.
وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي دُونَ خِيَارٍ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ، وَإِلاَّ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ أَوْ يَأْخُذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْلِيَة ف 18، 19)

الْغِشُّ فِي الْوَضِيعَةِ:
14 - حُكْمُ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ فِي الْوَضِيعَةِ يُشْبِهُ حُكْمَ الْغِشِّ فِي الْمُرَابَحَةِ؛ لأَِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ رِبْحُ الْمُشْتَرِي (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَضَيْعَة)

غِشُّ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ:
15 - إِذَا غَشَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الآْخَرَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 225، 226، والبناية 6 / 494، والخرشي 5 / 179 وحاشية الدسوقي 3 / 165، ومغني المحتاج 2 / 79، وروضة الطالبين 3 / 525، وكشاف القناع 3 / 231.
(2) رد المحتار 4 / 152، ومغني المحتاج 2 / 76، وكشاف القناع 3 / 230.

(31/225)


بِكِتْمَانِ عَيْبٍ فِيهِ يُنَافِي الاِسْتِمْتَاعَ أَوْ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ، يَثْبُتُ لِلْمُتَضَرِّرِ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَق ف 93 وَمَا بَعْدَهَا)

غِشُّ وُلاَةِ الأُْمُورِ لِرَعِيَّتِهِمْ:
16 - الْمُرَادُ بِأُولِي الأَْمْرِ الأُْمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ وَكُل مَنْ تَقَلَّدَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا يَعُمُّ الأُْمَرَاءَ وَالْعُلَمَاءَ (2) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ غِشِّهِمْ لِلرَّعِيَّةِ أَحَادِيثُ، مِنْهَا، مَا رَوَاهُ مَعْقِل بْنُ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَسْتَرْعِي اللَّهُ عَبْدًا رَعِيَّةً يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
__________
(1) رد المحتار 2 / 593، والزرقاني 3 / 235، وحاشية القليوبي 3 / 261، والمغني لابن قدامة 6 / 650.
(2) تفسير الطبري 8 / 495، وتفسير روح المعاني 5 / 65 في تفسير قوله تعالى: (وأولي الأمر منكم) .
(3) حديث: " لا يسترعي الله عبدًا رعية يموت حين يموت. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 127) ومسلم (1 / 125) واللفظ لمسلم.

(31/226)


الْجَنَّةَ (1) .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّاعِيَ وَالْوَالِيَ الْغَاشَّ مَحْرُومٌ مِنَ الْجَنَّةِ أَبَدًا، لَكِنَّ النَّوَوِيَّ قَال فِي مَعْنَى: " حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " فِيهِ تَأْوِيلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِل، وَالثَّانِي: حَرَّمَ عَلَيْهِ دُخُولَهَا مَعَ الْفَائِزِينَ السَّابِقِينَ، وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ هُنَا الْمَنْعُ (2) . وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: الأَْوْلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِل، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّغْلِيظُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ؛ لأَِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا وَلاَّهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيُدِيمَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ - لاَ لِيَغُشَّهُمْ - حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا قَلَبَ الْقَضِيَّةَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُعَاقَبَ (3) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ قَوْلَهُ: مَعْنَاهُ بَيِّنٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ غَشِّ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ قَلَّدَهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ وَنَصَّهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، فَإِذَا خَانَ فِيمَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْصَحْ فِيمَا قَلَّدَهُ: إِمَّا بِتَضْيِيعِهِ تَعْرِيفَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ دِينِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا بِالْقِيَامِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ شَرَائِعِهِمْ،
__________
(1) حديث: " ما من وال يلي رعية من المسلمين. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 127) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 2 / 165، 166.
(3) فتح الباري 13 / 128، 129.

(31/226)


وَالذَّبِّ عَنْهَا لِكُل مُتَصَدٍّ لإِِدْخَالِهِ دَاخِلَةً فِيهَا أَوْ تَحْرِيفٍ لِمَعَانِيهَا أَوْ إِهْمَال حُدُودِهِمْ أَوْ تَضْيِيعِ حُقُوقِهِمْ أَوْ تَرْكِ حِمَايَةِ حَوْزَتِهِمْ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِمْ أَوْ تَرْكِ سِيرَةِ الْعَدْل فِيهِمْ فَقَدْ غَشَّهُمْ (1) .
17 - وَقَدْ عَدَّ الذَّهَبِيُّ غِشَّ الْوُلاَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ (2) ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ فَاسِقٌ، وَالْفِسْقُ مُنَافٍ لِلْعَدَالَةِ.
وَيَخْتَلِفُ أَثَرُ فِسْقِ الْوُلاَةِ حَسَبَ نَوْعِيَّةِ الْوِلاَيَةِ وَمَدَى سُلْطَتِهِمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ.
فَفِي الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْعَدَالَةَ، فَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي دَوَامِ الإِْمَامَةِ، فَلاَ يَنْعَزِل السُّلْطَانُ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَتَعْطِيل الْحُقُوقِ، وَلاَ يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ وَعْظُهُ وَدَعْوَتُهُ إِلَى الصَّلاَحِ، بَل إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالُوا بِحُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَلَى الإِْمَامِ الْجَائِرِ تَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ، وَتَقْدِيمًا لأَِخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ إِمَامٌ عَدْلٌ فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِعَانَةُ ذَلِكَ الْقَائِمِ (3) .
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الأَْحْكَامُ فِي سَائِرِ
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 2 / 165، 166.
(2) كتاب الكبائر ص 67.
(3) حاشية رد المحتار 1 / 368، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 299، والأحكام السلطانية للماوردي ص (17) والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص4.

(31/227)


الْوِلاَيَاتِ كَالْقَضَاءِ وَالإِْمَارَةِ وَنَحْوِهِمَا حَسَبَ اخْتِلاَفِ طَبِيعَتِهَا.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 12) (وَعَزْل) (وَقَضَاء) .

الْغِشُّ فِي الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ:
18 - يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْتَشَارِ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مَا فِيهِ رُشْدُ الْمُسْتَشِيرِ وَخَيْرُهُ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ صَوَابٍ فَقَدْ غَشَّهُ فِي مَشُورَتِهِ، وَخَانَهُ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ اسْتَشَارَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدٍ فَقَدْ خَانَهُ (1) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ (2) ، أَيِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ فِيمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَل مِنَ الأُْمُورِ،
__________
(1) حديث: " من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه ". أخرجه أحمد (2 / 321) .
(2) حديث: " المستشار مؤتمن ". أخرجه الترمذي (4 / 585) وقال: حديث حسن صحيح غريب.

(31/227)


فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ (1) .

التَّعْزِيرُ عَلَى الْغِشِّ:
19 - الْغَاشُّ يُؤَدَّبُ بِالتَّعْزِيرِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ زَاجِرًا وَمُؤَدِّبًا لَهُ، فَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عُقُوبَةَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ التَّعْزِيرُ، وَلاَ يَمْنَعُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحُكْمِ بِالرَّدِّ وَفَسْخِ الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْغِشِّ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الرَّدِّ.
وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ قَوْلَهُ: مِمَّا لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ غَشَّ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ أَوْ غَرَّهُ أَوْ دَلَّسَ لَهُ بِعَيْبٍ أَنْ يُؤَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ؛ لأَِنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ (2) .
__________
(1) فيض القدير 6 / 268، وعون المعبود 14 / 36، وفتح الباري 13 / 340.
(2) مواهب الجليل 4 / 449.

(31/228)