الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

شروط (3) الصلاة:
1 - دخول الوقت (4)، وقد تقدّم في (باب مواقيت الصلاة).
__________
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" وغيره، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (42).
(2) انظر ما قاله شيخنا -شفاه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 158).
(3) الشرط: هو الأمر الذي يتوقّف عليه وجود الحُكم، ويلزم من عَدمه عدم الحُكم، ولا يلزم من وجوده وجود الحُكم، فلا يلزم من وجود الوضوء الذي هو شرط الصلاة وجودها، ولا يلزم من وجود الشاهدين وجود عقد الزواج، ووجودهما شرط لصحّته، ولكن لا تصحّ الصلاة من غير وجود الوضوء، ولا يصح النكاح مِن غير شاهدين. عن "أصول الفقه" (ص 59) للشيخ محمّد أبي زهرة.
(4) انظر ما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في "الفتاوى" (22/ 75) حول وقت الاختيار ووقت الاضصرار.

(1/397)


قال في "المغني" (1/ 407) بحذف يسير: "ومن صلَّى قبل الوقت، لم تجُز صلاته في قول أكثر أهل العلم، سواءٌ فعَله عمداً أو خطأ كلّ الصلاة أو بعضها، وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي".

2 - الطهارة من الحَدَث.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذا قُمتم إِلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إِلى المرافق وامسحو ابرؤوسكم وأرجُلَكم إِلى الكعبين وإِنْ كنتم جُنُباً فاطهروا} (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تُقبل صلاةُ من أحدث حتى يتوضأ" قال رجل من حضرموت: ما الحدَث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط" (2).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهور، ولا صدَقة من غُلول" (3).
__________
(1) المائدة: 6
(2) أخرجه البخاري: 135، ومسلم: 225 دون قوله: "قال رجل ... " وتقدّم.
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 235): "أحدَث: أو وُجد منه الحدث، والمراد به الخارج من أحد السبيلين، وإنّما فسّره أبو هريرة بأخصّ من ذلك؛ تنبيهاً بالأخفّ على الأغلظ ... ".
(3) أخرجه مسلم: 224 وغيره، وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية "الإِرواء" (1/ 153).

(1/398)


3 - تطهير الثوب والبدن والمكان من النجاسة (1).
أمّا تطهير الثياب فلنصّ القرآن: {وثيابك فطهِّر} (2).
ولحديث أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: سَألتِ امرأة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت يا رسول الله: أرأيت إِحدانا إِذا أصاب ثوبها الدّم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أصاب ثوب إِحداكنّ الدّم من الحيضة فلتقرُصه ثمَّ لِتَنضحْه بماء ثمَّ لتصلّي فيه" (3).
ومنها حديث خلْعِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنّعل، كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم؛ فلمّا كان في بعض صلاته؛ خلَع نعليه فوضَعهما عن يساره، فلما رأى الناس ذلك خلعوا نعالهم، فلمّا قضى صلاته قال: "ما بالكم ألقيتم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيتَ نعليك فألقينا نعالنا، فقال: (إِنَّ جبريل أتاني فأخبَرني أنّ فيهما قَذَراً -أو قال: أذى- (وفي رواية: خَبَثاً)، فألقيتُهما، فإِذا جاء أحدكم إِلى المسجد، فلينظر في نعليه، فإِن رأى فيهما قَذَراً -أو قال: أذى- (وفي الرواية الأخرى: خَبَثاً)؛
__________
(1) من كتاب "الدراري المضية" (1/ 108) بتصرف.
(2) المدثر: 4
(3) أخرجه البخاري: 307، ومسلم: 291

(1/399)


فليمسحهما، وليصلِّ فيهما (1) " (2).
وأمّا تطهير البدن؛ فلانّه أولى من تطهير الثوب؛ ولِما ورَد من وجوب تطهيره، من ذلك: حديث أنس -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تنزّهوا من البول؛ فإِنَّ عامّة عذاب القبر منه" (3).
ولحديث عليّ -رضي الله عنه- قال: كنتُ رجلاً مذّاءً فأمَرْت رجلاً أن يسأل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته، فسأل فقال: "توضّأ واغسلْ ذَكرَك" (4).
وأمّا المكان؛ فلِما ثبتَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رشّ الذَّنوب على بوْل الأعرابي، كما
__________
(1) وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى- عن قول بعض العلماء: "من صلّى مُلابساً لنجاسة عامداً؛ فقد أخلّ بواجب، وصلاته صحيحة" فقال: نحن نقول: أخلّ بشرط، لكن هل هو معذور أم ليس بمعذور؟ فللمعذور نقول: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنعليه، ولمّا خلَعهما؛ سألوه عن السبب فقال: جاءني جبريل وأخبرني أنَّ فيهما قذراً.
قلت: يعني إِذا كان معذوراً فلا بأس، أمّا إِذا لم يكن كذلك فالصلاة باطلة؟ فقال -حفظه الله تعالى-: نعم. قلت: بعد أن صلى وجدَ فيه قذارة؟ فقال: مثل ذاك. وذكر لي -حفظه الله تعالى- أنَّ المصلي إِذا تذكّر أثناء الصلاة أنّه جُنب، أو أنه على غير وضوء؛ فإِنّه يستطيع أن يذهب ويغتسل أو يتوضّأ إِذا كان المكان قريباً، ويرجع لاستكمال صلاته؛ بانياً على ما مضى. لكن إِذا انتهى من الصلاة وتذكر أنّه كان على غير طُهر، فإنّه يتطهّر ويُعيد الصلاة.
(2) أخرجه أبو داود: 650 "صحيح سنن أبي داود" (605)، وابن خزيمة والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي والنووي، وانظر "الإرواء" (284)، وصفة الصلاة (ص 81).
(3) حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإرواء" (280).
(4) أخرجه البخاري: 269، ومسلم: 303، وتقدّم.

(1/400)


في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- " أنَّ أعرابياً بال فى المسجد، فثار إِليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعوه وأهريقوا على بوله ذَنوباً من ماء أو سَجْلاً من ماء، فإِنّما بُعثتم مُيَسِّرين ولم تُبعثوا مُعَسِّرين" (1)

4 - ستر العورة:
قال الله تعالى: {يا بني آدمَ خذوا زينَتكم عند كلّ مسجد} (2).
وبيّن ابن عباس -رضي الله عنهما- سبب نزول هذه الآية فقال: "كانت المرأةُ تطوف بالبيت وهي عُريانه، فتقول: من يُعيرني تِطوافاً تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه ... فما بدا منه فلا أُحلّه
فنزلَت هذه الآية: {خذوا زينتَكم عند كلّ مسجد} " (3). قال البغوي في "تفسيره" (2/ 157): في قوله سبحانه: {يا بني آدم خذوا زينتَكم عند كلّ مسجد} يعني: الثياب، قال مجاهد: ما يُواري عورتك ولو عباءة. قال الكلبي: "الزينة: ما يواري العورة عند كلّ مسجد لطواف وصلاة".
قال شيخ الإِسلام في كتابه "حجاب المرأة ولباسها في الصلاة" (ص 14) في (فصل في اللباس في الصلاة): وهو أخْذ الزينة عند كلّ مسجد، الذي يسمّيه الفقهاء: "باب ستر العورة في الصلاة".
__________
(1) أخرجه البخاري: 6128 وغيره وتقدّم في (كتاب الطهارة) والسَّجل والذَّنوب: الدلو الممتلئة ماءً.
(2) الأعراف: 31
(3) أخرجه مسلم: 3028

(1/401)


وقال -رحمه الله- (ص 23): "وفي الصلاة نوع ثالث؛ فإِن المرأة لو صلَّت وحدها، كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها، فأَخْذ الزينة في الصلاة لحق الله، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عُرياناً ولو كان وحده بالليل، ولا يصلي عُرياناً ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن لتحتجب عن الناس، فهذا نوع، وهذا نوع.
وحينئذ فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إِبداؤه في غير الصلاة، وقد يُبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال. فالأول مِثل المَنكِبين، فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلّي الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء فهذا لحقّ الصلاة، ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة".
وقال -رحمه الله- (ص 32): "والمنكبان في حقه؛ كالرأس في حقّ المرأة؛ لأنّه يصلّي في قميص أو ما يقوم مقام القميص ... ".

ما يجب على الرّجل ستره عند الصلاة:
يجب ستر القُبل والدُّبر، وجاء في بعض النصوص ما يدّل على أنّه يجب على المصلّي أن يستر من بدنه ما ليس بعورة وهو القسم الأعلى منه؛ كما في حديث بريدة -رضي الله عنه-: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُصلّي الرجل في لحاف واحد؛ لا يتوشّح به (1) ونهى أن يُصلّي الرجل في سراويل وليس عليه رداء" (2).
قال شيخنا في "تمام المنّة" (163): "وفي الحديث دلالة على أنّه
__________
(1) أي: يتغشّى به.
(2) أخرجه أبو داود وغيره وإسناده حسن وانظر "تمام المنّة" (162).

(1/402)


يجب على المصلّي أن يستر من بدنه ما ليس بعورة، وهو القسم الأعلى منه، وذلك إِنْ وجَد كما يدلّ عليه حديث ابن عمر وغيره، وظاهر النهي يفيد بطلان الصلاة، ويؤكّد ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يصلّينّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه (وفي رواية: عاتقيه. وفي أخرى: منكبيه) منه شيء".
رواه الشيخان وأبو داود وغيرهم، وهو مخرَّج في "الإِرواء" (275) و "صحيح أبي داود" (637).
قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 59): "وقد حمَل الجمهور هذا النهي على التنزيه، وعن أحمد: لا تصحّ صلاة من قَدِرَ على ذلك فتركَه، وعنه أيضاً: تصحّ ويأثم"".
وقد ورَد في بعض الأحاديث ما يدّل على جواز الصلاة في الثوب الواحد.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ سائلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَولكُلِّكُمْ ثوبان" (1).
وعن محمّد بن المنكدر قال: "رأيت جابر بن عبد الله يُصلّي في ثوبٍ واحد، وقال: رأيت النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي في ثوب" (2).
وعنه أيضاً قال: "صلّى جابر في إِزارٍ قد عقَده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المِشجَب (3) قال له قائل: تُصلّي في إِزارٍ واحدٍ؟ فقال: إِنّما صنعْتُ ذلك ليراني أحمقُ مثلُك، وأيُّنا كان له ثوبان على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"؟ (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 358، ومسلم: 515، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 353
(3) هو عيدان تُضمّ رؤوسها ويُفرَج بين قوائمها توضَع عليها الثياب وغيرها. "فتح".
(4) أخرجه البخاري: 352

(1/403)


وعن عمر بن أبي سلمة "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى في ثوبٍ واحدٍ قد خالف بين طرفيه" (1).
ولكن الصلاة في الثوب الواحد بقيد تغطية العاتقين (2).
قال البخاري -رحمه الله- (3): (باب إِذا صلّى في الثوب الواحد، فليجعل على عاتقيه).
وروى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يُصلي (4) أحدُكم في الثوب الواحد؛ ليس على عاتِقَيه شيء" (5).
ثمَّ روى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أشهدُ أنّي سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: من صلّى في ثوبٍ واحدٍ؛ فليخالِف بين طرفيه" (6).
__________
(1) أخرجه البخاري: 354
(2) العاتق: هو ما بين المنكبين إِلى أصل العُنُق.
(3) انظر "الفتح" (1/ 471).
(4) قال في "الفتح" (1/ 471): قوله (لا يصلي)، قال ابن الأثير: كذا هو في الصحيحين بإِثبات الياء، ووجهه أن (لا) نافية، وهو خبر بمعنى النهي. قلت [أي: الحافظ -رحمه الله-]: ورواه الدارقطني في "غرائب مالك" من طريق الشافعي عن مالك بلفظ: "لا يُصلِّ"، بغير ياء، ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء عن مالك بلفظ "لا يصلِّيَنّ" بزيادة نون التأكيد.
(5) أخرجه مسلم: 516.
(6) انظر البخاري: 360.

(1/404)


جاء في "الفتح" (1/ 471): " ... ودلالته على الترجمة من جهة؛ أنَّ المخالفة بين الطرفين لا تتيسَّر إلاَّ بجعل شيءٍ من الثوب على العاتق، كذا قال الكرماني".

حُجّة من يرى أنَّ الفخذ ليست بعورة (1):
استدل القائلون بأنَّ السُّرّة والفخذ والركبة ليست بعورة بهذه الأحاديث: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه، فاستأذَن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، ثمَّ استأذَن عمر، فأذِن له وهوكذلك، فتحدّث، ثمَّ استأذن عثمان، فجلس النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسوّي ثيابه وقال محمّد: -ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل، فتحدّث، فلمّا خرج قالت له عائشة: دخل عليك أبو بكر فلم تجلس، ثمَّ دخل عثمان، فجلست وسوَّيتَ ثيابك؟ فقال: ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" (2).
قال البخاري -رحمه الله-: "وقال أنس: حسَر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فَخِذه (3)،
__________
(1) عن "فقه السنة" (1/ 125) بتصرف يسير.
(2) أخرجه الطحاوي في "المشكل" وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (1/ 298) وأصْله في مسلم: 2401
(3) أخرجه البخاري معلقاً وموصولاً: 371 وانظر "الفتح" (1/ 478) -إِن شئت- للمزيد من الفائدة وانظر أيضاً "صحيح مسلم" (2401).

(1/405)


وحديث أنس أسند، وحديث جَرهَد (1) أحوط، حتى يُخرَجَ من اختلافهم، وقال أبو موسى: غطَّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكبتيه حين دخل عثمان (2). وقال زيد بن ثابت: أنزل الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفخِذه على فخذي، فثقُلَت عليَّ حتى خِفتُ أن ترُضَّ فخذي" (3).
قال ابن حزم (4): "فصحّ أنَّ الفخذ ليست عورة، ولوكانت عورة؛ لَما كشَفَها الله عزّ وجلّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المطهَّر المعصوم من الناس؛ في حال النّبوة والرسالة، ولا أَراها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى قد عصَمَه من كشْف العورة في حال الصّبا وقبل النّبوة". ثمَّ ذكَر حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- في "الصحيحين": "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إِزاره، فقال له العباس عمّه: يا ابن أخي! لو حلَلْتَ إِزارك فجعلتَه على منكِبك دون الحجارة، قال: فحلَّه فجعلَه على مَنْكِبه، فسقط مغشياً عليه، فما رؤي بعد ذلك عُرياناً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (5).
وعن أبي العالية البَراء قال: قلتُ لعبد الله بن الصامت نُصلِّي يوم الجمعة
__________
(1) قال شيخنا في "مختصر البخاري" (1/ 107): "وصَله مالك والترمذي وحسّنه، وصحّحه ابن حبان".
(2) وصَله البخاري في كتاب "فضائل الصحابة" وانظر (3695).
(3) وصَله البخاري في "كتاب الجهاد" وانظر رقم (2832) وأشار شيخنا إِلى ذلك في "مختصره"، وكذا الذي قبله.
(4) انظر "المحلّى" (3/ 7272).
(5) انظر البخاري: 364، ومسلم: 340

(1/406)


خلْف أمراء، فيؤخّرون الصلاة، قال: فضرب فَخذي ضربةً أوجعتني، وقال: سألتُ أبا ذرٍّ عن ذلك فضرَب فخِذي، وقال: سألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك: فقال: "صَلُّوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة".
قال: وقال عبد الله: ذُكر لي أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب فَخِذَ أبي ذرّ" (1).
وفي رواية لمسلم: "وقال: إِنِّي سألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني، فضربَ فخِذي كما ضرَبتُ فَخِذَك ... " (2).
قال ابن حزم: فلو كانت الفخذ عورة؛ لما مسَّها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من أبي ذرّ أصلاً بيده المقدّسة. ولو كانت الفخذ عند أبي ذرّ عورة، لما ضرب عليها بيده، وكذلك عبد الله بن الصامت وأبي العالية. وما يستحلّ مسلم أن يضرب بيده على ذَكَر إِنسان، على الثياب، ولا على حلقة دُبُر الإِنسان على الثياب، ولا على بدن امرأة أجنبية على الثياب، البتة".
ثمَّ ذكَر ابن حزم (3) بإِسناده إِلى أنس بن مالك أنّه أتى ثابت بن قيس بن شمّاس؛ وقد حسر عن فَخِذيه ... " (4).

حُجَّة من يرى أنَّها عورة:
واستدلّ القائلون بأنّها عورة بهذين الحديثين:
1 - عن محمّد بن جحش قال: "مرّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على معمر، وفخذاه
__________
(1) أخرجه مسلم: 648
(2) انظره تحت رقم: 648
(3) انظر "المحلى" (3/ 278).
(4) انظر البخاري: 2845

(1/407)


مكشوفتان فقال: يا معمر غطِّ فخذيك؛ فإِنَّ الفخذين عورة" (1).
2 - وعن جَرهَد قال: مرّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليّ بُردة وقد انكشفت فخِذي
فقال: "غطِّ فخذك فإِنَّ الفخِذ عورة" (2).
قال شيخنا في "تمام المنّة" (159 - 160): "ومن الواضح لدى كلّ ناظرٍ في الأدلّة التي ساقَها المؤلّف؛ أنَّ أدلّة القائلين بأنَّ الفخذ ليس بعورة فعليّة من جهة، ومبيحة من جهة أخرى. وأدلة القائلين بأنّه عورة قولية من جهة، وحاظرة من جهة أخرى، ومن القواعد الأصولية التي تساعد على الترجيح بين الأدلة والاختيار قاعدتان:
الأولى: الحاظر مُقدَّم على المبيح.
والأخرى: القول مُقدَّم على الفِعل؛ لاحتمال الخصوصية وغيرها؛ مع أنَّ الفعل في بعض الأدلة المشار إِليها لا يظهر فيها أنَّه كان مقصوداً متعمّداً؛ كحديث أنس وأثر أبي بكر -رضي الله عنهما- أضِف إِلى ذلك أنّها وقائعُ أعيان لا عموم لها؛ بخلاف الأدلّة القولية، فهي شريعة عامّة، وعليها جَرى عمل المسلمين سلَفاً وخلفاً، بحيث لا نعلم أنّ أحداً منهم كان يمشي أو يجلس كاشفاً عن فَخِذيه؛ كما يفعل بعض الكفّار اليوم، ومن يقلّدهم من المسلمين الذ ين يلبسون البنطلون الذي يسمّونه بـ (الشورت)، وهو (التبان) في اللغة.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند وغيره وإسناده ضعيف لكنّه يتقوى بغيره كما فى "المشكاة" (3114)، و"الإرواء" (1/ 297 - 298).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" والحاكم في "المستدرك" وغيرهما وذكره البخاري معلقاً انظر "الفتح" (1/ 478)، وإسناده ضعيف لكنّه يتقوى بغيره أيضاً، وانظر "الإرواء" (1/ 298).

(1/408)


ولهذا، فلا ينبغي التردد في كون الفخذ عورة ترجيحاً للأدلة القولية، فلا جَرَم أن ذهب إِليه أكثر العلماء، وجزم به الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 52 - 53) و"السيل الجرّار" (1/ 160 - 161).
نعم، يمكن القول بأنّ عورة الفخذين أخفّ من عورة السوأتين، وهو الذي مال إِليه ابن القيّم في "تهذيب السنن" كما كُنتُ نقَلْتهُ عنه في "الإِرواء" (1/ 301). وحينئذ، فمسُّ الفَخِذ الذي وقع في حديث أبي ذرّ -والظاهر أنَّه من فوق الثوب- ليس كمس السوأتين ... ". انتهى.
وعن أنس بن مالك " أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زقاق خيبر، وإنّ ركبتي لتمسّ فخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمَّ حسر الإِزار عن فخِذه حتى إِني أنظر إِلى بياض فخذ نبيَّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ".
قال شيخنا في "الإِرواء" (1/ 300) بعد تخريج الحديث: أخرجه البخاري (1/ 105) والبيهقي (2/ 230) وأخرجه مسلم (4/ 145، 5/ 185) وأحمد (3/ 102) إِلا أنهما قالا: "وأنحسر" بدل "وحسر"، ولم يذكر النسائي في روايته (2/ 92) ذلك كلّه.
قال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 245) عقب رواية مسلم: "قال النووي في الخلاصة: وهذه الرواية تُبيّن رواية البخاري، وأنّ المراد: انحسر بغير اختياره لضرورة الإِجراء. انتهى".
قلت [القائل: شيخنا -حفظه الله تعالى-]: وأجاب عن ذلك الحافظ في "الدراية" بقوله (ص 434): "قلت: لكن لا فرق في نظري بين الروايتين؛ من

(1/409)


جهة أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يُقرّ على ذلك لو كان حراماً، فاستوى الحال بين أن يكون حسَره باختياره، وانحسر بغير اختياره".
وهذا من الحافظ نظر دقيق، ويؤيده أن لا تعارض بين الروايتين، إِذ الجمع بينهما ممكن بأن يقال: حسَر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثوب فانحسر.
وقد جمع الشوكاني بين هذين الحديثين وبين الأحاديث المتقدّمة في أن الفخِذ عورة بأنهما حكاية حال، لا عموم لها. انظر "نيل الأوطار" (1/ 262).
ولعل الأقرب أن يقال في الجمع بين الأحاديث: ما قاله ابن القيم في "تهذيب السنن" (6/ 17): "وطريق الجمع بين هذه الأحاديث: ما ذكره غير واحد من أصحاب أحمدَ وغيرهم: أنّ العورة عورتان: مخففة ومغلظة، فالمغلظة: السوأتان، والمخففة: الفخذان.
ولا تَنافي بين الأمر بغض البصر عن الفخذين لكونهما عورة، وبين كشفهما لكونهما عورة مخففة. والله أعلم".
قلت: وكأنّ الإمام البخاري -رحمه الله- أشار إِلى هذا الجمع بقوله المتقدّم: "وحديث أنس أسند، وحديث جَرهَد أحوط" اهـ.

ما يجب على المرأة سِتْره في الصلاة
يجب على المرأة أن تستر بدنها كلّه في الصلاة خلا الوجه والكفين، لقول الله تعالى: {ولا يُبدين زينتهنّ إِلاَّ ما ظَهَر منها} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "أي: لا يُظهرن شيئاً من الزينة
__________
(1) النور: 31

(1/410)


للأجانب إِلا ما لا يمكن إِخفاءه".
قال ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 70): "وقد روينا عن جماعة من أهل التفسير أنهم قالوا في قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إِلاَّ ما ظهر منها} الآية، أنّ ذلك الكفان والوجه، فممّن روينا ذلك عنه ابن عباس، وعطاء ومكحول، وسعيد بن جبير".
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "جلباب المرأة المسلمة" (ص 40): " ... وقد اختلفت أقوال السلف في تفسيرها؛ فمن قائل: إِنّها الثياب الظاهرة، ومن قائل: إِنّها الكحل والخاتم والسوار والوجه، وغيرها من الأقوال التي رواها ابن جرير في "تفسيره" (18/ 84) عن بعض الصحابة والتابعين، ثمَّ اختار هو أنّ المراد بهذا الاستثناء الوجه والكفان، فقال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عَنَى بذلك الوجه والكفين، يدخل في ذلك -إِذا كان كذلك- الكحل والخاتم والسوار والخضاب، وإنّما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل؛ لإِجماع الجميع على أنّ على كلّ مصلٍّ أن يستر عورته في صلاته، وأنّ للمرأة أن تكشف وجهها وكفّيها في صلاتها، وأنّ عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، إلاَّ ما روي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه أباح لها أن تبدي من ذراعها قدْر النصف (1)، فإِذا كان ذلك من جميعهم إِجماعاً؛ كان معلوماً بذلك أنَّ لها أن تبديَ من بدنها ما لم يكن عورة كما ذلك للرجال، لأنَّ ما لم يكن عورة فغير حرام إِظهاره، وإِذا كان لها إِظهار ذلك؛ كان معلوماً أنَّه ممَّا استثنى الله تعالى ذكره بقوله: {إِلاَّ ما
__________
(1) وهو حديث منكر وانظر "جلباب المرأة المسلمة" (ص 41).

(1/411)


ظهر منها}؛ لأنَّ كل ذلك ظاهر منها".
ثمَّ ذكر شيخنا (ص51) كلام القرطبي (12/ 229): "قال ابن عطية: ويظهر لي بحُكم ألفاظ الآية أنَّ المرأة مأمورة بأن لا تُبديَ، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بدَّ منه، أو إِصلاح شأن، ونحو ذلك فـ {ما ظهر} على هذا الوجه ممّا تؤدي إِليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه".
وقال -حفظه الله- (ص51 - 52) -بحذف يسير-: " ... وبيانه أنَّ السلف اتفقوا على أنّ قوله تعالى: {إِلاَّ ما ظهَر منها} يعود إِلى فعلٍ يصدر من المرأة المكلَّفة، غاية ما في الأمر أنهم اختلفوا فيما تظهره بقصدٍ منها، فابن مسعود يقول: هو ثيابها؛ أي: جلبابها. وابن عباس ومن معه من الصحابة وغيرهم يقول: هو الوجه والكفان منها.
فمعنى الآية حينئذ: إلاَّ ما ظهرَ عادة بإِذن الشارع وأمرِه. ألستَ ترى أن المرأة لو رفعت من جلبابها حتى ظهر من تحته شيء من ثيابها وزينتها -كما يفعل ذلك بعض المتجلببات- أنها تكون قد خالفَت الآية باتفاق العلماء؛ فقد التقى فِعْلها هذا مع فِعْلها الأول، وكلاهما بقصد منها؛ لا يمكن إلاَّ هذا، فمناط الحكم إِذن في الآية؛ ليس هو ما ظهر دون قصد من المرأة -فهذا ممّا لا مؤاخذة عليه في غير موضع الخلاف أيضاً اتفاقاً - وإِنما هو فيما ظهر دون إِذنٍ من الشارع الحكيم".
وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 160): "روى ابن أبي شيبة في "المصنّف" (4/ 253) عن ابن عباس في تفسير الآية

(1/412)


المذكورة: "قال: الكفّ ورقعة الوجه". وسنده صحيح.
"ورَوَى نحوه عن ابن عمر بسند صحيح أيضاً ... ".
وفي الحديث: "لا يقبل الله صلاة حائض (1) إلاَّ بخمار (2) " (3).
وروى عبد الرزاق من طريق أم الحسن قالت: "رأيت أمّ سلمة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصلّي في دِرْع (4) وخمار" (5).
وعن عبيد الله الخولاني -وكان يتيماً في حِجر ميمونة- أنَّ ميمونة كانت تُصلّي في الدّرع والخمار ليس عليها إِزار" (6).
قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 162): "وفي الباب آثار أُخرى؛ مما يدلّ على أنَّ صلاة المرأة في الدرع والخمار كان أمراً معروفاً لديهم، وهو أقلّ ما يجب عليهنّ لستر عورتهنّ في الصلاة. ولا ينافي ذلك ما روى ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "تصلي المرأة
__________
(1) هي التي بلَغت سنَّ المحيض وجرى عليها القلم، ولم يُرِدْ في أيام حيضها، لأنَّ الحائض لا صلاة عليها. "النهاية".
(2) هو غطاء الرأس.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة وغيرهم، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (116).
(4) درع المرأة: قميصها. "النهاية".
(5) وإسناده صحيح كما في "تمام المنّة" (ص 162).
(6) أخرجه مالك في "الموطّأ"، وعنه ابن أبي شيبة والبيهقي وإسناده صحيح، انظر "تمام المنّة" (ص 162).

(1/413)


في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار". وإسناده صحيح.
وفي طريق أخرى عن ابن عمر قال: "إِذا صلت المرأة فلتصلِّ في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة (1) ". رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح أيضاً.
فهذا كله محمول على الأكمل والأفضل لها، والله أعلم".
ملاحظة: احِرص على الثياب التي تستر العورة، واعلم أنَّه لا تجوز الصلاة في الثوب الرقيق الذي يُبرز لَون الجلد.
وقد سألت شيخنا -حفظه الله تعالى- عمّن لبس ثوباً خفيفاً بحيث يبيّن لون الجلد؛ من بياض أو حمرة فقال: "إِذا كان اللباس خفيفاً، بحيث يصف العضو، فهو كالعاري".

هل يكشف الرجل رأسه في الصلاة؟
قال الله تعالى: {يا بني آدمَ خذوا زينَتكم عند كلّ مسجد} (2).
قال ابن كثير في "تفسيره": "قال العوفي عن ابن عباس ... كان رجال يطوفون بالبيت عُراة فأمَرهم الله بالزينة، والزينة اللباس، وهو ما يُواري السوأة وما سوى ذلك من جيّد البز (3) والمتاع (4) فأمرهم أن يأخذوا زينتهم عند كلّ مسجد ... ".
__________
(1) ما يتخذ من اللباس فوق سائر اللباس من دثار البرد ونحوه، وانظر "المحيط".
(2) الأعراف: 31
(3) البز: الهيئة والشارة. "الوسيط".
(4) المتاع: كلّ ما يُنفع به ويُرغب في اقتنائه؛ كالطعام وأثاث البيت والسلعة والأداة والمال. "الوسيط".

(1/414)


وقال: "ولهذه الآية وما ورَد في معناها من السنّة التجمُّل عند الصلاة، ولا سيّما يوم الجمعة ويوم العيد، والطِّيب لأنَّه من الزينة، والسواك لأنَّه من تمام ذلك ومن أفضل اللباس البياض ... ".
فإِذا كان الطِّيب والسواك ولبس البياض من الزينة؛ أفلا يكون غطاء الرأس من الزينة؟!
قال شيخنا في "تمام المنة" (ص 164) -بحذف يسير-: "والذي أراه في هذه المسألة؛ أنَّ الصلاة حاسرَ الرأس مكروهةٌ، ذلك أنَّه من المُسلَّم به استحباب دخول المسلم في الصلاة في أكمل هيئة إِسلاميّة؛ للحديث المتقدّم" ... فإِنَّ الله أحقّ أن يُتزيَّن له".
وليس من الهيئة الحسنة في عُرف السلف اعتياد حسْر الرأس والسير كذلك في الطرقات والدخول كذلك في أماكن العبادات، بل هذه عادة أجنبية؛ تسرَّبَتَ إِلى كثيرٍ من البلاد الإِسلامية؛ حينما دخَلَها الكُفار، وجلبوا إِليها عاداتهم الفاسدة، فقلَّدهم المسلمون فيها، فأضاعوا بها وبأمثالها من التقاليد شخصيّتهم الإِسلامية، فهذا العرض الطارئ لا يصلح أن يكون مسوِّغاً لمخالفة العُرف الإِسلامي السابق ولا اتخاذه حُجَّةً لجواز الدخول في الصلاة حاسر الرأس.
وأمّا استدلال بعض إِخواننا ... على جوازه قياساً على حسر المُحرم في الحجّ؛ فمن أبطلِ قياسٍ قرأْتُه ... كيف والحسر في الحجّ شعيرة إِسلامية، ومن مناسكه التي لا تُشاركه فيها عبادة أُخرى، ولو كان القياس المذكور صحيحاً؛ للزم القول بوجوب الحسر في الصلاة؛ لأنَّه واجب في الحجّ، وهذا

(1/415)


إلزامٌ لا انفكاك لهم عنه إلاَّ بالرجوع عن القياس المذكور ... ".
وقال -حفظه الله- (ص 166): "وأمّا استحباب الحسر بنية الخشوع؛ فابتداعُ حُكمٍ في الدين لا دليل عليه إلاَّ الرأي، ولو كان حقّاً؛ لفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو فعَله لنُقل عنه؛ وإذ لم يُنقل عنه، دلّ ذلك أنَّه بدعة فاحذرها.
وممّا سلف تعلم أنَّ نفي المؤلّف (1) ورود دليل بأفضلية تغطية الرأس في الصلاة، ليس صواباً على إِطلاقه، إلاَّ إِن كان يُريد دليلاً خاصاً، فهو مُسلَّم، ولكنّه لا ينفي ورود الدليل العام على ما بيّناه آنفاً، وهو التزيّن للصلاة بالزّيّ الإِسلامي المعروف من قَبل هذا العصر، والدليل العام حجّة عند الجميع عند عدم المُعارِض فتأمّل".

5 - استقبال القِبلة
قال الله تعالى. {قد نرى تقلُّب وجْهِك في السماء فَلَنولينَّك قبلةً ترضاها فولِّ وجْهَك شطْر المسجد الحرام وحيثُما كنتم فولُّوا وجوهَكم شَطره} (2).
__________
(1) أي: الشيخ الفاضل السيد سابق -حفظه الله- حين قال: "ولم يَرِدْ دليلٌ بأفضلية تغطية الرأس في الصلاة".
(2) البقرة: 144، وقوله تعالى: شطره: أي: نحوه كما أنشدوا:
ألا مَن مُبلِغٍ عنّا رسولاً ... وما تُغني الرسالةُ شطْر عمرو
أي: نحو عمرو
وتقول العرب: هؤلاء القوم يشاطروننا؛ إِذا كانت بيوتهم تُقابل بيوتهم. "المغنى" (1/ 447).

(1/416)


ْوقد ورد في مناسبة نزول هذه الآية حديث مسلم (525) عن البراء بن عازب قال: "صلّيت مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى بيت المقدس ستةَ عشَر شهراً، حتى نزَلت الآية التي في البقرة {وحيثما كنتم فولُّوا وجوهكم شَطره}. فنزلت بعدما صلّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانطلق رجل من القوم، فمرَّ بناسٍ من الأنصار وهم يُصلّون، فحدَّثهم، فولَّوا وجوههم قِبَل البيت".
وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام إِلى الصلاة؛ استقبل الكعبة في الفرض والنفل (1).
وفي حديث "المسيء صلاته": "إِذا قمتَ إِلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثمَّ استقبِل القبلة فكبِّر" (2).

حُكم المشاهد للكعبة وغير المشاهد لها (3)
يجب على المشاهد للكعبة أن يستقبل عينها، أمّا من لا يستطيع مشاهدتها؛ فيجب عليه أن يستقبل جهتها لقول الله عزّ وجلّ: {لا يكلّف الله نفساً إِلاَّ وسعها}، وهذا هو الواسع والمقدُور.
ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "ما بين المشرق والمغرب قِبلة" (4).
__________
(1) قال شيخنا في "صفة الصلاة" (ص 55) بعد ذِكْر هذه العبارة: "هذا شيء مقطوع به لتواتره ... ".
(2) وسيأتي تخريجه بإِذن الله تعالى.
(3) عن "فقه السنة" (1/ 129) بتصرف يسير.
(4) أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإرواء" (292).

(1/417)


هذا بالنسبة لأهل المدينة، ومن جرى مجراهم، وأمّا الأقطار الأخرى فيختلف الأمر حسب الموقع.

متى يسقط استقبال القبلة؟
يسقط استقبال القبلة في الأحوال الآتية:
1 - صلاة التطوع للراكب.
عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة أنمار يُصلّي على راحلته متوجّهاً قِبَل المشرق متطوّعاً" (1).
وعنه أيضاً: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلّي على راحلته حيث توجّهت؛ فإِذا أراد الفريضة نزَل فاستقبل القبلة" (2).
وعن عامر بن ربيعة قال: "رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على الراحلة يُسبِّح، يومئ برأسه قِبَل أيّ وجه توجَّه (3) ولم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة" (4).
2 - صلاة الخائف والمريض والعاجز والمُكره.
يجوز الصلاة لغير القبلة لمن عَجَز من استقبالها من خوف أو مرض أو
__________
(1) أخرجه البخاري: 4140
(2) أخرجه البخاري: 400
(3) أي: أينما توجّهت راحلته.
(4) أخرجه البخاري: 1097، ومسلم: 701. وانظر للمزيد من الأدلة "صحيح مسلم" (كتاب صلاة المسافرين)، (باب جواز صلاة النافلة على الدابّة في السفر حيث توجّهت).

(1/418)


إِكراه لقوله تعالى: {لا يكلِّف الله نفساً إِلاَّ وُسْعَها} (1).
ولقوله سبحانه: {فإِنْ خِفْتُم فَرِجالاً أو رُكباناً} (2).
قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: " ... فإِن كان خوفٌ هو أشدَّ من ذلك، صلَّوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القِبلة أو غير مستقبليها" (3).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "غزوتُ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَل نجْد، فوازينا العدوّ، فصافَفْنا لهم، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي لنا" (4).
فقوله: (وازَيْنا) أي: (قابَلْنا) وهذا يقتضي عدم التزام القبلة بل الانصراف عنها حسب وضْع العدوّ.

حُكم من خفيت عليه القبلة
عن عبد الله بن ربيعة عن أبيه قال: "كُنا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مُظلمة فلم نَدْرِ أين القبلة، فصلّى كل رجل حياله (5)، فلمّا أصبحنا ذَكَرْنا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزَل {فأينما تولّوا فثمَّ وجهُ الله} (6) " (7).
__________
(1) البقرة: 286
(2) البقرة: 239
(3) أخرجه البخاري: 4535
(4) أخرجه البخاري: 942
(5) أي: تلقاء وجهه. "النهاية".
(6) البقرة: 115
(7) أخرجه الترمذي وغيره وهو حديث حسن خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (291).

(1/419)


وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسيرة أو سريَّة، فأصابنا غيم، فتحرَّينا واختلفنا في القبلة، فصلّى كلُّ رجل منّا على حدة، فجعل أحدنا يخطُّ بين يديه لنعلم أمكنتنا، فلمّا أصبحنا نظرناه؛ فإِذا نحن صلّينا على غير القبلة، فذكَرنا ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، [فلم يأمرنا بالإِعادة]، وقال: (قد أجزأت صلاتكم) " (1).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "بَيْنا الناس بقُباء في صلاة الصبح إِذ جاءهم آتٍ فقال: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أُنزلَ عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها ... وكانت وجُوههم إِلى الشام فاستداروا إِلى الكعبة" (2).
وبهذا فعلى الإِنسان أن يبذل وُسعه في معرفة القبلة، فإِنْ تبيّن له أنَّه صلّى على غير القبلة فلا إِعادة عليه، وقد أجزأت صلاته، كما يجوز للشخص أن يحوّل أخاه إِلى جهة القبلة ويصوّبه أثناء الصلاة.