الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الإِهلال بالحج يوم التروية
فإِذا كان يوم التروية -وهو اليوم الثامن من ذي الحجة- أحرم وأهلّ بالحج،
فيفعل كما فعَل عند الإِحرام بالعمرة من الميقات؛ من الاغتسال، والتطيب،
ولبُسْ الإِزار والرداء، والتلبية، ولا يقطعها إلاَّ عَقِب رمي جمرة
العقبة.
__________
(1) رواه أبو نعيم في "مستخرجه على صحيح مسلم".
(2) أو حلق إِذا كان بين عمرته وحجه فترة كافية يطول الشعر خلالها. "راجع
"الفتح" (3/ 444) ".
(4/379)
التوجه إِلى منى (1):
يتوجه الحاج إِلى منى يوم التروية (2) ويصلّي فيها الظهر ويبيت فيها حتى
يصلّي سائر الصلوات الخمس قصراً دون جمع.
فإِنْ كانْ الحاجّ قارناً أو مفرداً؛ توجه إِليها بإِحرامه، وإن كان
متمتعاً؛ أحرم بالحجّ، وفعل كما فعل عند الميقات.
والسُّنّة أن يحرم من الموضع الذى هو فيه، حتى أهْل مكّة يحرمون من مكة.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ... فمن كان دون ذلك فمِن حيث
أنشأ، حتى أهل مكة من مكة" (3).
ويُكْثِرُ الحاج من الدعاء والتلبية عند التوجُّه إِلى منى، ولا يخرج منها
حتى تطلع شمس يوم التاسع؛ اقتداءً بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
الانطلاق إِلى عرفة:
فإِذا طلعت شمس يوم عرفة؛ انطلق إِلى عرفة، وهو يُلبّي أو يُكبّر، كلَّ ذلك
فعَل أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم معه في
حَجّته، يُلبّي الملبّي فلا يُنكر عليه،
__________
(1) عن "فقه السّنّة" (1/ 716) بتصرّف.
(2) سُمّي به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بَعْدَه؛ أي: يَسقُون
ويَسْتقون. "النهاية".
(3) أخرجه البخاري: 1530، ومسلم: 1181.
(4/380)
ويكبر المكبر فلا يُنكر عليه.
فعن محمد بن أبي بكر الثقفي: أنه سأل أنس بن مالك -وهما غاديان من منى إِلى
عرفة-: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: كان يُهلُّ منّا المُهلّ؛ فلا ينكر عليه،
ويكبّرمنا المكبّر؛ فلا ينكر عليه" (1).
ثمّ ينزل في نَمِرَةَ (2)، وهو مكان قريب من عرفات، وليس منها، ويظلّ بها
إِلى ما قبل الزوال.
فإِذا زالت الشمس؛ رحل إِلى عُرنة ونزل فيها، وهي قبيل عرفة، وفيها يخطب
الإِمام الناس خطبة تناسب المقام.
ثمّ يصلّي بالناس الظهر والعصر قصراً وجمعاً في وقت الظهر.
عن ابن شهاب قال: "أخبرني سالم: أنّ الحجاج بن يوسف -عام نزل بابن الزبير
-رضي الله عنهما- سأل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: كيف تصنع في
الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إِن كنت تُريد السُّنّة فهجّر بالصلاة يوم
عرفة، فقال عبد الله بن عمر: صدق، إِنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في
السُّنّة.
__________
(1) أخرجه البخاري: 1659، ومسلم: 1285.
(2) هذا النزول والذى بعده قد يتعذر اليوم تحقيقه لشدة الزحام، فإِذا
جاوزهما إِلى عرفة؛ فلا حرج إِن شاء الله. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في
"الفتاوى" (26/ 168): "وأمّا ما تضمّنته سُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المقام بمنى يوم التروية، والمبيت بها الليلة التي
قبل يوم عرفة، ثمّ المقام بـ "عُرَنة" -التي بين المشعر الحرام وعرفة- إِلى
الزوال، والذهاب منها إِلى عرفة، والخطبة والصلاتين في أثناء الطريق ببطن
عرنة؛ فهذا كالمُجمع عليه بين الفقهاء، وإن كان كثير من المصنّفين لا
يميزه، وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المُحدثة".
(4/381)
فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال سالم: وهل يتبعون بذلك إِلا سنته؟! "
(1).
عن حارثة بن وهب الخُزاعي -رضي الله عنه- قال: "صلّيت خلف رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى -والناس أكثر ما كانوا-؛ فصلّى
بنا ركعتين في حجة الوداع.
قال أبو داود: حارثة من خزاعة ودارهم بمكة" (2).
ويؤذن لهما أذاناً واحداً وإقامتين.
ولا يُصلّي بينهما شيئاً (3).
ومن لم يتيسر له صلاتهما مع الإِمام؛ فليصلّهما كذلك وحده، أو مع من حوله
من أمثاله (4).
الوقوف بعرفة:
ثمّ ينطلق إِلى عرفة، فيقف عند الصخرات عند أسفل جبل الرحمة، إِن تيسّر له
ذلك؛ وإلا فعرفة كلّها موقف.
عن جابر -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: " .. ووقفت هاهنا وعرفة
__________
(1) أخرجه البخاري: 1662.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1728).
(3) قال شيخنا -رحمه الله-: "وكذلك لم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه تطوع قبل الظهر وبعد العصر هنا وفي سائر أسفاره؛ ولم يثبت
أنّه صلّى شيئاً من الرواتب فيها؛ إِلا سنتي الفجر والوتر".
(4) رواه البخاري عن ابن عمر تعليقاً.
(4/382)
كلّها موقف، ووقفت هاهنا وجَمْعٌ كلها
موقف" (1).
وعن يزيد بن شيبان قال: "أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة -في مكان
يباعده عمرو عن الإِمام- فقال: أما إِني رسولُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِليكم، يقول لكم: قفوا على مشاعركم؛ فإِنكم على
إِرثٍ من أرث أبيكم إِبراهيم" (2).
ويقف مستقبلاً القبلة، رافعاً يديه يدعو ويُلبي.
عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: "كنت رديف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات، فرَفَع يديه يدعو" (3).
وفي حديث جابر -رضي الله عنه-: "واستقبل القبلة" (4).
ويكثر فيها من التهليل؛ فإِنّه خير الدعاء يوم عرفة؛ لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة: لا
إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء
قدير" (5).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1218.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1688)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (700)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2438)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (2820)، وجوّد شيخنا -رحمه الله- إسناده في "المشكاة" (2595).
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- كما في "الاختيارات" (ص 118): "ولا يشرع
صعود جبل الرحمة إِجماعاً".
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2817).
(4) أخرجه مسلم: 1218.
(5) حديث حسن أو صحيح، له طرق خرّجها شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة"
(1503).
(4/383)
وعن عبد الله بن عمروٍ أنّ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير
ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له
الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" (1).
وإِن زاد في التلبية أحياناً: "إِنما الخير خير الآخرة"؛ جاز (2).
إِفطار الحاج يوم عرفة:
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "يوم عرفة (3) ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام، وهي أيام
أكْل وشُرب" (4).
ويفطر الحاجّ هذا اليوم؛ لأنّه أقوى له على أداء النّسك، ولأنّه هو الثابت
عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن فِعله في حجّة الوداع (5).
وتقدّم في "كتاب الصيام" (3/ 257) حديث ميمونة في "الصحيحين": أنّ النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب من حلاب لبن يوم عرفة.
ولا يزال هكذا ذاكراً ملبياً داعياً بما شاء، راجياً من الله -تعالى- أن
يجعله من عتقائه الذين يباهي بهم الملائكة، كما سيأتي -إِن شاء الله
تعالى-.
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2837)، وانظر "المشكاة" (2598).
(2) لثبوت ذلك عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما هو مبيّن في
"حجة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" لشيخنا -رحمه الله-.
(3) وقد ورد صيام يوم عرفة لغير الحاج؛ كما تقدّم في "كتاب الصيام".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2114)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (620)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2810)، وانظر "الإِرواء" (4/
130).
(5) قاله شيخنا -رحمه الله- تحت الحديث (404) من "الضعيفة" بتصرّف يسير.
(4/384)
فضل يوم عرفة:
عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النّار من
يوم عرفة، وإِنه ليدنو ثمّ يباهي بهم الملائكة؛ فيقول: ما أراد هؤلاء؟! "
(1).
وفي زيادة: "اشهدوا ملائكتي! أني قد غفرت لهم" (2).
عن أنس بن مالك قال: "وقف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بـ (عرفات)؛ وقد كادت الشمس أن تؤوب، فقال: يا بلال! أنصت لي الناس. فقام
بلال، فقال: أنصتوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فأنصت الناس، فقال: معاشر الناس! أتاني جبرائيل آنفاً، فأقرأني من ربي
السلام، وقال: إِنّ الله -عزّ وجلّ- غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر، وضمن
عنهم التبعات. فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! هذا لنا خاصة؟ قال:
هذا لكم، ولمن أتى من بعدكم إِلى يوم القيامة. فقال عمر بن الخطاب: كثر خير
الله وطاب! " (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم:
انظروا إِلى عبادي؛ جاءوني شُعْثاً (4)
__________
(1) أخرجه مسلم: 1348.
(2) انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1154).
(3) صحيح لغيره؛ كما في "صحيح الترغيب والترهيب" (1151).
(4) أي: متغيّري الأبدان والشعور والملابس، لقلة تعهدّهم بالادهان
والإِصلاح. والشعث: الوسخ في بدن أو شعر. "فيض القدير". وتقدّم.
(4/385)
غُبْراً (1) " (2)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "إِنّ الله -عزّ وجلّ- يباهي
ملائكته عَشيَّة عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إِلى عبادي شُعثاً غُبراً"
(3).
وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- الطويل: " .. فإِذا وقف بـ (عرفة)؛
فإِنّ الله -عزّ وجلّ- ينزل إِلى سماء الدنيا فيقول: انظروا إِلى عبادي
شُعثاً غبراً، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم، وإِن كانت عدد قطر السماء
ورمل عالج (4) " (5).
الوقوف بعرفة رُكن الحجِّ الأعظم:
عن عبد الرحمن بن يعمر الدَّيْلي قال: "أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بعرفة، فجاء ناس -أو نفر- من أهل نجد، فأمروا
رجلاً فنادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف
__________
(1) أي: من غير استحداد ولا تنظُّف؛ قد رَكبهم غبار الطريق. "فيض القدير"
أيضاً، وتقدّم.
(2) أخرجه أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وقال: "صحيح على شرطهما"،
وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1152).
(3) رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و"الصغير" وإسناد أحمد لا بأس به،
وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1153).
(4) هو ما تراكم من الرمل، ودخَل بعضه في بعض. "النهاية".
(5) أخرجه البزار، والطبراني، وابن حبان في "صحيحه"، وحسّنه شيخنا -رحمه
الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1155).
(4/386)
الحج؟ فأمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[رجلاً] فنادى: الحجّ الحجُّ، يوم عرفة، من جاء قبل
صلاة الصبح من ليلة جمع؛ فتمّ حجة، أيام منى ثلاثة، {فمن تعجل في يومين فلا
إِثم عليه ومن تأخر فلا إِثم عليه} قال: ثمّ أردف رجلاً خلفه فجعل ينادي
بذلك" (1).
الإِفاضة من عرفات إِلى المزدلفة:
ويبقى حتى غروب الشمس كما في حديث جابر: "فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس،
وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرصُ" (2).
فإِذا غربت الشمس؛ أفاض من عرفات إِلى المزدلفة وعليه السكينة والهدوء، لا
يزاحم الناس بنفسه أو دابته أو سيارته، فإِذا وجد خلوة أسرع.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّه دفع مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، فسمع النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وراءه زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإِبل، فأشار بسوطه إِليهم
وقال: أيها الناس! عليكم بالسكينة؛ فإِن البر ليس بالإِيضاع (3) " (4).
عن عروة قال: سئل أسامة وأنا جالس: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسير في
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1717)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (705)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2441)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (2822)، وانظر "الإِرواء" (1064).
(2) أخرجه مسلم: 1218.
(3) الإِيضاع: الإِسراع. وقال البخاري -رحمه الله-: {أوضعوا}: أسرعوا.
(4) أخرجه البخاري: 1671.
(4/387)
حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العَنق
(1)، فإِذا وجد فجوة نصّ (2) " (3).
ثمّ يأخذ الطريق الوسطى التي تخرجه على الجمرة الكبرى.
فإِذا وصَلها؛ أذَّن وأقام وصلّى المغرب ثلاثاً، ثمّ أقام وصلّى العشاء
قصراً، وجمَع بينهما.
عن جابر -رضي الله عنه-: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- صلّى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسّبح (4) بينهما
شيئاً" (5).
وإن فصَل بينهما لحاجة لم يضرّه ذلك (6).
ولا يصلّي بينهما ولا بعد العشاء شيئاً (7).
__________
(1) العَنق -بفتح المهملة والنون-: هو السير الذي بين الإِبطاء والإِسراع.
قال في "المشارق": هو سير سهل في سرعة. وقال القزاز: العَنَق: سير سريع.
وقيل: المشي الذى يتحرك به عنق الدابة. وفي "الفاءق": العنق: الخطو الفسيح.
"فتح".
(2) نصّ؛ أي: أسرع. قال أبو عبيد: النص: تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى
ما عندها، وأصل النص: غاية المشي ومنه نصصت الشيء: رفعته، ثمّ استعمل في
ضرب سريع من السير. "الفتح" أيضاً.
(3) أخرجه البخاري؛ 1666، ومسلم: 1286.
(4) أي: لم يصلِّ النافلة.
(5) أخرجه مسلم [في حديث جابر الطويل]: 1218، وتقدّم.
(6) قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "لثبوت ذلك عن النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في "صحيح البخاري" (25/
94/801) -، من "مختصر البخاري".
(7) قال شيخ الإِسلام: "فإِذا وصل المزدلفة؛ صلّى المغرب قبل تبريك الجمال
إِن أمكن، ثمّ إِذا برّكوها صلّوا العشاء، وإنْ أخّر العشاء لم يضّره ذلك".
(4/388)
ثمّ ينام حتى الفجر.
فإِذا تبيّن له الفجر؛ صلّى في أوّل وقته بأذان وإِقامة.
المبيت بالمزدلفة وصلاة الفجر فيها:
ولا بُدّ من صلاة الفجر في المزدلفة لجميع الحجاج؛ إِلا الضعفَة والنساء؛
فإِنّه يجوز لهم أن ينطلقوا منها بعد نصف الليل؛ خشية حَطَمة الناس.
"والسّنّة أن يبت بمزدلفة إِلى أن يطلع الفجر، فيصلّي بها الفجر في أوّل
الوقت، ثمّ يقف بالمشعر الحرام إِلى أن يسفر جدّاً قبل طلوع الشمس، فإِن
كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم -فإِنّه يتعجل من مزدلفة إِلى منى
إِذا غاب القمر، ولا ينبغي (1) لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع
الفجر، فيصلّوا بها الفجر، ويقفوا بها، ومزدلفة كلها موقف، لكن الوقوف عند
قزح أفضل، وهو جبل الميقدة، وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم، وقد بني
عليه بناءٌ، وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم المشعر الحرام"
(2).
أجابنا شيخنا -رحمه الله- عن حدّ المبيت في المزدلفة قائلاً:
"المبيت: هو كما فعَلَه الرسول -عليه السلام- الأمر واضح جدّاً ...
حَجَّةُ الرسول -عليه السلام- معلومة تماماً، حتى أفاض من عرفات عندما غربت
الشمس، فيجب على الجميع أن ينطلقوا من عرفات حينما يرون
__________
(1) قلت: ولا يخفى مدلول كلمة (لا ينبغي)، قال الله تعالى: {وما علّمناه
الشعر وما ينبغي له}. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا
ينبغي لمؤمن أن يُذّل نفسه ... ".
(2) "مجموع الفتاوى" (26/ 135).
(4/389)
الشمس قد غربت، هنا قد تختلف الظروف كما
يقع في كثير من الأحيان في الازدحام؛ قد لا يَصِلون إِلا مع الفجر مثلاً،
وقد يصلون بربع ساعة أو نصف ساعة حسبما يتيّسر، إِذاً فبمجرّد وصول من أفاض
من عرفات إِلى مزدلفة يبدأ وقت المبيت، ومبيت الليلة يعني يشمل الليل،
فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماذا فعَل الليل كله؟ ...
وقد يقول القائل: البيات بعد نصف الليل! نقول له أولاً: هذا مخالف لفعل
الرسول -عليه السلام- الذي نعتبره بياناً لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "لتأخذوا مناسككم" هذا أولاً.
ثانياً: اللغة لا تساعد على هذا التعديل، لأنَّ بات يبدأ من بعد الغروب،
إِذاً يبقى من حيث اللغة البيات على عمومه؛ والسُّنّة العملية تؤيده أو
تقيّده ... ".
ومزدلفة كلها موقف، فحيثما وقف فيها جاز.
ثمّ ينطلق قبل طلوع الشمس إِلى منى؛ وعليه السكينة وهو يلبي.
فإِذا أتى بطن مُحَسِّر؛ أسرع السير إِذا أمكنه، وهو من منى.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ارفعوا عن بطن مُحسِّر، وعليكم بمثل
حصى الخَذَف " (1).
وعن علي -رضي الله عنه- قال: "لما أصبح النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؛ وقف على قُزَح فقال: هذا قُزَح وهو الموقف، وجمْعٌ كلها موقف"
(2).
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (1534).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1705)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (702).
(4/390)
حُكم ذلك:
وأريد أن أفرّق بين حُكم المبيت بالمزدلفة -وهو واجب على الراجح من أقوال
العلماء؛ ومن العلماء من يرى الركنية-؛ وبين حُكم صلاة الفجر -والذي نحن
بصدده-.
فأقول -وبالله تعالى أستعين-:
جاء في "زاد المعاد" (2/ 253) في ذِكر من يرى ركنية المبيت في المزدلفة: "
.. وهو مذهب اثنين من الصحابة، ابن عباس، وابن الزبير -رضي الله عنهم-.
وإِليه ذهب إِبراهيم النّخعي، والشعبي، وعلقمة، والحسن البصري، وهو مذهب
الأوزاعي، وحماد بن أبي سليمان (1)، وداود الظاهري، وأبي عُبيد القاسم بن
سلاّم، واختاره المحمّدان: ابن جرير وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية
(2). انتهى.
وكذا ابن العربي المالكي (3).
ويرى ابن حزم -رحمه الله- ركنية صلاة الفجر.
وقال لي شيخنا -رحمه الله- في بعض الإِجابات:
"نحن لا نقول بركنية المبيت، نحن نقول بركنية صلاة الفجر ووجوب
__________
(1) وذكر الحافظ ابن العربي المالكي -رحمه الله-: الثورىَّ في "عارضة
الأحوذي" (4/ 118).
(2) منهم القفّال. قاله ابن كثير -رحمه الله- في تفسير سورة البقرة الآية
(198).
(3) انظر "عارضة الأحوذي" (4/ 118).
(4/391)
المبيت، يجب التفريق بين الأمرين، والحديث
الواضح الصريح: أنّه مَن صلّى صلاتنا هذه" معنا في جمع، وكان قد وقف على
عرفة ساعةً من الليل أو النهار؛ فقد تمّ حجُّه وقضى تَفَثَهُ" (1). فجعل
صلاة الصبح في مزدلفة والوقوف في عرفة أوّلاً شيئاً واحداً؛ ثمّ رتَّب على
مجموع الأمرين بأنّه قد تمّ حَجُّهُ.
ومعنى ذلك: أنّه إِذا أخلّ بأحد الأمرين المذكورين في هذا الحديث الصحيح؛
فحجّه لم يتمّ". انتهى.
أقول: صلاة الفجر في المزدلفة لغير النساء والضعفة رُكن على الراجح، والله
أعلم، وذلك لقول الله تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} ولقول
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لتأخذوا مناسككم" (2).
ولحديث عروة بن مضرِّس -رضي الله عنه- قال: "أتيت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالموقف -يعني: الجمع- قلت: يا رسول الله! من
جبل طَيءٍ، أكللت مَطِيَّتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حَبْل (3) إِلا
وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو
__________
(1) ذكر شيخنا -رحمه الله- حديث عروة بن المضرِّس بمعناه، وسيأتي في الصفحة
الآتية إِن شاء الله تعالى.
(2) تقدّم تخريجه.
(3) حَبل: المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه. وقيل: الحبال في الرمل؛
كالجبال في غير الرمل". "النهاية". وفي بعض النسخ (جبل) بالجيم.
(4/392)
نهاراً؛ فقد تمّ حجُّه، وقضى تفَثه (1) "
(2).
وفي لفظ: "من أدرك جمْعاً مع الإِمام والناس حتى يُفيض منها؛ فقد أدرك
الحج، ومن لم يُدرك مع الناس والإِمام؛ فلم يُدرك" (3).
قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (2/ 253) -بعد حديث عروة بن
المضرّس -رضي الله عنه-: "وبهذا احتجّ من ذهب إِلى أنّ الوقوف بمزدلفة
والمبيت بها ركن كعرفة ... " ثمّ ذكر من يرى هذا من الصحابة -رضي الله
عنهم- ومن بعدهم، وقال: ولهم ثلاث حجج، هذه إحداها.
والثانية: قوله تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} (4).
والثالثة: فِعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي خرَج
مخرج البيان لهذا الذّكر المأمور به.
حُجج من يرد على الركنية:
*1 - احتج بعضهم بقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"الحج عرفة".
ويرد عليهم:
__________
(1) التفَث: هو ما يفعله المحرم بالحج إِذا حلّ؛ كقص الشارب، والأظفار،
ونتْف الإِبط، وحلق العانة. وقيل: هو إِذهاب الشعَث والدَّرَن والوسخ
مطلقاً. "النهاية".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1718)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (707)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2442)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (2845).
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2846).
(4) البقرة: 198.
(4/393)
أ- أنّ عندهم فرائض يبطل الحجّ بتركها سوى
عرفة؛ كترك الإِحرام، وترك طواف الإِفاضة، وترك الصفا والمروة.
ب- ليس قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحج عرفة" بمانع من
أن يكون غيرُ عرفة الحجَّ أيضاً، إِذا جاء بذلك نصّ، وقد قال تعالى: {ولله
على الناس حجّ البيت من استطاع إِليه سبيلاً} (1)؛ والبيت غير عرفة بلا
شكّ.
.. وقد قال تعالى: {وأذان من الله ورسوله إِلى الناس يوم الحج الأكبر} (2).
وأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ يوم الحج
الأكبر هو يوم النحر؛ ولا يكون يوم الحج الأكبر إِلا وغيره يوم الحج
الأصغر، ومحال ممتنع أن يكون هو يوم الحج الأكبر ولا يكون فيه من فرائض
الحج شيء، ويكون فرض الحج في غيره.
فصحّ أن جملة فرائض الحج الأكبر، وهي الوقوف بمزدلفة الذي لا يكون في غيره،
ورمي الجمرة، والإفاضة؛ وقد يكونان فيما بعده كما عرفة فيما قبله* (3).
وذكر ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (7/ 170) بإِسناده إِلى ابن عباس
-رضي الله عنهما- أنّه قال: "من أفاض من عرفة؛ فلا حجّ له".
وقال (ص 171): "وقد ذكرنا عن ابن الزبير أنّه كان يقول في خطبته: ألا
__________
(1) آل عمران: 97.
(2) التوبة: 3.
(3) ما بين نجمتين من "المحلّى" (7/ 169) بتصرّف.
(4/394)
لا صلاة إِلا بجمع! فإِذا أبطل الصلاة إِلا
بمزدلفة؛ فقد جعَلها من فرائض الحج.
ومن طريق شعبة عن داود بن يزيد الأزدي عن أبي الضحى قال: سألت علقمة عمن لم
يدرك عرفات أو جمعاً أو وقع بأهله يوم النحر قبل أن يزور؟ فقال: عليه الحج.
ومن طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم عن إِبراهيم النخعي قال: كان يقال: من
فاته جمع أو عرفة؛ فقد فاته الحج.
ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن
إبراهيم النخعي قال: من فاته عرفة أو جمع أو جامع قبل أن يزور؛ فقد فسد
حجه.
ومن طريق سفيان الثوري أيضاً عن عبد الله بن أبي السَّفَرِ عن الشعبي أنه
قال: من فاته جمع؛ جعلها عمرة.
وعن الحسن البصري: من لم يقف بجمع؛ لا حجّ له.
وعن حمّاد بن أبي سليمان قال: من فاته الإِفاضة من جمع؛ فقد فاته الحج؛
فليحلّ بعمرة ثمّ ليحج من قابل.
ومن طريق شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: يوم الحج الأكبر هو يوم
النحر، ألا ترى أنه إِذا فاته عرفة لم يفته الحج، وإذا فاته يوم النحر فاته
الحج؟!
قال أبو محمد: صدق سعيد؛ لأنّ من فاتته عرفة يوم عرفة؛ لم يفته الحج؛ لأنّه
يقف بعرفة ليلة النحر يوم النحر؛ وأمّا يوم النحر فإِنما سماه الله تعالى:
(4/395)
{يوم الحج الأكبر} (1)؛ لأنّ فيه فرائض
ثلاثاً من فرائض الحج، وهو الوقوف بمزدلفة لا يكون جازئاً إِلا غداة يوم
النحر، وجمرة العقبة وطواف الإِفاضة؛ ويجوز تأخيره؛ فصح أن مزدلفة أشد فروض
الحج تأكيداً وأضيقها وقتاً؛ وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا.
2 - واحتجّ بعضهم بأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدّ
وقت الوقوف بعرفة إِلى طلوع الفجر، وهذا يقتضي أنّ من وقف بعرفة قبل طلوع
الفجر بأيسر زمان صحّ حجّه، ولو كان الوقوف بمزدلفة ركناً؛ لم يصحّ حجّه
(2).
قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (2/ 254): "وأمّا توقيت الوقوف
بعرفة إِلى الفجر؛ فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة رُكناً، وتكون تلك
الليلة وقتاً لهما كوقت المجموعتين من الصلوات (3)، وتضييق الوقت لأحدهما
لا يُخرجه عن أن يكون وقتاً لهما حال القدرة".
3 - واحتجّ بعضهم بأنّه لو كان ركناً لاشترك فيه الرجال والنّساء، فلمّا
قدَّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النساء بالليل؛
عُلم أنه ليس بركن! فأقول:
__________
(1) التوبة: 3.
(2) قلت: وإذا قلنا بركنية صلاة الفجر دون ركنية المبيت لأهل القوّة؛ في
حال يضيق عليه الوقت؛ فإِنه يتمكن من الجمع بين الوقوف في عرفة قبل الفجر
وشهود صلاة الفجر بالمزدلفة. وتأمّل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "الحج عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمْع؛
فقد تمّ حجّه". أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1717)، والنسائي "صحيح
سنن النسائي" (2822)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (705)، وابن ماجه "صحيح
سنن ابن ماجه" (2441)، وانظر "الإِرواء" (1064).
(3) يعني: كوقت آخر الظهر وأول العصر مثلاً.
(4/396)
أ- قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد
المعاد" (2/ 254): "وفي [هذا] نظر؛ فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنما قدّمهنّ بعد المبيت بمزدلفة، وذكر الله تعالى
بها لصلاة عشاء الآخرة؛ والواجب هو ذلك".
ب- إِنما يكون الأمر بحسب القدرة؛ فعند الضعف يكون التخفيف أو رفع التكليف،
فالقيام في الصلاة من أركانها؛ كما في قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين}
(1).
وفي الحديث: "صلِّ قائماً، فإِن لم تستطِع فقاعداً ... " (2).
*4 - وأجابوا .. عن حديث عروة: بأنّ الإِتمام يكون على وجوه: تارة يكون
إِتماماً لا يصح الشيء إِلا به، وتارة يكون إِتماماً يصح الشيء بدونه مع
التحريم، وتارة يكون إِتماماً يصح الشيء به مع نفي التحريم، والمراد
بالإِتمام في حديث عروة بالنسبة للمزدلفة: إِتمام الواجب الذي تصح العبادة
بدونه، وهذا هو رأي الجمهور* (3).
فأقول:
1 - ما هو الدليل على هذا الاختيار في تفسير مدلول الإِتمام؛ فإِن هذا
يتقرّر من خلال مجموع أفراد المسائل الأُخرى! وقد بيّنت الردّ عليها.
2 - إِن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر كلّ أعمال
الحج حتى يقال هذا القول فإِنّه لم
__________
(1) البقرة: 238.
(2) تقدّم تخريجه.
(3) ما بين نجمتين عن كتاب "الشرح الممتع" (7/ 415) للشيخ الوالد محمد بن
صالح العثيمين -رحمه الله-.
(4/397)
يذكر إِلا شهود صلاة الفجر والوقوف بعرفة،
فبهما يتمّ الحج ويُقضى التفث، والحاج مُعرَّض للتمام الذي يصحّ الحج به؛
سواءً أكان مع التحريم أو بدونه؛ بالأعمال التي تأتي بعد هذه العبارة.
ج- إِنّ الله -تعالى- قد أوجب على الرجال أموراً لم يوجبها على النساء؛
كصلاة الجمعة والجماعة ...
فإِن قالوا: لكن هناك البدل والمبدل منه.
قلنا: فالجهاد؟! وما الدليل على البدل والمبدل منه؟
فهذه أمور تُستقرأ من النصوص ولا تُؤصّل.
والحاصل أنّ هناك أموراً يسقط وجوبها بالكلية، وهناك من الأمور ما يكون فيه
البدل منه.
أقول: إِنّ تقديم ما فيه الاختيار للركنية (1) وبراءة الذّمة أولى.
جاء في كتاب "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" للحازمي -رحمه الله-
(ص 37): "الوجه الرابع والأربعون في ترجيح أحد الحديثين على الآخر: أن يكون
في أحدهما احتياط للفرض وبراءة الذمة بيقين، ولا يكون في الآخر ذلك؛ فتقديم
ما فيه الاحتياط للفرض وبراءة الذمة بيقين أولى (2).
__________
(1) أمّا مَن ترجح لديه الوجوب دون الركنية من خلال بحثه الموضوعي بتجرّد؛
فله عدم الأخذ بهذا الاحتياط.
وعلى أي حال: فثمرة هذا الحكم يتعلّق بأهل القوّة، فينبغي التأني في إِطلاق
القول بالوجوب ارتجالاً.
(2) وتقدّم.
(4/398)
ولا يجوز لنا أن نخرج عن موضوعية البحث
العلمي، أو أن يُفضي الأمر بنا إِلى الخصومة والعداء؛ فإِنّ المراد هو وجه
الله -تعالى- عند القائلين بأيّ رأيٍ من الرأيَيْن، وهو بين الأجر
والأجرين، فلا يجوز أن نتخطّى دائرة الأجر والأجرين إِلى الإِثم، أو ما
يبلغنا إِليه! ونسأل الله الهدى والسداد.
ثمّ يأتي المشعر الحرام (وهو جبل في المزدلفة)، فيرقى عليه ويستقبل القبلة،
فيحمد الله ويكبّره ويهلّله ويوحّده ويدعو، ولا يزال كذلك حتى يُسفر (1)
جدّاً.
عن جابر -رضي الله عنه- في حديثه الطويل: "أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب
والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسبح بينهما شيئاً، ثمّ اضطجع رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، وصلّى الفجر حين
تبيّن له الصبح بأذان وإِقامة، ثمّ ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام (2)،
فاستقبل القبلة، فدعاه وكبّره وهلله ووحدّه، فلم يزل واقفاً حتى أسفر
جدّاً، فدفع قبل أن تطلع الشمس" (3).
فضل الوقوف في المشعر الحرام:
روى ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال:
"وقف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ (عرفات) وقد كادت
الشمس أن تؤوب؛ فقال: يا بلال! أنصت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا
لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنصت الناس
__________
(1) الإِسفار: إِضاءة الفجر إِضاءة تامّة.
(2) جبل معروف في المزدلفة.
(3) أخرجه مسلم: 1218، وتقدّم.
(4/399)
فقال: معاشر الناس. أتاني جبرائيل آنفاً،
فأقرأني من ربي السلام، وقال: إِنّ الله -عزّ وجلّ- غفر لأهل عرفات، وأهل
المشعر، وضمن عنهم التبعات. فقام عمر ابن الخطاب فقال: يا رسول الله! هذا
لنا خاصة؟ قال: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إِلى يوم القيامة. فقال عمر بن
الخطاب: كثُر خير الله وطاب" (1)!
هل التحصِيب (2) سُنّة؟
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "من السّنّة النزول بـ (الأبطح) (3)
عشية النَّفْر" (4).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (2675): ولقد بادرت إِلى
تخريج هذا الحديث فور حصولي على نسخة مصوّرة من "المعجم الأوسط" لعزّته،
وقلّة من أورده من المخرجين وغيرهم، ولكونه شاهداً قوياً لما
__________
(1) انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1151)، وتقدّم.
(2) التحصيب: النزول بـ (المحصَّب) وهو الشعب الذي مخرجه إِلى الأبطح بين
مكة ومنى. وهو أيضاً (خيف بني كنانة). قاله شيخنا -رحمه الله- في
"الصحيحة".
وقال الخطابي -رحمه الله-: التحصيب: هو أنّه إذا نفَر من منى إِلى مكة
للتوديع؛ يقيم بالمحصّب حتى يهجع به ساعة ثم يدخل مكّة. "عمدة القارئ" (10/
100).
وقال النووي -رحمه الله-: والمحصّب والحصْبة والأبطح والبطحاء وخَيْف بني
كنانة اسم لشيء واحد.
(3) الأبطح: يعني أبطح مكّة، وهو مسيل واديها، ويجمع على البطاح والأباطح،
ومنه قيل: قريش البطاح، هم الذين ينزلون أباطح مكّة وبطحاءها. "النهاية".
(4) أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، وانظر "الصحيحة" (2675).
(4/400)
رواه مسلم (4/ 85) عن نافع أنّ ابن عمر كان
يرى التحصيب سنّة.
فكأنّ ابن عمر تلقّى ذلك من أبيه -رضي الله عنهما- فتقوّى رأيه بهذا الشاهد
الصحيح عن عمر.
وليس بخافٍ على أهل العلم أنّه أقوى في الدلالة على شرعية التحصيب من رأي
ابنه؛ لما عُرف عن هذا من توسّعه في الاتباع له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حتى في الأمور التي وقعت منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - اتفاقاً لا قصداً، والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد ذكر بعضها
المنذري في أول "ترغيبه" بخلاف أبيه عمر كما يدلّ على ذلك نهيه عن اتباع
الآثار، فإِذا هو جزم أنّ التحصيب سنّة؛ اطمأن القلب إِلى أنه يعني أنّها
سنّة مقصودة أكثر من قول ابنه بذلك، لا سيّما ويؤيّده ما أخرجه الشيخان عن
أبي هريرة قال: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ونحن بمنى: "نحن نازلون غداً بخيفٍ بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر".
وذلك أنّ قريشاً وبني كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا
يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلّموا إِليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يعني بذلك التحصيب. والسياق لمسلم. قال ابن القيم في
"زاد المعاد": "فقصد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِظهار
شعائر الإِسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، والعداوة لله
ورسوله. وهذه كانت عادته -صلوات الله وسلامه عليه-: أن يقيم شعار التوحيد
في مواضع شعائر الكفر والشرك كما أمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أن يبني مسجد الطائف موضع اللات والعزّى".
وأما ما رواه مسلم عن عائشة أنّ نزول الأبطح ليس بسنّة، وعن ابن عباس
(4/401)
أنّه ليس بشيء (1)، فقد أجاب عنه المحقّقون
بجوابين:
الأول: أنّ المثبت مقدّم على النافي.
والآخر: أنّه لا منافاة بينهما، وذلك أنّ النافي أراد أنّه ليس من المناسك
فلا يلزم بتركه شيء، والمثبت أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا الإِلزام بذلك، قال الحافظ عقبه (3/
471):
"ويستحب أن يصلّي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به بعض الليل كما
دلّ عليه حديث أنس وابن عمر".
قلت -أي: شيخنا رحمه الله-: وهما في "مختصري لصحيح البخاري" (كتاب الحج/83
- باب و 148 - باب). انتهى.
وجاء في "الفتح" (3/ 591): "وروى مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق سليمان بن
يسار. عن أبي رافع قال: "لم يأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكن جئت فضربْتُ قبته فجاء
فنزل".
لكن لما نزله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان النزول به
مستحباً اتباعاً له لتقريره على ذلك، وقد فعَله الخلفاء بعده كما رواه مسلم
من طريق عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: "كان
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر ينزلون
الأبطح"، وسيأتي للمصنف في الباب الذي يليه (2) لكن ليس فيه ذكر أبي بكر،
ومن طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنّة، قال
__________
(1) أي: ليس بنُسك من مناسك الحجّ كما قال عدد من العلماء.
(2) أي: باب 148 - باب النزول بذي طوُى والنزول بالبطحاء ...
(4/402)
نافع: "وقد حصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء
بعده".
فالحاصل أن من نفى أنّه سنّة كعائشة وابن عباس أراد أنّه ليس من المناسك
فلا يلزم بتركه شيء.
ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لا الإِلزام بذلك، ويستحب أن يصلّي به الظهر والعصر
والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل؛ كما دل عليه حديث أنس، ويأتي نحوه من
حديث ابن عمر في الباب الذي يليه.
ويأتي زمزم، فيشرب منها.
فائدة: سألت شيخنا -رحمه الله- عن النزول في المُحصب حين ينفر الحاج من منى
إِلى مكة؟
فقال -رحمه الله-: "مسألة خلافية بين الصحابة -رضي الله عنهم- منهم من رآها
سنة، ومنهم من لم يرها".
قلت: وما تقدّم في "السلسلة" زيادة بيان وفائدة. |