فقه
السنة الجنائز
(1) أدب السنة في المرض والطب المرض: جاءت الاحاديث مصرحة بأن المرض يكفر
السيئات ويمحو الذنوب.
نذكر بعضها فيما يلي:
1 - روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من
يرد الله به خيرا يصب منه ".
2 - ورويا عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما يصيب المسلم من نصب ولا
وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه
".
3 - روى البخاري عن ابن مسعود، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يوعك، فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا، قال أجل: " إني أوعك كما
يوعك (2) رجلان منكم.
" قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: " أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة
فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ".
4 - وروى عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل
المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفا
بالبلاء، والفاجر كالارزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء ".
الصبر عند المرض على المريض أن يصبر على ما ينزل به من ضر، فما أعطى العبد
عطاء خيرا وأوسع له من الصبر.
__________
(1) الجنائز: جمع جنازة. من جنزه إذا ستره.
(2) الوعك: حرارة الحمى وألمها. يقال: وعكه المرض وعكا ووعكة فهو موعوك، أي
اشتد به.
(1/487)
1 - روى مسلم عن صهيب بن سنان أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال " عجبا لامر المؤمن إن أمره كله خير - وليس ذلك لاحد
إلا للمؤمن - إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان
خيرا له ".
2 - وروى البخاري عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "
إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة "
يريد عينيه.
3 - وروى البخاري ومسلم عن عطاء بن رباح عن ابن عباس قال: ألا أريك امرأة
من أهل الجنة فقلت: بلى، فقال هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه
وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي.
فقال: " إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك؟ "
فقالت: أصبر، ثم قالت، إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها.
شكوى المريض:
يجوز للمريض أن يشكو للطبيب والصديق ما يجده من الالم والمرض ما لم يكن ذلك
على سبيل التسخط وإظهار الجزع.
وقد تقدم قول الرسول صلى الله عليه وسلم، " إني أوعك كما يوعك رجلان منكم "
وشكت عائشة فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وارأساه، فقال: " بل أنا،
وارأساه " وقال عبد الله بن الزبير لاسماء - وهي وجعة - كيف تجدينك؟ قالت:
وجعة.
وينبغي أن يحمد المريض ربه قبل ذكر ما به.
قال ابن مسعود: إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك والشكوى إلى الله
مشروعة، قال يعقوب: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) وقال الرسول: " اللهم
إليك أشكو ضعف قوتي " الخ.
المريض يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح:
وروى البخاري عن أبي موسى الاشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا
مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا ".
(1/488)
عيادة المريض:
من أدب الاسلام أن يعود المسلم المريض ويتفقد حاله تطبيبا لنفسه ووفاء
بحقه، قال ابن عباس: عيادة المريض أول
يوم سنة وبعد ذلك تطوع.
وروى البخاري عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أطعموا
الجائع وعودوا المريض: وفكوا العاني (1) ".
وروى البخاري ومسلم " حق المسلم على المسلم ست، قيل: ما هن يا رسول الله؟
قال إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا
عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده. وإذا مات فاتبعه ".
فضلها:
1 - روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
من عاد مريضا نادى مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا ".
2 - وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن
الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف
أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت ان عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما
علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب
كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم
تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم
تسقني؟ قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم
تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ".
3 - وعن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المسلم إذا عاد أخاه
المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع ".
قيل يا رسول الله: وما خرفة الجنة؟ قال: " جناها (2) ".
4 - وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) العاني: الاسير.
(2) " الجنى " ما يجنى من الثمر.
(1/489)
وسلم يقول: " ما من مسلم يعود مسلما غدوة
إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف
ملك حتى يصبح، وكان له خريف (1) في الجنة " رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
آداب العيادة:
يستحب في العيادة أن يدعو العائد للمريض بالشفاء والعافية وأن يوصيه بالصبر
والاحتمال، وأن يقول له الكلمات الطيبة التي تطيب نفسه، وتقوي روحه، فقد
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا دخلتم على المريض فنفسوا له (2)
في الاجل، فإن ذلك لا يرد شيئا، وهو يطيب نفس المريض.
" وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا دخل على من يعود قال: " لا بأس طهور إن
شاء الله ".
ويستحب تخفيف العيادة وتقليلها من أمكن حتى لا يثقل على المريض إلا إذا رغب
في ذلك.
عيادة النساء الرجال:
قال البخاري: باب: عيادة النساء الرجال " وعادت أم الدرداء رجلا من أهل
المسجد من الانصار.
وروى عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
وعك أبو بكر، وبلال رضي الله عنهما.
قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: وكان
أبو بكر إذا اخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك
نعله وكان بلال إذا أقلعت عنه يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي
إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة:
فجئت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:
__________
(1) " الخريف " الثمر المخروف أي المجتنى.
(2) " فنفسوا له " أي طمعوه في طول أجله.
(1/490)
" اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو
أشد. اللهم وصححها وبارك في مدها وصاعها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة ".
عيادة المسلم الكافر
لا بأس بعيادة المسلم الكافر.
قال البخاري: " باب عيادة المشرك " وروي عن أنس رضي الله عنه أن غلاما
ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه
وسلم يعوده. فقال: " أسلم "، فأسلم.
وقال سعيد بن المسيب عن أبيه، لما حضر أبو طالب جاءه النبي صلى الله عليه
وسلم.
العيادة في الرمد:
روى أبو داود عن زيد بن أرقم.
قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني.
طلب الدعاء من المريض روى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " إذا دخلت على مريض فمره فليدع لك.
فان دعاءه كدعاء الملائكة " (1) قال في الزوائد: واسناده صحيح ورجاله ثقات،
إلا أنه منقطع.
التداوي:
أمر الشارع بالتداوي في أكثر من حديث.
1 - روى أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي عن أسامة بن شريك.
قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأن على رؤوسهم الطير (2)
فسلمت ثم قعدت فجاء الاعراب من ههنا وههنا.
فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال " تداووا فان الله لم يضع داء إلا وضع
له دواء غير داء واحد، الهرم.."
__________
(1) أي في قرب الاستجابة.
(2) من السكون والوقار.
(1/491)
2 - روى النسائي وابن ماجه والحاكم وصححه
عن ابن مسعود: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لم ينزل داء إلا
أنزل له شفاء فتداووا.
" 3 - وروى مسلم عن جابر: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لكل داء
دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ باذن الله.
" التداوي بالمحرم: ذهب جمهور العلماء إلى حرمة التداوي بالخمر وغيرها من
المحرمات، واستدلوا بالاحاديث الاتية: 1 - روى مسلم وابو داود والترمذي عن
وائل بن حجر الحضرمي، أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن
الخمر يصنعها للدواء؟. فقال: " إنها ليست بدواء، ولكنها داء ". فأفاد
الحديث حرمة التداوي بها، وأخبر بأنها داء.
2 - وروى البيهقي وصححه ابن حبان، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " وذكره البخاري عن ابن
مسعود.
3 - وروى أبو داود عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن
الله أنزل الداء والدواء.
وجعل لكل داء دواء.، فتداووا، ولا تتداووا بحرام. " وفي سنده إسماعيل بن
عياش. وهو ثقة في الشاميين، ضعيف في الحجازيين.
4 - وروى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث - يعني السم. والقطرات القليلة غير
الظاهرة، والتي لا يكون من شأنها الاسكار، إذا اختلطت بالدواء المركب لا
تحرم، مثل القليل من الحرير في الثوب، أفاده في المنار.
الطبيب الكافر
وفي كتاب الاداب الشرعية لابن مفلح: وقال الشيخ تقي الدين: إذا كان اليهودي
أو النصراني خبيرا بالطب ثقة عند الانسان جاز له ان يستطب (1) كما
__________
(1) يجعل طبيبا.
(1/492)
يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله، كما
قال الله تعالى: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من إن
تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) .
وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلا مشركا هاديا
خريتا (1) وائتمنه على نفسه وماله.
وكانت خزاعة عينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلمهم وكافرهم، وقد روى:
ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر ان يستطب الحارث بن كلدة، وكان كافرا،
وإذا أمكنه أن يستطب مسلما، فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله، فلا
ينبغي ان يعدل عنه، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي، أو أستطبابه فلم
ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها، وإذا خاطبه بالتي هي
أحسن كان حسنا، فان الله تعالى يقول: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي
هي أحسن ". اه
وذكر أبو الخطاب في حديث صلح الحديبية وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عينا
له من خزاعه وقبوله خبره: أن فيه دليلا على جواز قبول المتطبب الكافر فيما
يخبر به من صفة العلة ووجه العلاج إذا كان غير متهم فيما يصفه. وكان غير
مظنون به الريبة.
جواز استطباب المرأة
يجوز للرجل أن يداوي المرأة، ويجوز للمرأة أن تداوي الرجل عند الضرورة.
قال البخاري: هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل.
ثم روى عن ربيع بنت معوذ بن عفراء.
قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقي القوم، ونخدمهم ونرد
القتلى والجرحى إلى المدينة.
وقال الحافظ في الفتح: يجوز مداواة الاجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما
يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك.
وقال ابن مفلح في كتاب الآداب الشرعية: فإن مرضت امرأة ولم يوجد من يطبها
غير رجل، جاز له منها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره منها حتى الفرجين، وكذا
الرجل مع الرجل.
قال ابن حمدان: وان لم يوجد من يطبه سوى امرأة، فلها نظر ما تدعو الحاجة
إلى نظرها منه حتى فرجيه.
قال القاضي: يجوز للطيب
__________
(1) الخريت: الماهر بالهداية.
(1/493)
أن ينظر من المرأة إلى العورة عند الحاجة،
وكذلك يجوز للمرأة والرجل، أن ينظرا إلى عورة الرجل عند الضرورة. انتهى.
العلاج بالرقي (1) والأدعية:
يشرع العلاج بالرقى والادعية إذا كانت مشتملة على ذكر الله، وكانت باللفظ
العربي المفهوم لان مالا يفهم، لا يؤمن أن يكون فيه شئ من الشرك فعن عوف بن
مالك.
قال: كنا نرقى في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال
اعرضوا علي رقاكم.
لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " رواه مسلم وأبو داود، وقال الربيع: سألت
الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن ترقى بكتاب الله، وبما تعرف من ذكر الله
قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال نعم، إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله
وبذكر الله.
بعض الادعية الواردة في ذلك:
1 - روى البخاري ومسلم عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض
أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: " اللهم رب الناس أذهب البأس (2) أشف وأنت
الشافي، لاشفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ".
2 - وروى مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وجعا بحدة في جسده.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ضع يدك على الذي يألم من جسدك
وقل: باسم الله، وقل: سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر
" قال ففعلت ذلك مرارا فأذهب الله ما كان بي فلم أزل آمر به أهلى وغيرهم.
3 - وروى الترمذي عن محمد بن سالم قال: قال لى ثابت البناني: يا محمد إذا
اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي، ثم قل: بسم الله أعوذ بعزة الله من شر ما أجد من
وجعي هذا، ثم ارفع يدك، ثم أعد ذلك وترا، فان أنس بن مالك حدثني: ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك.
__________
(1) الرق: جمع رقية، مثل مدى جمع مدية: وهي الادعية التي يدعى بها للمريض.
(2) البأس: الشدة.
(1/494)
4 - وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: " من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله
العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك. إلا عافاه الله من ذلك المرض ".
رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن.
وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري.
5 - وروى البخاري عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ
الحسن والحسين: " أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة. ومن كل
عين لامة (1) ويقول: " إن أباكما (2) كان يعوذ بهما إسماعيل واسحاق ".
6 - وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده
في مرضه فقال: " اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا ".
النهي عن التمائم:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التمائم.
1 - فعن عقبة بن عامر، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من علق
تميمة فلا أتم الله له.
ومن علق ودعة فلا أودع الله له " رواه أحمد والحاكم.
وقال: صحيح الاسناد.
والتميمة: هي الخرزة التي كان العرب يعلقونها على أولادهم يمنعون بها العين
في زعمهم، فأبطله الاسلام ونهى عنه.
ودعا رسول الله على من علق تميمة بعدم التمام، لما قصده من التعليق.
1 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه دخل على امرأته، وفي عنقها شئ معقود،
فجذبه فقطعه.
ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء أن يشركوا بالله ما لم ينزل به
سلطانا.
ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم
والتولة شرك " قالوا: يا أبا عبد الله هذه التمائم والرقى قد
__________
(1) " الهامة ": كل ذات سم قاتل تجمع على هوام، وقد تطلق على ما يدب من
الحيوان، كالق.
" واللامة ": التي تصيب بسوء.
(2) يقصد إبراهيم عليه السلام.
(1/495)
عرفناها، فما التولة؟ قال: شئ يصنعه النساء
يتحببن الى أزواجهن (1) .
رواه الحاكم وابن حبان وصححاه.
3 - وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر على
عضد رجل حلقة أراه قال: " من صفر " (2) ، فقال: " ويحك ما هذه؟ " قال: من
الواهنة.
قال " أما إنها لا تزيد إلا وهنا، انبذها عنك، فانك لومت وهي عليك ما أفلحت
ابدا " رواه أحمد.
والواهنة: عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها، وقيل: مرض يأخذ في العضد.
وقد علق الرجل حلقة من نحاس، ظنا منه أنها تعصمه من الالم، فنهاه الرسول
عنها، وعدها من التمائم.
4 - وروى أبو داوود عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله بن حكيم وبه
حمرة، فقلت ألا تعلق تميمة؟ فقال: نعوذ بالله من ذلك، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " من علق شيئا وكل إليه ".
هل يجوز تعليق الادعية الواردة في الكتاب والسنة؟ روى عمر بن شعيب عن أبيه
عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا
فزع أحدكم في النوم فليقل: اعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر
عباده، من همزات الشياطين وأن يحضرون فانها لن تضره " وكان عبد الله بن
عمرو يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبها في صك ثم علقها في عنقه.
رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حسن غريب، والحاكم وقال: صحيح
الاسناد.
وإلى هذا ذهبت عائشة ومالك وأكثر الشافعية ورواية عن أحمد.
وذهب ابن عباس وابن مسعود، وحذيفة والاحناف وبعض الشافعية ورواية عن أحمد:
إلى أنه لا يجوز تعليق شئ من ذلك لما تقدم من النهي العام في الاحاديث
السابقة.
منع المريض من السكن بين الأصحاء
ومن كان مبتلى بأمراض معدية، يجوز منعه من السكن بين الاصحاء ولا
__________
(1) قيل: هي خيط يقرأ فيه من السحر أو قرطاس فيه شئ يتحبب به النساء إلى
قلوب الرجال، أو الرجال إلى قلوب النساء.
(2) " صفر " نحاس.
(1/496)
يجاور الاصحاء، فان النبي صلى الله عليه
وسلم قال: " لا يوردن ممرض على مصح " فنهى صاحب الابل المراض أن يوردها على
صاحب الابل الصحاح مع قوله " لا عدوى ولا طيرة " وكذلك روي انه لما قدم رجل
محذوم ليبايعه، أرسل إليه بالبيعة، ولم يأذن له في دخول المدينة.
النهي عن الخروج من الطاعون أو الدخول في أرض
هو بها:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخروج من الارض التي وقع بها الطاعون
أو الدخول فيها، لما في ذلك من التعرض للبلاء.
وحتى يمكن حصر المرض في دائرة محددة، ومنعا لانتشار الوباء.
وهوما يعبر عنه بالحجر الصحي.
روى الترمذي وقال: حسن صحيح.
عن أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال: " بقية
رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا
تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها " وروى البخاري عن
ابن عباس: أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء
الاجناد، أبو عبيدة ابن الجراح وأصحابه.
فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام.
قال ابن عباس فقال عمر: ادع لي المهاجرين الاولين، فدعاهم فاستشارهم،
وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا.
فقال بعضهم قد خرجنا لامر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء
فقال: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادع لي الانصار.
فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا نرى أن
ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء.
فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه.
قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا
أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر اللهإلى قدر الله.
أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة، والاخرى جدبة،
أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟
قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجاته، فقال: إن عندي في
هذا علما.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا
عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " قال فحمد الله عمر
ثم انصرف.
(1/497)
استحباب ذكر الموت والاستعداد له بالعمل:
رغب الشارع في تذكر الموت والاستعداد له بالعمل الصالح، وعدذلك من دلائل
الخير.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة،
فقام رجل من الانصار فقال: يا نبي الله من أكيس الناس وأحزم الناس؟ قال: "
أكثرهم ذكرا للموت، وأكثرهم استعدادا للموت، أولئك الاكياس.
ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة ".
وعنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثروا من ذكر هاذم (1)
اللذات " رواهما الطبراني بإسناد حسن.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله
تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام.
" قال: " إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قالوا: هل لذلك من علامة يعرف
بها؟ قال: " الانابة إلى دار الخلود، والتنحي عن دار الغرور، والاستعداد
للموت قبل لقاء الموت ".
رواه ابن جرير، وله طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا.
كراهة تمني الموت:
يكره للمرء أن يتمنى الموت أو يدعو به، لفقر أو مرض أو محنة أو نحو ذلك،
لما رواه الجماعة عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يتمنين
أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنيا للموت فليقل: اللهم أحيني ما
كانت الحياة خيرالي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ".
وحكمة النهي عن تمني الموت ما جاء من حديث أم الفضل أن النبي صلى الله عليه
وسلم دخل على العباس، وهو يشتكي فتمنى الموت فقال: " يا عباس يا عم رسول
الله لاتتمن الموت إن كنت محسنا تزداد إحسانا إلى إحسانك خير لك، وإن كنت
مسيئا فإن تؤخر تستعتب (2) خير لك. فلا تمن
__________
(1) هاذم: قاطع والمراد به الموت.
(2) تستعتب: تسترضي الله بالاقلاع عن الاساءة والاستغفار منها. "
والاستعتاب " طلب إزالة العتاب.
(1/498)
الموت " رواه أحمد والحاكم وقال: صحيح على
شرط مسلم.
فإن خاف أن يفتن في دينه يجوز له تمني الموت دون كراهة، فمما حفظ عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قوله في دعائه: " اللهم إني أسألك فعل الخيرات.
وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قومي
فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك " رواه
الترمذي وقال: حسن صحيح.
وفي الموطأ عن عمر رضي الله عنه دعا.
فقال: " اللهم كبرت سني وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع
ولا مفرط "
فضل طول العمر مع حسن العمل:
1 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس
خير؟ قال: " من طال عمره وحسن عمله ".
قال: فأي الناس شر.
قال: " من طال عمره وساء عمله " رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.
2 - وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أنبئكم بخيركم؟
" قالوا: نعم يا رسول الله قال: " خياركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا "
رواه أحمد وغيره بسند صحيح.
العمل الصالح قبل الموت دليل على حسن الختام:
روى أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله " قيل: كيف يستعمله؟ قال " يوفقه
لعمل صالح قبل الموت ثم يقبضه عليه ".
استحباب حسن الظن بالله ينبغي أن يذكر المريض سعة رحمة الله ويحسن ظنه
بربه، لما رواه مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
قبل موته بثلاث (1) :
__________
(1) أي بثلاث ليال.
(1/499)
" لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله
".
وفي الحديث استحباب تغليب الرجاء وتأميل العفو ليلقى الله تعالى على حالة
هي أحب الاحوال إلى الله سبحانه إذ هو الرحمن الرحيم، والجواد الكريم، يحب
العفو والرجاء.
وفي الحديث " يبعث كل أحد على ما مات عليه ".
وروى ابن ماجه والترمذي بسند جيد عن أنس أن النبي صلى الله عليه
وسلم دخل على شاب وهوفي الموت فقال: " كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله وأخاف
ذنوبي.
فقال صلى الله عليه وسلم: " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا
أعطاه الله ما يرجوه وأمنه مما يخاف ".
استحباب الدعاء والذكر لمن حضر عند الميت:
يستحب أن يحضر الصالحون من أشرف على الموت فيذكروا الله.
1 - روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أم سلمة قالت، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمنون
على ما تقولون ".
قالت: فلما مات أبو سلمة، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول
الله، إن أبا سلمة قد مات، قال: " قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه
عقبى حسنة " فقلت: فأعقبني الله من هو خير منه " محمدا صلى الله عليه وسلم
".
2 - وفي صحيح مسلم عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي
سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر " فضج ناس
من أهله فقال: " لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما
تقولون "، ثم قال: " اللهم اغفر لابي سلمة وارفع درجته في المهديين، وأخلفه
في عقبة الغابرين (1) واغفر لنا وله يا رب العالمين.
وأفسح له في قبره، ونور له فيه ".
__________
(1) الغابرين: الباقين: أي كن خليفة له في إصلاح من يعقبه من ذريته حال
كونهم في الباقين من الناس.
(1/500)
ما يسن عند الاحتضار:
يسن عند الاحتضار مراعاة السنن الآتية:
1 - تلقين المحتصر " لا إله إلا الله " لما رواه مسلم وأبو داود والترمذي
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
لقنوا موتاكم (1) : لا إله إلا الله " وروى أبو داود، وصححه الحاكم عن معاذ
بن جبل رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر
كلامه لاإله إلا الله دخل الجنة ".
والتلقين إنما يكون في حالة ما إذا كان لا ينطق بلفظ الشهادة.
فإن كان ينطق بها فلا معنى لتلقينه.
والتلقين إنما يكون في الحاضر العقل القادر على الكلام فإن شارد اللب لا
يمكن تلقينه، والعاجز عن الكلام يردد الشهادة في نفسه.
قال العلماء: وينبغي أن لا يلح عليه في ذلك.
ولا يقول له: قل لا إله إلا الله، خشية أن يضجر، فيتكلم بكلام غير لائق،
ولكن يقولها بحيث يسمعه معرضا له، ليفطن له فيقولها.
وإذا أتى بالشهادة مرة لا يعاود التلقين ما لم يتكلم بعدها بكلام آخر فيعاد
التعريض له به ليكون آخر كلامه.
وجمهور العلماء على أن المحتضر يقتصر في تلقينه على لفظ " لا إله إلا الله
" لظاهر الحديث، ويرى جماعة أنه يلقن الشهادتين لان المقصود تذكر التوحيد
وهو يتوقف عليهما.
2 - توجيهه إلى القبلة مضطجعا على شقه الايمن، لما رواه البيهقي والحاكم
وصححه عن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، سأل عن
البراء بن معرور؟ فقالوا: توفي، وأوصى بثلث ماله لك، وأن يوجه للقبلة لما
احتضر.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصاب الفطرة، وقد رددت ثلث ماله على ولده
".
ثم ذهب فصلى عليه وقال: " اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك وقد فعلت (2) "
قال الحاكم: ولا أعلم في توجيه المحتضر إلى
القبلة غيره.
__________
(1) أي المحتضرين الذين هم في سياق الموت من المسلمين، أما غيرهم فيعرض
عليهم الاسلام.
(2) فعلت: أي استجبت الدعاء
(1/501)
وروى أحمد: أن فاطمة بنت النبي صلى الله
عليه وسلم عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت يمينها.
وهذه الصفة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم النائم أن ينام عليها،
والتي يكون عليها الميت في قبره.
وفي رواية عن الشافعي: أن المحتضر يستلقي على قفاه وقدماه إلى القبلة وترفع
رأسه قليلا ليصير وجهه إليها والاول الذي ذهب إليه الجمهور أولى.
3 - قراءة سورة يس، لما رواه أحمدو أبو داود والنسائي والحاكم وابن حبان
وصححاه، عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " يس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له.
واقرؤوها على موتاكم (1) ".
قال ابن حبان: أراد به من حضرته المنية، لا أن الميت يقرأ عليه، ويؤيد هذا
المعنى ما رواه أحمد في مسنده عن صفوان قال: كانت المشيخة (2) يقولون: إذا
قرئت " يس " عند الموت خفف عنه بها، وأسنده صاحب مسند الفردوس إلى أبي
الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مامن ميت يموت
فتقرأ عنده يس إلا هون الله عليه ".
4 - تغميض عينيه إذا مات، لما رواه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل
على أبي سلمة، وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر
".
5 - تسجيته صيانة له عن الانكشاف وسترا لصورته المتغيرة عن الاعين.
فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببرد
حبره (3) رواه البخاري ومسلم.
ويجوز تقبيل الميت إجماعا فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ابن
مظعون وهو ميت، وأكب أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته
فقبله بين عينيه وقال: يا نبياه، يا صفياه.
__________
(1) أعل هذا الحديث ابن القطان بالاضطراب والوقف وجهالة بعض الرواة.
ونقل عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث مضطرب الاسناد مجهول المتن ولا يصح.
(2) جمع شيخ.
(3) سجي: غطي.
" حبرة ": ثوب فيه أعلام.
(1/502)
6 - المبادرة بتجهيزه متى تحقق (1) موته،
فيسرع وليه بغسله ودفنه مخافة أن يتغير، والصلاة عليه، لما رواه أبو داود
وسكت عنه.
عن الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم
يعوده، فقال: " إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فأذنوبي به (2)
وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله ".
ولا ينتظر به قدوم أحد إلا الولي: فإنه ينتظر ما لم يخش عليه التغير.
روى أحمد والترمذي عن علي رضي الله عنه: أن النبي قال له، " يا علي: ثلاث
لا تؤخرها الصلاة: إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والايم (3) إذا وجدت كفئا
".
7 - قضاء دينه، لما رواه أحمد وابن ماجه والترمذي.
وحسنه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نفس المؤمن معلقة
بدينه حتى
يقضى عنه " أي أمرها موقوف لا يحكم لها بنجاة ولا بهلاك أو محبوسة عن
الجنة، وهذا فيمن مات وترك ما لا يقضى منه دينه.
أما من لامال له ومات عازما على القضاء، فقد ثبت أن الله تعالى يقضي عنه،
ومثله من مات وله مال وكان محبا للقضاء ولم يقض من ماله ورثته فعند البخاري
من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ أموال الناس
يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ".
وروى أحمد وأبو نعيم والبزار والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
يدعى بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز وجل فيقول: يا ابن
آدم فيم أخذت هذا الدين، وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يا رب إنك تعلم أني
أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع، ولكن أتى علي إما حرق وإما سرق، وإما
وضيعة، فيقول الله صدق عبدي، وأنا أحق من قضى عنك، فيدعو الله بشئ فيضعه في
كفة ميزانه، فترجح حسناته على سيئاته، فيدخل الجنة بفضل رحمته ".
__________
(1) لابد من تحقق الموت بواسطة الاطباء وغيرهم من العارفين المشهود لهم في
المعرفة، ولا سيما من توقع أن يغمى عليه.
(2) آذونوني: أعلموني.
(3) الايم: من لا زوج لها.
(1/503)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يمتنع
عن الصلاة على المديون، فلما فتح الله عليه البلاد، وكثرت الاموال صلى على
من مات مديونا وقضى عنه، وقال في حديث البخاري: " أنا أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، فمن مات وعليه دين، ولم يترك وفاء، فعلينا قضاؤه.
ومن ترك ما لا فلورثته ".
وفي هذا ما يدل على أن من مات مدينا استحق أن يقضى عنه من بيت مال
المسلمين، ويؤخذ من سهم الغارمين " أحد مصارف الزكاة " وأن حقه لا يسقط
بالموت.
استحباب الدعاء والاسترجاع (1) عند الموت:
يستحب أن يسترجع المؤمن ويدعو الله عند موت أحد أقاربه بالآتي.
1 - روى أحمد ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه
راجعون.
اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله تعالى في مصيبته،
وأخلف له خيرا منها " قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرا منه " رسول الله صلى الله عليه
وسلم ".
2 - وفي الترمذي عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد
عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: فماذا
قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في
الجنة وسموه بيت الحمد " قال: حديث حسن.
3 - وفي البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا
ثم احتسبه إلا الجنة ".
4 - وعن ابن عباس في قول الله تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا
لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم
__________
(1) الاسترجاع قول: " إنا لله وإنا إليه راجعون ".
(1/504)
ورحمة. وأولئك هم المهتدون " قال: أخبر
الله عزوجل: أن المؤمن إذا سلم لام الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب له
ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى.
استحباب اعلام قرابته وأصحابه بموته:
استحب العلماء إعلام أهل الميت وقرابته وأصدقائه وأهل الصلاح بموته ليكون
لهم أجر المشاركة في تجهيزه، لما رواه الجماعة.
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي
مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف أصحابه، وكبر عليه أربعا.
وروى أحمد والبخاري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا، وجعفرا
وابن رواحة، قبل أن يأتيهم خبرهم، قال الترمذي: لا بأس بأن يعلم الرجل
قرابته وإخوانه بموت الشخص.
وقال البيهقي: وبلغني عن مالك بن أنس أنه قال: لاأحب الصياح لموت الرجل على
أبواب المساجد، ولو وقف على حلق المساجد فأعلم الناس بموته لم يكن به بأس.
وأما ما رواه أحمد والترمذي وحسنه عن حذيفة، قال: إذا مت فلا تؤذني بي
أحدا، فإني أخاف أن يكون نعيا.
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي (1) فإنه محمول على
النعي الذي كانت الجاهلية تفعله.
وكانت عادتهم إذا مات منهم شريف بعثوا راكبا إلى القبائل، يقول: نعاء فلانا
أي هلكت العرب بمهلك فلان، ويصحب ذلك ضجيج وبكاء.
البكاء على الميت:
أجمع العلماء، على أنه لا يجوز البكاء على الميت، إذا خلا من الصراخ
والنوح، ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا
يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم " وأشار إلى
لسانه.
وبكى لموت ابنه إبراهيم وقال: " إن العين تدمع، والقلب يحزن.
ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " وبكى لموت
__________
(1) النعي: الاخبار بموت الشخص.
(1/505)
أميمة بنت ابنته زينب، فقال له سعد بن
عبادة يا رسول الله أتبكي؟ أو لم تنه زينب، فقال: " إنما هي رحمة فجعلها
الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " وروى الطبراني عن
عبد الله بن زيد قال: رخص في البكاء من غير نوح.
فإن كان البكاء بصوت ونياحة، كان ذلك من أسباب ألم الميت وتعذيبه.
فعن ابن عمر قال: لما طعن عمر أغمي عليه، فصيح عليه فلما أفاق قال: أما
علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الميت ليعذب ببكاء الحي
".
وعن أبي موسى قال: لما أصيب عمر جعل صهيب يقول: واأخاه، فقال له عمر: يا
صهيب أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الميت ليعذب
ببكاء الحي " وعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه " روى هذه الاحاديث البخاري
ومسلم.
ومعنى الحديث، أن الميت يتألم ويسوءه نوح أهله عليه، فإنه يسمع بكاءهم
وتعرض أعمالهم عليه، وليس معنى الحديث أنه يعذب ويعاقب بسبب بكاء أهله
عليه، فإنه لاتزر وازرة وزر أخرى.
فقد روى ابن جرير عن أبي هريرة قال: إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من
موتاكم فإن رأوا خيرا فرحوا به.
وإذا رأوا شرا كرهوا.
وروى أحمد والترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن
أعمالكم
تعرض على أقاربكم وعشائركم من الاموات، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان
غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا.
" وعن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة
تبكي: واحبلاه، واكذا، واكذا، تعدد عليه فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا
قيل لي: أأنت كذلك.
رواه البخاري.
النياحة:
النياحة مأخوذة من النوح، وهو رفع الصوت بالبكاء.
وقد جاءت الاحاديث مصرخة بتحريمها، فعن أبي مالك الاشعري: أن النبي صلى
الله عليه
(1/506)
وسلم قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية
لا يتركونهن: الفخر في الاحساب (1) ، والطعن في الانساب، والاستسقاء
بالنجوم، والنياحة " وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم
القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب (2) " رواه أحمد ومسلم.
وعن أم عطية قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لاننوح. رواه
البخاري ومسلم.
وروى البزار بسند رواته ثقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوتان
ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، وزنة عند مصيبة " وفي الصحيحين
عن أبي موسى أنه قال: " أنا برئ ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة، والحالقة والشاقة (3) ".
وروى أحمد عن أنس قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على النساء حين
بايعهن، أن لا ينحن، فقلن: يا رسول الله إن نساء أسعدننا في الجاهلية.
افنسعدهن في الاسلام؟ فقال: " لا إسعاد (4) في الاسلام ".
الاحداد على الميت:
يجوز للمرأة أن تحد (5) على قريبها الميت ثلاثة أيام ما لم يمنعها زوجها،
ويحرم عليها أن تحد عليه فوق ذلك، إلا إذا كان الميت زوجها، فيجب عليها أن
تحد عليه مدة العدة. وهي أربعة أشهر وعشر.
لما رواه الجماعة إلا الترمذي عن أم عطية، أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " لاتحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة
أشهر وعشرا.
ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب (6) ، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا، ولا
تختضب، ولا تمتشط
__________
(1) الفخر في الاحساب: التعاظم بمناقب الآباء. " الطعن في الانساب " نسبة
الرجل المرء لغير أبيه. " الاستسقاء بالنجوم ": اعتقاد أنها المؤثرة في
نزول المطر.
(2) السربال: القميص. والجرب: تقرح الجلد، والقطران: يقوي شعلة النار،
فيكون عذاب النائحة بالنار بسبب هذين القميصين أشد عذاب.
(3) الصالقة: التي ترفع صوتها بالندب والنياحة - الحالقة: التي تحلق رأسها
عند المصيبة - الشاقة: أي التي تشق.
(4) الاسعاد: المساعدة في النياحة.
(5) تحد: من باب نصر وضرب.
(6) عصب: برود يمانية.
(1/507)
إلا إذا ظهرت، تمس نبذة من قسط، أو اظفار
(1) ".
والاحداد ترك ما تتزين به المرأة من الحلي والكحل والحرير والطيب والخضاب.
وإنما وجب على الزوجة ذلك مدة العدة، من أجل الوفاء للزوج، ومراعاة لحقه.
استحباب صنع الطعام لأهل الميت:
عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا
لآل جعفر طعاما، فإنه قد أتاهم أمر يشغلهم " رواه أبو داود وابن ماجه
والترمذي.
وقال: حسن صحيح.
واستحب الشارع هذا العمل، لانه من البر والتقرب إلى الاهل والجيران.
قال الشافعي: وأحب لقرابة الميت أن يعملوا لاهل الميت في يومهم وليلتهم
طعاما يشبعهم، فإنه سنة وفعل أهل الخير.
واستحب العلماء الالحاح عليهم ليأكلوا، لئلا يضعفوا بتركه استحياء أو لفرط
جزع.
وقالوا: لا يجوز اتخاذ الطعام للنساء إذا كن ينحن لانه إعانة لهن على
معصية.
واتفق الائمة على كراهة صنع أهل الميت طعاما للناس يجتمعون عليه، لما في
ذلك من زيادة المصيبة عليهم وشغلا لهم إلى شغلهم وتشبها بصنع أهل الجاهلية
لحديث جرير قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه
من النياحة.
وذهب بعض العلماء إلى التحريم.
قال ابن قدامه: فإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز، فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم
من القرى والاماكن البعيدة.
ويبيت عندهم، ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه ".
__________
(1) القسط والاظفار: نوعان من العود الذي يتطيب به.
و" النبذة " القطعة: أي يجوز لها وضع الطيب عند الغسل من الحيض لازالة
الرائحة الكريهة.
(1/508)
جواز اعداد الكفن والقبر قبل الموت قال
البخاري: باب من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر
عليه، وروى عن سهل رضي الله عنه أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم
ببردة منسوجة، فيها حاشيتها (1) أتدرون ما البردة (2) ؟ قالوا: الشملة.
قال: نعم.
قالت: نسجتها بيدي، فجئت لاكسوها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا
إليها فخرج إلينا، وإنها إزارة، فحسنها فلان فقال: اكسنيها.
ما أحسنها.
قال القوم: ما أحسنت، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، ثم
سألته، وعلمت أنه لايرد، قال: إني والله ما سألته لالبسها، إنما سألته
لتكون كفني، قال سهل فكانت كفنه.
قال الحافظ معلقا على الترجمة: وإنما قيد " أي البخاري " الترجمة بذلك.
أي بقوله: " فلم ينكر ليشير إلى أن الانكار وقع من الصحابة، كان على
الصحابي في طلب البردة، فلما أخبرهم بعذره لم ينكروا ذلك عليه، فيستفاد منه
جواز تحصيل ما لابد منه للميت من كفن ونحوه في حال حياته، وهل يلتحق بذلك
حفر القبر؟ ثم قال: قال ابن بطال: فيه جواز إعداد الشئ قبل وقت الحاجة
إليه.
قال: وقد حفر جماعة من الصالحين قبورهم قبل الموت، وتعقبه الزين بن المنير:
بأن ذلك لم يقع من أحد من الصحابة، قال: ولو كان مستحبا لكثر فيهم.
وقال العيني: لا يلزم من عدم وقوعه من أحد من الصحابة عدم جوازه.
لان ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، ولاسيما إذا فعله قوم من
العلماء الاخيار.
قال أحمد: لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره، ويوصي أن يدفن فيه.
وروي عن عثمان وعائشة وعمر بن عبد العزيز رضيا لله عنهم أنهم فعلوا ذلك.
__________
(1) حاشيتا الثوب: ناحيتاه اللتان في طرفهما الهدب.
(2) مقول سهل.
(1/509)
استحباب طلب الموت
في أحد الحرمين:
يستحب طلب الموت في أحد الحرمين: الحرم المكي، والحرم المدني، لما رواه
البخاري عن حفصة رضي الله عنها أن عمر رضي الله عنه قال: اللهم ارزقني
شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم.
فقلت: أنى هذا؟ فقال: يأتيني به الله إن شاء الله.
وروى الطبراني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات في أحد
الحرمين بعث آمنا يوم القيامة " وفيه موسى بن عبد الرحمن، ذكره ابن حبان في
الثقات وعبد الله ابن المؤمل ضعفه أحمد ووثقه ابن حبان.
موت الفجأة (1) روى أبو داود عن عبيد بن خالد السلمي - رجل من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم - قال مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال مرة: عن
عبيد.
قال: " موت الفجأة أخذة آسف (2) ".
وقد روي هذا الحديث من حديث عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبي هريرة
وعائشة، وفي كل منها مقال.
وقال الازدي: ولهذا الحديث طرق، وليس فيها صحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
وحديث عبيد هذا الذي أخرجه أبوداود، رجال إسناده ثقات.
والوقف فيه لا يؤثر، فإن مثله لا يؤخذ بالرأي، فكيف وقد أسنده الراوي مرة.
ثواب من مات له ولد:
1 - روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مامن الناس من
مسلم يتوفى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث (3) إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته
إياهم ".
__________
(1) أي الموت بغتة.
(2) آسف: غضبان وإنما كان موت الفجأة يكرهه الناس لانه يفوت ثواب المرض
الذي يكفر الذنوب والاستعداد بالتوبة والعمل الصالح.
(3) الحنث: الاثم: أي لم يبلغوا سن التكليف فيكتب عليهم الاثم.
(1/510)
2 - وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا يوما.
فوعظهن وقال: " أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجابا من
النار "، قالت امرأة: واثنان قال: " واثنان ".
أعمار هذه الامة روى الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين (1) وأقلهم من يجوز (2) ذلك
".
الموت راحة:
روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم مر عليه بجنازة، فقال: " مستريح ومستراح منه (3) "، فقالوا: يا رسول
الله، ما المستريح وما المستراح منه؟ فقال: " العبد المؤمن يستريح من نصب
(4) الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد (5) والبلاد والشجر والدواب
".
تجهيز الميت:
يجب تجهيز الميت فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، وتفصيل ذلك فيما يلي: غسل
الميت
يرى جمهور العلماء أن غسل الميت المسلم فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن
جميع المكلفين، لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ولمحافظة المسلمين
عليه.
__________
(1) السبعين: أي السبعين سنة.
(2) يجوز: أي يتجاوز.
(3) أي هذا البيت إما مستريح وإما مستراح منه.
(4) نصب الدنيا: تعبها.
(5) من أذاه.
(1/511)
(2) من يجب غسله ومن لا يجب: يجب غسل الميت
المسلم الذي لم يقتل في معركة بأيدي الكفار.
(3) غسل بعض الميت: واختلف الفقهاء في غسل بعض الميت المسلم.
فذهب الشافعي وأحمد وابن حزم إلى أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وقال الشافعي:
بلغنا أن طائرا ألقى يدا بمكة في وقعة الجمل (1) ، فعرفوها بالخاتم،
فغسلوها وصلوا عليها، وكان ذلك بمحضر من الصحابة.
وقال أحمد: صلى أبو أيوب على رجل، وصلى عمر على عظام.
وقال ابن حزم: ويصلى على ما وجد من الميت المسلم، ويغسل ويكفن إلا أن يكون
من شهيد.
قال: وينوى بالصلاة على ما وجد منه، الصلاة على جميعه: جسده وروحه.
وقال أبو حنيفة ومالك: إن وجد أكثر من نصفه غسل وصلي عليه، وإلا فلا غسل
ولا صلاة.
(4) الشهيد لا يغسل:
الشهيد الذي قتل بأيدي الكفرة في المعركة لا يغسل ولو كان جنبا (2) ، ويكفن
في ثيابه الصالحة للكفن، ويكمل ما نقص منها، وينقص منها ما زاد على كفن
السنة، ويدفن في دمائه، ولا يغسل شئ منها.
روى أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تغسلوهم فإن كل جرح،
أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة "، وأمر صلوات الله وسلامه عليه بدفن شهداء
أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.
قال الشافعي: لعل ترك الغسل والصلاة لان يلقوا الله بكلومهم (3) لما جاء أن
ريح دمهم ريح المسك، واستغنوا بإكرام الله لهم عن الصلاة عليهم، مع التخفيف
على من بقي من المسلمين، لما يكون فيمن قاتل من جراحات وخوف
__________
(1) كانت عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد.
(2) الشهيد الجنب: لا يغسل عند المالكية والاصح من مذهب الشافعية. ورأي
محمد وأبي يوسف، ويشهد لهذا، أن حنظلة استشهد جنبا فلم يغسله النبي صلى
الله عليه وسلم.
(3) " كلومهم " جروحهم.
(1/512)
عبودة العدو، رجاء طلبهم وهمهم بأهلهم، وهم
أهلهم بهم.
وقيل: الحكمة في ترك الصلاة عليهم: أن الصلاة على الميت، والشهيد حي، أو أن
الصلاة شفاعة، والشهداء في غنى عنها لانهم يشفعون لغيرهم.
(5) الشهداء الذين يغسلون ويصلى عليهم: أما القتلى الذين لم يقتلوا في
المعركة بأيدي الكفار، فقد أطلق الشارع عليهم لفظ الشهداء، وهؤلاء يغسلون،
ويصلى عليهم، فقد غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات منهم في حياته.
وغسل المسلمون بعده عمر وعثمان وعليا، وهم جميعا شهداء، ونحن نذكر هؤلاء
الشهداء فيما يلي:
1 - عن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشهادة سبع سوى
القتل في سبيل الله: المطعون (1) شهيد، والغرق (2) شهيد، وصاحب ذات الجنب
(3) شهيد، والمبطون (4) شهيد، وصاحب الحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم
شهيد، والمرأة تموت بجمع (5) شهيدة ". رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند
صحيح.
2 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما تعدون الشهيد
فيكم؟ " قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد.
قال: " إن شهداء أمتي إذا لقليل "، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: " من
قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله (6) فهو شهيد، ومن مات في
الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد ".
رواه مسلم.
3 - وعن سعيد بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل دون ماله
فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل
دون أهله فهو شهيد ". رواه أحمد والترمذي وصححه.
__________
(1) المطعون: من مات بالطاعون
(2) الغرق: الغريق.
(3) ذات الجنب: القروح تصيب الانسان داخل جنبه وتنشأ عنها الحمى والسعال.
(4) المبطون: من مات بموت البطن.
(5) بجمع: أي التي تموت عند الولادة
(6) في سبيل الله: أي في طاعة الله.
(1/513)
(6) الكافر لا يغسل: ولا يجب على المسلم أن
يغسل الكافر، وجوزه بعضهم.
وعند المالكية والحنابلة: أنه ليس للمسلم أن يغسل قريبه الكافر ولا يكفنه،
ولا يدفنه، إلا أن يخاف عليه الضياع فيجب عليه أن يواريه، لما رواه أحمد
وأبو داود والنسائي والبيهقي، أن عليا رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى
الله عليه وسلم: إن عمك الشيخ الضال قد مات.
قال: " اذهب فوار أباك، ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني ".
قال: فذهبت، فواريته، وجئته، فأمرني فاغتسلت فدعا لي.
قال ابن المنذر: ليس في غسل الميت سنة تتبع.
صفة الغسل:
الواجب في غسل الميت أن يعمم بدنه بالماء مرة واحدة ولو كان جنبا أو حائضا،
والمستحب في ذلك أن يوضع الميت فوق مكان مرتفع ويجرد من ثيابه (1) ويوضع
عليه ساتر يستر عورته ما لم يكن صبيا، ولا يحضر عند غسله إلا من تدعوا
الحاجة إلى حضوره.
وينبغي أن يكون الغاسل ثقة أمينا صالحا، لينشر ما يراه من الخير، ويستر ما
يظهر له من الشر.
فعند ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليغسل موتاكم
المأمونون ".
وتجب النية عليه، لانه هو المخاطب بالغسل، ثم يبدأ فيعصر بطن الميت عصرا
رفيقا، لاخراج ما عسى أن يكون بها، ويزيل ما على بدنه من نجاسة، على أن يلف
على يده خرقة يمسح بها عورته فإن لمس العورة حرام، ثم يوضئه وضوء الصلاة
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها "
ولتجديد سمة المؤمنين في ظهور أثر الغرة والتحجيل، ثم يغسله ثلاثا بالماء
والصابون، أو الماء القراح، مبتدئا باليمين، فإن رأى الزيادة على الثلاث
بعدم حصول الانقاء بها أولشئ آخر غسله خمسا، أو سبعا، ففي الصحيح:
__________
(1) رأى الشافعي أن يغسل في قميصه أفضل إذا كان رقيقا لايمنع وصول الماء
إلى البدن لان النبي
صلى الله عليه وسلم غسل في قميصه.
والاظهر أن هذا خاص به صلوات الله وسلامه عليه فان تجريد الميت فيما عدا
العورة كان مشهورا.
(1/514)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
اغسلنها وترا: ثلاثا أو خمسا أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن (1) ".
قال ابن المنذر: إنما فرض الرأي اليهن بالشرط المذكور وهو الايثار، فإذا
كان الميت امرأة ندب نقض شعرها وغسل وأعيد تضفيره وأرسل خلفها، ففي حديث أم
عطية: أنهن جعلن رأس ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون.
قلت: نقضنه وجعلنه ثلاثة قرون (2) قالت: نعم.
وعند مسلم: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون: قرنيها وناصيتها.
وفي صحيح ابن حبان الامر بتضفيرها من قوله صلى الله عليه وسلم: " واجعلن
لها ثلاثة قرون ".
فإذا فرغ من غسل الميت جفف بدنه بثوب نظيف، لئلا تبتل أكفانه، ووضع عليه
الطيب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أجمرتم (3) الميت فأوتروا
".
رواه البيهقي والحاكم وابن حبان وصححاه.
وقال أبو وائل: كان عند علي رضي الله عنه مسك، فأوصى أن يحنط به، وقال: هو
فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجمهور العلماء على كراهة تقليم أظفار الميت وأخذ شئ من شعر شاربه، أو إبطه
أو عانته، وجوز لك ابن حزم.
واتفقوا فيما إذا خرج من بطنه حدث بعد الغسل وقبل التكفين، على أنه يجب غسل
ما أصابه من نجاسة، واختلفوا في إعادة طهارته فقيل: لا يجب (4) .
وقيل: يجب الوضوء.
وقيل: يجب إعادة الغسل.
والاصل الذي بنى عليه العلماء أكثر اجتهادهم في كيفية الغسل ما رواه
الجماعة عن أم عطية، قالت: " دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
توفيت ابنته فقال: اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك - إن رأيتن -
بماء وسدر واجعلن في الاخيرة كافورا، أو شيئا من كافور، فإذا
__________
(1) قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا قال بمجاوزة السبع، وكره المجاوزة أحمد
وابن المنذر.
(2) قرون: أي ضفائر.
(3) أجمرتم: بخرتم.
(4) هذا مذهب الاحناف والشافعية ومالك.
(1/515)
فرغتن فآذنني (1) " فلما فرغن آذناه،
فأعطانا حقوه فقال: " أشعرنها (2) إياه ". يعني إزاره.
وحكمة وضع الكافور ما ذكره العلماء من كونه طيب الرائحة، وذلك وقت تحضر فيه
الملائكة.
وفيه أيضا تبريد، وقوة نفود، وخاصة في تصلب بدن الميت، وطرد الهوام عنه
ومنع إسراع الفساد إليه، وإذا عدم قام غيره مقامه مما فيه هذه الخواص أو
بعضها.
التيمم للميت عند العجز عن الماء:
ان عدم الماء يمم الميت، لقوله تعالى: (فإن لم تجدوا ماء فتيمموا) ، ولقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جعلت لي الارض مسجدا وطهورا ".
وكذلك لو كان الجسم بحيث لو غسل لتهرى.
وكذلك المرأة تموت بين الرجال الاجانب عنها، والرجل يموت بين النساء
الاجنبيات عنه.
روى أبو داود في مراسيله والبيهقي عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " إذا ماتت المرأة مع الرجال، ليس معهم امرأة
غيرها، والرجل مع النساء، ليس معهن رجل غيره، فإنهما ييممان ويدفنان، وهما
بمنزلة من لم يجد الماء ".
وييمم المرأة ذو رحم محرم منها بيده، فإن لم يوجد يممها أجنبي بخرقة يلفها
على يده.
هذا مذهب أبي حنيفة وأحمد، وعند مالك والشافعي: إن كان بين الرجال ذو رحم
محرم منها غسلها، لانها كالرجل بالنسبة إليه في العورة والخلوة.
قال في المروي عن الامام مالك: إنه سمع أهل العلم يقولون: إذا ماتت المرأة
وليس معها نساء يغسلنها ولا من ذوي المحرم أحد يلي ذلك منها، ولا زوج يلي
ذلك، يممت، يمسح بوجهها وكفيها من الصعيد.
__________
(1) آذنني: أي أخبرنني.
(2) أشعرنها: اجعلنه شعارا " والشعار " الثوب الذي يلي الجسد. " والحقو "
الازار. وهو في الاصل: معقد الازار.
(1/516)
قال: وإذا هلك الرجل، وليس معه أحد إلا
نساء يممنه أيضا (1) .
غسل أحد الزوجين الآخر اتفق الفقهاء على جواز غسل المرأة زوجها، قالت
عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا
نساؤه. رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه.
واختلفوا في جواز غسل الزوج امرأته فأجازه الجمهور.
لما روي من غسل علي فاطمة رضي الله عنها.
رواه الدارقطني والبيهقي، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي
الله عنها: " لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ".
رواه ابن ماجه.
وقال الاحناف: لا يجوز للزوج غسل زوجته، فإن لم يكن إلا الزوج يممها،
والاحاديث حجة عليهم.
غسل المرأة الصبي:
قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة تغسل
الصبي الصغير.
الكفن:
(1) حكمه: تكفين الميت بما يستره ولو كان ثوبا واحدا فرض كفاية.
روى البخاري عن خباب رضي الله عنه قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات لم يأكل من أجره
شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم نجد ما نكفنه إلابردة، إذا
__________
(1) يرى ابن حزم أنه إذا مات رجل بين نساء لارجل معهن، أو امرأة بين رجال
لا نساء معهم غسل النساء الرجل وغسل الرجال المرأة على ثوب كثيف. يصب الاء
على جميع الجسد دون مباشرة اليد، ولا يجوز أن يعوض التيمم عن الغسل عند فقد
الماء.
(1/517)
غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا
رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه وأن نجعل
على رجليه من الاذخر (1) .
(2) ما يستحب فيه: يستحب في الكفن ما يأتي:
1 - أن يكون حسنا، نظيفا، ساترا للبدن.
لما رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: " إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه ".
2 - وأن يكون أبيض، لما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن ابن عباس:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البسوا من ثيابكم البيض فإنها من خير
ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ".
3 - وأن يجمر، ويبخر، ويطيب، لما رواه أحمد والحاكم وصححه عن جابر، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا ".
وأوصى أبو سعيد وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: أن تجمر أكفانهم بالعود.
4 - أن يكون ثلاث لفائف للرجل، وخمس لفائف للمرأة، لما رواه الجماعة عن
عائشة، قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية
جدد ليس فيها قميص ولاعمامة.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم وغيرهم.
قال: وقال سفيان الثوري: يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، إن شئت في قميص
ولفافتين، وإن شئت في ثلاث لفائف.
ويجزئ ثوب واحد إن لم يجدوا ثوبين.
والثوبان يجزيان، والثلاثة لمن وجد أحب إليهم، وهو قول الشافعي وأحمد
وإسحق.
وقالوا: تكفن المرأة في خمسة أثواب.
__________
(1) الاذخر: حشيشة طيبة الرائحة، تسقف بها البيوت فوق الخشب.
(1/518)
وعن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم
ناولها إزارا، ودرعا (1) ، وخمارا (2) وثوبين (3) .
وقال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في
خمسة أثواب.
(3) تكفين المحرم: إذا مات المحرم غسل كما يغسل غيره ممن ليس محرما وكفن في
ثياب إحرامه، ولا تغطى رأسه ولا يطيب لبقاء حكم الاحرام، لما رواه الجماعة
عن ابن عباس قال: بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفه إذ
وقع عن راحلته فوقصته (4) فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "
اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه (5) ، ولا تحنطوه (6) ولا تخمروا (7)
رأسه فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة ملبيا ".
وذهبت الحنفية والمالكية إلى أن المحرم إذا مات انقطع إحرامه، وبانقطاع
إحرامه يكفن كالحلال، فيخاط كفنه ويغطى رأسه ويطيب.
وقالوا: إن قصة هذا الرجل واقعة عين لا عموم لها فتختص به، ولكن التعليل
بأنه يبعث يوم القيامة ملبيا ظاهر أن هذا عام في كل محرم.
والاصل أن ما ثبت لاحد الافراد من الاحكام يثبت لغيره، ما لم يقم دليل على
التخصيص.
(4) كراهة المغالاة في الكفن: ينبغي أن يكون الكفن حسنا دون مغالاة في
ثمنه، أو أن يتكلف الانسان في ذلك ما ليس من عادته.
قال الشافعي: إن عليا كرم الله وجهه قال: لاتغال لي في كفن، فإني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لاتغالوا في الكفن فإنه يسلب
__________
(1) الدرع: القميص.
(2) الخمار: غطاء الرأس.
(3) تلف فيهما.
(4) وقصته: أي دقت عنقه.
(5) - في ثوبيه: إزاره ورداءه.
(6) تحنطوه: تطيبوه بالحنوط: وهو الطيب الذي يوضع الميت.
(7) تخمروه: تستروه.
(1/519)
سلبا سريعا ".
رواه أبو داود وفي إسناده أبو مالك، وفيه مقال: وعن حذيفة، قال: لاتغالوا
في الكفن، اشتروا لي ثوبين نقيين.
وقال أبو بكر: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهم.
قالت عائشة: إن هذا خلق (1) .
قال: إن الحي أولى بالجديد من الميت. إنما هو للمهلة (2) .
(5) الكفن من الحرير: لا يحل للرجل أن يكفن في الحرير ويحل للمرأة، لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرير والذهب: " إنهما حرام على ذكور،
أمتي حل لاناثها ".
وكره كثير من أهل العلم للمرأة أن تكفن في الحرير لما فيه من السرف، وإضاعة
المال، والمغالاة المنهي عنها، وفرقوا بين كونه زينة لها في حياتها، وكونه
كفنا لها بعد موتها.
قال أحمد: لا يعجبني أن تكفن المرأة في شئ من الحرير.
وكره ذلك الحسن وابن المبارك وإسحق.
قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم.
(6) الكفن من رأس المال: إذا مات الميت وترك مالا، فتكفينه من ماله، فإن لم
يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته، فإن لم يكن له من ينفق عليه، فكفنه من بيت
مال المسلمين، وإلا فعلى المسلمين أنفسهم.
والمرأة مثل الرجل في ذلك.
وقال ابن حزم: وكفن المرأة وحفر قبرها من رأس مالها، ولا يلزم ذلك زوجها،
لان أموال المسلمين محظورة إلا بنص قرآن أو سنة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام "،
وإنما أوجب الله تعالى على الزوج النفقة والكسوة والاسكان، ولا يسمى في
اللغة التي خاطبنا الله تعالى بها الكفن كسوة، ولا القبر إسكانا.
__________
(1) الخلق: غير الجديد.
(2) " المهلة " القيح السائل من الميت.
(1/520)
الصلاة على الميت:
(1) حكمها: من المتفق عليه بين أئمة الفقه، أن
الصلاة على الميت، فرض كفاية، لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بها، ولمحافظة المسلمين عليها.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى
بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه فضلا؟ فإن حدث أنه ترك وفاء
صلى، وإلا، قال للمسلمين: " صلوا على صاحبكم ".
(2) فضلها: 1 - روى الجماعة عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " من تبع جنازة وصلى عليها، فله قيراط (1) .
ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان، أصغرهما مثل أحد " أو (2) " أحدهما
مثل أحد ".
2 - وروى مسلم عن خباب رضي الله عنه، قال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما
يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خرج مع
جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر، كل
قيراط مثل أحد. ومن صلى عليها ثم رجع (3) كان له مثل أحد. " فأرسل ابن عمر
رضي الله عنهما خبابا إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه
فيخبره ما قالت، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة فقال ابن عمر رضي الله
عنهما: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
(3) شروطها: صلاة الجنازة يتناولها لفظ الصلاة، فيشترط فيها الشروط التي
تفر ض في سائر الصلوات المكتوبة من الطهارة الحقيقية والطهارة من الحدث
الاكبر والاصغر واستقبال القبلة وستر العورة.
__________
(1) القيراط 16 / 1 من الدرهم. وقيل في معناه: إن العمل يتجسم على قدر جرم
الجبل المذكور تثقيلا للميزان.
(2) أو: للشك.
(3) في هذا دليل على أنه لا استئذان عند الانصراف من صاحب الجنازة.
(1/521)
روى مالك عن نافع: أن عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما كان يقول: لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر.
وتختلف عن سائر الصلوات المفروضة، في أنه لا يشترط فيها الوقت، بل تؤدى في
جميع الاوقات متى حضرت، ولو في أوقات النهي (1) . عند الاحناف والشافعية.
وكره أحمد وابن المبارك وإسحاق الصلاة على الجنازة وقت الطلوع والاستواء
والغروب، إلا إن خيف عليها التغير.
(4) أركانها: صلاة الجنازة لها أركان تتركب منها حقيقتها ولو ترك منها ركن
بطلت ووقعت غير معتد بها شرعا، نذكرها فيما يلي:
1 - النية لقول الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل
امرئ ما نوى ".
وتقدم حقيقة النية وأن محلها القلب وأن التلفظ بها غير مشروع.
2 - القيام للقادر عليه: وهو ركن عند جمهور العلماء، فلا تصح الصلاة على
الميت لمن صلى عليه راكبا أو قاعدا من غير عذر.
قال في المغني: لا يجوز أن يصلي على الجنائز وهو راكب لانه يفوت القيام
الواجب، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأبي ثور: ولا أعلم فيه خلافا، ويستحب
أن يقبض بيمينه على شماله أثناء القيام كما يفعل في الصلاة، وقيل: لا.
والاول أولى.
3 - التكبيرات الاربع.
لما رواه البخاري ومسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على
النجاشي فكبر أربعا.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع تكبيرات، وهو قول سفيان
ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
رفع اليدين عند التكبير:
والسنة عدم رفع اليدين في صلاة الجنازة، إلا في أول تكبيرة فقط، لانه
__________
(1) يراجع " فقه السنة " بصدد " أوقات النهي ".
(1/522)
لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
رفع في شئ من تكبيرات الجنازة إلا في أول تكبيرة فقط.
قال الشوكاني: بعد ذكر الخلاف ومناقشة أدلة كل: والحاصل أنه لم يثبت في غير
التكبيرة الاولى شئ يصلح للاحتجاج به عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأفعال
الصحابة وأقوالهم لاحجة فيها، فينبغي أن يقتصر على الرفع عند تكبيرة
الاحرام لانه لم يشرع في غيرها، إلا عند الانتقال من ركن إلى ركن كما في
سائر الصلوات، ولا انتقال في صلاة الجنازة.
4 و 5 - قراءة الفاتحة سرا والصلاة والسلام على الرسول (1) ، لما رواه
الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الامام، ثم يقرأ
بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الاولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء في الجنازة في التكبيرات، ولا يقرأ في شئ
منهن، ثم يسلم سرا في نفسه (2) .
قال في الفتح: وإسناده صحيح.
وروى البخاري عن طلحة بن عبد الله قال: صليت مع ابن عباس على جنازة فقرأ
بفاتحة الكتاب، فقال: إنها من السنة.
ورواه الترمذي وقال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم
يختارون أن يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الاولى.
وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق.
وقال بعضهم: لايقرأ في الصلاة على الجنازة، إنما هو الثناء على الله تعالى،
والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، وهو قول الثوري وغيره
من أهل الكوفة.
ومن حجج القائلين بفرضية القراءة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سماها صلاة
بقوله: " صلوا على صاحبكم "، وقال: " لاصلاة لمن لايقرأ بأم القرآن ".
صيغة الصلاة والسلام على رسول الله وموضعها:
وتؤدى الصلاة والسلام على رسول الله بأي صيغة، ولو قال اللهم صل
__________
(1) مذهب أبي حنيفة ومالك أنها لها ركنين وسيأتي كلام الترمذي في ذلك.
(2) رأي الجمهور أن القراءة والصلاة على النبي والدعاء والسلام يسن الاسرار
بها إلا بالنسبة للامام فانه يسن له الجهر بالتكبير والتسليم للاعلام.
(1/523)
على محمد، لكفى.
واتباع المأثور أفضل مثل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كمال باركت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
ويؤتى بها بعد التكبيرة الثانية كما هو الظاهر، وإن لم يرد ما يدل على
تعيين موضعها.
6 - الدعاء: وهو ركن باتفاق الفقهاء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ".
رواه أبو داود والبيهقي وابن حبان وصححه.
ويتحقق بأي دعاء مهما قل، والمستحب فيه أن يدعو بأية دعوة من الدعوات
المأثورة الآتية: 1 - قال أبو هريرة: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الصلاة على الجنازة فقال: " اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت رزقتها،
وأنت هديتها للاسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا
شفعاء له، فاغفر له ذنبه ".
2 - وعن وائلة بن الاسقع قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم على رجل من
المسلمين فسمعته يقول: " اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك، وحبل (1) جوارك.
فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق.
اللهم فاغفر له وارحمه فإنك أنت الغفور الرحيم ".
رواهما أحمد وأبو داود.
3 - عن عوف بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد صلى على
جنازة - يقول: " اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله، ووسع
مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من
الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه،
وقه فتنة القبر وعذاب النار ".
رواه مسلم.
4 - عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة
__________
(1) الذمة: الحفظ، والحبل: العهد.
(1/524)
فقال: " اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا
وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على
الاسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الايمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا
تضلنا بعده ".
رواه أحمد وأصحاب السنن.
فإذا كان المصلى عليه طفلا استحب أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفا
وفرطا وذخرا.
رواه البخاري والبيهقي من كلام الحسن.
قال النووي: وإن كان صبيا أو صبية اقتصر على ما في حديث: " اللهم اغفر
لحينا وميتنا..الخ "، وضم اليه: " اللهم اجعله فرطا لابويه وسلفا وذخرا
وعظة واعتبارا وشفيعا وثقل به موازينهما وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا
تفتنهما بعده، ولاتحرمهما أجره ".
موضع هذه الادعية: قال الشوكاني: وأعلم أنه لم يرد تعيين موضع هذه الادعية
فإذا شاء المصلي جاء بما يختار منها دفعة، إما بعد فراغه من التكبير أو بعد
التكبيرة الاولى أو
الثانية أو الثالثة، أو يفرقه بين كل تكبيرتين، أو يدعو بين كل تكبيرتين
بواحد من هذه الادعية، ليكون مؤديا لجميع ما روي عنه صلى الله عليه وسلم.
قال: والظاهر أنه يدعو بهذه الالفاظ الواردة في هذه الاحاديث، سواء كان
الميت ذكرا، أو أنثى، ولا يحول الضمائر المذكرة إلى صيغة التأنيث، إذا كان
الميت أنثى، لان مرجعها الميت، وهو يقال عن الذكر والانثى.
(7) الدعاء بعد التكبيرة الرابعة: يستحب الدعاء بعد التكبيرة الرابعة، وإن
كان المصلي دعا بعد التكبيرة الثالثة، لما رواه أحمد عن عبد الله بن أبي
أوفى أنه ماتت له ابنة فكبر عليها أربعا، ثم قام بعد الرابعة قدر ما بين
التكبيرتين يدعو.
ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في الجنازة هكذا.
وقال الشافعي: يقول بعدها: اللهم لا تحرمنا أجره، ولاتفتنا بعده.
وقال ابن أبي هريرة: كان المتقدمون يقولون بعد الرابعة: اللهم ربنا آتنا في
الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
(1/525)
(8) السلام: وهو متفق على فرضيته بين
الفقهاء ما عدا أبا حنيفة القائل بأن التسليمتين يمينا وشمالا واجبتان
وليستا ركنين، استدلوا على الفرضية بأن صلاة الجنازة صلاة، وتحليل الصلاة
التسليم.
وقال ابن مسعود: التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة.
وأقله: السلام عليكم، أو سلام عليكم.
وذهب أحمد إلى أن التسليمة الواحدة هي السنة، يسلمها عن يمينه، ولا بأس إن
سلم تلقاء وجهه، استدلالا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفعل الاصحاب
الذين كانون يسلمون تسليمة واحدة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم.
واستحب الشافعي تسليمتين، يبدأ بالاولى ملتفتا إلى يمينه ويختم بالاخرى
ملتفتا إلى يساره، قال ابن حزم: والتسليمة الثانية ذكر وفعل خير.
كيفية الصلاة على الجنازة:
أن يقف المصلي بعد استكمال شروط الصلاة ناويا الصلاة على من حضر من الموتى
رافعا يديه مع تكبيرة الاحرام، ثم يضع يده اليمنى على اليسرى ويشرع في
قراءة الفاتحة، ثم يكبر ويصلي على النبي، ثم يكبر ويدعو للميت، ثم يكبر
ويدعو، ثم يسلم.
موقف الامام من الرجل والمرأة من السنة أن يقوم الامام حذاء رأس الرجل،
ووسط المرأة لحديث أنس، أنه صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه فلما رفعت،
أتي بجنازة امرأة، فصلى عليها فقام وسطها (1) ، فسئل عن ذلك وقيل له: هكذا
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث
قمت؟ قال: نعم.
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه.
قال الطحاوي وهذا أحب إلينا فقد قوته الآثار التي رويناها عن النبي صلى
الله عليه وسلم.
__________
(1) روي أنه كان يقوم عند عجيزتها ولا منافاة بين الروايتين لان العجيزة
يصدق عليه أنها وسط.
(1/526)
الصلاة على أكثر من واحد إذا اجتمع أكثر من
ميت وكانوا ذكورا أو إناثا صفوا واحدا بعد واحد بين الامام والقبلة ليكونوا
جميعا بين يدي الامام ووضع الافضل مما يلي الامام، وصلى عليهم جميعا صلاة
واحدة.
وإن كانوا رجالا ونساء جاز أن يصلي على الرجال وحدهم والنساء وحدهن، وجاز
أن يصلي عليهم جميعا، وصفت الرجال أمام الامام، وجعلت النساء مما يلي
القبلة.
وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل
الرجال مما يلي الامام، وجعل النساء مما يلي القبلة، وصفهم صفا واحدا.
ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر، وابن لها - يقال له زيد - والامام
يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس يومئذ ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو
قتادة.
فوضع الغلام مما يلي الامام قال رجل: فأنكرت ذلك، فنظرت إلى ابن عباس وأبي
هريرة، وأبي سعيد وأبي قتادة.
فقلت: ما هذا؟.
قالوا: هي السنة.
رواه النسائي والبيهقي.
قال الحافظ: وإسناده صحيح.
وفي الحديث: أن الصبي إذا صلي عليه مع امرأة كان الصبي مما يلي الامام،
والمرأة مما يلي القبلة.
وإن كان فيه رجال ونساء وصبيان كان الصبيان مما يلي الرجال.
استحباب الصفوف الثلاثة وتسويتها:
يستحب أن يصف المصلون على الجنازة ثلاثة صفوف (1) وأن تكون مستوية، لما
رواه مالك بن هبيرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مؤمن
يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له "
فكان مالك ابن هبيرة يتحرى إذا قل أهل الجنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف.
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه.
__________
(1) أقل صف اثنان.
(1/527)
قال أحمد: أحب إذا كان فيهم قلة أن يجعلهم
ثلاثة صفوف.
قالوا: فإن كان وراءه أربعة كيف يجعلهم؟ قال: يجعلهم صفين، في كل صف رجلين،
وكره أن يكونوا ثلاثة فيكون في صف رجل واحد.
استحباب الجمع الكثير:
ويستحب تكثير جماعة الجنازة لما جاء عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة. كلهم يشفعون (1)
له إلا شفعوا " (2) رواه أحمد ومسلم والترمذي.
وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجل
مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا، لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم
الله فيه. " رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
المسبوق في صلاة الجنازة:
من سبق في صلاة الجنازة بشئ من التكبير استحب له أن يقضيه متتابعا فإن لم
يقض فلا بأس.
وقال ابن عمر والحسن وأيوب السختياني والاوزاعي: لا يقضي ما فات من تكبير
الجنازة، ويسلم مع الامام.
وقال أحمد: إذا لم يقض لم يبال.
ورجح صاحب المغني هذا المذهب فقال: ولنا قول ابن عمر، ولم يعرف له في
الصحابة مخالف.
وقد روي عن عائشة أنها قالت: " يا رسول الله إني أصلي على الجنازة ويخفى
علي بعض التكبير.
قال: " ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك " وهذا صريح.
ولانها تكبيرات متواليات فلا يجب ما فاته منها كتكبيرات العيدين.
من يصلى عليهم ومن لا يصلى عليهم:
اتفق الفقهاء على أن يصلى على المسلم ذكرا كان أم أنثى، صغيرا كان أم كبيرا
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته
__________
(1) يخلصون له الدعاء ويسألون له المغفرة.
(2) قبلت شفاعتهم.
(1/528)
واستهل يصل عليه (1) .
فعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الراكب خلف
الجنازة، والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها، والسقط يصلى
عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة " رواه أحمد وأبو داود.
وقال فيه: " والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها ويسارها قريبا منها.
" وفي رواية: " الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه
" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
الصلاة على السقط (2) السقط إذا لم يأت عليه أربعة أشهر فإنه لا يغسل.
ولا يصلى عليه، ويلف في خرقة، ويدفن من غير خلاف بين جمهور الفقهاء.
فإن أتى عليه أربعة أشهر فصاعدا واستهل غسل وصلي عليه باتفاق.
فإذا لم يستهل فإنه لا يصلى عليه عند الاحناف ومالك والاوزاعي والحسن، لما
رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه والبيهقي عن جابر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: " إذا استهل السقط صلي عليه وورث " ففي الحديث اشتراط
الاستهلال في الصلاة عليه.
وذهب أحمد وسعيد وابن سيرين وإسحاق إلى أنه يغسل ويصلى عليه للحديث
المتقدم.
وفيه: " والسقط يصلى عليه " ولانه نسمة نفخ فيه الروح، فيصلى عليه
كالمستهل.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ينفخ فيه الروح لاربعة أشهر،
وأجابوا عما استدل به الاولون بأن الحديث مضطرب.
وبأنه معارض بما هو أقوى منه، فلا يصلح للاحتجاج به.
الصلاة على الشهيد الشهيد هو الذي قتل في المعركة بأيدي الكفار.
وقد جاءت الاحاديث الصحيحة المصرحة بأنه لا يصلى عليه.
1 - روى البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن
__________
(1) الاستهلال: الصياح أو العطاس أو حركة يعلم بها حياة الطفل.
(2) السقط: الولد ينزل من بطن أمه قبل مدة الحمل وبعد تبين خلقه.
(1/529)
شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم ولم يصل
عليهم.
2 - وروى أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس: أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا
بدمائهم، ولم يصل عليهم.
وجاءت أحاديث أخرى صحيحة مصرحة بأنه يصلى عليه:
1 - روى البخاري عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما
فصلى على أهل أحد صلاته على الميت بعد ثمان سنين كالمودع للاحياء والاموات.
2 - وعن أبي مالك الغفاري قال: كان قتلى أحد يؤتى منهم بتسعة وعاشرهم حمزة،
فيصلي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة فيصلي
عليهم، وحمزة مكانه حتى صلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه البيهقي وقال: هو أصح ما في الباب. وهو مرسل.
وقد اختلفت آراء الفقهاء تبعا لاختلاف هذه الاحاديث، فأخذ بعضهم بها جميعا،
ورجح بعضهم بعض الروايات على بعض.
فممن ذهب مذهب الاخذ بها كلها " ابن حزم " فجوز الفعل والترك قال: فإن صلي
عليه فحسن.
وإن لم يصل عليه فحسن. وهو إحدى الروايات عن أحمد، واستصوب هذا الرأي ابن
القيم فقال: والصواب في المسألة انه مخير بين الصلاة عليهم وتركها لمجئ
الآثار بكل واحد من الامرين، وهذه إحدى الروايات عن أحمد، وهو الاليق بأصول
مذهبه.
قال: والذي يظهر من أمر شهداء أحد: أنه لم يصل عليهم عند الدفن.
وقد قتل معه بأحد سبعون نفسا، فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم.
وحديث جابر بن عبد الله في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح وأبوه عبد الله أحد
القتلى يومئذ.
فله من الخبرة ما ليس لغيره، ويرجح أبو حنيفة والثوري والحسن وابن المسيب
روايات الفعل.
فقالوا بوجوب الصلاة على الشهيد.
ورجح مالك والشافعي وإسحاق وإحدى الروايات عن أحمد العكس وقالوا بأنه لا
يصلى عليه.
قال الشافعي في " الام " مرجحا ما ذهب إليه: جاءت الاخبار كأنها عيان من
وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، وما روي
أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة
(1/530)
لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه
الاحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه.
قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث: أن ذلك كان بعد ثمان
ستين.
قال: وكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعا
لهم، بذلك، ولا يدل على نسخ الحكم الثابت.
من جرح في المعركة وعاش حياة مستقرة من جرح في المعركة وعاش حياة مستقرة ثم
مات، يغسل ويصلى عليه.
وإن كان يعتبر شهيدا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غسل سعد بن معاذ، وصلى
عليه بعد أن مات بسبب إصابته بسهم قطع أكحله (1) فحمل إلى المسجد فلبث فيه
أياما ثم انفتح جرحه فمات شهيدا رحمه الله.
فإن عاش عيشة غير مستقرة فتكلم أو شرب ثم مات، فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه.
قال في المغني.
وفي فتوح الشام: إن رجلا قال: أخذت ماء لعلي أسقي به ابن عمي إن وجدت به
حياة. فوجدت الحارث بن هشام. فأردت أن أسقيه. فإذا رجل ينظر إليه، فأومأ لي
أن أسقيه، فذهبت إليه لاسقيه، فإذا رجل ينظر إليه، فأومأ لي أن أسقيه،
فذهبت إليه لاسقيه، فإذا آخر ينظر إليه. فأومأ لي أن أسقيه حتى ماتوا كلهم.
ولم يفرد أحد منهم بغسل ولا صلاة، وقد ماتوا بعد انقضاء الحرب.
الصلاة على من قتل في حد من قتل في حد غسل وصلي عليه، لما رواه البخاري عن
جابر: أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا،
فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال: " أبك جنون؟ " قال: لا.
قال: " أحصنت (2) ؟ " قال: نعم.
فأمر به فرجم بالمصلى (3) فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات.
فقال له - أي عنه - النبي صلى الله عليه وسلم خيرا
__________
(1) الاكحل: عرق في اليد.
(2) أحصنت: أي تزوجت.
(3) المصلى: المكان الذي كان يصلى فيه العيد.
(1/531)
وصلى عليه.
وقال أحمد: ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد إلا
على الغال وقاتل نفسه.
الصلاة على الغال وقاتل نفسه وسائر العصاة ذهب جمهور العلماء إلى أنه يصلى
على الغال (1) وقاتل نفسه وسائر العصاة قال النووي: قال القاضي " مذهب
العلماء كافة: الصلاة على كل مسلم
ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا " وما روي أنه صلى الله عليه وسلم لم
يصل على الغال وقاتل نفسه.
فلعله للزجر عن هذا الفعل كما امتنع عن الصلاة على المدين وأمرهم بالصلاة
عليه.
قال ابن حزم: ويصلى على كل مسلم، بر، أو فاجر، مقتول في حد أو حرابة أو في
بغي، ويصلي عليهم الامام وغيره، وكذلك على المبتدع ما لم يبلغ الكفر وعلى
من قتل نفسه وعلى من قتل غيره.
ولو أنه شر من على ظهر الارض، إذا مات مسلما، لعموم أمر النبي صلى الله
عليه وسلم بقوله: " صلوا على صاحبكم " والمسلم صاحب لنا، قال تعالى: (إنما
المؤمنون إخوة) وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض) فمن
منع الصلاة على مسلم، فقد قال قولا عظيما، وإن الفاسق لاحوج إلى دعاء
إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم!! وصح أن رجلا مات بخيبر، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " صلوا على صاحبكم إنه قد غل في سبيل الله " قال:
ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا لا يساوي درهمين.
وصح عن عطاء أنه يصلى على ولد الزنا، وعلى أمه، وعلى المتلاعنين، وعلى الذي
يقاد منه (2) ، وعلى المرجوم، وعلى الذي يفر من الزحف فيقتل.
قال عطاء: لا أدع الصلاة على من قال: " لا إله إلا الله " قال تعالى: (من
بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) .
وصح عن إبراهيم النخعي أنه قال: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد
__________
(1) الغال: الذي سرق من الغنيمة قبل القسمة.
(2) يقاد منه: أي يقتص منه.
(1/532)
من أهل القبلة، والذي قتل نفسه يصلى عليه،
وأنه قال: السنة أن يصلى على المرجوم.
وصح عن قتادة أنه قال: ما أعلم أحدا من أهل العلم اجتنب الصلاة عمن قال "
لا إله إلا الله "، وصح عن ابن سيرين: ما أدركت أحدا يتأثم من الصلاة على
أحد من أهل القبلة.
وعن أبي غالب: قلت لابي أمامة الباهلي: الرجل يشرب الخمر، أيصلى عليه؟ قال:
نعم.
لعله اضطجع مرة على فراش فقال " لا إله إلا الله " فغفر له.
وصح عن الحسن أنه قال: يصلى على من قال: " لا إلا إلا الله " وصلى إلى
القبلة.
إنما هي شفاعة.
الصلاة على الكافر:
لا يجوز لمسلم أن يصلي على كافر، لقول الله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم
مات أبدا، ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله) وقال: (ما كان للنبي
والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم
أنهم أصحاب الجحيم.
وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه
عدو الله تبرأ منه) .
وكذلك لا يصلى على أطفالهم لان لهم حكم آبائهم إلا من حكمنا بإسلامه بأن
يسلم أحد أبويه أو يموت أو يسبى منفردا من أبويه أو من أحدهما.
فإنه يصلى عليه.
الصلاة على القبر:
تجوز الصلاة على الميت بعد الدفن في أي وقت، ولو صلي عليه قبل دفنه، وقد
تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين.
وعن زيد بن ثابت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وردنا
البقيع إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه؟ فقيل: فلانة، فعرفها، فقال: " ألا
آذنتموني (1) بها؟ " قالوا: يارسول الله، كنت قائلا (2) صائما، فكرهنا أن
__________
(1) آذنتموني: أي أعلمتموني. في هذا دليل على جواز إعادة الصلاة على الميت
لمن فاتته الصلاة عليه.
(2) قائلا: من القيلولة وهو النوم وقت الظهيرة.
(1/533)
نؤذيك.
فقال: " لا تفعلوا، لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به
فإن صلاتي عليه رحمة.
" ثم أتى القبر فصفنا خلفه وكبر عليه أربعا. رواه أحمد والنسائي والبيهقي
والحاكم وابن حبان وصححاه.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم،
وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق، وفي الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم
صلى على القبر بعد ما صلى عليها أصحابه قبل الدفن، لانهم ما كانوا ليدفنوها
قبل الصلاة عليها.
وفي صلاة الاصحاب معه على القبر ما يدل على أن ذلك ليس خاصا به صلوات الله
عليه.
قال ابن القيم: ردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: " لا تجلسوا على
القبور، ولا تصلوا إليها " وهذا حديث صحيح، والذي قاله هو الذي صلى على
القبر فهذا قوله وهذا فعله، ولا يناقض أحدهما الاخر، فإن الصلاة المنهي
عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر، فهذه صلاة الجنازة على الميت
التي لا تختص بمكان، بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه، فالصلاة
عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه، فإنه المقصود بالصلاة في
الموضعين، ولا فرق بين كونه على النعش، وعلى الارض وبين كونه في بطنها
بخلاف سائر الصلوات، فإنها لم تشرع في القبور، ولا إليها لانها ذريعة إلى
اتخاذها مساجد، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك، فأين ما
لعن فاعله وحذر منه؟ وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال: " إن من شرار الناس
من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " إلى ما فعله صلى
الله عليه وسلم مرارا متكررة.
الصلاة على الغائب:
تجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر، سواء أكان البلد قريبا أم بعيدا،
فيستقبل المصلي القبلة، وإن لم يكن البلد الذي به الغائب جهة القبلة، ينوي
الصلاة عليه، ويكبر ويفعل مثل ما يفعل في الصلاة على الحاضر، لما رواه
الجماعة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في
اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف أصحابه وكبر أربع تكبيرات
(1/534)
قال ابن حزم: ويصلى على الميت الغائب بإمام
وجماعة، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على " النجاشي " رضي الله
عنه، ومات بأرض الحبشة، وصلى معه أصحابه صفوفا، وهذا إجماع منهم لا يجوز
تعديه.
وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك، وليس لهما حجة يمكن أن يعتد بها.
الصلاة على الميت في المسجد:
لا بأس بالصلاة على الميت في المسجد، إذا لم يخش تلويثه، لما رواه مسلم عن
عائشة قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في
المسجد.
وصلى الصحابة على أبي بكر وعمر في المسجد بدون إنكار من أحد لانها صلاة
كسائر الصلوات.
وأما كراهة ذلك عند مالك وأبي حنيفة استدلالا بقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له (1) " فهي معارضة بفعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه من جهة، ولضعف الحديث من جهة
أخرى.
قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف، تفرد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف.
وصحح العلماء هذا الحديث فقالوا: إن الذي في النسخ الصحيحة المشهورة من سنن
أبي داود يلفظ: " فلا شئ عليه " أي من الوزر.
قال ابن القيم: ولم يكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الراتب الصلاة
على الميت في المسجد.
وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد، إلا لعذر، وربما صلى أحيانا على
الميت كما صلى على ابن بيضاء، وكلا الامرين جائز، والافضل الصلاة عليها
خارج المسجد.
الصلاة على الجنازة وسط القبور:
كره الجمهور الصلاة على الجنازة في المقبرة بين القبور.
روي ذلك عن علي وعبد الله بن عمرو وابن عباس.
وإليه ذهب عطاء والنخعي والشافعي وإسحق وابن المنذر، لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " الارض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام ".
__________
(1) أي لا شئ له من الثواب.
(1/535)
وفي رواية لاحمد: أنه لا بأس بها، لان
النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وهو في المقبرة.
وصلى أبو هريرة على عائشة وسط قبور البقيع.
وحضر ذلك ابن عمر وفعله عمر بن عبد العزيز.
جواز صلاة النساء على الجنازة يجوز للمرأة أن تصلي على الجنازة مثل الرجل،
سواء أصلت منفردة أو صلت مع الجماعة: فقد انتظر عمر أم عبد الله حتى صلت
على عتبة.
وأمرت عائشة أن يؤتى بسعد بن أبي وقاص لتصلي عليه.
وقال النووي: وينبغي أن تسن لهن الجماعة كما في غيرها، وبه قال الحسن بن
صالح وسفيان الثوري وأحمد والاحناف، وقال مالك: يصلين فرادى.
أولى الناس بالصلاة على الميت:
اختلف الفقهاء فيمن هو أولى وأحق بالامامة في صلاة الجنازة.
فقيل: أحق الناس الوصي، ثم الامير، ثم الاب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم
أقرب العصبة، وإلى هذا ذهبت المالكية والحنابلة، وقيل: الاولى الاب، ثم
الجد، ثم ابن ثم ابن الابن، ثم الاخ، ثم ابن الاخ، ثم العم، ثم ابن العم
على ترتيب العصبات.
وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف.
ومذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن أن الاولى: الوالي إن حضر، ثم القاضي، ثم
إمام الجهة، ثم ولي المرأة الميت، ثم الاقرب فالاقرب على ترتيب العصبة، إلا
الاب فإنه يقدم على الابن إذا اجتمعا.
حمل الجنازة والسير بها يشرع في حمل الجنازة والسير بها أمور نذكرها فيما
يلي: 1 - يشرع تشييع الجنازة وحملها، والسنة أن يدور على النعش، حتى يدور
على جميع الجوانب.
روى ابن ماجه والبيهقي وأبو داود الطيالسي عن ابن مسعود.
قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من
(1/536)
السنة (1) ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء
فليدع.
وعن أبي سعيد: أن النبي قال: " عودوا المريض، وامشوا مع الجنازة تذكركم
الاخرة " رواه أحمد ورجاله ثقات.
2 - الاسراع بها، لما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه،
وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ".
وروى أحمد والنسائي وغيرهما عن أبي بكرة قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا (2) .
وروى البخاري في التاريخ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع حتى تقطعت
نعالنا يوم مات سعد بن معاذ.
قال في الفتح: والحاصل أنه يستحب الاسراع بها، لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة
يخاف معها حدوث مفسدة الميت أو مشقة على الحامل أو المشيع لئلا يتنافى
المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم.
وقال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن.
لان التباطؤ ربما أدى إلى التباهي والاختيال.
3 - المشي أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو شمالها قريبا منها، وقد اختلف
العلماء في أيهما.
فاختار الجمهور وأكثر هل العلم المشي أمامها وقالوا: إنه الافضل، لان
الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمامها.
رواه أحمد وأصحاب السنن.
ويرى الاحناف أن الافضل للمشيع أن يمشي خلفها، لان ذلك هو المفهوم من أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنازة، والمتبع هو الذي يمشي خلف.
ويرى أنس بن مالك أن ذلك كله سواء.
لما تقدم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الراكب يسير خلف الجنازة،
والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها ".
والظاهر ان الكل واسع، وأنه من الخلاف المباح الذي ينبغي التساهل فيه.
فعن عبد الرحمن بن أبزى: أن أبا بكر وعمر كانا يمشيان أمام الجنازة وكان
__________
(1) قول الصحابي: من السنة كذا يعطي حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه
وسلم.
(2) الرمل: المشي السريع مع هز الكتفين.
(1/537)
علي يمشي خلفها، فقيل لعلي: إنهما يمشيان
أمامها.
فقال: إنهما يعلمان أن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها، كفضل صلاة الرجل
في جماعة على صلاته فذا، ولكنهما سهلان يسهلان للناس.
رواه البيهقي وابن أبي شيبة.
قال الحافظ: وسنده حسن.
وأما الركوب عند تشييع الجنازة فقد كرهه الجمهور إلا لعذر، وأجازوه بعد
الانصراف بدون كراهة.
لحديث ثوبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن
يركبها، فلما انصرف أتي بدابة فركب، فقيل له، فقال: " إن الملائكة كانت
تمشي، فلم أكن لاركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت " رواه أبو داود والبيهقي
والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على
فرس.
رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
ولا يعارض القول بالكراهة ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم " الراكب
يمشي خلفها " فإنه يمكن أن يكون لبيان الجواز مع الكراهة.
ويرى الاحناف أنه لا بأس بالركوب، وإن كان الافضل المشي إلا من عذر، والسنة
للراكب أن يكون خلف الجنازة للحديث المتقدم.
قال الخطابي في الراكب: لا أعلمهم اختلفوا في أنه يكون خلفها.
ما يكره مع الجنازة:
يكره في الجنازة الاتيان بفعل من الافعال الاتية:
1 - رفع الصوت بذكر أو قراءة أو غير ذلك.
قال ابن المنذر: روينا عن قيس بن عباد أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث: عند الجنائز، وعند الذكر، وعند
القتال.
وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والنخعي وأحمد وإسحاق قول القائل
خلف الجنازة: استغفروا له.
قال الاوزاعي: بدعة.
قال فضيل بن عمرو: بينا ابن عمر في جنازة إذ سمع قائلا يقول: استغفروا له
غفر الله له.
فقال ابن عمر: لا غفر الله لك.
وقال النووي: واعلم ان الصواب ما كان عليه السلف من السكوت حال
(1/538)
السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة،
ولا ذكر ولا غيرهما، لانه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة،
وهو المطلوب في هذا الحال.
فهذا هو الحق ولا تغتر بكثرة ما يخالفه، وأما ما يفعله الجهلة من القراءة
على الجنازة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضعه فحرام بالاجماع.
وللشيخ محمد عبده فتوى في رفع الصوت بالذكر قال فيها: وأما الذكر جهرا أمام
الجنازة ففي " الفتح " في باب الجنائز يكره للماشي أمام الجنازة رفع الصوت
بالذكر، فإن أراد أن يذكر الله فليذكره في نفسه. وهذا أمر محدث لم يكن في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعين ولا تابعيهم، فهو
مما يلزم منعه.
2 - أن تتبع بنار، لان ذلك من أفعال الجاهلية.
قال ابن المنذر: يكره ذلك كل من يحفظ عنه من أهل العلم.
قال البيهقي: وفي وصية عائشة وعبادة بن الصامت وأبي هريرة، وأبي سعيد
الخدري وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم: أن لا تتبعوني بنار.
وروى ابن ماجه: أن أبا موسى الاشعري حين حضره الموت قال:
لا تتبعوني بمجمر (1) .
قالوا: أو سمعت فيه شيئا؟ قال: نعم من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
فإن كان الدفن ليلا واحتاجوا إلى ضوء فلا بأس به، وقد روى الترمذي عن ابن
عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج.
وقال: حديث ابن عباس حديث حسن.
3 - قعود المتبع لها قبل أن توضع على الارض.
قال البخاري: من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال.
فإن قعد أمر بالقيام.
ثم روى عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا.
فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع ".
وروى عن سعيد المقبري عن أبيه قال: كنا في جنازة.
فأخذ أبو هريرة رضي الله عنه بيد مروان فجلسا قبل أن توضع، فجاء أبو سعيد
رضي الله عنه فأخذ بيد مروان
__________
(1) المجمر: على وزن متبر: ما يوضع فيه الجمر والبخور.
(2) في اسناده أبو حريز مولى معاوية وهو مجهول.
(1/539)
فقال: قم.
فوالله لقد علم هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك، فقال أبو
هريرة: صدق.
رواه الحاكم.
وزاد: أن مروان لما قال له أبو سعيد: قم، قام.
ثم قال له: لم أقمتني؟ فذكر له الحديث.
فقال لابي هريرة: فما منعك أن تخبرني؟ فقال: كنت إماما فجلست فجلست.
وهذا مذهب أكثر الصحابة والتابعين والاحناف والحنابلة والاوزاعي وإسحاق.
وقالت الشافعية: لا يكره الجلوس لمشيعها قبل وضعها على الارض.
واتفقوا على أن من تقدم الجنازة فلا بأس أن يجلس قبل أن تنتهي إليه.
قال الترمذي: روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وغيرهم أنهم كانوا يتقدمون الجنازة ويقعدون قبل أن تنتهي إليهم، وهو قول
الشافعي.
فإذا جاءت وهو جالس لم يقم لها.
وعن أحمد قال: إن قام لم أعبه، وإن قعد فلا بأس.
4 - القيام لها عندما تمر: لما رواه أحمد عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ.
قال: شهدت جنازة في بني سلمة، فقمت فقال لي نافع بن جبير: اجلس فإني سأخبرك
في هذا بثبت (1) .
حدثني مسعود بن الحاكم الزرقي أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة.
ثم جلس بعد ذلك: وأمرنا بالجلوس.
ورواه مسلم بلفظ: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم قام فقمنا، فقعد فقعدنا.
يعني في الجنازة، قال الترمذي: حديث علي حسن صحيح وفيه أربعة من التابعين
بعضهم عن بعض، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم.
قال الشافعي: وهذا أصح شئ في هذا الباب.
وهذا الحديث ناسخ للحديث الاول: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا ".
وقال أحمد: إن شاء قام وإن شاء لم يقم، واحتج بان النبي صلى الله عليه وسلم
قد روي عنه أنه قام ثم قعد.
وهكذا قال إسحق بن إبراهيم.
ووافق أحمد وإسحق ابن حبيب وابن الماجشون من المالكية.
قال النووي: والمختار: إن القيام مستحب، وبه قال المتولي وصاحب المذهب.
__________
(1) ثبت: حجة.
(1/540)
قال ابن حزم: ويستحب القيام للجنازة إذا
رآها المرء.
وإن كانت جنازة كافر حتى توضع أو تخلفه، فإن لم يقم فلا حرج.
استدل القائلون بالاستحباب
بما رواه الجماعة عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع " ولاحمد: وكان
ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى تجاوزه.
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن حنيف وقيس بن سعد أنهما كانا قاعدين
بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما.
فقيل لهما: إنها من أهل الارض - أي من أهل الذمة - فقالا: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام.
فقيل له: إنها جنازة يهودي.
فقال: " أو ليست نفسا ".
وللبخاري عن أبي ليلى قال: كان ابن مسعود وقيس يقومان للجنازة.
والحكمة في القيام، ما جاء في رواية أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد
الله بن عمرو مرفوعا " إنما تقومون إعظاما للذي يقبض النفوس "، ولفظ ابن
حبان " إعظاما لله تعالى الذي يقبض الارواح ".
وجملة القول: إن العلماء اختلفوا في هذه المسألة فمنهم من ذهب إلى القول
بكراهة القيام للجنازة، ومنهم من ذهب إلى استحبابه، ومنهم من رأى التخيير
بين الفعل والترك، ولكل حجته ودليله.
والمكلف إزاء هذه الاراء له أن يتخير منها ما يطمئن له قلبه.
والله أعلم.
5 - اتباع النساء لها: لحديث أم عطية قالت: نهينا أن نتبع الجنائز، ولم
يعزم (1) علينا.
رواه أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه.
وعن عبد الله ابن عمرو قال: بينما نحن نمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ
بصر بامرأة
__________
(1) أي لم يوجب علينا. قال الحافظ في الفتح: " ولم يعزم علينا " أي لم يؤكد
علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت كره لنا
اتباع الجنائز من غير تحريم.
وقال القرطبي: ظاهر سياق أم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل
العلم، ومال مالك إلى الجواز، وهو قول أهل المدينة، ويدل على الجواز ما
رواه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء
عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، ورأى عمر
امرأة فصاح بها، فقال: " دعها يا عمر.." الحديث: وأخرجه ابن ماجه والنسائي
من هذا الوجه ومن طريق أخرى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الازرق عن
أبي هريرة.
ورجاله ثقات. وقال المهلب: في حديث أم عطية دلالة على أن النهي من الشارع
على درجات. ا. هـ
.
(1/541)
لا نظن أنه عرفها، فلما توجهنا إلى الطريق
وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة رضي الله عنها.
فقال: " ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟ " قالت: أتيت أهل هذا البيت، فرحمت
إليهم ميتهم، وعزيتهم.
فقال: " لعلك بلغت معهم الكدى (1) ؟ " قالت: معاذ الله أن أكون قد بلغتها
معهم وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر.
قال: لو بلغتها ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك " رواه أحمد والحاكم
والنسائي والبيهقي، وقد طعن العلماء في هذا الحديث وقالوا إنه غير صحيح لان
في سنده ربيعة بن سيف وهو ضعيف الحديث، عنده مناكير.
وروى ابن ماجه والحاكم عن محمد بن الحنفية عن علي رضى الله عنه.
قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس، فقال: " ما يجلسكن؟ "
قلن: ننتظر الجنازة قال: " هل تغلسن؟ " قلن: لا.
قال: " هل تحملن؟ " قلن: لا.
قال: " هل تدلين (2) فيمن يدلي؟ " قلن: لا.
قال: " فارجعن مأزورات (3) غير مأجورات ".
وفي إسناده دينار بن عمر، قال أبو حاتم: ليس بالمشهور.
وقال الازدي: متروك.
وقال الخليلي في الارشاد: كذاب.
وهذا مذهب ابن مسعود وابن عمر وأبو أمامة وعائشة ومسروق والحسن والنخعي
والاوزاعي وإسحاق والحنفية والشافعية والحنابلة.
وعند مالك: أنه لا يكره خروج عجوز لجنازة مطلقا، ولا خروج شابة في جنازة من
عظمت مصيبته عليها بشرط أن تكون مستترة ولا يترتب على خروجها فتنة.
ويرى ابن حزم أن ما استدل به الجمهور غير صحيح، وأنه يصح للنساء اتباع
الجنازة.
فيقول: ولا نكره اتباع النساء الجنازة، ولا نمنعهن من ذلك.
جاءت في النهي عن ذلك آثار ليس شئ منها يصح، لانها إما مرسلة، وإما عن
مجهول.
وإما عمن لا يحتج به.
ثم ذكر حديث أم عطية المتقدم وقال فيه: لو صح مسندا لم يكن فيه حجة، بل كان
يكون كراهة فقط، بل قد صح خلافه كما روينا من طريق
__________
(1) الكدى: القبور.
(2) تنزلن الميت في القبر.
(3) مأزورات: آثمات.
(1/542)
شعبة: عن وكيع عن هشام بن عروة، عن وهب بن
كيسان عن محمد بن عمرو ابن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان في جنازة، فرأى عمر امرأة، فصاح بها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعها يا عمر.
فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب (1) ".
قال: وقد صح عن ابن عباس أنه لم يكره ذلك.
ترك الجنازة من أجل المنكر:
قال صاحب المغني: فإن كان مع الجنازة منكر يراه أو يسمعه، فإن قدر على
إنكاره وإزالته أزاله، وإن لم يقدر على إزالته ففيه وجهان: أحدهما ينكره
ويتبعها فيسقط فرضه بالانكارو لا يترك حقا لبالطل.
والثاني يرجع لانه يؤدي إلى استماع محظور ورؤيته مع قدرته على ترك ذلك.
الدفن:
(1) حكمه: أجمع المسلمون على أن دفن الميت ومواراة بدنه فرض كفاية، قال
الله تعالى: (ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا) .
يرى جمهور العلماء أن الدفن بالليل كالدفن بالنهار سواء بسواء.
فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر
ليلا، ودفن علي فاطمة رضي الله عنها ليلا، وكذلك دفن أبو بكر وعثمان وعائشة
وابن مسعود.
وعن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له بسراج
فأخذه من قبل القبلة وقال: " رحمك الله.
إن كنت لاواها تلاء للقرآن " وكبر عليه أربعا.
رواه الترمذي وقال: حديث حسن قال: ورخص أكثر أهل العلم في الدفن بالليل.
وإنما يجوز ذلك إذا كان لا يفوت بالدفن ليلا شئ من حقوق الميت
__________
(1) إسناد هذا الحديث صحيح.
(1/543)
والصلاة عليه.
فإذا كان يفوت به حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام بأمره، فقد نهى الشارع
عن الدفن بالليل وكرهه، روى مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما
فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل ودفن ليلا، فزجر النبي صلى
الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك.
وروى ابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدفنوا
موتاكم بالليل إلا أن تضطروا ".
(3) الدفن وقت الطلوع والاستواء والغروب:
اتفق العلماء على أنه إذا خيف تغير الميت فإنه يدفن في هذه الاوقات الثلاثة
بدون كراهة.
أما إذا لم يخش عليه من التغير، فإنه يجوز دفنه في هذه الاوقات عند الجمهور
ما لم يتعمددفنه فيها فإنه حينئذ يكون مكروها، لما رواه أحمد ومسلم وأصحاب
السنن عن عقبة قال: " ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن
نصلي فيها أو نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم
قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف (1) الشمس للغروب حتى تغرب ".
وقالت الحنابلة يكره الدفن في هذه الاوقات مطلقا للحديث المذكور.
(4) استحباب إعماق القبر: القصد من الدفن أن يوارى الميت في حفرة تحجب
رائحته، وتمنع السباع والطيور عنه، وعلى أي وجه تحقق هذا المقصود تأدى به
الفرض وتم به الواجب، إلا أنه ينبغي تعميق القبر قدر قامة، لما رواه
النسائي والترمذي وصححه عن هشام بن عامر.
قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
فقلنا: يا رسول الله، الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " احفروا، وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر
واحد " فقالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: " قدموا أكثرهم قرآنا " وكان
أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد..
__________
(1) تضيف: تميل وتجنح.
(1/544)
وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر أنه
قال: أعمقوا إلى قدر قامة وبسطة.
وعند أبي حنيفة وأحمد يعمق قدر نصف القامة. وإن زاد فحسن.
(5) تفضيل اللحد على الشق:
اللحد هو الشق في جانب القبر جهة القبلة، ينصب عليه اللبن (1) فيكون كالبيت
المسقف.
والشق حفرة في وسط القبر تبنى جوانبها باللبن يوضع فيه الميت ويسقف عليه
بشئ، وكلاهما جائز، إلا أن اللحد أولى، لما رواه أحمد وابن ماجه عن أنس
قال: " لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد، وآخر يضرح،
فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيما سبق تركناه، فأرسلوا إليهما، فسبق
صاحب اللحد، فلحدوا له ".
وهذا يدل على الجواز.
أما ما يدل على أولوية اللحد، فما رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي عن
ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللحد لنا، والشق لغيرنا ".
(6) صفة إدخال الميت القبر: من السنة في إدخال الميت القبران يدخل من مؤخره
إذا تيسر، لما رواه أبو داود وابن أبي شيبة والبيهقي من حديث عبد الله بن
زيد: أنه أدخل ميتا من قبل رجليه القبر وقال: هذا من السنة.
فان لم يتسر فكيفما أمكن.
قال ابن حزم: ويدخل الميت القبر كيف أمكن، إما من القبلة، وامامن دبر
القبلة، واما من قبل رأسه.
واما من قبل رجليه، إذ لانص في شئ من ذلك.
(7) استحباب توجيه الميت في قبره الى القبلة والدعاء له وحل أربطة الكفن:
السنة التي جرى عليها العلم، ان يجعل الميت في قبره على جنبه الايمن ووجهه
تجاه القبلة.
ويقول واضعه: " بسم الله وعلى ملة رسول الله، أو وعلى سنة رسول الله " ويحل
أربطة الكفن.
فعن ابن عمر - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا وضع الميت في
القبر، قال: " بسم الله وعلى ملة رسول الله، أو، وعلى سنة رسول الله " رواه
أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه،
__________
(1) اللبن: الطوب النئ.
(1/545)
ورواه النسائي مسندا وموقوفا.
(8) كراهة الثوب في القبر: كره جمهور الفقهاء وضع ثوب أو وسادة أو نحو ذلك
للميت في القبر.
ويرى ابن حزم أنه لا بأس ببسط ثوب في القبر تحت الميت، لما رواه مسلم عن
ابن عباس، قال: بسط في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء، قال
وقد ترك الله هذا العمل في دفن رسوله المعصوم من الناس ولم يمنع منه، وفعله
خيرة أهل الارض في ذلك الوقت باجماع منهم، لم ينكره احد منهم.
واستحب العلماء أن يوسد رأس الميت بلبنة أو حجر أو تراب، ويفضى بخده الايمن
إلى اللبنة ونحوها، بعد ان ينحى الكفن عن خده، ويوضع على التراب، قال عمر:
إذا انزلتموني الى اللحد فأفضوا بخدي الى التراب.
واوصى الضحاك ان تحل عنه العقد ويبرز خده من الكفن، واستحبوا ان يوضع شئ
خلفه من لبن أو تراب يسنده، لا يستلقى على قفاه.
واستحب أبو حنيفة ومالك واحمد، أن يمد ثوب على المرأة عند إدخالها في القبر
دون الرجل، واستحب الشافعية ذلك في الرجل والمرأة على السواء.
(9) استحباب ثلاث حثيات على القبر: ويستحب أن يحثو من شهد الدفن ثلاث حثيات
بيديه على القبر من جهة رأس الميت، لما رواه ابن ماجه: " ان النبي صلى الله
عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا "
واستحب الائمة الثلاثة أن يقول في الحثية الاولى: " منها خلقناكم " وفي
الثانية: " وفيها نعيدكم " وفي الثالثة: " ومنها نخرجكم تارة أخرى " لما
روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ذلك لما وضعت أم كلثوم بنته في القبر.
وقال أحمد: لا يطلب قراءة شئ عند حثو التراب لضعف الحديث.
(10) استحباب الدعاء للميت بعد الفراغ من الدفن: يستحب الاستغفار للميت عند
الفراغ من دفنه وسؤال التثبيت له، لانه يسأل في هذه الحالة.
فعن عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف
عليه، فقال: " استغفر والاخيكم وسلواله التثبيت فانه الآن يسأل " رواه أبو
داود والحاكم وصححه، والبزار وقال: لا يروى عن النبي صلى الله
(1/546)
عليه وسلم إلا من هذا الوجه.
وروى رزين عن علي: أنه كان إذا فرغ من دفن الميت قال: اللهم هذا عبدك نزل
بك واتت خير منزول به فاغفر له ووسع مدخله.
واستحب ابن عمر قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن.
رواه البيهقي بسند حسن.
(11) حكم التلقين بعد الدفن: استحب بعض أهل العلم والشافعي ان يلقن الميت
(1) بعد الدفن، لما رواه سعيد بن منصور عن راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب،
وحكيم بن عمير (2) قالوا: إذا سوي على الميت قبره، وانصرف الناس عنه كانوا
يستحبون ان يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لاإله إلا الله، أشهد ان لا
إله إلا الله " ثلاث مرات " يا فلان قل: ربي الله، وديني الاسلام، ونبيي
محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ينصرف.
وقد ذكر هذا الاثر الحافظ في التلخيص وسكت عنه.
وروى الطبراني من حديث أبي أمامة أنه قال: " إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم
التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه
يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فانه يستوي قاعدا. ثم يقول: يا
فلان بن فلانة.
فانه يقول: ارشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون. فليقل: اذكر ما خرجت عليه
من الدنيا: شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك رضيت
بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، فان منكرا ونكيرا
يأخذ كل واحد بيد صاحبه، ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته "
فقال رجل: يا رسول الله فان لم يعرف أمه؟ قال: " ينسبه إلى أمه حواء: يا
فلان ابن حواء ".
قال الحافظ في التلخيص: واسناده صالح، وقد قواه الضياء في أحكامه.
وفي إسناده عاصم بن عبد الله، وهو ضعيف.
وقال الهيثمي بعد أن ساقه: في إسناده جماعة لم أعرفهم.
قال النووي: هذا الحديث وان كان ضعيفا فيستأنس به، وقد اتفق علماء
__________
(1) الميت: أي المكلف.
أما الصغير فلا يلقن.
(2) هؤلاء تابعيون.
(1/547)
المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث
الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد كحديث " واسألوا له التثبيت "
ووصية عمرو بن العاص وهما صحيحان، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن
من يقتدى به والى الان.
وذهبت المالكية في المشهور عنهم، وبعض الحنابلة الى ان التلقين مكروه.
وقال الاثرم: قلت لاحمد: هذا الذي يصنعونه، إذا دفن الميت، يقف الرجل
ويقول: يا فلان بن فلانة ... قال: ما رأيت أحدا يفعله إلا أهل الشام حين
مات أبو المغيرة.
يروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخهم: أنهم كانوا يفعلونه، وكان
إسماعيل بن عياش يرويه، يشير إلى حديث أبي أمامة.
السنة في بناء المقابر:
من السنة ان يرفع القبر عن الارض قدر شبر، ليعرف أنه قبر، ويحرم رفعه زيادة
على ذلك.
لما رواه مسلم وغيره عن هرون: أن ثمامة بن شفى حدثه.
قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم " برودس " فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة
بن عبيد بقبره فسوي.
ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.
وروي عن ابي الهياج الاسدي.
قال: قال لي علي بن أبي طالب: الا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم: الا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته.
قال الترمذي: " والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يكرهون ان يرفع القبر فوق
الارض إلا بقدر ما يعرف أنه قبر لكيلا يوطأ ولا يجلس عليه ".
وقد كان الولاة يهدمون ما بني في المقابر - مما زاد على المشروع - عملا
بالسنة الصحيحة.
قال الشافعي: " وأحب الا يزاد في القبر تراب من غيره، وإنما أحب ان يشخص
على وجه الارض شبرا أو نحوه وأحب أن لايبنى ولايجصص، فان ذلك يشبه الزينة
والخيلاء.
وليس الموت موضع واحد منهما، ولم أر قبور المهاجرين والانصار مجصصة.
وقد رأيت من الولاة من يهدم ما بني في المقابر، ولم أر الفقهاء يعيبون عليه
ذلك.
" قال الشوكاني: والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم،
وقد صرح بذلك اصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك، والقول بأنه غير
محظور لوقوعه من السلف والخلف بلانكير - كما قال الامام يحيى والمهدي في
الغيث - لا يصح، لان غاية ما فيه أنهم سكتوا عن ذلك والسكوت
(1/548)
لا يكون دليلا إذا كان في الامور الظنية،
وتحريم رفع القبور ظن.
ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولا أوليا القباب والمشاهد المعمورة
على القبور، وايضا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن رسول الله صلى الله
عليه وسلم فاعل ذلك..وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها مفاسد يبكي
لها الاسلام.
منها اعتقاد الجهلة فيها كاعتقاد الكفار في الاصنام، وعظموا ذلك فظنوا أنها
قادرة على جلب النفع ودفع الضر فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج وملجأ
لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأل العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال
وتمسحوا بها واستغاثوا.
وبالجملة: إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالاصنام إلا فعلوه.
فانا لله وإنا إليه راجعون ... ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفظيع،
لاتجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لاعالما، ولا متعلما، ولا أميرا
ولاوزيرا ولاملكا.
وقد توارد إلينا من الاخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو
أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه، حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد
ذلك: بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من
أبين الادلة الدالة على ان شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني
اثنين، أو ثالث ثلاثة.
فيا علماء الدين ويا ملوك الاسلام أي رزء للاسلام أشد من الكفر، وأي بلاء
لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل
هذه المصيبة وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟.
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي ولو نارا نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رماد وقد أفتى العلماء بهدم المساجد والقباب التي بنيت
على المقابر.
قال ابن حجر في الزواجر (1) : وتجب المبادرة لهدم المساجد والقباب التي
على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار، لانها أسست على معصية رسول الله
__________
(1) كانت هذه الفتوى في عهد الملك الظاهر حين عزم على هدم كل ما في القرافة
في البناء، فاتفق علماء عصره على أنه يجب على ولي الامر هدم ذلك كله.
(1/549)
صلى الله عليه وسلم، لانه نهى عن ذلك وأمر
بهدم القبور المشرفة.
وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره.
تسنيم القبر وتسطيحه اتفق الفقهاء على جواز تسنيم القبر وتسطيحه.
قال الطبري: لاأحب أن يتعدى في القبور أحد المعنيين من تسويتها بالارض، أو
رفعها مسنمة قدر شبر على ما عليه عمل المسلمين، وتسوية القبور ليست بتسطيح.
وقد اختلف الفقهاء في الافضل منها، فنقل القاضي عياض عن أكثر أهل العلم: ان
الافضل تسنيمها، لان سفيان النمار حدثه أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه
وسلم مسنما، رواه البخاري.
وهذا رأي أبي حنيفة ومالك واحمد والمزني وكثير من الشافعية.
وذهب الشافعي إلى أن التسطيح أفضل لامر الرسول الله صلى الله عليه وسلم
بالتسوية.
تعليم القبر بعلامة يجوز أن يوضع على القبر علامة، من حجرة أو خشب يعرف
بها، لما رواه ابن ماجه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم " أعلم قبر
عثمان بن مظعون بصخرة " أي وضع عليه الصخرة ليتبين به.
وفي الزوائد: هذا إسناد حسن رواه أبو داود من حديث المطلب بن أبي وداعة.
وفيه: أنه حمل الصخرة فوضعها عند رأسه وقال: " أتعلم بها قبر أخي، وادفن
إليه من مات من أهلي ".
وفي الحديث استحباب جمع الموتى الاقارب في أماكن متجاورة لانه أيسر
لزيارتهم وأكثر للترحم عليهم.
خلع النعال في المقابر ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا بأس بالمشي في
المقابر بالنعال.
قال جرير بن حازم: رأيت الحسن وابن سيرين يمشيان بين القبور بنعالهم.
وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أنس عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
أنه قال: " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه اصحابه.
إنه ليسمع قرع نعالهم " وقد استدل العلماء بهذا الحديث على جواز المشي في
المقابر بالنعل: إذ لا يسمع قرع
(1/550)
النعل إلا إذا مشوا بها.
وكره الامام أحمد المشي بالنعال السبتية (1) في المقابر، لما رواه أبو
داودو النسائي وابن ماجه عن بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل يمشي في القبور عليه نعلان.
فقال: " يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك " فنظر الرجل، فلما عرف رسول
الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما.
قال الخطابي: يشبه أن يكون إنما كره ذلك لما فيه من الخيلاء، وذلك أن نعال
السبت من لباس أهل الترفه والتنعم.
ثم قال: فأحب صلى الله عليه وسلم أن يكون دخوله المقابر على زي التواضع
ولباس اهل الخشوع.
والكراهة عند أحمد عند عدم العذر.
فإذا كان هناك عذر يمنع الماشي من الخلع كالشوكة أو النجاسة انتفت الكراهة.
النهي عن ستر القبور لا يحل ستر الاضرحة، لما فيه من العبث وصرف المال في
غير غرض شرعي، وتضليل العامة، روى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى
الله عليه وسلم خرج في غزاة، فأخذت نمطا (2) فسترته على الباب، فلما قدم
رأى النمط، فجذبه حتى هتكه، ثم قال: " إن الله لم يأمرنا ان نكسو الحجارة
والطين ".
تحريم المساجد والسرج على المقابر:
جاءت الاحاديث الصحيحة الصريحة بتحريم بناء المساجد في المقابر واتخاذ
السرج عليها.
1 - روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2 - روى أحمد واصحاب السنن
إلا ابن ماجه، وحسنه الترمذي، عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله
عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.
3 - وفي صحيح مسلم عن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون
__________
(1) السبتية: أي النعال المدبوغة بالقرظ.
(2) " النمط " ضرب من البسط له خمل رقيق.
(1/551)
لي منكم خليل، فان الله عز وجل قد اتخذني
خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا،
وان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور انبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا
تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك.
" 4 - وفيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن
الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
5 - وروى البخاري ومسلم عن عائشة، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة -
رأتاها بالحبشة فيها تصاوير - لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا
على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم
القيامة ".
قال صاحب المغني: ولايجوز اتخاذ المساجد على القبور لقول النبي صلى الله
عليه وسلم: " لعن الله زوارات القبور والمتخذات عليهن المساجد والسرج "
رواه أبو داود والنسائي ولفظه: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الخ
" ولو أبيح لم يلعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، ولان فيه تضييعا
للمال في غير فائدة وافراطا في تعظيم القبور اشبه تعظيم الاصنام، ولايجوز
اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر مثل ما صنعوا.
متفق عليه.
وقالت عائشة: إنما لم يبرز قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يتخذ
مسجدا، ولان تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الاصنام لها والتقرب
إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الاصنام تعظيم الاموات باتخاذ صورهم
ومسحها والصلاة عليها (1) .
__________
(1) قال معلقه: يشير إلى ما رواه البخاري عن ابن عباس من سبب اتخاذ قوم نوح
للاصنام: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وحاصله أن هذه أسماء رجال صالحين اتخذ
الناس لهم صورا بعد موتهم ليتذكروا بها فيقتدوابهم، فلما ذهب العلم زين لهم
الشيطان عبادة صورهم وتماثيلهم بتعظيمها والتمسح بها والتقرب إليها،
ومسحها: إمرار اليد عليها تبركا وتوسلا بها، وكذلك فعل الناس بقبور
الصالحين، وسرى ذلك من الوثنيين إلى أهل الكتاب فالمسلمين، فالاصنام في ذلك
سواء.
(1/552)
كراهية الذبح عند القبر نهى الشارع عن
الذبح عند القبر تجنبا لما كانت تفعله الجاهلية، وبعدا عن التفاخر
والمباهاة.
فقد روى أبو داود عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاعقر في
الاسلام " قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة.
قال الخطابي: كان أهل الجاهلية يعقرون الابل على قبر الرجل الجواد، يقولون:
نجازيه على فعله، لانه كان يعقرها في حياته، فيطعمها الاضياف، فنحن نعقرها
عند قبره لتأكلها السباع والطير: فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في
حياته قال الشاعر: عقرت على قبر النجاشي ناقتي بأبيض عضب أخلصته صياقله على
قبر من لو أنني مت قبله لهانت عليه عند قبري رواحله ومنهم من كان يذهب في
ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكبا، ومن لم يعقر
عنه حشر راجلا، وكان على مذهب من يرى البعث منهم بعد الموت.
النهي عن الجلوس على القبر والاستناد إليه
والمشي عليه:
لا يحل القعود على القبر ولا الاستناد إليه، ولا المشي عليه، لما رواه عمرو
بن حزم قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكثا على قبر. فقال: " لا
تؤذ صاحب هذا القبر. " أو " لاتؤذه "، رواه أحمد بإسناد صحيح.
وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لان يجلس أحدكم
على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر. " رواه
أحمد، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
والقول بالحرمة مذهب ابن حزم، لما ورد فيه من الوعيد، قال: وهو قول جماعة
من السلف، منهم أبو هريرة.
ومذهب الجمهور: أن ذلك مكروه.
قال النووي: عبارة الشافعي في الام، وجمهور الاصحاب في الطرق كلها: أنه
يكره الجلوس، وأرادوا به كراهة التنزيه، كما هو المشهور في استعمال
الفقهاء، وصرح به كثير منهم، قال: وبه قال جمهور العلماء منهم
(1/553)
النخعي والليث وأحمد وداود، قال: ومثله في
الكراهة الاتكاء عليه والاستناد إليه.
وذهب ابن عمر من الصحابة وأبو حنيفة ومالك إلى جواز القعود على القبر.
قال في الموطأ: إنما نهى عن القعود على القبور فيما نرى " نظن " للذاهب
يقصد لقضاء حاجة الانسان من البول أو الغائط.
وذكر في ذلك حديثا ضعيفا.
وضعف أحمد هذا التأويل.
وقال: ليس هذا بشئ.
وقال النووي: هذا تأويل ضعيف أو باطل، وأبطله كذلك ابن حزم من عدة وجوه.
وهذا الخلاف في غير الجلو س لقضاء الحاجة، فاما إذا كان الجلوس لها، فقد
اتفق الفقهاء على حرمته، كما اتفقوا على جواز المشي على القبور إذا كان
هناك ضرورة تدعو إليه، كما إذا لم يصل إلى قبر ميته إلا بذلك.
النهي عن تجصيص القبر والكتابة عليه:
عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد
عليه وأن يبني عليه.
رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه.
ولفظه: " نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها وأن يبني عليها وأن توطأ (1)
" وفي لفظ النسائي: " أن يبني على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه
".
والتجصيص معناه الطلاء بالجص، وهو الجير المعروف.
وقد حمل الجمهور النهي على الكراهة، وحمله ابن حزم على التحريم، وقيل:
الحكمة في ذلك إن القبر للبلى لا للبقاء، وإن تجصيصه من زينة الدنيا، ولا
حاجة للميت إليها.
وذكر بعضهم أن الحكمة في النهي عن تجصيص القبور كون الجص أحرق بالنار،
ويؤيده ما جاء عن زيد بن أرقم أنه قال لمن أراد
أن يبني قبر ابنه ويجصصه: جفوت ولغوت، لا يقربه شئ مسته النار.
ولا بأس بتطيين القبر.
قال الترمذي: وقد رخص بعض أهل العلم - منهم الحسن البصري - في تطيين
القبور.
وقال الشافعي: لا بأس به أن يطين القبر.
__________
(1) توطأ: تداس.
(1/554)
وعن جعفر بن محمد عن أبيه: أن النبي صلى
الله عليه وسلم رفع قبره من الارض شبرا وطين بطين أحمر من العرصة وجعل عليه
الحصباء.
رواه أبو بكر النجاد وسكت الحافظ عليه في التلخيص.
وكما كره العلماء تجصيص القبر، كرهوا بناءه بالآجر أو الخشب أو دفن الميت
في تابوت إذا لم تكن الارض رخوة أو ندية، فإن كانت كذلك جاز بناء القبر
بالآجر ونحوه وجاز دفن الميت في تابوت من غير كراهة.
فعن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الآجر، ويستحبون
القصب ويكرهون الخشب.
وفي الحديث النهي عن الكتابة على القبور، وظاهره عدم الفرق بين كتابة اسم
الميت على القبر وغيرها.
قال الحاكم بعد تخريج هذا الحديث: الاسناد صحيح وليس العمل عليه.
فإن أئمة المسلمين من الشرق والغرب يكتبون على قبورهم، وهو شئ أخذه الخلف
عن السلف.
وتعقبه الذهبي: بأنه محدث ولم يبلغهم النهي.
ومذهب الحنابلة: أن النهي عن الكتابة الكراهة سواء أكانت قرآنا، أم كانت
اسم الميت.
ووافقهم الشافعية إلا أنهم قالوا: إذا كان القبر لعالم أو صالح ندب كتابة
اسمه عليه وما يميزه ليعرف.
ويرى المالكية: أن الكتابة إن كانت قرآنا حرمت.
وإن كانت لبيان اسمه أو تاريخ موته فهي مكروهة وقالت الاحناف: إنه يكره
تحريما الكتابة على القبر إلا إذا خيف ذهاب أثره فلا يكره.
وقال ابن حزم: لو نقش اسمه في حجر لم نكره ذلك.
وفي الحديث: النهي عن زيادة تراب القبر على ما يخرج منه، وقد بوب على هذه
الزيادة البيهقي فقال: " باب لا يزاد على القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع
".
قال الشوكاني: وظاهره أن المراد بالزيادة عليه، الزيادة على ترابه.
وقيل: المراد بالزيادة عليه أن يقبر على قبر ميت آخر.
ورجح الشافعي المعنى الاول فقال: يستحب أن لا يزاد القبر على التراب الذي
أخرج منه.
وإنما استحب ذلك لئلا يرتفع القبر ارتفاعا كثيرا قال: فإن زاد فلا بأس.
(1/555)
دفن أكثر من واحد في قبر:
هدي السلف الذي جرى عليه العمل أن يدفن كل واحد في قبر، فإن دفن أكثر من
واحد كره ذلك إلا إذا تعسر إفراد كل ميت بقبر لكثرة الموتى وقلة الدافنين
أو ضعفهم.
فإنه في هذه الحالة يجوز دفن أكثر من واحد في
قبر واحد.
لما رواه أحمد والترمذي وصححه: أن الانصار جاءوا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم يوم أحد.
فقالوا: يا رسول الله أصابنا جرح وجهد.
فكيف تأمرنا؟ فقال: " احفروا وأوسعوا وأعمقوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في
القبر.
" قالوا: فأيهم نقدم؟ قال: " أكثرهم قرآنا ".
وروى عبد الرزاق بسند حسن عن واثلة بن الاسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة
في القبر الواحد،
فيقدم الرجل وتجعل المرأة وراءه.
الميت في البحر:
قال في المغني: إذا مات في سفينة في البحر، فقال أحمد رحمه الله: ينتظر به
إن كانوا يرجون أن يجدوا له موضعا يدفنونه فيه حبسوه يوما أو يومين ما لم
يخافوا عليه الفساد.
فإن لم يجدوا غسل، وكفن، وحنط، ويصلى عليه، ويثقل بشئ ويلقى في الماء.
وهذا قول عطاء والحسن.
قال الحسن: يترك في زنبيل. ويلقى في البحر.
وقال الشافعي: يربط بين لوحين ليحمله البحر إلى الساحل، فربما وقع إلى قوم
يدفنونه، وإن ألقوه في البحر لم يأثموا، والاول أولى، لانه يحصل به الستر
المقصود من دفنه، وإلقاؤه بين لوحين تعريض له للتغير والهتك.
وربما بقي على الساحل مهتوكا عريانا وربما وقع إلى قوم من المشركين، فكان
ما ذكرناه أولى.
وضع الجريدة على القبر لايشرع وضع الجريد ولا الزهور فوق القبر، وأما ما
رواه البخاري وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين
فقال: " إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يستنزه من
البول، وأما هذا
(1/556)
فكان يمشي بالنميمة، ثم دعا بعسيب رطب فشقه
باثنين، ثم غرس على هذا واحدا، وعلى هذا واحدا، وقال: " لعله يخفف عنهما ما
لم ييبسا " فقد أجاب عنه الخطابي بقوله: وأما غرسه شق العسيب على القبر،
وقوله: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي
صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه صلى الله عليه وسلم جعل
مدة بقاء النداوة فيهما حدا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما،
وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس.
والعامة في كثير من البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى
هذا وليس لما تعاطوه وجه.
وما قاله الخطابي صحيح، وهذا هو الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه وضع جريدا ولا أزهارا على قبر سوى بريدة
الاسلمي، فإنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان. رواه البخاري.
ويبعد أن يكون وضع الجريد مشروعا ويخفى على جميع الصحابة ما عدا بريدة.
قال الحافظ في الفتح: وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه، ولم يره خاصا بذينك
الرجلين.
قال ابن رشيد: ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما، فلذلك عقبه بقول ابن
عمر حين رأى فسطاطا على قبر عبد الرحمن: انزعه يا غلام فإنما يظله عمله.
وفي كلام ابن عمر ما يشعر بأنه لا تأثير لما يوضع على القبر، بل التأثير
للعمل الصالح.
المرأة تموت وفي بطنها جنين حي:
إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين حي وجب شق بطنها لاخراج الجنين إذا كانت
حياته مرجوة، ويعرف ذلك بواسطة الاطباء الثقات.
المرأة الكتابية تموت وهي حامل من مسلم تدفن
وحدها:
روى البيهقي عن واثلة بن الاسقع: أنه دفن امرأة نصرانية في بطنها ولد مسلم
في مقبرة ليست بمقبرة النصارى ولا المسلمين، واختار هذا الامام أحمد
(1/557)
لانها كافرة لا تدفن في مقبرة المسلمين،
فيتأذوا بعذابها، ولافي مقبرة الكفار
لان ولدها مسلم فيتأذى بعذابهم.
تفضيل الدفن في المقابر:
قال ابن قدامة: والدفن في مقابر المسلمين أحب إلى أبي عبد الله من الدفن في
البيوت، لانه أقل ضررا على الاحياء من ورثته، وأشبه بمساكن الاخرة وأكثر
للدعاء له والترحم عليه، ولم يزل الصحابة والتابعون ومن بعدهم يقبرون في
الصحارى.
فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم قبر في بيته، وقبر صاحباه معه.
قلنا: قالت عائشة: إنما فعل ذلك لئلا يتخذ قبره مسجدا. رواه البخاري.
ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع، وفعله أولى من فعل
غيره، وإنما أصحابه رأوا تخصيصه بذلك.
ولانه روى " يدفن الانبياء حيث يموتون " وصيانة له عن كثرة الطراق، وتمييزا
له عن غيره.
وسئل أحمد عن الرجل يوصي أن يدفن في داره؟ قال يدفن في المقابر مع
المسلمين.
النهي عن سب الأموات:
لا يحل سب أموات المسلمين ولاذكر مساويهم، لما رواه البخاري عن عائشة رضي
الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لاتسبوا الاموات فإنهم
قد أفضوا إلى ما قدموا " وروى أبو داود والترمذي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اذكروا محاسن موتاكم وكفوا
عن مساويهم "، أما المسلمون المعلنون بفسق أو بدعة، أو عمل فاسد فإنه يباح
ذكر مساويهم إذا كان فيه مصلحة تدعو إليه، كالتحذير من حالهم والتنفير من
قولهم وترك الاقتداء بهم، وإن لم تكن فيه مصلحة فلا يجوز.
وقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله
عنه قال: " مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وجبت.
" ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: " وجبت "، فقال عمر
(1/558)
رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: " هذا أثنيتم
عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار. أنتم
شهداء الله في الارض ".
ويجوز سب أموات الكفار ولعنهم.
قال الله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ... " وقال: " تبت يدا
أبي لهب وتب) ولعن فرعون وأمثاله، وسبه مشهور في كتاب الله. وفيه: (ألا
لعنة الله على الظالمين) .
قراءة القرآن عند القبر:
اختلف الفقهاء في حكم قراءة القرآن عند القبر، فذهب إلى استحبابها الشافعي
ومحمد بن الحسن لتحصيل للميت بركة المجاورة، ووافقهما القاضي عياض والقرافي
من المالكية، ويرى أحمد: أنه لا بأس بها.
وكرهها مالك وأبو حنيفة لانها لم ترد بها السنة.
نبش القبر:
اتفق العلماء على أن الموضع الذي يدفن المسلم فيه وقف عليه ما بقي شئ منه
من لحم أو عظم، فإن بقي شئ منه فالحرمة باقية لجميعه، فإن بلي وصار ترابا
جار الدفن في موضعه وجاز الانتفاع بأرضه في الغرس والزرع والبناء وسائر
وجوه الانتفاع به، ولو حفر القبر فوجد فيه عظام الميت باقية لايتم الحافر
حفره.
ولو فرغ من الحفر، وظهر شئ من العظم جعل في جنب القبر وجاز دفن غيره معه.
ومن دفن من غير أن يصلى عليه أخرج من القبر - إن كان لم يهل عليه التراب -
وصلي عليه، ثم أعيد دفنه.
وإن كان أهيل عليه التراب حرم نبش قبره وإخراجه منه عند الاحناف والشافعية
ورواية عن أحمد، وصلي عليه وهو في القبر، وفي رواية عن أحمد أنه ينبش،
ويصلى عليه.
وجوز الائمة الثلاثة نبش القبر لغرض صحيح مثل إخراج مال ترك في القبر،
وتوجيه من دفن إلى غير القبلة إليها، وتغسيل من دفن بغير غسل، وتحسين
الكفن، إلا أن يخشى عليه أن يتفسخ فيترك.
وخالف الاحناف في النبش من أجل هذه الامور واعتبروه مثلة، والمثلة
(1/559)
منهى عنها.
قال ابن قدامة: إنما هو مثلة في حق من تغير وهولا ينبش.
قال: وإن دفن بغير كفن ففيه وجهان: أحدهما يترك، لان القصد بالكفن ستره وقد
حصل ستره بالتراب، والثاني ينبش ويكفن، لان التكفين واجب، فأشبه الغسل.
قال أحمد: إذا نسي الحفار مسحاته في القبر جاز أن ينبش عنها.
وقال في الشئ يسقط في القبر - مثل الفأس والدراهم - ينبش.
قال: إذا كان له قيمة - يعني ينبش - قيل: فإن أعطاه أولياء الميت؟ قال: إن
أعطوه حقه أي شئ يريد.
وقد ورد في ذلك ما رواه البخاري عن جابر.
قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في حفرته
فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصا، وروى عنه
أيضا.
قال: دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته (1) فجعلته في قبر على حدة.
وقد بوب البخاري لهذين الحديثين.
فقال: " باب: هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟ ".
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول حين خرجنا إلى الطائف، فمررنا بقبر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم
يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه
وآية ذلك: أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه، فابتدره
الناس، فاستخرجوا الغصن ".
قال الخطابي: فيه دليل على جواز نبش قبور المشركين إذا كان فيه أرب أو نفع
للمسلمين.
وأنه ليست حرمتهم في ذلك كحرمة المسلمين.
نقل الميت:
يحرم عند الشافعية نقل الميت من بلد إلى بلد إلا أن يكون بقرب مكة أو
المدينة أو بيت المقدس، فإنه يجوز النقل إلى إحدى هذه البلاد لشرفها
وفضلها.
__________
(1) كان إخراجه له بعد مضي ستة أشهر على وفاته
(1/560)
ولو أوصى بنقله إلى غير هذه الاماكن
الفاضلة لا تنفذ وصيته لما في ذلك من تأخير دفنه وتعرضه للتغير.
ويحرم كذلك نقله من القبر إلا لغرض صحيح، كأن دفن من غير غسل، أو إلى غير
القبلة، أو لحق القبر سيل أو ندوة.
قال في المنهاج: ونبشه بعد دفنه للنقل وغيره حرام إلا لضرورة، كأن دفن بلا
غسل أو في أرض، أو ثوب مغصوبين، أو وقع مال، أو دفن لغير القبلة.
وعند المالكية: يجوز نقله من مكان إلى مكان آخر، قبل الدفن وبعده لمصلحة،
كأن يخاف عليه أن يغرقه البحر أو يأكله السبع، أو لزيارة أهله له، أو لدفنه
بينهم، أو رجاء بركته للمكان المنقول إليه ونحو ذلك.
فالنقل حينئذ جائز ما لم تنتهك حرمة الميت بانفجاره أو تغيره أو كسر عظمه.
وعند الاحناف: يكره النقل من بلد إلى بلد، ويستحب أن يدفن كل في مقبرة
البلد التي مات بها، ولا بأس بنقله قبل الدفن نحو ميل أو ميلين لان المسافة
إلى المقابر قد تبلغ هذا المقدار، ويحرم النقل بعد الدفن إلا لعذر كما
تقدم.
ولو مات ابن لامرأة ودفن في غير بلدها وهي غائبة ولم تصبر، وأرادت نقله،
لاتجاب إلى ذلك.
وقالت الحنابلة: يستحب دفن الشهيد حيث قتل.
قال أحمد: أما القتلى، فعلى حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
ادفنوا القتلى في مصارعهم " وروى ابن ماجه، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم.
فأما غيرهم فلا ينقل الميت من بلد إلى بلد آخر إلا لغرض صحيح، وهذا مذهب
الاوزاعي وابن المنذر.
قال عبد الله بن ملكيه: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبش فحمل إلى مكة
فدفن، فلما قدمت عائشة أتت قبره.
ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك.
لان ذلك أخف لمؤنته وأسلم له من التغير، فأما إن كان فيه غرض صحيح جاز.
قال أحمد: ما أعلم بنقل الرجل يموت في بلده إلى بلد أخرى بأسا.
وسئل الزهري عن ذلك؟ فقال: قد حمل سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق
إلى المدينة.
(1/561)
التعزية:
العزاء: الصبر.
والتعزية التصبير والحمل على الصبر بذكر ما يسلي المصاب ويخفف حزنه ويهون
عليه مصيبته.
حكمها: التعزية مستحبة ولو كان ذميا،
لما رواه ابن ماجه والبيهقي بسند حسن عن
عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مؤمن يعزي أخاه
بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة " وهي لا تستحب
إلا مرة واحدة.
وينبغي أن تكون التعزية لجميع أهل الميت وأقاربه الكبار والصغار والرجال
والنساء (1) .
سواء أكان ذلك قبل الدفن أم بعده، إلى ثلاثة أيام، إلا إذا كان المعزي أو
المعزى غائبا، فلا بأس بالتعزية بعد الثلاث.
ألفاظها: والتعزية تؤدى بأي لفظ يخفف المصيبة ويحمل الصبر والسلوان، فإن
اقتصر على اللفظ الوارد كان أفضل.
روى البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه إن ابنا لي قبض فأتنا.
فأرسل يقرئ السلام ويقول: " إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شئ عنده بأجل
مسمى، فلتصبر، ولتحتسب (2) " وروى الطبراني والحاكم وابن مردويه بسند فيه
رجل ضعيف عن معاذ
__________
(1) استثنى العلماء الشابة الفاتنة.
فقالوا: لامعز بها الا محارمها.
(2) قال النووي: هذا الحديث من أعظم قواعد الاسلام المشتملة على مهمات
كثيرة من أصول الدين وفروعه وآدابه والصبر على النوازل كلها والهموم
والاسقام، وغير ذلك من الاعراض.
ومعنى أن لله تعالى ما أخذ: أن العالم كله ملك لله تعالى، فلم يأخذ ما هو
لكم، بل أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية.
ومعنى له ما أعطى، أن ما وهبه لكم ليس خارجا عن ملكه، بل هو له سبحانه يفعل
فيه ما يشاء، وكل شئ عنده بأجل مسمى، فلا تجزعوا، فان من قبضه قد انقضى
أجله المسمى، فمحال تأخره أو تقدمه، فإذا علمتم هذا كله، فاصبروا، واحتسبوا
ما نزل بكم
(1/562)
ابن جبل رضي الله عنه، أنه مات ابن له فكتب
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه بابنه، فكتب إليه: " بسم الله
الرحمن الرحيم.
من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل.
سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فأعظم الله
لك الاجر وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر فإن أنفسنا وأموالنا وأهلنا من
مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور وقبضه
منك بأجر كثير، الصلاة والرحمة والهدى، إن احتسبته فاصبر، ولا يحبط جزعك
أجرك فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد ميتا، ولا يدفع حزنا، وما هو نازل فكأن
قد (1) . والسلام ".
وروى الشافعي في مسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده.
قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت التعزية سمعوا قائلا
يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت،
فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب.
وإسناده ضعيف.
قال العلماء فإن عزى مسلما بمسلم قال: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وغفر
لميتك.
وإن عزى مسلما بكافر قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك.
وإن عزى كافرا بمسلم قال: أحسن الله عزاءك وغفر لميتك.
وإن عزى كافرا بكافر قال: أخلف الله عليك.
وأما جواب التعزية فيؤمن المعزى ويقول للمعزي: آجرك الله.
وعند أحمد إن شاء صافح المعزي وإن شاء لم يصافح، وإذا رأى الرجل شق ثوبه
على المصيبة عزاه ولا يترك حقا لباطل.
وإن نهاه فحسن.
الجلوس لها:
السنة أن يعزى أهل الميت وأقاربه ثم ينصرف كل في حوائجه دون أن
يجلس أحد سواء أكان معزى أو معزيا.
وهذا هو هدي السلف الصالح.
قال الشافعي في الام: أكره الماتم وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء، فإن
ذلك
__________
(1) هذه رواية ضعيفة لا تثبت فان ابن معاذ مات بعد وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم بعامين. " فكأن قد " أي فكأن قد وقع ما هو نازل
(1/563)
يجدد الحزن ويكلف المؤنة مع ما مضى فيه من
الاثر.
قال النووي: قال الشافعي وأصحابه رحمهم الله: يكره الجلوس للتعزية.
قالوا: ويعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية،
بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم.
ولافرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها.
صرح به المحاملي ونقله عن نص الشافعي رضي الله عنه.
وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع
المحرمة - كما هو الغالب منها في العادة - كان ذلك حراما من قبائح
المحرمات، فإنه محدث وثبت في الحديث الصحيح " أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة
ضلالة ".
وذهب أحمد وكثير من علماء الاحناف إلى هذا الرأي.
وذهب المتقدمون من الاحناف إلى أنه لا بأس بالجلوس في غير المسجد ثلاثة
أيام للتعزية، من غير ارتكاب محظور.
وما يفعله بعض الناس اليوم من الاجتماع للتعزية، وإقامة السرادقات، وفرش
البسط، وصرف الاموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة من الامور المحدثة
والبدع المنكرة التي يجب على المسلمين اجتنابها، ويحرم عليهم فعلها، لاسيما
وأنه يقع فيها كثير مما يخالف هدي الكتاب ويناقض تعاليم السنة، ويسير وفق
عادات الجاهلية، كالتغني بالقرآن وعدم التزام آداب التلاوة، وترك الانصات
والتشاغل عنه بشرب الدخان وغيره.
ولم يقف الامر عند هذا الحد، بل تجاوزه عند كثير من ذوي الاهواء فلم يكتفوا
بالايام الاول: جعلوا يوم الاربعين يوم تجدد لهذه المنكرات وإعادة لهذه
البدع.
وجعلوا ذكرى أولى بمناسبة مرور عام على الوفاة وذكرى ثانية، وهكذا مما لا
يتفق مع عقل ولانقل.
زيارة القبور زيارة القبور مستحبة للرجال.
لما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها. فإنها
تذكركم الاخرة " وكان النهي ابتداء لقرب عهدهم بالجاهلية، وفي الوقت الذي
لم يكونوا يتورعون فيه عن
(1/564)
هجر الكلام وفحشه، فلما دخلوا في الاسلام
واطمأنوا به وعرفوا أحكامه، أذن لهم الشارع بزيارتها: وعن أبي هريرة: أن
النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: " استأذنت ربي أن استغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته أن
أزور قبرها فأذن لي. فزوروها، فإنها تذكر الموت " رواه احمد ومسلم وأهل
السنن إلا الترمذي.
ولما كان المقصود من الزيارة التذكر والاعتبار، جاز زيارة قبور الكفرة لهذا
المعنى نفسه، فإن كانوا ظالمين وأخذهم الله بظلمهم، استحب البكاء واظهار
الافتقار إلى الله عند المرور بقبورهم وبمصارعهم، لما رواه البخاري عن ابن
عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه - يعني لما وصلوا الحجر -
ديار لثمود - " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم
تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم ".
صفة الزيارة:
إذا وصل الزائر إلى القبر استقبل وجه الميت وسلم عليه ودعا له، وقد جاء في
ذلك:
1 - عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى
المقابر أن يقول قائلهم: " السلام عليكم أهل (1) الديار من المؤمنين
والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم فرطنا ونحن لكم تبع، ونسأل
الله لنما ولكم العافية.
" رواه احمد ومسلم وغيرهما.
2 - وعن ابن عباس: ان النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبور المدينة، فأقبل
عليهم بوجهه فقال: " السلام عليكم يا أهل القبور.
يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالاثر " رواه الترمذي.
3 - وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها، يخرج
من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم
__________
(1) " أهل " منصوب على الاختصاص أو النداء
(1/565)
ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله
بكم لاحقون. اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد " رواه مسلم.
4 - وروى عنها قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: " قولي: السلام
على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا
والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ".
وأما ما يفعله بعض من لاعلم لهم، من التمسح بالاضرحة وتقبيلها والطواف
حولها، فهو من البدع المنكرة، التي يجب اجتنابها ويحرم فعلها، فإن ذلك
بالكعبة زادها الله شرفا.
ولا يقاس عليها قبر نبي ولا ضريح ولي والخير كله في الاتباع، والشر كله في
الابتداع.
قال ابن القيم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زار القبور يزورها للدعاء
لاهلها والترحم عليهم والاستغفار لهم.
فأبى المشركون إلا دعاء الميت والاقسام على الله به وسؤاله الحوائج
والاستعانة به، والتوجه إليه، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه هدي
توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم
ثلاثة أقسام إما أن يدعوا للميت، أو يدعوا به، أو عنده، ويرون الدعاء عنده
أولى من الدعاء في المساجد، ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه تبين له الفرق بين الامرين.
زيارة النساء:
رخص مالك وبعض الاحناف ورواية عن أحمد وأكثر العلماء، في زيارة النساء
للقبور، لحديث عائشة: كيف أقول لهم يارسول الله - أي عند زيارتها للقبور -.
وقد تقدم عن عبد الله بن أبي مليكة، أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر،
فقلت: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن فقلت لها:
أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت نعم.
كان نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها.
رواه الحاكم والبيهقي وقال: تفرد به بسطام بن مسلم البصري.
وقال الذهبي: صحيح.
(1/566)
وفي الصحيحين عن أنس: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم مر بامرأة عند قبر تبكي على صبي لها، فقال لها: " اتقي
الله، واصبري "، فقالت: وما تبالي بمصيبتي.
فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت،
فأتت بابه، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يارسول الله، لم أعرفك.
فقال: " إنما الصبر عند الصدمة الاولى.
" ووجهة الاستدلال أن الرسول صلى الله عليه وسلم رآها عند القبر فلم ينكر
عليها ذلك.
ولان الزيارة من أجل التذكير بالاخرة، وهو أمر يشترك فيه الرجال والنساء،
وليس الرجال بأحوج إليه منهن.
وكره قوم الزيارة لهن لقلة صبرهن وكثرة جزعهن، ولقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " لعن الله زوارات القبور " رواه أحمد وابن ماجه والترمذي
وصححه.
قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما
تقتضيه الصيغة من المبالغة.
ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج.
وما ينشأ من الصياح، ونحو ذلك.
وقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الاذن لهن، لان تذكر الموت يحتاج
إليه الرجال والنساء.
قال الشوكاني - تعليقا على كلام القرطبي -: وهذا الكلام هو الذي ينبغي
اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر.
الأعمال التي تنفع الميت وهل يجوز إهداء الثواب
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
من المتفق عليه: أن الميت ينتفع بما كان سببا فيه من أعمال البر في حياته،
لما رواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به،
أو ولد صالح يدعو له " وروى ابن ماجه عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "
إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علما علمه ونشره، أو ولدا
صالحا تركه أو مصحفا ورثه. أو مسجدا بناه، أو بيتا بناه
(1/567)
لابن السبيل أو نهرا أكراه أو صدقة أخرجها
من ماله في صحته وحياته، تلخه من بعد موته.
" وروى مسلم عن جرير بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من
سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص
من أجورهم، ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من يعمل بها
من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ "
أما ما ينتفع به من أعمال البر الصادرة عن غيره فبيانها فيما يلي:
1 - الدعاء والاستغفار له، وهذا مجمع عليه لقول الله تعالى: (والذين جاؤا
من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان، ولا تجعل
في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم) ، وتقدم قول الرسول صلى
الله عليه وسلم: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " وحفظ من دعاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اغفر لحينا وميتنا " ولا زال السلف
والخلف يدعون للاموات ويسألون لهم الرحمة والغفران دون إنكار من أحد.
2 - الصدقة: وقد حكى النووي الاجماع على أنها تقع عن الميت ويصله ثوابها
سواء كانت من ولد أو غيره، لما رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة: أن
رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل
يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: " نعم ".
وعن الحسن عن سعد بن عبادة أن امه ماتت.
فقال: يارسول الله: إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: " نعم ".
قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: " سقي الماء " قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد
بالمدينة.
رواه أحمد والنسائي وغيرهما.
ولا يشرع إخراجها عند المقابر، ويكره إخراجها مع الجنازة.
3 - الصوم: لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم
شهر أفأقضيه عنها؟ قال: " لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها "؟ قال: نعم.
قال: " فدين الله أحق أن يقضى ".
4 - الحج: لما رواه البخاري عن ابن عباس: أن امرأة من جهينة جاءت
(1/568)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن
أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: " حجي عنها، أرأيت لو
كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا فالله أحق بالقضاء ".
5 - الصلاة: لما رواه الدارقطني أن رجلا قال: يارسول الله، إنه كان لي
أبوان أبرهما في حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال صلى الله
عليه وسلم: " إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما
مع صيامك ".
6 - قراءة القرآن: وهذا رأي الجمهور من أهل السنة.
قال النووي: المشهور من مذهب الشافعي: أنه لا يصل.
وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل.
فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل مثل ثواب ما قرأته إلى
فلان.
وفي المغني لابن قدامة: قال أحمد بن حنبل، الميت يصل إليه كل شئ من الخير،
للنصوص الواردة فيه، ولان المسلمين يجتمعون في كل مصر ويقرءون ويهدون
لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعا.
والقائلون بوصول ثواب القراءة إلى الميت، يشترطون أن لا يأخذ القارئ على
قراءته أجرا.
فإن أخذ القارئ أجرا على قراءته حرم على المعطي والاخذ ولا ثواب له على
قراءته، لما رواه أحمد والطبراني والبيهقي عن عبد الرحمن
ابن شبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقرءوا القرآن، واعملوا ...
ولا تجفوا عنه ولا تغفلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ".
قال ابن القيم: والعبادات قسمان: مالية وبدنية، وقد نبه الشارع بوصول ثواب
الصدقة على وصول سائر العبادات المالية، ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول
سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية،
فالانواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار.
اشتراط النية ولابد من نية الفعل على الميت.
قال ابن عقيل: إذا فعل طاعة من
(1/569)
صلاة صيام وقراءة قرآن وأهداها، بأن جعل
ثوابها للميت المسلم، فإنه يصل إليه ذلك وينفعه، بشرط أن تتقدم نية الهدية
على الطاعة وتقارنها. ورجح هذا ابن القيم.
أفضل ما يهدى للميت:
قال ابن القيم: قيل الافضل ما كان أنفع في أنفسه، فالعتق عنه، والصدقة أفضل
من الصيام عنه، وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه وكانت دائمة
مستمرة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصدقة سقي الماء "
وهذا في موضع يقل فيه الماء ويكثر فيه العطش، وإلا فسقي الماء على الانهار
والقنى لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة، وكذلك الدعاء والاستغفار
له إذا كان بصدق من الداعي وإخلاص وتضرع، فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه
كالصلاة على الجنازة، والوقوف للدعاء على قبره.
وبالجملة: فأفضل ما يهدى إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار والدعاء له
والحج عنه.
اهداء الثواب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال ابن القيم: قيل: من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم من لم يستحبه
ورآه بدعة، فإن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم
له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شئ لانه الذي
دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه، ومن دعا إلى هدي فله من الاجر مثل
أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم، وكل هدي وعلم، فإنما نالته أمته
على يده، فله مثل أجر من اتبعه، أهداه إليه أو لم يهده.
أولاد المسلمين وأولاد المشركين:
من مات من أولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم فهو في الجنة، لما رواه
البخاري عن عدي بن ثابت: أنه سمع البراء رضي الله عنه قال: لما توفي
(1/570)
ابراهيم عليه السلام (1) ، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " إن له مرضعا في الجنة " قال الحافظ في الفتح: وإيراد
البخاري له في هذا الباب، يشعر باختيار القول: " إلى أنهم في الجنة ".
وروى عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من الناس
مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل
رحمته إياهم ".
ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن من يكون سببا في دخول الجنة أولى، بأن
يدخلها هو، لانه أصل الرحمة وسببها.
وأما أولاد المشركين فهم مثل أولاد المسلمين، في دخولهم الجنة.
قال النووي: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله
تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وإذا كان لا يعذب العاقل لكونه لم
تبلغه الدعوة فلان لا يعذب غير العاقل من باب أولى.
ولما رواه أحمد عن خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت: قلت يا رسول
الله، من في الجنة؟ قال: " النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في
الجنة " قال الحافظ: إسناده حسن.
سؤال القبر اتفق أهل السنة والجماعة على أن كل إنسان يسأل بعد موته، قبر أم
لم يقبر، فلو أكلته السباع أو احرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو غرق في
البحر لسئل عن أعماله، وجوزي بالخير خيرا وبالشر شرا، وأن النعيم أو العذاب
على النفس والبدن معا.
قال ابن القيم: مذهب سلف الامة وائمتها ان الميت إذا مات، يكون في نعيم أو
عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن، منعمة
أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم
إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الارواح إلى الاجساد، وقاموا من قبورهم
لرب العالمين.
ومعاد الابدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.
__________
(1) ابن النبي عليه السلام
(1/571)
وقال المروزي: قال أبو عبد الله يعني
الامام أحمد -: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل.
وقال حنبل: قلت لابي عبد الله في عذاب القبر.
فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها، وكل ما جاء عن النبي صلى الله
عليه وسلم بإسناد جيد أقررنا به، فإنا إذا لم نقر بما جاء به رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ودفعناه ورددناه، رددنا على الله أمره قال الله تعالى:
(وما آتاكم الرسول فخذوه) .
قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال: حق. يعذبون في القبور. قال: وسمعت أبا عبد
الله يقول: نؤمن بعذاب القبر، وبمنكر ونكير، وأن العبد يسأل في قبره: ف
(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) في
القبر.
وقال أحمد بن القاسم: قلت: يا أبا عبد الله، تقر بمنكر ونكير، وما يروى في
عذاب القبر؟ فقال: سبحان الله ... نعم نقر بذلك ونقوله.
قلت هذه اللفظة تقول: منكر ونكير هكذا.
أو تقول: ملكين؟ قال منكر ونكير.
قلت: يقولون: ليس في حديث منكر ونكير.
قال: هو هكذا يعني أنهما منكر ونكير.
قال الحافظ في الفتح: وذهب أحمد بن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على
الروح فقط، من غير عود إلى الجسد.
وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث،
ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون
الميت قد تتفرق أجزاؤه.
لان الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال.
كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه.
والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط، أن الميت قد يشاهد في قبره
حال المسألة لا أثر فيه، من إقعاد ولاغيره ولاضيق في قبره ولاسعة، وكذلك
غير المقبور كالمصلوب.
وجوابهم أن ذلك غير ممتنع في القدرة: بل له نظير في العادة.
وهو النائم.
فإنه يجد لذة، وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما ولذة لما
يسمعه أو يفكر فيه، ولا يدرك ذلك جليسه وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على
الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله.
والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم
(1/572)
عن مشاهدة ذلك وستره عنهم، إبقاء عليهم
لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من
شاء الله.
وقد ثبتت الاحاديث بما ذهب إليه الجمهور، كقوله: " إنه ليسمع خفق نعالهم "
وقوله: " تختلف أضلاعه لضمة القبر، وقوله: " يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق "
وقوله: " يضرب بين أذنيه " وقوله: " فيقعدانه " وكل ذلك من صفات الاجساد
ونحن نذكر بعض ما ورد في ذلك من الاحاديث الصحيحة:
1 - روى مسلم عن زيد بن ثابت قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حائط (1) لبني النجار على بغلته ونحن معه إذ حادت (2) به فكادت تلقيه فإذا
قبر ستة، أو خمسة، أو أربعة، فقال: " من يعرف أصحاب هذه القبور؟ " فقال
رجل: أنا.
قال: " فمتى مات هؤلاء "؟ قال: ماتوا في الاشراط.
فقال: " ان هذه الامة تبتلى في قبورها.
فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه "
ثم أقبل علينا بوجهه.
فقال: " تعوذوا بالله من عذاب النار.
" قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، قال: " تعوذوا بالله من عذاب القبر ".
قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: " تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر
منها وما بطن ".
قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قال: " تعوذوا بالله من فتنة الدجال.
" قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال.
2 - وروى البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاد
ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ - لمحمد - فأما
المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله.
قال: فيقولان: أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة،
فيراهما جميعا.
وأما الكافر، والمنافق، فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا
أدري، كنت أقول ما يقول الناس.
فيقولان. لادريت ولاتليت (3) ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة
فيسمعها فيسمعها من يليه، غير الثقلين.
"
__________
(1) " الحائط ": البستان.
(2) " حادت ": مالت.
(3) لادريت ولاتليت: دعاء عليه: أي لا كنت داريا ولا تاليا، أو إخبار بحاله
فانه لم يكن قد علم بنفسه ولا سأل غيره من العلماء
(1/573)
3 - وروى البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن
البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " المسلم إذا
سئل في قبره فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قول الله:
(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة) وفي
لفظ: نزلت في عذاب القبر.
يقال له: من ربك؟ فيقول: الله ربي، ومحمد نبيي، فذلك قول الله: (يثبت الله
الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة) ".
4 - وفي مسند الامام أحمد وصحيح أبي حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه.
فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله،
وكان فعل الخيرات من الصدقة، والصلة، والمعروف والاحسان، عند رجليه، فيؤتى
من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام:
ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يسارد، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل.
ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف
والاحسان: ما قبلي مدخل فيقال له: اجلس فيجلس،
قد مثلت له الشمس وقد أخذت للغروب، فيقال له: هذا الرجل الذي كان فيكم ما
تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولان: إنك ستصلي،
أخبرنا عما نسألك عنه؟ أرأيتك (1) هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟
وما تشهد به عليه؟ فيقول: محمد، أشهد أنه رسول الله جاء بالحق من عند الله،
فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح
له باب إلى الجنة. فيقال له: هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها. فيزداد غبطة
وسرورا. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدئ
منه، وتجعل نسمته (2) في النسيم الطيب، وهي طير معلق في شجر الجنة، قال:
فذلك قول الله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة
الدنيا وفي الاخرة) . وذكر في الكافر ضد ذلك إلى أن
__________
(1) أرأيتك: أخبرنا.
(2) نسمته: روحه
(1/574)
قال: " ثم يضيق عليه في قبره إلى أن تختلف
فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنك التي قال الله تعالى: (فإن له معيشة ضنكا
ونحشره يوم القيامة أعمى) ".
5 - وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: " من رأى منكم الليلة رؤيا؟ " قال:
فإن رأى أحد رؤيا قصها، فيقول: " ما شاء الله " فسألنا يوما، فقال: " هل
رأى أحد منكم رؤيا؟ " قلنا: لا. قال: " لكني رأيت الليلة رجلين أتياني
فأخذا بيدي، وأخرجاني إلى الارض المقدسة، فإذا رجل جالس.
ورجل قائم بيده كلوب من حديد، يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه
الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا:
انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه
بصخرة أو فهر (1) فيشدخ بها رأسه. فإذا ضربه تدهده (2) الحجر فانطلق إليه
ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه
فضربه. قلت: ماهذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا إلى نقب مثل التنور، أعلاه ضيق،
وأسفله واسع، يوقد تحته نار.
فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى
كادوا يخرجوا فإذا خمدت رجعوا. فقلت: ماهذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى
أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة،
فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده
حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فرجع كما كان. فقلت: ما
هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا وأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها. فيها شيوخ
وشبان، ثم صعداني، فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، قلت: طوفتماني الليلة
فأخبراني عما رأيت؟ قالا: نعم، الذي رأيته يشق شدقه كذاب يحدث بالكذبة.
فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ
رأسه، فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار، يفعل
به إلى يوم القيامة.
وأما الذي رأيته في النقب فهم الزناة، والذي رأيته في النهر فآكل الربا،
__________
(1) الفهر: حجر ملء الكف.
(2) " تدهده " تدحرج
(1/575)
وأما الشيخ الذي في أصل الشجرة فإبراهيم،
وأما الصبيان حوله فأولاد الناس، والذي يوقد النار، فمالك خازن النار،
والدار الاولى دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل
وهذا ميكائيل، فارفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا قصر مثل السحابة، قالا: ذلك
منزلك، قلت دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو
استكملته أتيت منزلك "
قال ابن القيم: وهذا نص في عذاب البرزخ، فإن رؤيا الانبياء وحي مطابق لما
في نفس الامر.
6 - وروى الطحاوي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمر
بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله ويدعوه
حتى صارت واحدة، فامتلا قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه أفاق، قال: علام
جلدتموني؟ قالوا إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره ".
7 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوتا من قبر، فقال: " متى
مات هذا؟ " فقالوا: مات في الجاهلية فسر بذلك وقال: " لولا أن لاتدافنوا
لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر " رواه النسائي ومسلم.
8 - وعن ابن عمر رضي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هذا الذي
تحرك له العرش (1) وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة،
لقد ضم ضمة (2) ، ثم فرج عنه " رواه البخاري ومسلم والنسائي.
مستقر الارواح عقد ابن القيم فصلا ذكر فيه أقوال العلماء في مستقر الارواح
ثم ذكر القول الراجح فقال: قيل: الارواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم
التفاوت.
فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملا الاعلى، وهي أرواح الانبياء
__________
(1) هو سعد بن معاذ (2) ضمه القبر
(1/576)
صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في
منازلهم، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء.
ومنها: أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت (1) .
وهي أرواح بعض الشهداء لاجميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة
لدين عليه أو غيره كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلا جاء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، مالي إن قتلت في سبيل
الله؟ قال: " الجنة " فلما ولى، قال: " إلا الدين، سارني به جبريل آنفا.
" ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة، كما في الحديث الاخر: " رأيت صاحبكم
محبوسا على باب الجنة.
" ومنهم من يكون محبوسا في قبره كحديث صاحب الشملة التي غلها (2) ثم
استشهد، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "
والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارا في قبره ".
ومنهم من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس " الشهداء على بارق نهر
بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا " رواه أحمد
وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب، حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما، في
الجنة حيث شاء.
ومنهم من يكون محبوسا في الارض، لم تعل روحه إلى الملا الاعلى، فإنها كانت
روحا سفلية أرضية، فإن الانفس الارضية لا تجامع الانفس السماوية، كما لا
تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته
وذكره والانس به والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية، ولا تكون بعد المفارقة
لبدنها إلا هناك، كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة
الله وذكره، والتقرب إليه، والانس به، تكون بعد المفارقة مع الارواح
العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، والله
تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد ويجعل روحه " يعني
المؤمن "
__________
(1) هذا نص الحديث.
(2) " غلها " أي سرقها من الغنيمة قبل القسمة
(1/577)
مع القسم الطيب " يعني الارواح الطيبة
المشاكلة لروحه " فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانها وأصحاب عملها
فتكون معهم هناك.
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم، تسبح فيه،
وتلقم الحجارة، فليس للارواح - سعيدها وشقيها - مستقر واحد، بل روح في أعلى
عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الارض.
وأنت إذا تأملت السنن والاثار في هذا الباب، وكان لك بها فضل اعتناء عرفت
حجة ذلك.
ولا تظن أن بين الاثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا، فإنها كلها حق يصدق
بعضها بعضا، لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها وأن لها شأنا غير
شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتتصل بفناء القبر
وبالبدن فيه، وهي أسرع شئ حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا، وأنها تنقسم إلى
مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية، ولها بعد المفارقة صحة ومرض، ولذة ونعيم وألم
أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، فهنالك الحبس والالم والعذاب
والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والانطلاق، وما أشبه حالها
في هذا البدن بحال البدن في بطن أمه! وحالتها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه
من البطن إلى هذه الدار، فلهذه الانفس أربع دور، كل دار أعظم من التي
قبلها.
الدار الاولى: في بطن الام، وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث.
والدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخير والشر
وأسباب السعادة والشقاوة.
والدار الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها
كنسبة هذه الدار إلى الاولى.
والدار الرابعة: دار القرار وهي الجنة والنار فلا دار بعدهما.
والله ينقلها في هذه الدور طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها
غيرها ولا يليق بها سواها وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل لها إليها.
(1/578)
ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الاخرى، فتبارك الله
فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها، الذي فاوت بينها في درجات
سعادتها وشقاوتها كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها
وأخلاقها، فمن عرفها كما ينبغي، شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الامر كله، وله
القوة كلها، والقدرة كلها والعز كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع
الوجوه، وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله، وأن الذي جاءوا به هو الحق
الذي تشهد به العقول وتقر به الفطر وما خالفه فهو الباطل ... وبالله
التوفيق. |